3 - تفسير الطبري سورة آل عمران
تفسير سورة آل عمران
بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ يَسِّر
أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد:
القول في تأويل قوله : الم ( 1 ) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن معنى قوله: « الم » فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وكذلك البيان عن قوله: « الله » .
وأما معنى قوله: « لا اله إلا هو » ، فإنه خبرٌ من الله جل وعز، أخبرَ عبادَه أن الألوهية خاصةٌ به دون ما سواه من الآلهة والأنداد، وأن العبادة لا تصلحُ ولا تجوز إلا له لانفراده بالربوبية، وتوحُّده بالألوهية، وأن كل ما دونه فملكه، وأنّ كل ما سواه فخلقه، لا شريك له في سلطانه ومُلكه احتجاجًا منه تعالى ذكره عليهم بأن ذلك إذْ كان كذلك، فغيرُ جائزة لهم عبادةُ غيره، ولا إشراك أحد معه في سلطانه، إذ كان كلّ معبود سواه فملكه، وكل معظَّم غيرُه فخلقهُ، وعلى المملوك إفرادُ الطاعة لمالكه، وصرفُ خدمته إلى مولاه ورازقه ومعرِّفًا مَنْ كان مِنْ خَلقه يَوم أنـزل ذلك إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتنـزيله ذلك إليه، وإرساله به إليهم على لسانه صلوات الله عليه وسلامه - مقيمًا على عبادة وثن أو صنم أو شمس أو قمر أو إنسي أو مَلَك أو غير ذلك من الأشياء التي كانت بنو آدم مقيمةً على عبادته وإلاهته - ومتَّخذَه دون مالكه وخالقه إلهًا وربًّا أنه مقيم على ضلالة، ومُنعدلٌ عن المحجة، وراكبٌ غير السبيل المستقيمة، بصرفه العبادة إلى غيره، ولا أحدَ له الألوهية غيره.
قال أبو جعفر: وقد ذُكر أن هذه السورة ابتدأ الله بتنـزيله فاتحتها بالذي ابتدأ به: من نفي « الألوهية » أن تكون لغيره، ووصفه نفسه بالذي وصَفها به في ابتدائها، احتجاجًا منه بذلك على طائفة من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نَجْرَان فحاجُّوه في عيسى صلوات الله عليه، وألحدوا في الله. فأنـزل الله عز وجل في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفًا وثمانين آية من أولها، احتجاجًا عليهم وعلى من كان على مثل مقالتهم، لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا المقام على ضلالتهم وكفرهم، فدعاهم إلى المباهلة، فأبوا ذلك، وسألوا قَبول الجزية منهم، فقبلها صلى الله عليه وسلم منهم، وانصرفوا إلى بلادهم.
غير أن الأمر وإن كان كذلك، وإياهم قصد بالحِجاج، فإن من كان معناه من سائر الخلق معناهم في الكفر بالله، واتخاذ ما سوى الله ربًّا وإلهًا ومعبودًا، معمومون بالحجة التي حجّ الله تبارك وتعالى بها من نـزلت هذه الآيات فيه، ومحجوجون في الفُرْقان الذي فَرَق به لرسوله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم.
ذكر الرواية عمن ذكرنا قوله في نـزول افتتاح هذه السورة أنه نـزل في الذين وصفنا صفتهم من النصارى:-
حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران: ستون راكبًا، فيهم أربعة عشرَ رجلا من أشرافهم، في الأربعة عشر ثلاثةٌ نفر إليهم يؤول أمرُهم: « العاقب » أميرُ القوم وذو رأيهم وصاحبُ مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمهُ « عبد المسيح » و « السيد » ثِمالهم وصاحب رَحْلهم ومجتمعهم، واسمه « الأيهم » وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، أسقفُّهم وحَبْرهم وإمامهم وصاحبُ مِدْرَاسهم. وكان أبو حارثة قد شرُف فيهم ودَرَس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه وموّلوه وأخدَموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم. قال ابن إسحاق قال، محمد بن جعفر بن الزبير: قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر، عليهم ثيابُ الحِبَرَات جُبب وأرْدية، في [ جمال رِجال ] بَلْحارث بن كعب قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم! وقد حانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:دعوهم! فصلوا إلى المشرق.
قال: وكانت تسمية الأربعة عشر منهم الذين يؤول إليهم أمرهم: « العاقب » ، وهو « عبد المسيح » ، والسيد، وهو « الأيهم » ، و « أبو حارثة بن علقمة » أخو بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، ونُبيه، وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله. ويُحَنَّس: في ستين راكبًا. فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم: « أبو حارثة بن علقمة » ، و « العاقب » ، عبد المسيح، و « الأيهم » السيد، وهم من النصرانية على دين الملك، مع اختلاف من أمرهم. يقولون: « هو الله » ، ويقولون: « هو ولد الله » ، ويقولون: « هو ثالث ثلاثة » ، وكذلك قول النصرانية.
فهم يحتجون في قولهم: « هو الله » ، بأنه كان يُحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا، وذلك كله بإذن الله، ليجعله آية للناس.
ويحتجون في قولهم: « إنه ولد الله » ، أنهم يقولون: « لم يكن له أب يُعلم، وقد تكلم في المهد، شيءٌ لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله » .
ويحتجون في قولهم: « إنه ثالث ثلاثة » ، بقول الله عز وجل: « فعلنا، وأمَرنا، وخلقنا، وقضينا » . فيقولون: « لو كان واحدًا ما قال: إلا » فعلت، وأمرتُ وقضيتُ، وخلقت « ، ولكنه هو وعيسى ومريم » .
ففي كل ذلك من قولهم قد نـزل القرآن، وذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه قولهم.
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما! قالا قد أسلمنا. قال: إنكما لم تسلما، فأسلما! قالا بَلى قد أسلمنا قَبلك! قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله عز وجل ولدًا، وعبادتكما الصليبَ، وأكلكما الخنـزير. قالا فمنْ أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما، فأنـزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله، صدرَ « سورة آل عمران » إلى بضع وثمانين آية منها. فقال: « الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ » ، فافتتح السورة بتبرئته نفسَه تبارك وتعالى مما قالوا، وتوحيده إياها بالخلق والأمر، لا شريك له فيه رَدًّا عليهم ما ابتدعوا من الكفر، وجعلوا معه من الأنداد واحتجاجًا عليهم بقولهم في صاحبهم، ليعرّفهم بذلك ضلالتهم، فقال: « اللهُ لا إله إلا هو » ، أي: ليس معه شريك في أمره.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ » ، قال: إنّ النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله الكذبَ والبهتانَ، لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولدٌ إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن ربَّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن ربنا قَيِّمٌ على كل شيء يكلأهُ ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى! قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا؟ قالوا: لا! قال: أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى! قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم؟ قالوا: لا! قال: فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون ذلك؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدِث الحدَث؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّي كما يغذّى الصبيّ، ثم كان يَطعم الطعام، ويشرب الشرابَ ويُحدث الحدَث؟ قالوا بلى! قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ قال: فعرفوا، ثم أبوا إلا جحودًا، فأنـزل الله عز وجل: « الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ » .
القول في تأويل قوله : الْحَيُّ الْقَيُّومُ ( 2 )
قال أبو جعفر: اختلفت القرَأةُ في ذلك.
فقرأته قرأة الأمصار ( الْحَيُّ الْقَيُّوم ) .
وقرأ ذلك عمر بن الخطاب وابن مسعود فيما ذكر عنهما: ( الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) .
وذكر عن علقمة بن قيس أنه كان يقرأ: ( الْحَيُّ الْقَيِّمُ ) .
حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي قال، حدثنا الأعمشُ، عن إبراهيم، عن أبي معمر قال، سمعت علقمة يقرأ: « الحيّ القيِّم » .
قلتُ: أنت سمعته؟ قال: لا أدري.
حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة مثله.
وقد روى عن علقمة خلاف ذلك، وهو ما:-
حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا شيبان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة أنه قرأ: « الحيّ القيَّام » .
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك، ما جاءت به قَرَأة المسلمين نقلا مستفيضًا، عن غير تشاعُر ولا تواطؤ، وراثةً، وما كان مثبتًا في مصاحفهم، وذلك قراءة من قرأ، « الحي القيُّومُ » .
القول في تأويل قوله : الْحَيُّ
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: « الحيّ » .
فقال بعضهم: معنى ذلك من الله تعالى ذكره: أنه وصف نفسه بالبقاء، ونفى الموتَ - الذي يجوز على من سواه من خلقه - عنها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « الحي » ، الذي لا يموت، وقد مات عيسى وصُلب في قولهم يعني في قول الأحْبار الذين حاجُّوا رَسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى أهل نجران.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « الحي » ، قال: يقول: حي لا يموتُ.
وقال آخرون: معنى « الحي » ، الذي عناه الله عز وجل في هذه الآية، ووصف به نفسه: أنه المتيسِّر له تدبير كل ما أراد وشاء، لا يمتنع عليه شيء أراده، وأنه ليس كمن لا تدبير له من الآلهة والأنداد.
وقال آخرون: معنى ذلك: أن له الحياةَ الدائمة التي لم تَزَل له صفةً، ولا تزال كذلك. وقالوا، إنما وصف نفسه بالحياة، لأن له حياة كما وصفها بالعلم، لأن لها علمًا وبالقدرة، لأن لها قدرةٌ.
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك عندي: أنه وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناءَ لها ولا انقطاع، ونفى عنها ما هو حالٌّ بكل ذي حياة من خلقه من الفناء وانقطاع الحياة عند مجيء أجله. فأخبر عبادَه أنه المستوجب على خلقه العبادة والألوهة، والحي الذي لا يموت ولا يبيد، كما يموت كل من اتخذ من دونه ربًّا، ويبيد كلُّ من ادعى من دونه إلهًا. واحتج على خلقه بأن من كان يبيد فيزول ويموت فيفنى، فلا يكون إلهًا يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبيد ولا يموت وأنّ الإله، هو الدائم الذي لا يموت ولا يبيد ولا يفنى، وذلك الله الذي لا إله إلا هو.
القول في تأويل قوله : الْقَيُّومُ
قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف القرأة في ذلك، والذي نختار منه، وما العلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك.
فأما تأويل جميع الوجوه التي ذكرنا أنّ القرَأة قرأت بها، فمتقارب. ومعنى ذلك كله: القيّم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحبّ من تغيير وتبديل وزيادة ونقص، كما:-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: « الْحَيُّ الْقَيُّومُ » ، قال: القائم على كل شيء.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « القيوم » ، قيِّم على كل شيء يكلأه ويحفظه ويرزقه.
وقال آخرون: « معنى ذلك: القيام على مكانه » . ووجَّهوه إلى القيام الدائم الذي لا زوالَ معه ولا انتقال، وأنّ الله عز وجل إنما نفى عن نفسه بوَصفها بذلك، التغيُّرَ والتنقلَ من مكان إلى مكان، وحدوثَ التبدّل الذي يحدث في الآدميين وسائر خلقه غيرهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « القيوم » ، القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول، وقد زال عيسى في قولهم يعني في قول الأحْبار الذين حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجران في عيسى عن مكانه الذي كان به، وذهب عنه إلى غيره.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد والربيع، وأنّ ذلك وصفٌ من الله تعالى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء، في رزقه والدفع عنه، وكلاءَته وتدبيره وصرفه في قدرته من قول العرب: « فلان قائم بأمر هذه البلدة » ، يعنى بذلك: المتولي تدبيرَ أمرها.
فـ « القيوم » إذ كان ذلك معناه « الفيعول » من قول القائل: « الله يقوم بأمر خلقه » . وأصله « القيووم » ، غير أن « الواو » الأولى من « القيووم » لما سبقتها « ياء » ساكنة وهي متحركة، قلبت « ياء » ، فجعلت هي و « الياء » التي قبلها « ياء » مشدّدة. لأن العرب كذلك تفعل بـ « الواو » المتحركة إذا تقدمتها « ياء » ساكنة.
وأما « القيَّام » ، فإن أصله « القيوام » ، وهو « الفيعال » من « قام يقوم » ، سبقت « الواو » المتحركة من « قيوام » « ياء » ساكنة، فجعلتا جميعًا « ياء » مشدّدة.
ولو أن « القيوم » « فَعُّول » ، كان « القوُّوم » ، ولكنه « الفيعول » . وكذلك « القيّام » ، لو كان « الفعَّال » ، لكان « القوَّام » ، كما قيل: « الصوّام والقوّام » ، وكما قال جل ثناؤه: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [ سورة المائدة: 8 ] ، ولكنه « الفيعال » ، فقيل: « القيام » .
وأما « القيِّم » ، فهو « الفيعل » من « قام يقوم » ، سبقت « الواو » المتحركة « ياء » ساكنة، فجعلتا « ياء » مشددة، كما قيل: « فلان سيدُ قومه » من « ساد يسود » ، و « هذا طعام جيد » من « جاد يجود » ، وما أشبه ذلك.
وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ، لأنه قصد به قصدَ المبالغة في المدح، فكان « القيوم » و « القيّام » و « القيم » أبلغ في المدح من « القائم » ، وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته، إن شاء الله، « القيام » ، لأنّ ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من « الياء » « الواو » ، فيقولون للرجل الصوّاغ: « الصيّاغ » ، ويقولون للرجل الكثير الدّوران: « الدَّيار » . وقد قيل إن قول الله جل ثناؤه: لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [ سورة نوح: 26 ] إنما هو « دوّار » ، « فعَّالا » من « دار يَدُور » ، ولكنها نـزلت بلغة أهل الحجاز، وأقِرّت كذلك في المصحف.
القول في تأويل قوله : نَـزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: يا محمد، إنّ ربك وربَّ عيسى وربَّ كل شيء، هو الرّبّ الذي أنـزل عليك الكتاب يعني بـ « الكتاب » ، القرآن « بالحق » يعني: بالصّدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل، وفيما خالفك فيه محاجُّوك من نصارى أهل نجران وسائر أهل الشرك غيرهم « مُصَدّقًا لما بين يديه » ، يعني بذلك القرآن، أنه مصدّق لما كان قبله من كتب الله التي أنـزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رُسل الله من عنده. لأن منـزل جميع ذلك واحد، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « مصدقًا لما بين يديه » . قال: لما قبله من كتاب أو رسول.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « مصدقًا لما بين يديه » ، لما قبله من كتاب أو رسول.
حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنى محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « نـزل عليك الكتاب بالحق » ، أي بالصدق فيما اختلفوا فيه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « نـزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه » ، يقول: القرآن، « مصدّقًا لما بين يديه » من الكتب التي قد خلت قبله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « نـزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه » ، يقول: مصدّقًا لما قبله من كتاب ورسول.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ( 3 ) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « وَأَنْـزَلَ التَّوْرَاةَ » ، على موسى « وَالإِنْجِيلَ » على عيسى « من قبل » ، يقول: من قبل الكتاب الذي نـزله عليك ويعني بقوله: « هُدًى للناس » ، بيانًا للناس من الله فيما اختلفوا فيه من توحيد الله وتصديق رسله، ونَعْتِيك يا محمد بأنك نبيّى ورسولى، وفي غير ذلك من شرائع دين الله، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وَأَنْـزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ » ، هما كتابان أنـزلهما الله، فيهما بيانٌ من الله، وعصمةٌ لمن أخذ به وصدّق به، وعمل بما فيه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « وَأَنْـزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ » ، التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، كما أنـزل الكتب على من كان قبله.
القول في تأويل قوله : وَأَنْـزَلَ الْفُرْقَانَ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأنـزل الفصْل بين الحق والباطل فيما اختلفت فيه الأحزابُ وأهلُ الملل في أمر عيسى وغيره.
وقد بينا فيما مضى أنّ « الفرْقان » ، إنما هو « الفعلان » من قولهم: « فرق الله بين الحق والباطل » ، فصل بينهما بنصره الحقَّ على الباطل، إما بالحجة البالغة، وإما بالقهر والغلبة بالأيدِ والقوة.
وبما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل، غير أنّ بعضهم وجّه تأويله إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى وبعضهم: إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع.
ذكر من قال: معناه: « الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى والأحزاب » :
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « وأنـزل الفرقان » ، أي: الفصلَ بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره.
ذكر من قال: معنى ذلك: « الفصل بين الحق والباطل في الأحكام وشرائع الإسلام » :
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وأنـزل الفرقان » ، هو القرآن، أنـزله على محمد، وفرق به بين الحق والباطل، فأحلّ فيه حلاله وحرّم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وحدّ فيه حدوده، وفرض فيه فرائضَه، وبين فيه بيانه، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته.
حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « وأنـزل الفرقان » ، قال: الفرقان، القرآن، فرق بين الحق والباطل.
قال أبو جعفر: والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع وأن يكون معنى « الفرقان » في هذا الموضع: فصل الله بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والذين حاجُّوه في أمر عيسى، وفي غير ذلك من أموره، بالحجة البالغة القاطعة عذرَهم وعذرَ نُظرائهم من أهل الكفر بالله.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأن إخبارَ الله عن تنـزيله القرآنَ - قبل إخباره عن تنـزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية - قد مضى بقوله: نَـزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ . ولا شك أن ذلك « الكتاب » ، هو القرآن لا غيره، فلا وجه لتكريره مرة أخرى، إذ لا فائدة في تكريره، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداءً.
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( 4 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على توحيده وألوهته، وأن عيسى عبدٌ له، واتخذوا المسيح إلهًا وربًّا، أو ادَّعوه لله ولدًا، لهم عذاب من الله شديدٌ يوم القيامة.
و « الذين كفروا » ، هم الذين جحدوا آيات الله و « آيات الله » ، أعلامُ الله وأدلته وحججه.
وهذا القول من الله عز وجل ينبئ عن معنى قوله: وَأَنْـزَلَ الْفُرْقَانَ أنه معنِيٌّ به الفصل الذي هو حجة لأهل الحق على أهل الباطل. لأنه عقب ذلك بقوله: « إن الذين كفروا بآيات الله » ، يعني: إن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقانَ الذي أنـزله فرقًا بين المحق والمبطل « لهم عذاب شديدٌ » ، وعيدٌ من الله لمن عاند الحقّ بعد وضوحه له، وخالف سبيلَ الهدى بعد قيام الحجة عليه ثم أخبرهم أنه « عزيز » في سلطانه لا يمنعه مانع ممن أراد عذابه منهم، ولا يحول بينه وبينه حائل، ولا يستطيع أن يعانده فيه أحدٌ وأنه « ذو انتقام » ممنّ جحد حججه وأدلته بعد ثبوتها عليه، وبعد وضوحها له ومعرفته بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام » ، أي: إن الله منتقم ممن كفرَ بآياته بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء منه فيها.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، « إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام » ،
القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ( 5 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يخفى عليه شيء هو في الأرض ولا شيء هو في السماء. يقول: فيكف يخفى علىّ يا محمدُ - وأنا علامُ جميع الأشياء - ما يُضَاهى به هؤلاء الذين يجادلونك في آيات الله من نصارى نجران في عيسى ابن مريم، في مقالتهم التي يقولونها فيه؟ ! كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « إنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء » ، أي: قد علم ما يريدون وما يَكيدون وما يُضَاهون بقولهم في عيسى، إذ جعلوه ربًّا وإلهًا، وعندهم من علمه غيرُ ذلك، غِرّةً بالله وكفرًا به.
القول في تأويل قوله : هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الله الذي يصوّركم فيجعلكم صورًا أشباحًا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحب، فيجعل هذا ذكرًا وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر. يُعرّف عباده بذلك أنّ جميع من اشتملت عليه أرحامُ النساء، ممنّ صوره وخلقه كيف شاء وأنّ عيسى ابن مريم ممن صوّره في رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحبّ، وأنه لو كان إلهًا لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه، لأن خلاق ما في الأرحام لا تكون الأرحامُ عليه مشتملة، وإنما تشتمل على المخلوقين، كما:-
حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء » ، أي: قد كان عيسى ممن صُوّر في الأرحام، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صُوّر غيره من بني آدم، فكيفَ يكون إلهًا وقد كان بذلك المنـزل؟
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: « هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء » ، أي: أنه صوّر عيسى في الرحم كيف شاء.
قال آخرون في ذلك ما:-
حدثنا به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله: « هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء » ، قال: إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يومًا، ثم تكون عَلقةً أربعين يومًا، ثم تكون مُضْغة أربعين يومًا، فإذا بلغ أن يُخلق، بعث الله ملكًا يصوِّرها. فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه، فيخلطه في المضْغة، ثم يعجنه بها، ثم يصوّرها كما يؤمر، فيقول: أذكر أو أنثى؟ أشقي أو سعيد، وما رزقه؟ وما عمره؟ وما أثره؟ وما مصائبه؟ فيقول الله، ويكتب الملك. فإذا مات ذلك الجسدُ، دُفن حيث أخذ ذلك التراب.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء » ، قادرٌ والله ربُّنا أن يصوّر عبادَه في الأرحام كيف يشاء، من ذكر أو أنثى، أو أسود أو أحمر، تامّ خلقُه وغير تامّ.
القول في تأويل قوله : لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 6 )
قال أبو جعفر: وهذا القول تنـزيه من الله تعالى ذكره نفسَه أن يكون له في ربوبيته ندّ أو مِثل، أو أن تَجوز الألوهة لغيره وتكذيبٌ منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا، من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى، ولجميع من ادّعى مع الله معبودًا، أو أقرّ بربوبية غيره. ثم أخبر جل ثناؤه خلقه بصفته، وعيدًا منه لمن عبد غيره، أو أشرك في عبادته أحدًا سواه، فقال: « هو العزيز » الذي لا ينصر من أرادَ الانتقام منه أحدٌ، ولا ينجيه منه وَأْلٌ ولا لَجَأٌ، وذلك لعزته التي يذلُّ لها كل مخلوق، ويخضع لها كل موجود. ثم أعلمهم أنه « الحكيم » في تدبيره وإعذاره إلى خلقه، ومتابعة حججه عليهم، ليهلك من هلك منهم عن بيّنة، ويحيا من حيَّ عن بينة، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: ثم قال - يعني الرب عز وجل - : إنـزاهًا لنفسه، وتوحيدًا لها مما جعلوا معه: « لا إله إلا هو العزيز الحكيم » ، قال: العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء، والحكيم في عُذْره وحجته إلى عباده.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « لا إله إلا هو العزيز الحكيم » ، يقول: عزيز في نقمته، حكيمٌ في أمره.
