مجلد 3. من كتاب : تاريخ اليعقوبي
المؤلف : اليعقوبي
وقال:
أصل المرء قلبه،
وحسبه خلقه، وكرمه تقواه، والناس في آدم شرع سواء. وقال: أن الله خص أولياءه بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم فإن كانت فيكم
فاحمدوا الله وإلا فارغبوا إليه. قيل له: وما هي؟ قال: اليقين والقنوع والصبر
والشكر والعقل والمروة والحلم والسخاء والشجاعة. وقال: ثلاث لا يموت صاحبهن حتى
يرى ما يكره: البغي وقطيعة الرحم واليمين الكاذبة يبارز الله بها، وأن أعجل الطاعة
ثوابا لصلة الرحم، وأن القوم ليكونون فجارا فيتواصلون فتنمو أموالهم ويثرون، وأن
اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم تترك الديار بلاقع وتقطع السبل، ومن صدق لسانه زكا
عمله، ومن حسنت نيته زاد الله في رزقه، ومن حسن بره بأهل بيته زاد الله في عمره.
وقال: ثلاث لم يجعل الله لأحد فيها رخصة: بر الوالدين برين كانا أو فاجرين، ووفاء العهد للبر والفاجر، وأداء
الأمانة إلى البر والفاجر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره
وليكرم ضيفه وليقل خيراً وليشكر. وقال: المؤمن أخو المؤمن لا يخذله ولا يحزنه ولا
يغتابه ولا يحسده ولا يبغي عليه، فإن إبليس يقول لجنوده: ألقوا بينهم البغي والحسد
فإنه يعدل عند الله الشرك.
وقال:
من حسن إسلام المرء
تركه ما لا يعنيه، فإياكم وما تعتذرون منه فإن المؤمن لا يسيء ويعتذر وأن المنافق
يسيء كل يوم فلا يعتذر، وللغيبة أسرع في دين المسلم من الأكلة في جوفه. أن أهل
الأرض مرحومون ما تحابوا وأدوا الأمانة وعملوا بالحق.
وقال:
يقول الله عز وجل:
ابن آدم أنا الحي لا أموت، فأطعني أجعلك حيا لا تموت وأنا على كل شيء قدير، ابن
آدم صل رحمك أفك عنك عسرك وأيسرك ليسرك. وقال: من أصبح وهو على الدنيا حزين أصبح على الله ساخطا، ومن شكا مصيبة نزلت
به فإنما يشكو ربه، ومن أتى ذا ميسرة فخشع له لينال من دنياه ذهب ثلثا دينه، ومن
تمنى شيئاً هو لله رضي لم يخرج من الدنيا حتى يعطاه.
وقال:
يقول الله، عز وجل:
ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى ولا أكلك في طلب معاشك إلى طلبك، وعلي أن أسد
فاقتك واملأ قلبك خوفا مني، وإلا تفرغ لعبادتي أملاه شغلا بالدنيا ثم أسدها عنك
وأكلك إلى طلبك. وقال: لا تصلح الصنيعة إلا عند ذي حسب أو دين، فمن سألكم بالله
فأعطوه ومن استعاذكم بالله فأعيذوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن اصطنع إليكم معروفا
فكافئوه فإن لم تكافئوه فاشكروه.
وقال:
من حق جلال الله على
العباد إجلال الإمام المقسط وذي الشيبة في الإسلام وحامل القرآن غير الغالي فيه
ولا الجافي عنه. أربع من فعلهن فقد خرج من الإسلام: من رفع لواء ضلالة، ومن أعان
ظالما أو سار معه أو مشى معه وهو يعلم أنه ظالم، ومن احترم بذمة، ورجلان لا
تنالهما شفاعتي يوم القيامة: أمير ظلوم ورجل غال في الدين مارق منه، والأمير العادل لا ترد دعوته.
وقال:
لا يشغلنك طلب دنياك
عن طلب دينك، فإن طالب الدنيا ربما أدرك فهلك بما أدرك وربما فاته فهلك بما فاته.
الأكثرون في الدنيا هم الأقلون في الآخرة ألا من قال: هكذا، وهكذا، وحثا بيده. وما
أعطي أحد من الدنيا شيئاً إلا كان أنقص من حقه في الآخرة حتى سليمان بن داود فإنه
آخر من يدخل الجنة من الأنبياء لما أعطي من الدنيا. ورأس كل خطيئة حب الدنيا.
وقال:
جاء الموت بما فيه
الراحة والكرة المباركة إلى جنة عالية لأهل دار الخلود الذين كان لها سعيهم وفيها
رغبتهم، وجاء الموت بما فيه الشقوة والندامة والكرة الخاسرة إلى نار حامية لأهل
دار الغرور الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم. وقال: أفضل ما توسل به المتوسلون
الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله، وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وتمام الصلاة
فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها مثراة في المال منسأة في الأجل، وصدقة السر
فإنها تكفر الخطيئة وتطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف فإنها تدفع ميتة السوء وتقي
مصارع الهوان. ألا فاصدقوا فإن الصادق على شفا منجاة وكرامته، وأن الكاذب على شفا
مخزاة ومهلكه. ألا وقولوا خيراً تعرفوا به اعملوا به تكونوا من أهله، وأدوا
الأمانة إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم، وعودوا بالفضل على من جهل عليكم.
وقال:
من تعرض لسلطان جائر
فأصابته بلية لم يؤجر فيها ولم يرزق الصبر عليها، فحسب المؤمن عزاء إذا رأى المنكر
أن يعلم الله من قلبه أنه كاره. وقال: إن لله عبادا من خلقه يخصهم بنعمه يقرهم
فيها ما بذلوها فإذا منعوها نقلها منهم وحولها إلى غيرهم.
وقال:
ما عظمت نعمة الله
على عبد إلا عظمت مؤونة الناس عليه، فمن لم يحتمل تلك المؤونة فقد عرض النعمة
للزوال. وقال لبني سلمة: من سيدكم اليوم يا بني سلمة؟ قالوا: الجد بن قيس، يا رسول
الله. قال: فكيف حاله فيكم؟ قالوا: من رجل نبخله. قال: وأي داء أدوا من البخل! لا
سؤدد البخيل بل سيدكم الأبيض الجعد عمرو بن الجموح، أو قال، قال: قيس بن البراء.
وقال لوافد وفد عليه
واطلع منه على كذبه: لو لا سخاء فيك ومعك الله تشرب بلبن وافد.
وقال: خلتان لا
تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق.
وقال: تجافوا عن زلة
السخي فإن الله، عز وجل، يأخذ بناصيته كلما عثر.
وقال: الجنة دار
الأسخياء.
وقال: الشاب الجواد
الزاهد هو أحب إلى الله من الشيخ البخيل العابد.
وقال: إن الله جواد
يحب الجود ويحب مكارم الأخلاق ويبغض سفسافها.
وقال: إن لله عباداً
خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم فهم الآمنون يوم القيامة.
وقال: أحسنوا مجاورة
نعم الله ولا تملوها ولا تنفروها فإنها قلما نفرت من قوم فرجعت إليهم.
وقال:
الحوائج إلى الله،
وأسبابها إلى الناس، فاطلبوها إلى الله بهم، فمن أعطاكموها فخذوها عن الله بشكر،
ومن منعكموها فخذوها عن الله بصبر. وقال: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه وحسن الخلق.
وقال:
رأس العقل بعد
الإيمان مداراة الناس، فإن عرض بلاء فقدم مالك قبل نفسك ودينك، فإن تجاوز البلاء
فقدم مالك ونفسك دون دينك، وأعلم أن المحروب من حرب دينه.
وقال:
إن لكل شيء شرفاً،
وإن أشرف المنازل ما استقبل به القبلة. من أحب أن يكون أعز الناس فليثق بالله، ومن
أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، ومن أحب أن
يكون أقوى الناس. فليتوكل على الله. ثم قال: ألا أنبئكم بشرار الناس؟ من أكل وحده
ومنع رفده وجلد عبده. ألا أنبئكم بشر من ذلك؟ من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره. ألا
أنبئكم بشر من ذلك؟ من يبغض الناس ويبغضونه.
وقيل له: ما أفضل ما
أعطي العبد؟ قال: نحيزه من عقل يولد معه. قالوا: فإذا أخطأه ذلك؟ قال: فليتعلم
عقلا. قالوا: فإن أخطأه ذلك؟ قال: فليتخذ صاحبا في الله غير حسود. قالوا: فإن
أخطأه ذلك؟ قال: عليه بالصمت. قالوا: فإن أخطأه ذلك؟ قال: فميتة قاضية. وقال لرجل
من ثقيف: ما المروة فيكم؟ فقال: الصلاح في الدين وإصلاح المعيشة وسخاء النفس وحسن
الخلق. فقال: كذلك هي فينا. وقال: من اتقى ربه كل لسانه ولم يشف غيظه، إن الله عند لسان كل قائل
فلينظر قائل ما يقول. وقال: ما أتاني جبريل إلا ووعظني، وقال في آخر قوله: إياك
والمشازرة فإنها تكشف العورة وتذهب بالعز. وسأله رجل، فقال له: ما عندي شيء. فقال
له: عدني. فقال: إني لأستعمل الرجل وغيره أن يكون انفض عينا وأمثل رجله وأشد
مكيدة، وإني لا أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه أعطيه تألفا. وقال: من لم يحمد عدلا ويذم جورا فقد بارز الله بالمحاربة. وقال: أشرف
الأعمال ثلاثة: ذكر الله، عز وجل، على كل حال، وإنصاف الناس من نفسك، ومواساة
الإخوان. وقال: موت البنات من المكرمات. وقال: الصبر عند الله ضد الغيرة ولا يكمله
أحد، وعظم الجزاء مع عظم البلاء، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه. وقال: إن أكمل
المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً. وقال: كل معروف صدقة وما وقى به اللسان صدقة،
فقيل لمحمد بن المنكدر: وما ذاك؟ قال: إعطاء الشاعر وذي اللسان.
وقال:
ما من ذنب إلا وله
عند الله التوبة إلا سوء الخلق إنه لا يخرج من شيء إلا وقع في شر منه. وقال: إياك
ومهلك، فإن ذا مهل قتل أخاه ونفسه وسلطانه. وأتاه رجل فقال له: ألك مأكل؟ قال: نعم من أكل المال. فقال: إذا الله
أنعم عليك بنعمته فليثن عليك. وقال: لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر.
فقال رجل: يا رسول
الله، إني لأحب أن تكون دابتي فارهة وثيابي جيادا، حتى ذكر شراك نعله وعلاقة سوطه،
فقال: إن الله جميل يحب الجمال، فإنما الكبر أن يمنع الحق ويغمض الباطل.
وسأل سائل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: ما أصبح في بيت آل محمد غير صاع من طعام وإنهم لأهل تسعة
أبيات فهل لهم عنه غنى؟ ولم يرد سائلا قط. وإنه كان يعالج حظاء من جريد، فمر به
رجل فقال: أكفيكه يا رسول الله؟ فقال: شأنك. فلما فرغ منه قال له: ألك حاجة؟ قال: نعم تضمن لي على الله
الجنة.
فأطرق طويلاً ثم رفع
رأسه إليه فقال: ذلك لك. فلما ولي ناداه: يا عبد الله أعني بطول السجود. وخطب على
ناقته فقال: يا أيها الناس كان الموت على غيرنا كتب، وكان الحق على غيرنا وجب،
وكان الذين يشيعون من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم ونأكل
تراثهم كانا مخلدون بعدهم، قد نسينا كل واعظه وآمنا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه
عن عيوب الناس وأنفق من مال قد اكتسبه من غير معصية ورحم وصاحب أهل الذل والمسكنة
وخالط أهل الفقه والحكمة طوبى لمن أذل نفسه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وعزل عن
الناس شره ووسعته السنة ولم يبعدها إلى البدعة.
وقال: وعظني جبريل
فقال لي: أحبب من شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه.
وقال: من طلب الرزق
من حله فليبذر على الله.
وقال: استرشدوا
العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا.
وقال:
لا طلاق إلا بعد
نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك، ولا صمت إلا من غدوة إلى الليل، ولا وصال في صيام، ولا
رضاع بعد فطام، ولا يتم بعد احتلام، ولا يمين لامرأة مع زوجها، ولا يمين لولد مع
والده، ولا يمين للمملوك مع سيده، ولا تعرب بعد الهجرة، ولا يمين في قطيعة رحم،
ولا نذر في معصية. ولو أن أعرابيا حج عشر حجج ثم هاجر كان فريضة الإسلام عليه إذا
استطاع إليه سبيلا، ولو أن مملوكا حج عشر حجج ثم عتق كان فريضة الإسلام عليه إن
استطاع إليه سبيلاً.
وقال:
أعظم الذنوب عند الله
أصغرها عند العباد، وأصغر الذنوب عند الله أعظمها عند العباد. وقال: لا يلسع
المؤمن من جحر مرتين، والناس سواء كأسنان المشط، والمرء كثير بأخيه، ولا خير لك في
صحبة من لا يرى لك من الحق مثل ما ترى له، واليد العليا خير من اليد السفلى،
والمسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، والمستشار مؤتمن، ولن يهلك امرؤ عرف
قدره، ورحم الله عبدا قال خيراً فغنم أو سكت فسلم.
وذكر الخيل فقال:
معقود في نواصيها الخير، وبطونها كنز وظهورها حرز، وأجرى الخيل فجاء فرس له أدهم
سابقا فجثا على ركبتيه ثم قال: ما هو إلا البحر. وقال: يحمل هذا العلم من كل حلف عدو له، ينفون عنه تحريف الغالين
وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وقال:
إن الله، عز وجل،
يقول: ويل للذين يختلون الدنيا بالدين وويل للذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من
الناس وويل للذين يسير المؤمن فيهم بالتقية إياي يغرون أم علي يجترءون فإني حلفت
لأتيحنهم فتنة تترك الحليم منهم حيران.
وروي عنه أنه قال:
كان تحت الجدار الذي ذكره الله، عز وجل، في كتابه كنز لهما، كان الكنز لوحا من ذهب
مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم. عجبا لمن يوقن بالموت كيف يفرح. عجبا لمن يوقن
بالقدر كيف يحزن. عجبا لمن يوقن بالنار كيف يضحك. عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها
بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله ومحمد رسول الله. وقال: للطاعم الشاكر
أجر الجائع الصابر، ولأن يعافى أحدكم فيشكر خير له من أن يبيت قائما ويصبح صائماً
معجباً.
وقال:
لا يحل لمؤمن أن يذل
نفسه. قيل: يا رسول الله فكيف تذل؟ قال: بعرضها لما لا تطيق من البلاء. وقال:
اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله.
ووجد في كتاب عند
أسماء بنت عميس من كلام رسول الله: الآجلات الجانيات المعقبات رشداً باقياً خير من
العاجلات العابدات المعقبات غياً باقياً. المسلم عفيف من المظالم عفيف من المحارم.
بئس العبد عبد هواه يضله، بئس العبد عبد رغب إليه بذلة، بئس العبد عبد طغى وبغى
وآثر الحياة الدنيا.
وقال:
أربع من قواصم الظهر:
إمام تطيعه ويضلك، وزوجة تأمنها وتخونك، وجار سوء إن علم سوءاً أذاعه وإن علم
خيراً ستره، وفقير إذا نحل لم يجد صاحبه.
وقال:
ما من عبد إلا وفي
علمه وحلمه نقص، ألا ترون أن رزقه يجري بالزيادة فيظل مسروراً مغتبطاً وهذان الليل
والنهار يجريان بنقص عمره لا يحزنه ذلك ولا يحتفل به ضل ضلالة، ما أغنى عنه رزق
يزيد وعمر ينقص.
وقال:
إن بني إسرائيل
اذهبوا خشية الله من قلوبهم فحضرت أبدانهم وغابت قلوبهم، وإن الله لا يقبل من عبد
لا يحضر من قلبه ما يحضر من بدنه.
وقال:
من ازداد علما ثم لم
يزدد زهداً لم يزدد من الله إلا بعداً. من أعان إماماً جائراً ولم يخطئه لم يفارق
قدمه قدمه بين يدي الله حتى يأمر به إلى النار.
وأتاه رجل من بني
قشير يقال له قرة بن هبيرة فقال: يا رسول الله كانت لنا أرباب وربات فهدانا الله
بك. فقال: أكثر أهل الجنة البله وأهل عليين ذوو الألباب.
وقال:
الأئمة من قريش لكم
عليهم حق، ولهم عليكم حق ما حكموا فعدلوا واسترحموا فرحموا وعاهدوا فوفوا. ووقف
على بيت فيه جماعة من قريش فقال: إنكم ستولون هذا الأمر ومن وليه منكم فاسترحم فلم
يرحم وحكم فلم يعدل وعاهد فلم يف فعليه لعنة الله.
وقال:
الدين النصيحة، الدين
النصيحة! قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولنبيه ولائمة الحق. وقال
بالخيف من مني: نضر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها حتى يبلغها من لم يسمعها، فرب
حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهم قلب مؤمن: إخلاص العمل وصحة الورع
والنصيحة لولاة الأمر.
وقال:
للمسلم على أخيه
المسلم من المعروف ست: يسلم عليه إذا لقيه وينصح له إذا غاب عنه ويعوده إذا مرض
ويشيع جنازته إذا مات ويجيبه إذا دعاه ويشمته إذا عطس.
وقال:
انصر أخاك ظالماً أو
مظلوماً. قالوا: يا رسول الله كيف ننصره ظالماً؟ قال: بكفه عن الظلم. وقال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة:
من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.
وقال:
ثلاثة لا يرد لهم
دعوة: المظلوم وإمام عادل والصائم حتى يفطر. وقال: ثلاث يتبعن ابن آدم بعد موته:
سنة سنها في المسلمين فعمل بها فله أجرها وأجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء،
وصدقة تصدق بها من مال أو ثمر فما جرت تلك الصدقة فهي له، ورجل ترك ذرية يدعون له.
وقال في خطبته: شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ولكل شيء آفة وآفة هذا الرأي
الهوى. وقال: اكفلوا لي ستاً أكفل لكم الجنة: إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا اؤتمنتم
فلا تخونوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا. كفوا ألسنتكم وغضوا أبصاركم وصونوا فروجكم.
وقال:
يقول الله، عز وجل:
لا يزال عبدي يصدق حتى يكتب صديقاً ولا يزال عبدي يكذب حتى يكتب كذاباً. وقال: ويل
للذي يتحدث بالكذب ليضحك به القوم، ويل له وويل له. وروي أنه قال: عليكم بالصدق
وإن ظننتم فيه الهلكة فإن عاقبته النجاة، وإياكم والكذب وإن ظننتم فيه النجاة فإن
عاقبته الهلكة.
وقال:
من خلف على مال أخيه
ظالماً فليتبوأ مقعده من النار. فقال رجل: وإن كان يسيراً يا رسول الله؟ فقال: ولو
كان قضيباً من أراك. ومن اقتطع حق امرئ مؤمن بيمينه فقد أوجب الله عليه النار وحرم
عليه الجنة.
وكان أجود الناس
بالخير وأجود ما يكون في شهر رمضان، وقال: والذي نفسي بيده لو كان لي مثل شجر
تهامة نعما لقسمته بينكم ثم لم تجدوني كذوباً ولا جباناً ولا بخيلاً. وقال له رجل:
يا رسول الله أعطني رداءك. فألقاه إليه. فقال: ما أريده. فقال: قاتلك الله! أردت
أن تبخلني ولم يجعلني الله بخيلاً. وقال: خياركم من يرجى خيره ولا يتقى شره، وشراركم من يتقى شره ولا يرجى
خيره، فإن الله أكرمكم بالإسلام فزينوه بالسخاء وحسن الخلق.
وقال:
الخير أسرع إلى البيت
الذي يعشى من الشفرة إلى سنام البعير. وقال: إياكم والشح! فإنما أهلك من كان
قبلكم، الشح! أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا.
اللؤم كفر والكفر في النار. قال الله، عز وجل: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم
المفلحون " .
وقال:
رأس العقل بعد
الإيمان مداراة الناس، وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر
في الدنيا أهل المنكر في الآخرة، وإن أول أهل الجنة دخولاً أهل المعروف. وقال: لا
تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تعطى صلة الحبل ولو شسع النعل، ولو أن تفرغ من دلوك
في إناء المستسقي، ولو أن تنحى الشيء عن طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك
فتسلم عليه، ولو أن تلقاه ووجهك إليه منطلق، وإن رجلاً سبك بأمر يعلمه فيك تعلم
فيه نحوه فلا تسبه ليكون لك أجر ذلك ويكون عليه وزره.
وقال:
إن الله جعل للمعروف
وجوهاً من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ووجه طلاب المعروف إليهم ويسر
عليهم إعطاءه كما ييسر الغيث إلى الأرض الجدبة ليحييها ويحيي بها أهلها، وإن الله
جعل للمعروف أعداء من خلقه بغض إليهم المعروف وبغض إليهم فعاله وحظر على طلاب المعروف
الطلب وحظر عليهم إعطاءه كما يحظر الغيث عن الأرض الجدبة ليهلكها ويهلك بها أهلها
أو يعفو الله عنه أكثره.
وقال:
الخلق كلهم عيال الله
فأحب الخلق إلى الله أحسن الناس إلى عياله. وسأله رجل فقال: أي الناس أحب إلى
الله؟ قال: أنفع الناس للناس. قال: فأي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إدخال سرور على
مسلم، إطعام جوعته وكساء عورته وقضاء دينه.
وقال: إن الله، عز
وجل، ينصب للغادر لواء يوم القيامة فيقال ألا إن هذا لواء فلان.
وقال له بعضهم:
أخبرنا بخصال يعرف المنافق بها. فقال: من حلف فكذب ووعد فأخلف وخاصم ففجر واؤتمن
فخان وعاهد فغدر.
وقال:
إن الله ليسأل العبد
يوم القيامة حتى أنه يقول له: فما منعك أن رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله
عبده حجته قال: يا رب إني وثقت بك وخفت من الناس. وقال: من أعطي عطاء فوجد فليجزه،
فإن لم يجزه فليثن به، ومن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره.
وقال له قوم من
المهاجرين يا رسول الله إن إخواننا من الأنصار واسونا وبذلوا لنا وقد خشينا أن
يذهبوا بالأجر كله. فقال: إلا ما أثنيتم به عليهم ودعوتم الله لهم. وقال: والذي
نفسي بيده لا يأخذ أحد شيئاً بغير حقه إلا لقي الله بحمله يوم القيامة. وقال:
الهدية تذهب السخيمة وتجدد الأخوة وتثبت المودة. وقال: لو أهدى إلى كراع لقبلته، ولو دعيت إليه لأجبت.
وقال: ما أحسن عبد
الصدقة إلا أحسن الله الخلافة على تركته، وصدقة المؤمن ظله أو ظله من صدقته.
وروي عنه أنه قال: ما
من الأعمال شيء أحب إلي من ثلاثة: إشباع جوعة المسلم وقضاء دينه وتنفيس كربته. من
نفس عن مؤمن كربته نفس الله عنه كرب يوم القيامة، والله في عون عبده ما كان العبد
في عون أخيه. وقال: إن المسألة لا تحل إلا الثلاثة: لذي فقر مدقع ولذي عسر مفظع
ولذي دم مفجع. وقال: من سأل وله أوقية، والأوقية أربعون درهماً، فقد سأل الناس إلحافاً.
وسأله رجلان، وهو
يقسم مغانم خيبر، فقال: لا حظ لغني ولا لقوي مكتسب.
وقال:
لا تحل الصدقة لغني
ولا لذي مرة سوى. وقال: من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم. قيل: يا
رسول الله ما يغنيه؟ قال: لغدائه أو لعشائه. وقيل له: يا رسول الله ما الغناء؟ قال: غداء وعشاء. وقال: من سأل عن
ظهر غنى جاء يوم القيامة بوجهه كدوح يعرف بها. قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما ظهر غنى؟ قال: قوت ليلة أو قوت يوم. وسأله حكيم بن حزام فأعطاه فقال: إن
هذا المال خضر حلو فمن أخذه بطيب نفس بشير بورك له فيه ومن أخذه بإشراف لم يبارك
له فيه فكان كأكل يأكل ولا يشبع.
وسأله الأنصار، فلم
يسألوه شيئاً إلا أعطاهم حتى أنفدوا ما عنده، ثم قال: أما بعد يا معشر الأنصار ما
يكن عندنا من خير فلن أؤخره عنكم وإنه من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله
ومن يصبر يصبره الله ولن يعطى عبد أفضل ولا أوسع من الصبر. وقال: من يضمن لي خلة
أضمن له الجنة. فقيل: ما هي يا رسول الله؟ قال: ألا تسأل أحداً شيئاً.
وقال لأبي ذر: يا أبا
ذر أ رأيت إن أصاب الناس جوع شديد حتى لا تستطيع أن تنهض من فراشك إلى مسجدك كيف
تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: تتعفف. وقال: لا يفتح رجل على نفسه باب مسألة
إلا فتح الله عليه باب فقر. وقال: الأيدي ثلاث: فيد الله العليا ويد المعطي التي
تليها ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة، فاستعفف عن السؤال ما استطعت. وقال
لبعضهم: ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه فتموله أو تصدق به.
وقال:
لا صدقة إلا عن ظهر
غنى وابدأ بمن تعول ولا تلام على كفاف. وقال: المسألة خروج في وجه الرجل يوم
القيامة إلا أن يسأل سلطانه أو من لا بد منه. وقيل له: أي الصدقة أفضل؟
فقال:
إن تصدق وأنت صحيح
تخاف الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا
وقد كان لفلان كذا. وقال: من أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهو له صدقة، ومن
سره الإنساء في الأجل والمد في الرزق فليصل رحمه. وقال: ما من ذنب أجدر أن يعجل
الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم. وأتاه رجل
فقال: من أبر؟ قال: أمك وأباك وأخاك وأختك وأدناك أدناك. وقال: يقول الله، تبارك وتعالى:
من وقر أباه أطلت في أيامه ومن وقر أمه رأى لبنيه بنين. وقال: ألا أنبئكم بأكبر
الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقول الزور.
وقال: من ستر عورة
أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة.
وقال: أربع من سنن
المرسلين: الحياء والنكاح والحلم والسواك.
وقال:
قال الله، سبحانه
وتعالى: لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو لأولين عليكم شراركم ولأجعلن أموالكم
في أيدي بخلائكم ولأمنعنكم قطر السماء ثم ليدعوني خياركم فلا أستجيب لهم،
ويسترحموني فلا أرحمهم، ويستسقوني فلا أسقيهم.
وقال:
أربع من كن فيه كمل
إسلامه، وإن كان ما بين قرنه إلى قدمه خطأ: الأمر بالمعروف، والحياء، والشكر، وحسن
الخلق. وأربع من كن فيه بنى الله له بيتا في الجنة: إيواء اليتيم، ورحمة... ورفق
بمملوكه، وشفق على والديه. وقال: التودد إلى الناس نصف الإيمان، والرفق نصف العيش، وما عال امرؤ وفى
اقتصاده.
حجة الوداعوحج رسول
الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة 10، وهي حجة الإسلام. خرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم من المدينة، حتى أتى ذا الحليفة وقد لبس ثوبين صحاريين إزارا
ورداء. وقيل: خرج من المدينة وقد لبس الثوبين ودخل المسجد بذي الحليفة وصلى ركعتين
وكان نساؤه جميعاً معه، ثم خرج من المسجد فأشعر بدنة من الجانب الأيمن ثم ركب
ناقته القصوى فلما استوت به على البيداء أهل بالحج.
وقال الواقدي عن
الزهري عن سالم عن أبيه وعن الزهري في إسناد له عن سعد بن أبي وقاص قالا: أهل رسول
الله صلى الله عليه وسلم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وقال بعضهم بالحج مفرداً. وقال
بعضهم بحجة وعمرة.
ودخل مكة نهاراً من
كداء، وهي عقبة المدنيين، على راحلته حتى انتهى إلى البيت. فلما رأى البيت رفع يديه فوق زمام ناقته وبدأ بالطواف قبل الصلاة.
وخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر ويوم عرفة، حين زالت الشمس، على راحلته قبل
الصلاة من غد يوم مني. فقال في خطبته: نضر الله وجه عبد سمع مقالتي فوعاها وحفظها
ثم بلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
ثلاث لا يغل عليهم قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لائمة الحق، واللزوم
لجماعة المؤمنين، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم. ودعا بالبدن فصفت بين يديه وكانت
مائة بدنة، فنحر منها بيده ستين بدنة، وقيل أربعا وستين، وأعطى علياً سائرها،
فنحرها وأخذ من كل ناقة بضعة، فجمعت في قدر واحدة فطبخت بالماء والملح، ثم أكل هو
وعلي، وحسا من المرق، ورمى جمرة العقبة على ناقته، ووقف عند زمزم وأمر ربيعة بن
أمية بن خلف فوقف تحت صدر راحلته، وكان صبياً، فقال: يا ربيعة! قل يا أيها الناس
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لعلكم لا تلقونني على مثل حالي هذه وعليكم
هذا. هل تدرون أي بلد هذا؟ وهل تدرون أي شهر هذا؟ وهل تدرون أي يوم هذا ؟ فقال
الناس: نعم! هذا البلد الحرام والشهر الحرام واليوم الحرام. قال: فإن الله حرم
عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة بلدكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وكحرمة يومكم هذا. ألا
هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
ثم قال: واتقوا الله
ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها. ثم قال: الناس في الإسلام سواء، الناس
طف الصاع لآدم وحواء لا فضل عربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بتقوى الله، ألا
هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: لا تأتوني
بأنسابكم وأتوني بأعمالكم، فأقول للناس هكذا، ولكم هكذا، إلا هل بلغت؟ قالوا: نعم!
قال: اللهم اشهد. ثم قال: كل دم كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول دم أضعه دم
آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان آدم بن ربيعة مسترضعاً في هذيل، فقتله
بنو سعد بن بكر، وقيل في بني ليث، فقتلته هذيل، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال:
اللهم اشهد. ثم قال: وكل ربا كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول ربا أضعه ربا
العباس بن عبد المطلب، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد. ثم قال: يا أيها
الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما
ليواطئوا عدة ما حرم الله، ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات
والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله منها أربعة حرم: رجب
الذي بين جمادى وشعبان يدعونه مضر، وثلاثة متوالية: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم،
ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: أوصيكم
بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنما أخذتموهن
بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكتاب الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق كسوتهن
ورزقهن بالمعروف، ولكم عليهن ألا يوطئن فراشكم أحداً، ولا يأذن في بيوتكم إلا
بعلمكم وإذنكم، فإن فعلن شيئاً من ذلك فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير
مبرح، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال:
فأوصيكم بمن ملكت
أيمانكم فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، وإن أذنبوا فكلوا عقوباتهم إلى
شراركم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
ثم قال:
إن المسلم أخو المسلم
لا يغشه ولا يخونه ولا يغتابه ولا يحل له دمه ولا شيء من ماله إلا بطيبة نفسه، ألا
هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: إن الشيطان
قد يئس أن يعبد بعد اليوم، ولكن يطاع فيما سوى ذلك من أعمالكم التي تحتقرون، فقد
رضي به، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال:
أعدى الأعداء على
الله قاتل غير قاتله وضارب غير ضاربه، ومن كفر نعمة مواليه فقد كفر بما أنزل الله
على محمد، ومن انتمي إلى غير أبيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ألا
هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: إلا إني إنما
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإذا قالوها
عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق، وحسابهم على الله، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم!
قال: اللهم اشهد.
ثم قال: لا ترجعوا
بعدي كفاراً مضلين يملك بعضكم رقاب بعض، إني قد خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن
تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي. إلا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد. ثم قال: إنكم مسؤولون فليبلغ الشاهد منكم
الغائب. ولم ينزل مكة، وقيل له في ذلك: لو نزلت يا رسول الله بعض منازلك؟
فقال: ما كنت لأنزل بلدا أخرجت منه. ولما كان يوم النفر دخل البيت، فودع ونزل عليه:
اليوم أكملت لكم
دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا. وخرج ليلاً منصرفا إلى المدينة،
فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة يقال له: غدير خم، لثماني عشرة ليلة خلت من ذي
الحجة، وقام خطيبا وأخذ بيد على بن أبي طالب فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فمن كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
ثم قال: أيها الناس
إني فرطكم وأنتم واردي على الحوض، وإني سائلكم، حين تردون على، عن الثقلين فانظروا
كيف تخلفوني فيهما. وقالوا: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الثقل الأكبر كتاب
الله سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلوا، ولا تبدلوا، وعترتي
أهل بيتي.
الوفاة
ولما قدم المدينة
أقام أياماً وعقد لأسامة بن زيد بن حارثة على جلة المهاجرين والأنصار، وأمره أن
يقصد حيث قتل أبوه من أرض الشام، وروي عن أسامة أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن اغز يبنى من أرض فلسطين صباحا ثم أحرق. وروى آخرون أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أمره أن يوطئ الخيل أرض البلقاء، وكان في الجيش أبو بكر وعمر،
وتكلم قوم وقالوا: حدث السن، وابن سبع عشرة سنة! فقال: لئن طعنتم عليه، فقبله
طعنتم على أبيه، وإن كانا لخليقين للإمارة. واشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قبل أن ينفذ الجيش، وكان أسامة مقيماً بالجرف، فلما اشتدت عليه قال: أنفذوا جيش
أسامة! فقالها مراراً، واعتل أربعة عشر يوماً، وتوفي يوم الإثنين لليلتين خلتا من
شهر ربيع الأول، ومن شهور العجم آذار، وكان قرآن العقرب.
قال، ما شاء الله،
المنجم: كان طالع السنة التي توفي فيها رسول الله، وهو القرآن الرابع من مولده،
الجدي ثماني عشرة درجة، والزهرة في... سبع عشرة درجة، والشمس في الحمل دقيقة،
والقمر في الحمل درجتين وثلاثين دقيقة، وعطارد... إحدى عشرة درجة وثلاث عشرة
دقيقة، والمشتري في الميزان ثلاثاً وعشرين درجة وأربع دقائق راجعاً، والمريخ في
الجدي خمس دقائق. وقال: الخوارزمي: كانت الشمس يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الجوزاء ست درجات، والقمر في الجوزاء ثلاثاً وعشرين، وزحل في القوس تسعاً وعشرين
درجة، والمريخ في الحوت إحدى عشرة درجة، والزهرة في السرطان ثماني عشرة درجة،
وعطارد في الجوزاء ثمانياً وعشرين درجة، والرأس في الجدي خمساً وعشرين درجة، وكان
سنة ثلاثاً وستين سنة، وغسله علي بن أبي طالب، والفضل بن العباس بن عبد المطلب
وأسامة بن زيد يناولان الماء، وسمعوا صوتا من البيت، يسمعون الصوت ولا يرون الشخص،
فقال: السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، إنه حميد مجيد، إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس، أهل البيت، ويطهركم تطهيرا، كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون
أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا
إلا متاع الغرور، لتبلون في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور، إن
في الله خلفاً من كل هالك وعزاء من كل مصيبة، عظم الله أجوركم، والسلام ورحمة
الله. فقيل لجعفر بن محمد: من كنتم ترونه؟ فقال: جبريل! وكفن في ثوبين صحاريين وبرد
حبرة، ونزل قبره علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، وقيل الفضل بن العباس
وشقران مولى رسول الله، ونادت الأنصار: اجعلوا لنا في رسول الله صلى الله عليه
وسلم نصيبا في وفاته كما كان لنا في حياته! فقال علي: ينزل رجل منكم. فأنزلوا أوس
بن خولي أحد بني الحبلى، وكان حفر قبره أبو طلحة بن سهل الأنصاري، ولم يكن
بالمدينة من يحفر غيره وغير أبي عبيدة بن الجراح، وكان أبو عبيدة بن الجراح يشق
ويحفر وسطا وأبو طلحة يلحد، فقيل إنهما سابقاً حفراً، فسبق أبو طلحة بالحفر، وصلى
عليه أياماً، والناس يأتون ويصلون إرسالا، ودفن ليلة الأربعاء في بعض الليل، وطرحت
تحته قطعة رحلة وكانت من أرجوان، وربع قبره ولم يسنم، ولما توفي قال الناس: ما كنا
نظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت حتى يظهر على الأرض، وخرج عمر فقال:
والله ما مات رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت، وإنما تغيب كما غاب موسى بن عمران أربعين ليلة
ثم يعود، والله ليقطعن أيدي قوم وأرجلهم. وقال أبو بكر: بل قد نعاه الله إلينا
فقال: إنك ميت، وإنهم ميتون. فقال عمر: والله لكأني ما قرأتها قط. ثم قال:
لعمري لقد أيقنت إنك
ميت ... ولكنما أبدى الذي قلته الجزع
ولم يخلف من الولد
إلا فاطمة، وتوفيت بعده بأربعين ليلة، وقال قوم بسبعين ليلة، وقال آخرون ثلاثين
ليلة، وقال آخرون ستة أشهر، وأوصت علياً زوجها أن يغسلها، فغسلها وأعانته أسماء
بنت عميس، وكانت تخدمها وتقوم عليها، وقالت: ألا ترين إلى ما بلغت؟ أفأحمل على سرير ظاهراً؟ قالت: لا لعمري، يا
بنت رسول الله، ولكني أصنع لك شيئاً كما رأيته يصنع بالحبشة. قالت: فأرينيه!
فأرسلت إلى جرائد
رطبة فقطعتها، ثم جعلتها على السرير نعشاً، وهو أول ما كانت النعوش، فتبسمت، وما
رئيت متبسمة إلا يومئذ، ودفنت ليلاً، ولم يحضرها أحد إلا سلمان وأبو ذر، وقيل
عمار. وكان بعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أتينها في مرضها فقلن: يا بنت
رسول الله! صيري لنا في حضور غسلك حظا! قالت: أتردن تقلن في كما قلتن في أمي؟ لا حاجة لي في حضوركن.
ودخل إليها في مرضها
نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء قريش فقلن: كيف أنت؟ قالت: أجدني
والله كارهة لدنياكم، مسرورة لفراقكم، ألقى الله ورسوله بحسرات منكن، فما حفظ لي
الحق، ولا رعيت مني الذمة، ولا قبلت الوصية، ولا عرفت الحرمة، وكان سنها ثلاثاً
وعشرين سنة.
صفة رسول اللهوكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً، ظاهر الوضاءة، مبتلج الوجه، حسن
الخلق، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيماً،
قسيماً، لم يماشه أحد من الناس إلا طاله، وإن كان المماشي له طويلا، عظيم الهامة،
رجل الشعر إن تفرقت عقيقته انفرقت فرقا، لا يجاوز شعره شحمة أذنه، أزهر اللون،
مشرباً حمرة، في عينه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، وفي لحيته كثافة، وكان
أكثر شيبه في لحيته حول الذقن وفي رأسه في فودى رأسه، سهل الخدين، ضليع الفم، حلو
المنطق لا نزر ولا هدر، دقيق المسربة، معتدل الخلق، عريض الصدر والكتف، بعيد ما
بين المنكبين، واسع الظهر، غير ما تحت الأزرار من الفخذ والساق، أنور المتجرد،
موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري ما سوى ذلك من الشعر، أشعر
الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحتين، شثن الكفين
والقدمين، شائل الأطراف، خمصان الأخمصين، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب
أو يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت معا خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره
إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يبدأ من لقي بالسلام، وكان جل جلوسه القرفصى، وكان
يأكل على الأرض، وكان إذا دعاه رجل فقال: يا رسول الله! قال: لبيك، وإذا قال: يا
أبا القاسم! قال: يا أبا القاسم، وإذا قال: يا محمد! قال: يا محمد، وإذا أخذ الرجل
بيده لم ينزعها منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها، وإذا نازعه رداءه لا يجاذبه
حتى يخليه، وإذا سأله سائل حاجة لم يرده إلا بحاجته أو بميسور من القول.
المشبهون برسول
اللهوكان المشبهون برسول الله جعفر بن أبي طالب. قال رسول الله:
أشبهت خلقي وخلقي،
والحسن بن علي. وكانت فاطمة تقول: بأبي! شبيه بأبي غير شبيه بعلي، ويقال: إن أبا
بكر قال له، وقد لقيه في بعض طرق المدينة: بأبي! شبيه بالنبي غير شبيه بعلي، وقثم بن العباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان
بن الحارث بن عبد المطلب، وأسهد بن العبرة، وهاشم بن عبد المطلب ابن عبد مناف،
ومسلم بن معتب بن أبي لهب.
نسب الرسول وأمهاته
إلى إبراهيموالعواتك والفواطم اللاتي ولدنه. هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن
هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن
النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد
بن أدد بن هميسع بن يشجب بن أمين بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم ابن تارح
بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن
متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس النبي، بن يرد بن مهلائيل ابن قينان بن أنوش بن شيث بن
آدم، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب،
وأمها برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ابن قصي.
وأم عبد الله بن عبد
المطلب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وأم عبد المطلب، وهو شيبة الحمد
بن هاشم، سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار،
واسمه زيد مناة، ويقال: بل اسمه تيم اللات، ابن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج. وأم هاشم
عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهتة ابن سليم.
وأم عبد مناف، واسمه
المغيرة بن قصي، حبي بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة
بن عمرو بن عامر من خزاعة. وأم قصي، واسمه زيد بن كلاب، فاطمة بنت سعد بن سيل بن
عامر الجادر... من الأزد أزد شنوءة، وهم حلفاء بني نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر
بن عبد مناة بن كنانة.
وأم كلاب بن مرة هند
بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة. وأم مرة بن كعب بن لؤي ماوية بنت القين بن جسر بن شيع الله بن الأسد
ابن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وأم كعب بن لؤي وحشية بنت
شيبان.
وأم لؤي بن غالب سلمى
بنت عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن خزاعة. وأم غالب بن فهر ليلى بنت سعد بن
هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر. وأم فهر بن مالك جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر
بن سعد بن الحارث بن مضاض بن عامر بن دب بن جرهم.
وأم مالك بن النضر
عاتكة، وهي عكرشة، وهي الحصان بنت عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان بن
مضر. وأم النضر بن كنانة برة بنت مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر. وأم كنانة بن
خزيمة هند بنت قيس بن عيلان. وأم خزيمة بن مدركة سلمى بنت أسد بن ربيعة بن نزار.
وأم مدركة بن إلياس خندف، وهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة. وأم
إلياس بن مضر الحنفاء بنت أياد بن نزار بن معد بن عدنان. وأم مضر بن نزار شقيقة
بنت عك بن عدنان بن أدد. وأم نزار بن معد ناعمة بنت جوشم بن عدي بن دب بن جرهم. وأم معد بن
عدنان تيمة بنت يشجب بن يعرب بن قحطان... وأم أد بن أدد البعجا بنت عمرو بن تبع بن
سعد ذي فائش ابن حمير. وأم أدد بن الهميسع حية بنت قحطان. وأم الهميسع بن يشجب
حارثة بنت مراد بن زرعة بن ذي رعين بن حمير. وأم يشجب بن أمين قطامة بنت علي بن
جرهم... وأم إسماعيل بن إبراهيم هاجر أمه كانت لسارة أم إسحاق، وهي قبطية، يزعم
آخرون أنها رومية. وأم إبراهيم، وهو إبراهيم بن تارح، أدنيا بنت بر بن أرغوا بن
فالغ بن عابر بن شالخ. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول:
أنا ابن العواتك، وربما قال: أنا ابن العواتك من سليم، واللاتي ولدنه من العواتك اثنتا
عشرة عاتكة: عشر منهن مضريات، وقحطانية وقضاعية، والمضريات: ثلاث من قريش وثلاث من
سليم، وعدوانيتان، وهذلية، وأسدية، فأما القرشيات فولدته، من قبل أسد بن عبد
العزى، أم أسد بن عبد العزى الحطيا، وهي ريطة بنت كعب ابن سعد بن تيم بن مرة،
وأمها قبله بنت حذافة بن جمح، وأمها أميمة بنت عامر بن الحان بن الحارث، وهو غسان
بن خزاعة، وأمها عاتكة بنت هلال بن وهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وأم هلال بن
وهيب عاتكة بنت عتواره بن الطرب بن الحارث بن فهر، وأمها عاتكة بنت يخلد بن النضر
ابن كنانة بن خزيمة.
وأما السليميات،
فولدته، من قبل هاشم، أم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن سليم بن
منصور، وأم مرة بن هلال عاتكة بنت مرة بن عدي بن سليمان بن قصي بن خزاعة، ويقال:
هي عاتكة بنت جابر بن قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم.
وأما العدوانيتان
فولدتاه من قبل أمهات أبيه عبد الله، ومن قبل مالك بن النضر، فأما التي ولدته من
قبل عبد الله، فهي السابعة من أمهاته، ويقال الخامسة، وهي عاتكة بنت عامر بن ظرب
بن عمرو بن يشكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان، ومن قال: هي
الخامسة، فيقول عاتكة بنت عبد الله بن الحارث بن وائلة بن ظرب بن عمرو، وأما
العدوانية الثانية فأم مالك بن النضر بن كنانة، وهي عاتكة بنت عدوان بن عمرو ابن
قيس بن عيلان.
وأما الهذلية فوالدته
من قبل هاشم، وأم هاشم عاتكة بنت مرة بن هلال، وأمها ماوية بنت حورة بن عمرو بن
سلول بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، فأم معاوية بن بكر بن هوازن عاتكة بنت
سعد بن هذيل.
وأما الأسدية فوالدته
من قبل كلاب بن مرة، وهي الثالثة من أمهاته، وهي عاتكة بنت دودان بن أسد بن خزيمة.
وأما القحطانية
فوالدته من غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وأم غالب بن فهر ليلى بنت سعد
بن هذيل بن مدركة، وأمها سلمى بنت طابخة بن إلياس بن مضر، وأمها عاتكة بنت الأزد
بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهي
الثالثة من أمهات النضر بن كنانة.
وأما القضاعية
فوالدته من قبل كعب بن لؤي، وهي الثالثة من أمهاته، عاتكة بنت رشدان بن قيس بن
جهينة بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.
تسميه من ولدنه من
الفواطمقال: وأخبرني غير واحد من أهل العلم أنه كان يكثر يوم حنين ويقول: أنا ابن
الفواطم، فأخبرني النسابون أنه ولده من الفواطم أربع فواطم: قرشية، وقيسيتان،
وأزدية، فأما القرشية، فوالدته من قبل أبيه عبد الله بن عبد المطلب، فاطمة بنت
عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، والقيسيتان أم عمرو بن عائذ بن عمران، وهي فاطمة
بنت ربيعة بن عبد العزى بن رزام بن بكر بن هوازن، وأمها فاطمة بنت الحارث بن بهثة
بن سليم بن منصور، والأزدية أم قصي بن كلاب، وهي فاطمة بنت سعد بن سيل.
وكان عمال رسول الله،
لما قبضه الله، على مكة: عتاب بن أسيد بن العاص، وعلى البحرين: العلاء بن الحضرمي
والمنذر بن ساوي التميمي. وبعضهم يقول مكان العلاء: أبان بن سعيد بن العاص، وعلى
عمان عباد وجيفر ابنا الجلندا. وقال بعضهم: عمرو بن العاص، وعلى الطائف عثمان بن
أبي العاص، وعلى اليمن معاذ بن جبل وأبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري يفقهان
الناس، وعلى مخاليف الجند وصنعاء المهاجر بن أبي أمية المخزومي، وعلى حضرموت زياد
بن لبيد الأنصاري، وعلى مخاليف اليمن خالد بن سعيد بن العاص، وعلى ناحية من
نواحيها يعلى بن منية التميمي، وعلى نجران فروة ابن مسيك المرادي، وقال بعضهم: أبو
سفيان بن حرب، وعلى صدقات أسد وطئ عدي بن حاتم، وعلى صدقات حنظلة مالك بن نويرة
الحنظلي، وقال بعضهم: على صدقات بني يربوع، وعلى صدقات بني عمرو وتميم سمرة بن
عمرو بن جناب العنبري، وعلى صدقات بني سعد الزبرقان بن بدر، وعلى صدقات مقاعس
والبطون قيس بن عاصم.
خبر سقيفة بني
ساعدةوبيعة أبي بكر واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، يوم توفي رسول الله...
يغسل، فأجلست سعد بن عبادة الخزرجي، وعصبته بعصابة، وثنت له وسادة. وبلغ أبا بكر
وعمر والمهاجرين، فأتوا مسرعين، فنحوا الناس عن سعد، وأقبل أبو بكر وعمر بن الخطاب
وأبو عبيدة بن الجراح فقالوا: يا معاشر الأنصار! منا رسول الله، فنحن أحق بمقامه.
وقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير! فقال أبو بكر: منا الأمراء وأنتم الوزراء.
فقام ثابت بن قيس ابن شماس، وهو خطيب الأنصار، فتكلم وذكر فضلهم. فقال أبو بكر: ما
ندفعهم عن الفضل، وما ذكرتم من الفضل فأنتم له أهل، ولكن قريش أولى بمحمد منكم،
وهذا عمر بن الخطاب الذي قال رسول الله: اللهم أعز الدين به! وهذا أبو عبيدة بن
الجراح الذي قال رسول الله: أمير هذه الأمة، فبايعوا أيهما شئتم! فأبيا عليه
وقالا: والله ما كنا لنتقدمك، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني
اثنين. فضرب أبو عبيدة على يد أبي بكر، وثنى عمر، ثم بايع من كان معه من قريش.
ثم نادى أبو عبيدة:
يا معشر الأنصار! إنكم كنتم أول من نصر، فلا تكونوا أول من غير وبدل. وقام عبد الرحمن
بن عوف فتكلم فقال: يا معشر الأنصار، إنكم، وإن كنتم على فضل، فليس فيكم مثل أبي
بكر وعمر وعلي، وقام المنذر بن أرقم فقال: ما ندفع فضل من ذكرت، وإن فيهم لرجلاً
لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد، يعني علي بن أبي طالب.
فوثب بشير بن سعد من
الخزرج، فكان أول من بايعه من الأنصار، وأسيد بن حضير الخزرجي، وبايع الناس حتى
جعل الرجل يطفر وسادة سعد بن عبادة وحتى وطئوا سعداً. وقال عمر: اقتلوا سعدا، قتل
الله سعداً.
وجاء البراء بن عازب،
فضرب الباب على بني هاشم وقال: يا معشر بني هاشم، بويع أبو بكر. فقال بعضهم: ما
كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه، ونحن أولى بمحمد. فقال العباس: فعلوها، ورب
الكعبة.
وكان المهاجرون
والأنصار لا يشكون في علي، فلما خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس، وكان لسان
قريش، فقال: يا معشر قريش، أنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم،
وصاحبنا أولى بها منكم. وقام عتبة بن أبي لهب فقال:
ما كنت أحسب أن الأمر
منصرف ... عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
عن أول الناس إيماناً
وسابقة، ... وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وآخر الناس عهداً
بالنبي، ومن ... جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما فيهم لا
يمترون به، ... وليس في القوم ما فيه من الحسن
فبعث إليه علي فنهاه.
وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، ومالوا مع علي بن أبي طالب،
منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد
بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان ألفاًرسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر،
والبراء بن عازب، وأبي بن كعب، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن
الجراح والمغيرة بن شعبة، فقال: ما الرأي؟ قالوا: الرأي أن تلقى العباس بن عبد
المطلب، فتجعل له في هذا الأمر نصيبا يكون له ولعقبه من بعده، فتقطعون به ناحية علي
بن أبي طالب حجة لكم على علي، إذا مال معكم، فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن
الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلاً، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه، ثم
قال: إن الله بعث محمداً نبياً وللمؤمنين وليا، فمن عليهم بكونه بين أظهرهم، حتى
اختار له ما عنده، فخلى على الناس أموراً ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم مشفقين،
فاختاروني عليهم واليا ولأمورهم راعيا، فوليت ذلك، وما أخاف بعون الله وتشديده
وهنا، ولا حيرة، ولا جبنا، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، وما
أنفك يبلغني عن طاعن يقول الخلاف على عامة المسلمين، يتخذكم لجأ، فتكون حصنه
المنيع وخطبة البديع. فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا عليه، وإما صرفتموهم عما
مالوا إليه، ولقد جئناك ونحن نريد أن لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك، ويكون لمن
بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله، وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان صاحبك...
عنكم، وعلى رسلكم بني هاشم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا ومنكم.
فقال عمر بن الخطاب:
إي والله وأخرى، إنا لم نأتكم لحاجة إليكم، ولكن كرهاً أن يكون الطعن فيما اجتمع
عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم.
فحمد العباس الله
وأثنى عليه وقال: إن الله بعث محمداً كما وصفت نبيا وللمؤمنين ولياً، فمن على أمته
به، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عنده، فخلى على المسلمين أمورهم ليختاروا
لأنفسهم مصيبين الحق، لا مائلين بزيغ الهوى، فإن كنت برسول الله فحقاً أخذت، وإن
كنت بالمؤمنين فنحن منهم، فما تقدمنا في أمرك فرضاً، ولا حللنا وسطاً، ولا برحنا
سخطاً، وإن كان هذا الأمر إنما وجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنا كارهين. ما أبعد
قولك من انهم طعنوا عليك من قولك إنهم اختاروك ومالوا إليك، وما أبعد تسميتك
بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولك خلى على الناس أمورهم ليختاروا
فاختاروك، فأما ما قلت إنك تجعله لي، فإن كان حقاً للمؤمنين، فليس لك أن تحكم فيه،
وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض، وعلى رسلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها. فخرجوا من عنده. وكان فيمن تخلف عن بيعة أبي
بكر أبو سفيان بن حرب، وقال: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم
غيركم؟ وقال لعلي بن أبي طالب: امدد يدك أبايعك، وعلي معه قصي، وقال:
بني هاشم لا تطمعوا
الناس فيكم ... ولا سيما تيم بن مرة أو عدي
فما الأمر إلا فيكم
وإليكم، ... وليس لها إلا أبو حسن علي
أبا حسن، فاشدد بها
كف حازم، ... فإنك بالأمر الذي يرتجي ملي
وإن امرأ يرمى قصي
وراءه ... عزيز الحمى، والناس من غالب قصي
وكان خالد بن سعيد
غائباً، فقدم فأتى علياً فقال: هلم أبايعك، فو الله ما في الناس أحد أولى بمقام
محمد منك. واجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له، فقال لهم:
اغدوا على هذا محلقين الرءوس. فلم يغد عليه إلا ثلاثة نفر.
وبلغ أبا بكر وعمر أن
جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت
رسول الله، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر،
فصارعه عمر فصرعه، وكسر سيفه، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت: والله لتخرجن أو
لأكشفن شعري ولأعجن إلى الله! فخرجوا وخرج من كان في الدار وأقام القوم أياماً. ثم
جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع علي إلا بعد ستة أشهر وقيل أربعين يوماً.
أيام أبي بكروكانت
بيعة أبي بكر يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشر، في اليوم
الذي توفي فيه رسول الله. واسم أبي بكر عبد الله بن عثمان بن عامر، وكان يسمي
عتيقاً لجماله، وأمه سلمى بنت صخر من بني تيم بن مرة، وكان منزله بالسنح خارج
المدينة، وكانت امرأته حبيبة بنت خارجة فيه، وكان له أيضاً منزل بالمدينة فيه
أسماء بنت عميس، فلما ولي كان منزله المدينة، وأتته فاطمة ابنة رسول الله تطلب
ميراثها من أبيها، فقال لها: قال رسول الله: إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا
صدقة. فقالت: أ في الله أن ترث أباك ولا إرث أبي؟ أما قال رسول الله: المرء يحفظ
ولده؟ فبكى أبو بكر بكاء شديدا. وأمر أسامة بن زيد أن ينفذ في جيشه. وسأله أن يترك
له عمر يستعين به على أمره. فقال: فما تقول في نفسك؟ فقال: يا ابن أخي! فعل الناس
ما ترى فدع لي عمر، وأنفذ لوجهك. فخرج أسامة بالناس وشيعة أبو بكر فقال له:
ما أنا بموصيك بشيء،
ولا آمرك به، وإنما آمرك ما أمرك به رسول الله، وامض حيث ولاك رسول الله. فنفذ
أسامة، فأقام منذ خرج إلى أن قدم المدينة منصرفا ستين يوماً، أو أربعين يوماً، ثم
دخل المدينة ولواؤه معقود، حتى يدخل المسجد، فصلى، ثم دخل إلى بيته ولواؤه الذي
عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، وصعد أبو بكر المنبر عند ولايته الأمر،
فجلس دون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرقاة، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال:
إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني! لا أقول إني
أفضلكم فضلا، ولكني أفضلكم حملاً. وأثنى على الأنصار خيراً وقال: أنا وإياكم، معشر
الأنصار كما قال القائل:
جزى الله عنا جعفرا
حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبو أن يملونا ولو أن
آمنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملت
فاعتزلت الأنصار عن
أبي بكر، فغضبت قريش، وأحفظها ذلك، فتكلم خطباؤها، وقدم عمرو بن العاص فقالت له
قريش: قم فتكلم بكلام تنال فيه من الأنصار! ففعل ذلك، فقام الفضل بن العباس فرد
عليهم ثم صار إلى علي، فأخبره وأنشده شعراً قاله، فخرج علي مغضباً حتى دخل المسجد،
فذكر الأنصار بخير، ورد علي عمرو بن العاص قوله. فلما علمت الأنصار ذلك سرها
وقالت: ما نبالي بقول من قال مع حسن قول علي، واجتمعت إلى حسان بن ثابت، فقالوا:
أجب الفضل، فقال: إن عارضته بغير قوافيه فضحني. فقالوا: فأذكر علياً فقط، فقال:
جزى الله خيراً،
والجزاء بكفه، ... أبا حسن عنا ومن كأبي حسن
سبقت قريشاً بالذي
أنت أهله ... فصدرك مشروح وقلبك ممتحن
تمنت رجال من قريش
أعزة ... مكانك، هيهات الهزال من السمن
وأنت من الإسلام في
كل منزل ... ... البطين من الرسن
وكنت المرجى من لؤي
بن غالب ... لما كان منه والذي بعد لم يكن
حفظت رسول الله فينا
وعهده ... إليك ومن أولى به منك من ومن
ألست أخاه في الإخاء
ووصيه، ... وأعلم فهر بالكتاب وبالسنن
وتنبأ جماعة من
العرب، وارتد جماعة، ووضعوا التيجان على رؤوسهم، وامتنع قوم من دفع الزكاة إلى أبي
بكر.
وكان ممن تنبأ طليحة
بن خويلد الأسدي بنواحيه، وكان أنصاره غطفان، ورئيسهم عيينة بن حصن الفزاري، والأسود
العنسي باليمن، ومسيلمة بن حبيب الحنفي باليمامة، وسجاح بنت الحارث التميمية، ثم
تزوجت بمسيلمة، وكان الأشعث بن قيس مؤذنها. فخرج أبو بكر في جيشه إلى ذي القصة.
ودعا عمرو بن العاص فقال: يا عمرو إنك ذو رأي قريش، وقد تنبأ طليحة. فما ترى في علي؟ قال: لا
يطيعك! قال: فالزبير؟ قال: شجاع حسن! قال: فطلحة؟ قال: للخفض والطعن! قال:
فسعد؟ قال: محش حرب ! قال: فعثمان؟ قال: أجلسه واستعن برأيه! قال: فخالد بن
الوليد؟ قال: بسوس للحرب، نصير للموت. له أناة القطاة، ووثوب الأسد. فلما عقد له
قام ثابت بن قيس بن شماس فقال: يا معشر قريش، أما كان فينا رجل يصلح لما تصلحون
له؟ أما والله ما نحن عمياً عما نرى، ولا صما عما نسمع، ولكن أمرنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالصبر، فنحن نصبر. وقام حسان فقال:
يا للرجال لخلفة
الأطوار ... ولما أراد القوم بالأنصار
لم يدخلوا منا رئيساً
واحداً ... يا صاح في نقض ولا إمرار
فعظم على أبي بكر هذا
القول، فجعل على الأنصار ثابت بن قيس، وأنفذ خالداً على المهاجرين، فقصد طليحة
ففرق جمعه، وقتل خلقا من أتباعه، وأخذ عيينة بن حصن، فبعث به إلى أبي بكر مع
ثلاثين أسيراً، وهو مكبل بالحديد، فجعل الصبيان يصيحون به لما دخل المدينة: يا
مرتد! فيقول: ما آمنت طرفة عين قط! فاستتابه وأطلق سبيله، ولحق طليحة بالشام،
وجاور بني حنيفة، وبعث بشعر إلى أبي بكر يعتذر إليه، ويراجع الإسلام، يقول فيه:
فهل يقبل الصديق أني
مراجع ... ومعط بما أحدثت من حدث يدي
وأني من بعد الضلالة
شاهد ... شهادة حق لست فيها بملحد
فلما انتهى قوله إلى
أبي بكر رق له، وبعث إليه، فرجع، وقد هلك أبو بكر، وقام عمر على قبره. وبعث به مع
سعد بن أبي وقاص إلى العراق، وأمره أن لا يستعمله.
وأما الأسود بن عنزة
العنسي، فقد كان تنبأ على عهد رسول الله، فلما بويع أبو بكر ظهر أمره، واتبعه على
ذلك قوم، فقتله قيس بن مكشوح المرادي وفيروز الديلمي، دخلا عليه منزله، وهو سكران،
فقتلاه.
وقد كان أبو بكر عقد
لشرحبيل بن حسنة، وأمره أن يقصد لمسيلمة الكذاب وألا يأتيه راية، ثم عقد لخالد
وبعثه على شرحبيل، فكتب خالد إلى شرحبيل: ألا تعجل حتى آتيك! ونفذ خالد بن الوليد
مسرعا إلى اليمامة، إلى مسيلمة الحنفي الكذاب، وكان قد أسلم ثم تنبأ في سنة 10،
وزعم أنه شريك لرسول الله في النبوة، وكان كتب إلى رسول الله: أني أشركت معك، فلك
نصف الأرض، ولي نصفها، ولكن قريش قوم لا يعدلون. فكتب إليه رسول الله: من محمد
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب: أما بعد فإن الأرض لله يورثها من
يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، فلقي خالد مجاعة في جماعة، فأسرهم وضرب أعناقهم،
واستبقى مجاعة، وزحف إلى مسيلمة، فخرج مسيلمة فقاتله بمن معه من ربيعة وغيرها
قتالاً شديداً، وقتل من المسلمين خلق عظيم، ثم قتل مسيلمة في المعركة، طعنه أبو
دجانة الأنصاري، فمشى إليه مسيلمة في الرمح فقتله، ورماه وحشي بحربته فقتله، وهو
يومئذ ابن مائة وخمسين سنة.
وأتى مجاعة الحنفي
إلى خالد، فأوهمه أن في الحصن قوما بعد، وقال: ما أتاك إلا سرعان الناس، ودعا إلى
الصلح فصالحهم خالد على الصفراء والبيضاء ونصف السبي، ثم نظروا وليس في الحصن أحد
إلا النساء والصبيان، فألبسهم السلاح ووقفهم على الحصون، ثم أشار إلى خالد فقال:
أبو علي، فتأخذ الربع؟ ففعل ذلك خالد، وقبل منهم. فلما فتحت الحصون لم يجد إلا
النساء والصبيان فقال: أمكراً يا مجاعة؟ قال: إنهم قومي. وأجاز لهم وافتتحت اليمامة، وهربت
سجاح، فماتت بالبصرة.
وكان فتح مسيلمة في
سنة إحدى عشر وقتل في شهر ربيع الأول سنة إثنا عشر. وخطب خالد إلى مجاعة ابنته،
فزوجه إياها، فكتب إليه أبو بكر: تتوثب على النساء وعند أطناب بيتك دماء المسلمين؟
وأمر أبو بكر خالداً
أن يسير إلى أرض العراق، فسار ومعه المثنى بن حارثة، حتى صار إلى مدينة بانقيا،
فافتتحها وسبى من فيها، ثم صار إلى مدينة كسكر، فافتتحها وسبى من فيها، ثم سار حتى
لقي بعض ملوك الأعاجم يقال له جابان، فهزمه وقتل أصحابه، ثم سار حتى انتهى إلى
فرات بادقلى يريد الحيرة، وملكها النعمان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم انهزم
النعمان فلحق بالمدائن، ونزل خالد الخورنق، وسار حتى صير الحيرة خلف ظهره، وكانوا
على محاربته، ثم دعوا إلى الصلح، فصالحهم على سبعين ألفاً عن رؤوسهم، وقيل مائة
ألف درهم.
وتجرد أبو بكر لقتال
من ارتد، وكان ممن ارتد، وممن وضع التاج على رأسه من العرب، النعمان بن المنذر بن
ساوي التميمي بالبحرين، فوجه العلاء بن الحضرمي فقتله، ولقيط بن مالك ذو التاج
بعمان وجه إليه حذيفة ابن محصن فقتله بصحار من أرض عمان.
وكان ذو التاج... من
بني ناجية وبشر كثير من عبد القيس، فقتل الله ذا التاج، وسبى المسلمون ذراريهم،
وبعثوا بها إلى أبي بكر، فباعها بأربعمائة درهم، ثم وجه لقتال من منع الزكاة،
وقال: لو منعوني عقالا لقاتلتهم. وكتب إلى خالد بن الوليد أن ينكفئ إلى مالك بن
نويرة اليربوعي، فسار إليهم، وقيل إنه كان نداهم، فأتاه مالك بن نويرة يناظره،
واتبعته امرأته، فلما رآها خالد أعجبته فقال: والله لا نلت ما في مثابتك حتى
أقتلك، فنظر مالكاً، فضرب عنقه، وتزوج امرأته، فلحق أبو قتادة بأبي بكر، فأخبره
الخبر، وحلف ألا يسير تحت لواء خالد لأنه قتل مالكاً مسلماً. فقال عمر بن الخطاب
لأبي بكر: يا خليفة رسول الله! إن خالدا قتل رجلاً مسلماً، وتزوج امرأته من يومها.
فكتب أبو بكر إلى خالد، فأشخصه، فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إني
تأولت، وأصبت، وأخطأت.
وكان متمم بن نويرة
شاعراً فرثى أخاه بمراث كثيرة، ولحق بالمدينة إلى أبي بكر، فصلى خلف أبي بكر صلاة
الصبح، فلما فرغ أبو بكر من صلاته قام متمم فاتكأ على قوسه، ثم قال:
نعم القتيل إذا
الرياح تناوحت ... خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور
أدعوته بالله ثم
غدرته ... لو هو دعاك بذمة لم يغدر
فقال:
ما دعوته ولا غدرت
به. وكتب أبو بكر إلى زياد بن لبيد البياضي في قتال من ارتد باليمن. ومنع الزكاة.
فقاتلهم وكان لكندة ملوك عدة يتسمون بالملك، ولكل واحد منهم حمى لا يرعاه غيره،
فأغار زياد ليلاً، وهم في محاجرهم، فأصاب الملوك: جمداً ومخوصاً ومشرحاً وأبضعة،
وسبى النعم وسبايا كثيرة، فعارضهم الأشعث بن قيس، فانتزع السبايا من أيديهم.
وانتهى إلى أبي بكر بارتداد الأشعث، وما فعل، فوجه عكرمة بن أبي جهل في جيش
لمحاربتهم، فوافى وقد حصرهم زياد بن لبيد والمهاجر بن أبي أمية، وقتلوا منهم مقتلة
عظيمة، وغنموا مغانم كثيرة، فقال المهاجر وزياد لمن معهما: قد قدم إخوانكم من
الحجاز، فأشركوهم، وأعطوهم، وطلب الأشعث الصلح، وأخذ الأمان لعشيرته، ونسي نفسه،
فلما قرأ عكرمة الصحيفة وليس فيها اسم الأشعث كبر وأخذه، فأتى به أبا بكر في وثاق،
فمن عليه أبو بكر، وأطلق سبيله، وزوجه أم فروة أخته.
وأراد أبو بكر أن
يغزو الروم، فشاور جماعة من أصحاب رسول الله، فقدموا وأخروا، فاستشار علي بن أبي
طالب، فأشار أن يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت. فقال: بشرت بخير! فقام أبو بكر في الناس
خطيبا، وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم، فسكت الناس، فقام عمر فقال: لو كان عرضا
قريبا وسفرا قاصدا لانتدبتموه. فقام عمرو بن سعيد فقال: لنا تضرب أمثال المنافقين
يا ابن الخطاب، فما يمنعك أنت ما عبت علينا فيه؟ فتكلم خالد بن سعيد، وأسكت أخاه
فقال: ما عندنا إلا الطاعة، فجزاه أبو بكر خيراً، ثم نادى في الناس بالخروج،
وأميرهم خالد بن سعيد، وكان خالد من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمن،
فقدم وقد توفي رسول الله، فامتنع عن البيعة، ومال إلى بني هاشم، فلما عهد أبو بكر
لخالد قال له عمر: أتولي خالداً وقد حبس عنك بيعته، وقال لبني هاشم ما قد بلغك؟ فو
الله ما أرى أن توجهه. فحل لواءه، ودعا يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح،
وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، فعقد لهم، وقال: إذا اجتمعتم فأمير الناس أبو
عبيدة.
وقدمت عليه العشائر
من اليمن، فأنفذهم جيشاً بعد جيش، فلما قدمت الجيوش الشام كتب إليه أبو عبيدة
يعلمه إقبال ملك الروم في خلق عظيم، فجعل يسرح إليه الجيش بعد الجيش، والأول
فالأول ممن يقدم عليه من قبائل العرب، ثم تتابعت عليه كتب أبي عبيدة بكل أخبار جمع
الروم، فوجه أبو بكر عمرو بن العاص في جيش من قريش وغيرهم، ثم كتب أبو بكر إلى
خالد بن الوليد أن يسير إلى الشام ويخلف المثنى بن حارثة بالعراق، فنفذ خالد في
أهل القوة ممن كان معه، وخلف المثنى بن حارثة الشيباني في بقية الجيش بالعراق.
وسار خالد نحو الشام، فلما صار إلى عين التمر لقي رابطة لكسرى عليهم عقبة بن أبي
هلال النمري، فتحصنوا منه، ثم نزلوا على حكمه، فضرب عنق النمري. ثم سار حتى لقي
جمعا لبني تغلب عليهم الهذيل بن عمران، فقدمه فضرب عنقه، وسبى منهم سبايا كثيرة
بعث بهم إلى المدينة. وبعث إلى كنيسة اليهود، فأخذ منهم عشرين غلاماً، وصار إلى
الأنبار، فأخذ دليلا يدله على طريق المفازة، فمر بتدمر، فتحصن أهلها، فأحاط بهم،
ففتحوا له وصالحهم، ثم مضى إلى حوران، فقاتلهم قتالاً شديداً، فقيل: إن خالدا سار
في البرية والمفازة ثمانية أيام حتى وافاهم، فافتتحوا بصرى، وفحل، وأجنادين من
فلسطين.
وكانت بينهم وبين
الروم وقعات بأجنادين صعبة في كل ذلك يهزم الله الروم وتكون العاقبة للمسلمين.
وروى بعضهم: أن خالد
بن الوليد صار إلى غوطة دمشق، ثم فرعها إلى ثنية ومعه راية بيضاء تدعى العقاب،
فبها سميت ثنية العقاب، وصار إلى حوران، فقصد مدينة بصرى فحاربهم، فسألوه الصلح،
فصالحهم، ثم صار إلى أجنادين، وبها جمع للروم، فحاربهم محاربة شديدة، وتفرق جمع
الكفرة. وكانت وقعة أجنادين يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاثة
عشر.
وبعث أبو بكر عثمان
بن أبي العاص، وندب معه عبد القيس، فسار في جيش إلى توج فافتتحها وسبى أهلها،
وافتتح مكران وما يليها، ووجه العلاء ابن الحضرمي في جيش، فافتتح الزارة وناحيتها
من أرض البحرين، وبعث إلى أبي بكر بالمال، فكان أول ما قسمه أبو بكر في الناس بين
الأحمر والأسود، والحر والعبد، دينارا لكل إنسان.
وقدم إياس بن عبد
الله بن الفجاءة السلمي على أبي بكر فقال: يا خليفة رسول الله! إني قد أسلمت،
فأعطاه أبو بكر سلاحا، فخرج من عنده، فبلغه أنه يقطع الطريق، فكتب إلى طريفة بن
حاجزة: أن عدو الله ابن الفجاءة خرج من عندي، فبلغني أنه قطع الطريق، وأخاف السبيل،
فسر إليه حتى تأخذه. وتقدم طريفة، فسار إليه، فقتل قوماً من أصحابه، ثم لقيه،
فقال: إني مسلم، وإنه مكذوب علي! فقال طريفة: فإن كنت صادقا، فاستأسر حتى تأتي أبا
بكر فتخبره! فاستأسر. فلما قدم به على أبي بكر أخرجه إلى البقيع فحرقه بالنار،
وحرق أيضاً رجلاً من بني أسد يقال له شجاع بن ورقاء كان ينكح...
وقال عمر بن الخطاب
لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، إن حملة القرآن قد قتل أكثرهم يوم اليمامة، فلو
جمعت القرآن، فإني أخاف عليه أن يذهب حملته. فقال أبو بكر: أفعل ما لم يفعله رسول
الله؟ فلم يزل به عمر حتى جمعه وكتبه في صحف. وكان مفترقاً في الجريد وغيرها،
وأجلس خمسة وعشرين رجلاً من قريش، وخمسين رجلاً من الأنصار، وقال: اكتبوا القرآن،
وأعرضوا على سعيد بن العاص، فإنه رجل فصيح.
وروى بعضهم أن علي بن
أبي طالب كان جمعه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى به يحمله على جمل،
فقال: هذا القرآن قد جمعته، وكان قد جزأه سبعة أجزاء، فالجزء الأول البقرة، وسورة
يوسف، والعنكبوت، والروم، ولقمان، وحم السجدة، والذاريات، وهل أتى على الإنسان،
والم تنزيل السجدة، والنازعات، وإذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء
انشقت، وسبح اسم ربك الأعلى، ولم يكن، فذلك جزء البقرة ثمانمائة وست وثمانون آية،
وهو خمس عشرة سورة.
الجزء الثاني: آل
عمران، وهود، والحج، والحجر، والأحزاب، والدخان، والرحمن، والحاقة، وسأل سائل،
وعبس، والشمس وضحاها، وإنا أنزلناه، وإذا زلزلت، وويل لكل همزة، وألم تر، ولإيلاف
قريش، فذلك جزء آل عمران ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة. الجزء
الثالث: النساء، والنحل، والمؤمنون، ويس، وحمعسق، والواقعة، وتبارك الملك، ويا
أيها المدثر، وأ رأيت، وتبت، وقل هو الله أحد، والعصر، والقارعة، والسماء ذات
البروج، والتين والزيتون، وطس النمل، فذلك جزء النساء ثمانمائة وست وثمانون آية،
وهو ست عشرة سورة. الجزء الرابع: المائدة، ويونس، ومريم، وطسم الشعراء، والزخرف،
والحجرات، وق والقرآن المجيد، واقتربت الساعة، والممتحنة، والسماء والطارق، ولا
أقسم بهذا البلد، وألم نشرح لك، والعاديات، وإنا أعطيناك الكوثر، وقل يا أيها
الكافرون، فذلك جزء المائدة ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو خمس عشرة سورة.
الجزء الخامس:
الأنعام، وسبحان، واقترب، والفرقان، وموسى وفرعون، وحم المؤمن، المجادلة، والحشر،
والجمعة، والمنافقون، ون والقلم، وإنا أرسلنا نوحاً، وقل أوحي إلي، والمرسلات،
والضحى، وألهاكم، فذلك جزء الأنعام ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة.