القول في تأويل قوله : هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « هو الذي أنـزل عليك الكتاب » ، إن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنـزل عليك الكتاب يعني ب « الكتاب » ، القرآن.
وقد أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمى القرآن « كتابًا » بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله: « منه آيات محكمات » فإنه يعني: من الكتاب آيات. يعني ب « الآيات » آيات القرآن.
وأما « المحكمات » ، فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعِبر، وما أشبه ذلك.
ثم وصف جل ثناؤه: هؤلاء « الآيات المحكمات » ، بأنهن: « هُنّ أمّ الكتاب » . يعني بذلك: أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم.
وإنما سماهن « أمّ الكتاب » ، لأنهن معظم الكتاب، وموضع مَفزَع أهله عند الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب، تسمي الجامعَ معظم الشيء « أمًّا » له. فتسمى راية القوم التي تجمعهم في العساكر: « أمّهم » ، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة: « أمها » .
وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
ووحَّد « أمّ الكتاب » ، ولم يجمع فيقول: هن أمَّهات الكتاب، وقد قال: « هُنّ » لأنه أراد جميع الآيات المحكمات « أم الكتاب » ، لا أن كل آية منهن « أم الكتاب » . ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن « أم الكتاب » ، لكان لا شك قد قيل: « هن أمهات الكتاب » . ونظير قول الله عز وجل: « هن أمّ الكتاب » على التأويل الذي قلنا في توحيد « الأم » وهي خبر لـ « هُنّ » ، قوله تعالى ذكره: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [ سورة المؤمنون: 50 ] ولم يقل: آيتين، لأن معناه: وجعلنا جميعهما آية. إذ كان المعنى واحدًا فيما جُعلا فيه للخلق عبرة. ولو كان مرادًا الخبرُ عن كل واحد منهما على انفراده، بأنه جعل للخلق عبرة، لقيل: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين، لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة. وذلك أن مريم ولدت من غير رجل، ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيًّا، فكان في كل واحد منهما للناس آية.
وقد قال بعض نحويي البصرة: إنما قيل: « هن أم الكتاب » ، ولم يَقل: « هن أمهات الكتاب » على وجه الحكاية، كما يقول الرجل: « ما لي أنصار » ، فتقول: « أنا أنصارك » أو: « ما لي نظير » ، فتقول: « نحن نظيرك » . قال: وهو شبيهُ: « دَعنى من تَمرْتَان » ، وأنشد لرجل من فقعس:
تَعَــرَّضَتْ لِــي بِمَكَــانِ حَــلِّ تَعــرُّض المُهْــرَةِ فِــي الطِّـوَلِّ
تَعَرُّضًا لَمْ تَألُ عَنْ قَتْلا لِي
« حَلِّ » أي: يحلّ به. على الحكاية، لأنه كان منصوبًا قبل ذلك، كما يقول: « نوديَ: الصلاةَ الصلاةَ » ، يحكي قول القائل: « الصلاةَ الصلاةَ » .
وقال: قال بعضهم: إنما هي: « أنْ قتلا لي » ، ولكنه جعله « عينًا » ، لأن « أن » في لغته تجعل موضعها « عن » ، والنصبُ على الأمر، كأنك قلت: « ضربًا لزيد » .
قال أبو جعفر: وهذا قول لا معنى له. لأن كل هذه الشواهد التي استشهدَها، لا شك أنهن حكايات حاكيهنّ، بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن وأن معلومًا أن الله جل ثناؤه لم يحك عن أحد قوله: « أمّ الكتاب » ، فيجوز أن يقال: أخرج ذلك مُخرَج الحكاية عمن قال ذلك كذلك.
وأما قوله: « وأخَرُ » فإنها جمع « أخْرَى » .
ثم اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف « أخَر » .
فقال بعضهم: لم يصرف « أخر » من أجل أنها نعتٌ، واحدتها « أخرى » ، كما لم تصرف « جُمَع » و « كُتَع » ، لأنهن نعوتٌ.
وقال آخرون: إنما لم تصرف « الأخر » ، لزيادة الياء التي في واحدتها، وأنّ جمعها مبنيّ على واحدها في ترك الصرف. قالوا: وإنما ترك صرف « أخرى » ، كما ترك صرف « حمراء » و « بيضاء » ، في النكرة والمعرفة، لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو. ثم افترق جمع « حمراء » و « أخرى » ، فبنى جمع « أخرى » على واحدته فقيل: « فُعَلٌ » و « أخر » ، فترك صرفها كما ترك صرف « أخرى » وبنى جمع « حمراء » و « بيضاء » على خلاف واحدته فصرف، فقيل: « حمر » و « بيض » ، فلاختلاف حالتهما في الجمع، اختلفَ إعرابهما عندهم في الصرف. ولاتفاق حالتيهما في الواحدة، اتفقت حالتاهما فيها.
وأما قوله: « متشابهات » ، فإن معناه: متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى، كما قال جل ثناؤه: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [ سورة البقرة: 25 ] ، يعني في المنظر، مختلفًا في المطعم وكما قال مخبرًا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [ سورة البقرة: 70 ] ، يعنون بذلك: تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه.
فتأويل الكلام إذًا: إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنـزل عليك يا محمد القرآن، منه آيات محكمات بالبيان، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادُك وعماد أمتك في الدّين، وإليه مفزعُك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام وآيات أخر، هنّ متشابهاتٌ في التلاوة، مختلفات في المعاني.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخَر متشابهات » ، وما المحكم من آي الكتاب، وما المتشابه منه؟
فقال بعضهم: « المحكمات » من آي القرآن، المعمول بهن، وهنّ الناسخات أو المثبتاتُ الأحكامَ « والمتشابهات » من آية، المتروك العملُ بهنّ، المنسوخاتُ.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوّام، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله: « منه آيات محكمات » ، قال: هي الثلاث الآيات من ههنا: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [ سورة الأنعام: 151، 152 ] ، إلى ثلاث آيات، والتي في « بني إسرائيل » : وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ [ سورة الإسراء: 23- 39 ] ، إلى آخر الآيات.
حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب » ، المحكمات: ناسخه، وحلالُه، وحرَامه، وحدوده وفرائضُه، وما يؤمن به ويعمل به قال: « وأخر متشابهات » ، والمتشابهات: منسوخه، ومقدّمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يُعمل به.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: « هو الذي أنـزل عليك الكتاب » إلى « وأخر متشابهات » ، فالمحكمات التي هي أمّ الكتاب: الناسخ الذي يُدان به ويعمل به. والمتشابهات، هن المنسوخات التي لا يُدان بهنّ.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « هو الذي أنـزلَ عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب » إلى قوله: « كل من عندنا ربنا » ، أما « الآيات المحكمات » : فهن الناسخات التي يعمَل بهن وأما « المتشابهات » فهن المنسوخات.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب » ، و « المحكمات » : الناسخ الذي يعمل به، ما أحلّ الله فيه حلاله وحرّم فيه حرامه وأما « المتشابهات » : فالمنسوخ الذي لا يُعمل به ويُؤمن به.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « آيات محكمات » ، قال: المحكم ما يعمل به.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات » ، قال: « المحكمات » ، الناسخ الذي يعمل به و « المتشابهات » : المنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « آيات محكمات هن أم الكتاب » ، قال: الناسخات « وأخر متشابهات » ، قال: ما نُسخ وتُرك يُتلى.
حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قال: المحكم، ما لم ينسخ وما تشابه منه: ما نسخ.
حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « آيات محكمات هن أم الكتاب » ، قال: الناسخ « وأخر متشابهات » ، قال: المنسوخ.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يحدث قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « منه آيات محكمات » ، يعني الناسخ الذي يعمل به « وأخر متشابهات » ، يعنى المنسوح، يؤمن به ولا يعمل به.
حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك: « منه آيات محكمات » ، قال: ما لم ينسخ « وأخر متشابهات » ، قال: ما قد نسخ.
وقال آخرون: « المحكمات » من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيانَ حلاله وحرامه « والمتشابه » منها: ما أشبه بعضُه بعضًا في المعاني، وإن اختلفت ألفاظه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « منه آيات محكمات » ، ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو « متشابه » ، يصدّق بعضُه بعضًا وهو مثل قوله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ [ سورة البقرة: 26 ] ، ومثل قوله: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [ سورة الأنعام: 125 ] ، ومثل قوله: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [ سورة محمد: 17 ] .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون: « المحكمات » من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد « والمتشابه » منها: ما احتمل من التأويل أوجهًا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير: « هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات » ، فيهن حجة الربّ، وعصمةُ العباد، ودفع الخصُوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه « وأخَرُ متشابهات » ، في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العبادَ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يُصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحق.
وقال آخرون: معنى « المحكم » : ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقَصَص الأمم ورُسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصّله ببيان ذلك لمحمد وأمته « والمتشابه » ، هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، بقَصّه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبقصّه باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد وقرأ: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [ سورة هود: 1 ] ، قال: وذكر حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية منها: وحديثَ نوح في أربع وعشرين آية منها. ثم قال: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ [ سورة هود: 49 ] ، ثم ذكر وَإِلَى عَادٍ ، فقرأ حتى بلغ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثم مضى. ثم ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا وفرغ من ذلك. وهذا تبيين ذلك، تبيين أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ قال: والمتشابهُ ذكر موسى في أمكنة كثيرة، وهو متشابه، وهو كله معنى واحد. ومتشابه: فَاسْلُكْ فِيهَا احْمِلْ فِيهَا ، اسْلُكْ يَدَكَ وَأَدْخِلْ يَدَكَ ، حَيَّةٌ تَسْعَى ثُعْبَانٌ مُبِينٌ قال: ثم ذكر هودًا في عشر آيات منها، وصالحًا في ثماني آيات منها، وإبراهيم في ثماني آيات أخرى، ولوطًا في ثماني آيات منها، وشعيبًا في ثلاث عشرة آية، وموسى في أربع آيات، كلّ هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في هذه السورة، فانتهى ذلك إلى مئة آية من سورة هود، ثم قال: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [ سورة هود: 100 ] . وقال في المتشابه من القرآن: من يرد الله به البلاء والضلالة يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا؟ وما شأن هذا لا يكون هكذا؟
وقال آخرون: بل « المحكم » من آي القرآن: ما عرف العلماءُ تأويله، وفهموا معناه وتفسيره و « المتشابه » : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مَخْرج عيسى ابن مريم، ووقت طُلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناءِ الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحدٌ. وقالوا: إنما سمى الله من آي الكتاب « المتشابه » ، الحروف المقطّعة التي في أوائل بعض سور القرآن، من نحو الم و المص ، و المر ، و الر ، وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمَّل. وكان قومٌ من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طَمِعوا أن يدركوا من قِبَلها معرفة مدّة الإسلام وأهله، ويعلموا نهايةَ أُكْلِ محمد وأمته، فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أنّ ما ابتغوا علمه من ذلك من قِبَل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله.
قال أبو جعفر: وهذا قولٌ ذُكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب: أن هذه الآية نـزلت فيه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته، في تأويل ذلك في تفسير قوله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [ سورة البقرة: 1- 2 ]
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية. وذلك أن جميع ما أنـزل الله عز وجل من آي القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنما أنـزله عليه بيانًا له ولأمته وهدًى للعالمين، وغيرُ جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجةُ، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل. فإذْ كان ذلك كذلك، فكل ما فيه بخلقه إليه الحاجة، وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى [ وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة ] وذلكَ كقول الله عز وجل: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [ سورة الأنعام: 158 ] ، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عبادَه أنها إذا جاءت لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طُلوع الشمس من مغربها. فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك، هو العلم منهم بوقت نَفع التوبة بصفته، بغير تحديده بعدد السنين والشهور والأيام. فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مفسَّرًا. والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه، هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نـزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا. وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم. وذلك وما أشبهه، هو المعنى الذي طلبت اليهودُ معرفته في مدّة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله: الم و المص و الر و المر ونحو ذلك من الحروف المقطّعة المتشابهات، التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
فإذْ كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم. لأنه لن يخلو من أن يكون محكمًا بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغنى بسماعه عن بيان يُبينه أو يكون محكمًا، وإن كان ذا وُجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة. فالدلالة على المعنى المراد منه، إما من بيان الله تعالى ذكره عنه، أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته. ولن يذهبَ علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بيَّنَّا.
القول في تأويل قوله : هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلناه فيه. ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه، وذلك أنهم اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معنى قوله: « هن أم الكتاب » ، هنّ اللائي فيهن الفرائض والحدود والأحكام، نحو قولنا الذي قلنا فيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية: « محكمات هنّ أم الكتاب » . قال يحيى: هن اللاتي فيهنّ الفرائضُ والحدودُ وعمادُ الدين وضرب لذلك مثلا فقال: « أمّ القرى » مكة، « وأم خراسان » ، مَرْو، « وأمّ المسافرين » ، الذي يجعلون إليه أمرَهم، ويُعنى بهم في سفرهم، قال: فذاك أمهم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « هن أم الكتاب » ، قال: هن جماع الكتاب.
وقال آخرون: بل يعني بذلك: فواتح السور التي منها يستخرج القرآن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية: « منه آيات محكمات هن أم الكتاب » ، قال: « أم الكتاب » فواتح السور، منها يستخرج القرآن - الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، منها استخرجت « البقرة » ، و الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ منها استخرجت « آل عمران » .
القول في تأويل قوله : فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وانحرافٌ عنه.
يقال منه: « زاغ فلان عن الحق، فهو يَزيغ عنه زَيْغًا وزيَغانًا وزيْغُوغَة وزُيوغًا » ، و « أزاغه الله » - إذا أماله - « فهو يُزيغه » ، ومنه قوله جل ثناؤه: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا لا تملها عن الحق بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [ سورة آل عمران: 8 ] .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:-
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « فأما الذين في قلوبهم زيغٌ » ، أي: ميل عن الهدى.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « في قلوبهم زيغ » ، قال: شك.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « فأما الذين في قلوبهم زيغ » ، قال: من أهل الشك.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « فأما الذين في قلوبهم زيغ » ، أما الزيغ فالشك.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قال: « زيغ » شك قال ابن جريج: « الذين في قلوبهم زيغ » ، المنافقون.
القول في تأويل قوله : فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فيتبعون ما تشابه » ، ما تشابهت ألفاظه وتصرَّفت معانيه بوجوه التأويلات، ليحققوا بادّعائهم الأباطيلَ من التأويلات في ذلك ما هم عليه من الضلالة والزّيغ عن محجة الحقّ، تلبيسًا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « فيتبعون ما تشابه منه » ، فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبِّسون، فلبَّس الله عليهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « فيتبعون ما تشابه منه » ، أي: ما تحرّف منه وتصرف، ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشُبْهةً.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: « فيبعون ما تشابه منه » ، قال: الباب الذي ضلُّوا منه وهلكوا فيه ابتغاءَ تأويله.
وقال آخرون في ذلك بما:
حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط عن السدي في قوله: « فيتبعون ما تشابه منه » ، يتبعون المنسوخَ والناسخَ فيقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مجان هذه الآية، فتركت الأولى وعُمل بهذه الأخرى؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نُسخت؟ وما باله يعد العذابَ مَنْ عمل عملا يعذبه [ في ] النار، وفي مكان آخر: مَنْ عمله فإنه لم يُوجب النار؟
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عُني به الوفدُ من نصارى نجران الذين قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاجُّوه بما حاجُّوه به، وخاصموه بأن قالوا: ألست تزعم أنّ عيسى روح الله وكلمته؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: عَمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران - فخاصموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: ألست تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: بلى! قالوا: فحسبُنا! فأنـزل الله عز وجل: « فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة » ، ثم إن الله جل ثناؤه: أنـزل إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [ سورة آل عمران: 59 ] ، الآية.
وقال آخرون: بل أنـزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب، وأخيه حُييّ بن أخطب، والنفر الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قَدْر مُدة أُكْلِه وأكْل أمته، وأرادوا علم ذلك من قِبَل قوله: الم و المص ، و المر و الر ، فقال الله جل ثناؤه فيهم: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ - يعني هؤلاء اليهود الذين قُلوبهم مائلة عن الهدى والحق « فيتبعون ما تَشابه منه » يعني: معاني هذه الحروف المقطّعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ .
وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل، في أول السورة التي تذكر فيها « البقرة » .
وقال آخرون: بل عنى الله عز وجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفةً لما ابتعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات، وإن كان الله قد أحكم بيانَ ذلك، إما في كتابه، وإما على لسان رسوله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « فأما الذين في قُلوبهم زَيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة » ، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ قال: إن لم يكونوا الحرُوريّة والسبائية، فلا أدري من هم! ولعمري لقد كان في أهل بدر والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرّضوان من المهاجرين والأنصار خبرٌ لمن استخبر، وعبرةٌ لمن استعبر، لمن كان يَعْقِل أو يُبصر. إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثيرٌ بالمدينة والشأم والعراق، وأزواجه يومئذ أحياء. والله إنْ خَرَج منهم ذكرٌ ولا أنثى حروريًّا قط، ولا رضوا الذي هم عليه، ولا مالأوهم فيه، بل كانوا يحدّثون بعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم ونعتِه الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم، ويعادونهم بألسنتهم، وتشتدّ والله عليهم أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الخوارج هُدًى لاجتمع، ولكنه كان ضلالا فتفرّق. وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافًا كثيرًا. فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل. فهل أفلحوا فيه يومًا أو أنجحوا؟ يا سبحان الله؟ كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأوّلهم؟ لو كانوا على هدى، قد أظهره الله وأفلجه ونصره، ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه. فهم كما رأيتهم، كلما خَرج لهم قَرْنٌ أدحض الله حجتهم، وأكذب أحدوثتهم، وأهرَاق دماءهم. إن كتموا كان قَرْحًا في قلوبهم، وغمًّا عليهم. وإن أظهروه أهرَاق الله دماءهم. ذاكم والله دينَ سَوْء فاجتنبوه. والله إنّ اليهودية لبدعة، وإن النصرانية لبدْعة، وإن الحرورية لبدعة، وإن السبائية لبدعة، ما نـزل بهن كتابٌ ولا سنَّهنّ نبيّ.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله » ، طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، فاتبعوا ما تشابه منه، فهلكوا من ذلك. لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذي شهدوا بيعة الرضوان وذكر نحو حديث عبد الرزاق، عن معمر، عنه.
حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلى قوله: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ، فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذرُوهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة أنها قالت: قرأ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلى وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه - أو قال: يتجادلون فيه - فهم الذين عنى الله، فاحذرهم قال مطر، عن أيوب أنه قال: فلا تجالسوهم، فهم الذين عنىَ الله فاحذروهم.
حدثنا ابن بشار قال حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو معناه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا الحارث، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ الآية كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، والذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، أولئك الذين قال الله، فلا تجالسوهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن أبي مليكة قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث، عن عائشة قالت: تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ، ثم قرأ إلى آخر الآيات، فقال: « إذا رأيتم الذين يتبعون ما » تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله، فاحذروهم.
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: نـزع رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يتبعُون ما تَشابه منه » ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حذركم الله، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم.
حدثنا علي قال، حدثنا الوليد، عن نافع بن عمر، عن [ ابن أبي مليكة، حدثتني ] عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتموهم فاحذروهم، ثم نـزع: « فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه » ، ولا يعملون بمحكمه.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، أخبرنا عمي قال، أخبرني شبيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن هذه الآية: « فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم » ، فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نـزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة في هذه الآية، هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ، الآية، « يتبعها » ، يتلوها، ثم يقول: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فاحذروهم، فهم الذين عنى الله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ إلى آخر الآية، قال: هم الذين سَمّاهم الله، فإذا أريتموهم فاحذروهم.
قال أبو جعفر: والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية، أنها نـزلت في الذين جادَلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بمتشابه ما أنـزل إليه من كتاب الله، إمّا في أمر عيسى، وأما في مدة أكله وأكل أمته.
وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابهه في مدّته ومدّة أُمّته، أشبُه، لأن قوله: « وما يعلَمُ تأويلَه إلا الله » ، دالٌّ على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قِبَل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. فأما أمرُ عيسى وأسبابه، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته، وبيّنه لهم. فمعلومٌ أنه لم يعن به إلا ما كان خفيًّا عن الآجال.
القول في تأويل قوله : ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: ابتغاء الشرك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ابتغاء الفتنة » ، قال: إرادة الشرك.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: ( ابتغاء الفتنة ) يعني الشرك.
وقال آخرون: معنى ذلك: ابتغاءَ الشّبهات.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ابتغاء الفتنة » ، قال: الشبهات، بها أهْلِكوا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « ابتغاء الفتنة » ، الشبهات، قال: هلكوا به.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: « ابتغاء الفتنة » ، قال: الشبهات. قال: والشبهات ما أهلكوا به.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « ابتغاء الفتنة » ، أي اللَّبْس.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: « إرادةُ الشبهات واللبس » .
فمعنى الكلام إذًا: فأما الذين في قلوبهم هيلٌ عن الحق وحَيْفٌ عنه، فيتبعون من آي الكتاب ما تَشابهت ألفاظه، واحتمل صَرْف صارفه في وجوه التأويلات - باحتماله المعاني المختلفة - إرادةَ اللبس على نفسه وعلى غيره، احتجاجًا به على باطله الذي مالَ إليه قلبه، دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه.
قال أبو جعفر: وهذه الآية وإن كانت نـزلت فيمن ذكرنا أنها نـزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معنىّ بها كل مبتدع في دين الله بدعةً فمال قلبه إليها، تأويلا منه لبعض مُتشابه آي القرآن، ثم حاجّ به وجادل به أهل الحق، وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات، إرادةً منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين، وطلبًا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك، كائنًا من كان، وأيّ أصناف المبتدعة كان من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سَبئيًا، أو حروريًّا، أو قدريًّا، أو جهميًّا، كالذي قال صلى الله عليه وسلم: « فإذا رأيتم الذين يجادلون به، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم » ، وكما:-
حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس - وذُكر عنده الخوارجُ وما يُلْقَوْنَ عند القرآن، فقال: يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه! وقرأ ابن عباس: « وما يعلم تأويله إلا الله » ، الآية.