الجزء السادس:
الأعراف، وإبراهيم، والكهف، والنور، وص، والزمر، والشريعة، والذين كفروا، والحديد،
والمزمل، ولا أقسم بيوم القيامة، وعم يتساءلون، والغاشية، والفجر، والليل إذا
يغشى، وإذا جاء نصر الله، فذلك جزء الأعراف ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة
سورة. الجزء السابع: الأنفال، وبراءة، وطه، والملائكة، والصافات، والأحقاف،
والفتح، والطور، والنجم، والصف، والتغابن، والطلاق، والمطففين، والمعوذتين، فذلك
جزء الأنفال ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو خمس عشرة سورة.
وقال بعضهم: إن علياً
قال: نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع أمثال، وربع محكم
ومتشابه. وقسم أبو بكر بين الناس بالسوية لم يفضل أحداً على أحد، وكان يأخذ في كل
يوم من بيت المال ثلاثة دراهم أجرة، وكان تسمى خليفة رسول الله.
واعتل أبو بكر في
جمادى الآخرة سنة ثلاثة عشر. فلما اشتدت به العلة عهد إلى عمر بن الخطاب، فأمر
عثمان أن يكتب عهده، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله، أما بعد، فإني قد استعملت عليكم
عمر بن الخطاب، فاسمعوا، وأطيعوا، وإني ما ألوتكم نصحاً، والسلام. وقال لعمر بن
الخطاب: يا عمر، أحبك محب وأبغضك مبغض، فلئن أبغض الحق، فلقديما ما، ولئن استمر في
الباطل، فلربما.
ودخل عبد الرحمن بن
عوف في مرضه الذي توفي فيه، فقال: كيف أصبحت يا خليفة رسول الله؟ فقال: أصبحت
موليا، وقد زدتموني على ما بي إن رأيتموني استعملت رجلاً منكم فكلكم قد أصبح وارم
أنفه، وكل يطلبها لنفسه. فقال عبد الرحمن: والله ما أعلم صاحبك إلا صالحاً مصلحاً،
فلا تأس على الدنيا! قال: ما آسى إلا على ثلاث خصال صنعتها ليتني لم أكن صنعتها،
وثلاث لم اصنعها ليتني كنت صنعتها، وثلاث ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم عنها، فأما الثلاث التي صنعتها، فليت أني لم أكن تقلدت هذا الأمر. وقدمت عمر
بين يدي، فكنت وزيرا خيراً مني أميرا، وليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأدخله الرجال، ولو كان أغلق على حرب، وليتني لم أحرق الفجاءة
السلمي، إما أن أكون قتلته سريحاً، أو أطلقته نجيحاً، والثلاث التي ليت أني كنت
فعلتها، فليتني قدمت الأشعث بن قيس تضرب عنقه، فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شيئاً من
الشر إلا أعان عليه، وليت أني بعثت أبا
عبيدة إلى المغرب
وعمر إلى أرض المشرق فأكون قدمت يدي في سبيل الله، وليت أني ما بعثت خالد بن
الوليد إلى بزاخة، ولكن خرجت فكنت ردا له في سبيل الله. والثلاث التي وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن: فلمن
هذا الأمر، فلا ينازعه فيه، وهل للأنصار فيه من شيء، وعن العمة والخالة أتورثان أو
لا ترثان، وإني ما أصبت من دنياكم بشيء، ولقد أقمت نفسي في مال الله وفيء المسلمين
مقام الوصي في مال اليتيم إن استغنى تعفف، وإن افتقر أكل بالمعروف، وإن والي الأمر
بعدي عمر بن الخطاب، وإني استسلفت من بيت المال مالاً، فإذا مت فليبع حائطي في
موضع كذا وليرد إلى بيت المال.
وأوصى أبو بكر بغسله
أسماء بنت عميس امرأته، فغسلته ودفن ليلاً، وورثه أبو قحافة السدس. وكان الغالب
على أبي بكر عمر بن الخطاب، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لثماني ليال بقين من جمادى
الآخرة، ومن شهور العجم في آب، وقيل لليلتين بقيتا منه سنة ثلاثة عشر، وصلى عليه
عمر بن الخطاب، ودفن في البيت الذي فيه قبر رسول الله، وكان له يوم توفي ثلاث
وستون سنة، وكان له من الولد الذكور ثلاثة توفي أحدهم في حياته، وهو عبد الله،
وخلف اثنين محمداً وعبد الرحمن، وكان حاجبه مولاه سديدا، وكانت ولايته سنتين
وأربعة أشهر، وحج بالناس سنة اثنا عشر.
وكان عمال أبي بكر
لما توفي: عتاب بن أسيد على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، ورجلاً من
الأنصار على اليمامة، وحذيفة بن محصن على عمان، والعلاء بن الحضرمي على البحرين،
وخالد بن الوليد على جيش الشام، والمثنى بن حارثة الشيباني على الكوفة، وسويد بن
قطبة على البصرة. صفة أبي بكر: وكان أبو بكر أبيض، نحيفاً، خفيف العارضين، أحنى،
لا يستمسك إزاره على حقويه، معروق الوجه، غائر العينين، عاري الأشاجع، يخضب لحيته
بالحناء والكتم.
وكان من يؤخذ عنه
الفقه، في أيام أبي بكر، علي بن أبي طالب، وعمر ابن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن
كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله ابن مسعود.
أيام عمر بن الخطابثم
استخلف عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله ابن قرط بن رزاح
بن عدي بن كعب، وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، يوم
الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، وقيل لسبع بقين منه سنة ثلاثة عشر، وكان
ذلك من شهور العجم في آب، وكانت الشمس يومئذ في الأسد ست عشرة درجة، والقمر في
العقرب أربعاً وعشرين درجة وعشر دقائق، وزحل في القوس ثلاثين درجة راجعاً،
والمشتري في الحوت تسع درج وثلاثين دقيقة راجعا، والمريخ في الثور إحدى وعشرين
درجة وخمسين دقيقة، والزهرة في الحوت تسع درجات، وعطارد في السنبلة عشر درجات
وثلاثين دقيقة، والرأس في القوس اثنتي عشرة درجة وخمساً وثلاثين دقيقة، فصعد
المنبر، فجلس دون مجلس أبي بكر بمرقاة، وخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى
على النبي، وذكر أبا بكر، وفضله، وترحم عليه، ثم قال: ما أنا إلا رجل منكم، ولو لا
أني كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله لما تقلدت أمركم. فأثنى الناس عليه خيراً.
وكان أول ما عمل به
عمر أن رد سبايا أهل الردة إلى عشائرهم، وقال: إني كرهت أن يصير السبي سنة على
العرب، وكتب عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح يخبره بوفاة أبي بكر مع يرفأ مولاه، وكتب
بعقده وولايته الشام مكان خالد بن الوليد مع شداد بن أوس، وصير خالداً موضع أبي
عبيدة، وكان عمر سيء الرأي في خالد، على أنه ابن خاله، لقول كان قاله في عمر، وقد
كان خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين فتحوا مرج الصفر من أرض دمشق، وحاصروا
مدينة دمشق، قبل وفاة أبي بكر، بأربعة أيام، فستر أبو عبيدة الخبر عن خالد، حتى
ورد كتاب ثان من عمر على أبي عبيدة يأمره أن يتوجه إلى حمص ونواحي الشام، فعلم
بذلك خالداً، فقال: رحم الله أبا بكر! لو كان حيا ما عزلني.
وكتب عمر إلى أبي
عبيدة: إن كذب خالد نفسه فيما كان قاله عمله، وإلا فانزع عمامته وشاطره ماله.
فشاور خالد أخته، فقالت: والله ما أراد ابن حنتمة إلا أن تكذب نفسك، ثم ينزعك من
عملك، فلا تفعلن. فلم يكذب نفسه، فقام بلال فنزع عمامته وشاطره أبو عبيدة ماله،
حتى نعله فأفرد واحدة عن الأخرى.
وأقاموا على ما كانوا
عليه في حصار دمشق حولاً كاملاً وأياماً، وكان أبو عبيدة بباب الجابية، وخالد بباب
الشرقي، وعمرو بن العاص بباب توما، ويزيد بن أبي سفيان بباب الصغير، فلما طال على
صاحب دمشق الأمر أرسل إلى أبي عبيدة فصالحه، وفتح له باب الجابية، وألح خالد على
باب الشرقي لما بلغه أن أبا عبيدة عزم على أن يصالح القوم، وأن القوم قد وثقوا به
للصلح، ففتحه عنوة، فقال خالد لأبي عبيدة: اسبهم، فإني دخلتها عنوة! فقال: لا، قد
أمنتهم! ودخل المسلمون المدينة، وتم الصلح، وذلك في رجب سنة أبع عشر. وروى الواقدي
أن خالد بن الوليد صالحهم، وكتب للأسقف كتابا للصلح، وأعطاهم الأمان، فأجاز أبو
عبيدة ذلك.
وفي هذه السنة سن عمر
بن الخطاب قيام شهر رمضان، وكتب بذلك إلى البلدان، وأمر أبي بن كعب وتميما الداري
أن يصليا بالناس، فقيل له في ذلك: إن رسول الله لم يفعله، وإن أبا بكر لم يفعله،
فقال: إن تكن بدعة فما أحسنها من بدعة.
ووجه أبو عبيدة عمرو
بن العاص إلى الأردن وفلسطين، فجمع القوم جموعاً ليدفعوا عمراً وأصحابه، فوجه أبو
عبيدة إلى عمرو شرحبيل بن حسنة، وتوجه أبو عبيدة نحو جمع الروم، ففتح الأردن عنوة
ما خلا طبرية، فإن أهلها صالحوه على إنصاف منازلهم وكنائسهم، وكان المتولي لذلك
شرحبيل بن حسنة.
وقد كان الروم لما
بلغهم إقبال أبي عبيدة تحولوا إلى فحل، فعبأ أبو عبيدة المسلمين، فجعل على ميمنته
معاذ بن جبل، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة، وعلى الرجالة سعد بن زيد، وعلى الخيل خالد
بن الوليد. وأقبلت الروم، فكان أول من لقيهم خالد فهزم الله الروم، وطلبوا الصلح
على أن يؤدوا الجزية، فأجابهم أبو عبيدة إلى ذلك، وانصرف، وخلف عمرو بن العاص على
باقي الأردن، ووجه بخالد على مقدمته إلى بعلبك وأرض البقاع، فافتتحها وصار إلى
حمص، ولحقه أبو عبيدة، فحصروا أهل حمص حصاراً شديداً، ثم طلبوا الصلح، فصالحهم عن
جميع بلادهم على أن عليهم خراجاً مائة وسبعين ألف دينار، ثم دخل المسلمون المدينة،
وبث أبو عبيدة عماله في نواحي حمص.
ثم أتاه خبر ما جمع
طاغية الروم من الجموع في جميع البلدان، وبعثه إليهم من لا قبل لهم به، فرجع إلى
دمشق، وكتب إلى عمر بن الخطاب بذلك، وكتب إليهم عمر أنه قد كره رجوعكم من أرض حمص
إلى دمشق، وجمع أبو عبيدة إليه المسلمين، وعسكر باليرموك، وكان جبلة بن الأيهم
الغساني على مقدمة الروم في جيش من قومه، وجعل أبو عبيدة خالد بن الوليد على
مقدمته، فواقع المشركين، ولقي ماهان صاحب الروم، واقتتلوا قتالاً شديدا، ولحقه أبو
عبيدة والمسلمون، وكانت وقعة جليلة الخطب، فقتل من الروم مقتلة عظيمة وفتح الله
على المسلمين، وكان ذلك في سنة خمس عشر.
وأوفد أبو عبيدة إلى
عمر وفدا فيهم حذيفة بن اليمان، وقد كان عمر أرق عدة ليال، واشتد تطلعه إلى الخبر،
فلما ورد عليه الخبر خر ساجدا وقال: الحمد لله الذي فتح على أبي عبيدة، فو الله لو
لم يفتح لقال قائل: لو كان... خالد بن الوليد.
ورجع أبو عبيدة إلى
حمص ووجه بخالد في آثار الروم حتى صار إلى قنسرين. وانتهى إلى حلب، فتحصن أهلها،
وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليها، وطلبوا الصلح والأمان، فقبل أبو عبيدة ذلك منهم،
وكتب لهم أماناً، ووجه بمالك بن الحارث الأشتر على جمع إلى الروم، وقد قطعوا
الدرب، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم انصرف وقد عافاه الله وأصحابه.
ورجع أبو عبيدة نحو
الأردن، فحاصر أهل إيلياء، وهي بيت المقدس، فامتنعوا عليه وطاولوه، ووجه أبو عبيدة
عمرو بن العاص إلى قنسرين، فصالحهم أهل حلب، وقنسرين، ومنبج، ووضع عليهم الخراج
على نحو ما فعل أبو عبيدة بحمص، وجمعت غنائم اليرموك بالجابية، وكتبوا إلى عمر،
فكتب إليهم: لا تحدثوا فيها حدثاً، حتى تفتحوا بيت المقدس.
وكان جبلة بن الأيهم
الغساني لما انهزمت الروم من اليرموك صار إلى موضعه في جماعة قومه، فأرسل إليه
يزيد بن أبي سفيان أن اقطع على أرضك بالخراج وأداء الجزية، فقال: إنما يؤدي الجزية
العلوج، وأنا رجل من العرب.
وكان عمر قد بعث أبا
عبيد بن مسعود الثقفي في جيش مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى العراق، وكان كسرى
قد توفي، وقامت بوران ابنته بالملك، وصيرت رستم والفيرزان القيمين بأمر الملك،
وكانا ضعيفين مهينين، فتقدم أبو عبيد الثقفي، فلقي مسلحة من مسالح الفرس، فأوقع
بهم، واقتتلوا قتالاً شديداً، ثم أظفر الله المسلمين بهم، ومنحهم أكتافهم.
وبعث إليهم رستم، لما
بلغه الخبر، برجل يقال له جالينوس، فالتقوا بموضع يقال له باروسما، فانهزمت الفرس،
وافتتح أبو عبيد باروسما، فوجه إليهم رستم بذي الحاجب، وبعث معه بالفيل، فاقتتلوا
قتالاً شديداً، فجعلت خيل المسلمين تنفر من الفيل، فشد عليه أبو عبيد الثقفي
بالسيف، فقطع مشفره، وبرك عليه الفيل فقتله، وقام بالجيش المثنى بن حارثة
الشيباني، فلما انتهى الخبر إلى عمر اشتد غمه بذلك.
وقدم جرير بن عبد
الله البجلي من اليمن في ركب من بجيلة، رئيسهم عرفجة بن هرثمة، حليف لهم من الأزد،
فأمرهم عمر بالنفوذ إلى العراق، وأمر عليهم عرفجة، فغضب جرير وقال: والله ما الرجل
منا! فقال عرفجة: صدق! فوجه عمر جرير بن عبد الله، فقدم الكوفة، ثم خرج منها فواقع
مرزبان المذار، فقتله، وانهزم جيشه، وغرق أكثرهم في دجلة، ثم صار إلى النخيلة،
وبها مهران في جمعه، فواقعه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وشد المنذر بن حسان على
مهران فطعنه فألقاه عن دابته، فبادر جرير فاحتز رأسه، فاختصما في سلبه، فأخذ جرير
السلاح، والمنذر المنطقة، وذلك في سنة أربع عشر.
فلما رأت الفرس ما هم
فيه من الضعف والمهانة وظهور المسلمين عليهم اجتمعوا على قتل رستم والفيرزان، ثم
قالوا: إن في هذا أشتاتاً لأمرنا، فطلبوا ابن كسرى حتى وجدوا يزدجرد، وهو ابن
عشرين سنة، فملكوه عليهم، فضبط أمورهم، وحسن تدبيره، واشتدت المملكة، وقوي أمر
الفرس، وأخرجوا المسلمين عن المروج، فارتد أهل السواد وخرقوا العهود التي كانت في
أيديهم، وصار المسلمون في الأطراف، فلما بلغ ذلك عمر أراد الخروج إلى العراق، ثم
استشار، فأشير عليه بسعد بن أبي وقاص، فوجهه بثمانية آلاف، فسار حتى نزل القادسية،
ووجه عتبة بن غزوان إلى كور دجلة والأبلة وأبر قباذ وميسان ففتحها، واختط البصرة،
وبنى مسجدها بالقصب، وقد قيل: إن عمر وجهه لذلك.
وأقام سعد بالقادسية،
ثم ظفر المسلمون ببنت آزاذمرد، وهي تزف إلى بعض الملوك وأخذوا ما كان معها من
الأموال والأثقال، وفرقوها على المسلمين فطابت أنفسهم، وحسنت قوتهم.
ثم وجه سعد إلى كسرى
بالنعمان بن مقرن وجماعة معه يدعونه إلى الإسلام، فدخلوا عليه في أحسن زي، وعليهم
البرود والنعل، فأخبروه بما وجههم له سعد، ودعوة إلى الإسلام وإلى شهادة الحق وإلى
أداء الجزية، فأغضبه ذلك، ودعا بتليس تراب فقال: احملوه على رأس سيدهم، فلو لا أن
الرسل لا تقتل لقتلتهم. فقال عاصم بن عمرو التميمي: أنا سيد القوم، فحملوه التراب،
فمضى مسرعاً، وقال: قد ظفرنا والله بهم، ووطئنا أرضهم. وبلغ رستم الخبر، فغلظ ذلك عليه،
وقال: ما لابن
الحجامة ولتدبير الملك. ويقال: إن أم يزدجرد كانت حجامة، ثم وجه رسلاً في آثارهم،
ففاتوا الرسل. فاشتد رعب كسرى والفرس منهم، وأمر رستم أن يتوجه إليهم، فكره ذلك،
فحمل عليه بالقول حتى خرج وهو مكره، فلما صار إلى النجف وجه إلى سعد أن ابعث إلي
بقوم من عندكم لأناظرهم، فأرسل سعد المغيرة بن شعبة، وبشر بن أبي رهم، وعرفجة بن
هرثمة، وحذيفة ابن محصن، وربعي بن عامر، وقرفة بن زاهر، ومذعور بن عدي، ومضارب بن
يزيد، وشعبة بن مرة، وكانوا من دهاة العرب، فدخلوا عليه رجلاً رجلاً، يقول كل واحد
منهم مثل مقالة صاحبه، ويدعونه إلى الإسلام، أو أداء الجزية، فتبينوا فيه أنه يهوى
الدخول في الإسلام، ويخاف من أصحابه، وكلما عرض على واحد منهم لم ير عنده مسارعة،
ثم خرج رستم في التعبية للجيش، وجلس على سرير من ذهب، وأقام مصافه، وعدل أصحابه،
وأيقن بالهلكة. وكان منجماً، وكتب إلى أخيه: بسم الله ولي الرحمة، من الإصبهبد
رستم إلى أخيه، أما بعد، فإني رأيت المشتري في هبوط، والزهرة في علو، وهو آخر
العهد منك. والسلام عليك الدهر الدائم.
وخطب سعد بن أبي وقاص
المسلمين، فرغبهم في الجهاد، وأعلمهم ما وعد الله نبيه من النصر وإظهار الدين،
ورغب كل رجل من المسلمين صاحبه، وأنشبت الحرب بينهم بعد صلاة الظهر، واقتتلوا
قتالاً شديداً وحسن بلاء المسلمين وغناؤهم، وكان سعد يومئذ عليلاً فصار إلى قصر
العذيب فنزله، وتحصن فيه، فبلغ رستم فوجه خيلاً، فأحدقت بالقصر، فلما بلغ المسلمين
ذلك صاروا إلى القصر، فانهزم أصحاب رستم، ثم أصبحوا من غد، فوافاهم ستة آلاف من
جيش أبي عبيدة بن الجراح، وهم الذين كانوا مع خالد بن الوليد: خمسة آلاف من مضر
وربيعة، وألف من أفناء المسلمين، عليهم المرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكان
فتح الشام قبل القادسية بشهر، فأصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم، وأخرج رستم
الفيلة فلما نظرت إليها الكتائب كادت أن تفترق، ثم حمل المسلمون عليها ففقأوا
أعينها، وقطعوا مشافرها.
وزحف المسلمون
وأصبحوا، في اليوم الرابع، وللمسلمين العلو، وقتل رستم، وقع عليه عدل كان على بغل
فقتله، وكان الذي طرح عليه العدل هلال ابن علفة، وصعد على سريره وصاح: قتلت رستم
ورب الكعبة، إلي إلي! وقيل: قتله زهير بن عبد شمس ابن أخي جرير بن عبد الله، وقتل
منهم مقتلة عظيمة، وانكشفوا مدبرين، وجمعت الأموال والأسلاب وبيع سلب رستم، فبلغ
سهم الرجل لكل فارس أربعة عشر ألفاً، وسهم الراجل سبعة آلاف ومائة، ورضخ لعيال
الشهداء من صلب الفيء، ورضخ للنساء من صلب الفيء، فأما العبيد فإنهم عفوا، وأوفد
سعد إلى عمر وفدا، فأجازهم عمر ثمانين ديناراً ثمانين ديناراً.
وكان بالقادسية من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر سبعون رجلاً، ومن أهل بيعة الرضوان
ومن شهد الفتح مائة وعشرون، ومن أصحاب رسول الله مائة. ونفرت جميع الفرس إلى
المدائن منهزمين لا يلوون على شيء، ويزدجرد الملك بها، فأتبعهم سعد بالمسلمين،
فحاصرهم شهراً وخمسة عشر يوماً، ثم خرج الفرس هاربين، وفتحت المدائن، وقيل إن ذلك
كان في سنة ستة عشر.
وفيها أرخ عمر الكتب،
وأراد أن يكتب التاريخ منذ مولد رسول الله، ثم قال: من المبعث، فأشار عليه على بن
أبي طالب أن يكتبه من الهجرة، فكتبه من الهجرة.
وتوجه عتبة بن غزوان
إلى عمر، واستخلف على البصرة مجاشع بن مسعود السلمي، والمغيرة بن شعبة في الجيش،
فلما شخص عتبة جاء من كان بميسان، ومن كان بكور دجلة من الأعاجم، وعليهم الفيلكان،
فجمع لهم المغيرة بن شعبة عدة من المسلمين، فسار بهم حتى لقي الأعاجم بميسان،
فهزمهم وسبى أهلها عنوة، وكتب المغيرة بذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر لعتبة:
استعمل أهل الوبر على أهل المدر، وكتب إلى المغيرة: إنك خليفة عتبة بن غزوان حتى
يقدم عتبة، وخرج عتبة من عند عمر، فلما كان بين المدينة والبصرة توفي عتبة، فكتب
عمر إلى المغيرة بولايته على البصرة.
فلما كانت وقعة
القادسية صار المغيرة إلى سعد ثم رجع إلى عمله، وكان يختلف إلى امرأة من بني هلال
يقال لها: أم جميل زوجة الحجاج بن عتيك الثقفي، فاستراب به جماعة من المسلمين،
فرصده أبو بكر، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، وزياد بن عبيد، حتى دخل إليها
فرفعت الريح الستر فإذا به عليها، فوفد على عمر، فسمع عمر صوت أبي بكرة وبينه
وبينه حجاب، فقال: أبو بكرة؟ قال: نعم. قال: لقد جئت ببشر؟ قال: إنما جاء به المغيرة. ثم قص عليه القصة، فبعث
عمر أبا موسى الأشعري عاملا مكانه، وأمره أن يشخص المغيرة، فلما قدم عليه جمع بينه
وبين الشهود، فشهد الثلاثة، وأقبل زياد، فلما رآه عمر قال: أرى وجه رجل لا يخزي
الله به رجلاً من أصحاب محمد، فلما دنا قال: ما عندك يا سلح العقاب؟ قال: رأيت
أمراً قبيحاً، وسمعت نفساً عالياً، ورأيت أرجلاً مختلفة، ولم أر الذي مثل الميل في
المكحلة. فجلد عمر أبا بكرة، ونافعاً، وشبل بن معبد، فقام أبو بكرة وقال: أشهد إن
المغيرة زان، فأراد عمر أن يجلده ثانية، فقال له: علي إذا توفي صاحبك حجارة. وكان
عمر إذا رأى المغيرة قال: يا مغيرة! ما رأيتك قط إلا خشيت أن يرجمني الله
بالحجارة. وكان بالبصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وستون رجلاً.
رجع الحديث إلى خبر
أبي عبيدة بن الجراح وحصاره أهل بيت المقدس لأنا جعلنا كل خبر في سنته ووقته. وكتب
أبو عبيدة إلى عمر يعلمه مطاولة أهل إيلياء وصبرهم، وقال بعضهم: إن أهل إيلياء
سألوه أن يكون الخليفة المصالح لهم، فأخذ عليهم العقود والمواثيق، وكتب إلى عمر
فخرج إلى الشام، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وقرب خالدا، وأدناه، وأمره.
فسار في الناس على مقدمته، وذلك في رجب سنة ستة عشر، فنزل الجابية من أرض دمشق ثم
صار إلى بيت المقدس، فافتتحها صلحاً، وكتب لهم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم،
هذا كتاب كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس، إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم،
وكنائسكم لا تسكن ولا تخرب، إلا أن تحدثوا حدثاً عاماً، وأشهد شهوداً، وأتاه عمرو
بن العاص بالطلاء فقال: كيف يصنع هذا؟ فقال: يطبخ حتى يذهب ثلثاه، ويبقى ثلثه،
فقال: ما أرى بذلك بأساً.
واختلف القوم في صلح
بيت المقدس، فقالوا: صالح اليهود، وقالوا: النصارى، والمجمع عليه النصارى، وقام
إليه بلال فقال: يا أمير المؤمنين، إن أمراء أجناد الشام ما يأكلون إلا لحوم الطير
والخبز النقي، وما يجد ذلك عامة الناس. فأخذ عمر أمراء الشام بأن ضمنوا له القوت للمسلمين في كل يوم خبزين
لكل رجل وما يصلحه من الخل والزيت، وأمر عمر أن تقسم الغنائم بين الناس بالسوية
خلا لخم وجذام، وقال: لا أجعل من خرج من الشقة إلى عدوه كمن خرج من بيته.
فقام إليه رجل فقال:
إن كان الله جعل الهجرة إلينا فخرجنا من بيوتنا إلى عدونا نحرم حظنا.
ومر عمر راجعا إلى
المدينة فمر على قوم قد أقيموا يعذبون في الخراج، فقال عمر: دعوهم ولا تعذبوهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن
الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله في الآخرة، يوم القيامة، فأرسل إليهم،
فخلى سبيلهم. فأتاه جبلة بن الأيهم فقال له: تأخذ مني الصدقة كما تصنع بالعرب؟
قال: بل الجزية، وإلا فالحق بمن هو على دينك. فخرج في ثلاثين ألفاً من قومه، حتى
لحق بأرض الروم، وندم عمر على ما كان منه في أمره.
ووجه عمرو بن العاص
فقال له: يا أمير المؤمنين تأذن لي في أن أصير إلى مصر، فإنا إن فتحناها كانت قوة
للمسلمين، وهي من أكثر الأرض أموالا، وأعجزه عن القتال، ولم يزل يعظم أمرها في
نفسه، ويهون عليه فتحها، حتى عقد له على أربعة آلاف كلهم من عك، وقال له: سيأتيك
كتابي سريعاً، فإن لحقك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخل شيئاً من
أرضها، فانصرف، فإن دخلتها ثم جاءك كتابي فامض، واستعن بالله.
وسار عمرو مسرعاً،
فلما كان برفح، وهي آخر عمل فلسطين، أتاه رسول عمر ومعه كتاب، فلم يفض الكتاب،
ونفذ حتى صار إلى قرية بالقرب من العريش، وقرأ الكتاب، ثم قال: من أين هذه القرية؟
قالوا: من مصر! قال: فإن أمير المؤمنين أمرني إن أتاني كتابه، وقد دخلت شيئاً من
أرض مصر، أن أمضي لوجهي وأستعين بالله، حتى أتى الفرما، فقاتلوه نحواً من ثلاثة
أشهر، ثم فتح الله عليه، ومضى حتى صار إلى أم دنين، فقاتلوه قتالاً شديداً، وأبطأ
عنه الفتح، وكتب إلى عمر يستمده، فوجه بأربعة آلاف، وكتب إليه: أنه قد صير على كل
ألف رجل رجلاً يقوم مقام ألف رجل منهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود،
وعبادة بن الصامت، وخارجة بن حذافة، وقيل مسلمة بن مخلد، فاقتتلوا قتالاً شديداً،
ثم قال الزبير: إني أهب نفسي لله، وأرجو أن يفتح الله على المسلمين، فوضع السلم
ليلاً إلى جانب الحصن، ثم اقتحم معه جماعة، وكبر المسلمون، فلما استحر القتل دعوا
إلى الصلح، فقال بعضهم: صالح المقوقس عمرو بن العاص على دينارين دينارين لكل رجل،
وقيل لم يكن صلح، وإنما افتتح عنوة.
ثم مضى حتى صار إلى
الإسكندرية وبها جموع الروم، وعليها ثلاثة حصون، فقاتلوه قتالاً شديداً، فطالت
المدة بينهم ثلاثة أشهر. وكان المقوقس قد سأل عمرا أن يصالحه عن الإسكندرية على أن
يطلق من أراد منهم أن يمضي إلى بلاد الروم، ومن أقام فعليه ديناران خراج، فأجابه
إلى ذلك، فلما بلغ هرقل ملك الروم غضب...
فقال المقوقس: إني قد
نصحت لهم فاستغشوني، فلا تجبهم إلى ما أجبتني إليه.
وخرج عمر إلى مكة سنة
سبع عشر، فاعتمر عمرة رجب، ووسع المقام، وباعده من البيت، ووسع الحجر، وبنى المسجد
الحرام، ووسع فيه، واشترى من قوم منازلهم، وامتنع آخرون، فهدم عليهم ووضع أثمان
منازلهم في بيت المال. وكان فيما هدم بيت العباس بن عبد المطلب، فقال له: تهدم
داري؟ قال: لأوسع بها في المسجد الحرام! فقال العباس: سمعت رسول الله يقول: إن
الله أمر داود أن يبني له بيتا بإيلياء فبناه ببيت المقدس، وكان كلما ارتفع البناء
سقط فقال داود: يا رب إنك أمرتني أن أبني لك بيتا، وإني كلما بنيت سقط البناء،
فأوحى الله إليه: أني لا أقبل إلا الطيب، وإنك بنيت لي في غصب، فنظر داود فإذا
قطعة أرض لم يكن شراها، فابتاعها من صاحبها بحكمة، ثم بنى فتم البناء. قال: ومن
يشهد أنه سمع هذا من رسول الله؟ فقام قوم فشهدوا. قال: فتحكم إلينا يا أبا الفضل،
وإلا أمسكنا؟ قال: فإني قد تركتها لله. وانصرف عمر بعد عشرين يوماً، وكان العباس
يسايره، وتحت العباس دابة مصعب، فتقدمه عمر ثم وقف له حتى لحقه فقال له: تقدمتك،
وما لأحد أن يتقدمكم معشر بني هاشم قوم... فيكم ضعف. قال: رآنا الله نقوى على النبوة، ونضعف على الخلافة.
ثم خرج يريد الشام
حتى بلغ إلى سرغ، فبلغه أن الطاعون قد كثر، فرجع، فلقيه أمراء الشام، وكلمه أبو
عبيدة بن الجراح أشد كلام، وقال: أفرار من قدر الله تعالى؟ قال عمر: نعم أفر من
قدر الله إلى قدر الله. وفي هذه السنة خطب عمر إلى علي بن أبي طالب أم كلثوم بنت
علي، وأمها فاطمة بنت رسول الله، فقال علي: أنها صغيرة! فقال: إني لم أرد حيث
ذهبت. لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل نسب وسبب ينقطع يوم
القيامة إلا سببي ونسبي وصهري، فأردت أن يكون لي سبب وصهر برسول الله. فتزوجها،
وأمهرها عشرة آلاف دينار. وفي هذه السنة نزل المسلمون الكوفة، واختطوا بها الخطط، وبنوا المنازل.
وقيل كان ذلك في أول
سنة ثمان عشر، ونزلها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانون رجلاً. وأصاب
الناس جدب وقحط ومجاعة شديدة في عام الرمادة، وهي سنة ثمان عشر، فخرج عمر يستسقي،
وأخرج الناس، وأخذ بيد العباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا نتقرب إليك بعم
نبيك! اللهم فلا تخيب ظنهم في رسولك، فاسقوا. وأجرى عمر الأقوات في تلك السنة على
عيالات قوم من المسلمين، وأمر أن تكون نفقات أولاد اللقط ورضاعهم من بيت المال.
وفي هذه السنة سمي
عمر أمير المؤمنين، وكان يسمى خليفة خليفة رسول الله، وكتب إليه أبو موسى الأشعري:
لعبد الله عمر أمير المؤمنين، وجرت عليه، وقيل إن المغيرة بن شعبة دخل عليه فقال:
السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لتحرجن مما قلت. فقال: ألسنا مسلمين ؟ قال: بلى! قال: وأنت أميرنا؟
قال: اللهم نعم.
وكان أبو عبيدة بن
الجراح قد وجه عياض بن غنم الفهري إلى الجزيرة، فلم يزل يحاصر عليهم ثم افتتح
الرقة، وسروج، والرها، ونصيبين، وسائر مدن الجزيرة، وكانت صلحاً كلها، ووضع عليها
الخراج على الأرضين ورقاب الرجال. على كل إنسان أربعة وخمسة دنانير وستة في سنة
ثمان عشر، فانصرف إلى أبي عبيدة.
وكثر الطاعون بالشام،
وكان طاعون عمواس، فمات أبو عبيدة بن الجراح، واستخلف عياض بن غنم على حمص، وما
والاها من قنسرين، ومعاذ بن جبل على الأردن، ولم يلبث معاذ بن جبل إلا أياماً حتى
توفي، ومات يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، فأقر عمر معاوية على عمل يزيد،
ومات في تلك السنة في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفاً سوى من لم يحصر منهم، وغلا
السعر، واحتكر الناس، فنهى عمر عن الاحتكار.
وفيها توفي الفضل بن
العباس بن عبد المطلب بفلسطين، وكانت فلسطين قد افتتحت خلا قيسارية، وكان معاوية
بن أبي سفيان مقيما عليها، فافتتحها سنة ثمان عشر، وقيل كان بها ثمانون ألف مقاتل،
وبعث رجلين من جذام إلى عمر بالبشارة، ثم أردفهما برجل من خثعم يقال له: زهير،
وقال له: إن قدرت أن تسبق الجذاميين فافعل، فمر بهما الخثعمي، وهما نائمان،
فجازهما، وقدم المدينة ليلاً، فأتى عمر فأخبره، فكبر وحمد الله، ثم خرج إلى
المسجد، وأمر بنار، فأتي بها، فحمد الله، وأعلمهم بفتح قيسارية.
وكتب سعد بن أبي وقاص
من المدائن إلى عمر بعد مقامه بثلاث سنين يعلمه اجتماع الفرس بجلولاء، وهي قرية من
قرى السواد، بالقرب من حلوان، وكتب إليه أن ينهض إليهم فيمن معه، ووجه عبد الله بن
مسعود، فأقامه مقام سعد، وقيل صير سلمان بالمدائن، وكان ابن مسعود يفقههم ويعلمهم،
فكانت وقعة جلولاء سنة تسع عشر، فلم يزل يقاتلهم حتى فتح الله عليه، وقتل من الفرس
مقتلة عظيمة، وهرب يزدجرد فيمن بقي معه، فلحق بإصبهان، ثم سار إلى ناحية الري، وأتاه
صاحب طبرستان، فأعلمه حصانة بلاده، فامتنع عليه، ومضى إلى مرو، وكان معه ألف أسوار
من أساورته، وألف جبار، وألف صناجة، فكاتب نيزك طرخان، فعلاه بعمود، فمضى منهزما
حتى دخل بيت طحان، ولحقوه فقتلوه في بيت الطحان، فصارت أساورته إلى بلخ، ووقعت
صناجته، إلى هراة وجباروه إلى مرو، وافترقت جموع الفرس وأذهب الله ملكهم، وفرق
جمعهم، ورجع سعد إلى الكوفة، فاختط مسجدها، وقصر إمارتها، فاختط الأشعث جبانة
كندة، واختط كندة حوله، واختط يزيد بن عبد الله ناحية البرية، واختطت بجلة حوله.
وشاور عمر أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم في سواد الكوفة، فقال له بعضهم: تقسمها بيننا، فشاور علياً، فقال: إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء
بعدنا شيء، ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال: وفقك
الله! هذا الرأي. ووجه عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان، فمسحا السواد، وأمرهما أن
لا يحملا أحداً فوق طاقته، فاجتبى خراج السواد ثمانين ألف ألف درهم، وأجرى على
عثمان بن حنيف خمسة دراهم في كل يوم وجراباً من دقيق، وأمره أن لا يمسح تلا، ولا
أجمة، ولا مستنقع ماء، ولا ما لا يبلغه الماء، وأن يمسح بالذراع السوداء، وهو ذراع
وقبضة، وأقام إبهامه فوق القبضة شيئاً يسيراً، فمسح عثمان كل شيء دون جبل حلوان
إلى أرض العرب وهو أسفل الفرات، فكتب إلى عمر: أني وجدت كل شيء بلغه الماء من عامر
وغير عامر، بلغه الماء، عمله صاحبه أو لم يعمله... درهماً وقفيزاً وعلى الكرم عشرة
دراهم، وعلى الرطاب خمسة دراهم.
وفرض على رقابهم: على
الموسر ثمانية وأربعين، وعلى من دون ذلك أربعة وعشرين، وعلى من لا يجد اثني عشر
درهماً، وقال: درهم في الشهر لا يعوز رجلاً! فحمل من خراج السواد، في أول سنة،
ثمانون ألف ألف درهم، وحمل من قابل عشرون ومائة ألف ألف درهم.
واجتمع الدهاقين إلى
عثمان بن حنيف في الكرم، فقالوا: إنما في قرب من المصر يباع العنقود منه بدرهم،
فكتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر أن يحمل من هذا، ويوضع على هذا بقدر
الموضعين. وكان عمر يأخذ الجزية من أهل كل صناعة من صناعتهم بقيمة ما يجب عليهم،
وكذلك فعل علي، وكتب عمر إلى أبي موسى أن يضع على أرض البصرة من الخراج مثل ما وضع
عثمان بن حنيف على أرض الكوفة، وكتب إلى عثمان بن حنيف: أن احمل إلى أهل المدينة
أعطياتهم، فإنهم شركاؤهم. فكان يحمل ما بين العشرين ألف ألف إلى الثلاثين ألف ألف.
ودون عمر الدواوين
وفرض العطاء سنة عشرين، وقال: قد كثرت الأموال. فأشير عليه أن يجعل ديوانا، فدعا
عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف، وقال:
اكتبوا الناس على منازلهم. وابدءوا ببني عبد مناف. فكتب أول الناس علي بن أبي طالب في خمسة آلاف، والحسن بن علي في ثلاثة
آلاف، والحسين بن علي في ثلاثة آلاف، وقيل بدأ بالعباس بن عبد المطلب في ثلاثة
آلاف، وكل من شهد بدراً من قريش في ثلاثة آلاف، ومن شهد بدرا من الأنصار في أربعة
آلاف، ولأهل مكة من كبار قريش مثل أبي سفيان بن حرب، ومعاوية بن أبي سفيان في خمسة
آلاف، ثم قريش على منازلهم ممن لم يشهد بدراً، ولأمهات المؤمنين ستة آلاف ستة
آلاف، ولعائشة وأم حبيبة وحفصة في اثني عشر ألفاً، ولصفية وجويرية في خمسة آلاف
خمسة آلاف، ولنفسه في أربعة آلاف، ولابنه عبد الله بن عمر في خمسة آلاف، وفي أهل
مكة الذين لم يهاجروا في ستمائة وسبعمائة، وفرض لأهل اليمن في أربعمائة، ولمضر في
ثلاثمائة، ولربيعة في مائتين.
وكان أول مال أعطاه
مالاً قدم به أبو هريرة من البحرين، مبلغه سبعمائة ألف درهم. قال: اكتبوا
الناس على منازلهم،
وكتبوا بني عبد مناف، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم أتبعوهم عمر بن الخطاب وقومه
على الخلافة. فلما نظر عمر قال: وددت والله أني هكذا في القرابة برسول الله، ولكن
ابدءوا برسول الله ثم الأقرب فالأقرب منه، حتى تضعوا عمر بحيث وضعه الله. وفرض
للنساء المهاجرات وغيرهن على قدر فضلهن، وكانت فريضته لهن في ألفين، وألف
وخمسمائة، وألف، وفرض لأسماء بنت عميس، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وخولة بنت
حكيم بن الأوقص امرأة عثمان بن مظعون في ألفين، وفرض لأم عبد في ألف وخمسمائة،
وفرض لأشراف الأعاجم، وفرض لفيروز بن يزدجرد دهقان نهر الملك والنخيرخان، ولخالد
وللجميل ابني بصبهري دهقان الفلوجة، وللهرمزان، ولبسطام بن نرسى دهقان بابل،
وجفينة العبادي في ألفين ألفين، وقال: قوم أشراف أحببت أن أتألف بهم غيرهم.
وقال عمر في آخر
سنيه: إني كنت تألفت الناس بما صنعت في تفضيل بعض على بعض، وإن عشت هذه السنة
ساويت بين الناس، فلم أفضل أحمر على أسود، ولا عربياً على عجمي، وصنعت كما صنع
رسول الله وأبو بكر.
ومصر الأمصار في هذه
السنة. وقال: الأمصار سبعة: فالمدينة مصر، والشام مصر، والجزيرة مصر، والكوفة مصر،
والبصرة مصر... وجند الأجناد فصير فلسطين جنداً، والجزيرة جنداً، والموصل جنداً،
وقنسرين جنداً. وفي هذه السنة فتح عمرو بن العاص الإسكندرية وسائر أعمال مصر،
واجتباها أربعة عشر ألف ألف دينار من خراج رؤوسهم، لكل رأس ديناراً، وخراج غلاتهم
من كل مائة إردب إردبين، وأخرج أصحاب هرقل، ومات هرقل ملك الروم، فزاد ذلك في
وهنهم وضعفهم.
ولما فتح عمرو بن
العاص الإسكندرية أوفد إلى عمر بن الخطاب معاوية بن حديج الكندي، فقال له معاوية: اكتب
معي! فقال: وما أصنع بالكتاب معك؟ خبره بما رأيت وأد إليه الرسالة. فلما أتى عمر
وخبره الخبر خر ساجداً، وكتب عمر إلى عمرو بن العاص أن يحمل طعاماً في البحر إلى
المدينة يكفي عامة المسلمين، حتى يصير به إلى ساحل الجار، فحمل طعاماً إلى القلزم،
ثم حمله في البحر في عشرين مركباً في المركب ثلاثة آلاف أردب وأقل وأكثر، حتى وافى
الجار. وبلغ عمر قدومها، فخرج ومعه جلة أصحاب رسول الله، حتى قدم الجار، فنظر
السفن، ثم وكل من قبض ذلك الطعام، وبنى هنالك قصرين، وجعل ذلك الطعام فيهما، ثم
أمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم، وأمره أن يكتب لهم صكاكا من قراطيس،
ثم يختم أسافلها، فكان أول من صك وختم أسفل الصكاك.
رجع الحديث إلى خبر
سعد بن أبي وقاص. وقد رجع سعد بن أبي وقاص إلى الكوفة، وأقام بها واختطت الخطط،
وبنيت المنازل والمحال، ثم إن أهل الكوفة شكوا سعدا وقالوا: لا يحسن يصلي، فعزله
عمر عنهم، فدعا عليهم سعد إلا يرضيهم الله عز وجل عن أمير، ولا يرضى أميرا منهم.
وولى عمر مكان سعد بن أبي وقاص عمار بن ياسر... ثم قدم عليه أهل الكوفة فقال: كيف
خلفتم عمار بن ياسر أميركم؟ قالوا: مسلم ضعيف. فعزله، ووجه جبير بن مطعم، فمكر به
المغيرة، وحمل عنه خبرا إلى عمر، وقال له: ولني، يا أمير المؤمنين. قال: أنت رجل
فاسق. قال: وما عليك مني؟ كفايتي ورجلتي لك، وفسقي على نفسي. فولاه الكوفة، فسألهم
عن المغيرة، فقالوا: أنت أعلم به وبفسقه. فقال: ما لقيت منكم يا أهل الكوفة! إن
وليتكم مسلما تقيا قلتم: هو ضعيف، وإن وليتكم مجرماً قلتم: هو فاسق. فيقال إنه رد سعد بن أبي وقاص.
وأخرج عمر يهود خيبر
من الحجاز لما قتل مظهر بن رافع الحارثي وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: لا يجتمع في جزيرة العرب دينان. وقسم خيبر على ستة عشر سهماً.
ووجه ميسرة بن مسروق
العبسي إلى أرض الروم، فكان أول جيش دخلها جيش ميسرة في هذه السنة، وهي سنة عشرون،
وأغزى حبيب بن مسلمة الفهري، وقدر له أجلا، فجاز ذلك الوقت، واشتد غم عمر حتى
وافى، فقال له: ما أخرك عن الوقت الذي وقته لك؟ قال: اعتل رجل من المسلمين، فأقمنا
عليه حتى قضى الله ما قضى. ولم يغز عمر بلاد الروم بعد حبيب، وكان عمر يقول: إذا
ذكر الروم والله لوددت إن الدرب جمرة بيننا وبينهم، لنا ما دونه وللروم ما وراءه،
لما كان يكره قتالهم. ووجه علقمة بن مجزز المدلجي في عشرين مركباً، أو نحوها،
فأصيبوا جميعاً
فحلف عمر لا يحمل في
البحر أحداً أبدا. وفي هذه السنة كانت زلازل لم ير مثلها.
وافتتحت نهاوند سنة
إحدى وعشرون، وأمير الناس النعمان بن مقرن المزني، وكانت الأعاجم قد اجتمعت من
الري وقومس وأصبهان وعدة بلدان، حتى صاروا إلى نهاوند، وقالوا: قد غلبنا على
بلدنا، ونالنا الذل في دارنا. فبعث عمر النعمان في جيش، فصار إلى نهاوند، وقد ملك
الأعاجم عليهم ملكا يقال له دوير. واقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل النعمان بن مقرن،
ثم هزم الله الأعاجم، وفتحت نهاوند.
وفي غزاة نهاوند كان
عمر بن الخطاب على منبر رسول الله يخطب، فبينا هو يخطب إذ قال: يا سارية الجبل
الجبل. وكان سارية في جيش نهاوند، فقال سارية لما قدم من نهاوند: أحدق بنا العدو،
فسمعنا صوتك يا أمير المؤمنين وأنت تقول: يا سارية الجبل الجبل، فانحزنا إلى
الجبل، فسلمنا.
وفتح عمرو بن العاص
برقة، وصالحهم على ثلاثة عشر ألف دينار، على أن يبيعوا من أبنائهم من أحبوا في
جزيتهم في هذه السنة، ثم سار حتى أتى أطرابلس إفريقية، فافتتحها، وكتب إلى عمر
يستأذنه في غزو باقي إفريقية، فكتب إليه أنها مفرقة، ولا يغزوها أحد ما بقيت. ووجه
بسر بن أبي أرطأة، فصالح أهل ودان وأهل فزان، وبعث عقبة بن نافع الفهري، وكان أخا
العاص ابن وائل السهمي لأمه، إلى أرض النوبة، ولقي المسلمون من النوبة قتالاً
شديداً. ولما انصرف المسلمون من بلاد النوبة اختطوا الجيزة، وكتب عمرو بن العاص
بذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: لا تجعل بيني وبينك ماء، وانزلوا موضعا
متى أردت أن أركب راحلتي وأصير إليكم فعلت.
وافتتحت آذربيجان سنة
إثنان وعشرون، وأمير الناس المغيرة بن شعبة. وقيل هاشم ابن عتبة بن أبي وقاص،
وافتتح أبو موسى الأشعري كور الأهواز وإصطخر سنة ثلاث وعشرون، وكتب إليه عمر أن ضع
عليها الخراج كما وضع على سائر أرض العراق، ففعل ذلك، وافتتح عبد الله بن بديل بن
ورقاء الخزاعي همدان وأصبهان في هذه السنة، وافتتح قرظة بن كعب الأنصاري الري،
وافتتح معاوية بن أبي سفيان عسقلان، وولى عمر خالد بن الوليد الرها وحران ورقة وتل
موزن وآمد، فأقام بها سنة، ثم استعفى، فأعفاه، وقدم المدينة، فأقام بها أياماً، ثم
توفي خالد بالمدينة.
وقال الواقدي إن خالد
بن الوليد توفي بحمص، فأوصى إلى عمر، ولما ورد إليه خبر وفاته بكته حفصة وآل عمر،
وكثر بكاؤهن عليه، فقال عمر: حق لهن أن يبكين على أبي سليمان، وأظهر عليه جزعا.
ووجه حبيب بن مسلمة الفهري إلى أرمينية، ثم أردفه سلمان بن ربيعة مددا له، فلم يصل
إليه إلا بعد قتل عمر.
وأذن عمر لأزواج
النبي صلى الله عليه وسلم في الحج في هذه السنة، وحج معهن. قال بعضهم: فرأيت أزواج
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهوادج، وعليهن الطيالسة الزرق سنة ثلاث وعشرون،
وكان يكون أمامهن عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان وراءهن، فلا يدعان أحداً يدنو
منهن. وشاطر عمر جماعة من عماله أموالهم. قيل: إن فيهم سعد بن أبي وقاص عامله على
الكوفة، وعمرو بن العاص عامله على مصر، وأبا هريرة عامله على البحرين، والنعمان بن
عدي بن حرثان عامله على ميسان، ونافع بن عمرو الخزاعي عامله على مكة، ويعلى بن
منية عامله على اليمن. وامتنع أبو بكرة من المشاطرة وقال: والله لئن كان هذا المال
لله، فما يحل لك أن تأخذ بعضا وتترك بعضاً، وإن كان لنا فما لك أخذه. فقال له عمر:
إما أن تكون مؤمناً لا تغل أو منافقاً أفك. فقال: بل مؤمن لا أغل. واستأذن قوم من
قريش عمر في الخروج للجهاد، فقال: قد تقدم لكم مع رسول الله. قال: إني آخذ بحلاقيم
قريش على أفواه هذه الحرة. لا تخرجوا! فتسللوا بالناس يميناً وشمالاً. قال عبد الرحمن بن عوف، فقلت: نعم، يا
أمير المؤمنين، ولم تمنعنا من الجهاد؟ فقال: لأن اسكت عنك، فلا أجيبك، خير لك من
أن أجيبك، ثم اندفع يحدث عن أبي بكر، حتى قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله
شرها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه.
وروي عن ابن عباس
قال: طرقني عمر بن الخطاب بعد هدأة من الليل، فقال: اخرج بنا نحرس
نواحي المدينة! فخرج،
وعلى عنقه درته، حافيا، حتى أتى بقيع الغرقد، فاستلقى على ظهره، وجعل يضرب أخمص
قدميه بيده وتأوه صعدا، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما أخرجك إلى هذا الأمر؟ قال:
أمر الله يا ابن عباس! قال: إن شئت أخبرتك بما في نفسك. قال: غص غواص، إن كنت
لتقول فتحسن. قال: ذكرت هذا الأمر بعينه وإلى من تصيره. قال: صدقت! قال فقلت له:
أين أنت عن عبد الرحمن بن عوف؟ فقال: ذاك رجل ممسك، وهذا الأمر لا يصلح إلا لمعط
في غير سرف ومانع في غير إقتار. قال فقلت: سعد بن أبي وقاص؟ قال: مؤمن ضعيف ! قال
فقلت: طلحة بن عبد الله؟ قال: ذاك رجل يناول للشرف والمديح، يعطي ماله حتى يصل إلى
مال غيره، وفيه باو وكبر. قال فقلت: فالزبير بن العوام، فهو فارس الإسلام؟ قال:
ذاك يوم إنسان ويوم شيطان، وعفة نفس، إن كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظهر
حتى يفوته الصلاة. قال فقلت: عثمان بن عفان؟ قال: إن ولي حمل ابن أبي معيط وبني
أمية على رقاب الناس، وأعطاهم مال الله، ولئن ولي ليفعلن والله، ولئن فعل لتسيرن
العرب إليه حتى تقتله في بيته. ثم سكت. قال فقال: أمضها يا ابن عباس! أترى صاحبكم
لها موضعاً؟ قال فقلت: وأين يتبعد من ذلك مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه؟ قال: هو
والله كما ذكرت ولو وليهم تحملهم على منهج الطريق، فأخذ المحجة الواضحة، إلا أن فيه
خصالا: الدعابة في المجلس، واستبداد الرأي، والتبكيت للناس مع حداثة السن. قال
قلت: يا أمير المؤمنين. هلا استحدثتم سنة يوم الخندق إذ خرج عمرو بن عبدود، وقد كعم عنه
الأبطال، وتأخرت عنه الأشياخ، ويوم بدر إذ كان يقط الأقران قطا، ولا سبقتموه
بالإسلام، إذ كان جعلته السعب وقريش يستوفيكم ؟ فقال: إليك يا ابن عباس! أ تريد أن
تفعل بي كما فعل أبوك وعلي بأبي بكر يوم دخلا عليه؟ قال: فكرهت أن أغضبه فسكت.
فقال: والله يا ابن عباس إن علياً ابن عمك لاحق الناس بها، ولكن قريشاً لا تحتمله،
ولئن وليهم ليأخذنهم بمر الحق لا يجدون عنده رخصة، ولئن فعل لينكثن بيعته ثم
ليتحاربن.
وحج عمر جميع سني
ولايته، إلا السنة الأولى، وهي سنة ثلاث عشر، فإن عبد الرحمن بن عوف حج بالناس،
وكان الغالب عليه عبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان.
وروى بعضهم أن عبد
الله بن عباس كان على شرطه، وكان حاجبه يرفا مولاه، فطعن عمر يوم الأربعاء لأربع
ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرون، وكان ذلك من شهور العجم في تشرين الآخر،
وكان الذي طعنه أبو لؤلؤة، عبد للمغيرة بن شعبة، وجاه بخنجر مسموم، وكانت سنو عمر
يومئذ ثلاثاً وستين سنة، وقيل أربعاً وخمسين سنة، وكانت ولايته عشر سنين وثمانية
أشهر.
ولما طعن عمر قال
لابنه: إني كنت استسلفت من بيت مال المسلمين ثمانين ألفاً، فليرد من مال ولدي، فإن
لم يف مالهم فمال آل الخطاب، فإن لم يف فمال بني عدي، وإلا قريش عامة، ولا تعدوهم.
ولما حضرته الوفاة
اجتمع إليه الناس فقال: إني قد مصرت الأمصار، ودونت الدواوين، وأجريت العطايا،
وغزوت في البر والبحر، فإن أهلك، فالله خليفتي عليكم، وسترون رأيكم. إني قد تركتكم
على الواضحة، إنما أخاف عليكم أحد رجلين: إما رجلاً يرى أنه أحق بالملك من صاحبه
فيقاتله عليه...
وإني قد قرأت في كتاب
الله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة، نكالا من الله، والله عليم حكيم،
فلا تهلكوا عن الرجم. وقد رجم رسول الله، ورجمنا، ولو لا أن يقول الناس زاد عمر في
كتاب الله لكتبتها بيدي، فقد قرأتها في كتاب الله.
وصير الأمر شورى بين
ستة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان،
وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص،
وقال: أخرجت سعيد بن زيد لقرابته مني. فقيل له في ابنه عبد الله بن عمر، قال: حسب
آل الخطاب ما تحملوا منها! إن عبد الله لم يحسن يطلق امرأته، وأمر صهيباً أن يصلي
بالناس حتى يتراضوا من الستة بواحد، واستعمل أبا طلحة زيد بن سهل الأنصاري، وقال:
إن رضي أربعة وخالف اثنان، فاضرب عنق الاثنين، وإن رضي ثلاثة وخالف ثلاثة، فاضرب
أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن، وإن جازت الثلاثة الأيام ولم يتراضوا
بأحد، فاضرب أعناقهم جميعاً.
وكانت الشورى بقية ذي
الحجة سنة ثلاث وعشرون، وصهيب يصلي بالناس، وهو الذي صلى على عمر. وكان أبو طلحة
يدخل رأسه إليهم ويقول: العجل العجل، فقد قرب الوقت، وانقضت المدة.
ودفن عمر إلى جانب
أبي بكر، وخلف من الولد الذكور ستة: عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وعاصما،
وزيدا، وأبا عبد الله، ووثب ابنه عبيد الله فقتل أبا لؤلؤة وابنته وامرأته، واغتر
الهرمزان فقتله، وكان عبيد الله يحدث أنه تبعه، فلما أحس الهرمزان بالسيف قال:
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وروى بعضهم أن عمر
أوصى أن يقاد عبيد الله بالهرمزان، وأن عثمان أراد ذلك، وقد كان قبل أن يلي الأمر
أشد من خلق الله على عبيد الله، حتى جر بشعره، وقال: يا عدو الله قتلت رجلاً مسلماً، وصبية طفلة، وامرأة لا ذنب لها! قتلني
الله إن لم أقتلك. فلما ولي رده إلى عمرو بن العاص. وروى بعضهم عن عبد الله بن عمر
أنه قال: يغفر الله لحفصة، فإنها شجعت عبيد الله على قتلهم.
صفة عمر بن الخطاب:
وكان عمر طوالاً، أصلع، أقبل، شديد الأدمة، أعسر يسراً، يعمل بيديه جميعاً، ويصفر
لحيته، وقيل يغيرها بالحناء والكتم. وكان الفقهاء في أيامه الذين يؤخذ عنهم العلم:
علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت.
وأبو موسى الأشعري وأبو الدرداء وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عباس. وكان عمال
عمر، وقت وفاته: سعد بن أبي وقاص على الكوفة، وقيل المغيرة، وأبو موسى الأشعري على
البصرة، وعمير بن سعد الأنصاري على حمص، ومعاوية بن أبي سفيان على بعض الشام،
وعمرو بن العاص على مصر، وزياد بن لبيد البياضي على بعض اليمن، وأبو هريرة على
عمان، ونافع بن الحارث على مكة، ويعلى بن منية التميمي على صنعاء، والحارث بن أبي
العاص الثقفي على البحرين، وعبد الله بن أبي ربيعة على الجند.
أيام عثمان بن عفانثم
استخلف عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه أروى بنت كريز بن
ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وكان عبد الرحمن بن عوف الزهري، لما توفي عمر، واجتمعوا
للشورى، سألهم أن يخرج نفسه منها على أن يختار منهم رجلاً، ففعلوا ذلك، فأقام
ثلاثة أيام، وخلا بعلي بن أبي طالب، فقال: لنا الله عليك، إن وليت هذا الأمر، أن
تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر. فقال: أسير فيكم بكتاب الله
وسنة نبيه ما استطعت. فخلا بعثمان فقال له: لنا الله عليك، إن وليت هذا الأمر، أن تسير فينا
بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر.
فقال:
لكم أن أسير فيكم
بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، ثم خلا بعلي فقال له مثل مقالته الأولى،
فأجابه مثل الجواب الأول، ثم خلا بعثمان فقال له مثل المقالة الأولى، فأجابه مثل
ما كان أجابه، ثم خلا بعلي فقال له مثل المقالة الأولى، فقال: إن كتاب الله وسنة
نبيه لا يحتاج معهما إلى أجيري أحد. أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر عني. فخلا بعثمان
فأعاد عليه القول، فأجابه بذلك الجواب، وصفق على يده.
وخرج عثمان، والناس
يهنئونه، وكان ذلك يوم الإثنين، مستهل المحرم، سنة أربع وعشرون، ومن شهور العجم في
تشرين الآخر، وكانت الشمس يومئذ في العقرب ثلاث عشرة درجة، وزحل في الحمل إحدى
وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمشتري في الجدي أربع درجات وأربعين دقيقة،
والمريخ في الميزان خمسين دقيقة، والزهرة في العقرب إحدى عشرة درجة راجعا، والرأس
في الثور أربعا وعشرين درجة، فصعد عثمان المنبر، فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه
رسول الله، ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه، جلس أبو بكر دونه بمرقاة، وجلس عمر دون
أبي بكر بمرقاة، فتكلم الناس في ذلك، فقال بعضهم: اليوم ولد الشر، وكان عثمان
رجلاً حيياً فارتج عليه. فقام مليا لا يتكلم، ثم قال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان
لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام يشقق الخطب، وإن
تعيشوا فسيأتيكم الخطبة. ثم نزل. وروى بعضهم أن عثمان خرج من الليلة التي بويع له
في يومها لصلاة العشاء الآخرة، وبين يديه شمعة، فلقيه المقداد بن عمرو، فقال: ما
هذا البدعة! ومال قوم مع علي بن أبي طالب، وتحاملوا في القول على عثمان. فروى
بعضهم قال: دخلت مسجد رسول الله، فرأيت رجلاً جاثياً على ركبتيه يتلهف تلهف من كان
الدنيا كانت له فسلبها، وهو يقول: واعجباً لقريش، ودفعهم هذا الأمر على أهل بيت
نبيهم، وفيهم أول المؤمنين، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس
وأفقههم في دين الله، وأعظمهم غناء في الإسلام، وأبصرهم بالطريق، وأهداهم للصراط
المستقيم، والله لقد زووها عن الهادي المهتدي الطاهر النقي، وما أرادوا إصلاحاً
للأمة ولا صواباً في المذهب، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعدا وسحقا للقوم
الظالمين. فدنوت منه فقلت: من أنت يرحمك الله، ومن هذا الرجل؟ فقال: أنا المقداد
بن عمرو، وهذا الرجل علي بن أبي طالب. قال فقلت: ألا تقوم بهذا الأمر فأعينك عليه؟ فقال: يا ابن أخي! إن هذا الأمر لا
يجري فيه الرجل ولا الرجلان. ثم خرجت، فلقيت أبا ذر، فذكرت له ذلك، فقال: صدق أخي
المقداد، ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فذكرت ذلك له فقال: لقد أخبرنا فلم نال.
وأكثر الناس في دم
الهرمزان وإمساك عثمان عبيد الله بن عمر، فصعد عثمان المنبر، فخطب الناس، ثم قال:
ألا إني ولي دم الهرمزان، وقد وهبته لله ولعمر، وتركته لدم عمر. فقام المقداد بن
عمرو فقال: إن الهرمزان مولى لله ولرسوله، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله.
قال: فننظر وتنظرون. ثم أخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة،
وأنزله دارا، فنسب الموضع إليه، كويفة ابن عمر، فقال بعضهم:
أبا عمرو عبيد الله
رهن ... فلا تشكك بقتل الهرمزان
وافتتح المغيرة بن
شعبة همذان، وكتب إلى عثمان أنه قد دخل الري وأنزلها المسلمين.
وكانت الري قد افتتحت
في حياة عمر، وقيل لم تفتح، ولكنها محاصرة، وافتتحت سنة أربع وعشرون. وكتب عثمان
إلى الحكم بن أبي العاص أن يقدم عليه، وكان طريد رسول الله، وقد كان عثمان لما ولي
أبو بكر اجتمع هو وقوم من بني أمية إلى أبي بكر، فسألوه في الحكم، فلم يأذن له،
فلما ولي عمر فعلوا ذلك، فلم يأذن له، فأنكر الناس إذنه له، وقال بعضهم: رأيت
الحكم بن أبي العاص يوم قدم المدينة عليه فزر خلق، وهو يسوق تيسا، حتى دخل دار
عثمان، والناس ينظرون إلى سوء حاله وحال من معه، ثم خرج وعليه جبة خز وطيلسان.
وانتقضت الإسكندرية
سنة خمس وعشرون، وحاربهم عمرو بن العاص، حتى فتحها وسبى الذراري، ووجه بهم إلى
المدينة، فردهم عثمان إلى ذمتهم الأولى، وعزل عمرو بن العاص
وولى عبد الله بن أبي
سرح، فكان ذلك سبب العداوة بين عثمان وعمرو. وقال عثمان لعمرو لما قدم: كيف تركت
عبد الله بن سعد؟ قال: كما أحببت! قال: وما ذاك؟ قال: قوي في ذات نفسه، ضعيف في
ذات الله. قال: لقد أمرته أن يتبع أثرك. قال: لقد كلفته شططا. واجتبى عبد الله مصر اثني عشر ألف ألف دينار،
فقال عثمان لعمرو: درت اللقاح! قال: ذاك إن يتم يضر بالفصلان. ووسع عثمان في
المسجد الحرام، وزاد فيه سنة ست وعشرون، وابتاع من قوم منازلهم، وأبى آخرون، فهدم
عليهم، ووضع الأثمان في بيت المال، فصاحوا بعثمان، فأمر بهم للحبس. وقال: ما جراكم
علي إلا حلمي، وقد فعل هذا عمر، فلم تصيحوا، وجدد أنصاب الحرم.
وفي هذه السنة افتتح
عثمان بن أبي العاص الثقفي سابور. وفيها ولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط الكوفة
مكان سعد، وصلى بالناس الغداة، وهو سكران، أربع ركعات، ثم تهوع في المحراب، والتفت
إلى من كان خلفه، فقال: أزيدكم؟ ثم جلس في صحن المسجد، وأتي بساحر يدعى بطروي من
الكوفة، فاجتمع الناس عليه، فجعل يدخل من دبر الناقة ويخرج من فيها، ويعمل أعاجيب،
فرآه جندب بن كعب الأزدي، فخرج إلى بعض الصياقلة، فأخذ منه سيفا ثم أقبل في الزحام
وقد ستر السيف حتى ضرب عنقه، ثم قال له: أحي نفسك، إن كنت صادقا! فأخذه الوليد،
فأراد أن يضرب عنقه، فقام قوم من الأزد، فقالوا: لا تقتل والله صاحبنا، فصيره في
الحبس. وكان يصلي الليل كله، فنظر إليه السجان، وكان يكنى أبا سنان، فقال:
ما عذري عند الله إن
حبستك على الوليد يقتلك؟ فأطلقه، فصار جندب إلى المدينة، وأخذ الوليد أبا سنان
فضربه مائتي سوط فوثب عليه جرير بن عبد الله، وعدي بن حاتم، وحذيفة بن اليمان،
والأشعث بن قيس، وكتبوا إلى عثمان مع رسلهم، فعزله وولى سعيد بن العاص مكانه. فلما
قدم الوليد قال عثمان: من يضربه؟ فأحجم الناس لقرابته، وكان أخا عثمان لأمه، فقام
علي فضربه، ثم بعث به عثمان على صدقات كلب وبلقين.
وأغزى عثمان الناس
إفريقية سنة سبع وعشرون، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فلقي جرجيس ودعاه إلى
الإسلام، أو أداء الجزية، فامتنع، وكان جرجيس في جمع عظيم، ففض الله ذلك الجمع،
فطلب جرجيس الصلح، فأبى عليه، وهزموه حتى صار إلى مدينة سبيطلة، والتحمت الحرب حتى
قتل جرجيس، وكثرت الغنائم، وبلغت ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف
دينار.
وروى بعضهم أن عثمان
زوج ابنته من مروان بن الحكم، وأمر له بخمس هذا المال. ووجه عبد الله بن سعد بن أبي سرح عبد الله بن الزبير إلى عثمان
بالبشارة، فسار عشرين ليلة، حتى قدم المدينة، وأخبر عثمان، فصعد عثمان المنبر،
فخبر به الناس.
ووجه عبد الله بن سعد
جيشاً إلى أرض النوبة، فسألوا الموادعة والصلح على أن عليهم في كل سنة ثلاثمائة
رأس، ويبعث إليهم مثل ذلك من الطعام والشراب، فكتب إلى عثمان بذلك، فأجابهم إلى
ذلك. وافتتح معاوية بن أبي سفيان قبرس.
وفي هذه السنة بني
عثمان داره، وبني الزوراء، ووسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع
وعشرون، وحملت له الحجارة من بطن نخل، وجعل في عمدة الرصاص، وجعل طوله مائة وستين
ذراعاً وعرضه مائة ذراع وخمسين ذراعا، وأبوابه ستة على ما كانت عليه على عهد عمر.
وعزل أبا موسى
الأشعري، وولى مكانه عبد الله بن عامر بن كريز، وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة،
فلما بلغ أبا موسى ولاية عبد الله بن عامر قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى
على نبيه، ثم قال: قد جاءكم غلام كثير العمات والخالات والجدات في قريش، يفيض
عليكم المال فيضاً. فلما قدم ابن عامر البصرة وجه الجنود لفتح سابور وفسا
ودارابجرد وإصطخر من أرض فارس، وعلى ذلك الجند الذي فتح إصطخر عبيد الله بن معمر
التيمي، فقتل عبيد الله بن معمر في أصل مدينة إصطخر، فقام مكانه عمر بن عبيد الله
حتى فتح المدينة، ثم سار عبد الله بن عامر بنفسه إلى إصطخر ووجه عبد الرحمن بن
سمرة، وكانت له صحبة، إلى سجستان، فافتتح زرنج بعد نكبة شديدة.
ولما ولي عثمان عبد
الله بن عامر البصرة وولي سعيد بن العاص الكوفة كتب إليهما: أيكما سبق إلى خراسان، فهو أمير عليها. فخرج عبد الله بن عامر وسعيد
بن العاص، فأتى دهقان من
دهاقين خراسان إلى
عبد الله بن عامر، فقال: ما تجعل لي إن سبقت بك؟ قال: لك خراجك وخراج أهل بيتك إلى
يوم القيامة. فأخذ به على طريق مختصر إلى قومس، وعبد الله بن خازم السلمي على
مقدمته، فسار إلى نيسابور. وأقام على المدينة، ولقيه عبد الله بن عامر، فافتتح
نيسابور عنوة في سنة ثلاثون، وصالح أهل الطبسين على خمسة وسبعين ألفاً، ثم سار حتى
صار إلى مدينة أبر شهر، فحاصرهم شهوراً، ثم فتحها وصالحهم، وكتب إلى أهل هراة،
فكتبوا إليه: إن فتحت أبرشهر أجبناك إلى ما سألت، وبوشنج وبادغيس يومئذ إلى هراة،
وكانت طوس ونيسابور إلى أبر شهر، ثم فتحها وصالحهم على ألف ألف درهم.
وبعث الأحنف بن قيس
إلى هراة ومرو الروذ، فسار إلى هراة، فلقيه صاحبها بالميرة والطاعة، ثم سار إلى
مرو الروذ، ففتحها عنوة، وفتح الطالقان والفارياب، وطخارستان، ولم يرجع إلى عبد
الله بن عامر، حتى شرب من نهر بلخ.
وقال بعض أهل خراسان:
وجه عبد الله بن عامر حين افتتح نيسابور بالجيوش فبعث الأحنف بن قيس إلى مرو
الروذ، وبعث أوس بن ثعلبة التميمي إلى هراة، وبعث حاتم بن النعمان الباهلي إلى
مرو، وعبد الله بن خازم السلمي إلى سرخس. ففتح القوم جميعاً ما بعثوا له خلا مرو،
فإنها صالحت حاتماً على ألفي ألف ومائتي ألف أوقية وعلى أن يوسعوا للمسلمين في
منازلهم.
ولما فتح عبد الله بن
عامر هذه الكور انصرف إلى عثمان، وخالف بين الترك والديلم، وكان قد صير خراسان
أرباعاً، وولي قيس بن الهيثم السلمي على ربع، وراشد بن عمرو الجديدي على ربع،
وعمران بن الفصيل البرجمي على ربع، وعمرو بن مالك الخزاعي على ربع، فلما رده عثمان
وجه أمير ابن أحمد اليشكري إلى خراسان، فصار إلى مرو، فأناخ بها، ثم أدركه الشتاء
وأدخله أهل مرو، وبلغه انهم يريدون الوثوب به، فجرد فيهم السيف حتى أفناهم، ثم قفل
إلى عثمان، فلما رآه عثمان خوفه، فانصرف عنه مغضباً، وكان عثمان أنكر عليه قتل أهل
مرو، ورجع عبد الله بن عامر إلى البصرة، ثم صار إلى كرمان، فأناخ بها فنالهم مجاعة
شديدة، حتى كان الرغيف بدينار، ثم أتاه الخبر بأن عثمان قد حوصر، فانصرف، وخلف
بخراسان قيس بن الهيثم ابن الصلت، فافتتح قيس طخارستان، وكان عثمان قد وجه حبيب بن
مسلمة الفهري إلى أرمينية، ثم أردفه سلمان بن ربيعة الباهلي مدداً له، فلما قدم
عليه تنافراً، وقتل عثمان وهم على تلك المنافرة.
وقد كان حبيب بن
مسلمة فتح بعض أرمينية، وكتب عثمان إلى سلمان بإمرته على أرمينية، فسار حتى أتى
البيلقان، فخرج إليه أهلها، فصالحوه ومضى حتى أتى برذعة، فصالحه أهلها على شيء
معلوم.
وقيل إن حبيب بن
مسلمة افتتح جرزان. ثم نفذ سلمان إلى شروان، فصالحه ملكها، ثم سار حتى أتى أرض
مسقط، فصالح أهلها، وفعل مثل ذلك ملك اللكز وأهل الشابران وأهل فيلان، ولقيه خاقان
ملك الخزر في جيشه، خلف نهر البلنجر، في خلق عظيم، فقتل سلمان ومن معه، وهم أربعة
آلاف، فولى عثمان حذيفة بن اليمان العبسي، ثم صرفه، وولي المغيرة بن شعبة.
وزوج عثمان ابنته من
عبد الله بن خالد بن أسيد، وأمر له بستمائة ألف درهم، وكتب إلى عبد الله بن عامر
أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة.
وحدث أبو إسحاق عن
عبد الرحمن بن يسار قال: رأيت عامل صدقات المسلمين على سوق المدينة إذا أمسى آتاها
عثمان، فقال له: ادفعها إلى الحكم ابن أبي العاص. وكان عثمان إذا أجاز أحداً من أهل بيته بجائزة جعلها فرضا من بيت
المال، فجعل يدافعه ويقول له: يكون فنعطيك إن شاء الله، فألح عليه، فقال: إنما أنت
خازن لنا، فإذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت. فقال وجاء بالمفتاح يوم الجمعة
وعثمان يخطب، فقال: أيها الناس زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت
خازناً للمسلمين، وهذه مفاتيح بيت مالكم. ورمى بها، فأخذها عثمان، ودفعها إلى زيد
بن ثابت.
وفي هذه السنة توفي
أبو سفيان بن حرب، وصلى عليه عثمان وهي سنة إحدى وثلاثون. وأغزى عثمان جيشاً، أميرهم معاوية، على الصائفة سنة إثنان وثلاثون،
فبلغوا إلى مضيق القسطنطينية، وفتحوا فتوحا كثيرة، وصير عثمان إلى معاوية غزو
الروم على أن يوجه من رأى على الصائفة، فولى معاوية سفيان بن عوف الغامدي فلم يزل
عليها أيام عثمان... لشيء شجر بينهما في خلافة عثمان.
وروي أن عثمان اعتل
علة اشتدت به، فدعا حمران بن أبان، وكتب عهدا لمن بعده، وترك موضع الاسم، ثم كتب
بيده: عبد الرحمن بن عوف، وربطه وبعث به إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقرأه حمران
في الطريق فأتى عبد الرحمن فأخبره، فقال عبد الرحمن، وغضب غضباً شديداً: استعمله
علانية، ويستعملني سراً. ونمى الخبر وانتشر بذلك في المدينة. وغضب بنو أمية، فدعا
عثمان بحمران مولاه، فضربه مائة سوط، وسيره إلى البصرة. فكان سبب العداوة بينه
وبين عبد الرحمن بن عوف.
ووجه إليه عبد الرحمن
بن عوف بابنه، فقال له قل له: والله لقد بايعتك، وإن في ثلاث خصال أفضلك بهن: إني
حضرت بدراً، ولم تحضرها، وحضرت بيعة الرضوان، ولم تحضرها، وثبت يوم أحد وانهزمت.