قال أبو جعفر: وإنما قلنا القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله: « ابتغاء الفتنة » ، لأن الذين نـزلت فيهم هذه الآية كانوا أهلَ شرك، وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله، اللبسَ على المسلمين، والاحتجاجَ به عليهم، ليصدّوهم عما هم عليه من الحق، فلا معنى لأن يقال: « فعلوا ذلك إرادةَ الشرك » ، وهم قد كانوا مشركين.
القول في تأويل قوله : وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « التأويل » ، الذي عَنى الله جل ثناؤه بقوله: « وابتغاء تأويله » .
فقال بعضهم: معنى ذلك: الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مُدّة أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر أمته، من قبل الحروف المقطعة من حساب الجُمَّل، « ألم » ، و « ألمص » ، و « ألر » ، و « ألمر » ، وما أشبه ذلك من الآجال.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس أما قوله: « وما يعلم تأويله إلا الله » ، يعني تأويله يوم القيامة « إلا الله » .
وقال آخرون: بل معنى ذلك: « عواقبُ القرآن » . وقالوا: « إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله جل ثناؤه شَرَعها لأهل الإسلام قبل مجيئه، فنسخَ ما قد كان شَرَعه قبل ذلك » .
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وابتغاء تأويله » ، أرادوا أن يعلموا تأويلَ القرآن - وهو عواقبه - قال الله: « وما يعلم تأويله إلا الله » ، وتأويله، عواقبه متى يأتي الناسخ منه فينسخ المنسوخ؟
وقال آخرون: معنى ذلك: « وابتغاء تأويل ما تَشابه من آي القرآن، يتأوّلونه - إذ كان ذا وجوه وتصاريفَ في التأويلات - على ما في قلوبهم من الزَّيغ، وما ركبوه من الضلالة » .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « وابتغاء تأويله » ، وذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم « خلقنا » ، و « قضينا » .
قال أبو جعفر: والقول الذي قاله ابن عباس: من أنّ: « ابتغاء التأويل » الذي طلبه القوم من المتشابه، هو معرفة انقضاء المدة ووقت قيام الساعة والذي ذكرنا عن السدي: من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وَقتٍ هو جَاءٍ قبل مجيئه أولى بالصواب، وإن كان السدّي قد أغفل معنى ذلك من وجهٍ صَرَفه إلى حَصره على أن معناه: أن القوم طلبوا معرفة وقت مجيء الناسخ لما قد أحكِم قبل ذلك.
وإنما قلنا: إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاءٍ قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم، بمتشابه آي القرآن - أولى بتأويل قوله: « وابتغاء تأويله » ، لما قد دللنا عليه قبلُ من إخبار الله جل ثناؤه أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله. ولا شكّ أن معنى قوله: « قضينا » « فعلنا » ، قد علم تأويله كثيرٌ من جهلة أهل الشرك، فضلا عن أهل الإيمان وأهل الرسوخ في العلم منهم.
القول في تأويل قوله : وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وما يعلم وقتَ قيام الساعة، وانقضاء مدة أكل محمد وأمته، وما هو كائن، إلا الله، دونَ منْ سواه من البشر الذين أمَّلوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة. وأما الراسخون في العلم فيقولون: « آمنا به، كل من عند ربنا » - لا يعلمون ذلك، ولكن فَضْل عِلمهم في ذلك على غيرهم، العلمُ بأن الله هو العالم بذلك دونَ منْ سواه من خلقه.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، وهل « الراسخون » معطوف على اسم « الله » ، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه، أمْ هم مستأنَفٌ ذكرهم، بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون: آمنا بالمتشابه وصدّقنا أنّ علم ذلك لا يعلمه إلا الله؟
فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردًا بعلمه. وأما الراسخون في العلم، فإنهم ابتُدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بالمتشابه والمحكم، وأنّ جَميع ذلك من عند الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نـزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قوله: « والراسخون في العلم يقولون آمنا به » ، قالت: كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه، ولم يعلموا تأويله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: كان ابن عباس يقول: ( وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون [ في العلم ] آمنا به )
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن أبي الزناد قال، قال هشام بن عروة: كان أبي يقول في هذه الآية، « وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم » ، أنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون: « آمنا به كل من عند ربنا » .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي نهيك الأسدي قوله: « وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم » ، فيقول: إنكم تَصلون هذه الآية، وإنها مقطوعة: « وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا » ، فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا.
حدثنا المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: « والراسخون في العلم » ، انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا، « آمنا به كلٌّ من عند ربنا » .
حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب، عن مالك في قوله: « وما يعلم تأويله إلا اللهّ » ، قال: ثم ابتدأ فقال: « والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا » ، وليس يعلمون تأويله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون: « آمنا به كلّ من عند ربنا » .
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « والراسخون في العلم » يعلمون تأويله، ويقولون: « آمنا به » .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « والراسخون في العلم يعلمون تأويله، ويقولون: » آمنا به « . »
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « والراسخون في العلم » يعلمون تأويله ويقولون: « آمنا به » .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « وما يعلم تأويله » الذي أراد، ما أراد، « إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا » ، فكيف يختلف، وهو قولٌ واحدٌ من ربّ واحد؟ ثم ردّوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتَّسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضًا، فنفذَت به الحجة، وظهر به العذر، وزاحَ به الباطل، ودُمغ به الكفر.
قال أبو جعفر: فمن قال القول الأول في ذلك، وقال: إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك، وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله، فإنه يرفع « الراسخين في العلم » بالابتداء في قول البصريون، ويجعل خبره: « يقولون آمنا به » . وأما في قول بعض الكوفيين، فبالعائد من ذكرهم في « يقولون » . وفي قول بعضهم: بجملة الخبر عنهم، وهي: « يقولون » .
ومن قال القول الثاني، وزعم أنّ الراسخين يعلمون تأويله، عطف بـ « الراسخين » على اسم « الله » ، فرفعهم بالعطف عليه.
قال أبو جعفر: والصواب عندنا في ذلك أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو: « يقولون » ، لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية، وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبيّ: ( وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرأه. وفي قراءة عبد الله: ( إِنْ تَأْوِيلُهُ إِلا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ) .
قال أبو جعفر: وأما معنى « التأويل » في كلام العرب، فإنه التفسير والمرجع والمصير. وقد أنشد بعضُ الرواة بيتَ الأعشى:
عَــلَى أَنَّهَــا كَـانَتْ تَـأَوُّلُ حُبِّهَـا تَــأَوُّلَ رِبْعِــيِّ السِّـقَابِ فَأَصْحَبَـا
وأصلهُ من: « آل الشيء إلى كذا » - إذا صار إليه ورجع « يَؤُول أوْلا » و « أوَّلته أنا » صيرته إليه. وقد قيل إنّ قوله: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا [ سورة النساء: 59 ] أي جزاءً. وذلك أن « الجزاء » هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه.
ويعني بقوله: « تأوّلُ حُبها » : تفسير حبها ومرجعه. وإنما يريد بذلك أنّ حبها كان صغيرًا في قلبه، فآلَ من الصّغر إلى العظم، فلم يزل ينبت حتى أصحَب، فصار قديمًا، كالسَّقب الصغير الذي لم يزل يَشبّ حتى أصحَبَ فصار كبيرًا مثل أمه. وقد يُنشد هذا البيت:
عَــلَى أَنَّهَــا كَـانَتْ تَـوَابعُ حُبِّهَـا تَــوَالِىَ رِبْعِــيِّ السِّـقَابِ فَأَصْحَبَـا
القول في تأويل قوله : وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
قال أبو جعفر: يعني ب « الراسخين في العلم » ، العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووَعَوْه فحفظوه حفظًا، لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شَكّ ولا لبس.
وأصل ذلك من: « رسوخ الشيء في الشيء » ، وهو ثبوته وولوجه فيه. يقال منه: « رسخ الإيمان في قلب فلان، فهو يَرْسَخُ رَسْخًا ورُسُوخًا » .
وقد روى في نعتهم خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-
حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا محمد بن عبد الله قال، حدثنا فياض بن محمد الرقي قال، حدثنا عبد الله بن يزيد بن آدم، عن أبي الدرداء وأبي أمامة قالا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن الراسخ في العلم؟ قال: « من بَرَّت يمينهُ، وصَدقَ لسانه، واستقام به قلبه، وعفّ بطنه، فذلك الراسخُ في العلم. »
حدثني المثنى وأحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا نعيم بن حماد قال، حدثنا فياض الرقي قال، حدثنا عبد الله بن يزيد الأودي قال: وكان أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الراسخين في العلم فقال: من برَّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام به قلبه، وعفّ بطنه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم.
وقد قال جماعة من أهل التأويل: إنما سمى الله عز وجل هؤلاء القوم « الراسخين في العلم » ، بقولهم: « آمنا به كل من عند ربنا » .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: « والراسخون في العلم يقولون آمنا به، قال: » الراسخون « الذين يقولون: » آمنا به كل من عند ربنا « . »
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « والراسخون في العلم » ، هم المؤمنون، فإنهم يقولون: « آمنَّا به » ، بناسخه ومنسوخه « كلٌّ من عند ربنا » .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قال، عبد الله بن سلام: « الراسخون في العلم ) وعلمهم قولهم قال ابن جريج: » والراسخون في العلم يقولون آمنا به « ، وهم الذين يقولون رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا ويقولون: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ الآية. »
وأما تأويل قوله: « يقولون آمنا به » ، فإنه يعني أنّ الراسخين في العلم يقولون: صدقنا بما تشابه من آي الكتاب، وأنه حقّ وإن لم نَعلم تأويله، وقد:-
حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك: « والراسخون في العلم يقولون آمنا به » ، قال: المحكم والمتشابه.
القول في تأويل قوله : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « كل من عند ربنا » ، كلّ المحكم من الكتاب والمتشابه منه « من عند ربنا » ، وهو تنـزيله ووحيه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما:-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: « كل من عند ربنا » ، قال: يعني مَا نُسخ منه وما لم يُنسخ.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم » ، قالوا: « كلّ من عند ربنا » ، آمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه.
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « كل من عند ربنا » ، يقولون: المحكم والمتشابه من عند ربنا.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا » ، نؤمن بالمحكم وندين به، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به، وهو من عند الله كله.
حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « والراسخون في العلم » يعملون به، يقولون: نعمل بالمحكم ونؤمن به، ونؤمن بالمتشابه ولا نعمل به، وكل من عند ربنا.
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في حكم « كلّ » إذا أضمر فيها. فقال بعض نحويي البصريين: إنما جاز حذفُ المراد الذي كان معها الذي « الكل » إليه مضاف في هذا الموضع، لأنها اسمٌ، كما قال: إِنَّا كُلٌّ فِيهَا [ سورة غافر: 48 ] ، بمعنى: إنا كلنا فيها. قال: ولا يكون « كل » مضمرًا فيها وهي صفة، لا يقال: « مررت بالقوم كل » وإنما يكون فيها مضمرٌ إذا جعلتها اسمًا. لو كان: « إنا كُلا فيها » على الصفة لم يجز، لأن الإضمار فيها ضعيفٌ لا يتمكن في كلّ مكان.
وكان بعض نحويي الكوفيين يرى الإضمار فيها وهي صفةٌ أو اسم، سواءً. لأنه غير جائز أن يُحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافية بنفسها عما كانت تضاف إليه من المضمر، وغير جائز أن تكون كافية منه في حال، ولا تكون كافية في أخرى. وقال: سبيل « الكل » و « البعض » في الدلالة على ما بعدهما بأنفسهما وكفايتهما منه بمعنى واحد في كل حال، صفةً كانت أو اسمًا.
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أولى بالقياس، لأنها إذا كانت كافية بنفسها مما حذف منها في حالٍ لدلالتها عليها، فالحكم فيها أنها كلما وجدت دالة على ما بعدها فهي كافية منه.
القول في تأويل قوله : وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ( 7 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتذكر ويتّعظ وينـزجر عن أن يقول في متشابه آي كتاب الله ما لا علم له به، إلا أولو العقول والنهى، وقد:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « وما يذكر إلا أولوا الألباب » ، يقول: وما يذكر في مثل هذا يعني: في ردّ تأويل المتشابه إلى ما قد عرف من تأويل المحكم، حتى يَتّسقا على معنى واحد « إلا أولو الألباب » .
القول في تأويل قوله : رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ( 8 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ الراسخين في العلم يقولون: آمنا بما تشابه من آي كتاب الله، وأنه والمحكم من آيه من تنـزيل ربنا ووحيه. ويقولون أيضًا: « ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا » ، يعني أنهم يقولون رغبةً منهم إلى ربهم في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن، ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله الذي لا يعلمه غيرُ الله : يا ربنا، لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحق فصدوا عن سبيلك « لا تزغ قلوبنا » ، لا تملها فتصرفها عن هُدَاك بعد إذ هديتنا له، فوفقتنا للإيمان بمحكم كتابك ومتشابهه « وهب لنا » يا ربنا « من لدنك رحمة » ، يعني: من عندك رحمة، يعني بذلك: هب لنا من عندك توفيقًا وثباتًا للذي نحن عليه من الإقرار بمحكم كتابك ومتشابهه « إنك أنتَ الوهاب » ، يعني: إنك أنت المعطي عبادك التوفيقَ والسدادَ للثبات على دينك، وتصديق كتابك ورسلك، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا » ، أي: لا تمل قلوبنا وإن ملنا بأحداثنا « وهب لنا من لدنك رحمة » .
قال أبو جعفر: وفي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بما مدحهم به من رغبتهم إليه في أن لا يزيغ قلوبهم، وأن يعطيهم رحمةً منه معونة لهم للثبات على ما هُم عليه من حسن البصيرة بالحق الذي هم عليه مقيمون ما أبان عن خطأ قول الجهَلة من القدَرية: أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته وإمالته له عنها، جَوْرٌ. لأن ذلك لو كان كما قالوا، لكان الذين قالوا: « ربنا لا تزغ قلوبنا بعدَ إذ هدَيتنا » ، بالذم أولى منهم بالمدح. لأن القول لو كان كما قالوا، لكان القوم إنما سألوا ربَّهم بمسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم أن لا يظلمهم ولا يجورَ عليهم. وذلك من السائل جهلٌ، لأن الله جل ثناؤه لا يظلم عبادَه ولا يجور عليهم. وقد أعلم عبادَه ذلك ونَفاه عن نفسه بقوله: وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [ سورة فصلت: 46 ] . ولا وجه لمسألته أن يكون بالصفة التي قد أخبرهم أنه بها. وفي فساد ما قالوا من ذلك، الدليلُ الواضح على أن عدلا من الله عز وجل: إزاغةُ من أزاغَ قلبه من عباده عن طاعته، فلذلك استحقّ المدحَ مَنْ رغب إليه في أن لا يزيغه، لتوجيهه الرغبة إلى أهلها، ووضعه مسألته موضعها، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برغبته إلى ربه في ذلك، مع محله منه وكرامته عليه.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! ثم قرأ: » ربنا لا تُزغ قُلوبنا بعدَ إذ هديتنا « ، إلى آخر الآية. »
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أسماء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدّث: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! قالت: قلتُ: يا رسول الله، وإن القلب ليقلَّب؟ قال: نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين إصبعين من أصابعه، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدَانا، ونسأله أن يهبَ لنا من لدنه رحمةً إنه هو الوهاب. قالت: قلتُ: يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى؛ قولي: اللهم ربّ النبي محمدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذهب غَيظَ قلبي، وأجرني من مُضِلات الفتن.
حدثني محمد بن منصور الطوسي قال، حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. فقال له بعض أهله: يُخاف علينا وقد آمنا بك وبما جئت به؟! قال: إن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن تبارك وتعالى، يقول بهما هكذا وحرّك أبو أحمد إصبعيه قال أبو جعفر: وإن الطوسي وَسَق بين إصبعيه.
حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبو معاوية قال، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول: « يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. قلنا: يا رسول الله، قد آمنا بك، وصدّقنا بما جئت به، فيُخاف علينا؟! قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلبها تبارك وتعالى. »
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا بشر بن بكر وحدثني علي بن سهل قال، حدثنا أيوب بن بشر جميعًا، عن ابن جابر قال: سمعت بُسْر بن عبيد الله قال، سمعت أبا إدريس الخولاني يقول: سمعت النوَّاس بن سمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن: إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قُلوبنا على دينك - والميزان بيَد الرحمن، يرفع أقوامًا ويخفضُ آخرين إلى يوم القيامة.
حدثني عمر بن عبد الملك الطائي قال، حدثنا محمد بن عبيدة قال، حدثنا الجرّاح بن مليح البهراني، عن الزبيدي، عن جويبر، عن سمرة بن فاتك الأسْدي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الموازين بيد الله، يرفع أقوامًا ويضع أقوامًا، وقلبُ ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أزاغه، وإذا شاء أقامه.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة بن شريح قال، أخبرني أبو هانئ الخولاني: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلبٍ واحد، يصرّف كيف يشاء. ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهمّ مصرِّف القلوب صرِّف قُلوبَنا إلى طاعتك.
حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم ثبت قلبي على دينك. قالت: قلت: يا رسول الله، وإن القلوب لتقلَّب؟ قال: نعم، ما من خلق الله من بني آدم بشرٌ إلا إنّ قلبه بين إصبعين من أصابع الله، إن شاءَ أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدُنه رحمةً إنه هو الوهاب.
القول في تأويل قوله : رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( 9 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه أنهم يقولون أيضًا مع قولهم: آمنا بما تشابه من آي كتاب ربّنا، كلّ المحكم والمتشابه الذي فيه من عند ربنا : يا ربنا، « إنك جامعُ الناس ليوم لا ريب فيه إنّ الله لا يخلف الميعاد » .
وهذا من الكلام الذي استُغنى بذكر ما ذكر منه عما ترك ذكره. وذلك أن معنى الكلام: ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة، فاغفر لنا يومئذ واعف عنا، فإنك لا تخلف وَعْدك: أنّ من آمن بك، واتَّبع رَسُولك، وعمل بالذي أمرتَه به في كتابك، أنك غافره يومئذ.
وإنما هذا من القوم مسألة ربَّهم أن يثبِّتهم على ما هم عليه من حُسن بَصيرتهم، بالإيمان بالله ورسوله، وما جاءهم به من تنـزيله، حتى يقبضهم على أحسن أعمالهم وإيمانهم، فإنه إذا فعل ذلك بهم، وجبتْ لهم الجنة، لأنه قد وعد من فعل ذلك به من عباده أنه يُدخله الجنة.
فالآية، وإن كانت قد خرجت مخرج الخبر، فإن تأويلَها من القوم: مسألةٌ ودعاءٌ ورغبة إلى ربهم.
وأما معنى قوله: « ليوم لا ريب فيه » ، فإنه: لا شك فيه. وقد بينا ذلك بالأدلة على صحته فيما مضى قبل.
ومعنى قوله: « ليوم » ، في يوم. وذلك يومٌ يجمع الله فيه خلقَه لفصل القضاء بينهم في موقف العَرضْ والحساب.
« والميعاد » « المفعال » ، من « الوعد » .
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ( 10 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « إنّ الذين كفروا » ، إن الذين جحدوا الحق الذي قد عرفوه من نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل ومنافقيهم ومنافقي العرب وكفارهم، الذين في قلوبهم زَيغٌ فهم يتَّبعون من كتاب الله المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله « لنْ تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا » ، يعني بذلك أنّ أموالهم وأولادهم لن تُنجيهم من عقوبة الله إن أحلَّها بهم - عاجلا في الدنيا على تكذيبهم بالحق بعد تبيُّنهم،
واتباعهم المتشابه طلبَ اللبس - فتدفعها عنهم، ولا يغني ذلك عنهم منها شيئًا، وهم في الآخرة « وقودُ النار » ، يعني بذلك: حَطبُها.
القول في تأويل قوله : كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 11 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا عند حلول عقوبتنا بهم، كسُنَّة آل فرعون وعادتهم « وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » من الأمم الذين كذبوا بآياتنا، فأخذناهم بذنوبهم فأهلكناهم حين كذبوا بآياتنا، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا حين جاءهم بأسنا، كالذين عوجلوا بالعقوبة على تكذيبهم ربَّهم من قبل آل فرعون: من قوم نوح وقوم هود وقوم لوط وأمثالهم.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « كدأب آل فرعون » .
فقال بعضهم: معناه: كسُنَّتهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « كدأب آل فرعون » ، يقول: كسنتهم.
وقال بعضهم: معناه: كعملهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان جميعًا، عن جويبر، عن الضحاك: « كدأب آل فرعون » ، قال: كعمل آل فرعون.
حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « كدأب آل فرعون » ، قال: كعمل آل فرعون.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « كدأب آل فرعون » ، قال: كفعلهم، كتكذيبهم حين كذّبوا الرسل وقرأ قول الله: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ [ سورة غافر: 31 ] ، أن يصيبكم مثل الذي أصابهم عليه من عذاب الله. قال: الدأبُ العمل.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله: « كدأب آل فرعون » ، قال: كفعل آل فرعون، كشأن آل فرعون.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: « كدأب آل فرعون » ، قال: كصنع آل فرعون.
وقال آخرون: معنى ذلك: كتكذيب آل فرعون.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم » ، ذكر الذين كفروا وأفعالَ تكذيبهم، كمثل تكذيب الذين من قبلهم في الجحود والتكذيب.
قال أبو جعفر: وأصل « الدأب » من: « دأبت في الأمر دأْبًا » ، إذا أدمنت العمل والتعب فيه. ثم إن العرب نقلت معناه إلى: الشأن، والأمر، والعادة، كما قال امرؤ القيس بن حجر:
وَإنَّ شِـــفَائِي عَــبْرَةٌ مُهَرَاقَــة فَهَـلْ عِنْـدَ رَسْـمٍ دَارِسٍ مِـنْ مُعَوَّلِ
كَــدَأْبِكَ مِــنْ أُمِّ الْحُـوَيْرِث قَبْلَهَـا وَجَارَتِهَـــا أُمِّ الرَّبَــابِ بِمَأْسَــلِ
يعني بقوله: « كدأبك » ، كشأنك وأمرك وفعلك. يقال منه: « هذا دَأبي ودأبك أبدًا » . يعني به. فعلي وفعلك، وأمري وأمرك، وشأني وشأنك، يقال منه: « دَأبْتُ دُؤُوبًا ودأْبًا » . وحكى عن العرب سماعًا: « دأبْتُ دأَبًا » ، مثقله محركة الهمزة، كما قيل: « هذا شعَرٌ، ونَهَر » ، فتحرك ثانيه لأنه حرفٌ من الحروف الستة، فألحق « الدأب » إذ كان ثانية من الحروف الستة، كما قال الشاعر:
لَـهُ نَعَـلٌ لا تَطَّبِـي الكَـلْبَ رِيحُهَـا وَإنْ وُضِعَـتْ بَيْـنَ الْمَجَـالِسِ شُـمَّتِ
وأما قوله: « واللهُ شديدُ العقاب » ، فإنه يعنى به: والله شديد عقابه لمن كفر به وكذّب رسله بعد قيام الحجة عليه.
القول في تأويل قوله : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 12 )
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في ذلك.
فقرأه بعضهم: ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ) بالتاء، على وجه الخطاب للذين كفروا بأنهم سيغلبون. واحتجوا لاختيارهم قراءة ذلك بالتاء بقوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ . قالوا: ففي ذلك دليل على أن قوله: « ستغلبون » ، كذلك، خطابٌ لهم. وذلك هو قراءة عامة قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين. وقد يجوز لمن كانت نيته في هذه الآية: أنّ الموعودين بأن يُغلبوا، هم الذين أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم أن يقرَأه بالياء والتاء. لأن الخطابَ بالوحي حين نـزل، لغيرهم. فيكون نظير قول القائل في الكلام: « قلت للقوم: إنكم مغلوبون » ، و « قلت لهم: إنهم مغلوبون » . وقد ذكر أن في قراءة عبد الله: ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَكُمْ ) [ سورة الأنفال: 38 ] ، وهي في قراءتنا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ .
وقرأت ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: ( سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ ) ، على معنى: قل لليهود: سيغلب مشركو العرب ويحشرون إلى جهنم. ومن قرأ ذلك كذلك على هذا التأويل، لم يجز في قراءته غير الياء.
قال أبو جعفر: والذي نختار من القراءة في ذلك، قراءةُ من قرأه بالتاء، بمعنى: قل يا محمد للذين كفروا من يهود بني إسرائيل الذين يتبعون ما تشابه من آي الكتاب الذي أنـزلته إليك ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله: « ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد » .
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك، على قراءته بالياء، لدلالة قوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ، على أنهم بقوله: « ستغلبون » ، مخاطبون خطابهم بقوله: « قد كان لكم » ، فكان إلحاق الخطاب بمثله من الخطاب، أولى من الخطاب بخلافه من الخبر عن غائب.
وأخرى أنّ:-
أبا كريب حدثنا قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال، لما أصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا يوم بدْر فقدم المدينة، جمع يهودَ في سوق بني قَينُقاع. فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا! فقالوا: يا محمد، لا تغرّنك نفسك أنك قتلتَ نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تأت مثلنا!! فأنـزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: « قلْ للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد » إلى قوله: لأُولِي الأَبْصَارِ .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمر بن قتادة، قال: لما أصاب الله قريشًا يوم بدر، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودَ في سوق بني قينقاع حين قدم المدينة ثم ذكر نحو حديث أبي كريب، عن يونس.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قَينُقاع، ثم قال: يا معشر اليهود، احذروا من الله مثل ما نـزل بقريش من النِّقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبيٌّ مُرْسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم! فقالوا: يا محمد، إنك ترى أنا كقومك! لا يغرَّنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب فأصبتَ فيهم فرصة! إنا والله لئن حاربناك لتعلمنّ أنا نحن الناس.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما نـزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم: « قُلْ للذين كفروا ستغلبون وتحشرونَ إلى جهنم وبئس المهاد » إلى لأُولِي الأَبْصَارِ .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: « قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد » ، قال فِنْحاص اليهودي في يوم بدر: لا يغرَّنَّ محمدًا أنْ غلب قريشًا وقتلهم! إنّ قريشًا لا تُحسنُ القتال! فنـزلت هذه الآية: « قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد » .
قال أبو جعفر: فكل هذه الأخبار تنبئ عن أن المخاطبين بقوله: « ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد » ، هم اليهود المقولُ لهم: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ، الآية - وتدل على أن قراءَة ذلك بالتاء، أولى من قراءته بالياء.
ومعنى قوله: « وتحشرون » ، وتجمعون، فتجلبون إلى جهنم.
وأما قوله: « وبئس المهاد » ، وبئس الفراش جهنم التي تحشرون إليها. وكان مجاهد يقول كالذي:-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وبئس المهاد » ، قال: بئسما مَهدُوا لأنفسهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
القول في تأويل قوله : قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قُلْ، يا محمد، للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهرانَيْ بلدك: « قد كان لكم آية » ، يعني: علامةٌ ودلالةٌ على صدق ما أقول: إنكم ستغلبون، وعبرة، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « قد كان لكم آية » ، عبرةٌ وتفكر.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله إلا أنه قال: ومُتَفَكَّر.
« في فئتين » ، يعني: في فرقتين وحزبين و « الفئة » الجماعة من الناس. « التقتا » للحرب، وإحدى الفئتين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر، والأخرى مشركو قريش.
« فئة تُقاتل في سبيل الله » ، جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه « وأخرى كافرة » ، وهم مشركو قريش، كما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: « قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله » ، أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر « وأخرى كافرة » ، فئة قريش الكفار.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: « قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله » ، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه « وأخرى كافرة » ، قريش يوم بدر.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « قد كان لكم آية في فئتين » ، قال: في محمد وأصحابه، ومشركي قريش يوم بدر.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله » ، قال: ذلك يوم بدر، التقى المسلمون والكفار.
قال أبو جعفر: ورفعت: « فئةٌ تقاتل في سبيل الله » ، وقد قيل قبل ذلك: « في فئتين » ، بمعنى: إحداهما تقاتل في سبيل الله - على الابتداء، كما قال الشاعر:
فَكُـنْتُ كَـذِي رِجْـلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ وَرِجْـلٌ رَمَـى فِيهَـا الزَّمَـانُ فَشَلَّتِ
وكما قال ابن مفرِّغ:
فَكُـنْتُ كَـذِي رِجْـلَيْنِ: رِجْلٌ صَحِيحَةٌ وَرِجْــلٌ بِهَـا رَيْـبٌ مِـنَ الحَدَثَـانِ
فَأَمَّـا الَّتِـي صَحَّـتْ فَـأَزْدُ شَـنُوءَةٍ, وَأَمَّــا الّتِــي شَـلَّتْ فَـأَزْدُ عُمَـانِ
وكذلك تفعل العرب في كل مكرر على نظير له قد تقدمه، إذا كان مع المكرر خبر: تردُّه على إعراب الأوّل مرة، وتستأنفه ثانيةً بالرفع، وتنصبه في التامِّ من الفعل والناقص، وقد جُرّ ذلك كله، فخفض على الردّ على أوّل الكلام، كأنه يعني إذا خفض ذلك: فكنت كذلك رجلين: كذي رجل صحيحة ورجل سقيمة. وكذلك الخفض في قوله: « فئة » ، جائز على الردّ على قوله: « في فئتين التقتا » ، في فئة تقاتل في سبيل الله.
وهذا وإن كان جائزًا في العربية، فلا أستجيز القراءة به، لإجماع الحجة من القرَأة على خلافه. ولو كان قوله: « فئة » ، جاء نصبًا، كان جائزًا أيضًا على قوله: « قد كان لكم آية في فئتين التقتا » ، مُختلفتين.
القول في تأويل قوله : يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ
قال أبو جعفر: اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة أهل المدينة: ( تَرَوْنَهُمْ ) بالتاء، بمعنى: قد كان لكم أيها اليهود آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ، فئة تقاتل في سبيل الله، والأخرى كافرةٌ، ترونَ المشركين مِثْلي المسلمين رأىَ العين. يريد بذلك عِظَتهم، يقول: إن لكم عبرةً، أيها اليهود، فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم، بهؤلاء مع كثرة عددهم.
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة والبصرة وبعض المكيين: ( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ ) بالياء، بمعنى: يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله، الجماعةَ الكافرةَ مثلي المسلمين في القدْر. فتأويل الآية على قراءتهم: قد كان لكم، يا معشر اليهود، عبرةٌ ومتفكرٌ في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم، هؤلاء المشركين في كثرة عددهم.
فإن قال قائل: وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء؟ وأيّ الفئتين رأت صاحبتها مثليها؟ الفئة المسلمةُ هي التي رأت المشركة مثليها، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك؟
قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم: الفئةُ التي رأت الأخرى مثلى أنفسها، الفئةُ المسلمة رأت عدَد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة، قلَّلها الله عز وجل في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها، ثم قللها في حال أخرى فرأتها مثل عَدَد أنفسها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود: « قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين » ، قال: هذا يوم بدر. قال عبد الله بن مسعود: قد نظرنا إلى المشركين، فرأيناهم يُضْعِفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدًا، وذلك قول الله عز وجل: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [ سورة الأنفال: 44 ]
فمعنى الآية على هذا التأويل: قد كان لكم، يا معشر اليهود، آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا : إحداهما مسلمة والأخرى كافرة، كثيرٌ عدد الكافرة، قليلٌ عدد المسلمة، ترى الفئة القليلُ عددُها، الكثيرَ عددُها أمثالا أنها إنما تكثر من العدد بمثل واحد، فهم يرونهم مثليهم. فيكون أحدُ المثلين عند ذلك، العددُ الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم، والمثل الآخر الضّعف الزائد على عددهم. فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله عز وجل المؤمنين أنه قلَّلهم في أعينهم.
والمعنى الآخر منه: التقليل الثاني، على ما قاله ابن مسعود: وهو أنْ أراهم عددَ المشركين مثل عددهم، لا يزيدون عليهم. فذلك التقليل الثاني الذي قال الله جل ثناؤه: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا .
وقال آخرون من أهل هذه المقالة: إن الذين رأوا المشركين مثليْ أنفسهم، هم المسلمون. غير أن المسلمين رَأوهم على ما كانوا به من عددهم لم يقلَّلوا في أعينهم، ولكن الله أيدهم بنصره. قالوا: ولذلك قال الله عز وجل لليهود: قد كان لكم فيهم عبرةٌ، يخوّفهم بذلك أنْ يحل بهم منهم مثل الذي أحَلَّ بأهل بدر على أيديهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ، أنـزلت في التخفيف يوم بدر، فإن المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمئة وثلاثة عشر رجلا وكان المشركون مثليهم، فأنـزل الله عز وحل: « قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين » ، وكان المشركون ستةً وعشرين وستمئة، فأيد الله المؤمنين. فكان هذا الذي في التخفيف على المؤمنين.
قال أبو جعفر: وهذه الرواية خلافُ ما تظاهرت به الأخبار عن عدة المشركين يوم بدر. وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين.
فقال بعضهم: كان عددهم ألفًا وقال بعضهم: ما بين التسعمئة إلى الألف.
ذكر من قال: « كان عددهم ألفًا » .
حدثني هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علي قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين، منهم رجل من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط. فأما القرشيّ فانفلت، وأما مولى عقبة فأخذناه، فجعلنا نقول: كم القوم؟ فيقول: هم والله كثير شديدٌ بأسُهم! فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كم القوم؟ فقال: هم والله كثير شديدٌ بأسهم! فجهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يخبره كم هم، فأبى. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: « كم يَنحرون من الجزُر؟ قال: عشرة كل يوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القومُ ألفٌ. »
حدثني أبو سعيد بن يوشع البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: أسرنا رجلا منهم - يعني من المشركين - يوم بدر، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا.
ذكر من قال: « كان عددهم ما بين التسعمئة إلى الألف » :
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرًا من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبرَ له عليه، فأصابوا راويةً من قريش: فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعَريض أبو يسار غلام بني العاص. فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما: كم القوم؟ قالا كثير! قال: ما عدّتهم؟ قالا لا ندري! قال: كم يَنحرون كل يوم؟ قالا يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا. قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: القومُ ما بين التسعمئة إلى الألف.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين » ، ذلكم يوم بدر، ألفٌ المشركون أو قاربوا، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وبضعة عشر رجلا.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ إلى قوله: « رأي العين » ، قال: يُضْعفون عليهم، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، يوم بدر.
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين » ، قال: كان ذلك يوم بدر، وكان المشركون تسعمئة وخمسين، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وثلاثة عشر.
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وبضعة عشر، والمشركون ما بين التسعمئة إلى الألف.
قال أبو جعفر: فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القولَ الذي رويناه عن ابن عباس في عدد المشركين يوم بدر. فإذْ كان ما قاله من حكينا قوله - ممن ذكر أن عددهم كان زائدًا على التسعمئة - [ صحيحًا ] ، فالتأويل الأول الذي قلناه على الرواية التي روينا عن ابن مسعود، أولى بتأويل الآية.
وقال آخرون: كان عددُ المشركين زائدًا على التسعمئة، فرأى المسلمون عدَدَهم على غير ما كانوا به من العدد. وقالوا: أرى اللهُ المسلمين عددَ المشركين قليلا آية للمسلمين. قالوا: وإنما عنى الله عز وجل بقوله: « يرونهم مثليهم » ، المخاطبين بقوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ . قالوا: وهم اليهود، غيرَ أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب، لأنه أمرٌ من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لهم، فحسن أن يخاطب مرة، ويخبرَ عنهم على وجه الخبر مرّة أخرى، كما قال: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [ سورة يونس: 22 ]
وقالوا: فإن قال لنا قائل: فكيف قيل: « يرونهم مثليهم رأي العين » ، وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذ ثلاثة أمثال المسلمين؟
قلنا لهم: كما يقول القائل وعنده عبد: « أحتاج إلى مثله » ، فأنت محتاج إليه وإلى مثله، ثم يقول: « أحتاج إلى مثليه » ، فيكون ذلك خبرًا عن حاجته إلى مثله، وإلى مثلَيْ ذلك المثل. وكما يقول الرجل: « معي ألفٌ وأحتاج إلى مثليه » . فهو محتاج إلى ثلاثة. فلما نوى أن يكون « الألف » داخلا في معنى « المثل » صار « المثل » اثنين، والاثنان ثلاثة. قال: ومثله في الكلام: « أراكم مثلكم » ، كأنه قال: أراكم ضعفكم « وأراكم مثليكم » . يعني: أراكم ضعفيكم. قالوا: فهدا على معنى ثلاثة أمثالهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنّ الله أرى الفئةَ الكافرةَ عددَ الفئة المسلمة مثلَيْ عددهم.
وهذا أيضًا خلاف ما دلّ عليه ظاهر التنـزيل. لأن الله جل ثناؤه قال في كتابه: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [ سورة الأنفال: 44 ] ، فأخبر أن كلا من الطائفتين قلل عددها في مرأى الأخرى.
قال أبو جعفر: وقرأ آخرون ذلك: ( تُرَوْنَهُمْ ) بضم التاء، بمعنى: يريكموهم الله مثليهم.
قال أبو جعفر: وأولى هذه القراءات بالصواب، قراءةُ من قرأ: « يرونهم » بالياء، بمعنى: وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم - يعني: مثلي عدد المسلمين ، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال، فكان حَزْرهم إياهم كذلك، ثم قللهم في أعينهم عن التقليل الأول، فحزروهم مثل عدد المسلمين، ثم تقليلا ثالثًا، فحزروهم أقل من عدد المسلمين، كما:-
حدثني أبو سعيد البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لقد قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: تَرَاهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا.
وقد روى عن قتادة أنه كان يقول: لو كانت: « ترونهم » ، لكانت « مثليكم » .
حدثني المثنى قال، حدثني عبد الرحمن بن أبي حماد، عن ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة بذلك.
قال أبو جعفر: ففي الخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود، ما أبان عن اختلاف حَزْر المسلمين يومئذ عددَ المشركين في الأوقات المختلفة، فأخبر الله عز وجل - عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين - اليهودَ، على ما كان به عندهم، مع علم اليهود بمبلغ عدد الفئتين إعلامًا منه لهم أنه مؤيد المؤمنين بنصره، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم، وليحذروا منه أن يُحلّ بهم من العقوبة على أيدي المؤمنين، مثلَ الذي أحلّ بأهل الشرك به من قريش على أيديهم ببدر.
وأما قوله: « رأي العين » ، فإنه مصدر: « رَأيتهُ » يقال: « رأيته رأيًا ورُؤْية » ، و « رأيت في المنام رؤيَا حسنةٌ » ، غير مُجْراة. يقال: « هو مني رَأيَ العين، ورِئاءَ العين » ، بالنصب والرفع، يراد: حيث يقع عليه بصري، وهو من « الرأي » مثله. و « القوم رئاءٌ » ، إذا جلسوا حيث يرى بعضُهم بعضًا.
فمعنى ذلك: يرونهم - حيث تلحقهم أبصارُهم وتراهم عيونُهم - مثليْهم.
القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ( 13 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « والله يؤيد » ، يقوّي « بنصره من يشاء » .
من قول القائل: « قد أيَّدت فلانًا بكذا » ، إذا قوّيته وأعنته، « فأنا أؤيّده تأييدًا » . و « فَعَلت » منه: « إدته فأنا أئيده أيدًا » ، ومنه قول الله عز وجل: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ [ سورة ص: 17 ] ، يعني: ذا القوة.
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: قد كان لكم يا معشر اليهود، في فئتين التقتا، إحداهما تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم، فأيدنا المسلمة وهم قليلٌ عددهم، على الكافرة وهم كثير عدَدُهم حتى ظفروا بهم معتبر ومتفكر، والله يقوّى بنصره من يشاء.
وقال جل ثناؤه « إنّ في ذلك » ، يعني: إن فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم: من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددها، على الفئة الكافرة مع كثرة عددها « لعبرة » ، يعني: لمتفكرًا ومتَّعظًا لمن عقل وادّكر فأبصر الحق، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار » ، يقول: لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكر، أيَّدهم الله ونصرهم على عدوّهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
القول في تأويل قوله : زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: زُيِّن للناس محبة ما يشتهون من النساء والبنين وسائر ما عدّ. وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثرُوا الدنيا وحبَّ الرياسة فيها، على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد علمهم بصدقه.
وكان الحسن يقول: منْ زَيْنِها، ما أحدٌ أشدّ لها ذمًّا من خالقها.
حدثني بذلك أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو الأشعث عنه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد قال، قال عمر: لما نـزل: « زُيِّن للناس حب الشهوات » ، قلت: الآن يا رَبِّ حين زيَّنتها لنا! فنـزلت: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [ سورة آل عمران: 15 ] ، الآية.
وأما « القناطير » فإنها جمع « القنطار » .
واختلف أهل التأويل في مبلغ القنطار.
فقال بعضهم: هو ألف ومئتا أوقية.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن معاذ بن جبل قال: القنطار: ألف ومئتا أوقية.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن معاذ مثله.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا - يعني حفص بن ميسرة - عن أبي مروان، عن أبي طيبة، عن ابن عمر قال: القنطار ألف ومئتا أوقية.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم بن مالك المزني قال، أخبرني العلاء بن المسيب، عن عاصم بن أبي النجود قال: القنطار ألف ومئتا أوقية.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مثله.
حدثني زكريا بن يحيى الضرير قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا مخلد بن عبد الواحد، عن علي بن زيد، عن عطاء بن أبى ميمونة، عن زِرّ بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القنطار ألف أوقية ومئتا أوقية.
وقال آخرون: القنطار ألف دينار ومئتا دينار.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القنطارُ ألف ومئتا دينار.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال: القنطار: ألف ومئتا دينار.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: القنطار ألف ومئتا دينار، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: « القناطير المقنطرة » ، يعني: المالَ الكثير من الذهب والفضة، والقنطار ألف ومئتا دينار، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال.
وقال آخرون: القنطار اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: القنطار اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: القنطار ألف دينار، ومن الوَرِق اثنا عشر ألف درهم.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أن القنطار اثنا عشر ألفا.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا عوف، عن الحسن: القنطار اثنا عشر ألفا.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا .................... قال أخبرنا عوف، عن الحسن: اثنا عشر ألفا.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن بمثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن قال: القنطار ألفُ دينار، ديةُ أحدكم.
وقال آخرون: هو ثمانون ألفًا من الدراهم، أو مئة رطل من الذهب.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: القنطار ثمانون ألفًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: القنطار ثمانون ألفًا.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كنا نُحدَّث أن القنطار مئة رطل من ذهب، أو ثمانون ألفًا من الوَرِق.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: القنطار مئة رطل من ذهب، أو ثمانون ألف درهم من وَرِق.
حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: القنطار مئة رطل.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: القنطار يكون مئة رطل، وهو ثمانية آلاف مثقال.
وقال آخرون: القنطار سبعون ألفًا.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « القناطير المقنطرة » ، قال: القنطار: سبعون ألف دينار.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عمر بن حوشب قال، سمعت عطاء الخراساني قال: سئل ابن عمر عن القنطار فقال: سبعون ألفًا.
وقال أخرون: هي مِلء مَسْك ثور ذهبًا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا سعيد الجرَيْري، عن أبي نضرة قال: ملءُ مَسك ثور ذهبًا.
حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو الأشعث، عن أبي نضرة: ملء مَسك ثور ذهبًا.
وقال آخرون: هو المال الكثير.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: « القناطير المقنطرة » ، المال الكثير، بعضُه على بَعض.
وقد ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب: أن العرب لا تحدّ القنطار بمقدار معلوم من الوزن، ولكنها تقول: « هو قَدْرُ وزنٍ » .
قال أبو جعفر: وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك، لأن ذلك لو كان محدودًا قدرُه عندها، لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كلّ هذا الاختلاف.