فلما أدى ابنه الرسالة إلى عثمان قال له قل له: أما غيبتي عن بدر، فإني أقمت على
بيت رسول الله، فضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمي وأجري، وأما بيعة
الرضوان، فقد صفق لي رسول الله بيمينه على شماله، فشمال رسول الله صلى الله عليه
وسلم خير من أيمانكم، وأما يوم أحد فقد كان ما ذكرت إلا أن الله قد عفا عني. ولقد
فعلنا أفعالا لا ندري أغفرها الله أم لا. وكان عبد الرحمن قد أطلق امرأته تماضر
بنت الأصبغ الكلبية لما اشتدت علته، فورثها عثمان، فصولحت عن ربع الثمن على مائة ألف
دينار، وقيل ثمانين ألف دينار.
وجمع عثمان القرآن
وألفه، وصير الطوال مع الطوال، والقصار مع القصار من السور، وكتب في جمع المصاحف
من الآفاق حتى جمعت، ثم سلقها بالماء الحار والخل، وقيل أحرقها، فلم يبق مصحف إلا
فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود. وكان ابن مسعود بالكوفة، فامتنع أن يدفع مصحفة إلى
عبد الله بن عامر، وكتب إليه عثمان: أن أشخصه، إنه لم يكن هذا الدين خبالاً وهذه
الأمة فساداً. فدخل المسجد وعثمان يخطب، فقال عثمان: إنه قد قدمت عليكم دابة سوء،
فكلمه ابن مسعود بكلام غليظ فأمر به عثمان، فجز برجله حتى كسر له ضلعان، فتكلمت
عائشة، وقالت قولاً كثيراً، وبعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى الكوفة، ومصحف
إلى البصرة، ومصحف إلى المدينة، ومصحف إلى مكة، ومصحف إلى مصر، ومصحف إلى الشام،
ومصحف إلى البحرين، ومصحف إلى اليمن، ومصحف إلى الجزيرة، وأمر الناس أن يقرأوا على
نسخة واحدة.
وكان سبب ذلك أنه
بلغه أن الناس يقولون قرآن آل فلان، فأراد أن يكون نسخة واحدة، وقيل: إن ابن مسعود
كان كتب بذلك إليه، فلما بلغه أنه يحرق المصاحف قال: لم أرد هذا.
وقيل:
كتب إليه بذلك حذيفة
بن اليمان، واعتل ابن مسعود، فأتاه عثمان يعوده، فقال له: ما كلام بلغني عنك؟ قال:
ذكرت الذي فعلته بي، أنك أمرت بي فوطئ جوفي، فلم أعقل صلاة الظهر، ولا العصر،
ومنعتني عطائي. قال: فإني أقيدك من نفسي فافعل بي مثل الذي فعل بك! قال: ما كنت
بالذي أفتح القصاص على الخلفاء. قال: فهذا عطاؤك، فخذه. قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا
غني عنه؟ لا حاجة لي به، فانصرف. فأقام ابن مسعود مغاضباً لعثمان حتى توفي، وصلى
عليه عمار بن ياسر، وكان عثمان غائباً فستر أمره. فلما انصرف رأى عثمان القبر،
فقال: قبر من هذا؟ فقيل: قبر عبد الله بن مسعود. قال: فكيف دفن قبل أن أعلم؟
فقالوا: ولى أمره عمار بن ياسر، وذكر أنه أوصى ألا يخبر به، ولم يلبث إلا يسيرا
حتى مات المقداد، فصلى عليه عمار، وكان أوصى إليه، ولم يؤذن عثمان به، فاشتد غضب
عثمان على عمار، وقال: ويلي على ابن السوداء! أما لقد كنت به عليماً.
وبلغ عثمان أن أبا ذر
يقعد في مسجد رسول الله، ويجتمع إليه الناس، فيحدث بما فيه الطعن عليه، وأنه وقف
بباب المسجد فقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر
الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذي، إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل
عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم، محمد الصفوة من نوح،
فالأول من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من محمد. إنه شرف
شريفهم، واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة وكالكعبة المستورة، أو
كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية، أو كالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو
كالشجر الزيتونية أضاء زيتها، وبورك
زبدها، ومحمد وارث
علم آدم وما فضل به النبيون، وعلي بن أبي طالب وصي محمد، ووارث علمه. أيتها الأمة
المتحيرة بعد نبيها! أما لو قدمتم من قدم الله، وأخرتم من أخر الله، وأقررتم
الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما
عال ولي الله، ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلا وجدتم
علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيه، فأما إذ فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وبال
أمركم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وبلغ عثمان أيضاً أن
أبا ذر يقع فيه، ويذكر ما غير وبدل من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنن أبي
بكر وعمر، فسيره إلى الشام إلى معاوية، وكان يجلس في المسجد، فيقول كما كان يقول،
ويجتمع إليه الناس، حتى كثر من يجتمع إليه ويسمع منه. وكان يقف على باب دمشق، إذا
صلى صلاة الصبح، فيقول: جاءت القطار تحمل النار، لعن الله الآمرين بالمعروف
والتاركين له، ولعن الله الناهين عن المنكر والآتين له.
وكتب معاوية إلى
عثمان: إنك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر، فكتب إليه: أن احمله على قتب بغير
وطاء، فقدم به إلى المدينة، وقد ذهب لحم فخذيه، فلما دخل إليه وعنده جماعة قال:
بلغني أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كملت بنو أمية
ثلاثين رجلاً اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا. فقال: نعم!
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. فقال لهم: أسمعتم رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول ذلك؟ فبعث إلى علي بن أبي طالب، فأتاه، فقال: يا أبا الحسن أسمعت
رسول الله يقول ما حكاه أبو ذر؟ وقص عليه الخبر. فقال علي: نعم! قال: وكيف تشهد ؟
قال: لقول رسول الله: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر.
فلم يقم بالمدينة إلا أياماً حتى أرسل إليه عثمان: والله لتخرجن عنها! قال: أ
تخرجني من حرم رسول الله؟ قال: نعم، وأنفك راغم. قال: فإلى مكة؟ قال: لا!
قال: فإلى البصرة؟
قال: لا! قال: فإلى الكوفة؟ قال: لا! ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت
بها. يا مروان! أخرجه، ولا تدع أحداً يكلمه، حتى يخرج. فأخرجه على جمل ومعه امرأته
وابنته، فخرج وعلي والحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر ينظرون، فلما
رأى أبو ذر علياً قام إليه فقبل يده ثم بكى وقال: إني إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أصبر حتى أبكي! فذهب علي يكلمه فقال له
مروان: إن أمير المؤمنين قد نهى أن يكلمه أحد. فرفع علي السوط فضرب وجه ناقة
مروان، وقال: تنح، نحاك الله إلى النار! ثم شيعة، فكلمه بكلام يطول شرحه، وتكلم كل
رجل من القوم وانصرفوا، وانصرف مروان إلى عثمان، فجرى بينه وبين علي في هذا بعض
الوحشة، وتلاحيا كلاماً، فلم يزل أبو ذر بالربذة حتى توفي.
ولما حضرته الوفاة
قالت له ابنته: إني وحدي في هذا الموضع، وأخاف أن تغلبني عليك السباع. فقال: كلا
إنه سيحضرني نفر مؤمنون، فانظري أترين أحداً؟ فقالت: ما أرى أحداً! قال: ما حضر
الوقت، ثم قال: انظري، هل ترين أحداً؟ قالت: نعم أرى ركباً مقبلين، فقال: الله
أكبر، صدق الله ورسوله، حولي وجهي إلى القبلة، فإذا حضر القوم فأقرئيهم مني
السلام، فإذا فرغوا من أمري، فاذبحي لهم هذه الشاة، وقولي لهم: أقسمت عليكم أن
برحتم حتى تأكلوا، ثم قضى عليه، فأتى القوم، فقالت لهم الجارية: هذا أبو ذر صاحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي، فنزلوا، وكانوا سبعة نفر، فيهم حذيفة بن
اليمان، والأشتر، فبكوا بكاءً شديداً، وغسلوه، وكفنوه، وصلوا عليه، ودفنوه. ثم
قالت لهم: إنه يقسم عليكم ألا تبرحوا حتى تأكلوا! فذبحوا الشاة، وأكلوا، ثم حملوا
ابنته، حتى صاروا بها إلى المدينة. فلما بلغ عثمان وفاة أبي ذر قال:
رحم الله أبا ذر! قال
عمار: نعم! رحم الله أبا ذر من كل أنفسنا، فغلظ ذلك على عثمان. وبلغ عثمان. عن
عمار كلام، فأراد أن يسيره أيضاً، فاجتمعت بنو مخزوم إلى علي بن أبي طالب، وسألوه
إعانتهم، فقال علي: لا ندع عثمان ورأيه. فجلس عمار في بيته، وبلغ عثمان ما تكلمت به بنو مخزوم، فأمسك عنه،
وسير عبد الرحمن بن حنبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
القموس من خيبر، وكان
سبب تسييره إياه أنه بلغه كرهه مساوئ ابنه وخاله، وأنه هجاه.
وكان عثمان جواداً
وصولاً بالأموال، وقدم أقاربه وذوي أرحامه، فسوى بين الناس في الأعطيه وكان الغالب
عليه مروان بن الحكم بن أبي العاص، وأبو سفيان بن حرب، وعلى شرطة عبد الله بن قنفذ
التيمي، وحاجبه حمران ابن أبان مولاه.
ونقم الناس على عثمان
بعد ولايته بست سنين، وتكلم فيه من تكلم، وقالوا: آثر القرباء، وحمى الحمى، وبنى
الدار، واتخذ الضياع والأموال بمال الله والمسلمين، ونفى أبا ذر صاحب رسول الله،
وعبد الرحمن بن حنبل، وآوى الحكم بن أبي العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح طريدي
رسول الله، وأهدر دم الهرمزان، ولم يقتل عبيد الله بن عمر به، وولي الوليد بن عقبة
الكوفة، فأحدث في الصلاة ما أحدث، فلم يمنعه ذلك من إعاذته إياه، وأجاز الرجم،
وذلك أنه كان رجم امرأة من جهينة دخلت على زوجها، فولدت لستة أشهر، فأمر عثمان
برجمها، فلما أخرجت دخل إليه علي بن أبي طالب فقال: إن الله عز وجل يقول:
وحمله وفصاله ثلاثون
شهراً، وقال في رضاعه حولين كاملين، فأرسل عثمان في أثر المرأة، فوجدت قد رجمت
وماتت. واعترف الرجل بالولد.
وقدم عليه أهل
البلدان فتكلموا، وبلغ عثمان أن أهل مصر قدموا عليهم السلاح، فوجه إليهم عمرو بن
العاص وكلمهم، فقال لهم: إنه يرجع إلى ما تحبون، ثم كتب لهم بذلك وانصرفوا، فقال
لعمرو بن العاص: اخرج فأعذرنى عند الناس، فخرج عمرو، فصعد المنبر، ونادى: الصلاة
جامعة، فلما اجتمع الناس حمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر محمداً بما هو أهله، وقال:
بعثه الله رأفة ورحمة، فبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله بالحكمة
والموعظة الحسنة، أفليس ذلك كذلك؟ قالوا: بلى. فجزاه الله خير ما جزى نبيا عن
أمته، ثم قال: وولي من بعده رجل عدل في الرعية، وحكم بالحق، أفليس ذلك كذلك؟
قالوا: بلى! فجزاه الله خيراً. قال: ثم ولي الأعسر الأحول ابن حنتمة، فابدت له
الأرض أفلاذ كبدها، وأظهرت له مكنون كنوزها، فخرج من الدنيا، وما أنبل عصاه، أفليس
ذلك كذلك؟ قالوا: بلى! فجزاه الله خيراً. قال: ثم ولي عثمان، فقلتم، وقال، تلومونه
ويعذر نفسه، أفليس ذلك كذلك؟ قالوا: بلى! قال: فاصبروا له، فإن الصغير يكبر
والهزيل يسمن، ولعل تأخير أمر خير من تقديمه. ثم نزل، فدخل أهل عثمان عليه فقالوا
له: هل عابك أحد بمثل ما عابك به عمرو؟ فلما دخل عليه عمرو قال: يا ابن النابغة!
والله ما زدت إن حرضت الناس علي. قال: والله لقد قلت فيك أحسن ما علمت، ولقد ركبت
من الناس، وركبوها منك، فاعتزل إن لم تعتدل! فقال: يا ابن النابغة قمل درعك مذ
عزلتك عن مصر.
وسار الركب الذين
قدموا من مصر، فلما صاروا في بعض الطريق، إذا براكب على جمل، فأنكروه، ففتشوه،
فوجدوا معه صحيفة من عثمان إلى خليفته عبد الله بن سعد: إذا قدم عليك النفر، فاقطع أيديهم وأرجلهم، فقدموا واتفقوا على
الخروج، وكان من يأخذون عنه محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، وكنانة بن بشر،
وابن عديس البلوي، فرجعوا إلى المدينة، وكان بين عثمان وعائشة منافرة وذلك أنه
نقصها مما كان يعطيها عمر ابن الخطاب، وصيرها أسوة غيرها من نساء رسول الله، فإن
عثمان يوماً ليخطب إذ دلت عائشة قميص رسول الله، ونادت: يا معشر المسلمين! هذا
جلباب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبل، وقد أبلى عثمان سنته! فقال عثمان: رب
اصرف عني كيدهن إن كيدهن عظيم.
وحصر ابن عديس البلوي
عثمان في داره، فناشدهم الله، ثم نشد مفاتيح الخزائن، فأتوا بها إلى طلحة بن عبيد
الله، وعثمان محصور في داره، وكان أكثر من يؤلب عليه طلحة والزبير وعائشة، فكتب
إلى معاوية يسأل تعجيل القدوم عليه، فتوجه إليه في اثني عشر ألفاً، ثم قال: كونوا
بمكانكم في أوائل الشام، حتى آتي أمير المؤمنين لأعرف صحة أمره، فأتى عثمان، فسأله
عن المدة، فقال: قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم فأجيئك بهم. قال: لا والله، ولكنك
أردت أن أقتل فتقول: أنا ولي الثأر. ارجع، فجئني بالناس! فرجع، فلم يعد إليه حتى
قتل.
وصار مروان إلى
عائشة، فقال: يا أم المؤمنين! لو قمت فأصلحت بين هذا الرجل وبين الناس، قالت قد
فرغت من جهازي، وأنا أريد الحج. قال: فيدفع إليك بكل درهم أنفقته درهمين، قالت:
لعلك ترى أني في شك من صاحبك؟ أما والله لوددت أنه مقطع في غرارة من غرائري، وإني
أطيق حمله، فأطرحه في البحر.
وأقام عثمان محاصراً
أربعين يوماً. وقتل لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثون، وهو ابن
ثلاث وثمانين سنة، وقيل ست وثمانين سنة، وكان الذين تولوا قتله: محمد بن أبي بكر،
ومحمد بن أبي حذيفة، وابن حزم، وقيل كنانة بن بشر التجيبي، وعمرو بن الحمق
الخزاعي، وعبد الرحمن ابن عديس البلوي، وسودان بن حمران، وأقام ثلاثاً لم يدفن،
وحضر دفنه حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، وحويطب بن عبد العزى، وعمرو بن عثمان
ابنه. ودفن بالمدينة ليلاً في موضع يعرف بحش كوكب، وصلى عليه هؤلاء الأربعة. وقيل
لم يصل عليه، وقيل أحد الأربعة قد صلى عليه، فدفن بغير صلاة.
وكانت أيامه اثنتي
عشرة سنة، وحج عثمان بالناس أيامه كلها إلا السنة الأولى، وهي سنة أربع وعشرون،
فإنه حج بالناس عبد الرحمن بن عوف، والسنة التي قتل فيها، فإنه حج بالناس عبد الله
بن عباس، وهي سنة خمس وثلاثون، وكان له من الولد الذكور سبعة: عمرو وعمر وخالد
وأبان والوليد وسعيد وعبد الملك.
صفة عثمان بن عفان:
وكان عثمان بن عفان مربوعاً، حسن الوجه، رقيق البشرة، كثير اللحية، عظيمها، أسمر،
عظيم الكرادس، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، أسنانه مشدودة بالذهب، يصفر
لحيته.
وكان عمال عثمان: على
اليمن يعلى بن منية التميمي. وعلى مكة عبد الله بن عمرو الحضرمي، وعلى همذان جرير
بن عبد الله البجلي. وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي، وعلى الكوفة أبا موسى
الأشعري، وعلى البصرة عبد الله بن عامر بن كريز، وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي
سرح. وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان بن حرب.
وكان الفقهاء في أيام
عثمان أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن
ثابت، وأبا موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وأبا الدرداء، وأبا سعيد الخدري،
وعبد الله بن عمر، وسلمان بن ربيعة الباهلي.
؟
خلافة أمير المؤمنين
علي بن أبي طالبواستخلف علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، وأمه فاطمة بنت أسد بن
هاشم بن عبد مناف، يوم الثلاثاء لسبع ليال بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثون، ومن
شهور العجم في حزيران، وكانت الشمس يومئذ في الجوزاء ستا وعشرين درجة وأربعين
دقيقة، والقمر في الدلو ثماني عشرة درجة وأربعين دقيقة، وزحل في السنبلة خمساً
وعشرين درجة، والمريخ في الجدي سبع درجات... بايعه طلحة والزبير والمهاجرون
والأنصار، وكان أول من بايعه وصفق على يده طلحة بن عبيد الله، فقال رجل من بني
أسد: أول يد بايعت يد شلاء، أو يد ناقصة، وقام الأشتر فقال: أبايعك يا أمير
المؤمنين على أن علي بيعة أهل الكوفة، ثم قام طلحة والزبير فقالا: نبايعك يا أمير
المؤمنين على أن علينا بيعة المهاجرين، ثم قام أبو الهيثم بن التيهان وعقبة بن
عمرو وأبو أيوب، فقالوا: نبايعك على أن علينا بيعة الأنصار، وسائر قريش.
وبايع الناس إلا
ثلاثة نفر من قريش: مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة، وكان لسان
القوم. فقال: يا هذا إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر، وأما
سعيد فقتلت أباه يوم بدر، وكان أبوه من نور قريش، وأما مروان فشتمت أباه وعبت على
عثمان حين ضمه إليه... على ذلك بنو عبد مناف، فتبايعنا على أن تضع عنا ما أصبنا
وتعفي لنا عما في أيدينا، وتقتل قتله صاحبنا. فغضب علي وقال: أما ما ذكرت من وتري
إياكم، فألحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم، فليس لي أن أضع حق الله تعالى، وأما
إعفائي عما في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم، وأما قتلى قتلة عثمان،
فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غدا، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنة
نبيه، فمن ضاق عليه الحق، فالباطل عليه أضيق، وإن شئتم فألحقوا بملاحقكم. فقال
مروان: بل نبايعك، ونقيم معك، فترى ونرى.
وقام قوم من الأنصار
فتكلموا، وكان أول من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، وكان خطيب الأنصار،
فقال: والله، يا أمير المؤمنين، لئن كانوا تقدموك في الولاية فما تقدموك في الدين،
ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك، ولا يجهل
مكانك، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون، وما احتجت إلى أحد مع علمك.
ثم قام خزيمة بن ثابت
الأنصاري، وهو ذو الشهادتين، فقال: يا أمير المؤمنين! ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك، ولا كان المنقلب إلا إليك، ولئن صدقنا
أنفسنا فيك، فلأنت أقدم الناس إيماناً، وأعلم الناس بالله، وأولى المؤمنين برسول
الله، لك ما لهم، وليس لهم ما لك.
وقام صعصعة بن صوحان
فقال: والله، يا أمير المؤمنين، لقد زينت الخلافة وما زانتك، ورفعتها وما رفعتك،
ولهي إليك أحوج منك إليها. ثم قام مالك بن الحارث الأشتر فقال: أيها الناس، هذا
وصي الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، العظيم البلاء، الحسن الغناء، الذي شهد له كتاب
الله بالإيمان، ورسوله بجنة الرضوان. من كملت فيه الفضائل، ولم يشك في سابقته
وعلمه وفضله الأواخر، ولا الأوائل.
ثم قام عقبة بن عمرو
فقال: من له يوم كيوم العقبة وبيعة كبيعة الرضوان، والإمام الهدى الذي لا يخاف
جوره، والعالم الذي لا يخاف جهله.
وعزل على عمال عثمان
عن البلدان خلا أبي موسى الأشعري، كلمه فيه الأشتر، فأقره، وولي قثم بن العباس
مكة، وعبيد الله بن العباس اليمن، وقيس بن سعد بن عبادة مصر، وعثمان بن حنيف
الأنصاري البصرة. وأتاه طلحة والزبير فقالا: إنه قد نالتنا بعد رسول الله جفوة،
فأشركنا في أمرك! فقال: أنتما شريكاي في القوة والاستقامة، وعوناي على العجز
والأود. وروى بعضهم أنه ولي طلحة اليمن، والزبير اليمامة والبحرين، فلما دفع
إليهما عهديهما قالا له: وصلتك رحم! قال: وإنما وصلتكما بولاية أمور المسلمين.
واسترد العهد منهما، فعتبا من ذلك، وقالا: آثرت علينا! فقال: لو لا ما ظهر من
حرصكما لقد كان لي فيكما رأي.
وروى بعضهم أن
المغيرة بن شعبة قال له: يا أمير المؤمنين! أنفذ طلحة إلى اليمن، والزبير إلى
البحرين، واكتب بعهد معاوية على الشام، فإذا استقامت الأمور، فشأنك وما تريده
فيهم! فأجابه في ذلك بجواب، فقال المغيرة: والله ما نصحت له قبلها، ولا أنصح له
بعدها.
وكانت عائشة بمكة،
خرجت قبل أن يقتل عثمان، فلما قضت حجها انصرفت راجعة، فلما صارت في بعض الطريق
لقيها ابن أم كلاب، فقالت له: ما فعل عثمان؟ قال: قتل! قالت: بعدا وسحقا! قالت: فمن بايع الناس؟ قال: طلحة. قالت: أيها ذو
الإصبع. ثم لقيها آخر، فقالت: ما فعل الناس؟ قال: بايعوا علياً. قالت: والله
ما كنت أبالي أن تقع هذه على هذه. ثم رجعت إلى مكة، وأقام علي أياماً، ثم أتاه
طلحة والزبير فقالا: إنا نريد العمرة، فأذن لنا في الخروج.
وروى بعضهم أن علياً
قال لهما، أو لبعض أصحابه: والله ما أرادا العمرة، ولكنهما أرادا الغدرة. فلحقا
عائشة بمكة فحرضاها على الخروج، فأتت أم سلمة بنت أبي أمية، زوج رسول الله، فقالت:
إن ابن عمي وزوج أختي أعلماني أن عثمان قتل مظلوماً، وأن أكثر الناس لم يرض ببيعة
علي، وأن جماعة ممن بالبصرة قد خالفوا، فلو خرجت بنا لعل الله أن يصلح أمر أمه
محمد على أيدينا؟ فقالت لها أم سلمة: إن عماد الدين لا يقام بالنساء، حماديات
النساء غض الأبصار، وخفض الأطراف، وجر الذيول. إن الله وضع عني وعنك هذا، ما أنت
قائلة لو أن رسول الله عارضك بأطراف الفلوات قد هتكت حجابا قد ضربه عليك؟ فنادى
مناديها: إلا إن أم المؤمنين مقيمة، فأقيموا.
وأتاها طلحة والزبير
وأزالاها عن رأيها، وحملاها على الخروج، فسارت إلى البصرة مخالفة على علي، ومعها
طلحة والزبير في خلق عظيم، وقدم يعلى بن منية بمال من مال اليمن قيل: إن مبلغه
أربعمائة ألف دينار، فأخذه منه طلحة والزبير، فاستعانا به، وسارا نحو البصرة.
ومر القوم في الليل
بماء يقال له: مر الحوأب، فنبحتهم كلابه، فقالت عائشة: ما هذا الماء؟ قال بعضهم:
ماء الحوأب. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! ردوني ردوني! هذا الماء الذي قال لي
رسول الله: لا تكوني التي تنبجك كلاب الحوأب. فأتاها القوم بأربعين رجلاً، فأقسموا بالله أنه ليس بماء الحوأب.
وقدم القوم البصرة،
وعامل علي عثمان بن حنيف، فمنعها ومن معها من الدخول، فقالا: لم نأت لحرب، وإنما
جئنا لصلح، فكتبوا بينهم وبينه كتابا انهم لا يحدثون حدثاً إلى قدوم علي، وأن كل
فريق منهم آمن من صاحبه، ثم افترقوا، فوضع عثمان بن حنيف السلاح، فنتفوا لحيته
وشاربه وأشفار عينيه وحاجبيه، وانتهبوا بيت المال، وأخذوا ما فيه، فلما حضر وقت
الصلاة تنازع طلحة والزبير، وجذب كل واحد منهما صاحبه، حتى فات وقت الصلاة، وصاح
الناس: الصلاة الصلاة يا أصحاب محمد! فقالت عائشة: يصلي محمد بن طلحة يوماً
وعبد الله بن الزبير يوماً، فاصطلحوا على ذلك. فلما أتى علياً الخبر سار إلى
البصرة، واستخلف على المدينة أبا حسن بن عبد عمرو، أحد بني النجار، وخرج من
المدينة، ومعه أربعمائة راكب من أصحاب رسول الله، فلما صاروا إلى أرض أسد وطئ تبعه
منهم ستمائة، ثم صار إلى ذي قار، ووجه الحسن وعمار بن ياسر، فاستنفر أهل الكوفة،
وعامله يومئذ على الكوفة أبو موسى الأشعري، فخذل الناس عنه، فوافاه منهم ستة آلاف
رجل، ولقيه عثمان بن حنيف فقال: يا أمير المؤمنين، وجهتني ذا لحية فأتيتك أمرد!
وقص عليه القصة.
ثم قدم أمير المؤمنين
البصرة، وكانت وقعة الجمل بموضع يقال له الخريبة في جمادى الأولى سنة ست وثلاثون.
وخرج طلحة والزبير فيمن معهما، فوقفوا على مصافهم، فأرسل إليهم علي: ما تطلبون وما
تريدون؟ قالوا: نطلب بدم عثمان! قال علي: لعن الله قتلة عثمان! واصطف أصحاب علي، فقال لهم: لا ترموا
بسهم، ولا تطعنوا برمح، ولا تضربوا بسيف... أعذروا.
فرمى رجل من عسكر
القوم بسهم، فقتل رجلاً من أصحاب أمير المؤمنين، فأتى به إليه، فقال: اللهم اشهد،
ثم رمى آخر، فقتل رجلاً من أصحاب علي، فقال: اللهم اشهد، ثم رمى رجل آخر، فأصاب
عبد الله بن بديل ابن ورقاء الخزاعي فقتله، فأتى به أخوه عبد الرحمن يحمله، فقال
علي: اللهم اشهد، ثم كانت الحرب، وأطافت بنو ضبة بالجمل، وكانت تحمل الراية، فقتل
منهم ألفان، وحفت به الأزد، فقتل منهم ألفان وسبعمائة. وكان لا يأخذ خطام الجمل
أحد إلا سالت نفسه، فقتل طلحة بن عبيد الله في المعركة، رماه مروان بن الحكم بسهم
فصرعه، وقال: لا أطلب والله بعد اليوم بثأر عثمان، وأنا قتلته، فقال طلحة لما سقط:
تالله ما رأيت كاليوم، قط، شيخا من قريش أضيع مني! إني والله ما وقفت موقفا قط إلا
عرفت موضع قدمي فيه، إلا هذا الموقف. وقال علي بن أبي طالب للزبير: يا أبا عبد
الله، ادن إلي أذكرك كلاماً سمعته أنا وأنت من رسول الله! فقال الزبير لعلي: لي
الأمان؟ قال علي: عليك الأمان، فبرز إليه فذكره الكلام، فقال: اللهم إني ما ذكرت
هذا إلا هذه الساعة، وثنى عنان فرسه لينصرف، فقال له عبد الله: إلى أين؟ قال:
ذكرني علي كلاماً قاله رسول الله. قال: كلا، ولكنك رأيت سيوف بني هاشم حداداً تحملها شداد. قال: ويلك!
ومثلي يعير بالجبن؟ هلم إلى الرمح. وأخذ الرمح وحمل على أصحاب علي، فقال علي:
افرجوا للشيخ، إنه
محرج، فشق الميمنة والميسرة والقلب ثم رجع فقال لابنه: لا أم لك! أيفعل هذا جبان؟ وانصرف، فاجتاز بالأحنف بن قيس، فقال: ما
رأيت مثل هذا، أتى بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوقها، فهتك عنها حجاب
رسول الله، وستر حرمته في بيته، ثم أسلمها وانصرف. ألا رجل يأخذ لله منه!
فاتبعه عمرو بن جرموز
التميمي، فقتله بموضع يقال له وادي السباع، وكانت الحرب أربع ساعات من النهار،
فروى بعضهم أنه قتل في ذلك اليوم نيف وثلاثون ألفاً.
ثم نادى منادي علي:
ألا لا يجهز على جريح، ولا يتبع مول، ولا يطعن في وجه مدبر، ومن ألقى السلاح فهو
آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. ثم آمن الأسود والأحمر، ووجه ابن عباس إلى عائشة
يأمرها بالرجوع، فلما دخل عليها ابن عباس قالت: أخطأت السنة يا ابن عباس مرتين، دخلت بيتي بغير أذني، وجلست على متاعي
بغير أمري. قال: نحن علمنا إياك السنة، إن هذا ليس ببيتك، بيتك الذي خلفك رسول
الله صلى الله عليه وسلم به، وأمرك القرآن أن تقري فيه. وجرى بينهما كلام موضعه في
غير هذا من الكتاب.
وأتاها علي، وهي في
دار عبد الله بن خلف الخزاعي وابنه المعروف بطلحة الطلحات، فقال: أيها يا حميراء!
ألم تنتهي عن هذا المسير؟ فقالت: يا ابن أبي طالب! قدرت فاسجح! فقال: اخرجي إلى المدينة، وارجعي إلى بيتك الذي أمرك رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن تقري فيه. قالت: أفعل. فوجه معها سبعين امرأة من عبد
القيس في ثياب الرجال، حتى وافوا بها المدينة، وأعطى الناس بالسوية لم يفضل أحداً
على أحد، وأعطى الموالي كما أعطى الضلبية، وقيل له في ذلك، فقال: قرأت ما بين
الدفتين، فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضل هذا، وأخذ عودا من الأرض، فوضعه
بين إصبعيه.
ولما فرغ من حرب
أصحاب الجمل، وجه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى خراسان، وقدم عليه ماهويه
مرزبان مرو، فكتب له كتاباً، وأنفذ له شروطه، وأمره أن يحمل من الخراج ما كان وظفه
عليه، فحمل إليه مالا على الوظيفة المتقدمة.
وخرج علي من البصرة
متوجهاً إلى الكوفة، وقدم الكوفة في رجب سنة ست وثلاثون، وكان جرير بن عبد الله على
همذان، فعزله، فقال لعلي: وجهني إلى معاوية، فإن جل من معه قومي، فلعلي أجمعهم على
طاعتك! فقال له الأشتر: يا أمير المؤمنين! لا تبعثه، فإن هواه هواهم. فقال: دعه
يتوجه، فإن نصح كان ممن أدى أمانته، وإن داهن كان عليه وزر من اؤتمن ولم يؤد
الأمانة، ووثق به فخالف الثقة. ويا ويحهم مع من يميلون ويدعونني، فو الله ما
أردتهم إلا على إقامة حق، ولا يريدهم غيري إلا على باطل. فقدم جرير على معاوية،
وهو جالس، والناس حوله، فدفع إليه كتاب علي، فقرأه، ثم قام جرير فقال: يا أهل
الشام! إنه من لم ينفعه القليل لم ينفعه الكثير، وقد كانت بالبصرة ملحمة لن يشفع
البلاء بمثلها، فلا بقاء للإسلام، فاتقوا الله يا أهل الشام، ورووا في علي ومعاوية
خيراً، فانظروا لأنفسكم، ولا يكونن أحد أنظر لها منكم. ثم سكت، وصمت معاوية، فلم
ينطق، فقال: أبلعني ريقي يا جرير.
وبعث معاوية من ليلته
إلى عمرو بن العاص أن يأتيه وكتب إليه: أما بعد، فإنه قد كان من أمر علي وطلحة
والزبير وعائشة ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة، وقدم على
جرير بن عبد الله في بيعة علي، وحبست نفسي عليك حتى تأتيني، فاقدم على بركة الله
تعالى. فلما انتهى الكتاب إليه دعا ابنيه عبد الله ومحمداً، فاستشارهما، فقال له
عبد الله: أيها الشيخ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو عنك راض، ومات أبو
بكر وعمر وهما عنك راضيان، فإنك إن تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها مع معاوية
فتضجعان غدا في النار، ثم قال لمحمد: ما ترى؟ قال: بادر هذا الأمر، فكن فيه رأساً
قبل أن تكون ذنباً، فأنشأ يقول:
تطاول ليلي للهموم
الطوارق، ... وخوف التي تجلو وجوه العواتق
فإن ابن هند سألني أن
أزوره، ... وتلك التي فيها بنات البوائق
أتاه جرير من علي
بخطة ... أمرت عليه العيش مع كل دانق
فإن نال منه ما يؤمل
رده، ... فإن لم ينله ذل ذل المطابق
فو الله ما أدري،
وإني لهكذا ... أكون، ومهما قادني، فهو سائقي
أأخدعه، فالخدع فيه
دنية، ... أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق
أم أجلس في بيتي، وفي
ذاك راحة ... لشيخ يخاف الموت في كل شارق
وقد قال عبد الله
قولاً تعلقت ... به النفس، إن لم يعتقلني عوائقي
وخالفه فيه أخوه
محمد، ... وإني لصلب العود عند الحقائق
فلما سمع عبد الله
شعره قال: بال الشيخ على عقبيه، وباع دينه بدنياه، فلما أصبح دعا وردان مولاه فقال
له: ارحل يا وردان، ثم قال حط يا وردان، فحط ورحل ثلاث مرات، فقال وردان: لقد خلطت
أبا عبد الله، فإن شئت أخبرتك بما في نفسك. قال: هات! قال: اعترضت الدنيا والآخرة
على قلبك، فقلت: علي معه آخرة بلا دنيا، ومعاوية معه دنيا بلا آخرة، وليس في
الدنيا عوض من الآخرة، فلست تدري أيهما تختار. قال: لله درك ما أخطأت مما في نفسي
شيئاً، فما الرأي يا وردان؟ قال: الرأي أن تقيم في منزلك، فإن ظهر أهل الدين عشت
في عفو دينهم، وإن ظهر
أهل الدنيا لم يستغن
عنك. قال عمرو: الآن، وقد شهرتنى العرب بمسيري إلى معاوية، ارحل يا وردان! ثم أنشأ
يقول:
يا قاتل الله وردان
وفطنته، ... أبدى لعمرك ما في الصدر وردان
فقدم على معاوية،
فذاكره أمره، فقال له: أما علي، فو الله لا تساوي العرب بينك وبينه في شيء من
الأشياء، وإن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من قريش إلا أن تظلمه. قال: صدقت، ولكنا
نقاتله على ما في أيدينا، ونلزمه قتل عثمان. قال عمرو: واسوءتاه! إن أحق الناس ألا
يذكر عثمان لا أنا ولا أنت. قال: ولم ويحك؟ قال: أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام
حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي، فسار إليه، وأما أنا فتركته عياناً، وهربت إلى
فلسطين. فقال معاوية: دعني من هذا! مد يدك فبايعني! قال: لا، لعمر الله، لا أعطيك
ديني حتى آخذ من دنياك. قال له معاوية: لك مصر طعمة، فغضب مروان بن الحكم وقال: ما
لي لا استشار؟ فقال معاوية: اسكت، فإنما يستشار بك. فقال له معاوية: يا أبا عبد
الله! بت عندنا الليلة، وكره أن يفسد عليه الناس، فبات عمرو، وهو يقول:
معاوي لا أعطيك ديني،
ولم أنل ... به منك دنيا، فانظرن كيف تصنع
فإن تعطني مصراً
فاربح بصفقة ... أخذت بها شيخاً يضر وينفع
وما الدين والدنيا
سواء، وإنني ... لأخذ ما أعطي، ورأسي مقنع
ولكنني أعطيك هذا،
وإنني ... لأخدع نفسي، والمخادع يخدع
أأعطيك أمراً فيه
للملك قوة، ... وأبقى له، إن زلت النعل أخدع
وتمنعني مصراً، وليست
برغبة ... وإن ثري القنوع يوماً لمولع
فكتب له بمصر شرطاً،
وأشهد له شهوداً، وختم الشرط، وبايعه عمرو، وتعاهدا على الوفاء. واحتال معاوية
لقيس بن سعد بن عبادة عامل علي على مصر، فجعل يكاتبه رجاء أن يستميله، وكتب إليه
قيس بن سعد: من قيس بن سعد إلى معاوية بن صخر: أما بعد، فإنما أنت وثن من أوثان مكة دخلت في الإسلام كارها، وخرجت
منه طائعا. وكتب معاوية إلى سعد بن أبي وقاص: إن أحق الناس بنصر عثمان أهل الشورى
من قريش، الذين أثبتوا حقه، واختاروه على غيره، وقد نصرة طلحة والزبير، وهما
شريكاك في الأمر ونظيراك في الإسلام، وخفت لذلك أم المؤمنين، ولا تكرهن ما رضوا،
ولا تردن ما قبلوا! فكتب إليه سعد: أما بعد، فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من تحل
له الخلافة، فلم يكن أحد منا أحق بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه، غير أن علياً
قد كان فيه ما فينا، ولم يكن فينا ما فيه، وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما كان
خيراً لهما، والله يغفر لأم المؤمنين.
وبلغ علياً أن معاوية
قد استعد للقتال، واجتمع معه أهل الشام، فسار علي في المهاجرين والأنصار، حتى أتى
المدائن، فلقيه الدهاقين بالهدايا، فردها، فقالوا: ولم ترد علينا، يا أمير
المؤمنين؟ قال: نحن أغنى منكم بحق أحق بأن نفيض عليكم، ثم صار إلى الجزيرة، فلقيه
بطون تغلب والنمر بن قاسط، فسار معه منهم خلق عظيم، ثم سار إلى الرقة، وجل أهلها
العثمانية الذين هربوا من الكوفة إلى معاوية، فغلقوا أبوابها، وتحصنوا، وكان
أميرهم سماك ابن مخرمة الأسدي، فغلقوا دونه الباب، فصار إليهم الأشتر مالك بن
الحارث النخعي، فقال: والله لتفتحن، أو لأضعن فيكم السيف! ففتحوا، وأقام بها أمير
المؤمنين يومه.
ثم عبر إلى الجانب
الشرقي من الفرات، حتى صار إلى صفين، وقد سبق معاوية إلى الماء ووسعه المناخ، فلما
وافى علي وأصحابه لم يصلوا إلى الماء، فتوسل الناس إلى معاوية، وقالوا: لا تقتل
الناس عطشا، فيهم العبد والأمة والأجير. فأبى معاوية، وقال: لا سقاني الله، ولا
أبا سفيان من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شربوا منه أبداً. فوجه علي
الأشتر والأشعث في الخيل، والأشعث ابن قيس في الرجالة، وكانت خيل معاوية مع أبي
الأعور
السلمي، فقاتله أصحاب
علي حتى صارت سنابك الخيل في الفرات، وغلبوا على المشرعة، وكان الواقف عليها عبد
الله بن الحارث أخو الأشتر، فلما غلب علي على المشرعة قال أصحاب معاوية: إنه لا
قوام لنا وقد أخذ علي الماء! فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إن علياً لا يستحل منك
ومن أصحابك ما استحللت منه ومن أصحابه، فأطلق علي الماء. وكان ذلك في ذي الحجة سنة
ست وثلاثون.
ثم وجه علي إلى
معاوية يدعوه ويسأله الرجوع، وألا يفرق الأمة بسفك الدماء، فأبى إلا الحرب، فكانت
الحرب في صفين سنة سبع وثلاثون، وأقامت بينهم أربعين صباحاً.
وكان مع علي يوم صفين
من أهل بدر سبعون رجلاً، وممن بايع تحت الشجرة سبعمائة رجل، ومن سائر المهاجرين
والأنصار أربعمائة رجل، ولم يكن مع معاوية من الأنصار إلا النعمان بن بشير، ومسلمة
بن مخلد، وصدقت نيات أصحاب علي في القتال، وقام عمار بن ياسر، فصاح في الناس،
فاجتمع إليه خلق عظيم، فقال: والله إنهم لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق،
وانهم على الباطل. ثم قال: ألا هل من رائح إلى الجنة؟ فتبعه خلق، فضرب حول سرادق
معاوية، فقاتل القوم قتالاً وقتل عمار بن ياسر، واشتدت الحرب في تلك العشية، ونادى
الناس: قتل صاحب رسول الله، وقد قال رسول الله: تقتل عماراً الفئة الباغية.
وزحف أصحاب علي
وظهروا على أصحاب معاوية ظهوراً شديداً، حتى لصقوا به، فدعا معاوية بفرسه لينجو
عليه، فقال له عمرو بن العاص: إلى أين؟ قال: قد نزل ما ترى، فما عندك؟ قال: لم يبق
إلا حيلة واحدة، أن ترفع المصاحف، فتدعوهم إلى ما فيها، فتستكفهم وتكسر من حدهم،
وتفت في أعضادهم. قال معاوية: فشأنك! فرفعوا المصاحف، ودعوهم إلى التحكم بما فيها، وقالوا: ندعوكم إلى كتاب
الله. فقال علي: أنها مكيدة، وليسوا بأصحاب قرآن فاعترض الأشعث بن قيس الكندي، وقد
كان معاوية استماله، وكتب إليه ودعاه إلى نفسه، فقال: قد دعا القوم إلى الحق! فقال
علي: إنهم إنما كادوكم، وأرادوا صرفكم عنهم. فقال الأشعث: والله لئن لم تجبهم
انصرفت عنك. ومالت اليمانية مع الأشعث، فقال الأشعث: والله لتجيبنهم إلى ما دعوا
إليه، أو لندفعنك إليهم برمتك، فتنازع الأشتر والأشعث في هذا كلاما عظيما، حتى كاد
أن يكون الحرب بينهم، وحتى خاف علي أن يفترق عنه أصحابه. فلما رأى ما هو فيه
أجابهم إلى الحكومة، وقال علي: أرى أن أوجه بعبد الله بن عباس. فقال الأشعث: إن
معاوية يوجه بعمرو بن العاص، ولا يحكم فينا مضريان، ولكن توجه أبا موسى الأشعري،
فإنه لم يدخل في شيء من الحرب. وقال علي: إن أبا موسى عدو، وقد خذل الناس عني
بالكوفة، ونهاهم أن يخرجوا معي قالوا: لا نرضى بغيره. فوجه علي أبا موسى على علمه
بعداوته له ومداهنته فيما بينه وبينه، ووجه معاوية عمرو بن العاص، وكتبوا كتابين
بالقضية: كتابا من علي بخط كاتبه عبد الله بن أبي رافع، وكتابا من معاوية بخط
كاتبه عمير بن عباد الكناني، واختصموا في تقديم علي أو تسمية علي بامره المؤمنين،
فقال أبو الأعور السلمي: لا نقدم علياً، وقال أصحاب علي: ولا نغير اسمه ولا نكتب
إلا بامره المؤمنين، فتنازعوا على ذلك منازعة شديدة حتى تضاربوا بالأيدي، فقال
الأشعث: امحوا هذا الاسم! فقال له الأشتر: والله يا أعور لهممت أن أملأ سيفي منك، فلقد قتلت قوما ما هم شر منك،
وإني أعلم أنك ما تحاول إلا الفتنة، وما تدور إلا على الدنيا وإيثارها على الآخرة.
فلما اختلفوا قال علي: الله أكبر! قد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الحديبية لسهيل بن عمرو: هذا ما صالح رسول الله، فقال سهيل: لو علمنا أنك رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما قاتلناك. فمحا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه
بيده، وأمرني فكتبت: من محمد بن عبد الله، وقال: إن اسمي واسم أبي لا يذهبان
بنبوتي، وكذلك كتبت الأنبياء، كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآباء،
وإن اسمي واسم أبي لا يذهبان بإمرتي، وأمرهم فكتبوا: من علي بن أبي طالب، وكتب
كتاب القضية على الفريقين يرضون بذلك بما أوجبه كتاب الله، واشترط على الحكمين في
الكتابين أن يحكما بما في كتاب الله من فاتحته إلى
خاتمته لا يتجاوزان
ذلك، ولا يحيدان عنه إلى هوى، ولا ادهان، وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق، فإن
هما جاوزا بالحكم كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته، فلا حكم لهما.
ووجه علي بعبد الله
بن عباس في أربعمائة من أصحابه ونفذ معاوية أربعمائة من أصحابه، واجتمعوا بدومة
الجندل في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثون. فخدع عمرو بن العاص أبا موسى، وذكر له
معاوية فقال: هو ولي ثار عثمان وله شرفة في قريش، فلم يجد عنده ما يحب، قال: فابني
عبد الله؟ قال: ليس بموضع لذلك. قال: فعبد الله بن عمر؟ قال: إذا يحيى سنة عمر، الآن حيث به. فقال:
فاخلع علياً وأخلع أنا معاوية، ويختار المسلمون.
وقدم عمرو أبا موسى
إلى المنبر فلما رآه عبد الله بن عباس قام إلى عبد الله ابن قيس، فدنا منه، فقال:
إن كان عمرو فارقك على شيء، فقدمه قبلك، فإنه غدر. فقال: لا، قد اتفقنا على أمر، فصعد المنبر، فخلع علياً، ثم صعد عمرو
بن العاص فقال: قد ثبت معاوية كما ثبت خاتمي هذا في يدي. فصاح به أبو موسى:
غدرت يا منافق، إنما
مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. قال عمرو: إنك مثلك مثل الحمار
يحمل أسفاراً.
وتنادى الناس: حكم
والله الحكمان بغير ما في الكتاب، والشرط عليهما غير هذا. وتضارب القوم بالسياط، وأخذ قوم بشعور بعض، وافترق الناس ونادت
الخوارج: كفر الحكمان، لا حكم إلا لله. وقيل: أول من نادى بذلك عروة بن أدية
التميمي قبل أن يجتمع الحكمان، وكانت الحكومة في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثون. قال
ابن الكلبي: أخبرني عبد الرحمن بن حصين بن سويد... قال: إني لأساير أبا موسى
الأشعري على شاطئ الفرات، وهو إذ ذاك عامل لعمر، فجعل يحدثني، فقال:
إن بني إسرائيل لم
تزل الفتن ترفعهم وتخفضهم أرضا بعد أرض، حتى حكموا ضالين أضلا من اتبعهما. قلت:
فإن كنت يا أبا موسى أحد الحكمين، قال فقال لي: إذا لا ترك الله لي في السماء مصعداً، ولا في الأرض مهربا إن كنت أنا
هو. فقال سويد: لربما كان البلاء موكلاً بالمنطق. ولقيته بعد التحكيم، فقلت: إن
الله إذا قضى أمراً لم يغالب.
وانصرف علي إلى
الكوفة، فلما قدمها قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! إن أول وقوع الفتن هوى يتبع، وأحكام تبتدع، يعظم فيها
رجال رجالاً، يخالف فيها حكم الله، ولو أن الحق أخلص فعمل به لم يخف على ذي حجى
ولكن يؤخذ ضغث من ذا وضغث من ذا، فيخلط فيعمل به، فعند ذلك يستولي الشيطان على
أوليائه وينجو الذين سبقت لهم منا الحسنى.
وصارت الخوارج إلى
قرية يقال لها حروراء بينها وبين الكوفة نصف فرسخ، وبها سموا الحرورية، ورئيسهم
عبد الله بن وهب الراسبي، وابن الكوا، وشبث بن ربعي، فجعلوا يقولون: لا حكم إلا
لله، فإذا بلغ علياً ذلك قال: كلمة حق أريد بها باطل. ثم خرجوا في ثمانية آلاف، وقيل:
في اثني عشر ألفاً، فوجه إليهم علي عبد الله بن عباس، فكلمهم، واحتجوا عليه، فخرج
إليهم علي فقال: أتشهدون علي بجهل؟ قالوا: لا! قال: فتنفذون أحكامي؟ قالوا: نعم!
قال: فارجعوا إلى كوفتكم حتى نتناظر، فرجعوا من عند آخرهم، ثم جعلوا يقومون
فيقولون: لا حكم إلا لله، فيقول علي: حكم الله أنتظر فيكم. وخرجوا من الكوفة،
فوثبوا على عبد الله ابن خباب بن الأرت، فقتلوه وأصحابه، فخرج إليهم علي، فناشدهم
الله، ووجه إليهم عبد الله بن عباس، فقال: يا ابن عباس قل لهؤلاء الخوارج ما نقمتم
على أمير المؤمنين؟ أ لم يحكم فيكم بالحق، ويقيم فيكم العدل، ولم يبخسكم شيئاً من
حقوقكم؟ فناداهم عبد الله بن عباس بذلك، فقالت طائفة منهم: والله لا نجيبه. وقالت الأخرى: والله لنجيبنه ثم لنخصمنه، نعم، يا ابن
عباس، نقمنا على علي خصالا كلها موبقة لو لم نخصمه منها إلا بخصلة خصمناه، محا
اسمه من أمره أمير المؤمنين يوم كتب إلى معاوية، ورجعنا عنه يوم صفين، فلم يضربنا
بسيفه حتى نفيء إلى الله، وحكم الحكمين، وزعم أنه وصى، فضيع الوصية، وجئتنا يا ابن
عباس في حلة حسنة جميلة تدعونا إلى مثل ما يدعونا إليه؟
فقال ابن عباس: قد
سمعت، يا أمير المؤمنين، مقالة القوم، وأنت أحق بالجواب. فقال:
حججتهم والذي فلق
الحبة وبرأ النسمة، قل لهم: أ لستم راضين بما في كتاب الله، وبما فيه من أسوة رسول
الله؟ قالوا: بلى! قال: فعلي بذلك أرضي. كتب كاتب رسول الله يوم الحديبية، إذ كتب
إلى سهيل ابن عمرو وصخر بن حرب ومن قبلهما من المشركين: من محمد رسول الله، فكتبوا
إليه: لو علمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاتلناك، فاكتب إلينا: من
محمد بن عبد الله لنجيبك، فمحا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه بيده، وقال: إن
اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي وأمري، فكتب: من محمد بن عبد الله، وكذلك كتب
الأنبياء كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآباء، ففي رسول الله أسوة
حسنة.
وأما قولكم إني لم
أضربكم بسيفي يوم صفين حتى تفيئوا إلى أمر الله، فإن الله جل وعز يقول: ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة، وكنتم عدداً جماً، وأنا وأهل بيتي في عدة يسيرة.
وأما قولكم إني حكمت
الحكمين، فإن الله عز وجل حكم في أرنب يباع بربع درهم، فقال: يحكم به ذوا عدل
منكم، ولو حكم الحكمان بما في كتاب الله لما وسعني الخروج من حكمهما.
وأما قولكم إني كنت
وصيا فضيعت الوصية، فإن الله عز وجل يقول: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين أفرأيتم هذا البيت، لو لم يحجج إليه أحد
كان البيت يكفر، إن هذا البيت لو تركه من استطاع إليه سبيلاً كفر، وأنتم كفرتم
بترككم إياي لا أنا كفرت بتركي لكم.
فرجع يومئذ من
الخوارج ألفان، وأقام أربعة آلاف، والتحمت الحرب بينهم مع زوال الشمس، فأقامت
مقدار ساعتين من النهار، فقتلوا من عند آخرهم، وقتل ذو الثدية، ولم يفلت من القوم
إلا أقل من عشرة، ولم يقتل من أصحاب علي إلا أقل من عشرة، وكانت وقعة النهروان سنة
تسع وثلاثون.
ولما قدم علي الكوفة
قام خطيبا فقال: بعد حمد الله والثناء عليه والتذكير لنعمه والصلاة على محمد وذكره
بما فضله الله به، أما بعد أيها الناس! فأنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ
عليها أحد غيري، ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون، ولا القاسطون، ولا المارقون،
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فإني عن قليل مقتول، فما يحبس أشقاها أن يخضبها بدم
أعلاها، فو الذي فلق البحر وبرأ النسمة لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة،
ولا عن فتنة تضل مائة أو تهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها إلى يوم
القيامة. إن القرآن لا يعلم علمه إلا من ذاق طعمه، وعلم بالعلم جهله، وأبصر
عمله، واستمع صممه وأدرك به مأواه، وحي به إن مات، فأدرك به الرضا من الله،
فاطلبوا ذلك عند أهله، فإنهم في بيت الحياة، ومستقر القرآن، ومنزل الملائكة، وأهل
العلم الذين يخبركم عملهم عن علمهم وظاهرهم عن باطنهم هم الذين لا يخالفون الحق،
ولا يختلفون فيه، قد مضى فيهم من الله حكم صادق، وفي ذلك ذكرى للذاكرين.
وأما إنكم ستلقون
بعدي ذلا شاملاً وسيفاً قاتلاً وأثرة قبيحة يتخذها الظالمون عليكم سنة تفرق
جموعكم، وتبكي عيونكم، وتدخل الفقر بيوتكم، وستذكرون ما أقول لكم عن قليل، ولا
يبعد الله إلا من ظلم.
ووجه معاوية بن أبي
سفيان عمرو بن العاص على مصر على شرط له، فقدمها سنة ثمان وثلاثون، ومعه جيش عظيم
من أهل الشام، فكان على دمشق يزيد بن أسد البجلي، وعلى أهل فلسطين شمير الخثعمي،
وعلى أهل الأردن أبو الأعور السلمي، ومعاوية بن حديج الكندي على الخارجة، فلقيهم
محمد بن أبي بكر بموضع يقال له المسناة، فحاربهم محاربة شديدة، وكان عمرو يقول: ما
رأيت مثل يوم المسناة، وقد كان محمد استذم إلى اليمانية، فمايل عمرو بن العاص
اليمانية، فخلفوا محمد بن أبي بكر وحده، فجالد ساعة، ثم مضى فدخل منزل قوم خرابة،
واتبعه ابن حديج الكندي، فأخذه وقتله، وأدخله جيفة حمار، وحرقه بالنار في زقاق
يعرف بزقاق الحوف.
وبلغ علياً ضعف محمد
بن أبي بكر وممالاة اليمانية معاوية وعمرو بن العاص فقال: ما أوتي
محمد من حرض، ووجه
مالك بن الحارث الأشتر إلى مصر قبل أن ينتهي إليه قتل محمد بن أبي بكر، وكتب إلى
أهل مصر: أني بعثت إليكم سيفا من سيوف الله لا نأبى الضربة، ولا كليل الحد، فإن
استنفركم فانفروا، وإن أمركم بالمقام فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري،
وقد آثرتكم به على نفسي. فلما بلغ معاوية أن علياً قد وجه الأشتر عظم عليه، وعلم
أن أهل اليمن أسرع إلى الأشتر منهم إلى كل أحد، فدس له سما، فلما صار إلى القلزم
من الفسطاط على مرحلتين نزل منزل رجل من أهل المدينة يقال له... فخدمه وقام
بحوائجه، ثم أتاه بقعب فيه عسل قد صير فيه السم، فسقاه إياه، فمات الأشتر بالقلزم
وبها قبره، وكان قتله وقتل محمد بن أبي بكر في سنة ثمان وثلاثون.
ولما بلغ علياً قتل
محمد بن أبي بكر والأشتر جزع عليهما جزعاً شديداً، وتفجع، وقال علي: على مثلك
فلتبك البواكي يا مالك، وأنى مثل مالك؟ وذكر محمد بن أبي بكر، وتفجع عليه، وقال:
إنه كان لي ولدا ولولدي وولد أخي أخا، وخرج الخريت بن راشد الناجي في جماعة من
أصحابه، فجردوا السيوف بالكوفة، فقتلوا جماعة، وطلبهم الناس، فخرج الخريت وأصحابه
من الكوفة، فجعلوا لا يمرون ببلد إلا انتهبوا بيت ماله حتى صاروا إلى سيف عمان.
وكان علي قد وجه
الحلو بن عوف الأزدي عاملا على عمان فوثبت به بنو ناجية فقتلوه، وارتدوا عن
الإسلام، فوجه علي معقل بن قيس الرياحي إلى البلد، فقتل الخريت بن راشد وأصحابه،
وسبى بني ناجية، فاشتراهم مصقلة ابن هبيرة الشيباني، وأنفذ بعض الثمن ثم هرب إلى
معاوية، وأمر على بهدم داره، وأنفذ عتق بن ناجية، وكانوا يدعون انهم من ولد سامة
ابن لؤي.
ووجه معاوية النعمان
بن بشير، فأغار على مالك بن كعب الأرحبي، وكان عامل علي على مسلحة عين التمر، فندب
علي فقال: يا أهل الكوفة انتدبوا إلى أخيكم مالك بن كعب، فإن النعمان بن بشير قد
نزل به في جمع ليس بكثير لعل الله أن يقطع من الظالمين طرفا. فأبطأوا، ولم يخرجوا،
فصعد على المنبر فتكلم كلاما خفيا لا يسمع، فظن الناس أنه يدعو الله، ثم رفع صوته
فقال: أما بعد يا أهل الكوفة أكلما أقبل منسر من مناسر أهل الشام أغلق كل امرئ
بابه وانجحر في بيته انجحار الضب والضبع الذليل في وجاره؟ أف لكم! لقد لقيت منكم
يوماً أناجيكم ويوما أناديكم، فلا إخوان عند النجاء، ولا أحرار عند النداء. فلما
دخل بيته قام عدي بن حاتم فقال: هذا والله الخذلان القبيح! ثم دخل إليه فقال: يا
أمير المؤمنين! معي ألف رجل من طيء لا يعصونني، وإن شئت أن أسير بهم سرت؟ فقال
علي: جزاك الله خيراً، يا أبا طريف، ما كنت لأعرض قبيلة واحدة لحد أهل الشام، ولكن
أخرج إلى النخيلة! فخرج واتبعه الناس فسار عدي على شاطئ الفرات، فأغار على أدنى
الشام.
وأغار الضحاك بن قيس
على القطقطانة، فبلغ علياً إقباله، وأنه قد قتل ابن عميش، فقام علي خطيبا فقال: يا
أهل الكوفة اخرجوا إلى جيش لكم قد أصيب منه طرف، وإلى الرجل الصالح ابن عميش،
فامنعوا حريمكم، وقاتلوا عدوكم. فردوا رداً ضعيفاً، فقال: يا أهل العراق! وددت أن
لي بكم بكل ثمانية منكم رجلاً من أهل الشام، وويل لهم قاتلوا مع تصبرهم على جور،
ويحكم! اخرجوا معي، ثم فروا عني إن بدا لكم، فو الله إني لأرجو شهادة، وإنها لتدور
على رأسي مع ما لي من الروح العظيم في ترك مداراتكم كما تداري البكار الغمرة، أو
الثياب المتهتكة، كلما حيصت من جانب تهتكت من جانب فقام إليه حجر بن عدي الكندي
فقال: يا أمير المؤمنين ! لا قرب الله مني إلى الجنة من لا يحب قربك، عليك بعادة
الله عندك، فإن الحق منصور، والشهادة أفضل الرياحين، اندب معي الناس المناصحين،
وكن لي فئة بكفايتك، والله فئة الإنسان وأهله، إن الشيطان لا يفارق قلوب أكثر
الناس حتى تفارق أرواحهم أبدانهم، فتهلل وأثنى على حجر جميلاً، وقال: لا حرمك الله
الشهادة، فإني أعلم أنك من رجالها.
وجلس علي في المسجد
فندب الناس، وانتدب أربعة آلاف، فسار بهم في طلب القوم، وأغذ المسير حتى لقيهم
بتدمر من عمل حمص، فقاتلهم فهزمهم، حتى انتهوا إلى الضحاك، وحجز بينهم الليل،
فأدلج الضحاك على وجهه منصرفا، وشن حجر بن عدي ومن معه الغارة في تلك
البلاد يومين
وليلتين، ثم أغار سفيان بن عوف على الأنبار، فقتل أشرس بن حسان البكري، فاتبعه علي
سعيد بن قيس، فلما أحس به انصرف مولياً، وتبعه سعيد إلى عانات، فلم يلحقه. وبعث
معاوية عبد الله بن مسعدة بن حذيفة بن بدر الفزاري في جريدة خيل، وأمره أن يقصد
المدينة ومكة، فسار في ألف وسبعمائة، فلما أتى علياً الخبر وجه المسيب بن نجبة
الفزاري، فقال له: يا مسيب! إنك ممن أثق بصلاحه وبأسه ونصيحته، فتوجه إلى هؤلاء
القوم وأثر فيهم، وإن كانوا قومك. فقال له المسيب: يا أمير المؤمنين! إن من سعادتي
أن كنت من ثقاتك، فخرج في ألفي رجل من همدان وطيء وغيرهم، وأغذ السير، وقدم
مقدمته، فلقوا عبد الله بن مسعدة، فقاتلوه، فلحقهم المسيب، فقاتلهم حتى أمكنه أخذ
ابن مسعدة، فجعل يتحاماه، وانهزم ابن مسعدة، فتحصن بتيماء، وأحاط المسيب بالحصن،
فحصر ابن مسعدة وأصحابه ثلاثا، فناداه: يا مسيب! إنما نحن قومك، فليمسك الرحم.
فخلى لابن مسعدة وأصحابه الطريق ونجا من الحصن.
فلما جنهم الليل خرجوا
من تحت ليلتهم حتى لحقوا بالشام، وصبح المسيب الحصن، فلم يجد أحداً، فقال عبد
الرحمن بن شبيب: داهنت والله يا مسيب في أمرهم، وغششت أمير المؤمنين، وقدم على علي
فقال له علي: يا مسيب! كنت من نصاحي، ثم فعلت ما فعلت! فحبسه أياماً، ثم أطلقه
وولاه قبض الصدقة بالكوفة.
ووجه معاوية بسر بن
أبي أرطأة، وقيل ابن أرطأة العامري، من بني عامر ابن لؤي، في ثلاثة آلاف رجل، فقال
له: سر حتى تمر بالمدينة، فاطرد أهلها، وأخف من مررت به، وأنهب مال كل من أصبت له
مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا، وأوهم أهل المدينة أنك تريد أنفسهم، وأنه لا براءة
لهم عندك، ولا عذر، وسر حتى تدخل مكة، ولا تعرض فيها لأحد، وأرهب الناس فيما بين
مكة والمدينة، واجعلهم شرادات، ثم امض حتى تأتي صنعاء، فإن لنا بها شيعة، وقد
جاءني كتابهم، فخرج بسر، فجعل لا يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمره معاوية،
حتى قدم المدينة، وعليها أبو أيوب الأنصاري، فتنحى عن المدينة، ودخل بسر، فصعد
المنبر ثم قال: يا أهل المدينة! مثل السوء لكم، قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها
رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما
كانوا يصنعون، ألا وإن الله قد أوقع بكم هذا المثل وجعلكم أهله، شاهت الوجوه، ثم
ما زال يشتمهم حتى نزل. قال: فانطلق جابر بن عبد الله الأنصاري إلى أم سلمة زوج
النبي، فقال: إني قد خشيت أن أقتل، وهذه بيعة ضلال، قالت: إذا فبايع، فإن التقية
حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب ويحضرون الأعياد مع قومهم، وهدم بسر
دورا بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، ثم مضى حتى أتى اليمن، وكان على اليمن عبيد
الله بن عباس، عامل علي، وبلغ علياً الخبر، فقام خطيبا فقال: أيها الناس! إن أول
نقصكم ذهاب أولي النهى والرأي منكم الذين يحدثون فيصدقون، ويقولون فيفعلون، وإني
قد دعوتكم عوداً وبداً، وسراً وجهراً، وليلاً ونهاراً، فما يزيدكم دعائي إلا
فراراً، ما ينفعكم الموعظة ولا الدعاء إلى الهدى والحكمة، أما والله إني لعالم بما
يصلحكم، ولكن في ذلك فسادي، أمهلوني قليلاً، فو الله لقد جاءكم من يحزنكم ويعذبكم
ويعذبه الله بكم، إن من ذل الإسلام وهلاك الدين إن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل
والأشرار فيجيبون، وأدعوكم، وأنتم لا تصلحون، فتراعون، هذا بسر قد صار إلى اليمن
وقبلها إلى مكة والمدينة.
فقام جارية بن قدامة
السعدي فقال: يا أمير المؤمنين! لا عد منا الله قربك، ولا أرانا فراقك، فنعم الأدب
أدبك، ونعم الإمام والله أنت أنا لهؤلاء القوم فسرحني إليهم! قال: تجهز، فإنك ما
علمتك رجل في الشدة والرخاء، المبارك الميمون النقيبة، ثم قام وهب بن مسعود
الخثعمي فقال: أنا انتدب يا أمير المؤمنين قال: انتدب، بارك الله عليك، فخرج جارية
في ألفين ووهب ابن مسعود في ألفين، وأمرهما على أن يطلبا بسرا حيث كان حتى يلحقاه،
فإذا اجتمعا فراس الناس جارية، فخرج جارية من البصرة ووهب من الكوفة، حتى التقيا
بأرض الحجاز، ونفذ بسر من الطائف، حتى قدم اليمن، وقد تنحى عبيد الله بن عباس عن
اليمن، واستخلف بها عبد الله بن عبد المدان الحارثي، فأتاه بسر فقتله، وقتل ابنه
مالك بن عبد الله، وقد كان عبيد الله خلف ابنيه عبد الرحمن وقثم عند جويرية ابنة
قارظ الكنانية، وهي أمهما، وخلف معها رجلاً من كنانة، فلما انتهى بسر إليها دعا
ابني عبيد الله ليقتلهما، فقام الكناني فانتضى سيفه وقال: والله لأقتلن دونهما
فألآقي عذراً لي عند الله والناس، فضارب بسيفه حتى قتل، وخرجت نسوة من بني كنانة
فقلن: يا بسر! هذا، الرجال يقتلون، فما بال الولدان، والله ما كانت الجاهلية
تقتلهم، والله إن سلطاناً لا يشتد إلا بقتل الصبيان ورفع الرحمة لسلطان سوء، فقال
بسر: والله لقد هممت أن أضع فيكن السيف، وقدم الطفلين فذبحهما، فقالت أمهما
ترثيهما:
ها من أحس بنيي
اللذين هما ... سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف
ها من أحس بنيي
اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
ها من أحس بنيي
اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف
نبئت بسراً وما صدقت
ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجي ابني
مرهفة ... مشحوذة وكذاك الأمر مقترف
من دل وإلهه خرى
وثاكلة ... على صبيين ضلا إذ غداً السلف
ثم جمع بسر أهل نجران
فقال: يا إخوان النصارى! أما والذي لا إله غيره لئن بلغني عنكم أمر أكرهه لأكثرن
قتلاكم ثم سار نحو جيشان، وهم شيعة لعلي، فقاتلهم، فهزمهم، وقتل فيهم قتلاً
ذريعاً، ثم رجع إلى صنعاء. وسار جارية بن قدامة السعدي حتى أتى نجران وطلب بسراً،
فهرب منه في الأرض، ولم يقم له، وقتل من أصحابه خلقا، واتبعهم بقتل وأسر حتى بلغ
مكة، ومر بسر حتى دخل الحجاز لا يلوي على شيء، فأخذ جارية بن قدامة أهل مكة
بالبيعة، فقالوا: قد هلك علي فلمن نبايع؟ قال: لمن بايع له أصحاب علي بعده،
فتثاقلوا، فقال: والله لتبايعن ولو بأستاهكم، فبايعوا ودخل المدينة، وقد اصطلحوا على
أبي هريرة فصلى بهم ففر منه أبو هريرة، فقال جارية: يا أهل المدينة بايعوا للحسن
بن علي! فبايعوا، ثم خرج يريد الكوفة فرد أهل المدينة أبا هريرة.
قال غياث عن فطر بن
خليفة: حدثني أبو خالد الوالبي قال: قرأت عهد علي لجارية بن قدامة: أوصيك يا جارية
بتقوى الله، فإنها جموع الخير، وسر على عون الله، فالق عدوك الذي وجهتك له، ولا
تقاتل إلا من قاتلك، ولا تجهز على جريح، ولا تسخرن دابة، وإن مشيت ومشى أصحابك،
ولا تستأثر على أهل المياه بمياههم، ولا تشربن إلا فضلهم عن طيب نفوسهم، ولا تشتمن
مسلما ولا مسلمة فتوجب على نفسك ما لعلك تؤدب غيرك عليه، ولا تظلمن معاهدا، ولا
معاهدة، واذكر الله، ولا تفتر ليلاً ولا نهاراً، واحملوا رجالتكم، وتواسوا في ذات
أيديكم، وأجدد السير، وأجل العدو من حيث كان، واقتله مقبلا، واردده بغيظه صاغراً،
وأسفك الدم في الحق، وأحقنه في الحق، ومن تاب فاقبل توبته، وإخبارك في كل حين بكل
حال، والصدق الصدق، فلا رأي لكذوب قال وحدث أبو الكنود أن جارية مر في طلب بسر فما
كان يلتفت إلى مدينة ولا يعرج على شيء حتى انتهى إلى اليمن ونجران، فقتل من قتل
وهرب منه بسر، وحرق تحريقا، فسمي محرقاً.
وكتب علي إلى عماله
يستحثهم بالخروج، فكتب إلى الأشعث بن قيس، وكان عامله باذربيجان: أما بعد، فإنما
غرك من نفسك وجراك على آخرك إملاء الله لك، إذ ما زلت قديما تأكل رزقه، وتلحد في
آياته، وتستمتع بخلاقك، وتذهب بحسناتك إلى يومك هذا، فإذا أتاك رسولي بكتابي هذا،
فأقبل، واحمل ما قبلك من مال المسلمين، إن شاء الله. فلما قرأ الأشعث كتابه أقبل
إليه.
وكتب إلى يزيد بن قيس
الأرحبي: أما بعد، فإنك أبطأت بحمل خراجك، وما أدري ما الذي حملك على ذلك. غير أني
أوصيك بتقوى الله وأحذرك أن تحبط أجرك وتبطل جهادك بخيانة المسلمين، فاتق الله
ونزه نفسك عن الحرام، ولا تجعل لي عليك سبيلاً، فلا أجد بداً من الإيقاع بك، واعزز
المسلمين ولا تظلم المعاهدين، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك
من الدنيا، أحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب
المفسدين.
وكتب إلى سعد بن
مسعود عم المختار بن أبي عبيد، وهو على المدائن: أما بعد، فإنك قد أديت خراجك،
وأطعت ربك، وأرضيت إمامك، فعل المبر التقي النجيب، فغفر الله ذنبك، وتقبل سعيك
وحسن مآبك.
وكتب إلى عمر بن أبي
سلمة المخزومي، وهو ابن أم سلمة زوج النبي، وكان عامله على البحرين: أما بعد، فإني
قد وليت النعمان بن العجلان البحرين بلا ذم لك، فأقبل، غير ظنين، واخرج إليه من
عمل ما وليت، فقد أردت الشخوص إلى ظلمة أهل الشام وبقية الأحزاب، فأحببت أن تشهد
معي لقاءهم، فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين ونصر الهدى، جعلنا الله وإياك من
الذين يعملون بالحق وبه يعدلون. فأقبل عمر، فشهد معه، ثم انصرف وتبع علياً إلى
الكوفة، فمكث معه سنة وبعض أخرى.
فبلغه أن النعمان بن
العجلان قد ذهب بمال البحرين، فكتب إليه علي: أما بعد، فإنه من استهان بالأمانة
ورغب في الخيانة، ولم ينزه نفسه ودينه، أخل بنفسه في الدنيا، وما يشفي عليه بعد
أمر وأبقى وأشقى وأطول، فخف الله! إنك من عشيرة ذات صلاح، فكن عند صالح الظن بك،
وراجع، إن كان حقاً ما بلغني عنك، ولا تقلبن رأيي فيك، واستنظف خراجك، ثم اكتب إلي
ليأتيك رأيي وأمري إن شاء الله. فلما جاءه كتاب علي، وعلم أنه قد علم حمل المال،
لحق معاوية. وكتب إلى مصقلة بن هبيرة، وبلغه أنه يفرق ويهب أموال أردشير خره، وكان
عليها: أما بعد، فقد بلغني عنك أمر أكبرت أن أصدقه إنك تقسم فيء المسلمين في
قومك ومن اعتراك من السألة والأحزاب وأهل الكذب من الشعراء، كما تقسم الجوز، فو
الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لأفتش عن ذلك تفتيشاً شافياً، فإن وجدته حقاً لتجدن
بنفسك علي هواناً، فلا تكونن من الخاسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة
الدنيا، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً.
فكتب مصقلة إليه: أما
بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين فليسأل إن كان حقا فليعجل عزلي بعد نكالي، فكل
مملوك لي حر، وعلى أيام ربيعة ومضر إن كنت رزأت من عملي ديناراً، ولا درهما، ولا
غيرهما، منذ وليته إلى أن ورد علي كتاب أمير المؤمنين، ولتعلمن أن العزل أهون علي
من التهمة. فلما قرأ كتابه قال: ما أظن أبا الفضل إلا صادقاً.
ووجه رجلاً من أصحابه
إلى بعض عماله مستحثاً، فاستخف به فكتب إليه: أما بعد، فإنك شتمت رسولي وزجرته،
وبلغني أنك تبخر وتكثر من الأدهان وألوان الطعام، وتتكلم على المنبر بكلام
الصديقين، وتفعل، إذا نزلت، أفعال المحلين، فإن يكن ذلك كذلك فنفسك ضررت وأدبي
تعرضت، ويحك أن تقول العظمة والكبرياء ردائي فمن نازعنيهما سخطت عليه، بل ما عليك
أن تدهن رفيها، فقد أمر رسول الله بذلك، وما حملك أن تشهد الناس عليك بخلاف ما
تقول، ثم على المنبر حيث يكثر عليك الشاهد، ويعظم مقت الله لك، بل كيف ترجو، وأنت
متهوع في النعيم جمعته من الأرملة واليتيم، أن يوجب الله لك أجر الصالحين، بل ما
عليك، ثكلتك أمك، لو صمت لله أياماً، وتصدقت بطائفة من طعامك، فإنها سيرة الأنبياء
وأدب الصالحين. أصلح نفسك وتب من ذنبك وأد حق الله عليك والسلام.
وكتب إلى قيس بن سعد
بن عبادة، وهو على آذربيجان: أما بعد، فأقبل على خراجك بالحق، وأحسن إلى جندك
بالإنصاف، وعلم من قبلك مما علمك الله، ثم أن عبد الله بن شبيل الأحمسي سألني
الكتاب إليك فيه بوصايتك به خيراً، فقد رأيته وادعاً متواضعاً، فألن حجابك وافتح
بابك، واعمد إلى الحق، فإن وافق الحق ما يحبو أسره، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل
الله. إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب.
قال غياث: ولما أجمع
علي القتال لمعاوية كتب أيضاً إلى قيس: أما بعد، فاستعمل عبد الله بن شبيل الأحمسي
خليفة لك، وأقبل إلي، فإن المسلمين قد أجمع ملؤهم وانقادت جماعتهم، فعجل الإقبال،
فأنا سأحضرن إلى المحلين عند غرة الهلال، إن شاء الله، وما تأخري إلا لك، قضى الله
لنا ولك بالإحسان في أمرنا كله.
وكتب إلى سهل بن
حنيف، وهو على المدينة: أما بعد، فقد بلغني أن رجالاً من أهل المدينة خرجوا إلى
معاوية، فمن أدركته فامنعه، ومن فاتك فلا تأس عليه، فبعدا لهم، فسوف يلقون غياً،
أما لو بعثرت القبور، واجتمعت الخصوم، لقد بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون،
وقد جاءني رسولك يسألني الإذن، فاقبل، عفا الله عنا وعنك، ولا تذر خللاً، إن شاء
الله تعالى.