قال أبو جعفر: فالصواب في ذلك أن يقال: هو المال الكثير، كما قال الربيع بن أنس، ولا يحدُّ قدرُ وزنه بحدٍّ على تَعسُّف. وقد قيل ما قيل مما روينا.
وأما « المقنطرة » ، فهي المضعَّفة، وكأن « القناطير » ثلاثة، و « المقنطرة » تسعة. وهو كما قال الربيع بن أنس: المال الكثيرُ بعضه على بعض، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة: « القناطير المقنطرة من الذهب والفضة » ، والمقنطرة المال الكثيرُ بعضه على بعض.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: « القناطير المقنطرة » ، يعني المال الكثير من الذهب والفضة.
وقال آخرون: معنى « المقنطرة » : المضروبة دراهم أو دنانير.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا موسى قالى، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: « المقنطرة » ، فيقول: المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا - خبرٌ لو صحّ سندُه، لم نعدُه إلى غيره. وذلك ما:-
حدثنا به ابن عبد الرحمن البرقي قال، حدثني عمرو بن أبي سلمة قال، حدثنا زهير بن محمد قال، حدثني أبان بن أبي عياش وحميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [ سورة النساء: 20 ] ، قال: ألفا مئين يعني ألفين.
القول في تأويل قوله : وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « المسوَّمة » .
فقال بعضهم: هى الراعية.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير: « الخيل المسوّمة » ، قال: الراعية، التي ترعى.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير: هي الراعية، يعني: السائمة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن طلحة القناد قال، سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يقول: الراعية.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « والخيل المسومة » . قال: الراعية.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، : « والخيل المسومة » المسرَّحة في الرّعي.
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « والخيل المسوّمة، قال: الخيل الراعية. »
حدثت عن عمار قال ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: أنه كان يقول: الخيل الراعية.
وقال آخرون: « المسوّمة » : الحسان.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب قال: قال مجاهد: « المسوّمة » ، المطهَّمة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد في قوله: « والخيل المسومة » ، قال: المطهَّمة الحسان.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « والخيل المسوّمة » ، قال: المطهمة حسْنًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن مجاهد: المطهمة.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال: سألت عكرمة عن « الخيل المسوّمة » ، قال: تَسويمها، حُسنها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال: سمعت عكرمة يقول: « الخيل المسوّمة » ، قال: تسويمها: الحُسن.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « الخيل المسوّمة والأنعام » ، الرائعة.
وقد حدثني بهذا الحديث عن عمرو بن حماد غيرُ موسى، قال: الراعية.
وقال آخرون: « الخيل المسوّمة » ، المعلَمة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « والخيل المسوّمة » ، يعني: المعلَمة.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « والخيل المسوّمة » ، وسيماها، شِيَتُها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « والخيل المسوّمة » ، قال: شِيَة الخيل في وُجوهها.
وقال غيرهم: « المسوّمة » ، المعدّة للجهاد.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « والخيل المسومة » ، قال: المعدّة للجهاد.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: « والخيل المسوّمة » ، المعلَمة بالشِّيات، الحسان، الرائعة حسنًا من رآها. لأن « التسويم » في كلام العرب: هو الإعلام. فالخيل الحسان مُعلَمةٌ بإعلام الله إياها بالحسن من ألوانها وشِياتها وهيئاتها، وهي « المطهَّمة » ، أيضًا. ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان في صفة الخيل:
بِضُمْـــرٍ كَـــالقِدَاحِ مُســوَّماتٍ عَلَيْهَـــا مَعْشَــرٌ أَشْــبَاهُ جِــنِّ
يعني ب « المسوّمات » ، المعلمات، وقول لبيد:
وَغَــدَاةَ قَــاعِ القُــرْنَتَيْنِ أَتَيْنَهُـمْ زُجَــلا يُلُــوحُ خِلالَهَــا التَّسْـوِيمُ
فمعنى تأويل من تأول ذلك: « المطهمةَ، والمعلمة، والرائعة » ، واحدٌ.
وأما قول من تأوّله بمعنى: الراعية، فإنه ذهب إلى قول القائل: « أسمْتُ الماشية فأنا أُسيمها إسامة » ، إذا رعيتها الكلأ والعشب، كما قال الله عز وجل: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [ سورة النحل: 10 ] ، بمعنى: ترعَوْن، ومنه قول الأخطل:
مِثْـلَ ابْـنِ بَزْعَـةَ أَوْ كـآخَرَ مِثْلِـهِ, أَوْلَـى لَـكَ ابْـنَ مُسِـيمَةِ الأجْمَـالِ!
يعني بذلك: راعية الأجمال. فإذا أريد أنّ الماشية هي التي رعت، قيل: « سامت الماشية تسوم سومًا » ، ولذلك قيل: « إبل سائمة » ، بمعنى: راعية، غير أنه غير مستفيض في كلامهم: « سوَّمتُ الماشيةَ » ، بمعنى أرعيتها، وإنما يقال إذا أريد ذلك: « أسمتها » .
فإذْ كان ذلك كذلك، فتوجيه تأويل « المسوّمة » إلى أنها « المعلمة » بما وصفنا من المعاني التي تقدم ذكرها، أصحّ.
وأما الذي قاله ابن زيد: من أنها المعدّة في سبيل الله، فتأويل من معنى « المسوّمة » ، بمعزِلٍ.
القول في تأويل قوله : وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ
قال أبو جعفر: فـ « الأنعام » جمع « نَعَم » ، وهي الأزواج الثمانية التي ذكرها في كتابه: من الضّأن والمعِز والبقر والإبل.
وأما « الحرث » ، فهو الزّرع.
وتأويل الكلام: زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء، ومن البنين، ومن كذا، ومن كذا، ومن الأنعام والحرث.
القول في تأويل قوله : ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ( 14 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جَل ثناؤه: « ذلك » ، جميعَ ما ذُكر في هذه الآية من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث. فكنى بقوله: « ذلك » عن جميعهن. وهذا يدل على أن « ذلك » يشتمل على الأشياء الكثيرة المختلفة المعاني، ويكنى به عن جميع ذلك.
وأما قوله: « متاع الحياة الدنيا » ، فإنه خبر من الله عن أن ذلك كله مما يَستمتع به في الدنيا أهلها أحياءً، فيتبلَّغون به فيها، ويجعلونه وُصْلة في معايشهم، وسببًا لقضاء شهواتهم، التي زُيِّن لهم حبها في عاجل دنياهم، دون أن تكون عدّة لمعادهم، وقُرْبة لهم إلى ربهم، إلا ما أسلِك في سبيله، وأنفق منه فيما أمَر به.
وأما قوله: « والله عنده حسن المآب » ، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وعند الله حُسن المآب يعني: حسن المرْجع، كما:-
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي: « والله عنده حسن المآب » ، يقول: حسن المنقلب، وهي الجنة.
وهو مصدر على مثال « مَفْعَل » من قول القائل: « آب الرجل إلينا » ، إذا رجع، « فهو يؤوب إيابًا وأوبة وأيبةً وَمآبًا » ، غير أن موضع الفاء منها مهموز، والعين مبدلة من « الواو » إلى « الألف » بحركتها إلى الفتح. فلما كان حظها الحركة إلى الفتح، وكانت حركتها منقولة إلى الحرف الذي قبلها - وهو فاء الفعل - انقلبت فصارت « ألفا » ، كما قيل: « قال » فصارت عين الفعل « ألفًا » ، لأن حظها الفتح. « والمآب » مثل « المقال » و « المعاد » و « المجال » ، كل ذلك « مفعَل » منقولة حركة عينه إلى فائه، فمصيَّرةٌ واوه أو ياؤه « ألفًا » لفتحة ما قبلها.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل: « والله عنده حسن المآب » ، وقد علمتَ ما عنده يومئذ من أليم العذاب وشديد العقاب؟
قيل: إن ذلك معنىّ به خاصٌ من الناس، ومعنى ذلك: والله عنده حسن المآب للذين اتقوا ربهم. وقد أنبأنا عن ذلك في هذه الآية التي تليها.
فإن قال: وما « حسن المآب » ؟ قيل: هو ما وصفه به جل ثناؤه، وهو المرجع إلى جنات تجري من تحتها الأنهار مُخلَّدًا فيها، وإلى أزواج مطهرة ورضوان من الله.
القول في تأويل قوله : قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( 15 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: قل، يا محمد، للناس الذين زُيِّن لهم حب الشهوات من النساء والبنين، وسائر ما ذكر ربنا جل ثناؤه: « أؤنبئكم » ، أأخبركم وأعلمكم « بخير من ذلكم » ، يعني: بخير وأفضل لكم « من ذلكم » ، يعني: مما زُيِّن لكم في الدنيا حبُّ شهوته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وأنواع الأموال التي هي متاع الدنيا.
ثم اختلف أهل العربية في الموضع الذي تناهى إليه الاستفهام من هذا الكلام.
فقال بعضهم: تناهى ذلك عند قوله: « من ذلكم » ، ثم ابتدأ الخبر عما للذين اتقوا عند ربهم، فقيل: « للذين اتقوا عند ربهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها » ، فلذلك رفع « الجنات » .
ومن قال هذا القول لم يجز في قوله: « جنات تجري من تحتها الأنهار » إلا الرفع، وذلك أنه خبر مبتدأ غيرُ مردود على قوله: « بخير » ، فيكون الخفض فيه جائزا. وهو وإن كان خبرًا مبتدأ عندهم، ففيه إبانة عن معنى « الخير » الذي أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: للناس: أؤنبئكم به؟ « والجنات » على هذا القول مرفوعة باللام التي في قوله: « للذين اتقوا عند ربهم » .
وقال آخرون منهم بنحو من هذا القول، إلا أنهم قالوا: إن جعلت اللام التي في قوله: « للذين » من صلة « الإنباء » ، جاز في « الجنات » الخفض والرفع: الخفضُ على الرد على « الخير » ، والرفع على أن يكون قوله: « للذين اتقوا » خبرَ مبتدأ، على ما قد بيَّناه قبلُ.
وقال آخرون: بل منتهى الاستفهام قوله: « عند ربهم » ، ثم ابتدأ: « جناتٌ تجري من تحتها الأنهار » . وقالوا: تأويل الكلام: « قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم » ، ثم كأنه قيل: « ماذا لهم » . أو: « ما ذاك » ؟ فقال: هو « جناتٌ تجري من تحتها الأنهار » ، الآية.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من جعل الاستفهام متناهيًا عند قوله: « بخير من ذلكم » ، والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله: « للذين اتقوا عند ربهم جنات » ، فيكون مخرج ذلك مخرج الخبر، وهو إبانة عن معنى « الخير » الذي قال: أؤنبئكم به؟ فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: وأما قوله: « خالدين فيها » ، فمنصوب على القطع
ومعنى قوله: « للذين اتقوا » ، للذين خافوا الله فأطاعوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. « عند ربهم » ، يعني بذلك: لهم جنات تجري من تحتها الأنهار عند ربهم.
« والجنات » ، البساتين، وقد بينا ذلك بالشواهد فيما مضى وأنّ قوله: « تجري من تحتها الأنهار » ، يعني به: من تحت الأشجار، وأن « الخلود » فيها دوام البقاء فيها، وأن « الأزواج المطهرة » ، هن نساء الجنة اللواتي طُهِّرن من كل أذًى يكون بنساء أهل الدنيا، من الحيض والمنىّ والبوْل والنفاس وما أشبه ذَلك من الأذى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: « ورِضْوَانٌ من الله » ، يعني: ورضى الله، وهو مصدر من قول القائل: « رَضي الله عن فلان فهو يَرْضى عنه رضًى » منقوص « ورِضْوانًا ورُضْوانًا ومَرْضاةً » . فأما « الرُّضوان » بضم الراء، فهو لغة قيس، وبه كان عاصم يقرأ.
قال أبو جعفر: وإنما ذكر الله جل ثناؤه فيما ذكر للذين اتقوا عنده من الخير رضْوانَه، لأن رضوانه أعلى منازل كرامة أهل الجنة، كما:-
حدثنا ابن بشار قال، حدثني أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: إذا دخل أهلُ الجنة الجنة، قال الله تبارك وتعالى: أعطيكم أفضلَ من هذا! فيقولون: أيْ ربنا، أيّ شيء أفضل من هذا؟ قال: رِضْواني.
وقوله: « والله بصير بالعباد » ، يعني بذلك: واللهُ ذو بصر بالذي يتقيه من عباده فيخافه، فيطيعه، ويؤثر ما عنده مما ذكر أنه أعدّه للذين اتقوه على حُبّ ما زُيِّنَ له في عاجل الدنيا من شهوات النساء والبنين وسائر ما عدّد منها تعالى ذكره وبالذي لا يتقيه فيخافه، ولكنه يعصيه ويطيع الشيطان ويؤثر ما زيِّن له في الدنيا من حب شهوة النساء والبنين والأموال، على ما عنده من النعيم المقيم عالمٌ تعالى ذكره بكلّ فريق منهم، حتى يجازي كلَّهم عند معادهم إليه جزاءَهم، المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته.
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( 16 )
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك. قل هل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا، [ الذين ] يقولون: « ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار » .
وقد يحتمل « الذين يقولون » ، وجهين من الإعراب: الخفض على الردّ على « الذين » الأولى، والرفع على الابتداء، إذ كان في مبتدأ آية أخرى غير التي فيها « الذين » الأولى، فيكون رفعها نظير قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [ سورة التوبة: 111 ] ، ثم قال في مبتدأ الآية التي بعدها: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ [ سورة التوبة: 112 ] . ولو كان جاء ذلك مخفوضًا كان جائزًا.
ومعنى قوله: « الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا » : الذين يقولون: إننا صدّقنا بك وبنبيك وما جاء به من عندك « فاغفر لنا ذنوبنا » ، يقول: فاستر علينا ذنوبنا، بعفوك عنها، وتركك عقوبتنا عليها « وقنا عذاب النار » ، ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها. وإنما معنى ذلك: لا تعذبنا يا ربنا بالنار.
وإنما خصّوا المسألةَ بأن يقيهم عذاب النار، لأن من زُحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب الله وحسن مآبه.
وأصل قوله: « قنا » من قول القائل: « وقى الله فلانًا كذا » ، يراد: دفع عنه، « فهو يقيه » . فإذا سأل بذلك سائلٌ قال: « قِنِى كذا » .
القول في تأويل قوله : الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: « الصابرين » ، الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس.
ويعني بـ « الصادقين » ، الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرارَ به وبرسوله وما جاء به من عنده، بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه.
ويعني بـ « القانتين » ، المطيعين له.
وقد أتينا على الإبانة عن كل هذه الحروف ومعانيها بالشواهد على صحة ما قلنا فيها، وبالأخبار عمن قال فيها قولا فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقد كان قتادة يقول في ذلك بما:-
حدثنا به بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين » ، « الصادقين » : قوم صدَقت أفواههم واستقامت قُلوبهم وألسنتهم، وصَدقوا في السرّ والعلانية « والصابرين » ، قوم صبروا على طاعة الله، وصَبروا عن محارمه « والقانتون » ، هم المطيعون لله.
وأما « المنفقون » ، فهم المؤتون زكوات أموالهم، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم جل ثناؤه بإنفاقها فيها.
وأما « الصابرين » و « الصادقين » ، وسائر هذه الحروف، فمخفوض ردًا على قوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا ، والخفض في هذه الحروف يدل على أن قوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ خفض، ردًّا على قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ .
القول في تأويل قوله : وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ( 17 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم.
فقال بعضهم: هم المصلون بالأسحار.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « والمستغفرين بالأسحار » ، هم أهل الصلاة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة: « والمستغفرين بالأسحار » ، قال: يصلون بالأسحار.
وقال آخرون: هم المستغفرون.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حريث بن أبي مطر، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحرٌ، فاغفر لي. فنظرت فإذا ابنُ مسعود.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن قول الله عز وجل: « والمستغفرين بالأسحار » ، قال: حدثني سليمان بن موسى قال، حدثنا نافع: أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاةً ثم يقول: يا نافع، أسحَرْنا؟ فيقول: لا. فيعاود الصلاة، فإذا قلت: نعم! قعد يستغفر ويدعو حتى يُصْبح.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بعض البصريين، عن أنس بن مالك قال: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا أبو يعقوب الضبي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من صلَّى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة، كتب من المستغفرين بالأسحار.
وقال آخرون: هم الذين يشهدون الصّبح في جماعة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبي قال، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن قال، قلت لزيد بن أسلم: مَنْ « المستغفرين بالأسحار » ، قال: هم الذين يشهدون الصّبح.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله: « والمستغفرين بالأسحار » ، قول من قال: هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها.
« بالأسحار » وهى جمع « سَحَر » .
وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء. وقد يحتمل أن يكون معناه: تعرّضهم لمغفرته بالعمل والصلاة، غيرَ أنّ أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء.
القول في تأويل قوله : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 18 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة، وأولو العلم.
فـ « الملائكة » معطوف بهم على اسم « الله » ، و « أنه » مفتوحة بـ « شهد » .
قال أبو جعفر: وكان بعض البصريين يتأول قوله: « شهد الله » ، قضى الله، ويرفع « الملائكة » ، بمعنى: والملائكة شهود وأولو العلم.
وهكذا قرأت قرأة أهل الإسلام بفتح الألف من « أنه » ، على ما ذكرت من إعمال « شهد » في « أنه » الأولى، وكسر الألف من « إن » الثانية وابتدائها. سوى أنّ بعض المتأخرين من أهل العربية، كان يقرأ ذلك جميعًا بفتح ألفيهما، بمعنى: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وأنّ الدين عند الله الإسلام - فعطف بـ « أن الدين » على « أنه » الأولى، ثم حذف « واو » العطف، وهى مرادة في الكلام. واحتج في ذلك بأن ابن عباس قرأ ذلك: ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) الآية. ثم قال: إِنَّ الدِّينَ ، بكسر « إنّ » الأولى، وفتح « أنّ » الثانية بإعمال « شهد » فيها، وجعل « أن » الأولى اعتراضًا في الكلام غير عامل فيها « شَهد » وأن ابن مسعود قرأ: « شهد الله أنه لا إله إلا هو » بفتح « أن » وكسر « إنّ » من: « إنّ الدّين عند الله الإسلام » على معنى إعمال « الشهادة » في « أن » الأولى، و « أن » الثانية مبتدأة. فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بالفتح، جمع قراءة ابن عباس وابن مسعود. فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك على ما وصفت، جميعَ قرأة أهل الإسلام المتقدّمين منهم والمتأخرين، بدعوى تأويلٍ على ابن عباس وابن مسعود، زعم أنهما قالاه وقرآ به. وغيرُ معلوم ما ادّعى عليهما برواية صحيحة ولا سقيمة. وكفى شاهدًا على خطأ قراءته، خروجها من قراءة أهل الإسلام.
قال أبو جعفر: فالصواب إذ كان الأمر على ما وصفنا من قراءة ذلك - فتحُ الألف من « أنه » الأولى، وكسر الألف من « إنّ » الثانية، أعني من قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ، ابتداءً.
وقد روي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدالّ على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية، في فتح « أنّ » من قوله: « أنّ الدين » ، وهو ما:-
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة » إلى « لا إله إلا هو العزيز الحكيم » ، قال: الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس: أنّ الدين عند الله الإسلام.
فهذا التأويل يدل على أن « الشهادة » إنما هي عاملة في « أنّ » الثانية التي في قوله: « أن الدين عند الله الإسلام » . فعلى هذا التأويل جائز في « أن » الأولى وجهان من التأويل:
أحدهما: أن تكون الأولى منصوبةً على وجه الشرط، بمعنى: شهد الله بأنه واحد فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم « والشهادة » عاملة في « أن » الثانية، كأنك قلت: شهد الله أن الدّين عند الله الإسلام، لإنه واحدٌ، ثم تقدم « لأنه واحد » ، فتفتحها على ذلك التأويل.
والوجه الثاني: أن تكون « إنّ » الأولى مكسورة بمعنى الابتداء، لأنها معترضٌ بها، « والشهادة » واقعة على « أنّ » الثانية: فيكون معنى الكلام: شهد الله فإنه لا إله إلا هو - والملائكة، أنّ الدين عند الله الإسلام، كقول القائل: « أشهد - فإني محقٌ - أنك مما تعاب به برئ » ، فـ « إن » الأولى مكسورة، لأنها معترضة، « والشهادة » واقعة على « أنّ » الثانية.
قال أبو جعفر: وأما قوله: « قائمًا بالقسط » ، فإنه بمعنى: أنه الذي يلي العدل بين خلقه.
« والقسط » ، هو العدل، من قولهم: « هو مقسط » و « قد أقسط » ، إذا عَدَل.
ونصب « قائمًا » على القطع.
وكان بعض نحويي أهل البصرة يزعم أنه حال من « هو » التي في « لا إله إلا هو » .
وكان بعض نحويي الكوفة يزعم أنه حالٌ من اسم « الله » الذي مع قوله: « شهد الله » ، فكان معناه: شهد الله القائمُ بالقسط أنه لا إله إلا هو. وقد ذُكر أنها في قراءة ابن مسعود كذلك: ( وَأُولُو الْعِلْمِ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ ) ، ثم حذفت « الألف واللام » من « القائم » ، فصار نكرة وهو نعت لمعرفة، فنصب.
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي، قولُ من جعله قَطعًا، على أنه من نعت الله جل ثناؤه، لأن « الملائكة وأولي العلم » ، معطوفون عليه. فكذلك الصحيح أن يكون قوله: « قائمًا » حالا منه.
وأما تأويل قوله: « لا إله إلا هو العزيز الحكيم » ، فإنه نفى أن يكون شيء يستحقّ العُبودَة غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه.
ويعني ب « العزيز » ، الذي لا يمتنع عليه شيء أراده، ولا ينتصر منه أحد عاقبه أو انتقم منه « الحكيم » في تدبيره، فلا يدخله خَلل.
قال أبو جعفر: وإنما عنى جل ثناؤه بهذه الآية نَفْيَ ما أضافت النصارَى الذين حاجُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من البنوّة، وما نسب إليه سائرُ أهل الشرك من أنّ له شريكًا، واتخاذهم دونه أربابًا. فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالقُ كلّ ما سواه، وأنه ربّ كلِّ ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربًّا دونه، وأنّ ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهلُ العلم به من خلقه. فبدأ جل ثناؤه بنفسه، تعظيمًا لنفسه، وتنـزيهًا لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به - ما نسبوا إليها، كما سنّ لعباده أن يبدءوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره، مؤدِّبًا خلقه بذلك.
والمرادُ من الكلام، الخبرُ عن شهادة من ارتضاهم من خلقه فقدّسوه: من ملائكته وعلماء عباده. فأعلمهم أن ملائكته - التي يعظِّمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدُها الكثير منهم - وأهلَ العلم منهم، منكرون ما هم عليه مقيمون من كفرهم وقولهم في عيسى، وقولَ من اتخذ ربًّا غيره من سائر الخلق، فقال: شهدت الملائكة وأولُو العلم أنه لا إله إلا هو، وأن كل من اتخذ ربًّا دون الله فهو كاذبٌ احتجاجًا منه لنبيه عليه السلام على الذين حاجُّوه من وفد نجران في عيسى.
واعترض بذكر الله وصفته، على ما بيَّنتُ، كما قال جل ثناؤه: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [ سورة الأنفال: 41 ] ، افتتاحًا باسمه الكلام، فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادةَ بما وصفناه: من نَفْي الألوهة عن غيره، وتكذيب أهل الشرك به.
فأما ما قال الذي وصفنا قوله: من أنه عنى بقوله: « شهد » ، قضى - فمما لا يعرف في لغة العرب ولا العجم، لأن « الشهادة » ، معنًى، « والقضاء » غيرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن بعض المتقدمين القول في ذلك.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم » ، بخلاف ما قالوا - يعني: بخلاف ما قال وفدُ نجران من النصارى « قائمًا بالقسط » ، أي بالعدل.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « بالقسط » ، بالعدل.
القول في تأويل قوله : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ
قال أبو جعفر: ومعنى « الدين » ، في هذا الموضع: الطاعة والذّلة، من قول الشاعر:
وَيَــوْمُ الحَــزْنِ إِذْ حُشِـدَتْ مَعَـدٌّ وَكَــانَ النَّــاسُ, إِلا نَحْــنُ دِينَـا
يعني بذلك: مطيعين على وجه الذل، ومنه قول القطامي:
كانَتْ نَوَارُ تَدِينُك الأدْيانا
يعني: تُذلك، وقول الأعشى ميمون بن قيس:
هُـوَ دَانَ الـرِّبَابَ إذْ كَـرِهُـوا الـدِّ ينَ دِرَاكًـا بِغَـــزْوَةٍ وَصِيَــالِ
يعني بقوله: « دان » ذلل وبقوله: « كرهوا الدين » ، الطاعة.
وكذلك « الإسلام » ، وهو الانقياد بالتذلل والخشوع، والفعل منه: « أسلم » بمعنى: دخل في السلم، كما يقال: « أقحط القوم » ، إذا دخلوا في القحط،
« وأربعوا » ، إذا دخلوا في الربيع فكذلك « أسلموا » ، إذا دخلوا في السلم، وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة.
فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل قوله: « إنّ الدّين عند الله الإسلام » : إنَّ الطاعةَ التي هي الطاعة عنده، الطاعةُ له، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذّلة، وانقيادُها له بالطاعة فيما أمر ونهى، وتذلُّلها له بذلك، من غير استكبار عليه، ولا انحراف عنه، دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودة والألوهة.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إنّ الدين عندَ الله الإسلام » ، والإسلام: شهادة أنّ لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه، لا يقبل غيرَه ولا يجزى إلا به.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، حدثنا أبو العالية في قوله: « إن الدين عند الله الإسلام » ، قال: « الإسلام » ، الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقامُ الصّلاة، وإيتاءُ الزكاة، وسائرُ الفرائض لهذا تَبعٌ.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: أَسْلَمْنَا [ سورة الحجرات: 14 ] ، قال: دخلنا في السِّلم، وتركنا الحرب.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « إنّ الدين عند الله الإسلام » ، أي: ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ، والتصديق للرسل.
القول في تأويل قوله : وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل - وهو « الكتاب » الذي ذكره الله في هذه الآية - في أمر عيسى، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الأقوال التي كثر بها اختلافهم بينهم، وتشتّتت بها كلمتهم، وباين بها بعضهم بعضًا؛ حتى استحلّ بها بعضُهم دماءَ بعض « إلا من بعد ما جَاءهم العلم بغيًا بينهم » ، يعني: إلا من بعد ما علموا الحقّ فيما اختلفوا فيه من أمره، وأيقنوا أنهم فيما يقولون فيه من عظيم الفِرْية مبطلون. فأخبر الله عباده أنهم أتوا ما أتوا من الباطل، وقالوا من القول الذي هو كفر بالله، على علم منهم بخطأ ما قالوه، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلا منهم بخطئه، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه الاختلافَ الذي هم عليه، تعدِّيًا من بعضهم على بعض، وطلبَ الرياسات والملك والسلطان، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم » ، قال: قال أبو العالية، إلا من بعد ما جاءهم الكتابُ والعلم « بغيًا بينهم » ، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا، من بعد ما كانوا علماءَ الناس.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن ابن عمر: أنه كان يكثر تلاوة هذه الآية: « إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم » ، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها. مِنْ قِبَلها والله أتِينا! ما كان علينا مَنْ يكون علينا، بعد أن يأخذ فينا كتابَ الله وسنة نبيه، ولكنا أتِينا من قبلها.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: إن موسى لما حضره الموتُ دعا سبعين حَبرا من أحبار بني إسرائيل، فاستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليه، كلّ حبر جُزءًا منه، واستخلف موسى يوشع بن نون. فلما مضى القرن الأول ومضى الثاني ومضى الثالث، وقعت الفرقة بينهم - وهم الذين أوتوا العلم من أبناء أولئك السبعين - حتى أهَرقوا بينهم الدماء، ووقع الشرّ والاختلاف. وكان ذلك كله من قبل الذين أتوا العلم، بغيًا بينهم على الدنيا، طلبًا لسلطانها وملكها وخزائنها وزخرفها، فسلَّط الله عليهم جبابرتهم، فقال الله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ إلى قوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ .
فقولُ الربيع بن أنس هَذا، يدلّ على أنه كان عنده أنه معنيٌّ بقوله: « وما اختلف الذين أوتوا الكتاب » ، اليهودُ من بني إسرائيل، دون النَّصارى منهم، وغيرهم.
وكان غيره يوجه ذلك إلى أن المعنىّ به النصارى الذين أوتوا الإنجيل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم » ، الذي جاءك، أي أنّ اللهَ الواحدُ الذي ليس له شريك « بغيًا بينهم » ، يعني بذلك النصارى.
القول في تأويل قوله : وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 19 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك: ومن يجحدُ حجج الله وأعلامه التي نصَبها ذكرَى لمن عقل، وأدلةً لمن اعتبر وتذكر، فإن الله محص عليه أعماله التي كان يعملها في الدنيا، فمجازيه بها في الآخرة، فإنه جل ثناؤه « سريع الحساب » ، يعني: سريع الإحصاء. وإنما معنى ذلك أنه حافظ على كل عامل عمله، لا حاجة به إلى عقد كما يعقده خلقه بأكفِّهم، أو يعونه بقلوبهم، ولكنه يحفظ ذلك عليهم، بغير كلفة ولا مؤونة، ولا معاناة لما يعانيه غيرُه من الحساب.
وبنحو الذي قلنا في معنى « سريع الحساب » ، كان مجاهد يقول:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب » ، قال: إحصاؤه عليهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب » ، إحصاؤه.
القول في تأويل قوله : فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن حاجَّك: يا محمد، النفرُ من نصارى أهل نجران في أمر عيسى صلوات الله عليه، فخاصموك فيه بالباطل، فقل: انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي. وإنما خَصّ جل ذكره بأمره بأن يقول: « أسلمت وجهي لله » ، لأن الوجه أكرمُ جوارح ابن آدم عليه، وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه.
وأما قوله: « ومن اتبعني » ، فإنه يعني: وأسلم من اتبعني أيضًا وجهه لله معي. و « من » معطوف بها على « التاء » في « أسلمت » ، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « فإن حاجُّوك » أي: بما يأتونك به من الباطل، من قولهم: « خَلقنا، وفعلنا، وجعلنا، وأمرنا » ، فإنما هي شبه باطلة قد عرفوا ما فيها من الحق « فقل أسلمت وَجهي لله ومن اتبعني » .
القول في تأويل قوله : وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « وقل » ، يا محمد، للذين أوتوا الكتاب « من اليهود والنصارى » والأميين « الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب » أأسلمتم « ، يقول: قل لهم: هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة والألوهة لرب العالمين، دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم وإقراركم بربوبيتهم، وأنتم تعلمون أنه لا ربّ غيره ولا إله سواه » فإن أسلموا « ، يقول: فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة والألوهة له » فقد اهتدوا « ، يعني: فقد أصابوا سبيل الحق، وسلكوا مَحَجَّة الرشد. »
فإن قال قائل: وكيف قيل: « فإن أسلموا فقد اهتدوا » عقيب الاستفهام؟ وهل يجوز على هذا في الكلام أن يقال لرجل: « هل تقوم؟ فإن تقم أكرمك » ؟
قيل: ذلك جائز، إذا كان الكلام مرادًا به الأمر، وإن خرج مخرج الاستفهام، كما قال جل ثناؤه: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [ سورة المائدة: 91 ] ، يعني: انتهوا، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن الحواريين أنهم قالوا لعيسى: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَـزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [ سورة المائدة: 112 ] ، وإنما هو مسألة، كما يقول الرجل: « هل أنت كافٌّ عنا » ؟ بمعنى: اكفف عنا، وكما يقول الرجل للرجل: « أينَ، أين » ؟ بمعنى: أقم فلا تبرح، ولذلك جُوزي في الاستفهام كما جوزي في الأمر في قراءة عبد الله: ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ آمِنُوا ) [ سورة الصف: 10، 11 ] ، ففسرها بالأمر، وهي في قراءتنا على الخبر. فالمجازاة في قراءتنا على قوله: « هل أدلكم » ، وفي قراءة عبد الله على قوله: « آمنوا » ، على الأمر، لأنه هو التفسير.
وبنحو معنى ما قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين » ، الذين لا كتاب لهم « أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا » الآية.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين » ، قال: الأميون الذين لا يكتبون.
القول في تأويل قوله : وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( 20 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وإن تولوا » ، وإن أدبروا مُعرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، فإنما أنت رسولٌ مبلِّغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي، وأداء ما كلَّفتك من طاعتي « والله بصيرٌ بالعباد » ، يعني بذلك: والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه فيطيعك بالإسلام، وبمن يتولَّى منهم عنه معرضًا فيردّ عليك ما أرسلتك به إليه، فيعصيك بإبائه الإسلامَ.
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « إن الذين يكفرون بآيات الله » ، أي: يجحدون حجج الله وأعلامه فيكذبون بها، من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، كما:-
حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: ثم جمع أهل الكتابين جميعًا، وذكر ما أحدثوا وابتدعوا، من اليهود والنصارى فقال: « إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حقّ » إلى قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ .
وأما قوله: « ويقتلون النبيين بغير حقّ » ، فإنه يعني بذلك - أنهم كانوا يقتلون رُسل الله الذين كانوا يُرسَلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها، نحو زكريا وابنه يحيى، وما أشبههما من أنبياء الله.
القول في تأويل قوله : وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة أهل المدينة والحجاز والبصرة والكوفة وسائر قرأة الأمصار: ( وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ ) ، بمعنى القتل.
وقرأه بعض المتأخرين من قرأة الكوفة: ( وَيُقَاتِلُونَ ) ، بمعنى القتال، تأوّلا منه قراءةَ عبد الله بن مسعود، وادعى أن ذلك في مصحف عبد الله: ( وَقَاتَلُوا ) ، فقرأ الذي وصفنا أمرَه من القراءة بذلك التأويل: ( وَيُقَاتِلُونَ ) .
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه: « ويقتلون » ، لإجماع الحجة من القرأة عليه به، مع مجيء التأويل من أهل التأويل بأن ذلك تأويله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن معقل بن أبي مسكين في قول الله: « ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس » ، قال: كان الوحي يأتي إلى بني إسرائيل فيذكِّرون [ قومهم ] - ولم يكن يأتيهم كتاب - فيقتلون، فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم، فيذكِّرون قومهم فيقتلون، فهم: الذين يأمرون بالقسط من الناس.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله: « ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس » ، قال: هؤلاء أهل الكتاب، كان أتباع الأنبياء ينهونهم ويذكِّرونهم، فيقتلونهم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله: « إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس » ، قال: كان ناس من بني إسرائيل ممن لم يقرأ الكتاب، كان الوحي يأتي إليهم فيذكِّرون قومهم فيقتلون على ذلك، فهم: الذين يأمرون بالقسط من الناس.
حدثني أبو عبيد الرصّابي محمد بن حفص قال، حدثنا ابن حِمْير قال، حدثنا أبو الحسن مولى بني أسد، عن مكحول، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قلت: يا رسول الله، أىّ الناس أشدّ عذابًا يوم القيامة؟ قال: « رجل قتل نبيًّا، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: » إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس « إلى أن انتهى إلى » وما لهم من ناصرين « ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا من أول النهار في ساعة واحدة! فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عُبَّاد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعًا من آخر النهار في ذلك اليوم، وهم الذين ذكر الله عز وجل. »
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: إنّ الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون آمريهم بالعدل في أمر الله ونهيه، الذين يَنهونهم عن قتل أنبياء الله وركوب
القول في تأويل قوله : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 21 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 22 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) فأخبرهم يا محمد وأعلمهم: أنّ لهم عند الله عذابًا مؤلمًا لهم، وهو الموجع.
وأما قوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) ، فإنه يعني بقوله: « أولئك » ، الذين يكفرون بآيات الله. ومعنى ذلك: أنّ الذين ذكرناهم، هم « الذين حبطت أعمالهم » ، يعني: بطلت أعمالهم « في الدنيا والآخرة » . فأما في الدنيا، فلم ينالوا بها محمدةً ولا ثناء من الناس، لأنهم كانوا على ضلال وباطل، ولم يرفع الله لهم بها ذكرًا، بل لعنهم وهتك أستارهم، وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنـزلها عليهم، فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمَّةً، فذلك حبوطها في الدنيا. وأما في الآخرة، فإنه أعدّ لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه، وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بُورًا لا ثوابَ لها، لأنها كانت كفرًا بالله، فجزاءُ أهلها الخلودُ في الجحيم.
وأما قوله: « وما لهم من ناصرين » ، فإنه يعني: وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله، إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه، فيستنقذُهم منه.
القول في تأويل قوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ( 23 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « ألم تر » ، يا محمد « إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب » ، يقول: الذين أعطوا حظًّا من الكتاب « يدْعون إلى كتاب الله » .
واختلف أهل التأويل في « الكتاب » الذي عنى الله بقوله: « يدعون إلى كتاب الله » .
فقال بعضهم: هو التوراة، دعاهم إلى الرضى بما فيها، إذ كانت الفِرَق المنتحِلةُ الكتبَ تقرُّ بها وبما فيها: أنها كانت أحكامَ الله قبل أن ينسخ منها ما نُسخ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير وعكرمة، عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المِدْرَاس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث ابن زيد: على أيّ دين أنت يا محمد؟ فقال: « على ملة إبراهيم ودينه. فقالا فإنّ إبراهيم كان يهوديًّا! فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلمُّوا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم! فأبيا عليه، فأنـزل الله عز وجل: » ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يُدْعونَ إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يَتولى فريق منهم وهم معرضون « إلى قوله: مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ . »
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيت المدراس فذكر نحوه، إلا أنه قال: فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلمَّا إلى التوراة وقال أيضًا: فأنـزل الله فيهما: « ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب » وسائر الحديث مثل حديث أبي كريب.
وقال بعضهم: بل ذلك كتابُ الله الذي أنـزله على محمد، وإنما دُعِيت طائفةٌ منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بالحقّ، فأبتْ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون » ، أولئك أعداء الله اليهود، دُعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، وإلى نبيه ليحكم بينهم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، ثم تولوا عنه وهم معرضون.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة: « ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب » ، الآية قال: هم اليهود، دُعوا إلى كتاب الله وإلى نبيه، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم، ثم يتولون وهم معرضون!
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم » ، قال: كان أهل الكتاب يُدْعون إلى كتاب ليحكم بينهم بالحق يكون، وفي الحدود. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، فيتولون عن ذلك.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن طائفة من اليهود الذين كانوا بين ظَهراني مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده، ممن قد أوتي علمًا بالتوراة أنهم دُعوا إلى كتاب الله الذي كانوا يقرّون أنه من عند الله - وهو التوراة - في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وقد يجوز أن يكون تنازعهم الذي كانوا تنازعوا فيه، ثم دعوا إلى حكم التوراة فيه فامتنعوا من الإجابة إليه، كان أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم وأمرَ نبوته ويجوز أن يكون ذلك كان أمرَ إبراهيم خليل الرّحمن ودينه ويجوز أن يكون ذلك ما دُعوا إليه من أمر الإسلام والإقرار به ويجوز أن يكون ذلك كان في حدّ. فَإن كل ذلك مما قد كانوا نازعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فيه إلى حكم التوراة، فأبى الإجابة فيه وكتمه بعضهم.
ولا دلالة في الآية على أيّ ذلك كان من أيٍّ، فيجوز أن يقال: هو هذا دون هذا. ولا حاجة بنا إلى معرفة ذلك، لأن المعنى الذي دُعوا إلى حكمه، هو مما كان فرضًا عليهم الإجابة إليه في دينهم، فامتنعوا منه، فأخبر الله جل ثناؤه عنهم بردّتهم، وتكذيبهم بما في كتابهم، وجحودهم ما قد أخذ عليهم عهودَهم ومواثيقهم بإقامته والعمل به. فلن يعدُوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدًا وما جاء به من الحق، مثلهم في تكذيبهم موسى وما جاء به وهم يتولونه ويقرّون به.
ومعنى قوله: « ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون » ، ثم يستدبر عن كتاب الله الذي دعا إلى حكمه، معرضًا عنه منصرفًا، وهو بحقيقته وحجته عالم.
وإنما قلنا إن ذلك « الكتاب » هو التوراة، لأنهم كانوا بالقرآن مكذبين، وبالتوراة بزعمهم مصدّقين، فكانت الحجة عليهم بتكذيبهم بما هم به في زعمهم مقرُّون، أبلغَ، وللعذر أقطعَ.
القول في تأويل قوله : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 24 )
يعني جل ثناؤه بقوله: « بأنهم قالوا » ، بأنّ هؤلاء الذين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق فيما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما أبوا الإجابة إلى حكم التوراة وما فيها من الحق: من أجل قولهم: « لن تمسنا النارُ إلا أيامًا معدودات » وهي أربعون يومًا، وهن الأيام التي عبدوا فيها العجل ثم يخرجنا منها ربنا، اغترارًا منهم « بما كانوا يفترون » ، يعني: بما كانوا يختلقون من الأكاذيب والأباطيل، في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحِبّاؤه، وأن الله قد وعد أباهم يعقوبَ أن لا يُدْخل أحَدًا من ولده النار إلا تَحِلَّةَ القسم. فأكذبهم الله على ذلك كله من أقوالهم، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل النار هم فيها خالدون، دون المؤمنين بالله ورُسله وما جاءوا به من عنده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده: « ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات » ، قالوا: لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها العجل، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا قال الله عز وجل: « وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون » ، أي قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ .
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات » ، الآية، قال: قالوا: لن نعذب في النار إلا أربعين يومًا، قال: يعني اليهود قال: وقال قتادة مثله وقال: هي الأيام التي نَصَبوا فيها العجل. يقول الله عز وجل: « وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون » ، حين قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال: قال ابن جريج، قال مجاهد قوله: « وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون » ، قال: غرّهم قولهم: « لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات » .
القول في تأويل قوله : فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 25 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فكيف إذا جمعناهم » ، فأيُّ حال يكون حالُ هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب الله، واغترارهم بربهم، وافترائهم الكذب؟ وذلك من الله عز وجل وعيدٌ لهم شديد، وتهديدٌ غليظٌ.
وإنما يعني بقوله: « فكيف إذا جمعناهم » الآية: فما أعظم ما يلقوْن من عقوبة الله وتنكيله بهم، إذا جمعهم ليوم يُوفَّى كلّ عامل جزاءَ عمله على قدر استحقاقه، غير مظلوم فيه، لأنه لا يعاقب فيه إلا على ما اجترم، ولا يؤاخذُ إلا بما عمل، يُجزَي المحسنُ بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يخاف أحدٌ من خلقه منه يومئذ ظلمًا ولا هضمًا.
فإن قال قائل: وكيف قيل: « فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه » ، ولم يقل: في يوم لا رَيب فيه؟
قيل: لمخالفة معنى « اللام » في هذا الموضع معنى « في » . وذلك أنه لو كان مكان « اللام » « في » ، لكان معنى الكلام: فكيف إذا جمعناهم في يوم القيامة، ماذا يكون لهم من العذاب والعقاب؟ وليس ذلك المعنى في دخول « اللام » ، ولكن معناه مع « اللام » : فكيف إذا جمعناهم لما يحدُث في يوم لا ريب فيه، ولما يكون في ذلك اليوم من فَصْل الله القضاءَ بين خلقه، ماذا لهم حينئذ من العقاب وأليم العذاب؟ فمع « اللام » في « ليوم لا ريب فيه » نيَّة فِعْل، وخبرٌ مطلوب قد ترك ذكره، أجزأت دلالةُ دخول « اللام » في « اليوم » عليه، منه. وليس ذلك مع « في » ، فلذلك اختيرت « اللام » فأدخلت في « اليوم » ، دون « في » .
وأما تأويل قوله: « لا ريب فيه » ، فإنه: لا شك في مجيئه. وقد دللنا على أنه كذلك بالأدلة الكافية، مع ذكر من قال ذلك في تأويله فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
وعنى بقوله: « ووُفِّيت » ، ووَفَّى الله « كلُّ نفس ما كسبت » ، يعني: ما عملت من خير وشر « وهم لا يظلمون » ، يعني أنه لا يبخس المحسن جزاءَ إحسانه، ولا يعاقب مسيئًا بغير جرمه.