وكتب علي إلى عمر بن
مسلمة الأرحبي: أما بعد، فإن دهاقين عملك شكوا غلظتك، ونظرت في أمرهم فما رأيت
خيراً، فلتكن منزلتك بين منزلتين: جلباب لين بطرف من الشدة في غير ظلم ولا نقص،
فإنهم أحيونا صاغرين، فخذ ما لك عندهم وهم صاغرون، ولا تتخذ من دون الله ولياً،
فقد قال الله عز وجل: لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، وقال جل وعز في
أهل الكتاب: لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، وقال تبارك وتعالى: ومن يتولهم
منكم فإنه منهم، وقرعهم بخراجهم. وقابل في ورائهم وإياك ودماءهم والسلام.
وكتب إلى قرظة بن كعب
الأنصاري: أما بعد، فإن رجالاً من أهل الذمة من عملك ذكروا نهراً في أرضهم قد عفا
وأدفن، وفيه لهم عمارة على المسلمين، فانظر أنت وهم، ثم أعمر وأصلح النهر، فلعمري
لأن يعمروا أحب إلينا من أن يخرجوا، وأن يعجزوا أو يقصروا في واجب من صلاح البلاد
والسلام. وكتب إلى المنذر بن الجارود، وهو على إصطخر: أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني
منك، فإذا أنت لا تدع انقياداً لهواك أزرى ذلك بك. بلغني أنك تدع عملك كثيراً،
وتخرج لاهيا بمنبرها، تطلب الصيد وتلعب بالكلاب، وأقسم لئن كان حقا لنثيبنك فعلك، وجاهل
أهلك خير منك، فأقبل إلي حين تنظر في كتابي والسلام.
فأقبل فعزله وأغرمه
ثلاثين ألفاً، ثم تركها لصعصعة بن صوحان بعد أن أحلفه عليها، فحلف، وذلك أن علياً
دخل على صعصعة يعوده، فلما رآه علي قال: إنك ما علمت حسن المونة خفيق المئونة.
فقال صعصعة: وأنت والله، يا أمير المؤمنين، عليم وأبة في صدرك عظيم. فقال له علي:
لا تجعلها أبهة على قومك إن عادك أمامك. قال: لا، يا أمير المؤمنين، ولكنه من من الله على أن عادني أهل البيت
وابن عم رسول رب العالمين. قال غياث فقال له صعصعة: يا أمير المؤمنين! هذه ابنة
الجارود تعصر عينيها كل يوم لحبسك أخاها المنذر، فأخرجه، وأنا أضمن ما عليه في
أعطيات ربيعة. فقال له علي: ولم تضمنها، وزعم لنا أنه لم يأخذها، فليحلف ونخرجه.
فقال له صعصعة: أراه والله سيحلف. قال: وأنا والله أظن ذلك. وقال علي: أما إنه نظار في عطفيه، مختال في برديه، نقال في شراكيه، فليحلف
بعد، أو ليدع فحلف فخلى سبيله.
وكتب إلى زياد وكان
عامله على فارس: أما بعد، فإن رسولي أخبرني بعجب زعم أنك قلت له فيما بينك وبينه:
إن الأكراد هاجت بك، فكسرت عليك كثيراً من الخراج، وقلت له: لا تعلم بذلك أمير
المؤمنين. يا زياد! وأقسم بالله إنك لكاذب، ولئن لم تبعث بخراجك لأشدن عليك شدة
تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، إلا أن تكون لما كسرت من الخراج محتملاً.
وكتب إلى كعب بن
مالك: أما بعد، فاستخلف على عملك، واخرج في طائفة من أصحابك حتى تمر بأرض كورة
السواد فتسأل عن عمالي وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب، ثم ارجع إلى
البهقباذات فتول معونتها، واعمل بطاعة الله فيما ولاك منها، واعلم أن كل عمل ابن
آدم محفوظ عليه مجزي به، فاصنع خيراً صنع الله بنا وبك خيراً، وأعلمني الصدق فيما
صنعت، والسلام.
قال:
وقدم على علي أبو
مريم القرشي المكي، كان صديقا له، فلما رآه قال: ما أقدمك يا أبا مريم؟ قال: والله
ما جئت في حاجة، ولكن عهدي بك قديم، فأحببت أن أراك، ولو اجتمع أهل الأرض عليك
لأقمتم على الطريق. فقال: يا أبا مريم، والله إني لصاحبك الذي تعلم، ولكن منيت
بشرار خلق الله إلا من رحم الله، يدعونني فأبى عليهم ثم أجيبهم، فيتفرقون عني، والدنيا
محنة الصالحين، جعلنا الله وإياك منهم، ولو لا ما سمعت من حبيبي أنه يقول لضاق
ذرعي غير هذا الضيق، سمعته يقول: الجهد والبلاء أسرع إلى من أحب الله وأحبني من السيل إلى مجاريه. وكتب
أبو الأسود الدئلي، وكان خليفة عبد الله بن عباس بالبصرة، إلى علي يعلمه أن عبد
الله أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم، فكتب إليه يأمره بردها، فامتنع، فكتب يقسم
له بالله لتردنها، فلما ردها عبد الله بن عباس، أو رد أكثرها، كتب إليه علي: أما
بعد، فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فما أتاك
من الدنيا فلا تكثر به فرحاً، وما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعاً، واجعل همك لما
بعد الموت، والسلام. فكان ابن عباس يقول: ما اتعظت بكلام قط اتعاظي بكلام أمير
المؤمنين.
وقال كميل بن زياد:
وأخذ بيدي علي، فأخرجني إلى ناحية الجبانة، فلما أصحر تنفس الصعداء ثلاثا، ثم قال:
يا كميل، إن القلوب أوعية فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالم
رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم،
ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. يا كميل! العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والعلم حاكم،
والمال محكوم عليه، مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر،
أعيانهم مفقودة وأمثلتهم في القلوب موجودة، ها إن هاهنا، وأشار إلى صدره، لعلما
جما لو أصبت له حملة اللهم إلا أن أصيب لقنا غير مأفون يستعمل آلة الدين في طلب
الدنيا ويستظهر بحجج الله على أوليائه وبنعمه على خلقه، أو منقاداً لحملة الحق لا
بصيرة في إحيائه، يقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذاك، أو
منهوماً باللذة، سلس القيادة للشهوة، أو مغرماً بالجمع والادخار، ليسوا من رعاة
الدين في شيء، أقرب شبها بهم الأنعام السائمة، اللهم كلا! لا تخلو الأرض من قائم
بحق إما ظاهر مشهور، وإما خائب مغمور، لئلا يبطل حجج الله عز وجل وبيناته أولئك
الأقلون عددا، والأعظمون خطراً، هجم بهم العلم، حتى حقائق الأمور، وباشروا روح
اليقين، فاستلانوا ما استوعر المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا
الدنيا بأبدان، أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، يا كميل أولئك أولياء الله من خلقه
والدعاة إلى دينه، بهم يحفظ الله حججه، حتى يودعوها أمثالهم، ويزرعوها في قلوب
أشباههم، هاه شوقاً إلى رؤيتهم. وقال: لو أن حملة العلم حملوه لحقه لأحبهم الله
وملائكته وأهل طاعته من خلقه، ولكنهم حملوه لطلب الدنيا، فمنعهم الله، وهانوا على
الناس. وقال: قيمة كل امرئ ما يحسن.
وقال:
أيها الناس لا ترجوا
إلا ربكم، ولا تخشوا إلا ذنوبكم، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحي من
يعلم أن يعلم، واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
وقال:
من كان يريد العز بلا
عشيرة، والنسل بلا كثرة، والغناء بلا مال، فليتحول من ذل المعصية إلى عز الطاعة.
وقال: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مغرور بالستر عليه، وكم من مفتون بحسن
القول فيه. وما ابتلي أحد بمثل الإملاء له، ألم تسمع قول الله عز وجل: " إنما
نملي لهم ليزدادوا إثماً " . وقال: من اشتاق إلى الجنة تسلى عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن
المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات.
وخطب فتلا قول الله
عز وجل: " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في
إمام مبين " . ثم قال: إن هذا الأمر ينزل من السماء كقطر المطر إلى كل نفس
بما كتب الله لها من نقصان في نفس أو أهل أو مال، فمن أصابه نقص في أهله وماله،
ورأى عند أخيه عفوه، فلا يكونن ذلك عليه فتنة، فإن المرء المسلم ما لم يأت دنياه
يخشع لها وتذله، إذا
ذكرت تغرى به ليألم.
الناس كالياسر ألفاًلح الذي ينتظر أول فوزه من قداحه يوجب له المغنم، ويدفع عنه
المغرم، كذلك المرء البريء من الخيانة والكذب يترقب كل يوم وليلة إحدى الحسنيين:
إما داعي الله فما عند الله خير له، وإما فتحا من الله، فإذا هو ذو أهل ومال، ومعه
حسبه ودينه. المال والبنون حزب الدنيا، والعمل الصالح حزب الآخرة، وقد يجمعهم الله
لأقوام.
وقال: من عامل الناس
فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، كان ممن حرمت غيبته، وكملت
مروته، وظهر عدله، ووجب وصله.
وخرج يوماً فقال: يا
طالب العلم! إن للعالم ثلاث علامات: العلم بالله، وبما يحب الله، وبما يكره الله:
وللعامل ثلاث علامات: الصلاة، والزكاة، والورع. وللمتكلف من الرجال ثلاث علامات: ينازع من هو فوقه، ويقول بما لا
يعلم، ويتعاطى ما لا ينال. وللظالم ثلاث علامات يظلم من هو فوقه بالمعصية، ومن هو
دونه بالغلبة، ويظاهر الظلمة والإثم. وللمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده،
وينشط إذا كان من يراه، ويحب أن يحمد في جميع أموره. وللحاسد ثلاث علامات: يغتاب
إذا غاب، ويتقرب إذا شهد، ويشمت بالمصيبة. وللمنافق ثلاث علامات: يخالف لسانه
قلبه، وقوله فعله، وعلانيته سريرته. وللمسرف ثلاث علامات: يأكل ما ليس له، ويشرب
ما ليس له، ويلبس ما ليس له. وللكسلان من الرجال ثلاث علامات: يتوانى حتى يفرط،
ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم. وإنما هلك الذين قبلكم بالتكلف، فلا يتكلف رجل منكم أن يتكلم في دين
الله بما لا يعرف، فإن الله عز وجل يعذر على الخطإ إن أجهدت رأيك.
وقال لعمر بن الخطاب:
ثلاث إن حفظتهن وعملت بهن كفيتك ما سواهن، وإن تركتهن، فلا ينفعك شيء سواهن. قال:
وما هن؟ فقال: الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط،
والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود. فقال له عمر: أبلغت وأوجزت.
وسمع رجلاً يذم
الدنيا، فقال: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن
تزود منها، مسجد أحباء الله، ومهبط وحيه، ومصلى ملائكته، ومتجر أوليائه، اكتسبوا
فيها الرحمة فربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها، وقد أذنت ببينها، ونادت بفراقها،
ونعت نفسها وأهلها، مثلت ببلاها البلا، وشوقت بسرورها السرور، راحت بفجيعة، وأبكرت
بعافية ترغيباً وترهيباً وتحذيراً وتخويفاً، ذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون
ذكرتهم فذكروا، وحدثتهم فصدقوا، فيا ذام الدنيا، المغتر بغرورها! متى استذمت إليك
بل متى غرتك؟ أبمضاجع آبائك من البلى، أو بمنازل أمهاتك من الثرى؟ كم مرضت بيديك،
وعللت بكفيك، من تبتغي له الشفاء وتستوصف له الأطباء، فلم ينفعه تطبيبك ولم يستعف
له بعافيتك، مثلت به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك، غداة لا يغني عنك بكاؤك ولا
ينفعك أحباؤك.
وخطب فقال: إن من
أخوف ما أخاف عليكم خصلتين: اتباع الهوى، وطول الأمل. فأما طول الأمل فينسي
الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق. من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، له
قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا، إن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي وجمالي وبهائي
وعلوي وارتفاعي في مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا جعلت همه في الآخرة وغناءه
في قلبه، وضمنت السموات والأرض رزقه، وأتته الدنيا وهي راغمة.
وقال:
حصر بالبلاء من عرف
الناس، ومن جهلهم عاش معهم. وقال: يأتي على الناس زمان لا يعز فيه إلا الماحل، ولا
يستظرف إلا الفاجر، ولا يضعف إلا المنصف، يتخذون الفيء مغنماً، والصدقة مغرماً،
والعبادة استطالة على الناس، وصلة الرحم منا، والعلم متجراً، فعند ذلك يكون سلطان
النساء ومشورة الإماء وإمارة الصبيان.
وقال:
لا تصلح الناس إمارة
يعمل فيها المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ فيها الكتاب الأجل. وغزا فقال لرجل:
لئن جزعت إن الرحم ليستحق ذاك، وإن صبرت كأني بها مأجوراً، وإلا صبرت كارهاً
مأزوراً. وقيل لعلي: كم بين السماء والأرض؟ قال: دعوة مظلوم. وقيل له: كم مسافة
الدنيا؟ فقال: مسير الشمس يوماً إلى الليل. وقال يوم الجمل: الموت طالب حثيث لا
يعجزه المقيم، ولا يفوته الهارب، أقدموا ولا تنكلوا ليس عن الموت محيص، إنكم إن لم
تقتلوا تموتوا، وإن أشرف الموت القتل، والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من
موت على فراش.
وقال له رجل: أوصني.
فقال: أوصيك بتقوى الله، واجتناب الغضب، وترك الأماني، وأن تحافظ على ساعتين من
النهار: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ومن العصر إلى غروبها، ولا تفرح بما علمت،
ولكن بما عملت فيها.
وأتي برجل جنى جناية،
فرأى ناسا يعدون خلفه، فقال: لا مرحباً بوجوه لا ترى إلا عند كل سوء. وقال له
الحارث بن حوط الراني: أظن طلحة والزبير وعائشة اجتمعوا على باطل، فقال: يا حارث!
إنه ملبوس عليك، وإن الحق والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق تعرف أهله،
واعرف الباطل تعرف من أتاه.
ورأى رجلاً يسأله
عشية عرفة، فقال: ويحك تسأل في هذا اليوم غير الله! وروي عنه أنه قال: يا معشر
الفتيان حصنوا أعراضكم بالأدب ودينكم بالعلم. وكان إذا انصرف من صلاته أقبل على
الناس بوجهه فقال: كونوا مصابيح الهدى، ولا تكونوا أعلام ضلالة، واكرهوا المزاح
بما يسخط الله، وليهن عليكم الذم فيما يرضى الله، علموا الناس الخير بعبر ألسنتكم،
وكونوا دعاة لهم بفعلكم، والزموا الصدق والورع.
وقال:
الصمت حلم، والسكوت
سلامة، والكتمان سعادة. واجتمع عنده جماعة فتذاكروا المعروف، فقال: المعروف كنز من
أفضل الكنوز، وزرع من أزكى الزروع، فلا يزهدنكم في المعروف كفر من كفره وجحد من
جحده، فإن من يشكرك عليه ممن لم يصل إليه منه شيء أعظم مما ناله أهل منه، فلا
تلتمس من غيرك ما أسديت إلى نفسك، إن المعروف لا يتم إلا بثلاث خصال: تصغيره،
وستره، وتعجيله، فإذا صغرته فقد عظمته، وإذا سترته فقد أتممته، وإذا عجلته فقد
هنأته.
وقدم عليه قوم من أهل
الغرب فقال لهم: أ فيكم من قد شهر نفسه حتى لا يعرف إلا به؟ فقالوا: نعم! قال:
وفيكم قوم بين ذلك يتصونون من السيئات ويعملون الحسنات؟ قالوا: نعم! قال أولئك خير
أمه محمد، أولئك النمرقة الوسطى، بهم يرجع الغالي، وبهم يلحق المقصر.
وروي عنه أنه قال:
ألهم البهائم كل شيء إلا أربع خصال: أن الله عز وجل خالقها ورازقها... وإتيان
الذكر الأنثى، والفرار من الموت، وطلب الرزق.
وقال:
ستة لا يسلم عليهم:
اليهودي، والنصراني والمجوسي، والشاعر يقذف المحصنات، وقوم يتفكهون بسب الأمهات،
وقوم على مائدة يشرب عليها الخمر.
وقال:
الأئمة من قريش
خيارهم على خيارهم، وشرارهم على شرارهم. وقضى على رجل بقضية فقال: يا أمير
المؤمنين! قضيت علي بقضية هلك فيها مالي، وضاع فيها عيالي! فغضب حتى استبان الغضب
في وجهه، ثم قال: يا قنبر! ناد في الناس الصلاة جامعة. فاجتمع الناس ورقي المنبر،
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فذمتي رهينة، وأنا به زعيم، بجميع من صرحت له العبر إلا يهيج
على التقوى زرع قوم، ولا يظمأ على التقوى سنخ أصل، وإن الخير كله فيمن عرف قدره،
وكفى بالمرء جهلاً ألا يعرف قدره، إن من أبغض خلق الله إلى الله العبد وكله إلى
نفسه جائراً عن قصد السبيل، مشغوفاً بكلام بدعة، قد قمس في أشباهه من الناس
عشواء، غارا بأغباش
الفتنة قد لهج فيها بالصوم والصلاة، فهو فتنة على من تبعه، قد سماه أشباه الناس
عالما، ولم يغن فيه يوماً، سالما بكر، فاستكثر مما قل منه، فهو خير مما كثر، حتى
إذا ارتوى من آجن، وأكثر من غير طائل، جلس بين الناس قاضياً، ضامناً بتخليص ما
التبس على غيره، إن قايس شيئاً بشيء لم يكذب نفسه، وإن التبس عليه شيء كتمه من
نفسه لكيلا يقال لا يعلم، ولا مليء والله بإصدار ما ورد عليه، ولا هو أهل بما قرظ
به من حسن، مفتاح عشوات، خباط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعرض في
العلم ببصيرة، يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم، تصرخ منه الدماء، وتبكي منه
المواريث، ويستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرم بمرضاته الفرج الحلال، فأين يتاه
بكم، بل أين تذهبون عن أهل بيت نبيكم؟ أنا من سنخ أصلاب أصحاب السفينة، وكما نجا
في هاتيك من نجا ينجو في هذه من ينجو، ويل رهين لمن تخلف عنهم، إني فيكم كالكهف
لأهل الكهف، وإني فيكم باب حطة من دخل منه نجا، ومن تخلف عنه هلك، حجة من ذي الحجة
في حجة الوداع، إني قد تركت بين أظهركم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب
الله وعترتي أهل بيتي وحكم بأحكام عجيبة، حتى أنه حرق قوما، ودخن على آخرين، وقطع
بعض أصابع اليد في السرقة، وهدم حائطا على اثنين وجدهما على فسق، وكان يقول:
استتروا ببيوتكم، والتوبة وراءكم، من أبدى صفحته للحق هلك، إن الله أدب هذه الأمة
بالسوط والسيف، وليس لأحد عند الإمام هوادة.
وقدم عبد الرحمن بن
ملجم المرادي الكوفة لعشر بقين من شعبان سنة أربعين، فلما بلغ علياً قدومه قال:
وقد وافى؟ أما إنه ما بقي على غيره، هذا أو إنه، فنزل على الأشعث بن قيس الكندي،
فأقام عنده شهراً يستحد سيفه، وكانوا ثلاثة نفر توجهوا، فواحد منهم إلى معاوية
بالشام، وآخر إلى عمرو بن العاص بمصر، والآخر إلى علي، وهو ابن ملجم، فأما صاحب
معاوية فضربه، فوقعت الضربة على أليته، وبادر فدخل داره، وأما صاحب عمرو بن العاص
فإنه ضرب خارجة بن حذافة خليفة عمرو في الصبح، وكان عمرو تخلف لعلة، فقال الخارجي:
أردت عمرا وأراد الله خارجة، وأما عبد الرحمن بن ملجم، فإنه وقف له عند المسجد،
وخرج علي في الغلس، فتبعه إوز كن في الدار، فتعلقن بثوبه، فقال: صوائح تتبعها نوائح،
وأدخل رأسه من باب خوخة المسجد، وضربه على رأسه، فسقط، وصاح: خذوه! فابتدره الناس،
فجعل لا يقرب منه أحد إلا نفحة بسيفه، فبادر إليه قثم بن العباس، فاحتمله وضرب به
الأرض، فصاح: يا علي نح عني كلبك، وأتي به إلى علي، فقال: ابن ملجم؟ قال: نعم! فقال: يا حسن شأنك بخصمك، فأشبع بطنه، واشدد
وثاقه، فإن مت فألحقه بي أخاصمه عند ربي، وإن عشت فعفو أو قصاص. وأقام يومين ومات
ليلة الجمعة أول ليلة من العشر الأواخر من شهر رمضان سنة أربعين، ومن شهور العجم
في كانون الآخر، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وغسله الحسن ابنه بيده، وصلى عليه وكبر
عليه سبعا، وقال: أما إنه لا يكبر على أحد بعده، ودفن بالكوفة في موضع يقال له
الغري، وكانت خلافته أربع سنين وعشرة أشهر.
وكان له من الولد
الذكور أربعة عشر ذكرا: الحسن، والحسين، ومحسن، مات صغيرا، أمهم فاطمة بنت رسول
الله، ومحمد الأكبر، أمه خولة بنت جعفر الحنفية، وعبيد الله، وأبو بكر، لا عقب
لهما، أمهما ليلى بنت مسعود الحنظلية من بني تميم، والعباس وجعفر قتلا بالطف،
وعثمان وعبد الله، أمهم أم البنين بنت حرام الكلابية، وعمرو، أمه أم حبيب بنت
ربيعة البكرية، ومحمد الأصغر، لا عقب له، أمه أمامة بنت أبي العاص، وعثمان الأصغر
ويحيى وأمهما أسماء بنت عميس الخثعمية، وكان له من البنات ثماني عشرة ابنة، منهن
من فاطمة ثلاث، والباقيات لعدة نسوة، وأمهات أولاد شتى، وكان على شرطة معقل بن قيس
الرياحي، وحاجبه قنبر مولاه.
ولما مات قام الحسن
خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، ثم قال: ألا إنه قد مضى في هذه
الليلة رجل لم يدركه الأولون، ولن يرى مثله الآخرون، من كان يقاتل وجبريل عن يمينه
وميكائيل عن شماله، والله لقد توفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران، ورفع
فيها عيسى بن مريم، وأنزل القرآن، ألا وإنه ما خلف صفراً ولا بيضاً إلا سبعمائة
درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله. فقام القعقاع بن زرارة على
قبره، فقال: رضوان الله عليك، يا أمير المؤمنين، فو الله لقد كانت حياتك مفتاح
خير، ولو أن الناس قبلوك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم غمطوا النعمة،
وآثروا الدنيا على الآخرة.
وأقام الحج للناس في
خلافته في سنة ستة وثلاثون عبد الله بن العباس، وفي سنة سبع وثلاثون قثم بن
العباس، وقيل عبد الله بن العباس، وفي سنة ثمان وثلاثون عبيد الله بن العباس، وفي
سنة تسع وثلاثون شيبة بن عثمان. وكان أصحاب علي الذين يحملون عنه العلم: الحارث
الأعور، أبو الطفيل عامر بن واثلة، حبة العرني، رشيد الهجري، حويزة بن مسهر،
الأصبغ بن نباتة، ميثم التمار، الحسن بن علي.
خلافة الحسن بن
عليواجتمع الناس، فبايعوا الحسن بن علي، وخرج الحسن بن علي إلى المسجد الجامع،
فخطب خطبة له طويلة، ودعا بعبد الرحمن بن ملجم فقال: عبد الرحمن! ما الذي أمرك به
أبوك؟ قال: أمرني ألا أقتل غير قاتله، وأن أشبع بطنك، وأنعم وطاءك، فإن عاش اقتص
أو أعفو، وإن مات ألحقتك به. فقال ابن ملجم: إن كان أبوك ليقول الحق ويقضي به في
حال الغضب والرضا، فضربه الحسن بالسيف فالتقاه بيده فندرت، وقتله.
وأقام الحسن بن علي
بعد أبيه شهرين، وقيل أربعة أشهر، ووجه بعبيد الله ابن العباس في اثني عشر ألفاً
لقتال معاوية، ومعه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وأمر عبيد الله أن يعمل بأمر
قيس بن سعد ورأيه، فسار إلى ناحية الجزيرة، وأقبل معاوية لما انتهى إليه الخبر
بقتل علي، فسار إلى الموصل بعد قتل علي بثمانية عشر يوماً، والتقى العسكران، فوجه
معاوية إلى قيس بن سعد يبذل له ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف عنه، فأرسل
إليه بالمال، وقال له: تخدعني عن ديني! فيقال: إنه أرسل إلى عبيد الله بن عباس
وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس على محاربته.
وكان معاوية يدس إلى
عسكر الحسن من يتحدث أن قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه، ويوجه إلى عسكر قيس
من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية، وأجابه.
ووجه معاوية إلى
الحسن المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عامر بن كريز وعبد الرحمن بن أم الحكم،
وأتوه، وهو بالمدائن نازل في مضاربه، ثم خرجوا من عنده، وهم يقولون ويسمعون الناس:
إن الله قد حقن بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدماء، وسكن به الفتنة وأجاب
إلى الصلح، فاضطرب العسكر ولم يشكك الناس في صدقهم، فوثبوا بالحسن فانتهبوا مضاربه
وما فيها، فركب الحسن فرسا له ومضى في مظلم ساباط، وقد كمن الجراح بن سنان الأسدي،
فجرحه بمعول في فخذه، وقبض على لحية الجراح ثم لواها فدق عنقه.
وحمل الحسن إلى
المدائن وقد نزف نزفا شديدا، واشتدت به العلة، فافترق عنه الناس، وقدم معاوية
العراق، فغلب على الأمر، والحسن عليل شديد العلة، فلما رأى الحسن أن لا قوة به،
وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له، صالح معاوية، وصعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه، وقال: أيها الناس! إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم باخرنا، وقد
سالمت معاوية، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
أيام معاوية بن أبي
سفيانوملك معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وأمه هند بنت عتبة بن
ربيعة بن عبد شمس، وبويع بالكوفة في ذي القعدة سنة أربعين، وكانت الشمس في الحمل
درجتين، والقمر في الثور خمس عشرة درجة، وزحل في العقرب تسعاً وعشرين درجة،
والمشتري في الثور تسعاً وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والمريخ في الثور ست عشرة
درجة، والزهرة في الثور أربع درجات، وعطارد في الحوت ست عشرة درجة. وقدم الكوفة
فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد ذلكم، فإنه لم تختلف أمه بعد
نبيها إلا غلب باطلها حقها، إلا ما كان من هذه الأمة، فإن حقها غلب باطلها. ثم نزل.
وأحضر الناس لبيعته،
وكان الرجل يحضر فيقول: والله يا معاوية! إني لأبايعك، وإني لكاره لك، فيقول:
بايع، فإن الله قد جعل في المكروه خيراً كثيراً، ويأبى الآخر فيقول: أعوذ بالله من
شر نفسك! وأتاه قيس بن سعد بن عبادة فقال: بايع قيس! قال: إن كنت لأكره مثل هذا
اليوم، يا معاوية. فقال له: مه، رحمك الله! فقال: لقد حرصت أن أفرق بين روحك وجسدك
قبل ذلك، فأبى الله، يا ابن أبي سفيان، إلا ما أحب.
قال:
فلا يرد أمر الله.
قال: فأقبل قيس على الناس بوجهه، فقال: يا معشر الناس! لقد اعتضتم الشر من الخير، واستبدلتم الذل من العز، والكفر من
الإيمان، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وابن عم رسول رب
العالمين، وقد وليكم الطليق ابن الطليق يسومكم الخسف، ويسير فيكم بالعسف، فكيف
نجهل ذلك أنفسكم، أم طبع الله على قلوبكم، وأنتم لا تعقلون؟ فجثا معاوية على
ركبتيه ثم أخذ بيده وقال: أقسمت عليك! ثم صفق على كفه، ونادى الناس: بايع قيس!
فقال، كذبتم، والله، ما بايعت، ولم يبايع لمعاوية أحد إلا أخذ عليه الأيمان، فكان
أول من استحلف على بيعته، ودخل إليه سعد بن مالك فقال: السلام عليك أيها الملك.
فغضب معاوية فقال: أ لا قلت السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذاك إن كنا أمرناك
إنما أنت منتز.
وخرج فروة بن نوفل
الأشجعي سنة أربعين، وكان معتزلا بشهرزور في جماعة من الخوارج، فلما بلغه قتل علي
وغلبة معاوية أقبل في ألف وخمسمائة حتى صار بالنخيلة، فوجه إليه معاوية خيلا،
فكشفهم، فأخذ معاوية أهل الكوفة بالخروج إليهم، فخرجوا خوفا منه، فلما لقوهم قال
لهم فروة بن نوفل: دعونا فإن معاوية عدونا وعدوكم، فقاتلهم أهل الكوفة أشد قتال،
حتى قتل فروة، وأفرخ روع معاوية.
ورجع معاوية إلى
الشام سنة أحدى وأربعون، وبلغه أن طاغية الروم قد زحف في جموع كثيرة وخلق عظيم،
فخاف أن يشغله عما يحتاج إلى تدبيره وإحكامه، فوجه إليه، فصالحه على مائة ألف
دينار.
وكان معاوية أول من
صالح الروم. وكان صلحه إياهم في أول سنة اثنتن وأربعون، فلما استقام الأمر لمعاوية
أغزى أمراء الشام على الصوائف، فسبوا في بلاد الروم سنة بعد سنة، وقد ذكرنا
أسماءهم في موضع الصوائف. وطلب صاحب الروم الصلح على أن يضعف المال، فلم يجبه.
وولي عبد الله بن عامر بن كريز البصرة، فلما قدمها وجه عبد الرحمن ابن سمرة إلى
خراسان، فغزا بلخ وكابل، ومعه عبد الله بن خازم السلمي، فافتتح بلخ بعد حرب شديدة،
وصار إلى كابل، فأقام عليها ليالي، ثم أتاه بواب باب المدينة، فجعل له شيئاً حتى
فتح الباب، وكانت الحرب في المدينة، ثم طلبوا الصلح، فصالحهم ابن سمرة، وانصرف
وخلف ابن خازم بخراسان. وولى معاوية عبد الله بن دراج مولاه خراج العراق، وكتب
إليه: احمل إلي من مالها ما أستعين به! فكتب إليه ابن دراج يعلمه أن الدهاقين
أعلموه أنه كان لكسرى وآل كسرى صوافي يجتبون مالها لأنفسهم ولا تجري مجرى الخراج.
فكتب إليه: أن أحص تلك الصوافي واستصفها، واضرب عليها المسنيات. فجمع الدهاقين،
فسألهم، فقالوا: الديوان بحلوان. فبعث فأتي به، فاستخرج منه كل ما كان لكسرى وآل
كسرى، وضرب عليه المسنيات، واستصفاه لمعاوية، فبلغت جبايته خمسين ألف ألف درهم من
أرض الكوفة وسوادها.
وكتب إلى عبد الرحمن
بن أبي بكرة بمثل ذلك في أرض البصرة، وأمرهم أن يحملوا إليه هدايا النيروز
والمهرجان، فكان يحمل إليه في النيروز وغيره وفي المهرجان عشرة آلاف ألف.
وكان زياد بن عبيد
عامل علي بن أبي طالب على فارس، فلما صار الأمر إلى معاوية كتب إليه يتوعده
ويتهدده فقام زياد خطيباً فقال: إن ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق وبقية الأحزاب
كتب يتوعدني ويتهددني، وبيني وبينه ابنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في
تسعين ألفاً واضعي قبائع سيوفهم تحت أذقانهم لا يلتفت أحدهم حتى يموت، أما والله
لئن وصل إلي ليجدنى
أحمز، ضرابا بالسيف.
فوجه معاوية إليه المغيرة بن شعبة، فأقدمه ثم ادعاه، وألحقه بأبي سفيان، وولاه
البصرة، وأحضر زياد شهودا أربعة، فشهد أحدهم أن علي بن أبي طالب أعلمه انهم كانوا
جلوساً عند عمر بن الخطاب حين أتاه زياد برسالة أبي موسى الأشعري، فتكلم زياد
بكلام أعجبه، فقال: أكنت قائلا للناس هذا على المنبر؟ قال: هم أهون علي منك، يا
أمير المؤمنين، فقال أبو سفيان: والله لهو ابني، ولأنا وضعته في رحم أمه. قلت: فما
يمنعك من ادعائه؟ قال: مخافة هذا العير الناهق.
وتقدم آخر فشهد على
هذه الشهادة. قال زياد الهمداني: لما سأله زياد كيف قولك في علي؟ قال: مثل قولك
حين ولاك فارس، وشهد لك أنك ابن أبي سفيان.
وتقدم أبو مريم
السلولي فقال: ما أدري ما شهادة علي، ولكني كنت خماراً بالطائف، فمر بي أبو سفيان
منصرفا من سفر له، فطعم وشرب، ثم قال: يا أبا مريم طالت الغربة، فهل من بغي؟ فقلت:
ما أجد لك إلا أمه بني عجلان قال: فأتني بها على ما كان من طول ثدييها ونتن رفغها،
فأتيته بها، فوقع عليها، ثم رجع إلي فقال لي: يا أبا مريم! لاستلت ماء ظهري
استلالاً تثيب ابن الحبل في عينها. فقال له زياد: إنما أتينا بك شاهداً، ولم نأت بك شاتماً. قال: أقول
الحق على ما كان، فأنفذ معاوية... قال ما قد بلغكم وشهد بما سمعتم، فإن كان ما
قالوا حقا، فالحمد لله الذي حفظ مني ما ضيع الناس، ورفع مني ما وضعوا، وإن كان
باطلاً، فمعاوية والشهود أعلم. وما كان عبيد إلا ولداً مبروراً مشكوراً. ونزل وولي
المغيرة ابن شعبة الكوفة في جمادى... سنة اثنان وأربعون فأقام عليها حينا، ثم بدا
له وولى عبد الله بن عامر بن كريز الكوفة، فلما بلغ أهل الكوفة الخبر خرج كثير من
الناس إلى عبد الله بن عامر، فجعل المغيرة لا يسأل عن أحد إلا قيل له قد خرج إلى
عبد الله بن عامر، حتى سأل عن كاتبه، فقيل له: قد لحق بعبد الله، فقال: يا غلام شد
رحلي وقدم بغلي، فخرج حتى أتى دمشق، فدخل على معاوية، فلما رآه قال: ما أقدمك يا
مغيرة، تركت العمل، وأخللت بالمصر وأهل العراق وهم أسرع شيء إلى الفتن؟ قال: يا
أمير المؤمنين كبرت سني، وضعفت قوتي، وعجزت عن العمل، وقد بلغت من الدنيا حاجتي،
والله ما آسى على شيء منها إلا على شيء واحد قدرت به قضاء حقك، ووددت أنه لا
يفوتني أجلي وإن الله أحسن عليه معونتي. قال: وما هو؟ قال: كنت دعوت أشراف الكوفة إلى البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين بولاية
العهد بعد أمير المؤمنين، فأجابوا إلى ذلك، ووجدتهم سراعا نحوه، فكرهت أن أحدث
أمرا دون رأي أمير المؤمنين، فقدمت لأشافهه بذلك، وأستعفيه من العمل. فقال:
سبحان الله يا أبا
عبد الرحمن! إنما يزيد ابن أخيك، ومثلك إذا شرع في أمر لم يدعه حتى يحكمه، فنشدتك
الله إلا رجعت فتممت هذا. فخرج من عنده، فلقي كاتبه، فقال: ارجع بنا إلى الكوفة،
فو الله لقد وضعت رجل معاوية في غرز لا يخرجها منه إلا سفك الدماء. وانصرف إلى
الكوفة.
وكتب معاوية إلى
زياد، وهو بالبصرة، إن المغيرة قد دعا أهل الكوفة إلى البيعة ليزيد بولاية العهد
بعدي، وليس المغيرة بأحق بابن أخيك منك، فإذا وصل إليك كتابي فادع الناس قبلك إلى
مثل ما دعاهم إليه المغيرة، وخذ عليهم البيعة ليزيد. فلما بلغ زياداً وقرأ الكتاب
دعا برجل من أصحابه يثق بفضله وفهمه، فقال: إني أريد أن آتمنك على ما لم آتمن عليه
بطون الصحائف، ايت معاوية فقل له: يا أمير المؤمنين إن كتابك ورد علي بكذا، فما
يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغ،
ويدمن الشراب، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد
الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، ولكن تأمره، ويتخلق بأخلاق هؤلاء حولاً وحولين،
فعسينا أن نموه على الناس. فلما صار الرسول إلى معاوية وأدى إليه الرسالة قال:
ويلي على ابن عبيد! لقد بلغني أن الحادي حدا له أن الأمير بعدي زياد، والله لأردنه
إلى أمه سمية، وإلى أبيه عبيد.
وقدم المغيرة الكوفة
منصرفا من عند معاوية، وقد خرج شبيب بن بجرة الأشجعي الخارجي، فلما
علم أن قدم المغيرة
هرب إلى معاوية فقال: أنا قاتل علي بن أبي طالب، وكان شبيب بن بجرة مع ابن ملجم في
الليلة التي ضرب فيها علياً، فقال له معاوية: لا أراك ولا تراني. فرجع إلى الكوفة
فقاتل المغيرة، فوجه إليه جيشا فقتله.
وخرج المستورد بن
علفة التيمي من تيم الرباب سنة ثلاث وأربعون فوجه إليه المغيرة خيلاً، فقتل بأسفل
ساباط، وقتل أصحابه جميعاً. وخرج بعده معاذ بن جوين الطائي أبو المستورد، فوجه
إليه المغيرة خيلا عليها رجل من همدان، فقتلوه.
وخرجت عصابة من
الموالي، أميرهم أبو علي من أهل الكوفة، وهو مولى لبني الحارث بن كعب، وكانت أول
خارجة خرجت فيها الموالي، فبعث المغيرة إليهم رجلاً من بجيلة، فالتقوا ببادوريا،
فناداهم البجلي: يا معشر الأعاجم! هذه العرب تقاتلنا على الدين، فما بالكم؟
فنادوه: يا جابر! إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد، فآمنا به، ولن نشرك بربنا
أحداً، وإن الله بعث نبينا للناس كافة، ولم يزوه عن أحد. فقاتلهم حتى قتلهم.
وكانت مصر والمغرب
لعمرو بن العاص طعمة شرطها له يوم بايع، ونسخة الشرط: هذا ما أعطى معاوية بن أبي
سفيان عمرو بن العاص مصر، أعطاه أهلها، فهم له حياته، ولا تنقص طاعته شرطاً. فقال
له وردان مولاه: فيه الشعر من بدنك، فجعل عمرو يقرأ الشرط، ولا يقف على ما وقف
عليه وردان، فلما ختم الكتاب وشهد الشهود قال له وردان: وما عمرك أيها الشيخ إلا
كظمء حمار، هلا شرطت لعقبك من بعدك؟ فاستقال معاوية، فلم يقله، فكان عمرو لا يحمل
إليه من مالها شيئاً، يفرق الأعطيه في الناس، فما فضل من شيء أخذه لنفسه.
وولي عمرو بن العاص
مصر عشر سنين، منها لعمر بن الخطاب أربع سنين، ولعثمان بن عفان أربع سنين إلا
شهرين، ولمعاوية سنتين وثلاثة أشهر، وتوفي وله ثمان وتسعون سنة، وكان داهية العرب
رأياً وحزماً وعقلاً ولساناً، وكان عمر بن الخطاب، إذا رأى رجلاً يكلم فلا يقيم
كلامه يقول: سبحان من خلقك وخلق عمرو بن العاص.
وقال بعضهم: سمعت
عمراً يقول: سلطان عادل خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم،
وزلة الرجل عظم يجبر، وزلة اللسان لا تبقى ولا تذر، واستراح من لا عقل له. ولما
حضرت عمراً الوفاة قال لابنه: لود أبوك أنه كان مات في غزاة ذات السلاسل. إني قد
دخلت في أمور لا أدري ما حجتي عند الله فيها. ثم نظر إلى ماله فرأى كثرته، فقال:
يا ليته كان بعرى، يا ليتني مت قبل هذا اليوم بثلاثين سنة، أصلحت لمعاوية دنياه،
وأفسدت ديني، آثرت دنياي وتركت آخرتي، عمى على رشدي حتى حضرني أجلي، كأني بمعاوية
قد حوى مالي وأساء فيكم خلافتي.
وتوفي عمرو ليلة
الفطر سنة أربع وثلاثون، فأقر معاوية ابنه عبد الله بن عمرو، ثم استصفى مال عمرو،
فكان أول من استصفى مال عامل، ولم يكن يموت لمعاوية عامل إلا شاطر ورثته ماله،
فكان يكلم في ذلك، فيقول: هذه سنة سنها عمر بن الخطاب. ثم عزل معاوية عبد الله بن
عمرو، وولى أخاه عتبة ابن أبي سفيان مصر.
وكتب معاوية إلى زياد
بن أبي سفيان: إن قبلك رجلاً من أصحاب رسول الله فوله خراسان، وهو الحكم بن عمرو
الغفاري، فولاه زياد خراسان، فقدمها سنة أربع وأربعون، فصار إلى هراة، ثم مضى منها
إلى الجوزجان، فافتتحها، ونالتهم شدة حتى أكلوا دوابهم، وكان المهلب مع الحكم بن
عمرو في ذلك الوقت، وقد عرف بلاء المهلب وبأسه، وتوفي الحكم بن عمرو، فولى زياد
مكانه الربيع بن زياد الحارثي، وفتحت خوارزم في ذلك الوقت، وكان الذي افتتحها عبد
الله بن عقيل الثقفي.
وحج معاوية سنة أربع
وأربعون، وقدم معه من الشام بمنبر، فوضعه عند باب البيت الحرام، فكان أول من وضع
المنبر في المسجد الحرام. ولما صار إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم، وكلموه في
أمورهم، فقال: أما ترضون يا بني هاشم أن نقر عليكم دماءكم، وقد قتلتم عثمان، حتى
تقولوا ما تقولون؟ فو الله لا أنتم أجل دما من كذا وكذا، وأعظم في القول، فقال له
ابن عباس: كل ما قلت لنا يا معاوية من شر بين دقتيك، أنت والله أولى بذلك منا، أنت
قتلت عثمان، ثم قمت تغمص على الناس إنك تطلب بدمه فانكسر معاوية، فقال ابن عباس:
والله ما رأيتك صدقت إلا فزعت وانكسرت. قال: فضحك معاوية، وقال: والله ما أحب إنكم
لم تكونوا كلمتموني.
ثم كلمه الأنصار، فأغلظ
لهم في القول، وقال لهم: ما فعلت نواضحكم قالوا: أفنيناها يوم بدر لما قتلنا أخاك وجدك وخالك، ولكنا نفعل ما أوصانا به
رسول الله. قال: ما أوصاكم به؟ قالوا: أوصانا بالصبر. قال: فاصبروا. ثم أدلج
معاوية إلى الشام، ولم يقض لهم حاجة.
وفي هذه السنة عمل
معاوية المقصورة في المسجد وأخرج المنابر إلى المصلى في العيدين، وخطب الخطبة قبل
الصلاة، وذلك أن الناس، إذا صلوا، انصرفوا لئلا يسمعوا لعن علي، فقدم معاوية
الخطبة قبل الصلاة، ووهب فدكا لمروان بن الحكم ليغيظ بذلك آل رسول الله. واستعمل
معاوية ابن أثال النصراني على خراج حمص، ولم يستعمل النصارى أحد من الخلفاء قبله
فاعترضه خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالسيف، فقتله، فحبسه معاوية
أياماً، ثم أغرمه ديته، ولم يقده منه.
وكان ابن أثال قتل
عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، دس إليه شربة سم، فعيره المنذر بن الزبير بن
العوام، وقال: تتكلم، وابن أثال بحمص يأمر وينهى؟ فلما قتله قال خالد بن عبد
الرحمن: أما أنا فقد قتلت ابن أثال وهذا عمرو بن جرموز التميمي قاتل الزبير آمن
السرب.
وكان عبد الرحمن بن
العباس بن عبد المطلب قد قدم على معاوية إلى الشام، فجفاه معاوية، ولم يقض له
حاجة، ودخل إليه يوماً، فقال له: يا ابن العباس كيف رأيت الله فعل بنا وبأبي
الحسن؟ فقال: فعلا، والله، غير مختل عجلة إلى جنة لن تنالها، وأخرك إلى دنيا قد
كان أمير المؤمنين نالها. قال: وإنك لتحكم على الله! قال: بما حكم الله به على
نفسه، ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الظالمون. قال معاوية: والله لو عاش
أبو عمرو حتى يراني لرأى نقم ابن العم. فقال ابن عباس: أما والله لو رآك أيقن أنك
خذلته حين كانت النصرة له ونصرته حين كانت النصرة لك. قال: وما دخولك بين العصا
ولحائها؟ قال: ما دخلت إلا عليهما لا لهما، فدعني مما أكره أدعك من مثله، فلأن
تحسن فأجازي أحب إلي من أن تسيء فأكافي، ثم نهض.
وفاة الحسن بن
عليوتوفي الحسن بن علي في شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعون، ولما حضرته الوفاة قال
لأخيه الحسين: يا أخي إن هذه آخر ثلاث مرار سقيت فيها السم، ولم أسقه مثل مرتي
هذه، وأنا ميت من يومي، فإذا أنا مت فادفني مع رسول الله، فما أحد أولى بقربه مني،
إلا أن تمنع من ذلك فلا تسفك فيه محجمة دم. ولما لف في أكفانه قال محمد بن
الحنفية: رحمك الله أبا محمد، فو الله لئن عزت حياتك لقد هدت وفاتك، ونعم الروح
روح عمر به بدنك، ونعم البدن بدن ضمه كفنك، لم لا يكون كذلك، وأنت سليل الهدى،
وحلف أهل التقوى، وخامس أصحاب الكساء، غذتك كف الحق، وربيت في حجر الإسلام،
وأرضعتك ثديا الإيمان، فطب حيا وميتا، فعليك السلام ورحمة الله، وإن كانت أنفسنا
غير قالية لحياتك، ولا شاكة في الخيار لك.
ثم أخرج نعشه يراد به
قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فركب مروان بن الحكم، وسعيد ابن العاص، فمنعا من
ذلك، حتى كادت تقع فتنة.
وقيل إن عائشة ركبت
بغلة شهباء، وقالت: بيتي لا آذن فيه لأحد. فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر، فقال
لها: يا عمة ! ما غسلنا رءوسنا من يوم الجمل الأحمر، أ تريدين أن يقال يوم البغلة
الشهباء؟ فرجعت.
واجتمع مع الحسين بن
علي جماعة وخلق من الناس، فقالوا له: دعنا وآل مروان، فو الله ما هم عندنا كأكله
رأس. فقال: إن أخي أوصاني أن لا أريق فيه محجمة دم. فدفن الحسن في البقيع، وكانت سنة سبعاً وأربعين سنة، وتوفي الحسن بن
علي وابن عباس عند معاوية، فدخل عليه لما أتاه نعي الحسن، فقال له: يا ابن عباس!
إن حسنا مات. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم الخطب وجليل المصاب، أما
والله يا معاوية لئن كان الحسن مات، فما ينسئ موته في أجلك، ولا يسد جسمه حفرتك،
ولقد مضى إلى خير وبقيت على شر. قال: لا أحسبه قد خلف إلا صبية صغاراً. قال: كلنا
كان صغيراً فكبر. قال: بخ بخ، يا ابن عباس، أصبحت سيد قومك. قال: أما ما أبقى الله
أبا عبد الله الحسين بن رسول الله، فلا.
وكان الحسن بن علي
جواداً كريماً وأشبه برسول الله خلقاً وخلقاً وسأل الحسن: ما ذا سمعت من رسول
الله؟ فقال: سمعته يقول لرجل: دع ما يريبك، فإن الشر ريبة والخير طمأنينة. وعقلت
عنه أني بينا أنا أمشي معه إلى جنب جرن الضيقة، تناولت تمرة فأدخلتها في فمي. قال:
فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعه في فمي، فاستخرجها، فألقاها، وقال: إن
محمداً وآل محمد لا تحل لهم الصدقة. وعقلت عنه الصلوات الخمس.
وحج الحسن خمس عشرة
حجة ماشياً، وخرج من ماله مرتين، وقاسم الله عز وجل ثلاث مرات، حتى كان يعطي نعلا
ويمسك نعلا، ويعطي خفا ويمسك أخرى.
وقال معاوية للحسن:
يا أبا محمد ثلاث خلال ما وجدت من يخبرني عنهن. قال: وما هن؟ قال: المروة والكرم والنجدة.
قال: أما المروة فإصلاح الرجل أمر دينه، وحسن قيامه على ماله، ولين الكف، وإفشاء
السلام والتحبب إلى الناس. والكرم العطية قبل السؤال، والتبرع بالمعروف، والإطعام
في المحل، ثم النجدة الذب عن الجار والمحاماة في الكريهة والصبر عند الشدائد.
وقال جابر: سمعت
الحسن يقول: مكارم الأخلاق عشر: صدق اللسان، وصدق البأس، وإعطاء السائل، وحسن
الخلق، والمكافاة بالصنائع، وصلة الرحم، والتذمم على الجار، ومعرفة الحق للصاحب،
وقرى الضيف، ورأسهن الحياء.
وقيل للحسن: من أحسن
الناس عيشا؟ قال: من أشرك الناس في عيشه. وقيل: من شر الناس عيشاً؟ قال: من لا
يعيش في عيشه أحد. وقال الحسن: فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وأشد من
المصيبة سوء الخلق، والعبادة انتظار الفرج.
ودعا الحسن بن علي
بنيه وبني أخيه، فقال: يا بني وبني أخي! إنكم صغار قوم، وتوشكون أن تكونوا كبار
قوم آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم يرويه أو يحفظه، فليكتبه وليجعله في
بيته. وقال رجل للحسن: إني أخاف الموت! قال: ذاك إنك أخرت مالك، ولو قدمته لسرك أن تلحق به.
وقال معاوية: ما تكلم
عندي أحد كان أحب إلي إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي، وما سمعت منه كلمة فحش
قط إلا مرة، فإنه كان بين الحسن بن علي وبين عمرو بن عثمان بن عفان خصومة في أرض،
فعرض الحسن ابن علي أمراً لم يرضه عمرو، فقال الحسن: ليس له عندنا إلا ما رغم
أنفه، فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه قط.
وقال له معاوية يوما:
ما يجب لنا في سلطاننا؟ قال: ما قال سليمان بن داود. قال معاوية: وما قال سليمان
بن داود؟ قال: قال لبعض أصحابه: أ تدري ما يجب على الملك في ملكه، وما لا يضره؟
إذا أدى الذي عليه منه، وإذا خاف الله في السر والعلانية، وعدل في الغضب والرضا،
وقصد في الفقر والغنى، ولم يأخذ الأموال غصباً، ولم يأكلها إسرافاً وبذاراً لم
يضره ما تمتع به من دنياه، إذا كان ذلك من خلته. وقال الحسن: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا سأله أحد حاجة لم يرده إلا بها وبميسور من القول. ومر الحسن
يوماً وقاص يقص على باب مسجد رسول الله، فقال الحسن: ما أنت؟ فقال: أنا قاص يا ابن
رسول الله. قال: كذبت، محمد القاص، قال الله عز وجل: فاقصص القصص. قال: فأنا مذكر. قال:
كذبت، محمد المذكر،
قال له عز وجل: فذكر إنما أنت مذكر قال: فما أنا؟ قال: المتكلف من الرجال.
وكان للحسن من الولد
ثمانية ذكور، وهم: الحسن بن الحسن، وأمه خولة بنت منظور الفزارية، وزيد بن الحسن، وأمه
أم بشير بنت أبي مسعود الأنصاري الخزرجي، وعمر والقاسم وأبو بكر وعبد الرحمن
لأمهات أولاد شتى، وطلحة وعبيد الله.
ولما توفي الحسن وبلغ
الشيعة ذلك اجتمعوا بالكوفة في دار سليمان بن صرد، وفيهم بنو جعدة بن هبيرة،
فكتبوا إلى الحسين بن علي يعزونه على مصابه بالحسن: بسم الله الرحمن الرحيم،
للحسين بن علي من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله
الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فقد بلغنا وفاة الحسن بن علي يوم ولد ويوم يموت ويوم
يبعث حياً غفر الله ذنبه وتقبل حسناته، وألحقه بنبيه، وضاعف لك الأجر في المصاب به
وجبر بك المصيبة من بعده
فعند الله نحتسبه،
وإنا لله وإنا إليه راجعون، ما أعظم ما أصيب به هذه الأمة عامة، وأنت وهذه الشيعة
خاصة، بهلاك ابن الوصي وابن بنت النبي، علم الهدى، ونور البلاد المرجو لإقامة
الدين وإعادة سير الصالحين، فاصبر رحمك الله على ما أصابك، إن ذلك لمن عزم الأمور،
فإن فيك خلفا ممن كان قبلك، وإن الله يؤتي رشده من يهدي بهديك، ونحن شيعتك المصابة
بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، السائرة بسيرتك، المنتظرة لأمرك، شرح
الله صدرك، ورفع ذكرك، وأعظم أجرك، وغفر ذنبك، ورد عليك حقك.
وبايع معاوية لابنه
يزيد بولاية العهد، بعد وفاة الحسن بن علي، ولم يتخلف عن البيعة إلا أربعة نفر:
الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير.
وقال عبد الله بن عمر: نبايع من يلعب بالقرود والكلاب، ويشرب الخمر، ويظهر الفسوق!
ما حجتنا عند الله! وقال عبد الله بن الزبير: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد
أفسد علينا ديننا.
وحج معاوية تلك السنة
فتألف القوم، ولم يكرههم على البيعة، وأغزى معاوية يزيد ابنه الصائفة، ومعه سفيان
بن عوف العامري، فسبقه سفيان بالدخول إلى بلاد الروم فنال المسلمين في بلاد الروم
حمى وجدري، وكانت أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر تحت يزيد بن معاوية، وكان لها
محباً، فلما بلغه ما نال الناس من الحمى والجدري قال:
ما إن أبالي بما لاقت
جموعهم ... بالغذ قذونه من حمى ومن موم
إذا اتكأت على
الأنماط في غرف ... بدير مران عندي أم كلثوم
فبلغ ذلك معاوية
فقال: أقسم بالله لتدخلن أرض الروم فليصيبنك ما أصابهم، فأردف به ذلك الجيش، فغزا
به حتى بلغ القسطنطينية.
ووجه معاوية عقبة بن
نافع الفهري إلى إفريقية فافتتحها واختط قيروانها، وبناه، وكان موضع دغل وحلفاء
تنزله الأسد، وكان ذلك سنة خمسين، ثم ولى معاوية دينارا أبا المهاجر، مولى
الأنصار، مكان عقبة بن نافع الفهري، فأخذ عقبة بن نافع، فحبسه وقيده، فأقام في
الحبس شهورا، ثم أطلقه، فلما صار إلى مصر رده عمرو بن العاص إلى المغرب.
وقيل ورد كتاب من
معاوية على عمرو يأمره بذلك. فلما قدم عقبة إفريقية أخذ ديناراً فحبسه، وخرج على
عقبة رجل من البربر يقال له ابن الكاهنة، ولم يزل عقبة على البلد أيام معاوية
ويزيد بن معاوية.
وتوفي المغيرة بن
شعبة سنة إحدى وخمسين، فولى معاوية الكوفة زياداً، وضمها إليه مع البصرة، فكان أول
من جمع له المصران. وكتب زياد إلى معاوية: أني قد شغلت شمالي بالعراق ويميني
فارغة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يوليني الموسم؟ فكتب إليه بولاية الحجاز، وقيل
بولاية الموسم.
وكان عبد الله بن عمر
يدخل فيقول: ارفعوا أيديكم فادعوا الله أن يكفيكم يمين زياد.
وروى بعضهم أن أبا
بكرة أخاه أتاه، فخاطب صبيا له، وكان قد حلف ألا يكلمه مه كاع عن الشهادة على
المغيرة، فقال: يا بني أبوك ركب في الإسلام عظيما، شتم أمه، وانتفى من أبيه، ثم هو
الآن يريد أن يفعل ما هو أكبر من هذا، يمر بالمدينة، فيستأذن على أم حبيبة بنت أبي
سفيان، فإن أذنت فأعظم بها مصيبة على رسول الله، وعلى المسلمين، فإن لم تأذن له
فأعظم بها فضيحة على أبيك. فتأخر عن الخروج.
وكان حجر بن عدي
الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما من شيعة علي بن أبي طالب، إذا سمعوا
المغيرة وغيره من أصحاب معاوية، وهم يلعنون علياً على المنبر، يقومون فيردون اللعن
عليهم، ويتكلمون في ذلك. فلما قدم زياد الكوفة خطب خطبة له مشهورة لم يحمد الله
فيها، ولم يصل على محمد وأرعد فيها وأبرق، وتوعد وتهدد، وأنكر كلام من تكلم،
وحذرهم ورهبهم، وقال: قد سميت الكذبة، على المنبر، الصلعاء فإذا أوعدتكم أو
وعدتكم، فلم أف لكم بوعدي ووعيدي، فلا طاعة لي عليكم.
وكانت بينه وبين حجر
بن عدي مودة، فوجه إليه فأحضره، ثم قال له: يا حجر! أرأيت ما كنت عليه من المحبة
والموالاة لعلي؟ قال: نعم! قال: فإن الله قد حول ذلك بغضة وعداوة، أورأيت ما كنت
عليه من البغضة والعداوة لمعاوية؟ قال: نعم! قال: فإن الله قد حول ذلك محبة وموالاة، فلا أعلمنك ما ذكرت علياً
بخير ولا أمير المؤمنين معاوية بشر.
ثم بلغه انهم
يجتمعون، فيتكلمون ويدبرون عليه وعلى معاوية، ويذكرون مساويهما، ويحرضون الناس،
فوجه صاحب شرطه إليهم، فأخذ جماعة منهم فقتلوا، وهرب عمرو بن الحمق الخزاعي إلى
الموصل وعدة معه، وأخذ زياد حجر بن عدي الكندي وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه فأشخصهم
إلى معاوية، فكتب فيهم انهم خالفوا الجماعة في لعن أبي تراب، وزروا على الولاة،
فخرجوا بذلك من الطاعة، وأنفذ شهادات قوم أولهم بلال بن أبي بردة بن أبي موسى
الأشعري، فلما صاروا بمرج عذراء من دمشق على أميال، أمر معاوية بإيقافهم هناك، ثم
وجه إليهم من يضرب أعناقهم، فكلمه قوم في ستة منهم، فوقف عنهم، فقتل سبعة: حجر بن
عدي الكندي وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة ابن ضبيعة
العبسي، ومحرز بن شهاب التميمي، وكدام بن حيان العنزي، ولما أراد قتلهم قال حجر بن
عدي: دعوني
حتى أصلي، فصلى ركعتين خفيفتين ثم أقبل عليهم فقال: لو لا أن تظنوا بي خلاف ما بي
لأحببت أن تكونا أطول مما هما، وإني لأول من رمي بسهم في هذا الموضع، وأول من هلك
فيه. فقيل له: أجزعت؟ فقال: ولم لا أجزع، وأنا أرى سيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً،
وقبراً محفوراً؟ ثم ضربت عنقه وأعناق القوم، وكفنوا ودفنوا، وكان ذلك في سنة اثنان
وخمسين.
وقال معاوية للحسين
بن علي: يا أبا عبد الله! علمت أنا قتلنا شيعة أبيك، فحنطناهم، وكفناهم، وصلينا
عليهم، ودفناهم؟ فقال الحسين: حجرك، ورب الكعبة، لكنا والله إن قتلنا شيعتك ما
كفناهم، ولا حنظناهم، ولا صلينا عليهم ولا دفناهم.
وقالت عائشة لمعاوية
حين حج، ودخل إليها: يا معاوية! أقتلت حجرا وأصحابه، فأين عزب حلمك عنهم؟ أما إني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل
السموات. قال: لم يحضرني رجل رشيد، يا أم المؤمنين.
وروي أن معاوية كان
يقول: ما أعد نفسي حليما بعد قتلي حجرا وأصحاب حجر. وبلغ عبد الرحمن بن أم الحكم،
وكان عامل معاوية على الموصل، مكان عمرو بن الحمق الخزاعي، ورفاعة بن شداد، فوجه
في طلبهما، فخرجا هاربين، وعمرو بن الحمق شديد العلة، فلما كان في بعض الطريق لدغت
عمراً حية، فقال: الله أكبر! قال لي رسول الله: يا عمرو ليشترك في قتلك الجن
والإنس. ثم قال لرفاعة: امض لشأنك، فإني مأخوذ ومقتول. ولحقته رسل عبد الرحمن ابن
أم الحكم، فأخذوه وضربت عنقه، ونصب رأسه على رمح، وطيف به، فكان أول رأس طيف به في
الإسلام. وقد كان معاوية حبس امرأته بدمشق، فلما أتى رأسه بعث به، فوضع في
حجرها، فقالت للرسول: أبلغ معاوية ما أقول: طالبه الله بدمه، وعجل له الويل من
نقمه، فلقد أتى أمراً فريا، وقتل براً نقياً. وكان أول من حبس النساء بجرائر
الرجال.
وخرج قريب وزحاف
الخارجيان بالبصرة في جماعة من الخوارج، فاستعرضا الشرط، فقتلا منهم خلقا عظيما،
وصارا إلى المسجد الجامع، فقتلا خلقاً من الناس، ومالوا إلى القبائل، ففعلوا مثل
ذلك. وكان زياد بالكوفة وعامله على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة، فحاربهم، فلما
لم يكن له بهم طاقة كتب إلى زياد، فأقبل زياد حتى صار إلى البصرة، فصار إلى دار
الإمارة، ثم قال: يا أهل البصرة ما هذا الذي قد اشتملتم عليه؟ إني أعطي الله عهداً
لا يخرج على خارجي بعدها فأدع من حيه وقبيلته أحداً، فاكفوني بوائقكم. فقام خطباء
البصرة، فتكلموا واعتذروا.
وكان معاوية أول من
أقام الحرس والشرط والبوابين في الإسلام، وأرخى الستور واستكتب النصارى، ومشى بين
يديه بالحراب، وأخذ الزكاة من الأعطيه، وجلس على السرير، والناس تحته، وجعل ديوان
الخاتم وبنى وشيد البناء، وسخر الناس في بنائه، ولم يسخر أحد قبله، واستصفى أموال
الناس، فأخذها لنفسه.
وكان سعيد بن المسيب
يقول: فعل الله بمعاوية وفعل، فإنه أول من أعاد هذا الأمر ملكاً. وكان معاوية
يقول: أنا أول الملوك. ورحل إليه عبد الله بن عمر يوماً، فقال: يا أبا عبد الله!
كيف ترى بنياننا؟ قال: إن كان من مال الله فأنت من الخائنين، وإن كان من مالك فأنت
من المسرفين. ودخل إليه عدي بن حاتم، فقال له: كيف زماننا هذا يا أبا طريف؟ قال:
إن صدقناكم خفناكم، وإن
كذبناكم خفنا الله.
قال: أقسمت عليك! قال: عدل زمانكم هذا جور زمان قد مضى، وجور زمانكم هذا عدل زمان
ما يأتي. واستقر خراج العراق وما يضاف إليه مما كان في مملكة الفرس في أيام معاوية
على ستمائة ألف ألف وخمسة وخمسين ألف ألف درهم.
وكان خراج السواد
مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف درهم، وخراج فارس سبعين ألف ألف، وخراج الأهواز وما
يضاف إليها أربعين ألف ألف، وخراج اليمامة والبحرين خمسة عشر ألف ألف درهم، وخراج
كور دجلة عشرة آلاف ألف درهم، وخراج نهاوند وماه الكوفة، وهو الدينور، وماه
البصرة، وهو همذان، وما يضاف إلى ذلك من أرض الجبل أربعين ألف ألف درهم، وخراج
الري وما يضاف إليها ثلاثين ألف ألف درهم، وخراج حلوان عشرين ألف ألف درهم، وخراج
الموصل وما يضاف إليها ويتصل بها خمسة وأربعين ألف ألف درهم، وخراج آذربيجان
ثلاثين ألف ألف درهم، بعد أن أخرج معاوية من كل بلد ما كانت ملوك فارس تستصفيه
لأنفسها من الضياع العامرة وجعله صافية لنفسه، فأقطعه جماعة من أهل بيته.
وكان صاحب العراق
يحمل إليه من مال صوافيه في هذه النواحي مائة ألف ألف درهم، فمنها كانت صلاته وجوائزه،
واستقر خراج مصر في أيام معاوية على ثلاثة آلاف ألف دينار، وكان عمرو بن العاص
يحمل منها إليه الشيء اليسير، فلما مات عمرو حمل المال إلى معاوية، فكان يفرق في
الناس أعطياتهم، ويحمل إليه ألف ألف دينار، واستقر خراج فلسطين على أربعمائة
وخمسين ألف دينار، واستقر خراج الأردن على مائة وثمانين ألف دينار، وخراج دمشق على
أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وخراج جند حمص على ثلاثمائة وخمسين ألف دينار،
وخراج قنسرين والعواصم على أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وخراج الجزيرة، وهي
ديار مضر وديار ربيعة، على خمسة وخمسين ألف ألف درهم، وخراج اليمن على ألف ألف
ومائتي ألف دينار، وقيل تسعمائة ألف دينار.
وكان معاوية قد ولي
اليمن، لما استقامت له الأمور، فيروز الديلمي، ثم استعمل مكانه عثمان بن عفان
الثقفي، ثم استعمل ابن بشير الأنصاري. وفعل معاوية بالشام والجزيرة واليمن مثل ما
فعل بالعراق من استصفاء ما كان للملوك من الضياع وتصييرها لنفسه خالصة وأقطعها أهل
بيته وخاصته. وكان أول من كانت له الصوافي في جميع الدنيا، حتى بمكة والمدينة،
فإنه كان فيهما شيء يحمل في كل سنة من أوساق التمر والحنطة.
وكان معاوية وجه إلى
ثغر الهند ابن سوار بن همام، فشخص في أربعة آلاف حتى أتى مكران، فأقام بها شهوراً،
ثم غزا القيقان، فقاتلهم، وصبر على قتالهم، فقتل ابن سوار وعامة ذلك الجيش، ورجع
من بقي معه إلى مكران، فكتب معاوية إلى زياد أن يوجه رجلاً له حزم وجزالة. فوجه
سنان بن سلمة الهذلي فأتى مكران، فلم يزل بها مقيما ثم صرفه زياد، وولى راشد بن
عمرو الجديدي الأزدي، فغزا القيقان، فظفر وغنم، وغزا بعض بلاد السند، وفتح بلاد
الهند، وكانت الهند يومئذ أهون شوكة من السند، فقتل راشد ببلاد السند. وأقام زياد
على ولاية العراق اثنتي عشرة سنة، وكان لزياد دهاء ورجله وصولة، وكان أول من دون الدواوين
ووضع النسخ للكتب، وأفرد كتاب الرسائل من العرب والموالي المتفصحين.
وكان زياد يقول:
ينبغي أن يكون كتاب الخراج من رؤساء الأعاجم العالمين بأمور الخراج.
وكان زياد يقول: ملاك
السلطان أربع خلال: العفاف عن المال، والقرب من المحسن، والشدة على المسيء، وصدق اللسان.
وكان زياد أول من بسط الأرزاق على عماله ألف درهم ألف درهم، ولنفسه خمسة وعشرين
ألف درهم.
وكان زياد يقول:
ينبغي للوالي أن يكون أعلم بأهل عمله منهم بأنفسهم. فقام إليه رجل فقال: أصلح الله
الأمير! تعرفني؟ فقال: نعم المعرفة الجامعة! أعرفك باسمك واسم أبيك، وكنيتك،
وعريفك، وعشيرتك، وفصيلتك، ولقد بلغ من معرفتي بكم أني أرى البرد على أحدكم، ثم
آخر عارية، فأعرفه.
واختصم إلى زياد
رجلان فقال أحدهما: أصلح الله الأمير! إنه يدل بناحية ذكر أنها له من الأمير. قال:
صدق! سأخبرك بما ينفعه من ذلك، ويضرك، إن وجب له الحق عليك أخذتك له أخذاً عنيفاً،
وإن وجب عليه حكمت وأديت عنه.
وقال زياد وهو على
المنبر: إن أعظم الناس كذباً أمير يقف على المنبر وتحته مائة ألف من الناس،
فيكذبهم، وإني والله لا أعدكم أجراً إلا انجزته، ولا أعاقبكم حتى أتقدم عليكم.
وكان زياد يقول
لأصحابه: ليس كل يصل إلي ولا كل من وصل إلى أمكنه الكلام، فاستشفعوا لمن وراءكم،
فإني من ورائكم أمنع إن أردت أن أمنع.
وكان زياد يقول:
أربعة أعمال لا يليها إلا المسن الذي قد عض على ناجذة: الثغر، والصائفة، والشرط،
والقضاء. وينبغي أن يكون صاحب الشرط شديد الصولة، قليل الغفلة، وينبغي أن يكون
صاحب الحرس مسناً، عفيفاً، مأموناً، لا يطعن عليه. وينبغي أن يكون في الكاتب خمس خلال: بعد غور، وحسن مداراة، وأحكام
للعمل وألا يؤخر عمل اليوم لغد، والنصيحة لصاحبه. وينبغي للحاجب أن يكون عاقلا،
فطنا، قد خدم الملوك قبل أن يتولى حجابتهم وتوفي زياد بالكوفة سنة أربع وخمسين.
وروي أنه كان أحضر
قوماً بلغه انهم شيعة لعلي ليدعوهم إلى لعن علي والبراءة منه، أو يضرب أعناقهم،
وكانوا سبعين رجلاً، فصعد المنبر، وجعل يتكلم بالوعيد والتهديد، فنام بعض القوم،
وهو جالس، فقال له بعض أصحابه: تنام وقد أحضرت لتقتل؟ فقال: من عمود إلى عمود
فرقان، لقد رأيت في نومتي هذه عجباً. قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت رجلاً أسود دخل المسجد فضرب رأسه السقف، فقلت: من
أنت يا هذا؟ فقال: أنا النقاد داق الرقبة. قلت: وأين تريد؟ قال: أدق عنق هذا
الجبار الذي يتكلم على هذه الأعواد.
فبينا زياد يتكلم على
المنبر إذ قبض على إصبعه، ثم صاح: يدي! وسقط عن المنبر مغشيا عليه، فأدخل القصر،
وقد طعن في خنصرة اليمنى، فجعل لا يتغاذ، فأحضر الطبيب، فقال له: اقطع يدي! قال:
أيها الأمير! أخبرني عن الوجع تجده في يدك، أو في قلبك؟ قال: والله إلا في قلبي.
قال: فعش سويا.
فلما نزل به الموت
كتب إلى معاوية أني كتبت إلى أمير المؤمنين، وأنا في آخر يوم من الدنيا وأول يوم
من الآخرة، وقد استخلفت على عملي خالد ابن عبد الله بن خالد بن أسيد.
فلما توفي زياد ووضع
نعشه ليصلي عليه تقدم عبيد الله ابنه فنحاه، وتقدم خالد بن عبد الله فصلى عليه،
فلما فرغ من دفنه خرج عبيد الله من ساعته إلى معاوية، فلما قيل لمعاوية هذا عبيد
الله قال: يا بني! ما منع أباك أن يستخلفك؟ أما لو فعل لفعلت. فقال: نشدتك الله،
يا أمير المؤمنين، أن يقولها لي أحد بعدك ما منع أباه وعمه أن يستعملاه؟ فولاه
خراسان، وصير إليه ثغرى الهند. وتوفي المنذر فولى مكانه سنان بن سلمة، فقاتل
القيقان والبوقان، وظفر، ورزقه الله النصر عليهم. وصار عبيد الله بن زياد إلى
خراسان، فبدأ ببخارى، وعليها ملكة يقال لها خاتون فقاتلهم حتى فتحها، ثم قطع نهر
بلخ، وكان أول عربي قطع نهر بلخ، وحاربه القوم محاربة شديدة، وكان الظفر له، ثم
انصرف من خراسان إلى معاوية فولاه البصرة سنة ست وخمسين، وقيل أول سنة سبع وخمسين.
وولى معاوية عبد الله
بن زياد خراسان، فاستضعفه، فعزله، وولي عبد الرحمن بن زياد، فلم يحمده، فعزله،
فقدم عبد الرحمن بمال عظيم، فقيل إنه قال: قدمت معي بمال يكفيني مائة سنة لكل يوم
ألف درهم، فذهب ذلك المال، حتى نظر إليه في أيام الحجاج على حمار فقيل له: أين
المال؟ فقال: لا يكفي إلا وجه الله، والحمار أيضاً ليس لي، إنما هو عارية.
وولى معاوية خراسان
بعد عبد الرحمن بن زياد سعيد بن عثمان بن عفان، فقطع النهر، وصار إلى بخارى، فطلبت
خاتون ملكة بخارى الصلح، فأجابها إلى ذلك، ثم رجعت عن الصلح، وطمعت في سعيد،
فحاربهم سعيد، فظفر، وقتل مقتلة عظيمة. وسار إلى سمرقند، فحاصرها، فلم يكن له طاقة
بها، فظفر بحصن فيه أبناء الملوك، فلما صاروا في يده طلب القوم الصلح، فحلف ألا
يبرح حتى يدخل المدينة، ففتح له باب المدينة، فدخلها، ورمى القهندز بحجر، وكان معه
قثم بن العباس بن عبد المطلب فتوفي بسمرقند. فلما بلغ عبد الله بن عباس موته قال:
ما أبعد ما بين مولده ومقبرة، مولده بمكة، وقبره بسمرقند، فانصرف سعيد بن عثمان
إلى معاوية، فولى معاوية مكانه أسلم بن زرعة.
وصار سعيد إلى
المدينة، ومعه أسراء من أولاد ملوك السغد، فوثبوا عليه، وقتلوه، وقتل بعضهم بعضا،
حتى لم يبق منهم أحد. وأقام أسلم بن زرعة شهورا، وكان عمال خراسان ينزلون هراة، ثم
ولى معاوية خليد بن عبد الله الحنفي، فكان آخر ولاته على خراسان.
وأراد سعد بن أبي
وقاص أن يعمل له، فامتنع عليه، ولزم منزله، وكان يسكن قصرا له خارج المدينة على
عشرة أميال فلم يزل نازلا به حتى توفي، وكانت وفاته سنة خمس وخمسين، وحمل على أيدي
الرجال من قصره إلى المدينة، حتى دفن بالبقيع.
وتوفي أيام معاوية
أربع من أزواج رسول الله: حفصة بنت عمر، توفيت سنة خمس وأربعين، وصلى عليها مروان
بن الحكم، وهو عامل المدينة، وصفية بنت حيي بن أخطب توفيت سنة خمسين، وخولة بنت
الحارث توفيت سنة ست وخمسين، وعائشة بنت أبي بكر توفيت سنة ثمان وخمسين، وصلى
عليها أبو هريرة، وكان خليفة لمروان على المدينة، فقال بعض من حضر: صلى عليها أعدى
الناس لها. وتوفي أبو هريرة سنة تسع وخمسين.
وكان لمعاوية حلم
ودهاء، وجود بالمال على المداراة من رجل يبخل على طعامه. وقال سعيد بن العاص: سمعت
معاوية يوماً يقول: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني،
ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. قيل: وكيف، يا أمير المؤمنين؟ قال: كانوا إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها
مددتها. وكان إذا بلغه عن رجل ما يكره قطع لسانه بالإعطاء، وربما احتال عليه
فبعث به في الحروب، وقدمه، وكان أكثر فعله المكر والحيلة.
وحج بالناس، في جميع
سني ولايته، حجتين سنة أربع وأربعين وسنة خمسين، وأراد أن يحمل منبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم فنال المنبر زلزلة، حتى ظن أنه آخر الدنيا، فتركه ثم زاد فيه خمس
مراق من أسفله، واعتمر عمرة رجب في سنة ست وخمسين. وكان أول من كسا الكعبة
الديباج، واشترى لها العبيد.
وكان يغلب عليه عمرو
بن العاص، ويزيد بن الحر العبسي، والضحاك بن قيس الفهري وكان الضحاك على شرطته،
وعلى حرسه أبو مخارق مولى حمير، وحاجبه رباح، مولاه. وكان معاوية جهم الوجه جاحظ
العين، وافر اللحية، عريض الصدر، عظيم الأليتين، قصير الساقين والفخذين، وكانت
ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر، وتوفي مستهل رجب، ويقال للنصف من رجب سنة ستين،
وهو ابن سبع وسبعين سنة، ويقال ثمانين سنة، وقد كان ضعف ونحل، وسقطت ثنيتاه.
قال صالح بن عمرو:
ورأيت معاوية على المنبر معتما بعمامة سوداء، قد سدلها على فيه، وهو يقول: معشر
الناس! كبرت سني، وضعفت قوتي، وأصبت في أحسني، فرحم الله من دعا لي! ثم بكى، فبكى
معه الناس. وخرج الضحاك بن قيس، لما مات معاوية، فوضع أكفانه على المنبر، ثم قال:
إن معاوية كان ناب العرب وحبلها، وقد مات، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها، وموردوه
قبره، ثم هو آخر اللقاء.
وصلى عليه الضحاك بن
قيس الفهري لغيبة يزيد في ذلك الوقت، ودفن بدمشق، وخلف من الذكور أربعة: يزيد وعبد
الله ومحمداً، وعبد الرحمن. وأقام الحج في أيامه سنة واحد وأربعون واثنان وأربعون
عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة ثلاث وأربعون مروان ابن الحكم، وفي سنة أربع وأربعون
معاوية بن أبي سفيان، وفي سنة خمس وأربعون مروان بن الحكم، وفي سنة ست وأربعون
عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة سبع وأربعون عتبة بن أبي سفيان وفي سنة ثمان وأربعون
مروان بن الحكم، وفي سنة تسع وأربعون سعيد بن العاص، وفي سنة خمسين معاوية بن أبي
سفيان، وفي سنة وحد وخمسين يزيد بن معاوية، وفي سنة اثنان وخمسين سعيد بن العاص،
وفي سنة ثلاث وخمسون سعيد بن العاص أيضاً، وفي سنة أربع وخمسون مروان بن
الحكم، وفي سنة خمس
وخمسون مروان ابن الحكم أيضاً، وفي سنة ست وخمسون الوليد بن عتبة بن أبي سفيان،
وفي سنة سبع وخمسون الوليد ابن عتبة بن أبي سفيان أيضاً، وفي سنة ثمان وخمسون
الوليد بن عتبة أيضاً، وفي سنة تسع وخمسون عثمان بن محمد بن أبي سفيان. وغزا
بالناس في ولايته سنة واحد وأربعون، وجه حبيب بن مسلمة، فصالح صاحب الروم، وكره أن
يشغله. وسنة ثلاث وأربعون غزا بسر بن أبي أرطأة أرض الروم ومشتاة بها. سنة أربع
وأربعون غزا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد حتى بلغ قلونية. سنة خمس وأربعون عبد
الرحمن بن خالد بن الوليد وشتا بأرض الروم وبلغ أنطاكية سنة ست وأربعون مالك بن
عبد الله الخثعمي، وقيل مالك بن هبيرة السكوني، وشتا بأرض الروم سنة سبع وأربعون
مالك بن هبيرة السكوني وشتا بأرض الروم سنة ثمان وأربعون عبد الرحمن العتبي وبلغ
أنطاكية السوداء. سنة تسع وأربعون فضالة بن عبيد، ففتح الله على يده، وسبى سبياً
كثيراً. سنة خمسين غزا بسر بن أبي أرطأة، وشتا سفيان بن عوف. سنة واحد وخمسين غزا محمد بن عبد الرحمن، وشتا فضالة بن عبيد الأنصاري.
سنة اثنان وخمسين سفيان بن عوف، فتوفي، فاستخلف عبد الله بن مسعدة الفزاري.
سنة ثلاث وخمسين محمد
بن مالك، وقيل فتحت طرسوس في هذه السنة، فتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي. سنة خمس
وخمسين مالك بن عبد الله الخثعمي، وشتا بأرض الروم سنة ست وخمسين يزيد بن معاوية،
فبلغ القسطنطينية، وشتا مسعود بن أبي مسعود، وكان على البر يزيد بن شجرة، وعلى
البحر عياض بن الحارث، كل هذا يقال سنة سبع وخمسين عبد الله بن قيس. سنة ثمان
وخمسين مالك بن عبد الله الخثعمي، ويقال عمرو بن يزيد الجهني، وقيل يزيد بن شجرة
في البحر. سنة تسع وخمسين عمرو بن مرة الجهني في البر، لم يكن عامئذ غزوة بحر.
وكان الفقهاء في أيام معاوية عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمر بن الخطاب، المسور
بن مخرمة الزهري، السائب بن يزيد، عبد الرحمن بن حاطب، أبو بكر بن عبد الرحمن بن
الحارث، سعيد بن المسيب، عروة بن الزبير، عطاء ابن يسار، القاسم بن محمد بن أبي
بكر، عبيدة بن قيس السلماني، الربيع ابن خشيم الثوري، زر بن حبيش، الحارث بن قيس
الجعفي، عمرو بن عتبة بن فرقد، الأحنف بن قيس، الحارث بن عمير الزبيدي، سويد بن
غفلة الجعفي، عمرو بن ميمون الأودي، مطرف بن عبد الله بن الشخير شقيق بن سلمة،
عمرو بن شرحبيل، عبد الله بن يزيد الخطمي، الحارث الأعور الهمداني، مسروق بن
الأجدع، علقمة بن قيس الخثعمي، شريح بن الحارث الكندي، زيد بن وهب الهمداني.
أيام يزيد بن
معاويةوملك يزيد بن معاوية، وأمه ميسون بنت بحدل الكلبي، في مستهل رجب سنة ستون،
وكانت الشمس يومئذ في الثور درجة وعشرين دقيقة، والقمر في العقرب... درجات وثلاثين
دقيقة، وزحل في السرطان إحدى عشرة درجة، والمشتري في الجدي تسع عشرة درجة، والمريخ
في الجوزاء اثنتين وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في الجوزاء ثماني درجات
وخمسين دقيقة، وعطارد في الثور عشرين درجة وثلاثين دقيقة، وكان غائباً فلما قدم
دمشق كتب إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وهو عامل المدينة: إذا أتاك كتابي هذا،
فأحضر الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، فخذهما بالبيعة لي، فإن امتنعا فاضرب
أعناقهما، وابعث لي برؤوسهما، وخذ الناس بالبيعة، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم، وفي
الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، والسلام. فورد الكتاب على الوليد ليلاً، فوجه
إلى الحسين وإلى عبد الله بن الزبير، فأخبرهما الخبر، فقالا: نصبح ونأتيك مع الناس. فقال له مروان: إنهما والله إن خرجا لم ترهما،
فخذهما بأن يبايعا، وإلا فاضرب أعناقهما. فقال: والله ما كنت لأقطع أرحامهما!
فخرجا من عنده وتنحيا من تحت ليلتهما، فخرج الحسين إلى مكة، فأقام بها أياماً،
وكتب أهل العراق إليه، ووجهوا بالرسل على أثر الرسل، فكان آخر كتاب ورد عليه منهم
كتاب هانئ بن أبي هانئ، وسعيد بن عبد الله الخثعمي: بسم الله الرحمن الرحيم،
للحسين بن علي من شيعته المؤمنين والمسلمين، أما بعد فحي هلا، فإن الناس ينتظرونك،
لا إمام لهم غيرك، فالعجل ثم العجل والسلام.
فوجه إليهم مسلم بن
عقيل بن أبي طالب، وكتب إليهم، وأعلمهم أنه أثر كتابه فلما قدم مسلم الكوفة
اجتمعوا إليه، فبايعوه وعاهدوه وعاقدوه، وأعطوه المواثيق على النصرة والمشايعة
والوفاء. وأقبل الحسين من مكة يريد العراق، وكان يزيد قد ولى عبيد الله بن زياد
العراق، وكتب إليه: قد بلغني أن أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم،
وأنه قد خرج من مكة متوجها نحوهم، وقد بلي به بلدك من بين البلدان، وأيامك من بين
الأيام، فإن قتلته، وإلا رجعت إلى نسبك وإلى أبيك عبيد، فاحذر أن يفوتك.
مقتل الحسين بن
عليوقدم عبيد الله بن زياد الكوفة، وبها مسلم بن عقيل قد نزل على هانئ بن عروة،
وهانئ شديد العلة، وكان صديقا لابن زياد، فلما قدم ابن زياد الكوفة أخبر بعلة
هانئ، فأتاه ليعوده، فقال هانئ لمسلم بن عقيل وأصحابه، وهم جماعة: إذا جلس ابن
زياد عندي وتمكن، فإني سأقول اسقوني، فاخرجوا فاقتلوه، فأدخلهم البيت وجلس في
الرواق.
وأتاه عبيد الله بن
زياد يعوده، فلما تمكن قال هانئ بن عروة: اسقوني! فلم يخرجوا، فقال: اسقوني، ما
يؤخركم؟ ثم قال: اسقوني، ولو كانت فيه نفسي، ففهم ابن زياد، فقام فخرج من عنده،
ووجه بالشرط يطلبون مسلماً، وخرج وأصحابه، وهو لا يشك في وفاء القوم، وصحة نياتهم،
فقاتل عبيد الله، فأخذوه، فقتله عبيد الله، وجر برجله في السوق وقتل هانئ ابن عروة
لنزول مسلم منزله وإعانته إياه.
وسار الحسين يريد
العراق، فلما بلغ القطقطانة أتاه الخبر بقتل مسلم بن عقيل، ووجه عبيد الله بن
زياد، لما بلغه قربه من الكوفة، بالحر بن يزيد، فمنعه من أن يعدل، ثم بعث إليه
بعمر بن سعد بن أبي وقاص في جيش، فلقي الحسين بموضع على الفرات يقال له كربلاء
وكان الحسين في اثنين وستين، أو اثنين وسبعين رجلاً من أهل بيته وأصحابه، وعمر بن
سعد في أربعة آلاف، فمنعوه الماء، وحالوا بينه وبين الفرات، فناشدهم الله عز وجل،
فأبوا إلا قتاله أو يستسلم، فمضوا به إلى عبيد الله بن زياد فيرى رأيه فيه، وينفذ
فيه حكم يزيد، فروي عن علي بن الحسين أنه قال: إني لجالس في العشية التي قتل أبي
الحسين ابن علي في صبيحتها، وعمتي زينب تمرضني، إذ دخل أبي، وهو يقول:
يا دهر أف لك من خليل
... كم لك في الإشراق والأصيل
من طالب وصاحب قتيل
... والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل
... وكل حي سألك السبيل
ففهمت ما قال: وعرفت
ما أراد، وخنقتني عبرتي، ورددت دمعي، وعرفت أن البلاء قد نزل بنا، فأما عمتي زينب،
فإنها لما سمعت ما سمعت، والنساء من شأنهن الرقة والجزع، لم تملك إن وثبت تجر
ثوبها حاسرة، وهي تقول: ووا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم! ماتت فاطمة
وعلي والحسن بن علي أخي، فنظر إليها فردد غصته، ثم قال: يا أختي اتقي الله، فإن
الموت نازل لا محالة! فلطمت وجهها، وشقت جيبها، وخرت مغشياً عليها، وصاحت:
واويلاه! وواثكلاه! فتقدم إليها، فصب على وجهها الماء، وقال لها: يا أختاه، تعزي
بعزاء الله، فإن لي ولكل مسلم أسوة برسول الله، ثم قال: إني أقسم عليك، فأبرى
قسمي، لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها، ولا تدعي علي بالويل والثبور، ثم جاء
بها حتى أجلسها عندي، فإني لمريض مدنف، وخرج إلى أصحابه.
فلما كان من الغد خرج
فكلم القوم، وعظم عليهم حقه، وذكرهم الله عز وجل ورسوله، وسألهم أن يخلوا بينه
وبين الرجوع، فأبوا إلا قتاله، أو أخذه حتى يأتوا به عبيد الله بن زياد، فجعل يكلم
القوم بعد القوم والرجل بعد الرجل، فيقولون: ما ندري ما تقول، فأقبل على أصحابه فقال: إن القوم ليسوا يقصدون غيري،
وقد قضيتم ما عليكم فانصرفوا، فأنتم في حل. فقالوا: لا والله، يا ابن رسول الله،
حتى تكون أنفسنا قبل نفسك، فجزاهم الخير. وخرج زهير بن القين على فرس له فنادى: يا
أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله! نذار عباد الله! ولد فاطمة أحق بالود والنصر
من ولد سمية، فإن لم تنصروهم، فلا تقاتلوهم. أيها الناس! إنه ما أصبح على ظهر
الأرض ابن بنت نبي إلا الحسين، فلا يعين أحد على قتله ولو بكلمة إلا نغصه الله
الدنيا، وعذبه أشد عذاب الآخرة.
ثم تقدموا رجلاً
رجلاً، حتى بقي وحده ما معه أحد من أهله، ولا ولده، ولا أقاربه، فإنه لواقف على
فرسه إذ أتي بمولود قد ولد له في تلك الساعة، فأذن في أذنه، وجعل يحنكه، إذ أتاه
سهم، فوقع في حلق الصبي، فذبحه، فنزع الحسين السهم من حلقه، وجعل يلطخه بدمه يقول:
والله لأنت أكرم على الله من الناقة، ولمحمد أكرم على الله من صالح! ثم أتى فوضعه
مع ولده وبني أخيه، ثم حمل عليهم، فقتل منهم خلقاً عظيماً، وأتاه سهم فوقع في
لبته، فخرج من قفاه، فسقط، وبادر القوم فاحتزوا رأسه، وبعثوا به إلى عبيد الله بن
زياد، وانتهبوا مضاربه، وابتزوا حرمه، وحملوهن إلى الكوفة، فلما دخلن إليها خرجت
نساء الكوفة يصرخن ويبكين، فقال علي بن الحسين: هؤلاء يبكين علينا فمن قتلنا؟
وأخرج عيال الحسين وولده إلى الشام، ونصب رأسه على رمح، وكان مقتله لعشر ليال خلون
من المحرم سنة واحد وستون، واختلفوا في اليوم، فقالوا: يوم السبت، وقالوا: يوم
الإثنين، وقالوا: يوم الجمعة، وكان من شهور العجم في تشرين الأول.
قال الخوارزمي: وكانت
الشمس يومئذ في الميزان سبع عشرة درجة وعشرين دقيقة، والقمر في الدلو عشرين درجة
وعشرين دقيقة، وزحل في السرطان تسعاً وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والمشتري في الجدي
اثنتي عشرة درجة وأربعين دقيقة، والزهرة في السنبلة خمس درجات وخمسين دقيقة،
وعطارد في الميزان خمس درجات وأربعين دقيقة، والرأس في الجوزاء درجة وخمساً
وأربعين دقيقة.
ووضع الرأس بين يدي
يزيد، فجعل يزيد يقرع ثناياه بالقصب وكان أول صارخة صرخت في المدينة أم سلمة زوج
رسول الله، كان دفع إليها قارورة فيها تربة، وقال لها: إن جبريل أعلمني أن أمتي
تقتل الحسين وأعطاني هذه التربة، وقال لي: إذا صارت دما عبيطا فاعلمي أن الحسين قد قتل، وكانت عندها، فلما حضر
ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كل ساعة، فلما رأتها قد صارت دما صاحت: وا
حسيناه! وابن رسول الله! وتصارخت النساء من كل ناحية، حتى ارتفعت المدينة بالرجة
التي ما سمع بمثلها قط.
وكانت سن الحسين يوم
قتل ستاً وخمسين سنة، وذلك أنه ولد في سنة أربعة من الهجرة.
وقيل للحسين: ما سمعت
من رسول الله؟ قال: سمعته يقول: إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، وعقلت
عنه أنه يكبر فأكبر خلفه، فإذا سمع تكبيري أعاد التكبير حتى يكبر سبعاً، وعلمني:
قل هو الله أحد، وعلمني الصلوات الخمس، وسمعته يقول: من يطع الله يرفعه، ومن يعص
الله يضعه، ومن يخلص نيته لله يزينه، ومن يثق بما عند الله يغنه، ومن يتعزز على
الله يذله. ئ قال بعضهم: سمعت الحسين يقول: الصدق عز، والكذب عجز، والسر أمانة والجوار قرابة،
والمعونة صداقة، والعمل تجربة، والخلق الحسن عبادة، والصمت زين، والشح فقر والسخاء
غنى، والرفق لب.
ووقف الحسين بن علي
بالحسن البصري، والحسن لا يعرفه، فقال له الحسين: يا شيخ هل ترضى لنفسك يوم بعثك؟
قال: لا! قال: فتحدث نفسك بترك ما لا ترضاه لنفسك من نفسك يوم بعثك؟ قال: نعم بلا
حقيقة. قال: فمن أغش لنفسه منك يوم بعثك، وأنت لا تحدث نفسك بترك ما لا ترضاه
لنفسك بحقيقة؟ ثم مضى الحسين، فقال الحسن البصري: من هذا؟ فقيل له: الحسين بن علي.
فقال: سهلتم علي.
وكان للحسين من
الولد: علي الأكبر، لا بقية له، قتل بالطف، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن
مسعود الثقفي، وعلي الأصغر، وأمه حرار بنت يزدجرد، وكان الحسين سماها غزالة.
وقيل لعلي بن الحسين:
ما أقل ولد أبيك! قال: العجب كيف ولدت له، إنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف
ركعة، فمتى كان يفرغ للنساء؟ وأقام عبد الله بن الزبير بمكة خالعاً يزيد، ودعا إلى
نفسه، وأخرج عامل يزيد. ووجه إليه يزيد ابن عضاة الأشعري، وكتب إليه يعطيه الأمان،
ويعلمه أنه كان حلف ألا يقبل بيعته إلا وهو في جامعة حديد، حتى يبايع ثم يطلقه.
وكان مروان بن الحكم عامل المدينة، فكره ابن الزبير أن يجيب إلى ذلك، وداخله الهلع
عندما بلغه من قتل الحسين، فوجه إليه مع بعض ثقاته بشعر يقول فيه:
فخذها فليست للعزيز
بخطه ... وفيها مقال لامرئ متذلل
وكان ابن الزبير شديد
العزة، فلم يفعل، وأجاب ابن عضاة بجواب غليظ، فقال ابن عضاة: إن الحسين بن علي كان
أجل قدراً في الإسلام وأهله من قبل، وقد رأيت حاله، فقال له ابن الزبير: إن الحسين
بن علي خرج إلى من لا يعرف حقه، وإن المسلمين قد اجتمعوا علي. فقال له: فهذا ابن
عباس، وابن عمر لم يبايعك، وانصرف.
وأخذ ابن الزبير عبد
الله بن عباس بالبيعة له، فامتنع عليه، فبلغ يزيد بن معاوية أن عبد الله بن عباس
قد امتنع على ابن الزبير، فسره ذلك، وكتب إلى ابن عباس: أما بعد فقد بلغني أن
الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته، وعرض عليك الدخول في طاعته لتكون على الباطل
ظهيرا وفي المأثم شريكا، وإنك امتنعت عليه، واعتصمت ببيعتنا وفاء منك لنا، وطاعة
لله فيما عرفك من حقنا، فجزاك الله من ذي رحم بأحسن ما يجزى به الواصلين لأرحامهم،
فإني ما آنس من الأشياء فلست بناس برك، وحسن جزائك، وتعجيل صلتك بالذي أنت مني
أهله في الشرف والطاعة والقرابة بالرسول، وانظر، رحمك الله، فيمن قبلك من قومك،
ومن يطرؤ عليك من الآفاق ممن يسحره الملحد بلسانه وزخرف قوله، فأعلمهم حسن رأيك في
طاعتي والتمسك ببيعتي، فإنهم لك أطوع، ومنك أسمع منهم للمحل الملحد، والسلام.
فكتب إليه عبد الله
بن عباس: من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية. أما بعد، فقد بلغني كتابك بذكر
دعاء ابن الزبير إياي إلى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من بيعته، فإن يك
ذلك كما بلغك، فلست حمدك أردت، ولا ودك، ولكن الله بالذي أنوي عليم. وزعمت أنك لست
بناس ودي فلعمري ما تؤتينا مما في يديك من حقنا إلا القليل، وإنك لتحبس عنا منه
العريض الطويل، وسألتني أن أحث الناس عليك وأخذ لهم عن ابن الزبير، فلا، ولا
سروراً، ولا حبوراً، وأنت قتلت الحسين بن علي، بفيك الكثكث ولك الأثلب، إنك إن
تمنك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنك لأنت المفند المهور. لا تحسبني، لا أبا لك، نسيت
قتلك حسينا وفتيان بني عبد المطلب، مصابيح الدجى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك
مصرعين في صعيد، مرملين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لا مكفنين، تسفي عليهم الرياح،
وتعاورهم الذئاب، وتنشى بهم عرج الضباع، حتى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في
دمائهم، فأجنوهم في أكفانهم، وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست، يا يزيد.
وما آنس من الأشياء،
فلست بناس تسليطك عليهم الدعي العاهر، ابن العاهر، البعيد رحما، اللئيم أبا وأما
الذي في ادعاء أبيك إياه ما اكتسب أبوك به إلا العار والخزي والمذلة في الآخرة
والأولى، وفي الممات والمحيا، إن نبي الله قال: الولد للفراش، وللعاهر الحجر.
فألحقه بأبيه كما يلحق بالعفيف النقي ولده الرشيد، وقد أمات أبوك السنة جهلاً
وأحيا البدع والأحداث المضلة عمداً.
وما آنس من الأشياء،
فلست بناس إطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرم
الله، ودسك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفا
يترقب، وقد كان أعز أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعز أهلها بها حديثاً، وأطوع
أهل الحرمين بالحرمين لو تبوأ بها مقاما واستحل بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو
الذي يستحل حرمة البيت وحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبر من ذلك ما لم
تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم وما لم يكبر ابن الزبير حيث الحد
بالبيت الحرام وعرضه للعائر وأراقل العالم، وأنت؟ لأنت المستحل فيما أظن بل لا شك
فيه إنك للمحرف العريف، فإنك حلف نسوة، صاحب ملأه، فلما رأى سوء رأيك شخص إلى
العراق، ولم يبتغك ضرابا، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
ثم إنك الكاتب إلى
ابن مرجانة أن يستقبل حسينا بالرجال، وأمرته بمعاجلته، وترك مطاولته، والإلحاح
عليه، حتى يقتله ومن معه من بني عبد المطلب، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم
الرجاس، وطهرهم تطهيراً، فنحن أولئك لسنا كأبائك الأجلاف قاه الأكباد الحمير.
ثم طلب الحسين بن علي
إليه الموادعة، وسألهم الرجعة، فاغتنمتم قلة أنصاره، واستئصال أهل بيته، فعدوتم
عليهم، فقتلوهم كأنما قتلوا أهل بيت من الترك والكفر، فلا شيء عندي أعجب من طلبك
ودي ونصري، وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت آخذ ثاري، فإن يشأ الله لا
يطل لديك دمي ولا تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا، فقبلنا ما قتل النبيون
وآل النبيين وكان الله الموعد، وكفى به للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً.
فلا يعجبنك أن ظفرت بنا اليوم، فو الله لنظفرن بك يوماً.
فأما ما ذكرت من
وفائي، وما زعمت من حقي، فإن يك ذلك كذلك، فقد والله بايعت أباك، وإني لأعلم أن
ابني عمي وجميع بني أبي أحق بهذا الأمر من أبيك، ولكنكم، معاشر قريش، كاثرتمونا،
فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقنا، فبعدا على من يجترئ على ظلمنا،
واستغوى السفهاء علينا، وتولى الأمر دوننا. فبعدا لهم كما بعدت ثمود، وقوم لوط،
وأصحاب مدين، ومكذبو المرسلين.
ألا ومن أعجب
الأعاجيب، وما عشت أراك الدهر العجيب، حملك بنات عبد المطلب وغلمة صغاراً من ولده
إليك بالشام كالسبي المجلوب، ترى الناس أنك قهرتنا، وأنك تأمر علينا، ولعمري لئن
كنت تصبح وتمسي آمنا لجرح يدي، إني لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا
يستقر بك الجدل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
قليلاً، حتى يأخذك أخذاً أليماً، فيخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً، فعش لا أبا
لك، فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت. والسلام على من أطاع الله.
وولى يزيد عثمان بن
محمد بن أبي سفيان المدينة، فأتاه ابن مينا، عامل صوافي معاوية، فأعلمه أنه أراد
حمل ما كان يحمله في كل سنة من تلك الصوافي من الحنطة والتمر، وأن أهل المدينة
منعوه من ذلك، فأرسل عثمان إلى جماعة منهم، فكلمهم بكلام غليظ، فوثبوا به وبمن كان
معه بالمدينة من بني أمية، وأخرجوهم من المدينة واتبعوهم يرجمونهم بالحجارة، فلما
انتهى الخبر إلى يزيد بن معاوية وجه إلى مسلم بن عقبة، فأقدمه من فلسطين، وهو
مريض، فأدخله منزله، ثم قص عليه القصة، فقال: يا أمير المؤمنين! وجهني إليهم فو
الله لأدعن أسفلها أعلاها، يعني مدينة الرسول، فوجهه في خمسة آلاف إلى المدينة،
فأوقع بأهلها وقعة الحرة، فقاتله أهل المدينة قتالاً شديدا، وخندقوا على المدينة،
فرام ناحية من نواحي الخندق، فتعذر ذلك عليه، فخدع مروان بعضهم، فدخل ومعه مائة
فارس، فاتبعه الخيل حتى دخلت المدينة، فلم يبق بها كثير أحد إلا قتل، وأباح حرم
رسول الله، حتى ولدت الأبكار لا يعرف من أولدهن، ثم أخذ الناس على أن يبايعوا على
انهم عبيد يزيد بن معاوية، فكان الرجل من قريش يؤتى به، فيقال: بايع آية إنك عبد
قن ليزيد، فيقول: لا! فيضرب عنقه، فأتاه علي بن الحسين فقال: علام يريد يزيد أن
أبايعك؟ قال: على أنك أخ وابن عم. فقال: وإن أردت أن أبايعك على أني عبد قن، فعلت فقال: ما أحشمك هذا،
فلما أن رأى الناس إجابة علي بن الحسين قالوا: هذا ابن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بايعه على ما يريد، فبايعوه على ما أراد، وكان ذلك سنة اثنان وستون.
وكان جيش مسلم خمسة
آلاف رجل: من فلسطين ألف رجل عليهم روح ابن زنباع الجذامي، ومن الأردن ألف رجل
عليهم حبيش بن دلجة القيني، ومن دمشق ألف رجل عليهم عبد الله بن مسعدة الفزاري،
ومن أهل حمص ألف رجل عليهم الحصين بن نمير السكوني، ومن قنسرين ألف رجل عليهم زفر
بن الحارث الكلابي. وكان المدبر لأمر أهل المدينة والرئيس في محاربة أهل الشام عبد
الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاري.
وخرج مسلم بن عقبة من
المدينة يريد مكة لمحاربة ابن الزبير، فلما صار بثنية المشلل احتضر، واستخلف
الحصين بن نمير، وقال له: يا برذعة الحمار! لو لا حبيش بن دلجة القيني لما وليتك،
فإذا قدمت مكة، فلا يكون عملك إلا الوقاف ثم الثقاف، ثم الانصراف، ثم قال: اللهم
إن عذبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية وقتل أهل الحرة، فإني إذا لشقي. ثم
خرجت نفسه فدفن بثنية المشلل، وجاءت أم ولد يزيد بن عبد الله بن زمعة، فنبشته
وصلبته على المشلل، وجاء الناس فرجموه، وبلغ الخبر الحصين بن نمير فرجع فدفنه،
وقتل جماعة من أهل ذلك الموضع، وقيل لم يدع منهم أحداً.
وقدم الحصين بن نمير
مكة فناوش ابن الزبير الحرب في الحرم، ورماه بالنيران حتى أحرق الكعبة. وكان عبد
الله بن عمير الليثي قاضي ابن الزبير، إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة، فنادى
بأعلى صوته: يا أهل الشام! هذا حرم الله الذي كان مأمناً في الجاهلية يأمن فيه
الطير والصيد، فاتقوا الله، يا أهل الشام! فيصيح الشاميون: الطاعة الطاعة! الكرة
الكرة! الرواح قبل المساء! فلم يزل على ذلك حتى أحرقت الكعبة، فقال أصحاب ابن الزبير: نطفئ
النار، فمنعهم، وأراد أن يغضب الناس للكعبة، فقال بعض أهل الشام إن الحرمة والطاعة
اجتمعتا، فغلبت الطاعة الحرمة. وكان حريق الكعبة في سنة ثلاث وستون.
وولى يزيد سلم بن
زياد خراسان، وبعث معه بعده من الأشراف، أحدهم طلحة الطلحات، وهو طلحة بن عبد الله
بن خلف الخزاعي، والمهلب ابن أبي صفرة، وعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعبد
الله بن خازم السلمي فصار إلى خراسان، فأقام بنيسابور، ثم صار إلى خوارزم، ففتحها.
ثم صار إلى بخارى،
وملكتها خاتون، فلما رأت كثرة جمعه هالها ذلك، وكتبت إلى طرخون ملك السغد: أني
متزوجتك، فأقبل إلي لتملك بخارى، فأقبل إليها في مائة ألف وعشرين ألفاً، فوجه سلم
المهلب بن أبي صفرة طليعة له لما بلغه إقبال طرخون، فخرج وتبعه الناس، فلما أشرفوا
على عسكر طرخون زحف أصحاب طرخون إليهم، والتحم القتال، ورشقهم المسلمون بالنبل،
فقتل طرخون وانهزم أصحابه، فقتل منهم بشر كثير، فبلغت سهام المسلمين يومئذ للفارس
ألفين وأربعمائة، وللراجل ألفاً ومائتين، ولم يزل ابن زياد بخراسان حتى توفي يزيد،
وكان يكتم موته حتى ذاع في الناس، فانصرف سلم من خراسان، فاستخلف عليها ابن خازم
السلمي، وذلك أنه خاف أن يثب به، فداراه وبلغه اختلاط الناس، فأعطاه عهده ومضى.
وأقام ابن خازم
بخراسان فعمل العجائب، ولم يكن يرد عليه، وسار سليمان إلى هراة، ووثب أوس بن ثعلبة
بالطالقان، فلم يزل يحاربهما ويحارب الترك، وهو في كل ذلك منصور عليهم. وتوفي يزيد
بن معاوية في صفر سنة أربع وستون بموضع يقال له حوارين وحمل إلى دمشق، فدفن بها،
وصلى عليه معاوية بن يزيد. وكان له من الولد الذكور أربعة: معاوية، وخالد، وأبو
سفيان، وعبد الله، وكان الغالب عليه حسان بن بحدل الكلبي، وروح بن زنباع الجذامي،
والنعمان بن بشير، وعبد الله بن رياح، وكان على شرطة عبد الله بن عامر الهمداني،
وعلى حرسه سعيد مولى كلب، وحاجبه صفوان مولاه.
وكتب مروان بن الحكم
إلى الحصين بن نمير، وهو في محاربة ابن الزبير: لا يهولنك ما حدث، وامض لشأنك.
وبلغ الخبر ابن الزبير وذاع في العسكر، فانكسرت شوكة القوم، وأرسل الحصين بن نمير
إلى ابن الزبير: نلتقي الليلة على الأمان، فالتقيا، فقال له الحصين بن نمير: إن
يزيد قد مات، وابنه صبي، فهل لك أن أحملك إلى الشام، فليس بالشام أحد، فأبايع لك،
فليس يختلف عليك اثنان؟ فقال ابن الزبير، رافعا صوته: لا والله الذي لا إله إلا
هو، أو تقتل بأهل الحرة أمثالهم من أهل الشام فقال له الحصين: من زعم أنك داهية
فهو أحمق. أقول لك ما لك سراً، وتقول لي ما عليك علانية؟ ثم انصرف. وكان سعيد بن
المسيب يسمى سني يزيد بن معاوية بالشؤم: في السنة الأولى قتل الحسين بن علي وأهل
بيت رسول الله، والثانية استبيح حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهكت حرمة المدينة،
والثالثة سفكت الدماء في حرم الله وحرقت الكعبة.
وأقام الحج في ولاية
يزيد بن معاوية سنة ستون عمرو بن سعيد بن العاص، وفي سنة واحد وستون الوليد بن
عتبة، وفي سنة اثنان وستون الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وغزا في الناس في ولايته
سنة واحد وستون، غزا مالك بن عبد الله الخثعمي الصائفة، وهي غزاة سورية.
أيام معاوية بن يزيد
بن معاوية
ثم ملك معاوية بن
يزيد بن معاوية، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، أربعين يوماً، وقيل:
بل أربعة أشهر، وكان له مذهب جميل، فخطب الناس، فقال: أما بعد حمد الله والثناء
عليه، أيها الناس فإنا بلينا بكم وبليتم بنا فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا،
ألا وإن جدي معاوية ابن أبي سفيان نازع الأمر من كان أولى به منه في القرابة برسول
الله، وأحق في الإسلام، سابق المسلمين، وأول المؤمنين، وابن عم رسول رب العالمين،
وأبا بقية خاتم المرسلين، فركب منكم ما تعلمون، وركبتم منه ما لا تنكرون، حتى أتته
منيته وصار رهنا بعمله، ثم قلد أبي وكان غير خليق للخير، فركب هواه، واستحسن خطأه،
وعظم رجاؤه، فأخلفه الأمل، وقصر عنه الأجل، فقلت منعته، وانقطعت مدته، وصار أحفرته
رهناً بذنبه، وأسيراً بجرمه. ثم بكى، وقال: إن أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه
وقبح منقلبه، وقد قتل عترة الرسول، وأباح الحرمة وحرق الكعبة، وما أنا المتقلد
أموركم، ولا المتحمل تبعاتكم، فشأنكم أمركم، فو الله لئن كانت الدنيا مغنماً لقد
نلنا منها حظاً، وإن تكن شراً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها. فقال له مروان بن
الحكم: سنها فينا عمرية! قال: ما كنت أتقلدكم حيا وميتا، ومتى صار يزيد بن معاوية
مثل عمر، ومن لي برجل مثل رجال عمر. وتوفي وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وصلى عليه
خالد بن يزيد بن معاوية، وقيل بل عثمان بن محمد بن أبي سفيان، ودفن بدمشق، وكان
بها ينزل.
أيام مروان بن
الحكموعبد الله بن الزبير وأيام من أيام عبد الملك وكان عبد الله بن الزبير بن
العوام، وأمه أسماء بنت أبي بكر، قد تغلب على مكة، وتسمى بأمير المؤمنين، ومال
إليه أكثر النواحي، وكان ابتداء أمره في أيام يزيد بن معاوية، على ما اقتصصنا من
خبره، ومحاربته للحصين بن نمير، فلما توفي يزيد بن معاوية مال الناس من البلدان
جميعاً إلى ابن الزبير، وكان بمصر عبد الرحمن بن جحدم الفهري عاملاً لابن الزبير،
وأهل مصر في طاعته، وبفلسطين ناتل بن قيس الجذامي، وبدمشق الضحاك بن قيس الفهري،
وبحمص النعمان بن بشير الأنصاري، وبقنسرين والعواصم زفر بن الحارث الكلابي،
وبالكوفة عبد الله بن مطيع، وبالبصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وبخراسان
عبد الله بن خازم السلمي، ولم تبق ناحية إلا مالت إلى ابن الزبير خلا الأردن،
ورئيسها يومئذ حسان بن بحدل الكلبي.
وأخرج ابن الزبير بني
أمية من المدينة، وأخذ مروان بالخروج، فأتى عبد الملك ابنه، وهو عليل مجدر، فقال
له: يا بني إن ابن الزبير قد أخرجني! قال: فما يمنعك أن تخرجني معك؟ قال: كيف
أخرجك وأنت على هذا الحال؟ قال: لفني في القطن، فإن هذا رأي لم يتعقبه ابن الزبير.
فخرج وأخرج عبد الملك، وتعقب ابن الزبير الرأي، فعلم أنه قد أخطأ، فوجه يردهم
ففاتوه.
وقدم مروان، وقد مات
معاوية بن يزيد، وأمر الشام مضطرب، فدعا إلى نفسه، واجتمع الناس بالجابية من أرض
دمشق، فتناظروا في ابن الزبير وفيما تقدم لبني أمية عندهم، وتناظروا في خالد بن
يزيد بن معاوية، وفي عمرو بن سعيد بن العاص بعده، وكان روح بن زنباع الجذامي يميل
مع مروان، فقام خطيباً، فقال: يا أهل الشام! هذا مروان بن الحكم شيخ قريش، والطالب
بدم عثمان، والمقاتل لعلي بن أبي طالب يوم الجمل، ويوم صفين، فبايعوا الكبير،
واستنيبوا للصغير، ثم لعمرو بن سعيد.
فبايعوا لمروان بن
الحكم، ثم لخالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد. فلما عقدوا البيعة جمعوا من كان في
ناحيتهم، ثم تناظروا في أي بلد يقصدون، فقالوا: نقصد دمشق، فإنها دار الملك، ومنزل
الخلفاء، وقد تغلب بها الضحاك بن قيس. فقصدوا دمشق، فلقوا الضحاك بمرج راهط، وكان
مع الضحاك من أهل دمشق وفتينهم جماعة، وقد أمده النعمان بن بشير عامل حمص بشر حبيل
بن ذي الكلاع في أهل حمص، وأمده زفر بن الحارث الكلابي بقيس بن طريف بن حسان
الهلالي، والتقوا بمرج راهط، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل الضحاك بن قيس وخلق من
أصحابه، وهرب من بقي من جيشه.
وبلغ الخبر النعمان
بن بشير، وهو بحمص، فخرج هارباً، ومعه امرأته الكنانية وثقله وولده، فتبعه قوم من
حمير وباهلة، فقتلوه في البرية، واحتزوا رأسه. ووجهوا به إلى مروان بن الحكم.
وهرب زفر بن الحارث
الكلابي والخيل تتبعه حتى أتى قرقيسيا وبها عياض الحرشي من مذحج فأغلق أبوابها
دونه. فلم يزل يخدعه حتى دخلها.
ووجه مروان حبيش بن
دلجة القيني إلى الحجاز لمحاربة ابن الزبير، فسار حتى أتى المدينة، وعليها جابر بن
الأسود بن عوف الزهري عامل ابن الزبير، وكتب ابن الزبير إلى الحارث بن عبد الله
عامله على البصرة أن يوجه إليهم بجيش، فلقوا حبيشا فقتلوه وقتلوا عامة أصحابه فلم
يفلت منهم إلا الشريد فكان فيمن أفلت منهم: يوسف بن الحكم الثقفي، وابنه الحجاج بن
يوسف. ثم خرج مروان يريد مصر، فلما سار إلى فلسطين وجد ناتل بن قيس الجذامي
متغلباً على البلد، وأخرج روح بن زنباع، فحاربه، فلما لم يكن لناتل قوة على محاربة
مروان هرب، فلحق بابن الزبير، وسار مروان يريد مصر حتى دخلها، فصالحه أهلها،
وأعطوه الطاعة، وأخرج ابن جحدم الفهري، عامل ابن الزبير، وقيل اغتاله فقتله، وقتل
أكيدر بن حمام اللخمي، واستعمل عليها ابنه عبد العزيز بن مروان وانصرف.
وقام سليمان بن صرد
الخزاعي، والمسيب بن نجبة الفزاري، وخرجا في جماعة معهما من الشيعة بالعراق، بموضع
يقال له عين الوردة، يطلبون بدم الحسين بن علي، ويعملون بما أمر الله به بني
إسرائيل، إذ قال: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتاب
عليكم، إنه هو التواب الرحيم، واتبعهم خلق من الناس، فوجه إليهم مروان عبيد الله
بن زياد، وقال: إن غلبت على العراق فأنت أميرها، فلقي سليمان بن صرد، فلم يزل
يحاربه حتى قتله، وقيل لم يقتل سليمان في أيام مروان، ولكنه قتل في أيام عبد الملك.
ولما صار مروان إلى
الصنبرة من أرض الأردن، منصرفا من مصر، بلغه أن حسان بن بحدل قد بايع عمرو بن
سعيد، فأحضره فقال له: قد بلغني أنك بايعت عمرو بن سعيد، فأنكر ذلك، فقال له: بايع
لعبد الملك، فبايع لعبد الملك، ثم بعده لعبد العزيز بن مروان، ولم يبرح مروان من
الصنبرة حتى توفي.
وكان سبب وفاته أنه
تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية، فدخل إليه يوماً فأفحش له في القول، ثم أعاد عليه
في يوم آخر مثل ذلك، فدخل خالد إلى أمه مغضبا، فخبرها، فقالت: والله لا يشرب
البارد بعدها! فصيرت له سما في لبن، فلما دخل سقته إياه. وقال بعضهم: بل وضعت على
وجهه وسادة حتى قتلته. وقال قوم: إنه توفي بدمشق ودفن بها.
وكانت ولاية مروان
تسعة أشهر، فتوفي في شهر رمضان سنة خمس وستون، وهو ابن إحدى وستين سنة، وكان صاحب
شرطته يحيى بن قيس الغساني، وحاجبه أبو سهل الأسود، وصلى عليه عبد الملك ابنه،
وخلف من الولد اثني عشر ذكرا وهم: عبد الملك وعبد العزيز، ومعاوية، وبشر، وعمر،
وأبان، وعبد الله، وعبيد الله، وأيوب، وداود، وعثمان، ومحمد.
وخلف أهل الشام عبد
الملك، فأقبل مسرعاً إلى دمشق خوفاً من وثوب عمرو بن سعيد، واجتمع الناس عليه،
فقال لهم: إني أخاف أن يكون في أنفسكم مني شيء فقام جماعة من شيعة مروان، فقالوا:
والله لتقومن إلى المنبر، أو لنضربن عنقك! فصعد المنبر وبايعوه.
وكان المختار بن أبي
عبيد الثقفي أقبل في جماعة عليهم السلاح، يريدون نصر الحسين بن علي، فأخذه عبيد
الله بن زياد، فحبسه، وضربه بالقضيب، حتى شتر عينه، فكتب فيه عبد الله بن عمر إلى
يزيد بن معاوية وكتب يزيد إلى عبيد الله: إن خل سبيله، فخلى سبيله، ونفاه، فخرج
المختار إلى الحجاز، فكان مع ابن الزبير، فلما لم ير ابن الزبير يستعمله شخص إلى
العراق، فوافى وقد خرج سليمان بن صرد الخزاعي يطلب بدم الحسين، فلما صار إلى
الكوفة اجتمعت إليه الشيعة، فقال لهم: إن محمد بن علي بن أبي طالب بعثني إليكم
أميرا، وأمرني بقتل المحلين، وأطلب بدماء أهل بيته المظلومين، وإني والله قاتل ابن
مرجانة، والمنتقم لآل رسول الله ممن ظلمهم. فصدقه طائفة من الشيعة، وقالت طائفة:
نخرج إلى محمد بن علي فنسأله، فخرجوا إليه، فسألوه، فقال: ما أحب إلينا من طلب بثأرنا،
وأخذ لنا بحقنا، وقتل عدونا، فانصرفوا إلى المختار، فبايعوه وعاقدوه، واجتمعت
طائفة.
==========
===========
مجلد 4. من كتاب :
تاريخ اليعقوبي اليعقوبي
وكان ابن مطيع عامل
ابن الزبير على الكوفة، فجعل يطلب الشيعة ويخيفهم، فواعد المختار أصحابه، ثم خرجوا
بعد المغرب، وصاحب الجيش إبراهيم ابن مالك بن الحارث الأشتر، ونادى: يا لثارات
الحسين بن علي! وكان ذلك سنة ست وستون، والتحم القتال بينهم وبين عبد الله بن
مطيع، وكانت أشد حرب وأصعبها.
ثم صار ابن مطيع إلى
القصر ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوا لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع
المختار إلى ابن مطيع مائة ألف، وقال له: تحمل بها وأنفذ لوجهك. وسرح المختار
عماله إلى النواحي، فأخرجوا من كان فيها، وأقاموا بها.
وكان عامل المختار
على الموصل عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، فزحف إليه عبيد الله بن زياد، بعد
قتله سليمان بن صرد، فحاربه عبد الرحمن، وكتب إلى المختار بخبره، فوجه إليه يزيد
بن أنس، ثم وجه إبراهيم بن مالك بن الحارث الأشتر، فلقي عبيد الله بن زياد فقتله،
وقتل الحصين بن نمير السكوني، وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، وحرق أبدانهما
بالنار، وأقام واليا على الموصل وأرمينية وآذربيجان من قبل المختار وهو على العراق
وال، ووجه برأس عبيد الله بن زياد إلى علي بن الحسين إلى المدينة مع رجل من قومه،
وقال له: قف بباب علي بن الحسين، فإذا رأيت أبوابه قد فتحت ودخل الناس، فذاك
الوقت الذي يوضع فيه طعامه، فأدخل إليه. فجاء الرسول إلى باب علي بن الحسين، فلما
فتحت أبوابه، ودخل الناس للطعام، نادى بأعلى صوته: يا أهل بيت النبوة، ومعدن
الرسالة، ومهبط الملائكة، ومنزل الوحي! أنا رسول المختار بن أبي عبيد معي رأس عبيد
الله بن زياد، فلم تبق في شيء من دور بني هاشم امرأة إلا صرخت، ودخل الرسول، فأخرج
الرأس، فلما رآه علي بن الحسين قال: أبعده الله إلى النار. وروى بعضهم أن علي بن
الحسين لم ير ضاحكا يوماً قط، منذ قتل أبوه، إلا في ذلك اليوم، وإنه كان له إبل
تحمل ألفاًكهة من الشام، فلما أتي برأس عبيد الله بن زياد أمر بتلك ألفاًكهة،
ففرقت في أهل المدينة وامتشطت نساء آل رسول الله، واختضبن، وما امتشطت امرأة ولا
اختضبت منذ قتل الحسين بن علي وتتبع المختار قتلة الحسين فقتل منهم خلقا عظيما،
حتى لم يبق منهم كثير أحد، وقتل عمر بن سعد وغيره، وحرق بالنار، وعذب بأصناف
العذاب.
وهدم ابن الزبير
الكعبة في جمادى الآخرة سنة أربع وستون، حتى ألصقها بالأرض، وذلك أن الحصين بن
نمير لما أراد ابن الزبير هدمها امتنع، وامتنع الناس من الهدم، فعلا عبد الله بن
الزبير على البيت، فهدم، فلما رآه الناس يهدم هدموا، فلما ألصقها بالأرض خرج ابن
عباس من مكة إعظاما للمقام بها، وقد هدمت الكعبة، وقال له: اضرب حوالي الكعبة
الخشب لا تبق الناس بغير قبله.
وروى ابن الزبير عن
خالته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قال لي رسول الله: يا عائشة
إن بدا لقومك أن يهدموا الكعبة ثم يبنوها، فلا يرفعوها عن الأرض، وليصيروا لها
بابين. فلما بلغ ابن الزبير بالهدم إلى القواعد أدخل الحجر في البناء حتى رفعها،
وجعل لها بابين باباً شرقياً وباباً غربياً وصير على كل باب مصراعين، وكان على
بابها الأول مصراع واحد، وجعل طول البابين إحدى عشرة ذراعاً، وكان ارتفاعها في
السماء ثماني عشرة ذراعاً، فجعلها ابن الزبير تسعا وعشرين ذراعاً، ولم يرفعها عن
الأرض بل جعلها مستوية مع وجه الأرض. وكان قد أخذ الحجر الأسود فجعله عنده في
بيته، فلما بلغ البناء إلى موضع الحجر أمر فحفر له في الحجارة على قدره، ثم أمر
ابنه عباداً أن يأتي، وهو في صلاة الظهر، فيضعه في موضعه، والناس في الصلاة لا
يعلمون، فإذا فرغ من وضعه كبر، فجاء عباد بن عبد الله بن الزبير بالحجر، وأبوه
يصلي بالناس الظهر في يوم شديد الحر، فشق الصفوف حتى صار إلى الموضع، ثم وضعه،
وطول ابن الزبير الصلاة حتى وقف عليه، فلما رأت قريش ذلك غضبت وقالت: والله ما
هكذا فعل رسول الله، ولقد حكمته قريش، فجعل لكل قبيلة نصيباً.
وكان الركن لما أصابه
الحريق تصدع بثلاث قطع، فشده ابن الزبير بالفضة، ولما فرغ من البناء خلق داخل
الكعبة وخارجها، فكان أول من خلقها وكساها القباطي، واعتمر من التنعيم، ومشى.
ومنع عبد الملك أهل
الشام من الحج، وذلك أن ابن الزبير كان يأخذهم، إذا حجوا، بالبيعة، فلما رأى عبد
الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة، فضج الناس، وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله
الحرام، وهو فرض من الله علينا! فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال: لا تشد الرجال إلا إلى
ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس وهو يقوم لكم مقام المسجد
الحرام، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع قدمه عليها،
لما صعد إلى السماء، تقوم لكم مقام الكعبة، فبنى على الصخرة قبة، وعلق عليها ستور
الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة،
وأقام بذلك أيام بني أمية.
وتحامل عبد الله بن
الزبير على بني هاشم تحاملاً شديداً، وأظهر لهم العداوة والبغضاء، حتى بلغ ذلك منه
أن ترك الصلاة على محمد في خطبته، فقيل له: لم تركت الصلاة على النبي؟ فقال: إن له
أهل سوء يشرئبون لذكره ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به.
وأخذ ابن الزبير محمد
بن الحنفية، وعبد الله بن عباس، وأربعة وعشرين رجلاً من بني هاشم ليبايعوا له،
فامتنعوا، فحبسهم في حجرة زمزم، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ليبايعن أو
ليحرقنهم بالنار، فكتب محمد بن الحنفية إلى المختار بن أبي عبيد: بسم الله الرحمن
الرحيم، من محمد بن علي ومن قبله من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المختار
بن أبي عبيد ومن قبله من المسلمين، أما بعد فإن عبد الله بن الزبير أخذنا، فحبسنا
في حجرة زمزم، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو لنبايعنه، أو ليضرمنها علينا بالنار،
فيا غوثاً! فوجه إليهم المختار بن أبي عبيد بأبي عبد الله الجدلي في أربعة آلاف
راكب، فقدم مكة، فكسر الحجرة، وقال لمحمد بن علي: دعني وابن الزبير! قال: لا أستحل
من قطع رحمه ما استحل مني.
وبلغ محمد بن علي بن
أبي طالب أن ابن الزبير قام خطيبا فنال من علي بن أبي طالب، فدخل المسجد الحرام،
فوضع رحلا، ثم قام عليه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ثم قال: شاهت
الوجوه، يا معشر قريش، أيقال هذا بين أظهركم وأنتم تسمعون ويذكر علي فلا تغضبون؟
ألا إن علياً كان سهما صائبا من مرامي الله أعداءه، يضرب وجوههم، ويهوعهم مأكلهم،
ويأخذ بحناجرهم. ألا وأنا على سنن ونهج من حاله، وليس علينا في مقادير الأمور
حيلة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فبلغ قوله عبد الله
بن الزبير، فقال: هذا عذرة بني الفواطم، فما بال ابن أمه بني حنيفة؟ وبلغ محمداً
قوله، فقال: يا معاشر قريش وما ميزني من بني الفواطم؟ أليست فاطمة ابنة رسول الله
حليلة أبي وأم إخوتي؟ أ وليست فاطمة بنت أسد بن هاشم جدتي وأم أبي؟ أليست فاطمة
بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم جدة أبي وأم جدتي؟ أما والله لو لا خديجة بنت
خويلد لما تركت في أسد عظماً إلا هشمته، فإني بتلك التي فيها المعاب صبير.
ولما لم يكن بابن
الزبير قوة على بني هاشم، وعجز عما دبره فيهم، أخرجهم عن مكة، وأخرج محمد بن
الحنفية إلى ناحية رضوى، وأخرج عبد الله بن عباس إلى الطائف إخراجاً قبيحاً، وكتب
محمد بن الحنفية إلى عبد الله بن عباس: أما بعد، فقد بلغني أن عبد الله بن الزبير
سيرك إلى الطائف، فرفع الله بك أجرا، واحتط عنك وزرا، يا ابن عم، إنما يبتلي
الصالحون، وتعد الكرامة للأخيار ولو لم تؤجر إلا فيما نحب وتحب قل الأجر، فاصبر
فإن الله قد وعد الصابرين خيراً، والسلام.
وروى بعضهم أن محمد
بن الحنفية صار أيضا إلى الطائف، فلم يزل بها، وتوفي ابن عباس بها في سنة ثمان
وستون، وهو ابن إحدى وسبعين سنة، وصلى عليه محمد ابن الحنفية، ودفن عبد الله بن
عباس بالطائف في مسجد جامعها، وضرب عليه فسطاط، ولما دفن أتى طائر أبيض فدخل معه
قبره، فقال بعض الناس: علمه، وقال آخرون: عمله الصالح.
قال عبد الله بن عباس:
أردفني رسول الله، ثم قال لي: يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قلت: بلى!
يا رسول الله. قال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، اذكر الله في الرخاء
يذكرك في الشدة، إذا
سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما هو كائن، ولو جهد الخلق
على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لم يقدروا عليه، ولو جهدوا على أن يضروك بشيء لم
يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، فعليك بالصدق في اليقين، إن في الصبر على ما تكره
خيراً كثيراً، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً.
وكان لعبد الله بن
العباس من الولد خمسة ذكور: علي بن عبد الله، وهو أصغرهم سناً، إلا أنه تقدم لشرفه
ونبله، والعباس كان أكبر ولده، وكان يلقب بالأعنق، ومحمد، والفضل، وعبد الرحمن.
وفي هذه السنة وقفت
أربعة ألوية بعرفات: محمد بن الحنفية في أصحابه، وابن الزبير في أصحابه، ونجدة بن
عامر الحروري، ولواء بني أمية، وقال المساور بن هند بن قيس: وتشعبوا شعباً، فكل
قبيلة فيها أمير المؤمنين.
ووجه عبد الله بن
الزبير أخاه مصعب بن الزبير إلى العراق، فقدمها سنة ثمان وستون، فقاتله المختار،
وكانت بينهم وقعات مذكورة، وكان المختار شديد العلة من بطن به، فأقام يحارب مصعبا
أربعة أشهر، ثم جعل أصحابه يتسللون منه حتى بقي في نفر يسير، فصار إلى الكوفة،
فنزل القصر، وكان يخرج في كل يوم، فيحاربهم في سوق الكوفة أشد محاربة، ثم يرجع إلى
القصر. وكان عبيد الله بن علي بن أبي طالب مع مصعب بن الزبير، فجعل مصعب يقول: يا
أيها الناس، المختار كذاب، وإنما يغركم بأنه يطلب بدم آل محمد، وهذا ولي الثأر،
يعني عبيد الله بن علي، يزعم أنه مبطل فيما يقول.
ثم خرج المختار
يوماً، فلم يزل يقاتلهم أشد قتال يكون، حتى قتل، ودخل أصحابه إلى القصر فتحصنوا،
وهم سبعة آلاف رجل، فأعطاهم مصعب الأمان، وكتب لهم كتابا بأغلظ العهود، وأشد
المواثيق، فخرجوا على ذلك، فقد مهم رجلاً رجلاً فضرب أعناقهم، فكانت إحدى الغدرات
المذكورة المشهورة في الإسلام. وأخذ أسماء بنت النعمان بن بشير امرأة المختار،
فقال لها: ما تقولين في المختار بن أبي عبيد؟ قالت: أقول إنه كان تقياً، نقياً
صواماً. قال: يا عدوة الله أنت ممن يزكيه! فأمر بها فضرب عنقها، وكانت أول امرأة
ضرب عنقها صبراً، فقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
إن من أعجب العجائب
عندي ... قتل بيضاء حرة عطبول
قتلوها بغير جرم أتته
... إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال
علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
فلما قتل مصعب بن
الزبير المختار، واستقامت له أمور العراق، حسده عبد الله بن الزبير على ذلك، فوجه
حمزة ابنه إلى البصرة، وكتب إلى مصعب أن يصرف أمر البصرة إلى حمزة ففعل ذلك، فكان
حمزة من أضعف الناس، وأقلهم علما بالأمر، ثم اجتبى خراج البصرة، ونفذ إلى أبيه إلى
مكة.
ووفد مصعب على أخيه
عبد الله فجفاه حتى كان ليدخل فيسلم فلا يرفعه، فلما قدم على عبد الله ابنه حمزة
رد مصعب إلى العراق، وقتل عبد الله بن الزبير أخاه عمرو بن الزبير لعداوة كانت
بينه وبينه، ولمبايعته لمروان بن الحكم، وقيل: إنه كان على شرطة عمرو بن سعيد، فوجه به عمرو لمحاربة أخيه فقتله.
وولى ابن الزبير
المهلب بن أبي صفرة خراسان، وكان مع مصعب، فقدم البصرة، وقد حصرت الخوارج أهلها،
وغلبت على جميع سوادها وكورها، فلم يبق في أيدي أهلها إلا المدينة، فلما
قدم عليهم المهلب فزع
إليه أشراف الناس ووجوههم، وأتاه الأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومالك بن
مسمع، فيمن معهم من العشائر، فقالوا: يا أبا سعيد! أنت شيخ الناس، وسيف العراق، وقد ترى ما فيه أهل مصرك من هذه الخوارج
المارقة، والإقامة على منع بلدك، والذب عن حريمك أولى لك من خراسان. فقال:
نعم! أقيم على محاربة
هؤلاء، على أن لي جميع ما أغلبهم عليه، وانتزعه من أيديهم من خراج أو غيره.
فأجابته العشائر إلى ذلك خلا مالك بن مسمع، فإنه امتنع عليه، وكانت في مالك أبهة
شديدة وكبر معروف، فوثب الأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود على مالك بن مسمع،
فقالا له: رأيت الذي تمنعه أبا سعيد، أهو شيء في يدك أو في يد عدوك؟ قال: في يد
عدوي. قالا: فو الله ما أنصفته إن تسأله أن يحمي دمك وحرمتك، ثم تمنعه ما أنت
مغلوب عليه، فهو يجعل لك ما سألت، وقم بمحاربة القوم! قال: لا أقوى على ذلك.
فقالا: فهذا الظلم والعجز. ثم جعلوا جميعاً للمهلب ما سأل، فأقام على محاربة الخوارج، ورئيسهم
يومئذ نافع بن الأزرق، وبه سموا الأزارقة، حتى أجلاهم عن البصرة.
وسار عبد الملك إلى
مصعب بن الزبير في سنة واحد وسبعون، فلقيه بموضع يقال له دير الجاثليق، على فرسخين
من الأنبار، فكانت بينهم وقعات وحروب، وجادة عبد الملك القتال، وخذل مصعبا أكثر
أصحابه، وكان أكثر من خذله منهم ربيعة، ثم حملوا عليه، وهو جالس على سريره،
فقتلوه، وحز رأسه عبيد الله ابن زياد بن ظبيان، وأتى به عبد الملك، فلما وضعه بين
يديه خر ساجداً.
قال عبيد الله: فهممت
أن أضرب عنقه، فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد.
وقال بعضهم: دخلت على
عبد الملك بن مروان، وبين يديه رأس مصعب بن الزبير، فقلت: يا أمير المؤمنين! لقد رأيت في هذا الموضع عجبا! قال: وما رأيت؟ قلت:
رأيت رأس الحسين بن علي بين يدي عبيد الله بن زياد! ورأيت رأس عبيد الله بن زياد
بين يدي المختار بن أبي عبيد، ورأيت رأس المختار بن أبي عبيد بين يدي مصعب بن
الزبير، ورأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك. قال: فخرج من ذلك البيت، وأمر بهدمه.
وكان قتل مصعب بن الزبير في ذي القعدة سنة اثنان وسبعون.
وقال المضاء بن
علوان، كاتب مصعب بن الزبير: دعاني عبد الملك بعد ما قتل مصعباً، فقال لي: علمت
أنه لم يبق من أصحاب مصعب وخاصته أحد إلا كتب إلي يطلب الأمان والجوائز والصلات
والأقطاعات؟ قلت: قد علمت، يا أمير المؤمنين، إنه لم يبق من أصحابك أحد إلا وقد
كتب إلى مصعب بمثل ذلك، وهذه كتبهم عندي. قال: فجئني بها، فجئته بإضبارة عظيمة، فلما رآها قال: ما حاجتي أن
أنظر فيها، فأفسد صنائعي، وأفسد قلوبهم علي. يا غلام! أحرقها بالنار، فأحرقت.
ولما قتل عبد الملك
بن مروان مصعب بن الزبير ندب الناس للخروج إلى عبد الله بن الزبير، فقام إليه
الحجاج بن يوسف فقال: ابعثني إليه، يا أمير المؤمنين، فإني رأيت في المنام كأني
ذبحته، وجلست على صدره، وسلخته. فقال: أنت له، فوجهه في عشرين ألفاً من أهل الشام
وغيرهم، وقدم الحجاج بن يوسف، فقاتلهم قتالاً شديداً، وتحصن بالبيت، فوضع عليه
المجانيق، فجعلت الصواعق تأخذهم، ويقول: يا أهل الشام! لا تهولنكم هذه، فإنما هي صواعق
تهامة، فلم يزل يرميه بالمنجنيق، حتى هدم البيت فكتب إليه عبد الملك بن مروان، وهو
في محاربته: أوصيك يا حجاج بما أوصى به البكري زيداً، والسلام. فقام الحجاج خطيباً
فقال: أيكم يدري ما أوصى به البكري زيداً، وله عشرة آلاف درهم؟ فقام رجل من القوم
فقال: أنا أدري ما أوصى به البكري، فدعا ببدرة، فدفعت إليه فقال:
أقول لزيد لا تترتر
فإنهم ... يرون المنايا دون قتلك أو قتلي
فإن وضعوا حرباً
فضعها وإن أبوا ... فشب وقود النار بالحطب الجزل
فإن عضت الحرب الضروس
بنابها ... فعرضه حد الحرب مثلك أو مثلي
ورأى ابن الزبير من
أصحابه تثاقلا عنه، وكان يجري لهم نصف صاع من تمر، فقال: أكلتم تمري، وعصيتم أمري!
وكان شديد البخل.
ولما علم ابن الزبير
أنه لا طاقة له بالحرب دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر، فقال: كيف أصبحت يا أمه؟
قالت: إن في الموت لراحة، وما أحب أن أموت إلا بعد خلتين: إما أن قتلت فأحتسبك، أو
ظفرت فقرت عيني. قال: يا أمه! إن هؤلاء قد أعطوني الأمان، فما ذا تقولين؟ قالت: يا
بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت على حق وإليه تدعو، فلا تمكن عبيد بني أمية منك
يتلاعبون بك، وإن كنت على غير الحق، فشأنك وما تريد. قال: يا أمه! إن الله ليعلم
أني ما أردت إلا الحق، ولا طلبت غيره، ولا سعيت في ريبة قط، اللهم إني لا أقول ذلك
تزكية لنفسي، ولكن لأطيب نفس أمي. ثم قال: يا أمه! إني أخاف إن قتلني هؤلاء القوم
أن يمثلوا بي. قالت: يا بني، إن الشاة لا تألم للسلخ إذا ذبحت. قال: الحمد لله
الذي وفقك، وربط على قلبك! وخرج، فخطب الناس، فقال: أيها الناس! إن الموت قد أظلكم
سحابة وأحدق بكم ربابه، فغضوا أبصاركم عن الأبارقة، وليشغل كل امرئ قرنه، ولا
يلهينكم التساؤل، ولا يقولن قائل أين أمير المؤمنين؟ إلا من سأل عني فإني في
الرعيل الأول. ثم نزل فقاتل حتى قتل.
وكان قتله في سنة
ثلاث وسبعون، وله إحدى وسبعون سنة، وصلب بالتنعيم، فأقام ثلاثة وقيل سبعة أيام، ثم
جاءت أمه أسماء بنت أبي بكر، وهي عجوز عمياء، حتى وقفت على الحجاج، فقالت: أما آن
لهذا الراكب أن ينزل بعد؟ أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن في
بني ثقيف مبيراً وكذاباً، فأما المبير فأنت، وأما الكذاب فالمختار بن أبي عبيد،
فقال: من هذه؟ فقيل: أم ابن الزبير فأمر به، فأنزل.
وروى بعضهم أن الحجاج
خطبها، فقالت: وهو يخطب عمياء بنت المائة؟ فقال: ما أردت إلا مسالفة رسول الله.
ومر عبد الله بن عمر
على عبد الله بن الزبير، وهو مصلوب، فقال: يرحمك الله، أبا خبيب، لو لا ثلاث كن
فيك لقلت أنت أنت: إلحادك في الحرم، ومسارعتك إلى الفتنة، وبخل بكفك، وما زلت
أتخوف عليك هذا المركب وما صرت إليه، مذ كنت أراك ترمق بغلات شهبا كن لابن حرب،
فيعجبنك، إلا أنه كان أسوس لدنياه منك.
وأقام الحج للناس في
هذه السنين في سنة ثلاث وستون عبد الله بن الزبير، وفي سنة ألابع وستون ابن
الزبير، وقيل يحيىبن صفوان الجمحي، وفي سنة خمس وستون وسنة ست وستون وسنة سبع
وستون ابن الزبير، وفي سنة ثمان وستون وقفت أربعة ألوية بعرفات: لواء مع محمد بن
الحنفية وأصحابه، ولواء مع ابن الزبير، ولواء مع نجدة بن عامر الحروري، ولواء مع
بني أمية، وفي سنة تسع وستون وسنة سبعون وسنة واحد وسبعون ابن الزبير.
؟؟؟
أيام عبد الملك بن
مروانوملك عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة ابن أبي
العاص بن أمية، جداه جميعاً طريداً رسول الله، وكانت البيعة له بالشام في اليوم
الذي توفي فيه مروان، وذلك في شهر رمضان سنة 56، وكانت الشمس يومئذ في الثور سبع
عشرة درجة وعشرين دقيقة، والقمر في الحمل خمساً وعشرين دقيقة، وزحل في السنبلة
ثماني عشرة درجة وخمسين دقيقة راجعا، والمشتري في الجوزاء اثنتين وعشرين درجة وعشر
دقائق، والمريخ في الحمل تسع عشرة درجة وعشر دقائق، والزهرة في السرطان درجتين
وعشرين دقيقة، وعطارد في الجوزاء ثلاث درجات، والرأس في الحوت عشرين درجة وعشر
دقائق.
وقد ذكرنا خبر بيعته
في أيام ابن الزبير، وما كانت عليه البلدان من الاضطراب، وتغلب من تغلب على كل
بلد، وخبر سليمان بن صرد الخزاعي، وإبراهيم بن مالك بن الحارث الأشتر، وقتله عبيد
الله بن زياد والحصين بن نمير، وغير ذلك مما دخل في نسق أيام ابن الزبير.
وكان قوم قد قالوا:
إنما تحق الخلافة لمن كان الحرمان في يده، ولمن أقام الحج للناس، فلذلك أدخلنا خبر
مروان وأياما من أيام عبد الملك في خبر ابن الزبير.
واستقامت الشام لعبد
الملك بن مروان خلا فلسطين، فإن ناتل بن قيس كان بها، فلما أراد عبد الملك النهوض
أتاه الخبر بأن طاغية الروم قد أناخ على المصيصة فكره أن يتشاغل بمحاربته مع
اضطراب البلدان، فوجه إليه، فصالحه، وحمل أموالاً كثيرة إليه، حتى انصرف.
وكان عبد الملك لما
أحكم أمر الشام، ووجه روح بن زنباع الجذامي إلى فلسطين شخص عن دمشق، حتى صار إلى
بطنان يريد قرقيسيا لمحاربة زفر بن الحارث، وأمر ابن الزبير على حاله، فلما صار
إلى بطنان من أرض قنسرين أتاه الخبر بأن عمرو بن سعيد بن العاص قد وثب بدمشق، ودعا
إلى نفسه، وتسمى بالخلافة، وأخرج عبد الرحمن بن عثمان الثقفي خليفة عبد الملك
بدمشق، وكانت أم عبد الرحمن أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب، وحوى الخزائن وبيوت
الأموال، فعلم عبد الملك أنه قد أخطأ في خروجه عن دمشق، فانكفا راجعا إلى دمشق،
فتحصن عمرو بن سعيد، ونصب له الحرب، وجرت بينهم السفراء، حتى اصطلحا وتعاقدا،
وكتبا بينهما كتابا بالعهود والمواثيق والأيمان على أن لعمرو بن سعيد الخلافة بعد
عبد الملك ودخل عبد الملك دمشق وانحاز مع عمرو بن سعيد أصحابه، فكانوا يركبون معه
إذا ركب إلى عبد الملك، ثم دبر عبد الملك على قتل عمرو، ورأى أن الملك لا يصلح له
إلا بذلك، فدخل إليه عمرو عشية، وقد أعد له جماعة من أهله ومواليه ومن كان عنده
ممن سواهم، فلما استوى لعمرو مجلسه قال له: يا أبا أمية! إني كنت حلفت في الوقت الذي كان فيه من أمرك ما كان، إني متى ظفرت بك
وضعت في عنقك جامعة، وجمعت يديك إليها. فقال: يا أمير المؤمنين! نشدتك بالله أن
تذكر شيئاً قد مضى. فتكلم من بحضرته، فقالوا: وما عليك أن تبر قسم أمير المؤمنين؟
فأخرج عبد الملك جامعة من فضة، فوضعها في عنقه، وجعل يقول:
أدنيته مني ليسكن
روعه ... فأصول صولة حازم مستمكن
وجمع يديه إلى عنقه،
فلما شد المسمار جذبه إليه، فسقط لوجهه، فانكسرت ثنيتاه، فقال: نشدتك الله، يا
أمير المؤمنين، أن يدعوك عظم مني كسرته إلى أن تركب مني أكثر من ذلك، أو تخرجني
إلى الناس فيروني على هذه الصورة! وإنما أراد أن يستفزه فيخرجه، وكان على الباب من
شيعة عمرو بن سعيد نيف وثلاثون ألفاً منهم عنبسة بن سعيد، فقال له: أمكراً أبا
أمية، وأنت في الأنشوطة؟ وليس بأول مكر، إني والله لو علمت أن الأمر يستقيم، ونحن
جميعاً باقيان، لا فتديتك بدم النواظر، ولكني أعلم أنه ما اجتمع فحلان في إبل إلا غلب
أحدهما.
وقتله وفرق جمعه،
وطرح رأسه إلى أصحابه، ونفى أخاه عنبسة إلى العراق، وكان ذلك سنة سبعون.
وكان عبد الله بن
خازم السلمي متغلبا على خراسان منذ استخلفه سلم بن زياد في أيام يزيد بن معاوية،
ثم صار في طاعة ابن الزبير على ما بيناه من خبره، فلما استقامت أمور عبد الملك كتب
إليه: أما بعد فأهد لنا طاعتك نضعك موضعك، ونقرك على عملك وعقبك ما أغنوا عنا وعن
المسلمين. وبعث بالكتاب مع عتبة النميري، وبعث معه برأس مصعب بن الزبير، وأعد عبد
الله الرأس، ولفه في ثوبين، وطرح عليه مسكاً كثيراً ودفنه، وقال لعتبة النميري: كل
الكتاب، فقال: أكلا جميلا، فأحرقه بالنار، ثم أسقاه إياه، وكتب إلى عبد الملك: أما
بعد، فإني لم أكن لألقى الله ببيعتين: بيعة رضوان مع ابن حواري رسول الله انتزعها،
وبيعة نكث مع ابن طريدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألبسها.
وكان أهل خراسان
مبغضي عبد الله بن خازم لسوء سيرته فيهم، فوثب به جماعة، منهم:
بكير بن وساج، ووكيع
بن عمير، فقتلوه، وبعث برأسه إلى عبد الملك بن مروان، فلما ورد عليه الخبر، وأتاه
الرأس، بعث أمية ابن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية على خراسان،
فقدم خراسان، وقد وثب موسى بن عبد الله بن خازم السلمي، وأرسل طرخون ملك السغد،
فأجابه إلى أن يمده، ووثب بكير بن وساج الثقفي بمرو في جماعة وغلب على مرو،
فحاربهما أمية، وبدأ بمرو، فحارب بكير بن وساج، فتحصن منه، ثم أعطاه الأمان، فخرج
إليه، ثم بلغ أمية أن بكيرا يدبر على أن يثب به، فقدمه فضرب عنقه، ووجه أمية بابنه
عبد الله على هراة وسجستان، فلقي رتبيل بن أمية فقتله.
وأقر عبد الملك
المهلب بن أبي صفرة على قتال الخوارج الذين بكرمان، فجادهم المهلب القتال، حتى قتل
رئيسهم نافع بن الأزرق الذي سموا به الأزارقة، وأقام بكرمان، ثم ولاه عبد الملك
خراسان مكان أمية، ورد عبد الملك أخاه عبد العزيز إلى مصر والمغرب، وولى أخاه
بشراً العراق، وولى أخاه محمداً الموصل، ونقل إليها الأزد وربيعة من البصرة، وغزا
أرمينية، وقد خالف أهل البلد، فقتل وسبى، ثم كاتب الأشراف من أهل البلد والذين
يقال لهم الأحرار وأعطاهم الأمان ووعدهم أن يفرض لهم في الشرف، فاجتمعوا لذلك في
الكنائس في عمل خلاط، وأمر بجمع الحطب حول الكنائس، وأغلق أبوابها عليهم، ثم ضرب
تلك الكنائس بالنار، فحرقهم جميعاً. وأقام محمد ابن مروان بأرمينية حتى مات.
وأعاد الحجاج بنيان
الكعبة، وجعل لها بابا واحدا على ما كانت عليه قبل أن يبنيها ابن الزبير، ونقص
منها ما كان ابن الزبير زاده مما يلي الحجر، وهو ستة أذرع، وكبسها بالردم الذي خرج
منها، ورفع بابها على ما كان عليه، ونقص من طوله حتى صيره على ما هو عليه اليوم
وفرغ من بنائها في سنة أربع وسبعون، وختم أعناق قوم من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ليذلهم بذلك، منهم: جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد الساعدي، وجماعة معهم،
وكانت الخواتيم رصاصاً.
وكان نجدة بن عامر
الحنفي الحروري قد خرج في أيام ابن الزبير بناحية اليمامة ثم صار إلى الطائف فوجد
ابنة لعمرو بن عثمان بن عفان قد وقعت في السبي، فاشتراها من ماله بمائة ألف درهم،
وبعث بها إلى عبد الملك، ثم سار إلى البحرين ووجه مصعب بن الزبير بخيل بعد خيل
وجيش بعد جيش، فهزمهم.
وظهرت من نجده أمور
أنكرتها الخوارج. وكان قد أقام خمس سنين وعماله بالبحرين واليمامة وعمان وهجر
وطوائف من أرض العرض، فلما نقمت الخوارج ما نقمت من دفع عشرة آلاف إلى مالك بن
مسمع، وبعثه بابنه عمرو بن عثمان إلى عبد الملك خلعوه، وأقاموا أبا فديك، فوجه
إليه عبد الملك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فهزمه أبو فديك، وفضخه وأخذ
أثقاله وحرمه، ثم وجه إليه عمر بن عبيد الله بن معمر، فلقي أبا فديك بالبحرين، ومع
عمر أهل الكوفة، فقتل أبا فديك واستنقذ منه حرم أمية بن عبد الله.