القول في تأويل قوله : قُلِ اللَّهُمَّ
قال أبو جعفر: أما تأويل: « قل اللهم » ، فإنه: قل يا محمد: يا اللهُ.
واختلف أهل العربية في نصب « ميم » « اللهم » ، وهو منادًى، وحكم المنادى المفرد غير المضافِ الرفعُ وفي دخول « الميم » فيه، وهو في الأصل « الله » بغير « ميم » . فقال بعضهم: إنما زيدت فيه « الميمان » ، لأنه لا ينادى بـ « يا » كما ينادى الأسماء التي لا « ألف » فيها ولا « لام » . وذلك أن الأسماء التي لا « ألف » ولا « لام » فيها تنادى بـ « يا » كقول القائل: « يا زيد، ويا عمرو » . قال: فجعلت « الميم » فيه خلفًا من « يا » ، كما قالوا: « فم، وابنم، وهم، وزُرْقُم، وُسْتهُم » ، وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف، ثم يبدل مكانه « ميم » . قال: فكذلك حذفت من « اللهم » « يا » التي ينادى بها الأسماء التي على ما وصفنا، وجعلت « الميم » خلفًا منها في آخر الاسم.
وأنكر ذلك من قولهم آخرون، وقالوا: قد سمعنا العرب تنادي: « اللهم » بـ « يا » كما تناديه ولا « ميم » ، فيه. قالوا: فلو كان الذي قال هذا القولَ مصيبًا في دعواه، لم تدخل العربُ « يا » ، وقد جاءوا بالخلف منها. وأنشدوا في ذلك سماعًا من العرب:
وَمَــا عَلَيْــكِ أَنْ تَقُــولِي كُلَّمَــا صَلَّيْــتِ أَوْ كَــبَّرتِ يَــا أَللَّهُمَـا
ارْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا
ويُرْوَى: « سبَّحت أو كبَّرت » . قالوا: ولم نر العرب زَادت مثل هذه « الميم » إلا مخففة في نواقص الأسماء مثل: « الفم، وابنم، وهم » ، قالوا: ونحن نرى أنها كلمة ضُمّ إليها « أمَّ » ، بمعنى: « يا ألله أمَّنا بخير » ، فكثرت في الكلام فاختلطت به. قالوا: فالضمة التي في « الهاء » من همزة « أم » ، لما تركت انتقلت إلى ما قبلها. قالوا: ونرى أن قول العرب: « هلم إلينا » ، مثلها. إنما كان « هلم » ، « هل » ضم إليها « أمّ » ، فتركت على نصبها. قالوا: من العرب من يقول إذا طرح « الميم » : « يا اللهُ اغفر لي » و « يا أللهُ اغفر لي » ، بهمز « الألف » من « الله » مرة، ووصلها أخرى، فمن حذفها أجراها على أصلها، لأنها « ألف ولام » ، مثل « الألف واللام » اللتين يدخلان في الأسماء المعارف زائدتين. ومن همزها توهم أنها من الحرف، إذ كانت لا تسقط منه، وأنشدوا في همز الألف منها:
مُبَـــارَكٌ هُــوَّ وَمَــنْ سَــمَّاهُ عَــلَى اسْــمِكَ اللُّهُــمَّ يَــا أَللـهُ
قالوا: وقد كثرت « اللهم » في الكلام، حتى خففت ميمها في بعض اللغات، وأنشدوا:
كَحَلْفَـــةٍ مِـــنْ أَبــى رِيَــاٍح يَسْــــمَعُهَا اللَّهُـــمُ الكُبَـــار
والرواة تنشد ذلك:
يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبَارُ
وقد أنشده بعضهم: يَسْمَعُهَا اللهُ واللهُ كُبَارُ
القول في تأويل قوله : مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْـزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
قال أبو جعفر: يعني بذلك: يا مالك الملك، يا منْ له مُلك الدنيا والآخرة خالصًا دون وغيره، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله: « قل اللهم مالك الملك » ، أي رَبَّ العباد الملكَ، لا يقضى فيهم غيرك.
وأما قوله: « تؤتي الملك ممن تشاء » ، فإنه يعني: تُعطى الملك من تَشاء، فتملكه وتسلِّطه على من تشاء.
وقوله: « وتنـزع الملك من تشاء » ، يعني: وتنـزع الملك ممن تشاء أن تنـزعه منه، فترك ذكر « أن تنـزعه منه » ، اكتفاءً بدلالة قوله: « وتنـزع الملك ممن تشاء » ، عليه، كما يقال: « خذ ما شئتَ وكنْ فيما شئت » ، يراد: خذ ما شئت أن تأخذه، وكن فيما شئت أن تكون فيه؛ وكما قال جل ثناؤه: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [ سورة الانفطار: 8 ] يعني: في أيّ صورة شاءَ أن يركبك فيها ركبك.
وقيل: إنّ هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابًا لمسألته ربَّه أن يجعل مُلك فارسَ والروم لأمته.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: وذكر لنا: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه جل ثناؤه أن يجعل له ملك فارسَ والروم في أمته، فأنـزل الله عز وجل: « قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء » إلى إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: ذُكر لنا والله أعلم: أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، ثم ذكر مثله.
وروي عن مجاهد أنه كان يقول: معنى « الملك » في هذا الموضع: النبوة.
ذكر الرواية عنه بذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « تؤتي الملك من تشاء وتنـزع الملك ممن تشاء » ، قال: النبوّة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
القول في تأويل قوله : وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 26 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: « وتعز من تشاء » ، بإعطائه الملك والسلطان، وَبسط القدرة له « وتذلّ من تشاء » بسلبك ملكه، وتسليط عدوه عليه « بيدك الخير » ، أي: كل ذلك بيدك وإليك، لا يقدر على ذلك أحد، لأنك على كل شيء قديرٌ، دون سائر خلقك، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأمِّيين من العرب إلهًا وربًّا يعبدونه من دونك، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربًّا، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله: « تؤتي الملك من تشاء » ، الآية، أي: إنّ ذلك بيدك لا إلى غيرك « إنك على كل شيء قدير » ، أي: لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وُقدْرَتك.
القول في تأويل قوله : تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « تولج » تُدْخل، يقال منه: « قد ولَج فلان منـزله » ، إذا دخله، « فهو يَلِجه وَلْجًا ووُلوجًا ولِجَةً » - و « أولجته أنا » ، إذا أدخلته.
ويعني بقوله: « تولج الليل في النهار » تدخل ما نقصتَ من ساعات الليل في ساعات النهار، فتزيد من نقصان هذا في زيادة هذا « وتولج النهارَ في الليل » ، وتدخل ما نقصتَ من ساعات النهار في ساعات الليل، فتزيد في ساعات الليل ما نقصت من ساعات النهار، كما:-
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « تولج الليلَ في النهار وتولج النهار في الليل » ، حتى يكون الليل خمسَ عشرةَ ساعة، والنهارُ تسعَ ساعاتٍ، وتدخل النهار في الليل حتى يكون النهار خمسَ عشرة ساعة، والليل تسع ساعات.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما نقص من النهار يجعله في الليل، وما نقص من الليل يجعله في النهار.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » قال: ما ينقص من أحدهما في الآخر، يعتقبان أو: يتعاقبان، شك أبو عاصم ذلك من الساعات.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » ، ما ينقص من أحدهما في الآخر، يتعاقبان ذلك من الساعات.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قوله: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » ، نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » ، قال: هو نقصان أحدهما في الآخر.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » ، قال: يأخذ الليل من النهار، ويأخذ النهار من الليل. يقول: نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » ، يعني أنه يأخذ أحدُهما من الآخر، فيكون الليل أحيانًا أطول من النهار، والنهار أحيانًا أطول من الليل.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل » ، قال: هذا طويل وهذا قصير، أخذ من هذا فأولجه في هذا، حتى صار هذا طويلا وهذا قصيرًا.
القول في تأويل قوله : وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: « تأويل ذلك: أنه يخرج الشيء الحيَّ من النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الشيء الحيّ » .
ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله: « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحيّ » ، قال: هي النطفة تخرج من الرّجل وهي ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيًّا وهي ميتة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، قال: الناس الأحياء من النُّطف والنُّطف ميتة، ويخرجها من الناس الأحياء، والأنعام.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك في قوله: « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، فذكر نحوه.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدى: « تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ » ، فالنطفة ميتة تكون، تخرج من إنسان حيّ، ويخرج إنسان حيّ من نطفة ميتة.
حدثني محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي قال، حدثنا أشعث السجستاني قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله. « تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ » ، قال: تخرج النطفة من الرجل، والرجل من النطفة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ » ، قال: تخرج الحيّ من هذه النطفة الميتة، وتخرج هذه النطفة الميتة من الحيّ.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: « تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ » الآية، قال: الناس الأحياء من النطف، والنطف ميِّتةً من الناس الأحياء، ومن الأنعام والنَّبْت كذلك قال ابن جريج: وسمعت يزيد بن عويمر يخبر، عن سعيد بن جبير قال: إخراجه النطفة من الإنسان، وإخراجه الإنسان من النطفة.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ » ، قال: النطفة ميتة، فتخرج منها أحياء « وتخرج الميت من الحيّ » ، تخرج النطفة من هؤلاء الأحياء، والحبّ ميتٌ تخرج منه حيًّا « وتُخرج الميت من الحيّ » ، تخرج من هذا الحيّ حبًّا ميتًا.
وقال آخرون: معنى ذلك: « أنه يخرج النخلة من النواة، والنواةَ من النخلة، والسنبل من الحب، والحبّ من السنبل، والبيض من الدجاج، والدجاج من البيض » .
ذكر من قال ذلك.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبد الله، عن عكرمة قوله: « تخرج الحي من الميت » ، قال: هي البيضة تخرج من الحيّ وهي ميتة، ثم يخرج منها الحيّ.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله. « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، قال: النخلة من النواة والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة.
وقال آخرون: « معنى ذلك: أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافرَ من المؤمن » .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله: « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، يعني المؤمن من الكافر والكافرَ من المؤمن، والمؤمن عبدٌ حيُّ الفؤاد، والكافر عبدٌ ميّتُ الفؤاد.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن في قوله: « تُخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، قال: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن.
حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث، عن سعيد بن عمرو، عن الحسن قرأ: « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، قال: تخرج المؤمن من الكافر، وتخرج الكافر من المؤمن.
حدثني حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان، أو عن ابن مسعود وأكبر ظني أنه عن سلمان قال: إن الله عزّ وجل خمّر طينة آدم أربعين ليلة - أو قال: أربعين يومًا - ثم قال بيده فيه، فخرج كل طيِّب في يمينه، وخرج كل خبيث في يده الأخرى، ثم خلط بينهما، ثم خلق منها آدم، فمن ثم يخرج الحيّ من الميت ويخرجُ الميت من الحي، يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة النَّعْمة، فقال: من هذه؟ قالت إحدى خالاتك! قال: إن خَالاتي بهذه البلدة لغرائب! وأيّ خالاتي هذه؟ قالت: خالدة ابنة الأسود ابن عبد يغوث. قال: سبحان الذي يخرج الحيّ من الميت! وكانت امرأة صالحةً، وكان أبوها كافرًا.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي » ، قال: هل علمتم أن الكافر يلد مؤمنًا، وأن المؤمن يلد كافرًا؟ فقال: هو كذلك.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها في هذه الآية بالصواب، تأويلُ من قال: « يخرج الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياءَ من النُّطف الميتة وذلك إخراجُ الحيّ من الميت ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي والأنعام والبهائم الأحياء وذلك إخراج الميت من الحيّ » .
وذلك أن كل حيّ فارقه شيء من جسده، فذلك الذي فارقه منه ميت. فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه، ثم ينشئ الله منها إنسانًا حيًا وبهائمَ وأنعامًا أحياءً. وكذلك حكم كل شيء حيّ زايله شيء منه، فالذي زَايله منه ميت. وذلك هو نظير قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ سورة البقرة: 28 ] .
وأما تأويل من تأوّله بمعنى الحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة، والبيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن فإن ذلك، وإن كان له وجه مفهوم، فليس ذلك الأغلب الظاهرَ في استعمال الناس في الكلام. وتوجيهُ معاني كتاب الله عز وجل إلى الظاهر المستعمل في الناس، أولى من توجيهها إلى الخفيّ القليل في الاستعمال.
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة منهم: ( تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) بالتشديد، وتثقيل « الياء » من « الميت » ، بمعنى أنه يخرج الشيء الحي من الشيء الذي قد ماتَ، ومما لم يمت.
وقرأت جماعة أخرى منهم: ( تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) بتخفيف « الياء » من « الميْت » ، بمعنى أنه يخرج الشيء الحيّ من الشيء الذي قد مات، دون الشيء الذي لم يمت، ويُخرج الشيء الميت، دون الشيء الذي لم يمت، من الشيء الحي.
وذلك أن « الميِّت » مثقل « الياء » عند العرب: ما لم يَمتْ وسيموت، وما قد مات.
وأما « الميْت » مخففًا، فهو الذي قد مات، فإذا أرادوا النعتَ قالوا: « إنك مائتٌ غدًا، وإنهم مائتون » . وكذلك كل ما لم يكن بعد، فإنه يخرج على هذا المثال الاسمُ منه. يقال: « هو الجائد بنفسه والطائبة نفسه بذلك » ، وإذا أريد معنى الاسم قيل: « هو الجوادُ بنفسه والطيِّبة نفسه » .
قال أبو جعفر: فإذا كان ذلك كذلك، فأولى القراءتين في هذه الآية بالصواب، قراءةُ من شدّد « الياء » من « الميِّت » . لأن الله جل ثناؤه يخرج الحي من النطفة التي قد فارقت الرجلَ فصارت ميِّتة، وسيخرجه منها بعد أن تُفارقه وهي في صلب الرجل « ويخرج الميِّت من الحيّ » النطفةَ التي تصير بخروجها من الرجل الحيّ ميِّتًا، وهي قبل خروجها منه حيَّة. فالتشديد أبلغ في المدح وأكملُ في الثناء.
القول في تأويل قوله : وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 27 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه يُعطى من يشاء من خلقه فيجود عليه، بغير محاسبة منه لمن أعطاه، لأنه لا يخاف دخولَ انتقاص في خزائنه، ولا الفناءَ على ما بيده، كما:-
حدثني المثتي قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « وترزق من تشاء بغير حساب » ، قال: يخرج الرزق من عنده بغير حساب، لا يخاف أن ينقُص ما عنده تبارك وتعالى.
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: اللهمّ يا مالك الملك تُؤتي الملك من تَشاء، وتنـزع الملك ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، دون من ادّعى الملحدون أنه لهم إله وربٌّ وعبدوه دونك، أو اتخذوه شريكًا معك، أو أنه لك ولدٌ وبيدك القدرة التي تفعل هذه الأشياء وتقدر بها على كل شيء، تُولج الليل في النهار وتُولج النهارَ في الليل، فتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتخرج من ميِّت حيًّا ومن حي ميِّتًا، وترزق من تشاء بغير حساب من خلقك، لا يقدر على ذلك أحدٌ سواك، ولا يستطيعه غيرك، كما:-
حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ، أي: بتلك القدرة يعني: بالقدرة التي تؤتي الملك بها من تشاء وتنـزعهُ ممن تشاء « وترزُق من تشاء بغير حساب » ، لا يقدر على ذلك غيرُك، ولا يصنعه إلا أنت. أي: فإن كنتُ سلَّطتُ عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله : من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والخلق للطير من الطين، والخبر عن الغيوب، لتجعله آية للناس، وتصديقًا له في نبوّته التي بعثته بها إلى قومه - فإنّ من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه: تمليكُ الملوك، وأمرُ النبوّة ووضعها حيث شئت، وإيلاجُ الليل في النهار والنهار في الليل، وإخراجُ الحيّ من الميت والميت من الحيّ، ورزقُ من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب. فكلّ ذلك لم أسلط عيسى عليه، ولم أملكه إياه، فلم تكن لهم في ذلك عبرةٌ وبينة: أنْ لو كان إلهًا، لكان ذلك كله إليه، وهو في علمهم يهرُب من الملوك، وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد! !
القول في تأويل قوله : لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً
قال أبو جعفر: وهذا نهيٌ من الله عز وجل المؤمنين أن يتخذوا الكفارَ أعوانًا وأنصارًا وظهورًا، ولذلك كسر « يتخذِ » ، لأنه في موضع جزمٌ بالنهي، ولكنه كسر « الذال » منه، للساكن الذي لقيه وهي ساكنة.
ومعنى ذلك: لا تتخذوا، أيها المؤمنون، الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنه مَنْ يفعل ذلك « فليس من الله في شيء » ، يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مُسلم بفعل، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » ، قال: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يُلاطفوا الكفار أو يتخذوهم وليجةً من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفارُ عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللُّطف، ويخالفونهم في الدين. وذلك قوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاةً » .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الحجاجُ بن عمرو حليفُ كعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق، وقيس بن زيد، قد بَطَنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر بن زَنْبَر، وعبد الله بن جبير، وسعد بن خيثمة، لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم! فأبى أولئك النفر إلا مُباطنتهم ولزومهم، فأنـزل الله عز وجل: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » إلى قوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » ، يقول: لا يتخذ المؤمن كافرًا وليًّا من دون المؤمنين.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين » إلى « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، أما « أولياء » فيواليهم في دينهم، ويظهرهم على عورة المؤمنين، فمن فعل هذا فهو مشرك، فقد برئ الله منه إلا أن يتقي تقاةً، فهو يظهر الولاية لهم في دينهم، والبراءةَ من المؤمنين.
حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عمن حدثه، عن ابن عباس: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، قال: التقاة التكلم باللسان، وقلبُه مطمئن بالإيمان.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، قال: ما لم يُهرِق دم مسلم، وما لم يستحلّ ماله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » ، إلا مصانعةً في الدنيا ومُخالقة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين » إلى « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، قال: قال أبو العالية: التقيَّة باللسان وليس بالعمل.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عُبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، قال: التقيةُ باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو لله معصيةٌ، فتكلم مخافةً على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، إنما التقيَّة باللسان.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، فالتقية باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله، فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن ذلك لا يضره. إنما التقية باللسان.
وقال آخرون: معنى: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، إلا أن يكون بينك وبينه قرابة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين إلا أن تتقوا منهم تقيَّة » ، نهى الله المؤمنين أن يوادّوا الكفار أو يتولَّوْهم دون المؤمنين. وقال الله: « إلا أن تتقوا منهم تقيَّة » ، الرحم من المشركين، من غير أن يتولوهم في دينهم، إلا أن يَصل رحمًا له في المشركين.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء » ، قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرًا وليًّا في دينه، وقوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، قال: أن يكون بينك وبينه قرابة، فتصله لذلك.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاة » ، قال: صاحبهم في الدنيا معروفًا، الرحم وغيره. فأما في الدّين فلا.
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله قتادة تأويلٌ له وجه، وليس بالوجه الذي يدل عليه ظاهر الآية: إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة فالأغلب من معاني هذا الكلام: إلا أن تخافوا منهم مخافةً. فالتقية التي ذكرها الله في هذه الآية. إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم. ووجَّهه قتادة إلى أن تأويله: إلا أن تتقوا الله من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة، فتصلون رحمها. وليس ذلك الغالب على معنى الكلام. والتأويلُ في القرآن على الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب المستعمَل فيهم.
وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: « إلا أن تتقوا منهم تقاة »
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: ( إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) ، على تقدير « فُعَلة » مثل: « تُخَمة، وتؤَدَة وتُكأة » ، من « اتقيت » .
وقرأ ذلك آخرون: ( إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً ) ، على مثال « فعيلة » .
قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءةُ عندنا، قراءةُ من قرأها: « إلا أن تتقوا منهم تُقاة » ، لثبوت حجة ذلك بأنه القراءةُ الصحيحة، بالنقل المستفيض الذي يمتنع منه الخطأ.
القول في تأويل قوله عز وجل : وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( 28 )
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، ويخوّفكم الله من نفسه أن تَرْكبوا معاصيه، أو توالوا أعداءه، فإن لله مرجعكم وَمصيركم بعد مماتكم، ويوم حشركم لموقف الحساب يعنى بذلك: متى صرتم إليه وقد خالفتم ما أمركم به، وأتيتم ما نهاكم عنهُ من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، نالكم من عقاب ربكم ما لا قِبَل لكم به، يقول: فاتقوه واحذرُوه أن ينالكم ذلك منه، فإنه شديد العقاب.
القول في تأويل قوله : قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 29 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « قل » يا محمد، للذين أمرتهم أن لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين « إن تخفوا ما في صدوركم » من موالاة الكفار فتُسِرُّوه، أو تبدوا ذلكم من نفوسكم بألسنتكم وأفعالكم فتظهروه « يعلمه الله » ، فلا يخفى عليه. يقول: فلا تُضمروا لهم مودّةً ولا تظهروا لهم موالاة، فينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به، لأنه يعلم سرّكم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شيء منه، وهو مُحصيه عليكم حتى يجازيَكم عليه بالإحسان إحسانًا، وبالسيئة مثلها، كما:-
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخبرهم أنه يعلم ما أسرّوا من ذلك وما أعلنوا، فقال: « إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه » .
وأما قوله: « ويعلم ما في السموات وما في الأرض » ، فإنه يعني أنه إذ كان لا يخفى عليه شيء هو في سماء أو أرض أو حيث كان، فكيف يخفى عليه - أيها القوم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين - ما في صدوركم من الميْل إليهم بالمودة والمحبة، أو ما تبدونه لهم بالمعونة فعلا وقولا.
وأما قوله: « والله على كل شيء قدير » ، فإنه يعني: والله قديرٌ على معاجلتكم بالعقوبة على مُوالاتكم إياهم ومظاهرتكموهم على المؤمنين، وعلى ما يشاء من الأمور كلها، لا يتعذَّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء طلبه.
القول في تأويل قوله عز وجل : يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا موفَّرًا، « وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا » يعني غاية بعيدة، فإن مصيركم أيها القوم يومئذ إليه، فاحذروه على أنفسكم من ذنوبكم.