وولى عبد الملك
الحجاج في هذه السنة العراق، وكتب إليه كتاباً بخطه: أما بعد، يا حجاج فقد وليتك
العراقين صدقة، فإذا قدمت الكوفة فطأها وطأة يتضاءل منها أهل البصرة، وإياك وهوينا
الحجاز، فإن القائل هناك يقول ألفاً ولا يقطع بهن حرفاً، وقد رميت العرض الأقصى،
فارمه بنفسك، وأرد ما أردته بك، والسلام.
فلما قدم الكوفة صعد
المنبر متلثماً بعمامته متنكباً قوسه وكنانته، فجلس على المنبر ملياً لا يتكلم،
حتى هموا أن يحصبوه، ثم قال: يا أهل العراق، ويا أهل الشقاق والنفاق والمراق،
ومساوئ الأخلاق، إن أمير المؤمنين نثل كنانته، فعجمها عودا عودا، فوجدني أمرها
عوداً واصعبها كسراً، فرماكم بي، وإنه قلدني عليكم سوطا وسيفا، فسقط السوط وبقي
السيف وتكلم بكلام كثير فيه توعد وتهدد، ثم نزل وهو يقول:
أنا ابن جلا وطلاع
الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
ولما استقامت الأمور
لعبد الملك وصلحت البلدان، ولم تبق ناحية تحتاج إلى صلاحها والاهتمام بها، خرج
حاجا سنة خمس وسبعون فبدأ بالمدينة وأحرم من ذي الحليفة، ودخل وهو يلبي، ودخل
المسجد وهو يلبي، وخطب في أربعة أيام في كل يوم خطبة، وصلى المغرب عشية عرفة قبل
أن يصير إلى جمع، وكان فيما خطب به في بعض أيامه، أن قال: لقد قمت في هذا الأمر،
وما أدري أحداً أقوى عليه مني، ولا أولى به، ولو وجدت ذلك لوليته. إن ابن الزبير
لم يصلح أن يكون سائساً، وكان يعطي مال الله كأنه يعطي ميراث أبيه، وإن عمرو بن
سعيد أراد الفتنة، وأن يستحل الحرمة ويذهب الدين، وما أراد صلاحا للمسلمين، فصرعه
الله مصرعه، وإني محتمل لكم كل أمر إلا نصب راية، وإن الجامعة التي وضعتها في عنق
عمرو عندي، وإني أقسم بالله لا أضعها في عنق أحد فأنزعها منه إلا صعداً.
وأتاه علي بن عبد
الله بن عباس، فذم إليه ابن الزبير، وأعلمه ما كان أبوه وأهل بيته لقوا منه
لامتناعهم من بيعته، وأن أباه أوصاه ليلحق به، فأحسن عبد الملك إجابته، وحمله وحمل
عياله إلى الشام، وأنزله داراً بدمشق، ولم يزل يجري عليه أيامه كلها.
ولما أراد عبد الملك
الانصراف وقف على الكعبة فقال: والله إني وددت أني لم أكن أحدثت فيها شيئاً، وتركت
ابن الزبير وما تقلد. وقدم عبد الملك راجعاً إلى المدينة، فوافاها في أول سنة ست
وسبعون، فأغلظ لأهلها في القول، وقام خطباؤه ونالوا من أهل المدينة، وقام محمد بن
عبد الله القارئ فقال لبعض الخطباء، وهو يتكلم: كذبت لسنا كذلك! فأخذه الحرس،
فجروه حتى ظن الناس انهم قاتلوه، فأرسل إليهم: أن كفوا عنه، وخلوا سبيله، فأقام
بالمدينة ثلاثاً ثم انصرف إلى الشام.
وفي هذه السنة خرج
شبيب بن يزيد الشيباني الحروري بالعراق، وهي سنة ست وسبعون، فوجه إليه الحجاج
الجيش بعد الجيش، فهزمهم شبيب، وكان شبيب ينتقل فيما بين السواد والجبل، ثم دخل
الكوفة ليلا حتى وقف على باب الحجاج في القصر، فضرب بابه بالعمود، وقال: اخرج
إلينا، يا ابن أبي رغال.
وكان شبيب في نفر
يسير، وكانت معه امرأته غزالة، وأمه جهيزة، ثم صار إلى المسجد الجامع فقتل من به
من الحرس، وقتل ميموناً مولى حوشب بن يزيد، صاحب شرط الحجاج، وكان ميمون هذا يسمى
العذاب، وصلى بالناس بالمسجد الجامع، فقرأ بهم البقرة، وآل عمران.
ثم خرج الحجاج في
طلبه، يقاتله في سوق الكوفة أشد قتال، واتبعه، وكان لحق شبيباً من أصحابه نحو مائة
رجل، ثم حمي الناس، فجعلوا يتنادون حتى انهزم، فوجه الحجاج في أثره علقمة بن عبد
الرحمن الحكمي، فلم يزل ينتقل من موضع إلى موضع حتى صار إلى الأهواز. ثم وجه
الحجاج في طلبه سفيان بن الأبرد الكلبي، فطلبه حتى انتهى إلى دجيل، فأقبل شبيب
نحوه وسار على الجسر، فلما توسطه قطع سفيان جسر دجيل، فدارت السفن، فغرق شبيب، ثم
استخرجه بالشباك فاحتز رأسه، ووجه به إلى الحجاج، وقتل امرأته وأمه. وكان غرقه سنة
ثمان وسبعون.
وخرج بعد قتل شبيب
أبو زياد المرادي بجوخى، فوجه إليه الحجاج الجراح بن عبد الله الحكمي، فلقيه
بالفلوجة، فقتله.
ثم خرج بعد قتل أبي
زياد أبو معبد، رجل من عبد القيس رحل بناحية البحرين، فبعث إليه الحجاج الحكم بن
أيوب بن الحكم الثقفي، وكان يومئذ عاملا على البصرة، فقتله.
وألح الحجاج في قتال
الأزارقة، واشتد استبطاؤه، فجادهم المهلب، فما زال يهزمهم من منزل إلى منزل حتى
انتهى بهم إلى سجستان، فقتل عطية ابن الأسود الحنفي، وكان من رؤساء الخوارج، ثم جد
بهم الأمر حتى صاروا إلى كرمان، ثم وقع بأسهم بينهم بكرمان في كذبة وقعوا عليها من
قطري، فقالوا له: تب! فكره أن يوجب على نفسه التوبة، فخلعوه.
وكان في عسكره رجلان:
عبد ربه الكبير، وعبد ربه الصغير، فلما امتنع أن يجيبهم إلى التوبة فيوجدهم السبيل
إلى خلعه، انحاز كل واحد منهما في جيش مخالفاً على قطري، فقصد المهلب قصد عبد ربه
الصغير حتى قتله.
وخرج قطري في اثنين
وعشرين ألفاً من أصحابه حتى صاروا إلى طبرستان، وقصد المهلب عبد ربه الكبير، وفرق
جمعه، ولما صار قطري إلى طبرستان أرسل إلى أصبهبذ يسأله أن يدخله بلاده، فسمع له
وفعل، فلما بزأت جراحهم وسمنت دوابهم أرسل إليه قطري، فعرض عليه الإسلام، أو يؤدي
الجزية صاغرا، ووجه إليه أبا نعامة في الأزارقة، فقال الإصبهبذ: جئتني طريدا شريدا
فآويتك، ثم ترسل إلي بهذا؟ أنت ألأم من في الأرض، فقال: إنه لا يجوز في الدين غير
هذا، فخرج الإصبهبذ يحاربه، فقتل ابنه وأخوه وعمه، فانهزم الإصبهبذ حتى صار إلى
الري، فاستولى قطري على طبرستان، وصار الإصبهبذ إلى سفيان بن الأبرد الكلبي، وهو
يومئذ عامل الري قد تهيأ لقتال الأزارقة، فأدخله طبرستان من طريق مختصرة، فقتل
قطريا، وبعث برأسه إلى الحجاج سنة تسع وسبعين.
وولى المهلب بن أبي
صفرة خراسان سنة ثمان وسبعين من قبل الحجاج، وولى ابنه المغيرة مرو، ومات بها،
فرثاه زياد بقصيدة يقول فيها:
إن السماحة والشجاعة
ضمنا ... قبراً بمرو على الطريق الواضح
وسار المهلب حتى صار
إلى بلاد الصغد، ونزل كش، فصالحه ملك الصغد، وأخذ المهلب منه الرهائن، ودفعها إلى
حريث بن قطبة، وانصرف إلى بلخ، فأخذ حريث بلاد... فحاربه.
واعتل المهلب، فاشتدت
علته من آكلة كانت في رجله، فلما حضرته الوفاة استخلف ابنه يزيد على كره منه له لصلفه
وتيهه، إلا أن الحجاج كتب إليه بذلك، ثم أنكر الحجاج على يزيد أشياء بلغته عنه،
فأراد صرفه فخاف أن يمتنع عليه فتزوج هنداً أخته، وكتب أن يقدم عليه، ويستخلف
المفضل بن المهلب، فقدم وكتب الحجاج إلى المفضل بولايته خراسان مكان يزيد أخيه، ثم
ولى قتيبة ابن مسلم مكانه، وقتيبة على الري، وقد شرحنا ذلك في غير هذا الموضع من
الكتاب.
وولي الحجاج ثغرى
السند والهند سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي، فأقام بمكران، وغزا ناحية من الهند،
وكان رجلاً محدوداً، فقتل، فوجه الحجاج موضعه محمد بن هارون بن ذراع النمري، فصار
إلى مكران، وحسن أثره في غزو العدو، وظفر مرة بعد أخرى، فخرج يريد الديبل في عدة
سفن و... ملك الديبل، فعارضه في خلق عظيم، فقتل محمد بن هارون وخلق عظيم ممن كان
معه.
وولى عبد الملك حسان
بن النعمان الغساني إفريقية والمغرب، فلم يزل مقيما بها، ثم توفي، واستخلف رجلاً
على البلد، فولى عبد الملك إفريقية موسى بن نصير اللخمي سنة سبع وسبعين، وقيل ولاه
عبد العزيز بن مروان، وهو يومئذ عامل مصر، فافتتح موسى بن نصير عامة المغرب، ولم
يزل مقيماً عليها مدة أيام ولاية عبد الملك.
وتوفي عبد الله بن
جعفر بن أبي طالب بالمدينة سنة ثمانين، وكان جواداً سخياً، يقال إنه أتاه إنسان في
أمر يسأله معونته عليه، فلم يحضره ما يعطيه، فنزع ثيابه التي كانت عليه، وقال:
اللهم إن نزل بي من بعد اليوم حق لا أقدر على قضائه فأمتني قبله! فمات في ذلك
اليوم، وفي هذه السنة كان السيل الجحاف الذي ذهب بمتاع الحاج.
وكان عبد الرحمن بن
محمد بن الأشعث بن قيس عامل الحجاج على سجستان، ووجه معه الحجاج بعشرة آلاف منتخب،
فلما صار إلى سجستان أقام ببست، ثم سار يريد رتبيل ملك البلد، وكان قد ضبط أطرافه،
فلما أوغل في بلاد رتبيل، خاف غرره، فرجع إلى بست، وكتب إلى الحجاج يعلمه برجوعه،
وأنه أخر غزو رتبيل إلى العام المقبل، فكتب إليه كتاباً يتوعده فيه، فجمع أطرافه
إليه وحرض الناس على الحجاج، ودعاهم إلى خلعه، فخلعوه، وبايعوا له فلما اجتمعت
الكلمة قال لهم: نسير إلى العراق، ونكتب بيننا وبين رتبيل كتاب صلح فإن تم أمرنا وقفنا
عنه، ورقبنا له، وإن كانت الأخرى اتخذناه ملجأ فتم رأي القوم على ذلك، وكتب بينه
وبين رتبيل كتابا بهذا الشرط، وسار إلى العراق واستخلف على سجستان رجلاً من قبله،
وأقبل حتى صار إلى قرب الأهواز، فلما بلغ الحجاج أمره، وجه إليه عبد الله بن عامر
بن صعصعة.
ثم خرج الحجاج في جيش
حتى صار إلى الأهواز، ولقيه عبد الرحمن، فقاتله قتالاً شديداً، فهزمه حتى رجع
الحجاج إلى البصرة، ولحقه ابن الأشعث، فقاتله بالبصرة، فانهزم ابن الأشعث، فلما
رأوا انهزامه إلى الكوفة أتوا عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة الهاشمي، فقالوا:
تركنا ولحق بالكوفة، وهذا الفاسق منيخ علينا. فبايعهم وسار إلى الحجاج، فقاتله
بالزاوية، فهزمه الحجاج، فلحق بابن الأشعث بالكوفة.
وأقبل الحجاج من
البصرة إلى ابن الأشعث فسلك في البرية حتى نزل قريبا منه، وخرج ابن الأشعث فنزل
دير الجماجم، وجعلت خيلهما تروح وتغدو للقتال، وأهل الكوفة يستعلون على خيل
الحجاج، ويهزمونهم في كل يوم، فاشتد على الحجاج ما رأى من ذلك، وكتب إلى عبد الملك
كتابا بعث به باحث سير: أما بعد فيا غوثاه، ثم يا غوثاه! فلما قرأ عبد الملك
الكتاب كتب إليه: أما بعد فيا لبيك، ثم يا لبيك، ثم يا لبيك! ثم وجه بجيش بعد جيش،
وكانت وقائعهم كثيرة شديدة، أخراهن وقعة مسكن هزمه فيها الحجاج، فمضى منهزما لا
يلوي على شيء حتى صار إلى سجستان، فأتى مدينة زرنج، فمنعه عبد الله بن عامر عامله
من دخولها، فمضى إلى بست، وعليها عياض بن عمرو، فأدخله المدينة، ودبر أن يغدر به،
ويتقرب به إلى الحجاج.
وكان مع عبد الرحمن
جماعة من قراء العراق منهم الحسن البصري، وعامر ابن شراحيل الشعبي، وسعيد بن جبير،
وإبراهيم النخعي، وجماعة من هذه الطبقة، فسار إلى رتبيل صاحب سجستان، فكانت هزيمته
في سنة ثلاث وثمانون، وجعل الحجاج يتلقط أصحابه ويضرب أعناقهم، حتى قتل خلقاً
كثيراً، وعفا عن جماعة منهم الشعبي وإبراهيم.
وبني الحجاج مدينة
واسط في السنة التي هرب فيها ابن الأشعث، ونزلها، وقال: انزل بين الكوفة والبصرة.
ولما بلغ أصحاب ابن
الأشعث أنه قد صار إلى رتبيل صاحب البلد، وأنه قد أقام عنده في أمن وسلامة، ووفى
له رتبيل بما كان بينه وبينه، اجتمعوا من كل أوب بناحية زرنج، وأمروا عليهم عبد
الرحمن بن العباس الهاشمي... فلقيهم بهراة، فقاتلهم، فهزمهم.
وبلغ الحجاج مكان ابن
الأشعث في أربعة آلاف من أصحابه عند رتبيل، فوجه عمارة بن تميم اللخمي إلى رتبيل،
وكتب معه إليه يأمره أن يوجهه إليه، وإلا وجه إليه بمائة ألف مقاتل، فلم يفعل.
وكان عبيد بن أبي سبيع غالباً على رتبيل، فنفسه ذلك ابن الأشعث، وأراد أن يمكر به
ووجه إليه ليقتله، فهرب عبيد بن أبي سبيع فصار إلى عمارة بن تميم، وهو مقيم بمدينة
بست، وقال: تجعلون لي شيئاً، وتصالحون رتبيل، وتكفون عنه، ويسلم إليكم ابن الأشعث.
وكتب عمارة إلى الحجاج بذلك، وكتب إليه الحجاج يقول له: أجبه إلى كل ما سألك، وكتب
له عهودا ختمها بخاتمه، فأخذها عمارة، وقدم بها على رتبيل، فلم يزل يرهبه مرة
ويرغبه أخرى، حتى أجابه إلى أخذ ابن الأشعث، فأخذه، وقيده وجماعة معه وأخاه،
وحملهم معه إلى الحجاج في الحديد، فلما صاروا بالرخج رمى ابن الأشعث بنفسه من فوق
سطح، وكان معه في السلسلة رجل يقال له أبو العر، فماتا جميعاً، وكان ذلك في سنة
أربع وثمانون، واحتز رأسه، فحمل إلى الحجاج، وحمله الحجاج إلى عبد الملك.
وعزم عبد الملك بن
مروان على خلع أخيه عبد العزيز والبيعة لابنه الوليد بولاية العهد من بعده، وكان
عبد العزيز بمصر، وكتب إلى الحجاج بأن يشخص إليه الشعبي، فأشخصه إليه فانسه وبره،
وأقام عنده أياماً، ثم قال: إني آتمنك على شيء لم آتمن عليه أحداً. إنه قد بداً لي
أن أبايع للوليد بولاية العهد بعدي، فإذا أتيت عبد العزيز، فزين له أن يخلع نفسه
من ولاية العهد، ومصر له طعمة. قال الشعبي: فأتيت عبد العزيز، فما رأيت ملكاً كان
أسمح أخلاقاً منه، فإني يوماً خال به أحدثه إذ قلت له: والله، أصلح الله الأمير،
أن رأيت ملكا أكمل، ولا نعمة أنضر، ولا عزا أتم مما أنت فيه، ولقد رأيت عبد الملك
طويل النصب، كثير التعب، قليل الراحة، دائم الروعة، إلى ما يتحمل من أمر الأمة،
ولوددت والله انهم أجابوك إلى أن يصيروا مصر لك طعمة، ويصيروا عهدهم إلى من أحبوا،
فقال: ومن لي بذلك ؟ فلما عرفت ما عنده انصرفت إلى عبد الملك، فأخبرته الخبر، فخلع
عبد الملك أخاه من ولاية العهد، وولى ابنه الوليد، ثم ابنه سليمان من بعد الوليد.
وقيل إن عبد الملك لم
يخلعه، ولكنه توفي في تلك المدة التي هم بخلعه فيها، وقيل إن عبد العزيز سقي سما،
وكان ذلك في سنة خمس وثمانون.
وولي هشام بن إسماعيل
المخزومي المدينة، فضرب سعيد بن المسيب ستين سوطا ظلما وعدوانا، وطاف به، فكتب
إليه عبد الملك يلومه، وساءت سيرة هشام بن إسماعيل، وأظهر العداوة لآل رسول الله.
وكان الغالب على عبد
الملك روح بن زنباع الجذامي، وعلى شرطته يزيد ابن أبي كبشه السكسكي، ثم عزله
واستعمل عبد الله بن يزيد الحكمي، وكان على حرسه أبو عياش الكهاني، وبعده أبو
الزعيزعة مولاه، وجمع العراقين للحجاج، ومصر والمغرب لعبد العزيز بن مروان، ثم
لابنه عبد الله ابن عبد الملك.
وكانت لعبد الملك
رجله، ودهاء، وعلم، إلا أنه كان مبخلا، فلما حضرته الوفاة جمع ولده، فأوصاهم
بالإجماع والألفة وترك التباغي، ثم قال: يا وليد، إذا أنا مت فشمر واتزر، والبس
جلد النمر، ثم ادع الناس إلى بيعتك، فمن قال برأسه هكذا، فقل بالسيف هكذا. وتوفي
للنصف من شوال سنة ست وثمانون، وكانت ولايته إحدى وعشرين سنة من يومه الذي بويع
فيه بالشام، وبعد قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنة، وكانت سنة ستين سنة أو نيفاً
وستين سنة، وصلى عليه ابنه الوليد، ودفن بدمشق.
وخلف من الولد الذكور
أربعة عشر ذكرا: الوليد وسليمان، ويزيد، ومروان، وهشام وبكار، وعبد الله، ومسلمة،
ومعاوية، ومحمد، والحجاج، وسعيد، والمنذر، وعنبسة. وفي أيام عبد الملك نقشت
الدراهم والدنانير بالعربية، وكان الذي فعل ذلك الحجاج بن يوسف.
وروى بعضهم أن رجلاً
أتى سعيد بن المسيب فقال: رأيت كان النبي موسى واقف على ساحل البحر، آخذ برجل رجل
يدوره كما يدور الغسال الثوب، فدوره ثلاثا، ثم دحا به إلى البحر. فقال سعيد: إن
صدقت رؤياك مات عبد الملك إلى ثلاثة أيام، فلم يمض ثالثة حتى جاء نعيه، فقال
لسعيد: من أين قلت هذا؟ قال: لأن موسى غرق فرعون، ولا أعلم فرعون هذا الوقت إلا
عبد الملك.
وأقام الحج للناس في
ولايته سنة اثنان وسبعون الحجاج بن يوسف، سنة ثلاث وسبعون، وسنة أربع وسبعون
الحجاج أيضاً، سنة خمس وسبعون عبد الملك بن مروان، سنة ست وسبعون أبان بن عثمان بن
عفان، سنة سبع وسبعون أبان أيضاً، سنة ثمان وسبعون، وسنة تسع وسبعون، وسنة ثمانون
أبان أيضاً، سنة واحد وثمانون سليمان بن عبد الملك، سنة اثنان وثمانون أبان بن
عثمان، سنة ثلاث وثمانون هشام بن إسماعيل المخزومي، سنة أربع وثمانون وسنة خمس
وثمانون هشام بن إسماعيل المخزومي أيضاً.
وغزا بالناس في
ولايته سنة خمس وسبعون محمد بن مروان الصائفة، وخرجت الروم على الأعماق، فقتلهم
أبان بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ودينار بن دينار، سنة ست وسبعون غزا يحيى بن
الحكم الصائفة بمرج الشحم بين ملطية والمصيصة، سنة سبع وسبعون غزا الوليد بن عبد
الملك أطمار، وكانت غزاته من ناحية ملطية، وغزا في البحر حسان بن النعمان... سنة
ثلاث وثمانون عبد الله أيضاً، وفتح المصيصة وبنى فيها حصناً صغيراً.
وكان الفقهاء في
أيامه عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمر، المسور بن مخرمة الزهري، السائب بن
يزيد، أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، خارجة بن زيد بن ثابت، سعيد بن
المسيب، عروة بن الزبير، عطاء بن يسار، القاسم بن محمد، أبا سلمة بن عبد الرحمن بن
عوف، سالم بن عبد الله، قبيصة ابن جابر، عبيدة بن قيس السلماني، شريح بن الحارث
الكندي، عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عبد الله بن يزيد الخطمي، زيد بن وهب الهمداني،
الحارث بن سويد التميمي مرة بن شراحيل الهمداني، أبا جحيفة وهب بن عبد الله
العامري الأسدي، يسير بن عمرو السلولي، أبا الشعثاء سليمان بن الأسود، الأسود بن
مالك الحارثي، ابن حراش العبسي، عمرو بن ميمون الأودي، عامر بن شراحيل الشعبي، عبد
الرحمن بن يزيد النخعي، سالم بن أبي الجعد، عمار ابن عمير الليثي، إبراهيم بن يزيد
التيمي، أبا ظبيان الحصين بن جندب، سليمان بن يسار، أبا المليح بن أسامة.
أيام الوليد بن عبد
الملكثم ملك الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأمه ولادة بنت العباس بن جزء العبسية،
للنصف من شوال سنة ست وثمانون، في اليوم الذي توفي فيه عبد الملك، وكانت الشمس
يومئذ في الميزان خمس عشرة درجة وخمسين دقيقة، والقمر في الحمل ثمانياً وعشرين
درجة وخمسين دقيقة، وزحل في الثور أربعا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا،
والمشتري في الدلو ستا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمريخ في القوس إحدى
وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في العقرب خمس عشرة درجة وثلاثين دقيقة،
وعطارد في الميزان عشر درجات وأربعين دقيقة، فصعد المنبر فنعى أباه، وقال: أيها
الناس! عليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإنه من أبدى ذات نفسه ضربت الذي فيه عيناه،
ومن سكت مات بدائه.
ثم نزل فعقد لمسلمة
أخيه على غزاة الروم، فنفذ في عدد كثير، فوجد جراجمة أنطاكية قد خالفوا، فقتل منهم
مقتلة عظيمة.
وكتب الوليد إلى
الحجاج فنعى إليه أباه عبد الملك، فنادى الحجاج بالصلاة جامعة، ثم صعد المنبر،
فذكر عبد الملك، وقرظة ووصف فعله وقال: كان والله البازل الذكر، رابعا من الولاة
الراشدين المهديين، وقد اختار له الله ما عنده، وعهد إلى نظيره في الفضل وشبيهه في
الحزم والجلد، والقيام بأمر الله، فاسمعوا وأطيعوا. وولى الوليد عمر بن عبد العزيز
المدينة، وأمر أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان هشام بن إسماعيل المخزومي قد
أساء السيرة، وجار في الأحكام، وتحامل على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما
قدم عمر قال هشام: ما أخاف إلا علي بن الحسين! فمر به، وهو موقوف، فسلم عليه،
فناداه هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، ولم يعرض له سعيد بن المسيب ولا لأحد من
أسبابه وحاميته.
وكان قدوم عمر بن عبد
العزيز المدينة سنة سبع وثمانون وثقله على ثلاثين بعيراً. وضرب الوليد البعث على أهل المدينة، وكتب إلى عمر، فأخرج منهم ألفي
رجل. وبنى
الوليد المسجد بدمشق، فأنفق عليه أموالاً عظاماً، وابتدأ بناءه في سنة ثمان
وثمانون، وكتب إلى عمر بن عبد العزيز أن يهدم مسجد رسول الله، ويدخل فيه المنازل
التي حوله، ويدخل فيه حجرات أزواج النبي، وهدم الحجرات، وأدخل ذلك في المسجد. ولما
بدأ بهدم الحجرات قام خبيب بن عبد الله بن الزبير إلى عمر والحجرات تهدم، فقال:
نشدتك الله يا عمر أن تذهب باية من كتاب الله، يقول: إن الذين ينادونك من وراء
الحجرات، فأمر به، فضرب مائة سوط، ونضح بالماء البارد، فمات، وكان يوماً بارداً.
فكان عمر لما ولي الخلافة، وصار إلى ما صار إليه من الزهد، يقول: من لي بخبيب!
وروى الواقدي أن الوليد بعث إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد رسول الله،
فليعنه فيه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهبا، ومائة فاعل، وأربعين حملاً فسيفساء،
فبعث الوليد بذلك كله إلى عمر، فأصلح به المسجد، وفرع من بنائه في سنة تسعون.
وبعث الوليد إلى خالد
بن عبد الله القسري، وهو على مكة، بثلاثين ألف دينار، فضربت صفائح، وجعلت على باب
الكعبة وعلى الأساطين التي داخلها وعلى الأركان والميزاب، فكان أول من ذهب البيت
في الإسلام.
وحج الوليد سنة واحد
وتسعون لينظر إلى البيت وإلى المسجد وما أصلح منه، وإلى البيت وتذهيبه، فلما قرب
من المدينة خرج عمر، فتلقاه بأشراف المدينة، فدخل المسجد، وجعل ينظر إليه، وأخرج
الحرس كل من كان فيه خلا سعيد بن المسيب، فإنه لم يخرج، ولم يترجرج، فدخل الوليد،
فجعل يطوف وسعيد بن المسيب جالس، ثم قال الوليد: أحسب هذا سعيد بن المسيب؟ فقال له
عمر: نعم! ومن حاله وحاله، إلا أنه ضعيف البصر. فجاء الوليد حتى وقف عليه، فقال:
كيف أنت أيها الشيخ؟ فما تحرك، وقال: نحن بخير، يا أمير المؤمنين، وكيف أنت؟
وانصرف الوليد، وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس. وقسم الوليد بين أهل المدينة قسماً
كثيرة، وصلى بها الجمعة، وصف بها الجند صفين، وصلى في دراعة وقلنسوة في غير رداء،
وخطب قاعدا، وتوعد أهل المدينة فقال: إنكم أهل الخلاف والمعصية، فقام إليه قوم
فكلموه، وكلمه أبو بكر بن عبد الرحمن، فقال: ما نجهل ما تقولون، ولكن في النفوس ما
فيها.
وصار إلى مكة فخطب
بها خطبة بتراء ذكر فيها الوعيد والتهديد، ولما صار بعرفة أطعم الناس، ونصب
الموائد، ولم يأكل، وكان خالد الذي يقوم على الموائد، ثم نصب مائدة، فقيل: هذه
لأمير المؤمنين، فقام، فأرسل إليه الوليد يأمره بالجلوس فجلس.
وولى الوليد موسى بن
نصير الأندلس في هذه السنة، وهي سنة واحد وتسعون، فوجه معه بطارق مولاه، فلقي ملك
الأندلس، وكان يقال له الإدريق، وكان رجلاً من أهل أصبهان، وهم
القوطيون ملوك
الأندلس، فزحف طارق إليه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وفتح الأندلس ثم خرج موسى بن
نصير إلى البلد، وكان قد غضب على طارق مولاه في أمور بلغته عنه، فلقيه طارق،
فترضاه، فرضي عنه، ووجهه إلى مدينة طليطلة، وهي من عظام مدائن الأندلس، على مسيرة
عشرين يوماً، فأصاب فيها مائدة ذهب مفصصة بالجوهر، قيل إنها مائدة سليمان بن داود،
فكسر رجلها، فأخذها، وبعث بها إلى موسى بن نصير. وكان الحجاج قد عزل يزيد بن
المهلب عن خراسان، وولي المفضل، فأقر المفضل ثم عزله وولى قتيبة بن مسلم الباهلي،
وكان قتيبة عامله على الري، وكتب إليه أن يستوثق من المفضل وبني أبيه، ويشخصهم
إليه، فسار قتيبة من الري حتى قدم مرو، فأخذ المفضل بن المهلب وسائر ولد المهلب،
فأشخصهم إلى الحجاج، فحبسهم وطالبهم بستة آلاف ألف.
وصار قتيبة إلى
بخارى، فافتتحها، وافتتح عدة مدن منها، ثم انصرف وخلف فيها ورقاء بن نصر الباهلي،
وأمره بقبض الصلح. وكان نيزك صاحب الترك قد صار إلى قتيبة، فلم يزل معه يحضر
حروبه، فلما انصرف قتيبة تحرك طرخون صاحب السغد وجيل أبو شوكر بخار أخداه، وكر
معانون اللوفسي في الترك، فكره قتيبة قتالهم، فوجه حيان النبطي فصالحهم. ثم صار
إلى الطالقان، وبها باذام قد عصى وتغلب على البلد، وكان ابن باذام مع قتيبة، فلما
بلغه أن باذام قد تحصن وعصى وارتد أخذ ابنه، فقتله، وصلبه وجماعة معه، ثم لقي
باذام فقاتله أياماً، ثم ظفر به فقتله، وقتل ولده وامرأته، واستعمل على البلد أخاه
عمرو بن مسلم.
ولما فتح قتيبة بخارى
والطالقان استأذنه نيزك طرخان في الرجوع إلى بلاده، وكان نيزك قد أسلم وسمي بعبد
الله، فأذن له، فرجع إلى طخارستان، فعصى، وكاتب الأعاجم، وجمع الجموع، فزحف إليه
قتيبة، ووجه إليه سليما الناصح، وكان صديقا له، فلم يزل يختدعه ويعطيه عن قتيبة ما
يسأل، حتى خرج إلى قتيبة على الأمان فأقام عنده أياماً ثم ضرب عنقه وعنق ابن أخت
له، وبعث برؤوسهما إلى الحجاج، وأخذ امرأة نيزك، فلما خلا بها قالت له: ما أجهلك!
أظننت أن نفسي تطيب لك، وقد قتلت زوجي وسلبتني ملكي؟ فخلاها، وقال: اذهبي حيث شئت.
ثم سار قتيبة إلى
السغد، فلقيه صاحب السغد، فصافه أياماً، ثم هرب منه، ولحق قتيبة الشتاء، فانصرف
وكتب إليه الحجاج يأمره بالمصير إلى سجستان ومحاربة رتبيل، فسار سنة اثنان وتسعون،
حتى صار إلى زالق من أرض سجستان، ثم زحف إلى رتبيل، فوجه إليه رتبيل: أنا كنا قد
صالحناكم، وقبلتم الصلح، فما ذا دعاكم إلى نقضه؟ فأرسل إليه أن الحجاج أبي ذلك،
فرد عليه رتبيل: إن قبلتم الصلح كان أصلح لكم، وإلا رجونا النصر عليكم. فقال قتيبة
لأصحابه: إن هذا وجه مشؤوم، وقد هلك فيه عبد الله بن أمية، وابن أبي بكرة، وغير
واحد، ولا نأمن الحيل التي كان رتبيل يحتالها من تحريق الطعام، والعلوفات، وأخذ
الحصون والسهل وحمل ما... فولى قتيبة عبد ربه بن عبد الله بن عمير الليثي، وسار
قتيبة إلى خوارزم، وبها سعيد بن ونوفار، وكانوا قتلوا عامل قتيبة، فقدمها، فسبى
مائة ألف، وحاصر سعيد بن ونوفار حتى قتله.
فلما أصلح البلاد
وانصرف بالغنائم التي لم يسمع بمثلها، وأراد جنده الرجوع إلى أوطانهم بما في
أيديهم، قام قتيبة خطيبا، فذكرهم ما كانوا فيه، وأعلمهم أنه لا براح لهم، واستخلف
على خوارزم عبد الله بن أبي عبد الله الكرماني، ثم سار قتيبة إلى سمرقند، وكان
غوزك قد قتل طرخون ملك السغد، وتملك على البلد، فلما وافى قتيبة حاربه، فكانت
بينهم حروب شديدة، وأحب قتيبة الصلح فراسل غوزك يدعوه إلى ذلك، فقال لأهل سمرقند:
علام نصالحهم، وبلدنا لا يدخله إلا رجلان: إما أحدهما فقيل وإما الآخر فاسمه إكاف،
فكبر قتيبة، وكبر المسلمون، وقالوا: أميرنا اسمه قتب البعير، فأذعنوا بالصلح على
أن يدخل فيصلي ركعتين، فدخل من باب كش، وخرج من باب الصين، واتخذ لهم غوزك ملك
سمرقند الطعام، فأكل قتيبة وأصحابه، فكتب له كتاب صلح: هذا ما صالح عليه قتيبة بن
مسلم غوزك إخشيد السغد، أفشين سمرقند على السغد، وسمرقند وكش، وكسف، صالحه على
ثلاثة آلاف درهم يؤديها غوزك إلى رأس كل سنة، وجعل له عهد الله وذمته، وذمة الأمير
الحجاج بن يوسف، وأشهد له شهودا، وكان ذلك سنة أربع وتسعون.
وولي قتيبة سمرقند
عبد الرحمن بن مسلم أخاه، فغدر به أهل سمرقند، وأتاه خاقان ملك الترك، وكتب إلى
قتيبة، فتوقف قتيبة حتى انحسر الشتاء، ثم سار إليه، فهزم عسكر الترك، واستقامت له
خراسان.
وكان الحجاج لما أشخص
إليه قتيبة ولد المهلب حبسهم جميعاً، ومعهم يزيد بن المهلب، بستة آلاف ألف درهم،
وعذبهم في ذلك أشد العذاب، فلما رأوا ما هم فيه من العذاب سألوه أن يدخل إليهم
التجار حتى يبيعوا أموالهم وضياعهم، وصنعوا طعاما كثيراً، ودخل إليهم الناس، وخلق
من التجار، فأكلوا عندهم في الحبس ثم اختلطوا بغمار الناس، وخرجوا معهم، وقد لبس
يزيد لحية كبيرة طويلة صفراء، وكان شابا، ثم ركب وإخوته نجائب قد كان تقدم في
إعدادها، ولحق بالشام، فصار إلى سليمان بن عبد الملك، فكلموه، وصار إلى عبد العزيز
بن الوليد، فشفع فيهم عند الوليد، حتى آمنهم وأحضرهم، فصالحهم على نصف المال، وهو
ثلاثة آلاف ألف درهم، فقالوا: على أن نستعين قومنا من أهل الشام، فقال:
ذلك إليكم! فتحمل
عنهم اليمانية من أهل دمشق من أعطيتهم نجما، وتحمل عنهم سائر أهل الشام نجما،
وأقاموا بباب الوليد، وكتب الوليد إلى الحجاج في تخلية من كان في محبسه من أسبابهم
فخلاهم جميعاً.
ووجه الحجاج محمد بن
القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي إلى السند، سنة اثنان وتسعون، وأمره
أن يقيم بشيراز من أرض فارس حتى يمكن الزمان، فقدم محمد شيراز، فأقام بها ستة
أشهر، ثم سار في ستة آلاف فارس، حتى أتى مكران، فأقام بها شهراً ونحوه، ثم زحف إلى
فنزبور، وقد جمع أهل فنزبور، فحاربهم شهورا، ثم فتحها فسبى وغنم، ثم زحف إلى
أرمائيل فحاربهم أياماً، ثم فتحها، فأقام بها شهورا، ثم زحف إلى الديبل في خلق
عظيم، حتى أتى المدينة، وعبا الجيوش، وأخذ بإكظام القوم، وأقام يحاربهم عدة شهور،
وكان لهم بد يعبدونه، طوله في السماء أربعون ذراعاً، فرماه بالمنجنيق، فكسره، ثم
وضع السلاليم على السور، وأصعد الرجال، فافتتحها عنوة، فقتل المقاتلة، ووجد للبد
الذي كانوا يعبدونه سبع مائة راتبة، وأخذ منها أموالاً عظاماً.
ولما فتح الديبل،
وكانت أعظم مدائنهم، خضع له أهل البلدان، فسار من الديبل إلى النيرون، فصالحهم،
وكتب إلى الحجاج يستأذنه في التقدم، فكتب إليه: أن سر، فأنت أمير على ما فتحته!
وكتب إلى قتيبة بن مسلم عامل خراسان: أيكما سبق إلى الصين، فهو عامل عليها، وعلى
صاحبها، فمضى محمد ابن القاسم، وجعل لا يمر ببلد إلا غلب عليه، ولا مدينة إلا
فتحها صلحاً أو عنوة، فعبر نهر السند، وهو دون مهران، وسار إلى سهبان ففتحها، ثم
سار نحو شط مهران، فلما بلغ داهر ملك السند مكانه وجه إليه جيشاً عظيماً، فلقي
محمد بن القاسم ذلك الجيش فهزمهم، وزحف إليه داهر، فأقام مواقفا له عدة شهور،
وبينا هم في تلك المواقفة زاحفة داهر، وهو على الفيل، فاشتدت بينهما الحرب، وأخذت
من الفريقين، وعطش الفيل الذي كان داهر عليه، فغلب فياله، فترجل، فنزل داهر فقاتل
في الأرض حتى قتل، وانهزم جيشه، وفتح المسلمون، وكتب محمد إلى الحجاج بالفتح، وبعث
برأس داهر إليه.
ومضى في بلاد السند
ففتح بلدا بلدا، ومدينة مدينة، حتى أتى أورو، وهي من أعظم مدائن السند، فحاصرهم
حصاراً شديداً، وهم لا يعلمون أن داهر قد قتل، فلما أملهم بعث إليهم محمد بن
القاسم بامرأة داهر، فقالت لهم: إن الملك قد قتل، فاطلبوا الأمان، فطلبوه، ونزلوا
على حكم محمد، وفتحوا له باب المدينة، فدخلها، ثم استخلف فيها، ومضى يقطع البلاد،
ويفتح مدينة مدينة، ثم كتب إليه الحجاج: أني قد كتبت إلى أمير المؤمنين الوليد
أضمن له أن أرد إلى بيت المال نظير ما أنفقت، فأخرجني من ضماني! فحمل إليه أكثر
مما أنفق.
وأقام محمد بن القاسم
في بلاد السند حتى توفي الوليد، وولي سليمان بن عبد الملك، وكان لمحمد بن القاسم،
في الوقت الذي غزا فيه بلاد السند والهند، وقاد الجيوش وفتح الفتوح، خمس عشرة سنة،
فقال زياد الأعجم:
إن الشجاعة والسماحة
والندى ... لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لخمس عشرة
حجة ... يا قرب ذلك سؤدداً من مولد
وكتب الوليد إلى خالد
بن عبد الله القسري، عامله على الحجاز، يأمره بإخراج من بالحجاز من أهل العراقين،
وحملهم إلى الحجاج بن يوسف، فبعث خالد إلى المدينة عثمان بن حيان المري لإخراج من
بها من أهل العراقين، فأخرجهم جميعاً، وجماعاتهم في الجوامع، إلى الحجاج، ولم يترك
تاجرا ولا غير تاجر، ونادى: إلا برئت الذمة ممن آوى عراقياً، وكان لا يبلغه أن
أحداً من أهل العراق في دار أحد من أهل المدينة إلا أخرجه.
فخرج الوليد إلى
الحميمة من أرض الشراة، من عمل جند دمشق سنة خمس وتسعون، وكان سبب ذلك أن أم سليط
بن عبد الله بن عباس رفعت إلى الوليد أن علي بن عبد الله قتل ابنها، ودفنه في
البستان الذي ينزله، وبنى عليه دكانا، فأخذه الوليد بذلك وقال له: أقتلت أخاك؟
قال: ليس بأخي، ولكنه عبدي قتلته. وكان عبد الله بن عباس أوصى إلى ابنه علي أن
يورث سليطا، ولا يزوجه، وقال: أنا أعلم أنه ليس مني، ولكني لا أدفعه عن الميراث.
فنزل علي بن عبد الله الحميمة، فلم يزل بها حتى ولد أولاداً، وصار له الأهل
والعيل، وولد له نيف وعشرون ذكرا، مات عامتهم في حياته، ولم يزل ولده بالحميمة حتى
أذهب الله سلطان بني أمية.
وتوفي الحجاج بن يوسف
في هذه السنة، وهي سنة خمس وتسعون، وهو يومئذ ابن أربع وخمسين سنة، وكانت إمرته
على العراق عشرين سنة، فأقر الوليد على عمله يزيد بن أبي مسلم خليفته، ثم استعمل
مكانه يزيد بن أبي كبشه السكسكي. وكان الوليد لحاناً، فيه هرج وحيرة، وكان يقول:
لا ينبغي لخليفه أن يناشد، ولا يكذب، ولا يسميه أحد باسمه، وعاقب على ذلك.
وكان أول من عمل
البيمارستان للمرضى، ودار الضيافة، وأول من أجرى على العميان، والمساكين،
والمجذمين الأرزاق، وكان ممن أحدث قتل العصاة وأحصى أهل الديوان، وألقى منهم بشراً
كثيراً بلغت عدتهم عشرين ألفاً، وأول من أجزى طعام شهر رمضان في المساجد، وصام
الإثنين والخميس فأدمنه، وأول من أخذ بالقذف والظنة وقتل بهما الرجال، وانكسر
الخراج في أيامه، فلم يحمل كثير شيء، ولم يحمل الحجاج من جميع العراق إلا خمسة
وعشرين ألف ألف درهم. وكانت في ولايته الزلازل التي هدمت كل شيء، وأقامت أربعين
صباحا في سنة أربع وتسعون وكان الغالب عليه الفازي بن ربيعة الحرشي، وكان قاضيه
بالكوفة الشعبي، وكان على شرطة أبو ناتل رباح بن عبد الغساني، ثم عزله، واستعمل
كعب بن حامد العبسي، وعلى حرسه خالد بن الديان، مولى محارب، وحاجبه سعيد مولاه،
وتوفي الوليد لأربع عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ست وتسعون، وقيل انسلاخ جمادى
الآخرة، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وقيل تسع وأربعين سنة، وكانت أيامه تسع سنين
وثمانية أشهر ونصفا، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكانت وفاته بدير مران ودفن
بدمشق، وخلف من الولد تسعة عشر ذكراً: محمد، والعباس، وعمر، وبشر وروح وخالد،
وتمام، ومبشر، وجري، ويزيد، وعبد الرحمن، وإبراهيم، ويحيى، وأبو عبيدة، ومسرور،
وصدقة.
وأقام الحج للناس في
أيامه سنة ست وثمانون هشام بن إسماعيل، سنة سبع وثمانون عمر بن عبد العزيز، سنة
ثمان وثمانون حج هو، سنة تسع وثمانون وسنة تسعون عمر بن عبد العزيز، سنة واحد
وتسعون حج هو، سنة اثنان وتسعون وسنة ثلاث وتسعون عمر بن عبد العزيز، سنة أربع
وتسعون مسلمة بن عبد الملك، سنة خمس وتسعون أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
وغزا الصوائف في
أيامه سنة ست وثمانون مسلمة، ففتح حصنين، سنة ثمان وثمانون... مسلمة والعباس بن الوليد، فافتتحا سورية وافتتح العباس ادروليه سنة
تسعين عبد العزيز بن الوليد، فافتتح حصناً، سنة واحد وتسعين عبد العزيز بن
الوليد... محمد ابن مروان، وغزا موسى بن نصير الأندلس، سنة ثلاث وتسعون العباس بن
الوليد ومروان بن الوليد ومسلمة، ففتحوا أماسية وحصن الحديد سنة أربع وتسعون
العباس وعمر ابنا الوليد، سنة خمس وتسعون العباس، ففتح قبرس سنة ست وتسعون بشر بن
الوليد.
وكان الفقهاء في
أيامه عبد الرحمن بن حاطب، سعيد بن المسيب، عروة ابن الزبير، عطاء بن يسار، أبا
سلمة بن عبد الرحمن، القاسم بن محمد، سعيد بن جبير، مجاهد بن جبير مولى بني مخزوم،
عكرمة مولى ابن عباس، حكيم بن أبي حازم شقيق ابن سلمة، إبراهيم بن يزيد النخعي،
عامر الشعبي، سالم بن أبي الجعد، إسحاق السبيعي، أيوب الأزدي، أبا تميم الحميني،
الحسن بن أبي الحسن، محمد بن سيرين، أبا قلابة عبد الله بن زيد، سليمان بن يسار،
مورق العجلي، سنان بن سلمة، أبا المليح بن أسامة الهذلي، العلاء بن زياد، أبا
إدريس، رجاء بن حيوة. وكان الوليد طوالا، أسمر، به أثر جدري خفي، بمقدم لحيته شمط،
ليس في رأسه ولا لحيته غيره، أفطس.
أيام سليمان بن عبد
الملكوملك سليمان بن عبد الملك بن مروان، وأمه ولادة بنت العباس بن جزء العبسية،
للنصف من جمادى الأولى سنة ست وتسعون، وكانت الشمس يومئذ في الحوت ست درجات وأربعين
دقيقة، والقمر في السنبلة ست عشرة درجة وعشرين دقيقة راجعا، والمشتري في القوس
خمساً وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمريخ في الدلو إحدى عشرة درجة وثلاث دقائق،
والزهرة في الحوت خمس عشرة درجة وتسع عشرة دقيقة، وعطارد في الحوت خمس درجات
وخمسين دقيقة والرأس في الأسد ثلاث عشرة درجة وخمس عشرة دقيقة.
وأتته الخلافة
بالرملة، وكان بها منزلة، وهو أنشأ مسجد جامعها، وقصر إمارتها، ونقل الناس إليها
من لد، وكانت المدينة التي ينزلها الناس، فأخذ بهدم منازلهم بلد، والبنيان
بالرملة، وعاقب من امتنع من ذلك، وهدم منازلهم، وقطع الميرة عنهم، حتى انتقلوا
وخرب لد.
وأخذ له عمر بن عبد
العزيز البيعة بدمشق، يوم مات الوليد، فصار إلى دمشق فأقام بها يسيراً، وأراد
سليمان الحج، فكتب إلى خالد بن عبد الله وهو عامل مكة، يأمره أن يجري له عينا تخرج
من الثقبة من الماء العذب، حتى تظهر بين زمزم والركن الأسود، يباهي بها زمزم، فعمل
خالد البركة التي بفم الثقبة، يقال لها: بركة القسري، وهي قائمة إلى اليوم، في أصل
ثبير، عملها بحجارة منقوشة، واستنبط ماءها من ذلك الموضع، ثم شق من هذه البركة
عينا تجري إلى المسجد الحرام، في قصب من رصاص، حتى أظهرها في فواره تسكب في فسقية
رخام، بين الركن وزمزم، فلما أن جرت وظهر ماؤها أمر خالد بجزر، فنحرت بمكة، وقسمت
بين الناس، وعمل طعاماً، فدعا إليه الناس، ثم أمر صائحا، فصاح: الصلاة جامعة، ثم
صعد المنبر فقال: أيها الناس احمدوا الله، وادعوا لأمير المؤمنين الذي سقاكم الماء
العذب، بعد المالح الأجاج، الذي لا يطاق شربه، يعني زمزم وكان لا يجتمع على ذلك
الماء اثنان، وكانوا على شرب زمزم أكثر ما كانوا، فلما رأى خالد ذلك قام خطيباً،
فنال من أهل مكة، وكلمهم بكلام قبيح يعنفهم فيه على تركهم شرب ذلك الماء، وإقبالهم
على زمزم، ولم تزل تلك الفسقية على حالها أيام بني أمية، فلما صار الأمر إلى بني
هاشم هدمها داود بن علي أول ما قدم مكة.
ولم يقم خالد بمكة
إلا قليلاً حتى سخط عليه سليمان، فصرفه، وولي طلحة بن داود الحضرمي، وأمره أن يضرب
خالدا بالسياط بسبب امرأة من قريش كان قذفها فأقبح، وأن يطالبه، ويحمله في الحديد،
وعزل عثمان بن حيان المري عامل المدينة، وقلد أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم،
فضرب عثمان بن حيان حدين: أحدهما في شرب الخمر، والآخر في قرفه على عبد الله بن
عمرو بن عثمان بن عفان.
وسخط سليمان على موسى
بن نصير اللخمي، العامل على إفريقية، والذي افتتح الأندلس وما والاها، وكان موسى
قدم على الوليد، فوجده شديد العلة، فلم يقم إلا أياماً حتى مات، وسعى طارق مولى
موسى بمولاه إلى سليمان، فاستصفى سليمان ماله، وأخذه بمائة ألف دينار، فقال موسى:
صحبتكم ولي فرس وفرو وسيف، فأعطوني هذا وشأنكم بما بقي.
وولي سليمان المغرب
محمد بن يزيد، مولى قريش، وأمره بتتبع أصحاب موسى وولده وأصحابه، وكان سليمان قد
قدم يزيد بن المهلب وخصه وأبره، ودفع إليه أصحاب الحجاج بن يوسف، وموسى بن نصير،
وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف بن عمر الثقفي، والحكم بن أيوب، وعبد الرحمن بن
حيان المري، وأمره أن يعذبهم حتى يستخرج منهم الأموال، وتتبع سليمان أصحاب الحجاج
يسومهم سوء العذاب، وأشخص إليه يزيد بن أبي مسلم خليفة الحجاج، وكان قصيرا، خفيف
البدن، فلما رآه قال له: أنت يزيد؟ قال: نعم! قال: صاحب الحجاج والأفعال التي
بلغتني مما أرى من دمامة خلقتك؟ قال: ذاك والله إنك رأيتني والدنيا عليك مقبلة،
وهي عني مدبرة، ولو رأيتها وهي إلي مقبلة، وعنك مدبرة، لاستعظمت ما استصغرت،
واستجللت ما استحقرت. قال: أين ترى الحجاج يهوي في النار؟ قال: لا تقل هذا يا أمير
المؤمنين لرجل يحشر عن يمين أبيك وشمال أخيك، وأنزله حيث شئت تنزلهما معه. فقال
ليزيد بن المهلب: خذه إليك، فعذبه بألوان العذاب، حتى تستخرج منه الأموال. فقال:
يا أمير المؤمنين أنا أعلم به، لا والله ما عنده مال، ولا كان ممن يحوي المال.
وكان يزيد بن المهلب يعرف له جميل فعله به، فولاه سليمان الصائفة.
وكان قتيبة بن مسلم
عامل الحجاج على خراسان فلما بلغه فعل سليمان بنظرائه، وقصده عمال الوليد، وعمال
الحجاج، جمع إليه إخوانه وأهل بيته، وأوغل في أرض العجم، حتى بلغ بلد فرغانة
القصوى وكان عبد الله ابن الأهتم التميمي معه، فهرب منه إلى سليمان، فرفع إليه،
فأخذ قتيبة قوما من أهل بيته، فقتلهم وقطع أيدي آخرين وأرجلهم، وكان يزيد بن
المهلب عدوه لما فعل به وبأهل بيته لما ولي عليه، فعلم أنه لا يصلح له حب سليمان،
وكتب إليه كتابا، فأجابه سليمان يغلظ له، فأراد الخلع، وهو لا يشك أن موضعه من
النزارية... واليمانية لا يخالفونه، فلما علم القوم مذهبه تبعدوا عنه، فخطبهم خطبة
مشهورة، نال فيها، وقال: يا معشر تميم، ويا أهل الذلة والقلة، ويا معشر الأزد!
أخليتم السفن، وركبتم الخيل، وقذفتم المرادي، وأخذتم الرماح، والله لأنا بمن معي
من العجم أعز منكم! فصاف القوم عنه، وصارت كلمتهم واحدة في الوثوب عليه، واجتمعوا
إلى الحضين بن المنذر، فدعوه إلى القيام بجماعتهم، فقال: عليكم بوكيع بن أبي سود
التميمي. فأتوا وكيعا، فانقضت كلمتهم عليه، ومع القوم يومئذ حيان النبطي، فوثبوا
بقتيبة فقتلوه، وقام وكيع بخراسان، وولي عماله، وكتب إلى سليمان يعلمه ما كان منه،
وبعث برأس قتيبة ورؤوس أهل بيته إليه، وذلك في سنة ست وتسعون.
فلما أتى سليمان كتاب
وكيع أراد أن يكتب إليه بالعهد على خراسان، فقيل له: إنه رجل ترفعه الفتنة وتضعه
السنة، وليس لها بموضع، فولى سليمان يزيد بن المهلب العراق وخراسان، فكان يزيد بن
المهلب في العراق، فعذب عمال الحجاج، ثم استخلف على العراق ونفذ إلى خراسان، فتتبع
أصحاب قتيبة وقراباته، فسامهم سوء العذاب، وحبس وكيع بن أبي سود، وقيده، وأخذ
عماله الذين كان ولاهم البلدان بعد قتل قتيبة، فطالبهم بالأموال التي صارت إليهم،
وخالف أكثر أهل خراسان فقصد جرجان، فحاصرها حتى نزلوا على حكمه، فقتل منهم مقتلة
عظيمة، وفتحها وحارب أصبهبذ طبرستان، وملك الترك، وملك الديلم، فأقام في محاربة
صاحب طبرستان زمانا، ثم عرض وضجر، ثم طلب أن يصالحه، فلم يفعل، فرجع إلى جرجان
فأقام بها، ثم خرج منها إلى نيسابور، وولي يزيد إخوته وولده البلدان، فولى مخلدا
سمرقند، ومدرك بن المهلب بلخ، ومحمد بن المهلب مرو، وعظم أمر يزيد بخراسان.
واضطرب السند، وأخل
الجند الذين كانوا مع محمد بن القاسم الثقفي بمراكزهم، فرجع أهل كل بلد إلى بلدهم،
فوجه سليمان حبيب بن المهلب إليها، فدخل البلاد، وقاتل قوما كانوا ناحية مهران،
وأخذ محمد بن القاسم، فألبسه المسوح، وقيده وحبسه.
وقدم أبو هاشم عبد
الله بن محمد بن علي بن أبي طالب على سليمان، وقال سليمان: ما كلمت قرشيا قط يشبه
هذا، وما أظنه إلا الذي كنا نحدث عنه، فأجازه، وقضى حوائجه وحوائج من معه.
ثم شخص عبد الله بن
محمد، وهو يزيد فلسطين، فبعث سليمان قوما إلى بلاد لخم وجذام، ومعهم اللبن
المسموم، فضربوا أخبية نزلوا فيها، فمر بهم، فقالوا: يا عبد الله! هل لك في
الشراب؟ فقال: جزيتم خيراً. ثم مر باخرين، فقالوا مثل ذلك، فجزاهم خيراً، ثم
باخرين، فاستسقى فسقوه، فلما استقر اللبن في جوفه قال لمن معه: أنا والله ميت، فانظروا
من هؤلاء، فنظروا فإذا القوم قد قوضوا، فقال: ميلوا بي إلى ابن عمي محمد بن علي بن
عبد الله بن عباس، فإنه بأرض الشراة، فأسرعوا السير حتى أتوا محمد بن علي بالحميمة
من أرض الشراة، فلما قدم عليه قال له: يا ابن عم أنا ميت، وقد صرت إليك، وهذه وصية
أبي إلي، وفيها أن الأمر صائر إليك، وإلى ولدك، والوقت الذي يكون ذلك، والعلامة
وما ينبغي لكم العمل به أعلى ما سمع وروى عن أبيه علي بن أبي طالب، فاقبضها إليك،
وهؤلاء الشيعة ستوص بهم خيراً، وهؤلاء دعاتك وأنصارك، فاستبطنهم، فإني قد بلوتهم
بمحبة ومودة لأهل بيتك، ثم هذا الرجل ميسرة، فاجعله صاحبك بالعراق، فأما الشام،
فليست لكم ببلاد، وهؤلاء رسله إلى خراسان وإليك، ولتكن دعوتكم بخراسان، ولا تعد
هذه الكور: مرو، ومرو الروذ، وبيورد، ونسا، وإياك ونيسابور وكورها، وأبرشهر، وطوس،
فإني أرجو أن تتم دعوتكم، ويظهر الله أموركم، وأعلم أن صاحب هذا الأمر من ولدك عبد
الله بن الحارثية، ثم عبد الله أخوه الذي هو أكبر منه، فإذا مضت سنة الحمار، فوجه
رسلك بكتبك، ووطد الأمر قبل ذلك بلا رسول ولا حجة. فأما أهل العراق، فهم شيعتك
ومحبوك، وهم أهل اختلاف، فلا يكن رسولك إلا منهم، وانظر أهل الحي من ربيعة فألحقهم
بهم، فإنهم معهم في كل أمر، وانظر هذا الحي من تميم وقيس فاقصهم، ثم أبدهم إلا من
عصم الله منهم، وهم أقل من القليل، ثم اختر دعاتك، فليكونوا اثني عشر نقيبا، فإن
الله عز وجل لم يصلح أمر بني إسرائيل إلا بهم وسبعين نفسا بعدهم يتلونهم، فإن
النبي إنما اتخذ اثني عشر نقيباً من الأنصار اتباعاً لذلك.
فقال محمد: يا أبا
هاشم! وما سنة الحمار؟ قال: لم يمض مائة من نبوة قط إلا انقضت أمورها، لقول الله
عز وجل: " أو كالذي مر على قرية " ، الآية، فإذا خلت مائة سنة، فابعث
رسلك ودعاتك، فإن الله متمم أمرك.
ومات أبو هاشم بعد أن
دفع الكتاب إلى محمد بن علي، وذلك سنة سبع وتسعون، وفيها وجه محمد بن علي أبا رباح
ميسرة النبال مولى الأزد إلى الكوفة. وحج سليمان سنة سبع وتسعون، وقد عزم على أن
يبايع لابنه أيوب بولاية العهد من بعده، وكان قد كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو
بن حزم أن يبني له قصرا بالجرف ينزله، فلما قدم لم يرض بناء القصر، فنزله، وقسم
بين أهل المدينة قسما، وفرض لقريش خاصة أربعة آلاف فريضة لم يدخل فيها حليفا ولا
مولى، فأجمع رأى مشيخة قريش أن جعلوها لحلفائهم ومواليهم، ثم دخلوا عليه فقالوا:
إنك قد فرضت لنا أربعة آلاف فريضة لا تدخل علينا فيها حليفا ولا مولى، فرأينا أن
نكافئك ونجعلها في حلفائنا وموالينا، فنحن أخف عليك مؤونة منهم. ففرض لهم أربعة
آلاف فريضة أخرى.
وصار إلى مكة، فلما
نزل بطن رابغ أخذتهم السماء وجاءت صواعق لم ير مثلها، ففزع سليمان، فقال له عمر بن
عبد العزيز: هذه الرحمة، فكيف العذاب؟ وأحضر جماعة من الفقهاء فيهم القاسم بن محمد
بن أبي بكر، وسالم ابن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن
حزم، فسألهم عن أمر الحج، فاختلفوا عليه، فقال كل واحد منهم قولا لم يوافق الآخر،
فقال: كيف صنع أمير المؤمنين عبد الملك؟ فقيل له: كذا، فقال: أصنع كما صنع، وأترك
اختلافكم. وانصرف من مكة إلى بيت المقدس، فأطاف المجذمون بمنزله، فضربوا بأجراسهم،
حتى منعوه النوم، فسأل عنهم، فأخبر بما يلقاه الناس منهم، فأمر بإحراقهم، وقال: لو
كان في هؤلاء خير ما ابتلاهم الله بهذا البلاء! فكلمه عمر في ذلك، فأمسك عنهم،
وأمر أن ينفوا إلى قرية معتزلة لا يخالطوا الناس وخرج سليمان إلى ناحية الجزيرة،
فنزل بموضع يقال له دابق، من جند قنسرين، وأغزى مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم
وأمره أن يقصد القسطنطينية، فيقيم عليها حتى يفتحها، فسار مسلمة حتى بلغ
القسطنطينية، وأقام عليها حتى زرع وأكل مما زرع، ودخل، وفتح مدينة
الصقالبة وأصاب
المسلمين ضر وجوع وبرد. وبلغ سليمان ما فيه مسلمة ومن معه، فأمدهم بعمرو بن قيس في
البر، وأغزى عمر بن هبيرة الفزاري في البحر، وذلك أن الروم أغاروا على مدينة
اللاذقية من جند حمص، فأحرقوها، وذهبوا بما فيها، فبلغ عمر بن هبيرة خليج
القسطنطينية.
وكان الغالب على
سليمان النصرا بن برهم الحميري، ورجاء بن حيوة الكندي، وعلى شرطة كعب بن حامد
العبسي، وعلى حرسه خالد بن الديان مولى محارب، وحاجبه مولاه أبو عبيدة، وكان أكولا
لا يكاد يشبع، وكان له جمال وفصاحة... رجل طويل، أبيض قضيف البدن، لم يشب، وهو
الذي يقول، ونظر إلى نفسه في المرآة: أنا الملك الشاب، فما دارت عليه الجمعة حتى مات، وكانت وفاته في صفر
سنة تسع وتسعين، وعهد إلى عمر بن عبد العزيز، وكتب كتابا، وأحضر أهل بيته، فقال:
بايعوا لمن في هذا الكتاب، فبايعوا، ودفع الكتاب إلى مسجد دابق، فدعا من بها من
أهل بيت سليمان، فقال: بايعوا! فقالوا: إنا بايعنا مرة، فقال: بايعوا الذي في هذا الكتاب، فبايعوا، فلما فرغ قال: قوموا إلى صاحبكم،
فقد مات، وقرأه، فلما بلغ إلى اسم عمر بن عبد العزيز قال هشام: لا والله لا أبايع!
فقال رجاء بن حيوة: إذا أضرب عنقك، وأخذ بضبع عمر، فأجلسه على المنبر، فلما فرغوا
من البيعة دفنوا سليمان، ونزل عمر بن عبد العزيز قبره، وثلاثة من ولده، فلما
تناولوه تحرك على أيديهم، فقال ولد سليمان: عاش أبونا ورب الكعبة! فقال عمر: بل
عوجل أبوكم ورب الكعبة! وكان بعض من يطعن على عمر يقول له: دفن سليمان حيا. وكانت
ولاية سليمان بن عبد الملك سنتين وثمانية أشهر، وخلف من الولد الذكور عشرة: يزيد
والقاسم وسعيد، وعثمان، وعبد الله، وعبد الواحد، والحارث، وعمرو، وعمر، وعبد
الرحمن. وأقام الحج للناس في ولايته سنة ست وتسعون أبو بكر بن عمرو بن جزم، وفي
سنة سبع وتسعون سليمان، وفي سنة ثمان وتسعون عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن
أسيد. وغزا في
أيامه سنة ست وتسعون مسلمة، ففتح حصن الحديد وشتا بنواحي الروم، وعمر بن هبيرة في
البحر، فمخروا ما بين الخليج والقسطنطينية، وفتحوا مدينة الصقالبة، وأمد سليمان
بعمرو بن قيس الكندي، وعبد الله بن عمر بن الوليد ابن عقبة وفي سنة تسع وتسعون وجه
سليمان بن عبد الملك بابنه داود إلى أرض الروم، ومسلمة منيخ على القسطنطينية، ففتح
داود حصن المرأة من ناحية ملطية. وكان الفقهاء في أيامه مثل من كان في أيام الوليد.
أيام عمر بن عبد
العزيزثم ولى عمر بن عبد العزيز بن مروان، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر ابن
الخطاب، لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعون، وكانت الشمس يومئذ في السنبلة ثمانياً
وعشرين درجة، وزحل في الميزان خمساً وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمشتري في الحوت
درجتين راجعا، والمريخ في السرطان ثلاثاً وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، وعطارد في
الميزان اثنتين وعشرين درجة، والرأس في الجوزاء ثلاثاً وعشرين درجة وستا وعشرين
دقيقة، وبويع بدابق، وكان الكتاب الذي كتبه سليمان: هذا كتاب من عبد الله سليمان
أمير المؤمنين لعمر ابن عبد العزيز أني وليتك الخلافة بعدي، فاسمعوا، وأطيعوا،
واتقوا الله، ولا تختلفوا. فلما قرئ الكتاب بايع جميع من حضر من بني أمية خلا عبد
العزيز ابن الوليد بن عبد الملك، فإنه كان غائباً، فدعا إلى نفسه، فبايعه قوم،
فلما بلغه ولاية عمر قدم، فقال له عمر: بلغني أنك كنت دعوت إلى نفسك، وأردت دخول
دمشق، فقال: قد كان ذلك لأني خفت الفتنة، وبلغني أن الخليفة لم يعهد إلى أحد. فقال
عمر: لو قمت بالأمر ما نازعتك ذلك فقال عبد العزيز: ما كنت أحب أن يكون ولي هذا
الأمر غيرك.
ولما بلغ يزيد بن
المهلب ولاية عمر وورد عليه كتابه شخص من خراسان، واستخلف بها مخلدا ابنه، وحمل كل
ما كان له، مخافة من أهل خراسان، معه، فأشار عليه قوم ألا يبرح، فلم يفعل، وصار
إلى البصرة، فلقيه بها عدي ابن أرطأة عامل عمر، فأوصل إليه كتاب عمر، فقال: سمعا
وطاعة، ثم حمله إليه مستوثقاً منه، فقال له عمر: إني وجدت لك كتابا إلى سليمان
تذكر فيه أنك اجتمع قبلك عشرون ألف ألف، فأين هي؟ فأنكرها، ثم قال: دعني أجمعها!
قال: أين؟ قال: أسعى إلى الناس. قال: تأخذها منهم مرة أخرى؟ لا ولا نعمي عين. ثم
ولي الجراح بن عبد الله الحكمي خراسان، وأمره أن يأخذ مخلد بن يزيد، فيستوثق منه
استيثاقا لا يمنعه من الصلاة، فحبسه الجراح مكرماً، ثم حمله إلى عمر، فدخل في ثياب
مشمرة، وقلنسوة بيضاء، فقال له عمر: هذا خلاف ما بلغني عنك. فقال: أنتم الأئمة إذا
أسبلتم أسبلنا، وإذا شمرتم شمرنا.
وحسنت سيرة الجراح
وقدمت عليه وفود التبت يسألونه أن يبعث إليهم من يعرض عليهم الإسلام، فوجه إليهم
السليط بن عبد الله الحنفي، ووجه عبد الله بن معمر اليشكري إلى ما وراء النهر،
فلقي جمعاً للترك فهزم وانصرف ابن معمر.
وبلغ عمر عن الجراح
أمور يكرهها من أنه يأخذ الجزية من قوم قد أسلموا، وأنه يغزى موالي بلا عطاء، وأنه
يظهر العصبية، فكتب إليه: أن أقدم، واستخلف عبد الرحمن بن نعيم الغامدي، ففعل ذلك،
ثم كتب عمر إلى عبد الرحمن بعهده على خراسان، ويأمره بأقفال من وراء النهر من
المسلمين بذراريهم إلى مرو، فعرض ذلك عليهم، فأبوا عليه، فكتب إلى عمر انهم قد
رضوا بالمقام، فحمد عمر ربه على ذلك.
وبلغ عمر ما فيه من
في بلاد الروم مع مسلمة من الضرر والفاقة، فوجه عمر بن قيس على الصائفة، ووجه معه
الكساء والطعام والأعطيه لمن كان مع مسلمة من المسلمين، فوجه عمر عبد العزير بن
حاتم بن النعمان الباهلي، فأوقع بالترك، فلم يفلت منهم إلا الشريد، وقدم على عمر
منهم بخمسين أسيرا، فقال رجل من المسلمين لعمر في أسير منهم: لو رأيت هذا، يا أمير
المؤمنين، يقتل المسلمين، لرأيت قتالاً ذريعا فقال: قم فاضرب عنقه.
وفاة علي بن
الحسينوتوفي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في سنة تسع وتسعون، وقال قوم سنة
مائة، وله ثمان وخمسون سنة، وكان أفضل الناس، وأشدهم عبادة، وكان يسمى زين
العابدين، وكان يسمى أيضاً ذا الثفنات، لما كان في وجهه من أثر السجود، وكان يصلي
في اليوم والليلة ألف ركعة، ولما غسل وجد على كتفيه جلب كجلب البعير، فقيل لأهله:
ما هذه الآثار؟ قالوا: من حمله للطعام في الليل يدور به على منازل الفقراء.
قال سعيد بن المسيب:
ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين. وما رأيته قط إلا مقت نفسي، ما رأيته ضاحكا
يوماً قط. وكانت أمه حرار بنت يزدجرد كسرى، وذلك أن عمر بن الخطاب لما أتي بابنتي
يزدجرد وهب أحداًهما للحسين بن علي، فسماها غزالة، وكان يقول بعض الأشراف إذا ذكر
علي ابن الحسين يود الناس كلهم أن أمهاتهم إماء. وقيل إن أمه كانت من سبي كابل.
قال أبو خالد
الكابلي: سمعت علي بن الحسين يقول: من عف عن محارم الله كان عابداً، ومن رضي بقسم
الله كان غنياً، ومن أحسن مجاورة من جاوره كان مسلماً، ومن صاحب الناس بما يحب أن
يصاحبوه به كان عدلاً.
وقال علي بن الحسين:
إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم:
انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما فضلكم؟ فيقولون: كنا
إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء علينا عفونا. فيقولون: ادخلوا
الجنة، فنعم أجر العاملين. ثم ينادي مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس،
فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما كان
صبركم؟ فيقولون: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرنا عن معاصي الله، فيقولون لهم:
ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين. ثم ينادي فيقول: ليقم جيران الله! فيقوم ناس من
الناس، وهم الأقل، فيقال لهم: بم جاورتم الله في داره؟ فيقولون: كنا نتجالس في
الله، ونتذاكر في الله، ونتزاور في الله، فيقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر
العاملين. وقال: بئس القوم قوم ختلوا الدنيا بالدين، وبئس القوم قوم عملوا بأعمال
يطلبون بها الدنيا.
وقال:
إن المعرفة بكمال
المرء تركه الكلام فيما لا يعنيه، وقلة مرائه، وصبره، وحسن خلقه. وكتب ملك الروم
إلى عبد الملك يتوعده، فضاق عليه الجواب وكتب إلى الحجاج، وهو إذ ذاك على الحجاز:
أن ابعث إلى علي بن الحسين فتوعده وتهدده وأغلظ له، ثم انظر ما ذا يجيبك، فاكتب به
إلي ففعل الحجاج ذلك فقال له علي بن الحسين: إن لله في كل يوم ثلاثمائة وستين
لحظة، وأرجو أن يكفينك في أول لحظة من لحظاته. وكتب بذلك إلى عبد الملك، فكتب به
إلى صاحب الروم كتاباً، فلما قرأه قال: ليس هذا من كلامه، هذا من كلام عترة نبوته.
ومرض ثلاث مرضات في
كل ذلك يوصي بوصية، فإذا برئ وأفاق أنفذها، وقال: كلكم سيصير حديثاً، فمن استطاع
أن يكون حديثاً حسناً، فليفعل.
وكان يقول: ابن آدم
لن تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همتك، وما كان لك الخوف
شعاراً، والحزن دثاراً.
وكان عبد الملك قد
كتب إلى الحجاج، وهو على الحجاز: جنبني دماء آل بني أبي طالب فإني رأيت آل حرب لما
تهجموا بها لم ينصروا، فكتب إليه علي بن الحسين: أني رأيت رسول الله ليلة كذا في
شهر كذا يقول لي: إن عبد الملك قد كتب إلى الحجاج في هذه الليلة بكذا وكذا، وأعلمه
أن الله قد شكر له ذلك، وزاده برهة في ملكه.
وكان له من الولد:
أبو جعفر محمد، والحسين، وعبد الله، وأمهم أم عبد الله بنت الحسن بن علي، وعلي،
والحسن، والحسين الأصغر، وسليمان، توفي صغيراً، وزيد.
وذكره يوماً عمر بن
عبد العزيز، فقال: ذهب سراج الدنيا، وجمال الإسلام وزين العابدين، فقيل له: إن
ابنه أبا جعفر محمد بن علي فيه بقية، فكتب عمر يختبره، فكتب إليه محمد كتاباً يعظه
ويخوفه، فقال عمر: أخرجوا كتابه إلى سليمان، فأخرج كتابه، فوجده يقرظه، ويمدحه،
فأنفذ إلى عامل المدينة، وقال له: أحضر محمداً، وقل له: هذا كتابك إلى سليمان
تقرظه، وهذا كتابك إلي معما أظهرت من العدل والإحسان. فأحضره عامل المدينة، وعرفه
ما كتب به عمر، فقال: إن سليمان كان جباراً كتبت إليه بما يكتب إلى الجبارين، وإن
صاحبك أظهر أمراً فكتبت إليه بما شاكله وكتب عامل عمر إليه بذلك، فقال عمر: إن أهل
هذا البيت لا يخليهم الله من فضل.
ونكث عمر أعمال أهل
بيته وسماها مظالم، وكتب إلى عماله جميعاً: أما بعد، فإن الناس قد أصابهم بلاء
وشدة وجور في أحكام الله، وسنن سيئة سنتها عليهم عمال السوء، قلما قصدوا قصد الحق
والرفق والإحسان، ومن أراد الحج، فعجلوا عليه عطاءه، حتى يتجهز منه، ولا تحدثوا
حدثا في قطع وصلب حتى تؤامروني، وترك لعن علي بن أبي طالب على المنبر، وكتب بذلك
إلى الآفاق فقال كثير:
وليت فلم تشتم علياً
ولم تخف ... بريا ولم تتبع مقالة مجرم
وأعطى بني هاشم
الخمس، ورد فدكا، وكان معاوية أقطعها مروان، فوهبها لابنه عبد العزيز، فورثها عمر
منه، فردها على ولد فاطمة فلم تزل في أيديهم حتى ولي يزيد بن عبد الملك، فقبضها.
ورد عمر هدايا النيروز والمهرجان، ورد السخر، ورد العطاء على قدر ما استحق الرجل
من السنة، وورث العيالات على ما جرت به السنة، غير أنه أقر القطائع التي أقطعها
أهل بيته، والعطاء في الشرف لم ينقصه، ولم يزد فيه، وزاد أهل الشام في أعطياتهم
عشرة دنانير، ولم يفعل ذلك في أهل العراق، وكان يقول: ما بقي المسلم على جفوة
السلطان ونزغة الشيطان لم أر شيئاً أعون له على دينه من إعطائه حقه. فكان يجلس
للنظر في أمور المسلمين نهاره كله، فقال له رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين! نهارك
كله مشغول، ذلك جزء من الليل، وأنت تسمر معنا فقال: يا رجاء إن ملاقاة الرجال تلقح
لأوليائها، وإن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة، لا يضل معهما رأى ولا
يقعد معهما حزم.
وكان يقول: لكل شيء معدن،
ومعدن التقوى قلوب العاقلين، لأنهم عقلوا عن الله، فاتقوه في أمره ونهيه. وكتب إلى
عامله باليمن: أما بعد، فدع ما أنكرت من الباطل، وخذ ما عرفت من الحق بالغا بك ما
بلغ، فإن بلغ مهج أنفسنا، فإن الله يعلم أنك إن لم تحمل إلي إلا حفنة من كتم فإني
بذلك مسرور، إذا كان موافقاً.
قال الزهري: دخلت إلى
عمر يوماً فبينا أنا عنده إذ أتاه كتاب من عامل له يخبره إن مدينتهم قد احتاجت إلى
مرمة، فقلت له: إن بعض عمال علي بن أبي طالب كتب بمثل هذا، وكتب إليه: أما بعد
فحصنها بالعدل، ونق طرقها من الجور، فكتب بذلك عمر إلى عامله.
ووجه عمر إلى مسجد
دمشق من ينزع ما فيه من الرخام والفسيفساء والذهب، وقال: إن الناس يشتغلون بالنظر
إليه عن صلاتهم، فقيل له: إن فيه مكيدة للعدو، فتركه، وارتحل إلى خناصرة، فنزلها،
وهي برية من أطراف جند قنسرين، وكره أن ينزل في منازل أهل بيته التي بنوها بمال
الله وفيء المسلمين، ثم كلم في ذلك، وقيل له: إن في نزولك البرية إضراراً
بالمسلمين، فخرج إلى دمشق، فنزل دار أبيه التي كانت إلى جانب المسجد، وأقام عشرين
يوماً، وكثر عليه الناس، فارتحل حتى صار إلى مدينة حلب، وكثر عليه الناس، فارتحل
إلى مدينة حمص راجعاً يريد أن ينزلها، فلما صار إلى أوائل حمص اعتل، فمال إلى موضع
يعرف بدير سمعان، فنزله، ويقال: بل ارتحل إليه قاصداً يريد نزوله بسبب قطعة أرض
كان ورثها عن أمه فيه، فلما صار إلى دير سمعان أتاه الخبر بخروج شوذب الحروري،
فأمر بتوجيه جيش إليه، ووجه إليه شوذب برجلين من قبله يناظرانه، فقالا له: إنك
أظهرت أفعالا حسنة، وأعمالا جميلة، ومما ننكر عليك ترك لعن أهل بيتك، والبراءة
منهم. فقال: وكيف يلزمني لعنهم؟ قالا لأنهم من أهل المعاصي والذنوب، ولا يسعك غير
ذلك. قال: متى عهدكم بلعن فرعون؟ قالوا: ما نذكر متى لعناه. قال: فكيف يسعكم ترك لعنه،
وهو من أهل الذنوب والمعاصي؟ أنتم قوم أردتم شيئاً فأخطأتموه، ولقد أصبحتم بنعمه،
ووعدكم كثير، وشوكتكم ضعيفة. فأقام أحدهما عنده، وانصرف الآخر.
وأتاه أبو الطفيل
عامر بن واثلة وكان من أصحاب علي، فقال له: يا أمير المؤمنين! لم منعتني عطائي؟ فقال له: بلغني أنك صقلت سيفك، وشحذت سنانك، ونصلت
سهمك، وغلفت قوسك، تنتظر الإمام القائم حتى يخرج، فإذا خرج وفاك عطائك. فقال: إن
الله سائلك عن هذا، فاستحيا عمر من هذا، وأعطاه.
وكانت ريطة بنت عبيد
الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي عند عبد الله ابن عبد الملك بن مروان،
فهلك عنها، فخلف عليها الحجاج بن عبد الملك، فطلقها قبل أن يدخل عليها، فقدم محمد
بن علي، وهو يريد الصائفة، فكلم عمر فيها، وقال: ابنة خالي كانت متزوجة فيكم، فإن
تأذن أتزوجها. قال عمر: ومن يحول بينك وبينها، وهي أملك بنفسها؟ فتزوجها وبنى بها
بحاضر قنسرين في دار طلحة بن مالك الطائي واشتملت هناك على أبي العباس.
ولما دخلت سنة مائة
بعث محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ميسرة أبا رباح إلى العراق، ومحمد بن خنيس،
وأبا عكرمة السراج، وحيان العطار، إلى خراسان، وعليها يومئذ الجراح بن عبد الله
الحكمي، عامل عمر بن عبد العزيز، فلقوا من لقوا بها، وانصرفوا وقد غرسوا غرساً.
وكانت ولاية عمر ثلاثين شهراً، وكان الغالب عليه رجاء بن حيوة الكندي، وصاحب شرطته
روح بن يزيد السكسكي، مولاه، وتوفي لست بقين من رجب سنة مائة وواحد، وهو ابن تسع
وثلاثين سنة، وكان أسمر، رقيق الوجه، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر، وعهد
إلى يزيد بن عبد الملك، وقيل إن سليمان كان جعل له العهد من بعده، وإن عمر قال عند
وفاته: لو كان الأمر إلي لوليت ميمون بن مهران، والقاسم بن محمد، وصلى عليه مسلمة
بن عبد الملك، ودفن بدير سمعان، وقيل: إن أهل بيته سموه خوفاً من أن يخرج الأمر
منهم.
وهرب يزيد بن المهلب،
قبل وفاة عمر بليلتين، ولحق بالبصرة، وعليها عدي بن أرطأة الفزاري، وقد قبض على
أهل بيته فحبسهم، فوجه عمر في أثر يزيد رسلاً ففاتهم.
وخلف عمر من الولد
تسعة ذكور: عبد العزيز، وعبد الله، وعبيد الله، وزيداً، ومسلمة، وعثمان، وسليمان، وعاصما،
وعبد الرحمن.
وأقام الحج للناس في
ولايته سنة تسع وتسعون أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، سنة مائة أبو بكر أيضاً،
وغزا الصوائف في ولايته سنة تسع وتسعون عمرو بن قيس الكندي.
وكان الفقهاء في
أيامه: خارجة بن زيد بن ثابت، يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أبا سلمة بن عبد
الرحمن، سالم بن عبد الله بن عمر، القاسم بن محمد ابن أبي بكر، عبيد الله بن عبد
الله بن عتبة بن مسعود، محمد بن كعب القرظي، عاصم بن عمر بن قتادة، نافعاً مولى
عبد الله بن عمر، سعيد بن يسار، محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عبد الله بن
دينار، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو، عطاء
بن أبي رباح، مجاهد بن جبير، عكرمة مولى عبد الله بن عباس، عامر بن شراحيل الشعبي،
سالم بن أبي الجعد، حبيب بن أبي ثابت، عبد الملك بن ميسرة الهلالي، أبا إسحاق
السبيعي، الحسن ابن أبي الحسن البصري، محمد بن سيرين، أبا قلابة عبد الله بن زيد،
مورق العجلي، عبد الملك بن يعلى الليثي، زيد بن نوفل، علقمة بن عبد الله المزني،
أبا حازم رجاء بن حيوة، مكحول الدمشقي، راشد بن سعد، المقرئ سليمان ابن حبيب
المحاربي، ميمون بن مهران، يزيد بن الأصم، أبا قبيل المعافري، طاووس اليماني.
أيام يزيد بن عبد
الملكوملك يزيد بن عبد الملك بن مروان، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي
سفيان، وهي التي حرمت على عشرة من خلفاء بني أمية، معاوية جدها، ويزيد أبوها،
ومروان بن الحكم زوجها، والوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام بنو عبد الملك أولاد زوجها،
ويزيد ابنها، والوليد بن يزيد ابن ابنها، ويزيد بن الوليد ابن ابن زوجها.
وكانت ولايته في رجب
سنة مائة وواحد، والشمس يومئذ في الدلو إحدى وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والقمر في
الجدي أربع درجات وثلاثين دقيقة، وزحل في العقرب تسعا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة،
والمشتري في الثور أربع عشرة درجة وعشرين دقيقة، والمريخ في الميزان ثلاث درجات
وأربعين دقيقة، والزهرة في الحوت خمس عشرة درجة وعشر دقائق، وعطارد في الجدي خمس
عشرة درجة وأربعين دقيقة، والرأس في الثور سبع درجات وعشرين دقيقة.
وعزل يزيد عمال عمر
بن عبد العزيز جميعاً، وكتب إلى عدي بن أرطأة يأمره بأخذ يزيد بن المهلب، فحاربه
في داخل البصرة، في شهر رمضان، فظفر به يزيد، فأخذه أسيرا، وحمله معه في الحديد
إلى واسط، فحبسه بها وجماعة معه. وغلب يزيد بن المهلب على البصرة وما والاها، ثم
خرج يريد الكوفة، واستخلف على البصرة مروان بن المهلب، فوجه إليه يزيد مسلمة بن
عبد الملك، والعباس بن الوليد، فسار مسلمة بن عبد الملك حتى أتى العراق، وجعل
يقول: إني أخشى أن يتعيا ابن المهلب ويهرب فنطلبه فقال له حسان النبطي، وكان معه:
لا يحسن ذلك، أيها الأمير! قال: ولم؟ قال: سمعته يقول: ويح عبد الرحمن بن محمد بن
الأشعث! هبه غلب على البصرة، أغلب على الصبر؟ ما ضره لو ألقى طرف ثوبه على وجهه،
ثم تقدم حتى قتل؟ وقال مسلمة: ما أجرأه ألا يبرح! فالتقيا بمسكن، فحاربه محاربة
شديدة، ويزيد مبطون شديد العلة، وكان مسلمة يسميه الجرادة الصفراء، فلم يبرح حتى
قتل، وكان ذلك في سنة مائة واثنان.
وكان معاوية بن يزيد
بن المهلب بواسط، فلما انتهى إليه خبر أبيه أخرج عدي بن أرطأة ومن كان معه، فضرب
أعناقهم، وركب البحر حتى صار بمن كان من أهل بيته وأنصاره إلى قندابيل من أرض
السند، إلى أن وافاهم هلال بن أحوز المازني بعث به مسلمة بن عبد الملك، فقتل
معاوية وجميع من كان معه سوى نفر يسير أخذهم أسرى، فحملهم إلى يزيد بن عبد الملك،
فقتلهم بدمشق، منهم عثمان بن المفضل بن المهلب، وحمل إليه من نساء المهلب خمسين
امرأة، فحبسهن بدمشق.
وبعث مسلمة على
خراسان سعيد بن عبد العزيز، فقصد السغد، فحاربهم محاربة شديدة، وأقام بسمرقند،
فجاءته ملكة فرغانة، فقالت: إني أدلك على شيء فيه الظفر على أن تجعل لي ألا تغزي
إلي جيشاً، فأعطاها ما سألت، فقالت: إن السغد قد خلوا عن أرضهم، ونزلوا خجندة،
وطلبوا إلينا أن ندخلهم بلادنا حتى يصالحوا العرب، أو يكون غير ذلك، وليس لهم في
خجندة طعام ولا شراب ولا عدة لحصار، فإن أردتهم فالساعة. فبعث سعيد بن عبد العزيز
سورة بن الحر الدارمي في الخيل ولحقهم بنفسه، فحصرهم في المدينة، فلما تخوفوا
الهلاك دعوا إلى الصلح على أن يرجعوا إلى بلادهم، فقال: علي أن تخرجوا عن آخركم،
فحفر لهم خندقاً، فقال: اخرجوا! فخرجوا جميعاً إلا رجلاً منهم يقال له جليح، ثم
خرج بالسلاح، وحارب المسلمين، وحارب معه قوم، فوثب عليهم سعيد والمسلمون، فقتلوهم
قتلاً ذريعاً، وكبس بهم الخندق، وسبى الذرية، وغنم ما لم يغنم مثله.
وولى يزيد بن عبد
الملك عمر بن هبيرة العراق مكان مسلمة، في هذه السنة، بعد انقضاء حرب ابن المهلب،
وقتلهم، فلقي جماعة من آل المهلب في الحديد قد وجه بهم مسلمة، فقال للرسل: ردوهم!
فقالوا: لا نفعل. قال: إن مسلمة يوم وجه بكم أميركم... فردوهم معه، وكتب إلى يزيد
كتابا حسنا في أمرهم، وأن الصنيعة فيهم عامة لقومهم فكتب إليه يزيد: وما أنت وذاك؟
لا أم لك فعاوده، وكتب إليه: ما هم لي بعشيرة، وما أردت إلا النظر لأمير المؤمنين
في تألف عشائرهم لئلا تفسد قلوبهم وطاعتهم فكتب إليه: بارك الله لك في ودهم إن كنت
أردت ذاك.
وأقر عمر بن هبيرة
سعيد بن عبد العزيز على خراسان، فوجد رسلا لأبي رباح ميسرة داعية بني هاشم في زي
التجار، فقيل إنه دعاهم، فسألهم عن حالهم، فقالوا: نحن تجار، فخلى سبيلهم، فخرجوا
من خراسان.
وظهر يزيد بن جرهم
الداعية، وبلغ عمر بن هبيرة الخبر، فعزله وولى خراسان مسلم بن سعيد الكلابي، فقدم
خراسان، فغزا بالناس، فلم يصنع شيئاً، فلما انصرف راجعاً من فرغانة تبعته الترك
وأهل فرغانة، فقاتلوه قتالاً شديداً وكان قد استعمل نصر بن سيار على بلخ، فكتب
إليه أن يمده بالرجال، وأن يحشر الناس إليه، فدعاهم نصر بن سيار إلى ذلك، فأبوا
عليه وقاتلوه، وكانت بينهم وبين نصر وقعة تسمى وقعة البروقان.
واستعمل يزيد على
المدينة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، وكتب إليه يأمره أن يجمع بين عثمان
بن حيان المري وبين أبي بكر بن عمرو بن حزم في الحدين اللذين جلدهما أبو بكر عثمان
بن حيان، فإن وجد أن أبا بكر ظلمه أقاده منه ففعل، وتحامل على أبي بكر، فجلده حدين
قودا بعثمان بن حيان.
وخطب عبد الرحمن
فاطمة بنت الحسين بن علي، فأرسل إليها رجالاً يحلف بالله لئن لم تفعلي ليضربن أكبر
ولدها بالسياط. فكتبت إلى يزيد كتابا، فلما قرأ كتابها سقط عن فراشه، وقال: لقد
ارتقى ابن الحجام مرتقى صعبا من رجل يسمعني ضربه وأنا على فراشي هذا؟ فكتب إلى عبد
الواحد بن عبد الله بن بشر النضري، وكان بالطائف، أن يتولى المدينة، ويأخذ عبد
الرحمن بن الضحاك بأربعين ألف دينار، ويعذبه حتى يسمعه ضربه، ففعل ذلك، فرئي عبد
الرحمن وفي عنقه خرقة صوف يسأل الناس.
ووجه يزيد الجراح بن
عبد الله الحكمي، فغزا الترك، وفتح بلنجر، وسبى خلقاً عظيماً في سنة مائة وأربع،
وانتهى إلى نهر الروباس، ثم سار حتى انتهى إلى نهر الران، ولقي ابن خاقان صاحب
الخزر فقاتله فهزمه، وقتل مقاتلته، وسبى سبياً كثيراً. ولما فتح بلنجر سار، فجعل
ينزل بلداً بلداً يتبع خاقان ملك الخزر، حتى صار إلى نهر دبيل من عمل آذربيجان،
فاقتتلوا هناك، وقتل الجراح وجميع أصحابه.
وولي يزيد بن أبي
مسلم إفريقية، فقدمها وعبد الله بن موسى اللخمي محبس بها، فقال له: أعط الجند من
مالك أرزاقهم لخمس سنين، فقال: لا أقدر على ذلك، فحبسه، وأخذ موالي موسى بن نصير
فوسم أيديهم، وردهم إلى الرق، واستخدم عامتهم في حرسه، فوثب عليه غلام منهم يقال
له جرير دخل عليه وهو يأكل عنباً، فقتله، فلما بلغ يزيد بن عبد الملك الخبر ولي
بشر بن صفوان الكلبي، فلم يزل مقيما بها ولاية يزيد.
وكتب يزيد إلى عمر بن
هبيرة، وهو عامل على العراق، يأمره أن يمسح السواد، فمسحه سنة مائة وخمس، ولم يمسح
السواد منذ مسحه عثمان بن حنيف في زمن عمر بن الخطاب، حتى مسحه عمر بن هبيرة، فوضع
على النخل والشجر، وأضر بأهل الخراج، ووضع على التانئة، وأعاد السخر والهدايا وما
كان يؤخذ في النيروز والمهرجان، والمساحة التي يؤخذ بها مساحة ابن هبيرة.
وكان يزيد قد جعل
ولاية العهد من بعده لهشام، ثم بدا له أن يبايع بولاية العهد لابنه الوليد، وكان
هشام بالجزيرة، فوجه إليه خالد بن عبد الله القسري يحسن له خلع نفسه من ولاية
العهد على أن الجزيرة له طعمة.
قال خالد بن عبد
الله: فأتيته، فذكرت له ذلك، فأسرع الإجابة، فقلت له: أيها الإنسان إن استشرتني
وعاهدتني على أن تكتم على أشرت عليك. فقال: قد استشرتك ولك عهد الله أن أكتم عليك.
فقلت: إنما هي أيام قلائل حتى تصير الجزيرة أحد أعمالك. قال: فكيف بالسلامة من
يزيد؟ قلت: علي! قال: افعل ما بدا لك، فإنها يد مشكورة لك. فانصرفت إلى يزيد فقلت:
يا أمير المؤمنين! إني أتيت رجلاً صعباً، فأنشدك الله أن توقع العداوة والشر
بينكم، وتوجدوا الناس السبيل إلى الطعن فيكم والاختلاف عليكم، ولكن تصير الوليد
ولي العهد بعد أخيك. فركن إلى ذلك وفعله، فما زال هشام يشكر ذلك لخالد حتى ولي
الخلافة فولاه العراق.
وكان الغالب على يزيد
سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان بن عفان، وصاحب شرطة كعب بن حامد العبسي، وعلى حرسه
يزيد بن أبي كبشه السكسكي، وحاجبه خالد مولاه.
وكانت ولايته أربع
سنين، وتوفي لأربع بقين من شعبان سنة مائة وخمس، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وصلى عليه
الوليد بن يزيد، ودفن بالبلقاء من أرض دمشق، وخلف من الولد عشرة ذكوراً وهم:
الوليد، ويحيى، ومحمد، والغمر، وسليمان، وعبد الجبار، وداود وأبو سليمان والعوام،
وهاشم وأقام الحج للناس في ولايته سنة مائة وواحد عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس،
سنة مائو واثنان عبد الرحمن أيضاً، سنة مائو وثلاث عبد الرحمن أيضاً، سنة مائة
وأربع عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النضري.
وغزا بالناس في
ولايته سنة مائة واثنان الوليد بن هشام أرض الروم، فنزل على المخاضة عند أنطاكية،
ولقي عمر بن هبيرة الروم بأرمينية الرابعة، فهزمهم، وأسر منهم سبعمائة، سنة مائة
وثلاث غزا العباس بن الوليد، فأصيب الناس في السرايا، وأغارت الترك على أرض اللان،
وغزا عبد الرحمن بن سليمان الكلبي، وعثمان بن حيان المري، فنزلا على حصن ففتحاه،
سنة مائة وأربع عبد الرحمن بن سليمان الكلبي على الصائفة اليمنى، وعثمان بن حيان
المري على الصائفة اليسرى، سنة مائة وخمس سعيد بن عبد الملك بن مروان، ثم رجع فغزا
ناحية الترك، فبلغ قصر قطن، وغزا الجراح بن عبد الله الحكمي باب اللان، حتى خرج من
الباب. وكان الفقهاء في ولايته يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، سالم بن عبد الله ابن
عمر، القاسم بن محمد بن أبي بكر، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، محمد بن كعب
القرظي، عاصم بن عمر بن قتادة، نافعاً مولى عبد الله بن عمر، سعيد بن يسار، محمد
بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عبد الله بن دينار، عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن
عمرو بن حزم، طاووس اليماني، عطاء بن أبي رباح، حبيب بن أبي رباح، حبيب بن أبي
ثابت، عبد الله بن ميسرة، أبا إسحاق السبيعي.
أيام هشام بن عبد
الملك بن مروانثم ملك هشام بن عبد الملك بن مروان، وأمه أم هشام بنت هشام بن
إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وأتته الخلافة وهو بقرية يقال لها
الزيتونة من الجزيرة، فجاء البريد، فسلم عليه بالخلافة، فركب من الرصافة حتى أتى
دمشق، وكان ذلك في شهر رمضان سنة 105، ومن شهور العجم في كانون، وكانت الشمس يومئذ
في الدلو ست درجات وثمانيا وخمسين دقيقة، والقمر في القوس سبع درجات وتسع دقائق،
والمشتري في الميزان ست درجات وخمسين دقيقة راجعاً، والمريخ في العقرب إحدى وعشرين
درجة وتسعاً وثلاثين دقيقة، والزهرة في القوس عشرين درجة وثلاث دقائق، وعطارد في
الدلو إحدى وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والرأس في الدلو عشرين درجة وعشرين دقيقة.
وولي خالد بن عبد
الله القسري العراق باليد التي كانت له عنده، وكان قد كتب إلى الجنيد بن عبد
الرحمن يأمره أن
يكاتب خالداً، ففعل، وعظم أمر الجنيد ببلاد السند، ودوخها حتى صار إلى أرض الجرز،
ثم إلى أرض الصين، ودعا ملكها إلى الإسلام، فقاتله، فثبت له الجنيد، فأقام يقاتله
ورمى حصنه بالنفط والنار، فطفاها، فقال الجنيد: في الحصن قوم من العرب هم أطفئوا
النار، ولم يزل يقاتله، حتى طلب الصلح وصالحه، وفتح المدينة، فوجد فيها رجلين من
العرب، فقتلهما. وأقام الجنيد أياماً ثم غزا الكيرج ومعه أشندر أبيد الملك في
مقاتلته، فهرب الراه ملك الكيرج، فافتتحها الجنيد، فسبى، وغنم، واستقامت أموره،
فوجه بعماله إلى المرمذ والمندل ودهنج والبروص وسرست والبيلمان والمالبة وغيرها من
البلاد، وكتب إليه هشام بفتح أتاه من الروم يخبره أن المسلمين أسروا عدة، وغنموا
حمرا وبقرا، فكتب إليه الجنيد: أني نظرت في ديواني، فوجدت ما أفاء الله علي، مذ
فارقت بلاد السند، ستمائة ألف وخمسين ألف رأس من السبي، وحملت ثمانين ألف ألف
درهم، وفرقت في الجند أمثالها مراراً.
وأقام الجنيد عدة
سنين، ثم استعمل خالد مكانه تميم بن زيد العتبي، فوجه ثمانية عشر ألف ألف طاطري
خلفها الجنيد في بيت المال، ولم يستقم لتميم أمر، وكثر خلاف أهل البلاد عليه،
وكثرت حروبه، وفشا القتل في أصحابه، وخرج من البلد يريد العراق، فكتب خالد إلى
هشام أن يولي الحكم بن عوانة الكلبي، فقدم الحكم وبلاد الهند كلها قد غلب عليها،
إلا أهل قصة، فقالوا: ابن لنا حصنا يكون للمسلمين يلجأون إليه! فبنى مدينة سماها
المحفوظة، وأجلى القوم المتغلبين بعد حرب شديدة، وهدأت البلاد وسكنت، وكان مع
الحكم عمرو بن محمد بن القاسم الثقفي، وجماعة من وجوه الناس، فلم يزل مقيما في
البلد، حتى عزل خالد، وولي يوسف بن عمر الثقفي.
وولي هشام مسلمة بن
عبد الملك أرمينية وآذربيجان سنة 107، فوجه سعيد بن عمرو الحرشي على مقدمته، فلقي
عسكرا للخزر، ومعهم عشرة آلاف من أسارى المسلمين، فحاربهم، فهزمهم، وقتل عامتهم،
واستنقذ الأسارى منهم، وفعل ذلك مرة بعد مرة أخرى، وقتل ابن خاقان، وفتح عدة
مدائن، ووجه برأس ابن خاقان إلى هشام من غير أن يوافق مسلمة، فأغضبه ذلك، وكتب إليه
يلومه وعزله، وصير مكانه عبد الملك بن مسلم العقيلي، وأمره أن يقيد سعيد بن عمرو
الحرشي ويحبسه بمدينة يقال لها قبله.
وقدم مسلمة البلد
وأحضر الحرشي، فأغلظ له، ودق لواءه، وبعث به إلى سجن برذعة، فكتب إليه هشام يلومه
على ذلك، ووجه برسل من قبله حتى أخرجوا سعيد بن عمرو الحرشي من السجن، وحملوه إليه.
وسار مسلمة في البلاد
التي للخزر حتى صار إلى جرزان، فافتتحها، وقتل أهلها، ثم صار إلى شروان، فسالمه
أهلها، ثم أتى مسقط، فصالحه أهلها، ووجه خيله إلى أرض اللكز، فصالحه أهلها، وبعث
إلى طبرستان، فصالحه أهلها، فسار في البلاد لا يلقاه أحد حتى بلغ أرض ورثان، فلقيه
خاقان ملك الخزر، وكان مع مسلمة جماعة من ملوك البلدان التي فتحها، فجعل مروان ابن
محمد على مقدمته، فلقي القوم، فأقام يقاتلهم أياماً، وربما فقد، فيقال لمسلمة: قتل
مروان! فيقول: أما والله دون أن يسلم عليه بالخلافة فلا! ففتح عامة البلدان.
وعزل هشام مسلمة وولي
مروان بن محمد، فصار إلى الحصن الذي فيه ملك السرير، وهو سرير من ذهب كان بعث به
بعض ملوك الفرس، ويقال إن أنوشروان بعث به إليه فسمي بذلك السرير، فصالحه على ألف
وخمسمائة غلام سود الشعور، ثم صار إلى تومان شاه، فصالحه ملكها، ثم دخل إلى أرض
زريكران، فصالحه ملكها ثم صار إلى حمزين فحاربهم، فقتل منهم خلقاً عظيماً، وفتح
أكثر البلد، وجمع الطعام إلى مدينة الباب، ولم يزل هناك.
وكان بشر بن صفوان
الكلبي عامل المغرب، فلما ولي هشام بعث إليه بأموال عظام وهدايا، فأقره هشام على
إفريقية، فلم يزل بها حتى مات، فلما مات بشر بن صفوان ولي هشام إفريقية عبيدة بن
عبد الرحمن القيسي، ولم يزل بها، فأغزى الناس في البحر، فغنم غنائم كثيرة، فخرج
إلى هشام بأموال جليلة وعشرين ألف عبد، فاستعفاه فأعفاه، وولى مكانه عقبة بن قدامة
التجيبي، فلم يقم إلا يسيرا حتى عزل، وولى عبيد الله بن الحبحاب، فغزا غزوات
كثيرة... وقتل كلثوم بن عياض، ثم ولي حنظلة بن صفوان الكلبي، فقدم إفريقية، وقد
تغلب على بعض النواحي عكاشة
بن أيوب الفزاري،
فظفر به حنظلة، ولم يزل مقيما إلى أيام مروان بن محمد.
وظهر سليمان بن كثير
الخزاعي وأصحابه بخراسان يدعون إلى بني هاشم سنة 111، وظهرت دعوتهم، وكثر من
يجيبهم، وقدم بكير بن ماهان، فأجابه خلق كثير إلى خلع بني أمية وبيعة بني هاشم،
وكثر أشياعه وأصحابه، ثم حضرت بكير بن ماهان الوفاة، فاستخلف أبا سلمة حفص بن
سليمان الخلال وكتب بذلك إلى محمد بن علي بن عبد الله، وأعلمه أنه يرضاه، فأقره،
وكتب إلى أصحابه يأمرهم بالسمع والطاعة، فاستقاموا جميعاً عليه، وولى خالد بن عبد
الله أخاه أسد بن عبد الله خراسان، فبلغه خبرهم، فأخذ جماعة منهم، فقطع أيديهم
وأرجلهم وصلبهم، فما زالوا في خوف، حتى مات أسد، وولي خراسان جعفر بن حنظلة البهراني.
وولي سجستان يزيد بن
الغريف الهمداني، فلما قدم سجستان ساءت سيرته، وأظهر الفسق، فقتله قوم من الخوارج
وثبوا عليه وهو جالس في مجلسه، وعلى رأسه ألف وخمسمائة مدجج، وكان الخوارج خمسة
نفر، فقدم إليه بعضهم، فضربه بالسيف، فقتله، ووثب الجند عليهم، فقتلوهم بعد أن
قتلوا جماعة منهم. فلما بلغ خالد بن عبد الله الخبر ولي الأصفح بن عبد الله
الكلبي، فصار إلى النية في الشتاء، فندب الناس إلى الغزو، فأتاه شيخ من أهل البلد
يقال له عبد الله بن عامر، فقال: أيها الأمير! ليس هذا وقت غزو، فقال أنا أعلم
بوقت الغزو منك، ونفذ، فلما صار على رأس شعب من الشعاب أتاه عمرو بن بجير فقال:
أصلح الله الأمير، ليس هذا وقت دخول هذا الشعب. فقال: لو كنت عاقبت المتكلم بالأمس
لما سمعت هذا اليوم، واقتحم الشعب، حتى إذا أمعن فيه أخذ العدو عليه مضايقه،
واجتمع فقتل الجيش بأسره، فلم ينج منه أحد، فلما أتى خالداً الخبر بقتل الأصفح ومن
معه من المسلمين، ولي عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى، فلم يزل مقيماً بها ولاية
خالد.
؟
وفاة أبي جعفر محمد
بن عليوتوفي أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه أم عبد الله
بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، سنة 117، وسنة ثمان وخمسون سنة.
قال أبو جعفر: قتل
جدي الحسين ولي أربع سنين وإني لأذكر مقتله، وما نالنا في ذلك الوقت. وكان يسمى
أبا جعفر الباقر لأنه بقر العلم.
قال جابر بن عبد الله
الأنصاري: قال لي رسول الله: إنك تستبقي حتى ترى رجلاً من ولدي أشبه الناس بي اسمه
علي اسمي، إذا رأيته لم يخل عليك، فأقرئه مني السلام! فلما كبرت سن جابر، وخاف
الموت، جعل يقول: يا باقر! يا باقر! أين أنت؟ حتى رآه فوقع عليه يقبل يديه ورجليه،
ويقول: بأبي وأمي شبيه أبيه رسول الله! إن أباك يقرئك السلام.
قال أبو حمزة
الثمالي: سمعت محمد بن علي يقول: يقول الله عز وجل: إذا جعل عبدي همه في هما واحدا
جعلت غناه في نفسه، ونزعت الفقر من بين عينيه، وجمعت له شمله، وكتبت له من وراء
تجارة كل تاجر، وإذا جعل همه في مفترقاً جعلت شغله في قلبه، وفقره بين عينيه، وشتت
عليه أمره ورميت بحبله على غاربه، ولم أبال في أي واد من أودية الدنيا هلك.
وقيل لمحمد: أ تعرف
شيئاً خيراً من الذهب؟ قال: نعم! معطية. وقال: اصبر للنوائب، ولا تتعرض للحقوق،
ولا تعط أحداً من نفسك ما ضره عليك أكثر من نفعه له. وقال: كفى العبد من الله
ناصراً أن يرى عدوه يعصي الله.
وقال: شررالآباء من
دعاه البر إلى الإفراط، وشر الأبناء من دعاه التقصير إلى العقوق.
وسئل أبو جعفر عن قول
الله عز وجل: وقولوا للناس حسناً. قال: قولوا لهم أحسن ما تحبون أن يقال لكم، ثم
قال: إن الله عز وجل يبغض اللعان السباب، الطعان الفحاش المتفحش، السائل الملحف،
ويحب الحيي الحليم، العفيف المتعفف.
وقال:
لو صمت النهار مالي
في سبيل الله لا أفطر، وصليت الليل لا أفتر، ومالي في سبيل الله علقا علقا، ثم لم
تكن في قلبي محبة لأوليائه، ولا بغضه لأعدائه، ما نفعني ذلك شيئاً.
وكان له من الولد
خمسة ذكور: أبو عبد الله جعفر، وعبد الله، وإبراهيم، وعبيد الله درج صغيراً، وعلى
درج صغيراً.
وتوفي علي بن عبد
الله بن العباس بن عبد المطلب سنة 118، وكان مولده في الليلة التي قتل في صبيحتها
علي بن أبي طالب وتوفي بالاحهير بين الحميمة وأذرح من عمل دمشق، وسنة ثمان وسبعون
سنة، وأمه زرعة بنت مشرح ابن معديكرب، أحد ملوك كندة الأربعة. وكان ذا غناء وفضل
وشرف ورواية عن أبيه.
قال:
سمعت أبي يقول: إن من
غصبته نفسه فيما تحب لم يطمعها فيما يحب. وقال: سمعت أبي يقول: تعاشر الناس حينا
بالتقوى، ثم رفع ذلك، فتعاشروا بالمروة، ثم رفع ذلك، فتعاشروا بالحياء، ثم رفع
ذلك، فانهتك الغطاء.
وكان يقول: الكريم
يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا لوطف. وقال: سخاء الناس عما في أيدي الناس أفضل
من سخائها بالبذل، والقناعة لذة العيش، والرضا بالقسم أكثر من مروة الإعطاء، ومن
حفظ من نفسه أربعاً فهو خليق ألا ينزل به ما نزل بغيره: العجلة، واللجاج، والعجب،
والتواني.
وكان لعلي بن عبد
الله بن عباس من الولد اثنان وعشرون ولدا: محمد بن علي، وأمه العالية بنت عبيد
الله بن عباس، وداود، وعيسى لأم ولد، وسليمان، وصالح لأم ولد، وأحمد، وبشر، ومبشر،
وإسماعيل، وعبد الصمد، لأمهات أولاد، وعبد الله الأكبر، أمه أم أبيها بنت عبد الله
بن جعفر ابن أبي طالب، لا عقب له، وعبيد الله، وأمه فلانة بنت الحريش، وعبد الملك،
وعثمان، وعبد الرحمن، وعبد الله الأصغر، وهو السفاح، ويحيى، وإسحاق، ويعقوب، وعبد
العزيز، وإسماعيل الأصغر، وعبد الله الأوسط، وهو الأحنف، لأمهات أولاد شتى.
قدم محمد بن علي بن
عبد الله على هشام، ومعه ابنه أبو العباس غلام، فلما خرج من عنده قال لبعض أصحابه:
شكوت إلى أمير المؤمنين ثقل الدين والعيال، فاستهزأ بي، وقال: أنتظر ابن الحارثية،
يعني هذا الغلام.
وألح هشام في طلب
الخوارج... فجلس يوماً، وجمع إليه الخوارج، فقال: يا قوم! خافوا الله ولا تدعوا الجهاد! فبايعوه، وأقام أياماً وحضرته الوفاة،
فقال لهم: إني لست بأحد أوثق مني بالبهلول بن عمير الشيباني، فلما مات خرج
البهلول، فصار إلى قرب الكوفة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فوجه إليه بخيل،
فاتبعته من عين التمر إلى الموصل، فقتل بالموصل.
وأنكر هشام على خالد
بن عبد الله أموراً بلغته، منها: أنه فرق أموالا عظاما، مبلغها ستة وثلاثون ألف
ألف درهم، فاستعظمها، وإنه قال: ما زادت أمية في شرف قسر هكذا، وجمع بين إصبعيه،
فكتب إليه: أما بعد فقد بلغني مقالتك، وإنما أنت من بجيلة الذليلة الحقيرة، وستعلم
يا ابن النصرانية إن الذي رفعك سيضعك. وأقام خالد على العراق أربع عشرة سنة، أو
خمس عشرة، فلما عزم هشام على صرفه أحضر حسان النبطي، وكان ينظر في أمر خالد بن عبد
الله كله، فأشرف عليه بالقتل، وحلف له بالله الذي لا إله إلا هو ليصدقنه، أو
ليقتلنه، فأتاه حسان بصناديق وقائع على خالد، وكان أول كاتب رفع على عامل بلده،
ولما وقف هشام من أمر خالد على ما أراد كتب إلى يوسف بن عمر الثقفي، وكان عامله
باليمن، كتاباً بخطه لم يطلع عليه أحداً، يأمره بالنفوذ إلى العراق، وأن يستر خبره
حتى يقدمها، فيقبض على خالد وأصحابه، فيأخذه بستة وثلاثين ألف ألف درهم.
فخرج يوسف من اليمن،
وقد أسر أمره، وكان في سبعة نفر، حتى قدم العراق، وكان مقدمه العراق سنة 120،
ووافى يوسف بن عمر في الليل في خمسة نفر حتى صار إلى المسجد الجامع، فلما أقيمت
الصلاة تقدم خالد ليصلي، فجذبه يوسف فأخرجه، ثم تقدم وقرأ: إذا وقعت الواقعة، في
أول ركعة، ثم قرأ في الثانية: سأل سائل بعذاب واقع، ثم أقبل على الناس بوجهه،
فعرفهم نفسه، وأخذ خالدا وأصحابه، فعذبهم أنواع العذاب، وطالبهم بالمال، فاجتمع
جماعة دهاقين العراق ومياسير الناس، فقالوا: نحن نتحمل هذا المال عنه ونؤديه،
فيقال إن يوسف قبل ذلك منهم، فلما حملوا إليه المال طالب خالداً وأخذ خالداً،
فألبسه جبة صوف، وجمع يده إلى عنقه، ثم أتى به إليه، وهو جالس على دكان، فجذبه حتى
سقط لوجهه، فقال بعض من حضر: رأيت خالداً وقد فعل مثل هذا بعمر بن هبيرة الفزاري
لما عزله عن العراق، فمن ولي شيئاً فليحسن.
وخوف يوسف خالداً
وعماله، ووظف عليهم الأموال، وعذبهم حتى مات أكثرهم في يده: فوظف على أبان بن الوليد البجلي عشرة آلاف ألف، ووظف على طارق بن أبي
زياد عامل فارس عشرين ألف ألف، ووظف على الزبير عامل أصبهان والري وقومس عشرين ألف
ألف درهم، وعلى غيرهم ما دون ذلك، فاستخرج أكثر المال.
وكان بلال بن أبي
بردة بن أبي موسى الأشعري عامل خالد على البصرة، فهرب من سجن يوسف، فلحق بهشام،
فكتب فيه يوسف إلى هشام فأشخصه إليه، فعذبه حتى قتله، وجعل داره بالكوفة سجنا
واستصفى داره بالبصرة. ولما بلغ الحكم بن عوانة عامل السند ما فعل يوسف بعمال خالد
أوغل في بلاد العدو، وقال: إما فتح يرضى به يوسف، وإما شهادة أستريح بها منه، فلقي
العدو، فلم يزل يقاتل حتى قتل، وقد كان استخلف على الخيل عمرو ابن محمد بن القاسم
الثقفي.
ولما قتل الحكم بن
عوانة بأرض السند تنازع خلافته عمرو بن محمد الثقفي وابن عرار، فكتب إلى يوسف بن
عمر، وكتب بذلك إلى هشام، فكتب إليه هشام: إن كان عمرو بن محمد قد اكتهل فوله فمال
يوسف بالثقفية إلى عمرو، فولاه، وأرسل بعهده إليه، فأخذ ابن عرار، فحبسه وقيده.
وبني عمرو بن محمد بن القاسم مدينة دون البحيرة سماها المنصورة، ونزلها في منزل
الولاة. وكلب العدو، وملكوا ملكاً، ثم زحفوا إلى المنصورة فحصروها، فكتب عمرو إلى
يوسف، فوجه إليه بأربعة آلاف، فانصرف عنه الملك، وقوض أمره، فتجهز للعدو وجعل على
مقدمته معن بن زائدة الشيباني، وكبس عسكر ذلك الملك ليلاً، وصبر أصحابه، فقتل من
العدو خلقاً عظيماً. وأشرف ذلك الملك، فمر به قوم من أصحابه ولم يعرفه المسلمون،
فلما رأوه قالوا: الراه الراه، أي الملك، فاستنقذوه، ومر هاربا هو وأصحابه لا يلوي
على شيء، واستقامت البلاد لعمرو، وكان معه في عسكره مروان بن يزيد ابن المهلب،
فوثب في جماعة من القواد مايلوه على ذلك، حتى انتهب متاعه وأخذ دوابه، فخرج إليه
عمرو ومعه معن بن زائدة وعطية بن عبد الرحمن، فهزمه، وفرق أصحابه، وهرب مروان،
فنادى عمرو: الناس كلهم آمنون إلا ابن المهلب، فدل عليه فقتله. وأقدم هشام زيد بن
علي بن الحسين، فقال له: إن يوسف بن عمر الثقفي كتب يذكر أن خالد بن عبد الله
القسري ذكر له أن عندك ستمائة ألف درهم وديعة، فقال: ما لخالد عندي شيء! قال: فلا
بد من أن تشخص إلى يوسف ابن عمر حتى يجمع بينك وبين خالد. قال: لا توجه بي إلى عبد
ثقيف يتلاعب بي، فقال: لا بد من إشخاصك إليه، فكلمه زيد بكلام كثير، فقال له هشام:
لقد بلغني أنك تؤهل نفسك للخلافة، وأنت ابن أمه. قال: ويلك! مكان أمي يضعني؟ والله
لقد كان إسحاق ابن حرة وإسماعيل ابن أمه، فاختص الله عز وجل ولد إسماعيل، فجعل
منهم العرب، فما زال ذلك ينمي حتى كان منهم رسول الله، ثم قال: اتق الله، يا هشام!
فقال: أومثلك يأمرني بتقوى الله؟ فقال: نعم! إنه ليس أحد دون أن يأمر بها، ولا أحد فوق أن يسمعها.
فأخرجه مع رسل من
قبله، فلما خرج قال: والله إني لأعلم أنه ما أحب الحياة قط أحد إلا ذل. وكتب هشام
إلى يوسف بن عمر: إذا قدم عليك زيد بن علي فاجمع بينه وبين خالد، ولا يقيمن قبلك
ساعة واحدة، فإني رأيته رجلاً حلو اللسان شديد البيان خليقا بتمويه الكلام، وأهل
العراق أسرع شيء إلى مثله.
فلما قدم زيد الكوفة
دخل إلى يوسف فقال: لم أشخصتني من عند أمير المؤمنين؟ قال: ذكر خالد بن عبد الله أن له عندك ستمائة ألف درهم. قال: فأحضر خالداً!
فأحضره وعليه حديد
ثقيل، فقال له يوسف: هذا زيد ابن علي، فأذكر ما لك عنده! فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما لي عنده قليل ولا كثير، ولا أردتم
بإحضاره إلا ظلمه. فأقبل يوسف على زيد، وقال له: إن أمير المؤمنين أمرني أن أخرجك
من الكوفة ساعة قدومك. قال: فأستريح ثلاثا، ثم أخرج. قال: ما إلى ذلك سبيل. قال:
فيومي هذا. قال: ولا ساعة واحدة. فأخرجه مع رسل من قبله، فتمثل عند خروجه بهذه
الأبيات:
منخرق الخفين يشكو
الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد
شرده الخوف وأزرى به
... كذلك من يكره حر الجلاد
قد كان في الموت له
راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
فلما صار رسل يوسف
بالعذيب انصرفوا، وانكفأ زيد راجعاً إلى الكوفة، فاجتمع إليه من بها من الشيعة،
وبلغ يوسف بن عمر، فوثب بينهم وكانت بينهم ملحمة، ثم قتل زيد بن علي، وحمل على
حمار، فأدخل الكوفة، ونصب رأسه على قصبة، ثم جمع فأحرق وذرى نصفه في الفرات ونصفه
في الزرع، وقال: والله، يا أهل الكوفة، لأدعنكم تأكلونه في طعامكم وتشربونه في
مائكم. وكان مقتل زيد سنة 121.
ولما قتل زيد، وكان
من أمره ما كان، تحركت الشيعة بخراسان، وظهر أمرهم، وكثر من يأتيهم ويميل معهم،
وجعلوا يذكرون للناس أفعال بني أمية، وما نالوا من آل رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى لم يبق بلد إلا فشا فيه هذا الخبر، وظهرت الدعاة ورئيت المنامات وتدورست
كتب الملاحم، وهرب يحيى بن زيد إلى خراسان، فصار إلى بلخ، فأقام بها متوارياً،
وكتب يوسف إلى هشام بحاله، فكتب إلى نصر بن سيار بسببه، فوجه نصر جيشاً إلى بلخ،
عليهم هدبة بن عامر السعدي، فطلبوا يحيى حتى ظفروا به، فأتوا به نصراً، فحبسه في
قهندز مرو.
وبلغ هشاماً اضطراب
خراسان، وكثرة من بها، فكتب إلى يوسف بن عمر: ابعث إلي برجل له علم بخراسان فبعث
إليه بعبد الكريم بن سليط بن عطية الحنفي، فسأله عن أمر خراسان وأهلها ومن بها ممن
يصلح أن يولاها، فسمي له جماعة من قيس وربيعة، فكان إذا سمى رجلاً من ربيعة قال:
إن ربيعة لا يسد بها الثغور! فسمي نصر بن سيار الليثي، فقال: كأنه نصر وسيار، فقال: يا غلام اكتب
عهده، فكتب العهد، وأمره أن يعاجل يوسف بن عمر، وكان نصر بن سيار قبل ذلك تولى
كورة من كور خراسان، فعزل جعفر بن حنظلة وولي البلد.
وكان يوسف أخذ عمال
خالد فحبسهم، وكان ممن أخذ: عيسى بن معقل العجلي، وعاصم بن يونس العجلي، وكان أبو
مسلم، واسمه إبراهيم بن عثمان، قبل أن يسميه محمد بن علي عبد الرحمن، يخدم عيسى بن
معقل، وقد سمعهم يتكلمون في دعوة بني هاشم حتى فهم الأمر، وقد ارتحل سليمان بن
كثير، ومالك بن الهيثم، وقحطبة بن شبيب يريدون مكة، فدخلوا السجن إلى عيسى بن
معقل، وعاصم بن يونس، فرأوا أبا مسلم يختلف إليهم، ويذاكرهم هذا الأمر، فأخرجوه
معهم، وأدخلوه إلى محمد بن علي فكلمه، وقال: إني لأحسب هذا الغلام صاحبنا بل هو
هو، فاقبلوا قوله، وانتهوا إلى أمره، واستوصوا به، فإنه صاحب الأمر لا شك فيه.
وبعض أهل العلم
بالدولة يقول: إن أبا مسلم لم يلحق محمد بن علي، إنما لقي ابنه إبراهيم بن محمد بن
علي.
وكان يزيد بن عبد
الملك جعل ولاية العهد لابنه الوليد بن يزيد، فكانت الملاحاة لا تزال تجري بينه
وبين هشام، فدخل الوليد يوماً إلى هشام، فلم يجده في مجلسه، ووجد فيه خاله إبراهيم
بن هشام بن إسماعيل المخزومي، فقال له الوليد: من الرجل؟ متجاهلا به، فغضب ابن
هشام، وقال: من لم يتم لجدك شرف إلا بمصاهرته. قال: وإنك لتقول هذا، يا ابن اللخناء!
وتنازعا كلاماً قبيحاً، وخرج هشام، وقد سمع الكلام، فأمسكا، ولم يقم إليه الوليد،
فقال له هشام: كيف أنت يا وليد؟ قال: صالح. قال: ما فعلت طنابيرك؟ قال: مغلمة. قال:
ما فعل جلساؤك جلساء
السوء؟ قال: عليهم لعنة الله إن كانوا شرا من جلسائك. قال: أقيموه، فأخذ بيده، وأقيم من مجلسه.
وكان هشام من أحزم
بني أمية وأرجلهم وكان بخيلاً، حسوداً، فظاً، غليظاً، ظلوماً، شديد القسوة، بعيد
الرحمة، طويل اللسان، وفشا الطاعون في أيامه حتى هلك عامة الناس وذهبت الدواب
والبقر، وكان الغالب عليه الأبرش ابن الوليد الكلبي، وصاحب شرطة كعب بن حامد
العبسي، وعلى حرسه الربيع ابن زياد بن سابور، وحاجبه الحريش مولاه، وعمل الخز
الرقم وغيره، والوشي والأرمني وأصناف الثياب، وكانت ولايته عشرين سنة إلا خمسة
أشهر، وتوفي يوم الأربعاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول سنة 125، وهو ابن ثلاث
وخمسين سنة، ومنع وكلاء الوليد بن يزيد من الخرائن، فلم يوجد له كفن حتى كفنه خادم
له، وقيل: بل كفنه الأبرش الكلبي، فصلى عليه العباس بن الوليد، وقيل: بل الأبرش
الكلبي، ودفن بالرصافة.
وخلف من الولد عشرة:
مسلمة، ويزيد، ومحمداً، وعبد الله، وسليمان، ومروان، ومعاوية، وسعيداً، وعبد الرحمن،
وقريشاً. وأقام الحج للناس في ولايته سنة 105 إبراهيم بن هشام، سنة 106 هشام بن عبد الملك، سنة 107 إبراهيم بن
هشام، وفي سني 108، 109، 110، 111 و112 إبراهيم أيضاً، سنة 113 سليمان ابنه، سنة 114
خالد بن عبد الملك بن
الحارث بن الحكم، سنة 115 محمد بن هشام بن إسماعيل، سنة 116 الوليد بن يزيد بن عبد
الملك، سنة 117 خالد بن عبد الملك بن الحارث... سنة 119 أبو شاكر مسلمة بن هشام،
سنة 120 وسنة 121 وسنة 122 محمد بن هشام بن إسماعيل، سنة 123 يزيد بن هشام، سنة
124 محمد بن هشام بن إسماعيل. وغزا بالناس في ولايته سنة 106، غزا معاوية بن هشام،
وبعث بالوضاح صاحب الوضاحية فأحرق الزرع والقرى لأن الروم حرقوا المرعى، وغزا
الصائفة اليسرى سعيد بن عبد الملك، وغزا الجراح بن عبد الله الحكمي اللان، سنة 107
معاوية أيضاً، سنة 108 مسلمة بن عبد الملك على الصائفة اليمنى، وعاصم بن يزيد
الهلالي على الصائفة اليسرى، سنة 109 معاوية بن هشام، ومعه البطال على مقدمته،
فافتتح خنجره، وغزا مسلمة الترك، فأخذ عليهم باب اللان، ولقي خاقان، سنة 111
معاوية بن هشام على الصائفة اليسرى، وسعيد بن هشام على الصائفة اليمنى، وسارت
الترك إلى آذربيجان، فلقيهم الحارث بن عمرو الطائي، فهزمهم، سنة 112 صار الترك إلى
أرض أردبيل، فغزاهم الجراح بن عبد الله الحكمي، فلقي ملك الترك، فقتله، وغزا
معاوية بن هشام الروم فلم يمكنه دخول بلادهم، فرابط بالعمق من ناحية مرعش، سنة 114
معاوية بن هشام ومسلمة بن عبد الملك، سنة 115 معاوية وسليمان ابنا هشام، وعلى
المقدمة عبد الله البطال، فلقي قسطنطين فأسره، وهزم الروم، سنة 116 معاوية بن
هشام، سنة 117 معاوية وسليمان ابنا هشام، وغزا مروان بن محمد بلاد الترك... مروان
بن محمد، سنة 121 مسلمة بن هشام بلغ ملطية، سنة 122 مروان ابن محمد ناحية أرمينية،
وسليمان بن هشام ناحية ملطية، سنة 123 سليمان بن هشام الصائفة، ومروان بن محمد
جيلان وموقان من أرض أرمينية، سنة 124 سليمان بن هشام، فلقي أليون طاغية الروم
وأرطباس، فانصرف، ولم يكن بينهم حرب، سنة 125 الغمر بن يزيد بن عبد الملك.
وكان الفقهاء في
أيامه سالم بن عبد الله بن عمر الهيثم بن محمد بن أبي بكر، محمد بن مسلم بن شهاب
الزهري، محمد بن كعب القرظي، نافعاً مولى عبد الله ابن عمر، عاصم بن عمر بن قتادة،
محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، طاووساً اليماني، ربيعة بن أبي عبد
الرحمن، عطاء بن أبي رباح، عمرو بن دينار، عبد الله بن أبي نجيح، حبيب بن أبي
ثابت، عبد الملك ابن ميسرة، أبا إسحاق السبيعي، القاسم بن عبد الرحمن، عبيد الله
بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، سماك بن حرب الذهلي، الحكم بن عيينة الكندي، حماد
ابن أبي سليمان، أبا معشر زياد بن كليب، طلحة بن مصرف الهمداني، نعيم بن أبي هند
الأشجعي، أشعث بن أبي الشعثاء، سعيد بن أسبوع، أبا حازم الأعرج، قتادة بن دعامة
السدوسي، بكر بن عبد الله المزني، أيوب السختياني، يزيد بن عبد الله بن الشخير،
عبد الرحمن بن جبير، مكحولا الدمشقي، راشد بن سعد المقرئ، ميمون بن مهران، أبا
قبيل المعافري، يزيد بن الأصم.
أيام الوليد بن
يزيدوملك الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي،
وأتته الخلافة وهو بدمشق بعد وفاة هشام بعشرة أيام، وكان ذلك يوم الجمعة لعشر بقين
من شهر ربيع الأول سنة 521، وكانت الشمس يومئذ في الدلو ستا وعشرين درجة وعشرين
دقيقة، والقمر في السنبلة خمس درجات وعشرين دقيقة، والمريخ في الجدي أربع درجات،
والزهرة في الجدي ست عشرة درجة وخمساً وأربعين دقيقة، وعطارد في الحوت اثنتي عشرة
درجة وعشر دقائق، والرأس في الدلو إحدى عشرة درجة وخمساً وأربعين دقيقة.
وعزل الوليد عمال
هشام وعذبهم أنواع العذاب، خلا يوسف بن عمر الثقفي عامل العراق، وذلك إنه وجد في
ديوان هشام كتباً من العمال يقومون عزمه في خلع الوليد، إلا يوسف، فإنه أشار عليه
ألا يفعل، فأقره على عمله، وكتب إليه في خالد بن عبد الله القسري، فلم يزل يوسف
يعذبه...
وعقد لابنه الحكم
بولاية العهد بعده، وولاه دمشق، وعقد من بعده لعثمان ابنه، وولاه حمص، وضم إليه
ربيعة بن عبد الرحمن الفقيه، وجعله قائماً بأمره.
وعزل إبراهيم بن هشام
بن إسماعيل المخزومي، خال هشام، عن المدينة ومكة والطائف، وولى خاله يوسف بن محمد
الثقفي المدينة ومكة.
وكان نصر بن سيار لما
أخذ يحيى بن زيد بن علي بن الحسين في أيام هشام صار به إلى مرو، فحبسه في قهندز
مرو، وكتب إلى هشام بخبره، فوافق ورود كتابه موت هشام، فكتب إليه الوليد: أن خل
سبيله، وقيل: بل احتال يحيى ابن زيد حتى هرب من الحبس، وصار إلى بيهق من أرض
أبرشهر فاجتمع إليه قوم من الشيعة، فقالوا: حتى متى ترضون بالذلة؟ واجتمع معه نحو
مائة وعشرين رجلاً، فرجع حتى صار إلى نيسابور، فخرج إليه عمرو بن زرارة القسري،
وهو عامل نيسابور، فقاتل يحيى، فظهر يحيى عليه، فهزمه وأصحابه، وأخذوا أسلحتهم، ثم
اتبعوهم حتى لحقوا عمرو بن زرارة فقتلوه. وسار يحيى يريد بلخ، فوجه إليه نصر بن
سيار سلم بن أحوز الهلالي، فسار سلم حتى صار إلى سرخس وسار يحيى حتى صار إلى
باذغيس، وسبق إلى مرو الروذ، فلما بلغ نصرا ذلك سار إليه في جموعه، فلقيه
بالجوزجان فحاربه محاربة شديدة، فأتت نشابة فوقعت في يحيى، وبادر القوم فاحتزوا
رأسه، وقاتل أصحابه بعده، حتى قتلوا عن آخرهم.
وقدم في هذه السنة
سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وقحطبة بن شبيب، وهم رؤساء دعاة بني هاشم، على
محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بأموال وهدايا، ومعهم أبو مسلم، فقال لهم محمد:
لن تلقوني بعد وقتي هذا، وأنا ميت في سنتي هذه، وكان ذلك في أول سنة 125، وصاحبكم
ابني إبراهيم مقتول، فإذا قضى الله فيه قضاءه، فصاحبكم عبد الله بن الحارثية، فإنه
القائم بهذا الأمر، وصاحب هذه الدعوة الذي يؤتيه الله الملك، ويكون على يده هلاك
بني أمية، وأخرجه إليهم حتى رأوه، وقبلوا يديه ورجليه، وقال لهم: إن عبد الرحمن
صاحبكم، يعني أبا مسلم، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه القائم بهذه الدولة.
وتوفي محمد بن علي في
آخر سنة 125، وهو ابن سبع وستين سنة، فلما بلغ القوم وفاة محمد بن علي، قدموا على
إبراهيم بأبي مسلم وأعلموه أنه صاحب أمرهم أمره عليهم، ثم قال لقحطبة بن شبيب:
وأنت والله الذي تلقى نباتة بن حنظلة، وعامر بن ضبارة، فتهزمهما، وتقاتل عساكرهما،
ويفتح الله لك حتى تصير إلى الفرات لا ترد لك راية.
فخرجوا إلى خراسان،
وقد وقعت العصبية بين مضر واليمن، وذلك أن نصر بن سيار تحامل على اليمن وربيعة،
وقدم المضرية، فوثب به جديع ابن علي الكرماني الأزدي، وكان رئيس الأزد يومئذ
ورجلهم، وقال له: لا ندعك وفعلك، ومالت معه اليمانية وربيعة، فأخذه نصر فحبسه،
فأتت اليمن وربيعة حتى أخرجوه من مجرى كنيف، ثم اجتمعوا عليه، ورام نصر أن يخدعه
فيصير إليه، فلم يفعل، وكان في نصر بعض الخرق، فلما علم جديع أن اليمن وربيعة قد
اجتمع رأيهما معه على نصر بن سيار، وثب به فحاربه، وكان له العلو على نصر، فمال
أبو مسلم إلى الكرماني، فقال له: ادع إلى آل محمد ! وجعل يمايل أصحابه، ويدعوهم
إلى ذلك، حتى أظهروا دعوة بني هاشم بخراسان.
وكان عمرو بن محمد بن
القاسم الثقفي، ويزيد بن عرار، لما قتل الحكم ابن عوانة عامل السند، تنازعا
خلافته، فكتب هشام إلى يوسف بن عمر في ذلك، فمال يوسف بالثقفية إلى عمرو بن محمد
بن القاسم، فولاه، فلما ولي الوليد عزل عمرو بن محمد بن القاسم عن السند، وولي
يزيد بن عرار، فغزا ثماني عشرة غزاة، وكان ميمون النقيبة.
واضطربت البلدان
كلها، وكان الوليد مهملا لأمره، قليل العناية بأطرافه، وكان صاحب ملأه وقيان
وإظهار للقتل والجور، وتشاغل عن أمور الناس، وشرب ومجون، فبلغ من مجونه أنه أراد
أن يبني على الكعبة بيتاً يجلس فيه للهو، ووجه مهندساً لذلك، فلما ظهر هذا منه مع
قتله خالد بن
عبد الله القسري
وتعذيبه إبراهيم ومحمد ابني هشام حتى ماتا، واستذمامه إلى الناس وإلى أهل بيته،
ومن كان في ناحيتهم من العرب، استمال يزيد بن الوليد بن عبد الملك جماعة من أهل
بيته، فمايلوه على خلع الوليد، وشايعه على ذلك بنو خالد بن عبد الله القسري وجماعة
من اليمانية إلى البيعة ليزيد بن الوليد بن عبد الملك، واجتمع إليه جماعة، وخرج
مولى للوليد فعرفه الخبر، فضربه مائة سوط، وزحف إليه يزيد بن الوليد رويدا رويدا
إلى قرية تعرف بالبخراء، فنزل قصراً بها بعساكره يتلو بعضها بعضا، فقاتلوه، فقاتلهم
حتى قتل، فابتدره الناس بأسيافهم، فاحتزوا رأسه، وقطعوا يده، فنصب رأسه بدمشق.
وكان قتله لخمس بقين
من جمادى الآخرة سنة 126، وكانت ولايته سنة وخمسة أشهر، وكان على شرطة عبد الرحمن
بن حميد الكلبي، وعلى حرسه قطري مولاه، وحاجبه قطن مولاه، وخلف من الولد الذكور أربعة
عشر ذكراً: عثمان، ويزيد، والحكم، والعباس، وفهراً، ولؤياً، والعاص، وموسى، وقصياً
وواصلا وذؤابة، وفتحا والوليد، وسعيداً. وأقام الحج للناس في ولايته سنة 125 محمد
بن موسى الثقفي.
أيام يزيد بن الوليد
بن عبد الملكوملك يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وأمه شاهفريد بنت فيروز بن كسرى،
مستهل رجب سنة 621، بعد قتل الوليد بخمس، وكانت الشمس يومئذ في الحمل إحدى عشرة
درجة وأربعين دقيقة، والقمر في الحوت عشرين درجة، وزحل في السنبلة عشرين درجة،
والمشتري في الجوزاء ثلاث درجات وخمسين دقيقة، والمريخ في الجوزاء خمساً وعشرين درجة
وأربعين دقيقة، والزهرة في الجدي عشر درجات، وعطارد في الحمل إحدى وعشرين درجة
وثلاثين دقيقة. ونقص الناس من إعطائهم، فسمي يزيد الناقص، واضطربت عليه البلدان،
فكان ممن خرج عليه العباس بن الوليد بحمص، وشايعه أهل حمص، وبشر بن الوليد
بقنسرين، وعمر بن الوليد بالأردن، ويزيد بن سليمان بفلسطين. وساعد العباس أبو محمد
بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، وسليمان بن هشام.
وبايع لأخيه إبراهيم
بن الوليد بولاية العهد من بعد ثلاثة أيام من ولايته، ووجهه إلى الأردن، وقد أمروا
عليهم محمد بن عبد الملك، فوافقوه، فأرسل إليهم عبد الرحمن بن مصاد يقول لهم: علام
تقتلون أنفسكم؟ أقبلوا إلينا نجمع لكم الدنيا والآخرة، وأنا أضمن لكل رجل منكم ألف
دينار، فافترقوا.
وكانت ولايته خمسة
أشهر، والفتنة في جميع الدنيا عامة، حتى قتل أهل مصر أميرهم حفص بن الوليد
الحضرمي، وقتل أهل حمص عاملهم عبد الله بن شجرة الكندي، وأخرج أهل المدينة عاملهم
عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز. وغلب على أمره يزيد بن خالد بن عبد الله القسري،
وكان على شرطة يزيد بن الشماخ اللخمي، وعلى حرسه سلام مولاه، وحاجبه جبير مولاه،
وكان في بيت مال الوليد يوم قتل سبعة وأربعون ألف ألف دينار، ففرقها يزيد عن
آخرها، وكان قدرياً، وتوفي لانسلاخ ذي القعدة، وصلى عليه إبراهيم بن الوليد، ودفن
بدمشق، وقيل إن أخاه إبراهيم سقاه السم.
وأقام الحج في تلك
السنة، وهي سنة 126، عمر بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وقيل... إن الحجاج بن
عبد الملك... ووثب ثابت بن نعيم الجذامي على مروان، وهو بأرمينية، فظفر به مروان،
فمن عليه، وانصرف مروان من أرمينية، واستخلف عليها عاصم بن عبد الله بن يزيد
الهلالي، واستخلف على الباب والأبواب إسحاق بن مسلم العقيلي، ثم جمع أرمينية
لإسحاق بن مسلم العقيلي.
أيام إبراهيم بن
الوليدثم ملك إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأمه أم ولد، يقال لها
سعار، في اليوم الذي توفي فيه يزيد بن الوليد، فأقام أربعة أشهر، وقدم مروان بن
محمد بن مروان من أرمينية خالعاً له، فلما صار بحران دعا إلى نفسه، فبايع له أهل
الجزيرة سراً، وأقبل في جموع من أهل الجزيرة، فلقي بشرا ومسروراً ابني الوليد بن
عبد الملك معسكرين بحلب، فهزم عسكريهما، وأسرهما ثم مضى حتى أتى حمص وعليها عبد
العزيز.
وبلغ إبراهيم الخبر،
فوجه إليه سليمان بن هشام بن عبد الملك، فلقي مروان ومن معه من أهل الجزيرة
وقنسرين وحمص، فالتقوا بعين الجر من عمل دمشق، فتناوشوا القتال يوم الأربعاء لسبع
خلون من صفر سنة 127 وانصرف بعضهم عن بعض، فلما كان من الغد انهزم سليمان بن هشام
وأصحابه، فلحقوا بإبراهيم، وأقبل مروان حتى نزل دير العالية، فبايع له أهل دمشق،
ودخلها، فخلع إبراهيم نفسه، وبايع لمروان يوم الإثنين للنصف من صفر سنة 127، ولم
يزل مع مروان حتى غرق بالزاب، في وقعة عبد الله بن علي.
أيام مروان بن محمدبن
مروان ودعوة بني العباس وملك مروان بن محمد بن مروان، وأمه أم ولد يقال لها ريا،
في صفر سنة 127، وبايع له من بدمشق من بني أمية وغيرهم، وكتب إلى عمال البلدان
فأتته كتبهم بالسمع والطاعة والانقياد، وأتاه الخبر أن أهل حمص مقيمون على
المعصية، فسار إليهم، واستخلف بدمشق عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فحاصرهم
حتى فتح المدينة، وهرب منه السمط بن ثابت بن الأصبغ بن ذوالة، وأسر معاوية بن عبد
الله السكسكي.
وأتاه الخبر أن يزيد
بن خالد بن عبد الله القسري قتل يوسف بن عمر الثقفي، وكان يوسف محبوسا، فلما رأى
عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك اضطراب أمر مروان بن محمد أمر يزيد بن خالد بن
عبد الله القسري بالمضي إلى السجن، وأمره أن يقتل يوسف بن عمر، ويقتل عثمان والحكم
ابني الوليد بن يزيد، ففعل ذلك.
وأراد مروان أن يرجع،
فأتاه الخبر أن الضحاك بن قيس الحروري قد غلب على ناحية العراق، وحارب عبد الله بن
عمر بن عبد العزيز بواسط، وإنه قد صار إلى الجزيرة، وجاز الموصل، فصار إلى نصيبين،
وبها عبد الله بن مروان، فحاصره، وكان عامل إسحاق بن مسلم بالباب والأبواب رجلاً
يقال له مسافر، وكان يرى رأي الخوارج، فكتب إليه الضحاك بعهده على أرمينية، وكان
أهلها قتلوا عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي عامل أرمينية، فتوجه إليها، وصار
مروان إلى حران، فابتنى بها منزلة في موضع يقال له: دباب البين، وبلغ الضحاك خبره،
فأقبل نحوه، فمر بالموصل، فحصرها، ثم كره أن يطول الأمر به، فنفذ إلى نصيبين،
فحصرها، ثم نفذ إلى حران حتى واقف مروان، فحاربه محاربة شديدة، وظفر الضحاك عليه
مراراً حتى عزله سريره، وجلس عليه، ثم قتل الضحاك سنة 127،
وافترق الخوارج فرقاً.
وصار سليمان بن هشام
بن عبد الملك ومن هرب من اليمانية من أصحاب يزيد ابن خالد بن عبد الله معهم، وسار
سليمان بن هشام بن عبد الملك يريد الشام، فلقيه مروان بخساف، فهزمه، ومضى سليمان،
وأصحاب الضحاك عليهم الخيبري، فسار في عسكر عظيم، فلقي مروان فقتله مروان، فولت
الخوارج أمرها أبا الذلفاء الشيباني، فرجع بأصحابه إلى الموصل، واتبعه مروان،
فقاتله شهراً، ثم انهزم أبو الذلفاء، فوجه مروان خلفه عامر بن ضبارة المري، فصار
أبو الذلفاء إلى عمان، فقتل، قتله الجلندي بن مسعود الأزدي، فخرج أبو عبيدة خليفة
الضحاك إلى الكوفة، فولى مروان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري العراق، فقدمها سنة 128،
فقتل خليفة الضحاك، وخرج ثابت بن نعيم الجذامي بناحية الأردن، فوجه إليه مروان
بالرماحس بن عبد العزيز، وولي عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك المدينة ومكة.
وقدم مكة ليقيم الحج،
ووافت الحرورية، ومعهم أبو حمزة المختار بن عوف الحروري الأزدي، حتى وقفوا على جبل
عرفات، وكان أبو حمزة من قبل عبد الله بن يحيى الكندي الذي يسمى طالب الحق، فلما
وقفوا بعرفات أرعبوا الناس وأخافوهم، فأرسل إليهم عبد الواحد يعظم عليهم البلد
الحرام والأيام العظام ويوم الحج الأكبر، فوادعوهم يوم عرفة وأربعة أيام، وصاروا
إلى منى فعسكروا ناحية منها، فلما انصرفوا لحق عبد الواحد المدينة، فدعا الناس إلى
الديوان، ووجه بالجيش وعليهم عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفان
بقديد في صفر سنة 130، فقتل عبد العزيز ومن معه من أهل المدينة، واتهمت قريش خزاعة
أن يكونوا داهنوا عليهم الحرورية.
وقدمت الحرورية
المدينة لعشر بقين من صفر، وهرب عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وغلب أبو حمزة
على المدينة، وخطبهم خطبة مشهورة، وكان أهل المدينة يصلون خلفه، ويعيدون الصلاة،
ثم ساروا يريدون الشام، ولقيهم خيل لمروان عليهم عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي،
فأوقعوا بهم بوادي القرى، فزحف الحرورية منهزمين إلى المدينة، فخرج إليهم أهل
المدينة، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ووافاهم ابن عطية، فانهزموا، فأتبعهم إلى مكة،
ثم اتبعهم إلى اليمن حتى قتل عبد الله بن يحيى، ودنوا من صعدة فقتل فيهم حتى وطئ
الناس عليهم، ثم دخلوا صنعاء، فأتاه كتاب مروان بتولية الموسم، فخرج، فلما صار في
بعض الطريق توفي في عسكره.
وأراد مروان أن ينفذ
إلى العراق، فأتاه خبر أهل حمص انهم عصوا، فصار إليهم، فوضع عليها المنجنيق حتى
هدم سورها، فطلبوا الأمان، فأمنهم إلا ثلاثة نفر لم يؤمنهم وقتلهم.
وكان منصور بن جمهور
لما قدم يزيد بن عمر بن هبيرة العراق هرب حتى أتى السند، وكان ابن عرار عامل السند
قرابة له، فصار خلف النهر، وأرسل إليه ابن عرار ألا تبرح مكانك! فرد عليه: إنما
أردت المقام قبلك، فلا وصل الله رحمك، ولا قرب قرباك، وستعلم بعد، ثم عمل المراكب
بسدوسان وحملها على الإبل حتى ألقاها في مهران، ثم لقي ابن عرار، فحاربه حتى هزمه
إلى المنصورة، وحصره منصور بن جمهور، فطلب ابن عرار الأمان، فقال: لا أعطيك الأمان
إلا حكمي، فنزل على حكمه، فأمر فبنيت عليه أسطوانة، وهو حي، وأقام منصور
بالمنصورة، وبعث أخاه منظوراً إلى قندابيل والديبل. ولم يزل منصور مقيما بالسند
حتى ظهر أبو مسلم بخراسان، ووجه أبو مسلم برجل يقال له مغلس من أهل سجستان إلى
السند، فلما أظلهم وثب أصحاب منظور أخي منصور بن جمهور، فقتلوه، وكتبوا إلى مغلس
فأتاهم، فلقيه منصور بن جمهور، فقاتله، فهزمه، وأسر مغلس، فأتي به منصور، فقتله
وقتل أكثر قتلة أخيه.
واشتدت شوكة الكرماني
بخراسان، ودامت الحرب بينه وبين نصر بن سيار، وظهر الكرماني على نصر بن سيار، وكان
أبو مسلم الغالب على أمر الكرماني، فحدثني جماعة من أشياخنا أن أبا مسلم كان يقول:
إذا التقى الكرماني ونصر بن سيار للقتال اللهم افرغ عليهما الصبر، وانزع عنهما
النصر. وطعن الكرماني فقتل، وصلبه نصر، وغلب أبو مسلم على عسكره، وظهر أمره،
واستكثف جمعه، وجاد نصر بن سيار القتال حتى فله مراراً، وأظهر دعوة بني هاشم، وكان
ذلك في شهر رمضان سنة 129.
ووثب سليمان بن حبيب
بن المهلب بالأهواز، فوجه إليه يزيد بن عمر ابن هبيرة نباتة بن حنظلة الكلابي،
فاقتلوا قتالاً شديداً، ثم انهزم سليمان، فلحق بفارس، فوجه يزيد بن عمر عامر بن
ضبارة المري إلى فارس.
وضعف أمر نصر بن سيار
بخراسان، وقوي أمر أبي مسلم، فكتب نصر إلى مروان يصف له حاله، وضعف من معه، وقوة
أبي مسلم، وظهوره، وكتب في آخر كتابه:
أرى بين الرماد وميض
جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين
تورى ... وإن الفعل يقدمه الكلام
أقول من التعجب ليت
شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام؟
فكتب مروان إلى يزيد
بن عمر بن هبيرة عامله على العراق أن يمد نصر بن سيار بالرجال، فقعد يزيد، ثم تابع
مروان الكتب إليه بالوعيد، فوجه بابنه داود بن يزيد في جيش عظيم، فيه عامر بن
ضبارة المري، والجويرية بن إسماعيل، ونباتة بن حنظلة الكلابي، وكان داود بن يزيد
بن عمر حدث السن، فكتب مروان إلى ابن هبيرة ينكر عقده لابنه داود لحداثة سنة،
ويأمره أن ينفذ إليه من يحل لواءه، ويعقد لعامر بن ضبارة المري على الجيش، ففعل
ابن هبيرة ذلك، ونفذ الجيش، وعلى المقدمة نباتة بن حنظلة الكلابي.
وطلب مروان إبراهيم
بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لما بلغه أن دعوة أبي مسلم له، وأنه الذي يؤهل
لهذا الأمر. فحدث عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: كنت مع أبي جعفر عبد
الله بن محمد بالحميمة، ومعه ابناه جعفر، ومحمد، وهما صبيان، فأنا أداعبهما
وألاعبهما فقال لي: أي شيء تصنع بهذين الصبيين، أ ما ترى ما نحن فيه؟ فنظرت، فإذا
رسل مروان تطلب إبراهيم بن محمد، فقلت: دعني أخرج! فقال: تخرج من بيتي، وأنت ابن
عمار بن ياسر؟ قال: فأخذوا بأبواب المسجد، وأشير لهم إلى إبراهيم ليأخذوه، وقد كان وصف
لهم بصفة أبي العباس، وأبو العباس الموصوف بقتلهم، فلما أتي به إلى مروان قال:
ليس هذه الصفة! فقال
الرسول: قد والله رأيت الصفة، ولكن قلت: إبراهيم بن محمد، وهذا إبراهيم بن محمد،
فردهم في طلب أبي العباس، فوجدوه قد تغيب، فأمر مروان بإبراهيم فغطى وجهه بقطيفة،
حتى مات، وقيل: بل أدخل رأسه في جراب نوره حتى مات، وفيه يقول ابن هرمة:
وكنت أحسبني جلدا
فضعفني ... قبر بحران فيه عصمة الدين
فيه الإمام الذي عمت
مصيبته ... وعيلت كل ذي مال ومسكين
وأظهر أبو مسلم
الدعوة لبني هاشم، وطلب نصر بن سيار منه المتاركة، وسأله الموادعة، فوجه إليه لاهز
بن قريظ في جماعة من أصحابه، وكان لاهز ابن قريظ أحد النقباء، فأمره أن يحضر
ليبايع، فدخل لاهز عليه فقال: أجب الأمير! ثم تلا: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك،
فاخرج إني لك من الناصحين. فقال نصر: أدخل إلى بستاني وأخرج إليهم، فدخل إلى بستان له، فركب دوابه، ومضى
هاربا، فمات بقرية يقال لها ساوة، وأخذ أبو مسلم لاهز بن قريظ، فضرب عنقه. وقدم
إلى نيسابور في شهر رمضان، أو شوال، ووجه عماله، فاستعمل سباع بن معمر الأزدي على
سمرقند، واستعمل أبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان، وجعل أبا نصر مالك بن
الهيثم الخزاعي على شرطه، ووجه محمد ابن الأشعث الخزاعي إلى الطبسين وفارس، ووجه
الحسن بن قحطبة على مقدمته، ثم قدم قحطبة بن شبيب، ومعه عهد إبراهيم بن محمد بن
علي، وسيره يعمل عليها، فأمضى أبو مسلم له ذلك ووجهه لقتال جند بني أمية، فسار
قحطبة حتى أتى جرجان، فلقي نباتة بن حنظلة، فنشبت الحرب، فقتل نباتة، وهزم جنده،
واحتوى على ما في عسكره، وصير الغنائم إلى خالد بن برمك، فقسمها بين أصحابه.
وأقام قحطبة إلى غرة
المحرم سنة 131، ثم وجه بابنه الحسن بن قحطبة إلى قومس على مقدمته، ولحقه فوجهه من
الري إلى همذان، ووجه العكي إلى قم وأصبهان، وسار قحطبة حتى صار إليها وفيها عامر
بن ضبارة المري، فأرسل إليه يدعوه إلى بيعة آل محمد، فأرسل إليه ابن ضبارة: يا
علوج! أما والله إني لأرجو أن أقرنكم في الحبال! وكان في أربعين ألفاً من أهالي
الشام، فواقعه قحطبة، فقتله، وقتل من كان معه من أصحابه، فلم ينج منهم إلا القليل،
فهربوا إلى ابن هبيرة وهو إذ ذاك بجلولاء.
وصار قحطبة إلى
نهاوند وبها أدهم بن محرز الباهلي في جماعة ممن ضوى إليه، فحصرها قحطبة ثلاثة أشهر
حتى أفنى أكثرهم ثم فتحها، وسار إلى حلوان، وكان قحطبة يقول: ما من شيء فعلته إلا
وقد خبرني به الإمام إلا أنه أعلمني ألا أعبر الفرات.
ووجه قحطبة أبا عون
عبد الملك بن يزيد إلى شهرزور، فلقي عثمان بن زياد فهزمه واستباح عسكره.
قال حميد بن قحطبة:
حدثني أبي قال: دخلت مسجد الكوفة أيام بني أمية، وعلى فرو غليظ، فجلست إلى حلقة،
وشيخ في صدر القوم يحدثهم، فذكر أيام بني أمية، وذكر السواد ومن يلبسه فقال. يكون
ويكون، ويخرج رجل يقال له قحطبة، كأنه هذا الأعرابي، وأشار إلى، ولو أشاء أن أقول
هو هو لقلت. قال قحطبة: فخفت على نفسي، فتنحيت ناحية، فلما انصرف كلمته، فقال: لو
شئت أن أقول إنك أنت هو لقلت. فسألت عنه فقيل لي: هو جابر بن يزيد الجعفي.
وكان ابن هبيرة بواسط
العراق فتحصن بها، وأدخل الطعام والأنزال، وانصرف إليها فلال
العساكر.
وقدم قحطبة العراق
فوافى به عسكرا ليزيد بن هبيرة، واستباحة، وصار إلى الزاب، وهو من الفلوجة العليا،
على رأس أربعة وعشرين فرسخاً من الكوفة، فلقي يزيد بن عمر بن هبيرة ليلة الخميس
لسبع خلون من المحرم سنة 132، فاقتتلوا ساعة من الليل، ثم انهزم ابن هبيرة، حتى
رجع إلى واسط، فتحصن بها، فلما فرغ قحطبة من قتاله قام خطيبا، فحمد الله وأثنى
عليه، وصلى على النبي، ثم قال: أيها الناس، أنا والله ما خرجنا إلا لإقامة الحق
وإزالة دولة الباطل، وقد أعلمتكم أن الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس
أعلمني أن ألقى نباتة بن حنظلة الكلابي، وعامر بن ضبارة المري، فأهزمهما واستبيح
عسكرهما، وأقتل مقاتلتهما، وأنبأتكم بذلك قبل كونه، وقد رأيتم صدق ما خبرتكم، وإن
الإمام أعلمني أن لا أعبر الفرات، وإنكم تعبرونه، فلا يفقد من الجيش أحد غيري،
وإنه والله لا كذب فيما قال فإذا فقدتموني فأمير الناس حميد بن قحطبة، فإن غاب
فالحسن بن قحطبة، والسلام على من اتبع الهدى، ورحمة الله وبركاته.
فلما كان السحر عبروا
الفرات، وكان في أيام المد وكثرة الماء، فلما أصبحوا فقدوا قحطبة، فلم يعرفوا له
خبراً، وقالوا: غرق، وقالوا: سقط عليه جرف، وقالوا: غار به فرسه، وكان أبو مسلم قد
كتب إليه... من الكوفة: أني قد أعددت لك من المنازل، فكتب إليه قحطبة: أيها الوزير
لئن لقيتك إذا إن لبني أمية بعد لبقاء.
وانهزم ابن هبيرة بعد
أن غرق قحطبة، فلما بلغ مروان الخبر قال: هذا والله الإدبار، وإلا فمن سمع بميت
يهزم حياً؟ وسار حميد بن قحطبة حتى دخل الكوفة بعد ما فقد قحطبة بأربع ليال، وقد
أخذ محمد بن عبد الله القسري الكوفة لبني هاشم، وأظهر دعوتهم، وشرد من كان بها من
بني أمية وأصحابهم، وأظهر السواد، وغلب سفيان بن معاوية ابن يزيد بن المهلب على
البصرة وسود، ودعا إلى بني هاشم أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال، واستعمل العمال،
ووجه الحسن بن قحطبة إلى ابن هبيرة، وأتبعه بمالك بن الهيثم، وأمرهما أن يحاصراه،
فأناخ الحسن على المدينة الغربية، ومالك على الشرقية، ووجه هشام بن إبراهيم مولى
بني ليث إلى عبد الواحد ابن عمر بن هبيرة، وكان عامل أخيه على الأهواز، فقاتله حتى
فض جمعه، ثم انهزم عبد الواحد بن عمر بن هبيرة، فلحق بسلم بن قتيبة الباهلي، وهو
عامل يزيد بن عمر على البصرة.
وقدم أبو العباس
وإخوته وأهل بيته الكوفة في المحرم سنة 132، فصيرهم أبو سلمة في دار الوليد بن سعد
في بني أود، وكتم أمرهم، فلم يطلع على خبرهم أحد، فأقاموا في تلك الدار شهرين، حتى
لقي أبو حميد غلاماً لهم، فسأله عنهم، فأخبره بسوء ضعفهم، فصار إليهم وهم في،
فقال: أيكم عبد الله بن محمد بن الحارثية؟ فأشير له إلى أبي العباس، فسلم عليه
بالخلافة، فمضى، فأحضر أصحابه، وأخرج أبا العباس، وبايع الناس له، فلما بلغ أبا
سلمة الخبر جاءهم ركضا حتى لحقهم، فقال له: عجلتم، وأرجو أن يكون خيراً. وصار أبو
العباس إلى المسجد، فخطب وصلى.
ووجه أبو العباس عمه
عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس لقتال مروان، فلقيه بالزاب بالقرب من الموصل،
وإنما كان قصد مروان إلى الزاب لأن بني أمية كانت تروي في ملاحمها أن المسودة لا
يجوز سلطانهم الزاب، فكانوا يتوهمون أنه زاب الموصل، فقصده مروان، وهو يرى أنه لا
يجوزه، وإنما ذلك زاب بأقاصي الغرب، فحاربه عبد الله بن علي، فهزمه، ثم لم يزل في
أثره، وهو منهزم لا يلوي على شيء، حتى أخرجه إلى الجزيرة، ثم أخرجه من الجزيرة إلى
الشام، فجعل لا يمر بجند من أجناد الشام إلا انتهبوه، حتى صار إلى دمشق، وهو مضمر
أن يتحصن بها، فانتهبه أهل دمشق، ووثب عليه من بها من قيس، فدخلها عبد الله بن علي
عنوة، وقتل الوليد بن معاوية بن مروان ابن عبد الملك، خليفة مروان بها، ومضى مروان
إلى فلسطين هارباً، فلحقه عبد الله بن عبد الملك، فأسره عبد الله بن علي، وأسر معه
عبد الله بن يزيد بن عبد الملك، فوجه بهما إلى أبي العباس، فصلبهما بالحيرة.
وقدم صالح بن علي
عاملاً على مصر، وقد هرب مروان إليها، فاتبعه، فألجأه إلى قرية بوصير من كورة
أشمون من الصعيد، فلم يزل مواقفاً له، والحرب بينهما، ثم أرسل إليه مروان: متى
ظفرت بهذا الأمر فأوصيك بالحرم خيراً فأرسل إليه صالح: يا جاهل! إن الحق لنا عليك
في نفسك، ولك علينا في حرمك.
وانصرف عبد الله بن
علي راجعا إلى دمشق وصالح في قتال مروان، ثم قتل مروان في المعركة، وصاحب الجيش
عمر بن إسماعيل الحارثي، وكانت مدة مروان في ولايته إلى أن قتل خمس سنين، وقتل في
ذي الحجة سنة 132، وهو ابن أربع وستين سنة، وقيل: ثمان وستين سنة، وحز رأسه، فلما
قور جاءه هر فأخذ لسانه، وحمل الرأس إلى أبي العباس، فلما وضع بين يديه قال: أيكم
يعرف هذا؟ فقال سعيد بن عمرو بن جعدة: هذا رأس مروان ابن محمد بن مروان بن الحكم،
خليفتنا بالأمس. فأنكر الناس ذلك عليه، فقال أبو العباس: ما أراد الشيخ بهذا القول
إلا الوفاء.
وكان الغالب على
مروان أبو حديدة السلمي، وإسماعيل بن عبد الله القسري، وإسحاق بن مسلم العقيلي،
وعلى شرطة الكوثر بن الأسود الغنوي، وهو الذي قال له يوماً في قتاله: انزل، ويلك!
فقاتل، فأبى أن يفعل، فقال مروان: والله لأسوءنك! فقال: وددت والله أنك تقدر على
ذلك، وكان على حرسه سقلاب مولاه، وحاجبه سليم مولاه.
وكان له من الولد
الذكور أربعة: عبد الملك، وعبد الله، وعبيد الله، ومحمد، وكان عبد الله وعبيد الله
ابنا مروان ليلة قتل مروان توجها نحو الصعيد، ثم صار إلى بلاد النوبة، وتلاحق بهما
جماعة من أصحاب مروان، فصاروا زهاء أربعة آلاف، وتخلف عبد الحميد بن يحيى كاتب
مروان بمصر، واستتر حتى دل عليه صالح بن علي.
وخرج مع عبد الله
وعبيد الله جماعة من نسائهم من البنات والأخوات وبنات العم ماشيات، هائمات على
وجوههن، حتى مر رجل من أهل الشام بصبية ملقاة تنكر، وإذا هي بنت لمروان بنت ست
سنين، فحملها معه حتى دفعها إلى عبد الله بن مروان.
ووافى القوم بلاد
النوبة فأكرمهم عظيم النوبة ثم قالوا: نقر في بعض هذه الحصون التي في بلاد النوبة،
فلعلنا نتخذ منها معقلا، ونقاتل من يلينا من العدو، وندعو إلى طاعتنا لعل الله أن
يرد علينا بعض ما أخذ منا. فقال لهم عظيم النوبة: إن هذه الأغربة، يريد السودان،
كثير عددها، قليل سلبها، وإني لا آمن عليكم أن تصابوا فيقال: أنت قتلتهم. فقالوا:
نحن نكتب لك كتاباً أنا وردنا بلادك، فأكرمت مثوانا، وأحسنت جوارنا، وجهدت ألا
نبرح من عندك، فأبينا حتى خرجنا، ونحن لك شاكرون. ثم خرجوا، فأخذوا في بلاد العدو
فكانوا ربما لقوا الجيش من الحبشة، فقاتلوهم حتى صاروا إلى بجاوة، فلقيهم عظيم
البجة، فقاتلهم، وانصرفوا يريدون اليمن، فمروا في البلاد، وعرض لعبد الله وعبيد
الله طريقان بينهما جبل، فأخذ كل واحد منهما في طريق، وهما يريان أنهما يلتقيان
بعد ساعة، فسارا يومهما ذلك، ثم راما الرجوع فلم يقدرا عليه، وسارا أياماً، ثم لقي
عبيد الله منسراً من مناسر الحبشة، فقاتلهم، وزرقه رجل منهم بمزراق، فقتل عبيد
الله، واستأسر أصحابه، فأخذت الحبشة كل ما معهم، وتركوهم، فمروا في البراري على
وجوههم عراة حفاة، حتى أهلكهم العطش، فكان الرجل يبول في يده ويشربه، ويبول ويعجن
به الرمل ويأكله، حتى لحقوا عبد الله بن مروان وقد ناله من العرى والشدة أكثر مما
نالهم، ومعه عدة من حرمه عراة حفاة ما يواريهن شيء، قد تقطعت أقدامهن من المشي
وشربن البول حتى تقطعت شفاههن، حتى وافوا المندب، فأقاموا بها شهراً، وجمع الناس
لهم شيئاً، ثم خرجوا يريدون مكة في زي الحمالين.
وأقام الحج في أيام
مروان في سنتي 127و128 عبد العزيز بن عمرة بن عبد العزيز، سنة 129 عبد الواحد بن
سليمان بن عبد الملك، ووافى معه الحج أبو حمزة المختار بن عوف الإباضي، صاحب
الأعور عبد الله بن يحيى الكندي، والذي يسمي نفسه طالب الحق، سنة 130 عبد الملك بن
محمد بن مروان، سنة 131 محمد بن عبد الملك بن عطية السعدي، وقيل هي آخر حجة لبني
أمية، ولم يغز في أيام مروان.
وكان الفقهاء في
أيامه: محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أبا الحويرث المرادي، عمرو بن
دينار، صالح بن كيسان، أبا الزناد عبد الرحمن ابن ذكوان، عبد الله بن أبي نجيح،
قيس بن سعد، أبا الزبير محمد بن مسلم، إبراهيم بن ميسرة، عبد الملك بن عمير
الليثي، سلمة بن كميل، جابر بن يزيد الجعفي، غيلان بن جامع المحاربي، أبا بكر بن
نسر بن حرب، يزيد بن عبد الله بن الشخير، سالم الأفطس، عبد الكريم الحنفي.
أيام أبي العباس
السفاحبويع عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكنيته أبو العباس، وأمه
ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان بن الديان الحارثي، يوم الجمعة
لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل: يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة 132، ومن شهور العجم في
تشرين الآخر.
وكانت الشمس يومئذ في
القوس عشر دقائق، والقمر في الدلو إحدى وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمشتري في
العقرب اثنتين وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمريخ في الأسد سبعاً وعشرين درجة،
والزهرة في الميزان ثلاثين درجة، وعطارد في العقرب إحدى عشرة درجة وعشرين دقيقة،
والرأس في الميزان خمساً وأربعين دقيقة، وكانت بيعته في الكوفة في دار الوليد بن
سعد الأزدي. وقيل: إن أبا سلمة إنما أخفى أبا العباس وأهل بيته بها، ودبر أن يصير
الأمر إلى بني علي بن أبي طالب، وكتب إلى جعفر بن محمد كتابا مع رسول له، فأرسل
إليه: لست بصاحبكم، فإن صاحبكم بأرض الشراة، فأرسل إلى عبد الله بن الحسن يدعوه
إلى ذلك، فقال: أنا شيخ كبير وابني محمد أولى بهذا الأمر، وأرسل إلى جماعة بني
أبيه، وقال: بايعوا لابني محمد، فإن هذا كتاب أبي سلمة حفص بن سليمان إلي فقال
جعفر بن محمد: أيها الشيخ! لا تسفك دم ابنك، فإني أخاف أن يكون المقتول بأحجار
الزيت.
وأقام أبو سلمة ينتظر
انصراف رسله إليه، ومر أبو حميد، فلقي غلام أبي العباس، فدله على موضعه، فأتاه
فسلم عليه بالخلافة، ثم خرج فأخبر أصحابه بموضعه، فمضى معه ستة، وهم: أبو الجهم بن
عطية، وموسى بن كعب، وأبو غانم عبد الحميد بن ربعي، وسلمة بن محمد، وأبو شراحيل،
وعبد الله بن بسام، وأبو حميد سابعهم سراً من أبي سلمة، فسلموا على أبي العباس
بالخلافة، وألبسه أبو حميد السواد، وأخرجه، فمضى به إلى المسجد الجامع، وبلغ الخبر
أبا سلمة، فأتى ركضا حتى لحقهم، فقال: إني إنما كنت أدبر استقامة الأمر وإلا فلا
أعمل شيئاً فيه.
وقد قدمنا ذكر بيعة
أبي العباس في أيام مروان، ووصفنا ما عمل من وجه لمحاربة مروان، ووصلنا من الخبر
بذلك إلى قتل مروان ما يغني عن إعادته. وكان من قدم إلى الكوفة من بني هاشم اثنين
وعشرين رجلاً، منهم: داود، وسليمان، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، وعبد الله، وعبد الصمد
بنو علي بن عبد الله بن عباس، وموسى بن داود، وجعفر، ومحمد ابنا سليمان، والفضل،
وعبد الله ابنا صالح، وأبو العباس، ومحمد ابنه، وجعفر، ومحمد ابنا المنصور، وعيسى
بن موسى بن محمد، وعبد الوهاب، ومحمد ابنا إبراهيم، ويحيى بن محمد، والعباس بن
محمد. ولما
بويع أبو العباس صعد المنبر في اليوم الذي بويع فيه، وكان حييا، فارتج عليه، فأقام
مليا لا يتكلم، فصعد داود بن علي، فقام دونه بمرقاة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى
على محمد، وقال: أيها الناس! الآن تقشعت حنادس الفتنة، وانكشف غطاء الدنيا، وأشرقت
أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وعاد السهم إلى النزعة، وأخذ القوس باريها،
ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة بكم، والرحمة لكم، والتعطف
عليكم، ألا وإن ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس لكم أن نسير، فنحكم في الخاصة
والعامة منكم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنه والله أيها الناس! ما وقف هذا الموقف
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أولى به من علي بن أبي طالب، وهذا القائم
خلفي، فاقبلوا، عباد الله، ما آتاكم بشكر، واحمدوه على ما فتح لكم، أبدلكم
بمروان عدو الرحمن،
حليف الشيطان، بالفتى المتمهل الشاب المتكهل، المتبع لسلفه والخلف من أئمته
وآبائه، الذين هدى الله، فبهداهم اقتدى مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، وأبواب
الرحمة، ومفاتيح الخير، ومعادن البركة، وساسة الحق، وقادة العدل. ثم نزل فتكلم أبو
العباس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ووعد من نفسه خيراً ثم نزل.
وولي أبو العباس
الكوفة داود بن علي، فكان أول من ولاه أبو العباس، ووجه بأخيه أبي جعفر إلى خراسان
لأخذ البيعة على أبي مسلم، فصار إلى مرو في ثلاثين فارساً، فلم يحتفل به أبو مسلم،
ولم يلتقه، واستخف به، فانصرف واجدا عليه، وشكاة إلى أبي العباس وأعلمه ما نال
منه، وكثر عليه في بابه، فقال أبو العباس: فما الحيلة فيه، وقد عرفت موضعه من
الإمام ومن إبراهيم، وهو صاحب الدولة والقائم بأمرها؟ وقدم أبو مسلم على أبي
العباس، فأكرمه وأعظمه، ولم يذكر له من أمر أبي جعفر شيئاً. ودخل إليه يوماً من
الأيام، وأبو جعفر جالس معه، فسلم عليه وهو قائم، ثم خرج ولم يسلم على أبي جعفر،
فقال له أبو العباس: مولاك مولاك لم لا تسلم عليه؟ يعني أبا جعفر. فقال: قد رأيته،
ولكنه لا يقضي في مجلس الخليفة حق أحد غيره.
ولما قتل صالح مروان
بن محمد وجه برأسه إلى أبي العباس، وحوى خزائنه وأمواله، وحمل أبا عثمان، ويزيد بن
مروان، ونسوة من آل مروان وبناته، فلما صرن إلى الكوفة أطلق النساء وحبس الرجال،
وأخذ عبد الله بن مروان بمكة، فحمل أيضاً، وحبس مع سائر أهله.
وولي أبو العباس داود
بن علي الحجاز، فقدم، وعامل مروان الوليد ابن عروة بن عطية السعدي مقيم بمكة لم
يعلم بأن الناس بايعوا أبا العباس، فلما علم هرب، وقدم داود فخطب خطبة له مشهورة
ذكرهم فيها ما فضلهم الله به، فظلم من ظلمهم، ثم قال: إنما كانت لنا فيكم تبعات
وطلبات، وقد تركنا ذلك كله، وأنتم آمنون بأمان الله أحمركم وأسودكم، وصغيركم
وكبيركم، وقد غفرنا التبعات، ووهبنا الظلامات، فلا ورب هذه البنية لا نهيج أحداً!
وضرب بيده إلى الكعبة، فبينا هو يخطب إذ قام سديف بن ميمون، فقال: أصلح الله
الأمير! أدننى منك، وأذن لي في الكلام! فقال: هلم! فصعد المنبر حتى كان دون داود
بمرقاة، ثم أقبل على الناس بوجهه، فحمد الله، وصلى على محمد ثم قال: أ يزعم
الضلال، خطئت أعمالهم، إن غير آل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتراثه، ولم،
وبم معاشر الناس، ألكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة، الشركاء في النسب، والورثة
للسلب، مع ضربهم في الفيء لجاهلكم، وإطعامهم في اللاواء جائعكم، وأيمانهم بعد
الخوف سائلكم؟ لم ير مثل العباس بن عبد المطلب، اجتمعت له الأمة بواجب حق الحرمة،
أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبيه، وجلده ما بين عينيه يوم خيبر، لا يرد
له أمراً، ولا يعصي له قسماً. إنكم والله، معشر قريش، ما اخترتم لأنفسكم من حيث
اختار الله لكم طرفة عين قط. ثم نزل، فاستتم داود خطبته ثم نزل.
فلما انقضى الموسم
وجه داود إلى قوم كانوا بمكة من بني أمية، فقتل جماعة منهم، وأوثق جماعة منهم في
الحديد، ووجههم إلى الطائف، فقتلوا هنالك، وحبس خلقاً من الخلق، فماتوا في حبسه،
وصار إلى المدينة ففعل مثل ذلك، ولم يقم بالمدينة إلا شهرين حتى توفي.
وبلغ أبا العباس عن
أبي سلمة الخلال أمور أنكرها، وذكر له تدبيره وما كان عليه، وتأخيره له، والتماسه
صرف الدولة إلى بعض الطالبيين، وكتب إليه أبو مسلم من خراسان أن اقتل أبا سلمة،
فإنه العدو الغاش، الخبيث السريرة، فكتب إليه أبو العباس: أن وجه أنت من يقتله،
وكره أبو العباس أن يوحش أبا مسلم بقتله، أو يوجد سبيلا إلى الاحتجاج به عليه،
فوجه أبو مسلم مراد بن أنس الضبي، فجلس على باب أبي العباس وكان يسمر عنده، فلما
خرج ثار إليه فضرب عنقه. وكان أبو سلمة يسمى وزير آل محمد، وكان أبو مسلم يكتب إليه: للأمير
حفص بن سليمان، وزير آل محمد من أبي مسلم أمين آل محمد. فقال سليمان ابن مهاجر لما
قتل أبو سلمة:
إن الوزير، وزير آل
محمد، ... أودي، فمن يشناك كان وزيرا
ووجه أبو العباس أخاه
أبا جعفر إلى واسط، وكان الحسن بن قحطبة محاصرا ليزيد بن عمر بن هبيرة، وأمره
بمجادته، فحوصر أحد عشر شهراً، وكان معه جماعة من قواد مروان وأصحابه، وممن كان مع
عامر بن ضبارة، ونباتة بن حنظلة، الذين قتلهم قحطبة، وكان يزيد قد استعد لحصار
سنتين، وأدخل الأقوات والعلوفة لعشرين ألف مقاتل، فصدقوه المحاربة، وطلب الأمان
ووجه السفراء، فأجيب إلى ذلك، وكتب له كتاب أمان، وشرط له فيه ما سأل. وختمه أبو
العباس. وخرج ابن هبيرة حتى صار إلى أبي جعفر، فبايع ثم رجع إلى موضعه، وكان يركب
كل يوم في ألف فارس وألف راجل، فقال بعض أصحاب أبي جعفر له: أصلح الله الأمير! إن
ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر. فقال لأبي غسان حاجبه: قل لابن هبيرة فليقلل
من جمعه! فركب إليه في خمسمائة راجل، فقال له الحاجب: كأنك تأتيناً مباهياً، فركب
إليهم في ثلاثين فارساً، وثلاثين راجلاً، فكان أبو جعفر يقول: ما رأيت أنبل من ابن
هبيرة، ولا أتيه، إن كان ليدخل إلي، فيقول: كيف أنت يا هذا، أو حالك، وكيف ما
يأتيك عن صاحبك؟ فإن كنت لأحدثه فيقول: أيها لله أبوك! ثم يتداركها فيقول: أصلح
الله الأمير! إني قريب عهد بإمارة، وكان الرجل يحدثني، فأقول بهذا ونحوه. وقال له
يوماً: حدثني! فقال: لأمحضنك النصيحة محضاً، إن عهد الله لا ينكث وعقدته لا تحل،
وإن إمارتكم هذه جديدة، فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنبوهم مرارتها.
ووجدت كتب لابن هبيرة
إلى محمد بن عبد الله بن حسن يعلمه أن يبايع له، وأن قبله أموالاً وعدة وسلاحاً،
وأن معه عشرين ألف مقاتل، فأنفذت الكتب إلى أبي العباس، فقال أبو العباس: نقض
عهده، وأحدث ما أحل به دمه، فكتب إلى أبي جعفر: أن اضرب عنقه، فإنه غدر، ونكث،
ونقض العهود، وكثرت كتبه بذلك، وكتب أبو مسلم من خراسان يحرض على قتله، ويخبر أن
الأمر لا يستقيم ما كان حيا، وإنه ممن لا يصلح للاستبقاء. وقال أبو جعفر للحسن بن
قحطبة الطائي: أن أمير المؤمنين قد أمر بقتل هذا الرجل، فتول ذلك! فقال له الحسن:
إن قتلته كانت العصبية بين قومي وقومه، والعداوة، واضطرب عليك من بعسكرك من هؤلاء
وهؤلاء، ولكن أنفذ إليه برجل من مضر يقتله. فوجه إليه بخازم بن خزيمة التميمي،
فأتاه في جماعة، فوافاه وهو جالس في رحبة القصر بواسط، فلما رآهم قال:
أقسمت بالله إن في
وجوه القوم لغدرة! فلما دنوا منه قام ابنه داود في وجوههم، فضربه بعضهم بالسيف
فجدله، وصاروا إلى يزيد فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه، ثم تتبعوا قواده وأصحابه،
فقتلوهم عن آخرهم.
وخرج شريك بن شيخ
المهري ببخارى فقال: ما على هذا بايعنا آل محمد، أن نسفك الدماء، ونعمل غير الحق.
فوجه إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي، فقاتله، فقتله.
وخرج أبو محمد
السفياني، وهو يزيد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، بما لديه، وخرج
محمد بن مسلمة بن عبد الملك بحران، وحاصر موسى بن كعب، وكان عامل أبي جعفر، وأبو
جعفر يومئذ عامل الجزيرة، ورماها بالمنجنيق، وحرق أبوابها، وكان ذلك سنة 133.
ثم بلغ محمد بن مسلمة
قتل أبي محمد السفياني وقتل أبي الورد بن كوثر ابن زفر، فانصرف عنها، وتفرق جمعه،
واتبعه موسى بن كعب، فقتل خلقاً من أصحابه، وتعمد عدة مدائن من الجزيرة.
وأقام إسحاق بن مسلم
العقيلي بسميساط سبعة أشهر، وأبو جعفر محاصر له، وقيل: لم يحاصره أبو جعفر، ولكن
عبد الله بن علي حاصره، وكان إسحاق يقول: في عنقي بيعة، فلا أدعها أبداً حتى أعلم
أن صاحبها قد مات، أو قتل.
وأرسل إليه أبو جعفر
يقول: إن مروان قد قتل، فقال: حتى أتبين ذلك، فلما صح عنده أنه قتل طلب الأمان
وأعطيه، وصار مع أبي جعفر، وكان عظيم المنزلة عنده.
وانصرف عبد الله بن
علي إلى فلسطين بالسبب الذي شرحناه من خبره فيما شرحنا من خبر مروان، فلما صار
بنهر أبي فطرس، بين فلسطين والأردن، جمع إليه بني أمية، ثم أمرهم أن يغدوا عليه
لأخذ الجوائز والعطايا، ثم جلس من غد، وأذن لهم، فدخل عليه ثمانون رجلاً من بني
أمية، وقد أقام على رأس كل رجل منهم رجلين بالعمد، وأطرق ملياً، ثم قام العبدي
فأنشد قصيدته التي يقول فيها:
أما الدعاة إلى
الجنان فهاشم ... وبنو أمية من كلاب النار
وكان النعمان بن يزيد
بن عبد الملك جالساً إلى جنب عبد الله بن علي، فقال له: كذبت يا ابن اللخناء! فقال له عبد الله بن علي: بل صدقت يا أبا محمد،
فامض لقولك! ثم أقبل عليهم عبد الله بن علي، فذكر لهم قتل الحسين وأهل بيته، ثم
صفق بيده فضرب القوم رؤوسهم بالعمد حتى أتوا عليهم، فناداه رجل من أقصى القوم:
عبد شمس أبوك وهو
أبونا ... لا نناديك من مكان بعيد
فالقرابات بيننا
واشجات ... محكمات القوى بعقد شديد
فقال:
هيهات! قطع ذلك قتل
الحسين! ثم أمر بهم، فسحبوا، فطرحت عليهم البسط وجلس عليها، ودعا بالطعام، فأكل،
فقال: يوم كيوم الحسين بن علي ولا سواء. وكان قد دخل معهم... قال: رجوت أن ينالوا
خيراً، فنال معهم، فقال عبد الله بن علي:
ومدخل رأسه لم يدنه
أحد ... بين الفريقين حتى لزه القرن
اضربا عنقه. وقدم عبد
الله بن علي دمشق في شهر رمضان سنة 132، فحاصرها، واستغاث الناس، ووجهوا إليه
بيحيى بن بحر يطلب لهم الأمان، فخرج إليه، فسأله الأمان، فأجابه إلى ذلك، فدخل
فنادى في الناس الأمان، فخرج خلق من الخلق، ثم قال له يحيى بن بحر: اكتب لنا، أيها
الأمير، كتاب الأمان، فدعا بدواة وقرطاس، ثم ضرب ببصره نحو المدينة، فإذا بالسور
قد غشيه المسودة، فقال له: قد دخلتها قسراً فقال يحيى: لا والله، ولكن غدراً. فقال عبد الله: لو
لا ما أعرف من مودتك لنا، أهل البيت، لضربت عنقك، إذ استقبلتني بهذا، ثم ندم،
فقال: يا غلام خذ هذا العلم فاركزه في داره، وناد من دخل دار يحيى بن بحر فهو آمن.
فانحشر الناس إليها، فما قتل فيها، ولا في الدور التي تليها أحد.
ونادى المنادي بعد أن
قتل خلق كثير من الخلق: الناس آمنون، إلا خمسة: الوليد بن معاوية، ويزيد بن
معاوية، وأبان بن عبد العزيز، وصالح بن محمد، ومحمد بن زكرياء.
وصار عبد الله بن علي
إلى المسجد الجامع، فخطبهم خطبة مشهورة يذكر فيها بني أمية وجورهم وعداوتهم، وانهم
اتخذوا دين الله هزؤاً ولعباً، ويصف ما استحلوا من المحارم والمظالم والمأثم، وما
ساروا به في أمة محمد من تعطيل الأحكام وازدراء الحدود والاستئثار بالفيء، وارتكاب
القبيح، وانتقام الله منهم، وتسليط سيف الحق عليهم، ثم نزل.
ويقال إن أبا العباس
كتب إليه: خذ بثأرك من بني أمية، ففعل بهم ما فعل، ووجه فنبش قبور بني أمية،
فأخرجهم وأحرقهم بالنار، فما ترك منهم أحداً، ولما صار إلى رصافة أخرج هشام بن عبد
الملك، ووجده في مغارة على سريره، قد طلى بماء يبقيه، فأخرجه، فضرب وجهه بالعمود،
وأقامه بين العقابين فضربه مائة وعشرين سوطا، وهو يتناثر، ثم جمعه فحرقه بالنار.
وقال عبد الله عند ذلك: إن أبي، يعني علي بن عبد الله، كان يصلي يوماً، وعليه إزار
ورداء، فسقط الرداء عنه، فرأيت في ظهره آثار السياط، فلما فرغ من صلاته قلت: يا
أبة! جعلني الله فداءك، ما هذا؟ فقال: إن الأحول، يعني هشاماً، أخذني ظلماً،
فضربني ستين سوطاً، فعاهدت الله إن ظفرت به أن أضربه بكل سوط سوطين.
وخرج حبيب بن مرة
المري بالحوران فبيض ونصب رجلاً من بني أمية فزحف إليه عبد الله بن علي فقتله وفرق
جمعه.
وكان عامل مروان على
إفريقية عبد الرحمن بن حبيب العقبي فقدمها سنة 127 ولم يزل مقيماً بها حتى قتل
مروان فلما علم أهل إفريقية بقتل مروان وثبت عليه جماعة من أهل البلد منهم عقبة بن
الوليد الصدفي من ناحية... وتفرقت بنو أمية بعد قتل مروان فخلف منهم بإفريقية
جماعة فصاروا إلى عبد الرحمن بن حبيب فأقام عبد الرحمن على محاربة أصحاب أبي
العباس فوثب به أخوه إلياس بن حبيب فدعا إلى بني العباس فبايعه الناس وأخذ من صار
إلى إفريقية من بني أمية فحبسهم وكتب بخبرهم إلى أبي العباس.
ووثب أهل الموصل على
عاملهم فانتهبوه وأخرجوه فولى أبو العباس أخاه يحيى بن محمد بن علي الموصل وضم
إليه أربعة آلاف رجل من أهل خراسان فقدمها في سنة 133 فقتل من أهلها خلقا عظيما وقيل إنه اعترض الناس في يوم جمعة فقتل
ثمانية عشر ألف إنسان من صليب العرب ثم قتل عبيدهم ومواليهم حتى أفناهم فجرت
دماؤهم فغيرت ماء دجلة فلم يعرف لأهل الموصل وثوب إلى هذه الغاية.
وولي أبو العباس محمد
بن صول أرمينية فسار إليها في خلق عظيم ومسافر بن كثير متغلب على البلد وكان خليفة
إسحاق بن مسلم العقيلي عامل مروان فحاربه محمد بن صول حتى قتله واستولى على
أرمينية وصد أهل البيلقان إلى قلعة الكلاب وأسلموا المدينة ورئيسها يومئذ ورد بن
صفوان السامي من ولد سامة بن لؤي وجمعوا إليهم لفيفا من الصعاليك وغيرهم بقلعة
الكلاب فوجه إليهم محمد بن صول صالح بن صبيح الكندي فحاصرهم وقتل منهم خلقاً
عظيماً.
ووجه أبو العباس إلى
السند موسى بن كعب التميمي ومنصور بن جمهور متغلب عليها فنفذ موسى في عشرين ألف
مقاتل فصار إلى قندابيل فأقام بها حينا ثم كاتب موسى من كان مع منصور من أصحاب...
وكاتبهم قبائلهم وزحف موسى حتى أتى منصوراً فانهزم منه ومر في مفازة وأدركه فقتله.
وانتقل أبو العباس من
الحيرة فنزل الأنبار واتخذ بها مدينة سماها الهاشمية سنة 134 واشترى من الناس أشرية كثيرة بني فيها وأقطعها أهل بيته وقواده ثم رفع
إليه أهل تلك الأرضين والمنازل انهم لم يقبضوا أثمانها فقال: هذا بناء أسس على غير
تقوى وأمر فضربت مضاربه بظاهرها وبريها حتى استوفى القوم أثمان أرضهم ثم عاد إلى
قصره.
وولى أبو العباس أبا
جعفر أخاه الجزيرة والموصل والثغور وأرمينية وآذربيجان فخرج حتى صار إلى الرقة
واختط الرافقة على شط الفرات وهندسها له أدهم بن محرز فولى الحسن بن قحطبة الطائي
الجزيرة وولى يزيد بن أسيد السلمي أرمينية ثم عزله وولي الحسن بن قحطبة أرمينية
فلم يزل عليها أيام أبي العباس.
وكان سليمان بن هشام
بن عبد الملك قد استأمن إلى أبي العباس فقدم معه بابنين له فأكرمه أبو العباس وبره
وأجلسه وابنيه على النمارق والكراسي فكان أبو العباس يجلس بالعشيات ويأذن لخواصه
وأهل بيته فدخل عليه أبو الجهم ليلة وقد أذن لأهله وخواصه فقال له: إن أعرابيا
أقبل يوضع على ناقته حتى أناخها بالباب وعقلها ثم جاءني وقال: استأذن لي على أمير
المؤمنين فقلت: اذهب وضع عنك ثياب سفرك وعد علي سأستأذن عليه. فقال: إني آليت ألا
أضع عني ثوبا ولا أحل لثاما حتى أنظر إلى وجهه. قال: فهل أنبأك من هو قال: نعم زعم
أنه سديف مولاك فقال: سديف ايذن له فدخل أعرابي كأنه محجن فوقف فسلم عليه بأمره
المؤمنين ثم تقدم فقبل بين يديه ورجليه ثم تأخر فوقف مثله ثم اندفع فقال:
أصبح الملك ثابت
الأساس ... بالبهاليل من بني العباس
يا أمير المطهرين من
الرج ... س ويا رأس منتهى كل رأس
أنت مهدي هاشم وهداها
... كم أناس رجوك بعد إياس
لا تقيلن عبد شمس
عثاراً ... واقطعن كل رقلة وغراس
أفنها أيها الخليفة
وأحسم ... عنك بالسيف شافه الأرجاس
أنزلوها بحيث أنزلها
الل ... ه بدار الهوان والإتعاس
ولقد ساءني وساء
قبيلي ... قربهم من نمارق وكراسي
خوفهم أظهر التودد
منهم ... وبهم منكم كحز المواسي
واذكروا مصرع الحسين
وزيد ... وقتيلاً بجانب المهراس
والقتيل الذي بحران
أمسى ... رهن رمس في غربة وتناسي
نعم كلب الهراش مولاك
لو لا ... حله من حبائل الإفلاس
فقام سليمان بن هشام
فقال: يا أمير المؤمنين إن مولاك هذا يحرضك منذ مثل بين يديك على قتلي وقتل ابني
وقد تبينت والله أنك تريد أن تغتالنا. فقال: لو أردت ذلك ما كان يمنعني منكم على
غير غيلة فأما إذ سبق ذلك إلى قلبك فلا خير فيك. يا أبا الجهم. أخرجه وأخرج ابنيه
فاضرب أعناقهم وأتني برؤوسهم فخرج فضرب أعناقهم وأتاه برؤوسهم.
وقدم عبد الله بن
الحسن بن الحسن على أبي العباس ومعه أخوه الحسن ابن الحسن بن الحسن فأكرمه أبو
العباس وبره وآثره ووصله الصلات الكثيرة ثم بلغه عن محمد بن عبد الله أمر كرهه
فذكر ذلك لعبد الله بن الحسن فقال: يا أمير المؤمنين ما عليك من محمد شيء تكرهه
وقال له الحسن بن الحسن أخو عبد الله بن الحسن: يا أمير المؤمنين! أتتكلم بلسان الثقة والقرابة أم على جهة الرهبة
للملك والهيبة للخلافة فقال: بل بلسان القرابة. فقال: أرأيت يا أمير المؤمنين إن
كان الله قضى لمحمد أن يلي هذا الأمر ثم أجلبت وأهل السموات والأرض معك أكنت
دافعاً عنه قال: لا قال: فإن كان لم يقض ذلك لمحمد ثم أجلب محمد وأهل السموات
والأرض معه أيضرك محمد قال: لا والله ولا القول إلا ما قلت. قال:
فلم تنغص هذا الشيخ
نعمتك عليه ومعروفك عنده قال: لا تسمعني ذاكراً له بعد اليوم.
وبلغ أبا العباس أن
محمد بن عبد الله قد تحرك بالمدينة فكتب إلى عبد الله ابن الحسن في ذلك وكتب في
الكتاب:
أريد حباءه ويريد
قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
فكتب إليه عبد الله
بن الحسن:
وكيف يريد ذاك وأنت
منه ... بمنزلة النياط من الفؤاد
وكيف يريد ذاك وأنت
منه ... وزندك حين يقدح من زناد
وكيف يريد ذاك وأنت
منه ... وأنت لهاشم رأس وهاد
وطفئ أمر محمد في
خلافة أبي العباس فلم يظهر منه شيء وكان متى بلغ أبا العباس عنه شيء ذكر ذلك لعبد
الله فيقول: يا أمير المؤمنين! أنا نحميها بكل قذاة يخل ناظرك منها فيقول: بك أثق
وعلى الله أتوكل. وكان أبو العباس كريماً حليماً جواداً وصولاً لذوي أرحامه. حدثني
محمد بن علي بن سليمان النوفلي عن جده سليمان قال: دخلنا على أبي العباس جماعة من
بني هاشم فأدنانا حتى أجلسنا معه ثم قال: يا بني هاشم! احمدوا الله إذ جعلني فيكم
ولم يجعلني بخيلاً ولا حسوداً. واستأذن أبو مسلم في القدوم فأذن له فقدم من خراسان
في سنة 136 فلما حضر وقت الحج استأذنه فأذن له وحج معه أبو جعفر المنصور فلما خرجا
اشتدت بأبي العباس العلة فقيل له: صير ولاية عهدك إلى أبي جعفر فمات في علته بعد
نفوذه إلى الحج.
وكان الغالب عليه أبو
الجهم بن عطية الباهلي وكان له سمار وجلساء منهم: أبو بكر الهذلي وخالد بن صفوان
وعبد الله بن شبرمة وجبلة بن عبد الرحمن الكندي وكان على شرطته عبد الجبار بن عبد
الرحمن الأزدي وعلى حرسه أبو بكر بن أسد بن عبد الله الخزاعي وحاجبه أبو غسان
مولاه وكان قاضيه عبد الرحمن بن أبي ليلى وابن شبرمة.
ولما اشتدت علته قدم
عليه وفدان أحدهما من السند والآخر من إفريقية فلما بلغه قدومهما قال: أنا ميت بعد
ثلاث. قال عيسى بن علي فقلت: بل يطيل الله بقاءك فقال: حدثني أخي إبراهيم عن أبي
وأبيه عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده: أنه يقدم
علي في مدينتي هذه في يوم واحد وافدان: أحدهما وافد السند والآخر وافد أهل إفريقية
فلا يمضي بعد ذلك ثلاثة أيام حتى أغيب في لحدي ويورث الأمر بعدي. ثم نهض وقال: لا
ترم مكانك حتى أخرج إليك.
قال:
فلم أزل بمكاني حتى
سلم المؤذنون في وقت صلاة العصر بالخلافة فخرج إلى رسوله يأمرني بالصلاة بالناس
فدخلت فلم يخرج إلى أن سلم المؤذنون لوقت صلاة العشاء فخرج إلى رسوله يأمرني
بالصلاة بالناس ففعلت ذلك ثم أتيت مكاني إلى إدراك الليل فلما فرغت من قنوتي خرج
إلي ومعه كتاب معنون: من عبد الله ووليه إلى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم
والأولياء وجميع المسلمين ثم قال: يا عم إذا خرجت نفسي فسجني بثوبي واكتم موتي حتى
يقرأ هذا الكتاب على الناس فإذا قرئ فخذ ببيعة المسمى فيه فإذا بايع الناس فخذ في
أمري وجهزني وصل علي وادفني. فقلت: يا أمير المؤمنين فهل وجدت علة فقال: وأية علة
أقوى من الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما كذبت ولا كذبت ولا
كذبت خذ هذا الكتاب وامض راشداً.
واعتل من ليلته وتوفي
يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 136 وهو ابن ست وثلاثين سنة وقيل:
لم يبلغ تلك السن وذلك أنه ولد في سنة 105 في أيام يزيد بن عبد الملك بن مروان
وصلى عليه إسماعيل بن علي وقيل عيسى بن علي ودفن في الأنبار في قصره وكانت ولايته
أربع سنين وتسعة أشهر وخلف ابنا لم يكن بلغ وابنته ريطة امرأة المهدي التي حرمت
على جميع خلفاء بني هاشم إلا زوجها.
وأقام الحج للناس في
أيامه سنة 132 داود بن علي سنة 133 زياد بن عبيد الله الحارثي سنة 134 عيسى بن
موسى سنة 135 سليمان بن علي.
وغزا بالناس في أيامه
سنة 133 أقبل طاغية الروم وهو قسطنطين حتى أناخ على ملطية فحصرها فصولح عنها وزحف
إليه موسى بن كعب التميمي فلم يكن بينهما لقاء وكتب أبو العباس إلى عبد الله بن
علي يعلمه أن العدو قد كلب بالغفلة عنه وأمره أن ينفذ بالجيوش التي معه فيبث جيوشه
في نواحي الثغور وزحف حتى قطع الدرب ولم يزل يعبى حتى أتاه خبر وفاة أبي العباس
فانصرف.
وكان الفقهاء في
أيامه يحيى بن سعيد الأنصاري ابن أبي طوالة الأنصاري موسى بن عقبة عبد الرحمن بن
حرملة الأسلمي أبا حمزة الثمالي زيد بن أسلم أبا خازم القاضي هشام بن عروة بن
الزبير محمد بن... بن علقمة موسى بن عبيدة الربذي ابن أبي صعصعة ربيعة الرأي عبد
الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب محمد بن إسحاق بن يسار عبد الله بن
طاووس صدقة... يسار حميد بن قيس الأعرج عبد الله بن عثمان بن خثيم عثمان بن الأسود
عبد الملك بن جريج عبد الملك بن عمير الليثي أبا سار النسائي مجالد بن سعيد الأجلح
بن عبد الله الكندي منصور بن المعتمر السلمي مطرف بن طريف الحارثي جابر بن يزيد
الجعفي الحسن بن عمر الفقيمي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الحسن بن عمارة مسعر
بن كدام عبد الجبار بن عباس الهمداني زفر بن الهذيل إسحاق بن سويد العذري أبا بكر
بن نسر بن حرب يونس بن عبيد أبا المعتمر سليمان التيمي عمرو بن عبيد حميد الطويل
مولى خزاعة عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي سالم الأفطس عبد الكريم الحنفي.
أيام أبي جعفر
المنصورهو عبد الله بن محمد بن علي وأمه سلامة البربرية وبويع في اليوم الذي توفي
فيه أبو العباس وهو يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة ومن شهور العجم في
حزيران سنة 136. وكانت الشمس يومئذ في السرطان درجة وعشر دقائق والقمر في الجوزاء
سبع درجات وخمساً وأربعين دقيقة وزحل في الجدي ست عشرة درجة وخمسين دقيقة راجعا
والمشتري في الحمل سبعا وعشرين درجة والمريخ في العقرب تسع عشرة درجة وأربعين
دقيقة والزهرة في الثور خمس عشرة درجة وخمسين دقيقة وعطارد في السرطان إحدى عشرة
درجة والرأس في السرطان درجة وخمسين دقيقة.
وكان أبو جعفر حاجاً
فأخذ له عيسى بن علي البيعة على من حضر من الهاشميين والقواد بالأنبار ووافاه
الخبر بذلك في طريق مكة بعد وفاة أبي العباس بخمسة عشر يوماً فبايع أبو مسلم ومن
حضر من الهاشميين والقواد وكان الذي وافاه بالخبر محمد بن الحصين العبدي فقال: أي
موضع هذا؟ قالوا: موضع يقال له زكية. قال: أمر يزكى إن شاء الله وبويع بالصفية
فقال: أمر يصفو لنا أعداد السنين وحثوا النجاء.
وكان أبو العباس قبل
وفاته قد كتب إلى عبد الله بن علي في غزو الصائفة وأمره بقطع الدرب فلما توفي أبو
العباس كره عيسى بن علي ومن حضر من الأبناء أن يكتبوا إلى عبد الله بن علي فكتبوا
إلى صالح بن علي وهو بمصر يعرفونه الحادثة في أبي العباس وما كان عهد به أبو
العباس لأبي جعفر ومبايعتهم له واجتماعهم عليه وأمره أن يبايع ويصير إلى الشام
فيأخذ البيعة على عبد الله.
وبلغ عبد الله الخبر
وقيل: بعث عيسى بن علي ببيعة المنصور مع أبي غسان يزيد بن زياد حاجب أبي العباس
فلحقه وقد كان قطع الدرب إلى بلاد الروم فرجع حتى صار إلى دلوك من أرض جند قنسرين
فأحضر حميد بن قحطبة الطائي وجماعة من القواد الذين كانوا معه
فقال:
ما تشهدون أن أمير
المؤمنين أبا العباس قال: من خرج إلى مروان فهو ولي عهدي فشهدوا له بذلك. وبايعوا
وبايع أكثر أهل الشام له وكتب إلى عيسى بن علي وغيره يعلمهم مبايعة من قبله من
القواد وأهل الشام له بصحة عهد أبي العباس إليه وتوجه يريد العراق فلما صار إلى
حران وافى موسى ابن كعب عاملاً بها فعرفه شهادة من أشهد الله أن أبا العباس جعله
ولي عهده فلما تحصن بها حاصره أربعين يوماً ثم أعطاه الأمان على أن يخرج عنها
ويخلي بينه وبينها وتوجه يريد العراق.
فقدم أبو جعفر الكوفة
غرة المحرم فنزل الحيرة وصلى بالناس الجمعة ثم شخص إلى الأنبار إلى مدينة أبي
العباس فضم إليه أطرافه وخزائن أبي العباس وبلغه أمر عبد الله بن علي وتوجهه إلى
العراق فقال لأبي مسلم: ليس لعبد الله ابن علي غيري أو غيرك. فكره أبو مسلم ذلك
وقال: يا أمير المؤمنين! إن أمر عبد الله بالشام أقل وأذل وأمر خراسان أمر يجل
خطبه ثم انصرف أبو مسلم إلى منزله وقال لكاتبه: ما أنا وهذان الرجلان. ثم قال: ما
الرأي إلا أن أمضي إلى خراسان وأخلي بين هذين الكبشين فأيهما غلب وكتب إلينا كتبنا
إليه: سمعنا وأطعنا فرأى أنا قد أنعمنا وعملنا له عملاً. فقال له كاتبه: أعيذك
بالله من أن تمكن أهل خراسان من الطعن عليك وأن يروا أنك نقضت أمراً بعد تأكيده.
فقال: ويحك إني نظرت
فيمن قتلت بالسيف صبراً سوى من قتل في المعارك فوجدتهم مائة ألف من الناس فلا قليل
من الله.
فلم يزل به كاتبه حتى
أجاب أبا جعفر إلى الخروج وعسكر في خلق عظيم ثم سار حتى صار إلى الجزيرة، فواقع
عبد الله بن علي عدة وقائع، وكان حميد بن قحطبة الغالب على أمر عبد الله بن علي،
ثم بلغه أن عبد الله يريد قتله، فاحتال حتى صار إلى أبي مسلم، فعظم ذلك على عبد الله
بن علي، وخاف أن يفعل بنظرائه من قواد خراسان الذين معه مثل ذلك.
قال السندي بن شاهك:
سمعت عبد الصمد بن علي يقول: إني عند عبد الله ابن علي إذ دخل حاجبه، وكان عبد
الصمد مع عبد الله بن علي، فقال: رسول أبي مجرم بالباب، فقال: إيذن له، فدخل رجل
كريه الوجه، قبيح المنظر، كثير الشعر، طويل اللسان، عظيم الخلق، كثير حشو الخفنان،
فسلم سلاماً عاماً، ثم قال: إن الأمير أبا مسلم يقول: علام تقاتلني، وأنت تعلم أنه
لا يقاتلك؟ وواقع أبو مسلم عبد الله بن علي بنصيبين، وفرق جمعه، فهرب عبد الله،
وأمر أبو مسلم ألا يعترضه أحد، فصار إلى البصرة إلى أخيه سليمان بن علي، وكان عامل
البصرة، فلم يزل مختفياً عنده.
وبعث أبو جعفر برسل
يحصون ما حصل في يد أبي مسلم من الخزائن والأموال، منهم: إسحاق بن مسلم العقيلي، ويقطين بن موسى، ومحمد بن عمرو النصيبي
التغلبي، فغضب أبو مسلم، وقال أؤتمن على الدماء، ولا أؤتمن على الأموال، وشتم
يقطين بن موسى، فقال يقطين لما رأى ما داخله عليه: امرأتي طالق ثلاثاً إن كان أمير
المؤمنين وجهني إليك إلا مهنئاً بالفتح، فاستخف بإسحاق بن مسلم، ومحمد بن عمرو،
وشتمهما، وتناول أبا جعفر بلسانه حتى ذكر أمه وقال: ويلي على ابن سلامة فانصرف
القوم إلى أبي جعفر فأخبروه الخبر فزاد ذلك فيما في قلبه عليه وولى هشام بن عمرو
العقيلي مكان أبي مسلم فانصرف أبو مسلم وأقبل يريد خراسان مغاضبا لأبي جعفر فمر
بالمدائن وأبو جعفر نازل برومية وبينه وبينه فرسخان فلم يلقه ونفذ لوجهه حتى جاز
حلوان فاتبعه أبو جعفر بعيسى بن موسى وجرير بن عبد الله البجلي ونفر معهما من
الشيعة فلحقوه فعظموا عليه الخطب وقالوا له: إن الأمر لم يبلغ حيث تظن فشاور مالك
بن الهيثم وكان خليفته وقال: ما ترى قال: أرى أن تصير إلى خراسان فتستعتب الرجل
منها وتكتب إليه منها سمعك وطاعتك فإذا فعلت ذلك لم يلحقك لوم وإلا فهو آخر عهدك
بالدنيا إن وقعت عينه عليك. فما زال رسل أبي جعفر حتى فتلوه عن رأيه وأقبل نحو
العراق فلما جاز عقبة حلوان قال لمالك بن الهيثم: ما الرأي قال: الرأي تركته وراء
العقبة. فقال: إني والله لا أقتل إلا بأرض الروم. وقدم على أبي جعفر وهو نازل
برومية في المضارب فقال له: كدت أن تنفذ قبل أن أفضي إليك بما أحتاج إليه. فمكث
يختلف إليه أياماً ثم أتاه يوماً وقد هيأ له أبو جعفر عثمان بن نهيك وكان على حرسه
في عدة وهم: شبيب بن واج وأبو حنيفة وتقدم إلى عثمان فقال: إذا علا صوتي وصفقت
بيدي فاقتلوا العبد.
ودخل أبو مسلم فاجلس
في الحجرة وقيل له: أمير المؤمنين على شغل. فجلس ملياً ثم أذن له وقيل له: انزع
سيفك! فقال: ولم قيل: وما عليك فلم يزالوا به حتى نزع سيفه ثم دخل وليس في البيت
إلا وسادة فجلس عليها ثم قال: يا أمير المؤمنين فعل بي ما لم يفعل بأحد أخذ سيفي
عن عاتقي قال: ومن فعل بك هذا قبحه الله فأقبل أبو مسلم يتكلم فقال له: يا ابن
اللخناء إنك لمستعظم غير العظيم ألست الكاتب إلى تبدأ باسمك على اسمي ألست الذي
كتبت إلى تخطب عمتي آمنة بنت علي وتزعم أنك من ولد سليط بن عبد الله ألست الفاعل
كذا والفاعل كذا وجعل يعد عليه أموراً فلما رأى أبو مسلم ما قد دخله قال: يا أمير
المؤمنين إن قدري أصغر من أن يدخلك كل ما أرى. فعلا صوت أبي جعفر وصفق بيديه فخرج
القوم فضربوه بأسيافهم فصاح: أوه ألا مغيث ألا ناصر وهم يضربونه حتى قتلوه فلما
قتل قال أبو جعفر:
اشرب بكأس كنت تسقى
بها ... أمر في فيك من العلقم
كنت حسبت الدين لا
يقتضي ... كذبت والله أبا مجرم
وكفن في مسح وصير في
جانب المضرب وقيل لأصحابه: اجتمعوا فإن أمير المؤمنين قد أمر أن ينثر عليكم
الدراهم ونثرت عليهم بدرة دراهم فلما أكبوا يلتقطونها طرح عليهم رأس أبي مسلم فلما
نظروا إليه أسقط ما في أيديهم وعرتهم ضعضعة وكان ذلك في شعبان سنة 137 وخرج قوم من
أصحاب أبي مسلم إلى خراسان فصاروا إلى سنباذ وسنباذ بنيسابور فلما بلغه قتل أبي
مسلم أظهر المعصية وخرج يطلب بدمه حتى اضطرب خراسان فوجه أبو جعفر جهور بن مرار
فلقي سنباذ فواقعه فقتله وفرق جمعه.
وبلغ أبا جعفر مكان
عبد الله بن علي عند سليمان بن علي وهو إذ ذاك عامل البصرة فوجه إلى سليمان فأنكر
أن يكون عنده ثم طلب الأمان فكتبه له أبو جعفر على نسخة وضعها ابن المقفع بأغلظ
العهود والمواثيق ألا يناله بمكروه وألا يحتال عليه في ذلك بحيلة وكان في الأمان:
فإن أنا فعلت أو دسست فالمسلمون براء من بيعتي وفي حل من الأيمان والعهود التي
أخذتها عليهم فلما وقف أبو جعفر على هذا قال: من كتبه؟ قيل: ابن المقفع فكان ذلك
سبباً لميتة ابن المقفع.
وقدم سليمان بن علي
من البصرة حتى أخذ الأمان وشخص من البصرة ومعه عيسى بن علي فظهر بهما عبد الله بن
علي فقدما به على أبي جعفر يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة 137
وهو بالحيرة فأقام في منزل عيسى بن علي وحبسه عند عيسى بن موسى وهو ولي عهد ثم
سأله عنه فأخبره أنه قد توفي فوجه إلى عيسى بن علي وإسماعيل وعبد الصمد ابني علي فأحضرهم
وجماعة من بني هاشم وقال لهم: إني كنت دفعت عبد الله بن علي إلى عيسى بن موسى
وأمرته أن يحتفظ به وأن يكرمه ويبره وقد سألته عنه فذكر أنه قد مات فأنكرت تستير
خبر موته عني وعنكم فقال القوم: يا أمير المؤمنين إن عيسى قتله ولو كان عبد الله
مات حتف أنفه ما ترك أن يعلمك ويعلمنا موته فجمع بينه وبينهم فطالبوه بدمه وقال
له: ايت على ما ذكرت من عبد الله ببينة عادلة وإلا أقدتك منه وأحضر الناس لذلك
فلما رأى عيسى تحقيق الأمر عليه قال: أؤخر إلى العشي فأخر فحضر بالعشي وحضر عبد
الله بن علي معه وقال: إنما أردت بما قلت الراحة من حراسته مخافة أن يناله شيء
فيقال لي مثل هذا وقد سلمته صحيحاً سوياً فقال أبو جعفر: بل أردت أن تعرف ما عندنا
فإذا احتملناك فعلت ذلك فأمر أبو جعفر فبنى له بيت في الدار وقال: يكون نصب عيني
ثم أجرى في أساس ذلك البيت الماء فسقط عليه فمات.
وأراد أبو جعفر أن يزيد
في المسجد الحرام وشكا الناس ضيقه وكتب إلى زياد بن عبيد الله الحارثي أن يشتري
المنازل التي تلي المسجد حتى يزيد فيه ضعفه فامتنع الناس من البيع فذكر ذلك لجعفر
بن محمد فقال: سلهم أهم نزلوا على البيت أم البيت نزل عليهم؟ فكتب بذلك إلى زياد
فقال لهم زياد بن عبيد الله ذلك فقالوا: نزلنا عليه فقال جعفر بن محمد: فإن للبيت
فناءه فكتب أبو جعفر إلى زياد بهدم المنازل التي تليه فهدمت المنازل وأدخلت عامة
دار الندوة فيه حتى زاد فيه ضعفه وكانت الزيادة مما يلي دار الندوة وناحية باب بني
جمح ولم يكن مما يلي الصفا والوادي فكان البيت في جانبه وكان ابتداء الأمر به في
سنة 138 وفرغ سنة 140.
وبنى مسجد الخيف بمنى
وصيره على ما هو عليه من السعة ولم يكن بها قبل ذلك وحج أبو جعفر سنة 140 لينظر ما
زيد في المسجد الحرام وقد كان بلغه أن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن تحرك فلما
قدم المدينة طلبه فلم يظفر به فأخذ عبد الله بن حسن بن حسن وجماعة من أهل بيته
فأوثقهم في الحديد وحملهم على الإبل بغير وطاء وقال لعبد الله: دلني على ابنك وإلا
والله قتلتك فقال عبد الله: والله لامتحنت بأشد مما امتحن الله به خليله إبراهيم وإن بليتي لأعظم
من بليته لأن الله عز وجل أمره أن يذبح ابنه وكان ذلك لله عز وجل طاعة فقال:
إن هذا لهو البلاء
العظيم وأنت تريد مني أن أدلك على ابني لتقتله وقتله لله سخط.
وقال أبو جعفر: يا
ابن اللخناء فقال: وإنك لتقول هذا؟ ليت شعري أي الفواطم لخنت يا ابن سلامة؟ أ
فاطمة بنت الحسين أم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جدتي فاطمة بنت
أسد بن هاشم جدة أبي أم فاطمة ابنة عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم جدة جدتي؟ قال:
ولا واحدة من هؤلاء وحمله.
وانصرف أبو جعفر على
طريق الشام فأتى بيت المقدس ثم صار إلى الجزيرة فنزل خارج الرقة وقد كان منصور بن
جعونة الكلابي وثب بها فأسر فأحضره فضرب عنقه ثم صار إلى الحيرة فحبس عبد الله بن
حسن بن حسن وأهل بيته فلم يزالوا في الحبس حتى ماتوا وقد قيل: إنهم وجدوا مسمرين
في الحيطان.
وحدثني أبو عمرو عبد
الرحمن بن السكن عن رجل من آل عبد الله: أن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن كتب
إلى أبيه لما بلغه شدة ما يلقى من الحبس يستأذنه أن يظهر حتى يضع يده في أيديهم
فأرسل إليه عبد الله: إن ظهورك يا بني يقتلك ولا يحييني فأقم بمكانك حتى يرتاح
الله بفرج وأخذ أبو جعفر في بناء الرافقة وكان ابتداؤها في أيام أبي العباس وقال:
أما أنا فلست أنزلها فقيل له: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: كان أبي صار إلى هشام وهو بالرصافة
فجفاه وناله منه ما يكره ثم انصرف وأنا وأخي معه فلما صار إلى هذا الموضع قال لي
ولأخي: أما إنه سيبني أحدكما في هذا الموضع مدينة فقلت له: ثم ما ذا؟ فقال: لا
ينزلها لكن ينزلها ابنه وأنا أعلم أني لا أنزلها ولكن ينزلها ابني محمد يعني
المهدي.
وولي أبو جعفر عبد
الجبار بن عبد الرحمن الأزدي خراسان فاستخلف على الشرطة أخاه عمر بن عبد الرحمن
وقتل المغيرة بن سليمان ومجاشع بن حريث وقصد لشيعة بني هاشم فقتل منهم مقتلة عظيمة
وجعل يتبعهم ويمثل بهم فكتب إليه أبو جعفر يحلف له ليقتلنه فخلع سنة 141 فوجه إليه
أبو جعفر بالمهدي فصار المهدي إلى الري واستعمل على خراسان أسيد بن عبد الله
الخزاعي ووجه معه بالجيوش فلقي عبد الجبار بمرو فهزم عسكره وهرب عبد الجبار فاتبعه
فأسره وبعث به إلى أبي جعفر فوافاه وهو بقصر ابن هبيرة من بغداد على مرحلة فقال له
عبد الجبار لما وافاه: يا أمير المؤمنين قتله كريمة فقال: تركتها وراءك يا ابن
اللخناء وقدمه فضرب عنقه وصلبه فأقام على الخشبة أياماً ثم جاء أخوه عبيد الله بن
عبد الرحمن ليلاً فأنزله ودفنه فبلغ أبا جعفر ذلك فقال: دعوه إلى النار.
وولى أبو جعفر
أرمينية يزيد بن أسيد السلمي وولى آذربيجان يزيد ابن حاتم المهلبي فنقل اليمانية
من البصرة إليها وكان أول من نقلهم وأنزل الرواد بن المثنى الأزدي تبريز إلى البذ
وأنزل مر بن على الطائي نريز... الهمداني الميانج وفرق قبائل اليمن فلم يكن
باذربيجان من نزار أحد إلا الصفر بن الليث العتبي وابن عمه البعيث بن حلبس.
وتحركت الخزر بناحية
أرمينية ووثبوا بيزيد بن أسيد السلمي فكتب إلى أبي جعفر يعلمه أن رأس طرخان ملك
الخزر قد أقبل إليه في خلق عظيم وأن خليفته قد انهزم فوجه إليه أبو جعفر جبريل بن
يحيى البجلي في عشرين ألفاً من أهل الشام وأهل الجزيرة وأهل الموصل فواقع الخزر
فقتل خلق من المسلمين وانهزم جبريل ويزيد بن أسيد حتى أتيا خرس فلما انتهى الخبر
إلى أبي جعفر بما نال وظهور الخزر ودخولهم بلاد الإسلام أخرج سبعة آلاف من أهل
السجون وبعث فجمع من كل بلد خلقاً عظيماً ووجه بهم وبفعله وبنائين فبنى مدينة كمخ
ومدينة المحمدية ومدينة باب واق وعدة مدن جعلها ردا للمسلمين وأنزلها المقاتلة
فردوا الحرب فحاربهم قومهم وقوي المسلمون بتلك المدن وأقام بالبلد ساكناً.
ثم تحركت الصنارية
بأرمينية فوجه أبو جعفر الحسن بن قحطبة عاملاً على أرمينية فحاربهم فلم يكن له بهم
قوة فكتب إلى أبي جعفر بخبرهم وكثرتهم فوجه إليه عامر بن إسماعيل الحارثي في عشرين
ألفاً فلقي الصنارية فقاتلهم قتالاً شديداً وأقام أياماً يحاربهم ثم رزقهم الله
الظفر عليهم فقتل منهم في يوم واحد ستة عشر ألف إنسان ثم انصرف إلى تفليس فقتل من
كان معه من الأسرى ووجه في طلب الصنارية حيث كانوا ثم ولى أبو جعفر أرمينية واضحا
مولاه فلم يزل عليها وعلى آذربيجان خلافة أبي جعفر كلها ووثب أهل طبرستان وأظهروا
الخلع والمعصية وزحفوا في جيوش عظيمة فوجه إليهم المهدي خازم بن خزيمة التميمي
وروح بن حاتم المهلبي فهزموا جيوشهم وفتحت طبرستان سنة 142.
وخرج أبو جعفر في هذه
السنة إلى البصرة يريد الحج فلما صار بالجسر الكبير أتاه الخبر بأن أهل اليمن قد
أظهروا المعصية وأن عبد الله بن الربيع عامل اليمن قد هرب ممن وثب عليه وضعف عنهم
وأن عيينة بن موسى ابن كعب التميمي عامل السند قد عصى وأظهر الخلع فوجه بمعن بن
زائدة الشيباني إلى اليمن وعمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة إلى السند وانصرف أبو
جعفر من البصرة ولم يحج.
وقدم معن بن زائدة
اليمن فقتل من بها قتلاً فاحشاً وأقام بها تسع سنين وكان موسى بن كعب التميمي لما
انصرف عن بلاد السند خلف ابنه عيينة بن موسى فخالف عليه قوم ممن كان معه من ربيعة
واليمن فقتل عامتهم وأظهروا المعصية فوجه أبو جعفر عمر بن حفص هزارمرد إلى السند
فلم يسلم عيينة ومنعه من الدخول فأقام بالديبل وكان معه عقبة بن مسلم وحاربه عمر
بن حفص وكان أصحاب عيينة يستأمنون إلى عمر فطلب عيينة الصلح فصالحه وأخرجه مع رسله
وبعث به إلى المنصور.
وأقام عمر بن حفص
بالمنصورة ومضى عيينة مع رسله حتى إذا كان في بعض الطريق هرب من الرسل ومضى يريد
سجستان حتى دنا من الرخج فضربه قوم من اليمانية فقتلوه وذهبوا برأسه إلى المنصور.
وأقام عمر بن حفص
بالسند سنتين ثم عزله أبو جعفر وولى هشام بن عمرو التغلبي فصار إلى المنصورة فأقام
بها ووجه إلى ناحية الهند بجيش فغنموا وأصابوا رقيقا وقيل لهشام: إن المنصورة لا
تحملك والملتان بلاد واسعة ومنها معرى فسار إليها فاستخلف على المنصورة أخاه بسطام
بن عمرو فلما قرب من الملتان خرج صاحبها إليه في خلق ليرده والتقيا فكانت بينهما
وقعة عظيمة ثم انهزم صاحب الملتان وظفر هشام ونزل المدينة وسبى سبياً كثيراً ثم
عمل السفن وحملها على نهر السند حتى القندهار ففتحها وسبى وهدم البد وبنى موضعه
مسجداً ثم قدم إلى المنصور بما لم يقدم به أحد من السند فلم يقم بالعراق إلا
قليلاً حتى مات فولى المنصور معبد بن الخليل التميمي فكان محموداً في البلد.
وصار أبو جعفر إلى
بغداد سنة 144 فقال: ما رأيت موضعا أصلح لبناء مدينة من هذا الموضع بين دجلة
والفرات وشريعة البصرة والأبلة وفارس وما والاها والموصل والجزيرة والشام ومصر
والمغرب ومدرجة الجبل وخراسان فاختط مدينته المعروفة بمدينة أبي جعفر في الجانب
الغربي من دجلة وجعل لها أربعة أبواب بابا سماه باب خراسان شرع على دجلة وبابا
سماه باب البصرة شرع على الصراة التي تأخذ من الفرات وتصل إلى دجلة وبابا سماه باب
الكوفة وبابا سماه باب الشام وعلى كل باب من هذه الأبواب مجالس وقباب مذهبة يصعد
إليها على الخيل وجعل عرض السور من سفل سبعين ذراعاً وضرب على سائر بغداد سوراً
وجد في البناء وأحضر المهندسين والبنائين والفعلة من كل بلد وأقطع مواليه وقواده
القطائع داخل المدينة فدروب المدينة تنسب إليهم وأخذهم بالبناء وأقطع آخرين على
أبواب المدينة وأقطع الجند أرباض المدينة وأقطع أهل بيته الأطراف وأقطع ابنه
المهدي وجماعة من أهل بيته ومواليه وقواده.
وشخص المهدي من
خراسان منصرفاً إلى العراق في هذه السنة وهي سنة 144 فخرج أبو جعفر لاستقباله
بنهاوند وقدم فصار إلى الكوفة فنزل الحيرة والمدينة التي بناها المنصور وسماها
الهاشمية فأقام المهدي أياماً ثم ابتنى بريطة بنت أبي العباس بالحيرة.
وبلغ المنصور أن محمد
بن عبد الله بن حسن بن حسن قد تحرك بالمدينة فكاتبه أهل البلدان فخرج حاجا ولم
يدخل المدينة في منصرفه وصار إلى الربذة فأتي بجماعة من العلويين ومعهم محمد بن
عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو أخو عبد الله بن حسن لأمه فسألهم عن محمد بن عبد
الله بن حسن بن حسن فقالوا: ما نعلم له موضعا ولا نعرف له خبراً فقال لمحمد بن عبد
الله بن عمرو بن عثمان: أقطعتك ووصلتك وفعلت وفعلت ولم أؤاخذك بذنوب أهل بيتك ثم
تستميل على عدوي وتطوي أمره عني ثم أمر به فضرب ضرباً شديداً وطيف به بالربذة على
حمار وأشخص القوم جميعاً على أقتاب بغير وطاء.
وانصرف أبو جعفر من
حجه فصار إلى بغداد ونزل مدينته المعروفة بباب الذهب سنة 145 وكانت الأسواق داخل
المدينة فأخرجها إلى الكرخ ولم يقر أبو جعفر إلا أياماً حتى أتاه الخبر بخروج محمد
بن عبد الله بن حسن بن حسن وظهور أمره فرجع إلى الكوفة فأقام بقصر ابن هبيرة بين
الكوفة وبغداد أياماً وولي رياح بن عثمان بن حيان المري المدينة وقال: ما وجدت لهم
غيرك ولا أعلم لهم سواك فلما قدم رياح المدينة قام على المنبر فخطب خطبة له مشهورة
يقول فيها: يا أهل المدينة أنا الأفعى ابن الأفعى ابن عثمان بن حيان وابن عم مسلم
بن عقبة المبيد خضراكم المفني رجالكم والله لأدعها بلقعاً لا ينبح فيها كلب.
فوثب عليه قوم منهم
وكلموه وقالوا: والله يا ابن المجلود حدين لتكفن أو لنكفنك عن أنفسنا فكتب إلى أبي
جعفر يخبره بسوء طاعة أهل المدينة فأرسل أبو جعفر إلى رياح رسولاً وكتب معه كتاباً
إلى أهل المدينة يأمره أن يقرأه عليهم وكان في الكتاب: أما بعد يا أهل المدينة فإن
واليكم كتب إلي يذكر غشكم وخلافكم وسوء رأيكم واستمالتكم على بيعة أمير المؤمنين
وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنزعوا ليبدلنكم بعد امنكم خوفا وليقطعن البر
والبحر عنكم وليبعثن عليكم رجالاً غلاظ الأكباد بعاد الأرحام بنو قعر بيوتكم
يفعلون ما يؤمرون والسلام.
فصعد رياح المنبر
وقرأ الكتاب فلما بلغ: يذكر غشكم صاحوا من كل جانب: كذبت يا ابن المجلود حدين
ورموه بالحصى وبادر المقصورة فأغلقها فدخل دار مروان ودخل عليه أيوب بن سلمة بن
عبد الله بن الوليد المخزومي فقال: أصلح الله الأمير إنما يصنع هذا رعاع الناس
فاقطع أيديهم وأجلد ظهورهم فقال له بعض من حضر من بني هاشم: لا نرى هذا ولكن أرسل
إلى وجوه الناس وغيرهم من أهل المدينة فاقرأ عليهم كتاب المنصور فجمعهم وقرأ عليهم
كتاب المنصور فوثب حفص بن عمر بن عبد الله بن عوف الزهري وأبو عبيدة بن عبد الرحمن
بن الأزهر هذا من ناحية وهذا من ناحية فقالا لرياح: كذبت والله ما أمرتنا فعصيناك
ولا دعوتنا فخالفناك ثم قالا للرسول: أتبلغ أمير المؤمنين عنا قال: ما جئت إلا
لذلك قالا: فقل له: أما قولك إنك تبدل المدينة وأهلها بالأمن خوفاً فإن الله عز
وجل وعدنا غير هذا قال الله عز وجل: وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا
يشركون بي شيئاً فنحن نعبده لا نشرك به شيئاً.
وظهر محمد بن عبد
الله بن حسن بن حسن بالمدينة مستهل رجب سنة 145 فاجتمع معه خلق عظيم وأتته كتب أهل
البلدان ووفودهم فأخذ رياح ابن عثمان المري عامل أبي جعفر فأوثقه بالحديد وحبسه
وتوجه إبراهيم ابن عبد الله بن حسن بن حسن إلى ال