وكان قتادة يقول في معنى قوله: « محضرًا » ، ما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا » ، يقول: موفَّرًا.
قال أبو جعفر: وقد زعم [ بعض ] أهل العربية أنّ معنى ذلك: واذكر يوم تجد. وقال: إن ذلك إنما جاء كذلك، لأن القرآن إنما نـزل للأمر والذكر، كأنه قيل لهم: اذكروا كذا وكذا، لأنه في القرآن في غير موضع: « واتقوا يوم كذا، وحين كذا » .
وأما « ما » التي مع « عملت » ، فبمعنى « الذي » ، ولا يجوز أن تكون جزاءً، لوقوع « تجد » عليه. وأما قوله: « وما عملت من سوء » ، فإنه معطوف على قوله: « ما » الأولى، و « عملت » صلةٌ بمعنى الرّفع، لمَّا قيل: « تود » . فتأويل الكلام: يوم تَجد كل نفس الذي عملت من خير محضرًا، والذي عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا
« والأمد » الغاية التي ينتهي إليها، ومنه قول الطرماح:
كُـلُّ حَـيٍّ مُسْتَكْـمِلٌ عِدَّةَ الـ عُمْـرِ, ومُـودٍ إِذَا انْقَضَـى أَمَـدُهْ
يعني: غاية أجله. وقد:-
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « وما عملت من سوء تودُّ لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا » ، مكانًا بعيدًا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « أمدًا بعيدًا » ، قال: أجلا.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا » ، قال: يسر أحدَهم أن لا يلقى عمله ذاكَ أبدًا يكونُ ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئةً يستلذّها.
القول في تأويل قوله : وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ( 30 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه: أن تُسخِطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم، فتوافونه يومَ تَجد كلُّ نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا قِبَل لكم به. ثم أخبر عز وجل أنه رءوف بعباده رحيمٌ بهم، وأنّ من رأفته بهم: تحذيرُه إياهم نفسه، وتخويفهم عقوبته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن في قوله: « ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد » ، قال: من رأفته بهم أن حذَّرهم نفسه.
القول في تأويل قوله : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 31 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي أنـزلت هذه الآية فيه. فقال بعضهم: أنـزلت في قوم قالوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: « إنا نحب ربنا » ، فأمر الله جل وعز نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: « إن كنتم صادقين فيما تقولون، فاتبعوني، فإن ذلك علامة صِدْقكم فيما قلتم من ذلك. »
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن بكر بن الأسود قال، سمعت الحسن يقول: قال قومٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إنا نحبّ ربنا! فأنـزل الله عز وجل: « قُل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم » ، فجعل اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عَلَمًا لحبه، وعذاب من خالفه.
حدثني المثنى قال، حدثنا علي بن الهيثم قال، حدثنا عبد الوهاب، عن أبي عبيدة قال: سمعت الحسن يقول: قال أقوامٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إنا لنحب ربنا! فأنـزل الله جل وعز بذلك قرآنًا: « قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم » ، فجعل الله اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم علمًا لحبه، وعذاب من خالفه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله » ، قال: كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله، يقولون: إنا نحب ربّنا! فأمرهم الله أن يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجعل اتباع محمد علمًا لحبه.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « إن كنتم تحبون الله » الآية، قال: إن أقوامًا كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعمون أنهم يحبون الله، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقًا من عمل، فقال: « إن كنتم تحبون الله » الآية، كان اتباعُ محمد صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقولهم.
وقال آخرون: بل هذا أمرٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لوفد نجران الذين قدموا عليه من النصارى: إن كان الذي تَقولونه في عيسى من عظيم القول، إنما يقولونه تعظيمًا لله وحبًّا له، فاتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « قل إن كنتم تحبون الله » ، أي: إن كان هذا من قولكم - يعني: في عيسى - حبًّا لله وتعظيمًا له ، « فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم » ، أي: ما مضى من كفركم « والله غفور رحيم » .
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قولُ محمد بن جعفر بن الزبير. لأنه لم يجر لغير وفد نجرانَ في هذه السورة ولا قبل هذه الآية، ذكرُ قوم ادَّعوا أنهم يحبُّون الله، ولا أنهم يعظمونه، فيكون قوله. « إن كنتم تحبون الله فاتبعوني » جوابًا لقولهم، على ما قاله الحسن.
وأمّا ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه، فلا خبر به عندنا يصحّ، فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك، وإن لم يكن في السورة دلالة على أنه كما قال. إلا أن يكون الحسن أرادَ بالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفدَ نَجران من النصارى، فيكون ذلك من قوله نظير اختيارنا فيه.
فإذْ لم يكن بذلك خبر على ما قلنا، ولا في الآية دليلٌ على ما وصفنا، فأولى الأمور بنا أن نُلحق تأويله بالذي عليه الدّلالة من آي السورة، وذلك هو ما وصفنا. لأن ما قبل هذه الآية من مبتدأ هذه السورة وما بعدها، خبرٌ عنهم، واحتجاجٌ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على بُطول قولهم في المسيح. فالواجب أن تكون هي أيضًا مصروفةَ المعنى إلى نحو ما قبلها ومعنى ما بعدها.
قال أبو جعفر: فإذْ كان الأمر على ما وصفنا، فتأويلُ الآية: قل، يا محمد، للوفد من نصارى نجران: إن كنتم كما تزعمون أنكم تحبون الله، وأنكم تعظمون المسيح وتقولون فيه ما تقولون، حبًّا منكم ربَّكم فحققوا قولكم الذي تقولونه، إن كنتم صادقين، باتباعكم إياي، فإنكم تعلمون أني لله رسولٌ إليكم، كما كان عيسى رسولا إلى من أرسل إليه، فإنه إن اتبعتموني وصدّقتموني على ما أتيتكم به من عند الله يغفرُ لكم ذنوبكم، فيصفح لكم عن العقوبة عليها، ويعفو لكم عما مضى منها، فإنه غفور لذنوب عباده المؤمنين، رحيمٌ بهم وبغيرهم من خلقه.
القول في تأويل قوله : قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( 32 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل، يا محمد، لهؤلاء الوفد من نصارى نجران: أطيعوا الله والرسول محمدًا، فإنكم قد علمتم يقينًا أنه رسولي إلى خلقي، ابتعثتُه بالحق، تجدونه مكتوبًا عندكم في الإنجيل، فإن تولَّوا فاستدبروا عما دعوتهم إليه من ذلك، وأعرضوا عنه، فأعلمهم أن الله لا يحبُّ من كفر بجحد ما عرف من الحق، وأنكره بعد علمه، وأنهم منهم، بجحودهم نبوّتك، وإنكارهم الحقّ الذي أنت عليه، بعد علمهم بصحة أمرك، وحقيقة نبوتك، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « قل أطيعوا الله والرسول » ، فأنتم تعرفونه - يعني الوفد من نصارى نجران - وتجدونه في كتابكم « فإن تولوا » على كفرهم « فإن الله لا يحبّ الكافرين » .
القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 33 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله اجتبى آدمَ ونوحًا واختارهما لدينهما وآل إبراهيم وآل عمران لدينهم الذي كانوا عليه، لأنهم كانوا أهل الإسلام. فأخبرَ الله عز وجل أنه اختار دين مَنْ ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته.
وإنما عنى ب « آل إبراهيم وآل عمران » ، المؤمنين.
وقد دللنا على أن « آل الرجل » ، أتباعه وقومه، ومن هو على دينه.
وبالذي قلنا في ذلك روي القول عن ابن عباس أنه كان يقوله.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « إن الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين » ، قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد، يقول الله عز وجل: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [ سورة آل عمران: 68 ] ، وهم المؤمنون.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إنّ الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآلَ عمران على العالمين » ، رجلان نبيَّان اصطفاهما الله على العالمين.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « إنّ الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآلَ إبراهيم وآلَ عمران على العالمين » ، قال: ذكر الله أهلَ بيتين صالحين، ورجلين صالحين، ففضلهم على العالمين، فكان محمدٌ من آل إبراهيم.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله: « إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم » إلى قوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، قال: فضلهم الله على العالمين بالنبوّة، على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياءَ المصطفين لربهم.
القول في تأويل قوله : ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 34 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك: إن الله اصطفى آلَ إبراهيم وآل عمران « ذريةً بعضها من بعض » .
ف « الذرية » منصوبة على القطع من « آل إبراهيم وآل عمران » ، لأن « الذرية » ، نكرة، و « آل عمران » معرفة.
ولو قيل نصبت على تكرير « الاصطفاء » ، لكان صوابًا. لأن المعنى: اصطفى ذريةً بعضُها من بعض.
وإنما جعل « بعضهم من بعض » في الموالاة في الدين، والمؤازرة على الإسلام والحق، كما قال جل ثناؤه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ سورة التوبة: 71 ] ، وقال في موضع آخر: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [ سورة التوبة: 67 ] ، يعني: أنّ دينهم واحدٌ وطريقتهم واحدة، فكذلك قوله: « ذرية بعضها من بعض » ، إنما معناه: ذرية دينُ بعضها دينُ بعض، وكلمتهم واحدةٌ، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ذرية بعضها من بعض » ، يقول: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له.
وقوله: « والله سميعٌ عليمٌ » ، يعني بذلك: والله ذُو سمع لقول امرأة عمران، وذو علم بما تضمره في نفسها، إذ نذَرت له ما في بطنها مُحرَّرًا.
القول في تأويل قوله : إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 35 )
يعني بقوله جل ثناؤه: « إذ قالت امرأة عمران ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني » ، فـ « إذْ » من صلة سَمِيعٌ .
وأمّا « امرأة عمران » ، فهي أم مريم ابنة عمران، أم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه. وكان اسمها فيما ذكر لنا حَنَّة ابنة فاقوذ بن قتيل، كذلك:-
حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه وقال غير ابن حميد: ابنة فاقود - بالدال - ابن قبيل.
فأما زوجها « عمران » ، فإنه: عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحزيق بن يوثم بن عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهفاشاط بن أسابر بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود بن إيشا، كذلك:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه.
وأما قوله: « رَبّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا » ، فإنّ معناه: إني جعلت لك يا رب نَذْرًا أنّ لك الذي في بطني محرّرًا لعبادتك. يعني بذلك: حبستُه على خدمتك وخدمة قُدْسك في الكنيسة، عتيقةً من خدمة كلّ شيء سواك، مفرّغة لك خاصة.
ونصب « محرّرًا » على الحال مما في الصفة من ذكر « الذي » .
« فتقبل مني » ، أي: فتقبل مني ما نذرت لك يا ربّ « إنك أنت السميع العليم » ، يعني: إنك أنتَ يا رب « السميع » لما أقول وأدعو « العليمُ » لما أنوي في نفسي وأريد، لا يخفى عليك سرّ أمري وعلانيته.
وكان سبب نذر حَنة ابنة فاقوذ، امرأة عمران الذي ذكره الله في هذه الآية فيما بلغنا، ما:-
حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: تزوج زكريا وعمران أختين، فكانت أمّ يحيى عند زكريا، وكانت أم مَريم عند عمرانَ، فهلك عمران وأم مريم حاملٌ بمريم، فهي جنينٌ في بطنها. قال: وكانت، فيما يزعمون، قد أمسك عنها الولد حتى أسنَّت، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان. فبينا هي في ظلّ شجرة نظرت إلى طائر يُطعم فرخًا له، فتحرّكت نفسُها للولد، فدعت الله أن يهبَ لها ولدًا، فحملت بمريم، وهلك عمران. فلما عرفت أن في بطنها جنينًا، جعلته لله نَذيرةً و « النذيرة » ، أن تعبِّده لله، فتجعله حبيسًا في الكنيسة، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال ثم ذكر امرأة عمران وقولها: « ربّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا » أي نذرته، تقول: جعلته عتيقًا لعبادة الله، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا « فتقبَّل مني إنك أنتَ السميع العليم » .
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال، حدثنا محمد بن ربيعة قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله: « محررًا » ، قال: خادمًا للبِيعة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد قال: خادمًا للكنيسة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، أخبرنا إسماعيل، عن الشعبي في قوله: « إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا » ، قال: فرّغته للعبادة.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي في قوله: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: جعلته في الكنيسة، وفرّغته للعبادة.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن إسماعيل، عن الشعبي نحوه.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: للكنيسة يخدُمها.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: خالصًا، لا يخالطه شيء من أمر الدنيا.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: للبيعة والكنيسة.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحمانيّ قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: محرّرًا للعبادة.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إذ قالت امرأة عمران رَبّ إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، الآية، كانت امرأة عمران حَرّرت لله ما في بطنها، وكانوا إنما يحرّرُون الذكور، وكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرَحها، يقوم عليها ويكنُسها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: نذرت ولدها للكنيسة.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم » ، قال: وذلك أن امرأة عمران حملت، فظنت أن ما في بطنها غلام، فوهبته لله محرّرًا لا يعمل في الدنيا.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرَت لله ما في بطنها. قال: وكانوا إنما يحرّرون الذكور، فكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرحها، يقوم عليها ويكنسها.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله: « إني نذرت لك ما في بطني محررًا » ، قال: جعلت ولدها لله، وللذين يدرُسون الكتاب ويتعلَّمونه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره عن عكرمة وأبي بكر، عن عكرمة: أن امرأة عمران كانتْ عجوزًا عاقرًا تسمى حَنَّة، وكانت لا تلد، فجعلت تغبطُ النساء لأولادهن، فقالت: اللهمّ إنّ عليّ نذرًا شكرًا إن رزقتني ولدًا أن أتصدّق به على بيت المقدس، فيكون من سَدَنته وُخدَّامه. قال: وقوله: « نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا » إنها للحرّة ابنة الحرائر « محررًا » للكنيسة يخدمها.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « إذ قالت امرأة عمران » الآية كلها قال: نذرت ما في بطنها، ثم سيَّبَتْها.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فلما وضعتها » ، فلما وضعت حَنَّة النذيرةَ، ولذلك أنث. ولو كانت « الهاء » عائدة على « ما » التي في قوله: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ، لكان الكلام: « فلما وضعته قالتْ رب إني وضعته أنثى » .
ومعنى قوله: ( وضعتها ) « ، ولدتها. يقال منه: » وضعت المرأة تَضَع وضْعًا « . »
« قالت ربّ إني وضعتها أنثى » ، أي: ولدت النذيرة أنثى « والله أعلم بما وضعت » .
واختلف القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة القرأة: ( وَضَعَتْ ) ، خبرًا من الله عز وجل عن نفسه: أنه العالم بما وضعت، من غير قيلها: « ربّ إني وضعتها أنثى » .
وقرأ ذلك بعض المتقدّمين: ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ ) على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة: « والله أعلم بما ولدتُ مني » .
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها، لا يتدافعون صحتها. وذلك قراءة من قرأ « والله أعلم بما وضعتْ » ، ولا يعترض بالشاذّ عنها عليها.
فتأويل الكلام إذًا: والله أعلم من كل خلقه بما وضعت ثم رجع جل ذكره إلى الخبر عن قولها، وأنها قالت - اعتذارًا إلى ربها مما كانت نذرتْ في حملها فحررته لخدمة ربها - : « وليس الذكر كالأنثى » ، لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدْس والقيام بخدمة الكنيسة، لما يعتريها من الحيض والنفاس « وإني سميتها مريم » ، كما:-
حدثني ابن حميد قال، ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى » ، أي: لما جعلتها محرّرًا له نذيرة.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق: « وليس الذكر كالأنثى » ، لأن الذكر هو أقوى على ذلك من الأنثى.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وليس الذكر كالأنثى » ، كانت المرأة لا يستطاع أن يصنع بها ذلك يعني أن تحرر للكنيسة، فتجعل فيها، تقوم عليها وتكنسها فلا تبرحها مما يصيبها من الحيض والأذى، فعند ذلك قالت: « ليس الذكر كالأنثى » .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: « قالت رب إني وضعتها أنثى » ، وإنما كانوا يحرّرون الغلمان - قال: « وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم » .
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها، وكانت على رَجاء أن يهبَ لها غلامًا، لأن المرأة لا تستطيع ذلك يعني القيامَ على الكنيسة لا تَبرحها، وتكنُسها لما يصيبها من الأذى.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن امرأة عمران ظنتّ أن ما في بطنها غلامٌ، فوهبته لله. فلما وضعت إذا هي جارية، فقالت تعتذر إلى الله: « رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى » ، تقول: إنما يحرّر الغلمان. يقول الله: « والله أعلم بما وضعت » ، فقالت: « إني سَمّيتها مريم » .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره عن عكرمة وأبي بكر، عن عكرمة: « فلما وضعتها قالت رَبّ إني وضعتها أنثى » « وليس الذكر كالأنثى » ، يعني: في المحيض، ولا ينبغي لامرأة أن تكون مع الرجال أمها تقول ذلك.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( 36 )
قال أبو جعفر: تعني بقولها: « وإني أعيذُها بك وذُريتها » ، وإني أجعل مَعاذها ومَعاذ ذرّيتها من الشيطان الرجيم، بك.
وأصل « المعاذ » ، الموئل والملجأ والمعقل.
فاستجاب الله لها، فأعاذها الله وذرّيتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليها سبيلا.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نَفْس مولود يُولد إلا والشيطان ينال منه تلك الطعنة، ولها يَستهلّ الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران، فإنها لما وضعتها قالت: « رب إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » ، فضُرب دُونها حجاب، فطعَن فيه.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود من ولد آدم له طَعنةٌ من الشيطان، وبها يستهلُّ الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وولدها، فإنّ أمها قالت حين وضعتها: « إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم » ، فضرب دونهما حجاب، فطَعَن في الحجاب.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من بني آدم مولودٌ يولد إلا قد مسَّه الشيطان حين يولد، فيستهلّ صارخًا بمسِّه إياه، غير مريم وابنها. قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: « إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم » .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني ابن أبي ذئب، عن عجلان مولى المشمعِلّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد من بني آدم يمسُّه الشيطان بإصبعه، إلا مريم وابنها.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن أبا يونس سُليماً مولى أبي هريرة حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل بني آدم يمسُّه الشيطان يوم ولدته أمه، إلا مريم وابنها.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمران، أن أبا يونس حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا يمسُّه الشيطان، فيستهل صارخًا من مسَّةِ الشيطان، إلا مريم وابنها. ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: « وإني أعيذُها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم » .
حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثنا قيس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا وقد عَصَره الشيطان عَصرةً أو عصرتين، إلا عيسى ابن مريم ومريم. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما ولد مولود إلا وقد استهلّ، غير المسيح ابن مريم، لم يسلَّط عليه الشيطان ولم يَنْهَزْه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا المنذر بن النعمان الأفطس: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما وُلد عيسى أتت الشياطينُ إبليس، فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رءوسها! فقال: هذا في حادث حدث! وقال: مكانَكم! فطارَ حتى جاء خَافقي الأرض، فلم يجد شيئًا، ثم جاء البحار فلم يجد شيئًا، ثم طار أيضًا فوجد عيسى قد ولد عند مِذْوَد حمار، وإذا الملائكة قد حفَّت حوله، فرجع إليهم فقال: إن نبيًّا قد ولد البارحة، ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها، إلا هذه! فَأيِسوا أن تُعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفَّة والعجَلة.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وإني أعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » ، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: كل بني آدم طَعَن الشيطانُ في جنبه، إلا عيسى ابن مريم وأمه، جُعل بينهما وبينه حجابٌ، فأصابت الطعنة الحجابَ، ولم ينفذ إليهما شيء وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبان الذنوبَ كما يصيبها سائرُ بني آدم. وذكر لنا أنّ عيسى كان يمشي على البحر كما يمشي على البر، مما أعطاه الله تعالى من اليقين والإخلاص.
حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « وإني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم » ، قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: كل آدمي طَعن الشيطان في جنبه غير عيسى وأمه، كانا لا يُصيبان الذنوب كما يصيبُها بنو آدم. قال: وقال عيسى صلى الله عليه وسلم فيما يثني على ربَه: وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن له علينا سبيلٌ.
حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا شعيب بن الليث قال، حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل بني آدم يَطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه، إلا عيسى ابن مريم، ذهب يطعَن فطعَن في الحجاب.
حدثنا الربيع قال، حدثنا شعيب قال، أخبرنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: أرأيتَ هذه الصرخة التي يَصرُخها الصبيُّ حين تلده أمه؟ فإنها منها.
حدثني أحمد بن الفرج قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثنا الزُّبيديّ، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من بني آدم مولودٌ إلا يمسُّه الشيطان حين يولدُ يستهلّ صارخًا.
القول في تأويل قوله : فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا
قال أبو جعفر: يعني بذلك: أن الله جل ثناؤه تقبّل مريمَ من أمها حَنَّة، وتحريرَها إياها للكنيسة وخدمتها وخدمة ربها « بقبول حَسن » .
« والقبول » مصدر من: « قبِلها ربُّها » ، فأخرج المصدر على غير لفظ الفعل. ولو كانَ على لفظه لكان: « فتقبلها ربها تقبُّلا حسنًا » . وقد تفعل العرب ذلك كثيرًا: أن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال، وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة، وذلك كقولهم: « تكلم فلان كلامًا » ، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل: « تكلم فلان تكلمًا » . ومنه قوله: « وأنبتها نباتًا حسنًا » ، ولم يقل: إنباتًا حسنًا.
وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: لم نسمع العرب تضم القاف في « قبول » ، وكان القياس الضمّ، لأنه مصدر مثل: « الدُّخول، والخروج » . قال: ولم أسمع بحرف آخر في كلام العرب يُشبهه.
حدثت بذلك عن أبي عبيد قال، أخبرني اليزيدي، عن أبي عمرو.
وأما قوله: « وأنبتها نباتًا حسنًا » ، فإن معناه: وأنبتها رَبُّها في غذائه ورزْقه نباتًا حسنًا، حتى تمّت فكملت امرأةً بالغةً تامة، كما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال الله عز وجل: « فتقبلها ربها بقبول حسن » ، قال: تقبل من أمها ما أرادت بها للكنيسة، وأجرَها فيها « وأنبتها » ، قال: نبتت في غذاء الله.
القول في تأويل قوله : وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: « وكفلها »
فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة: ( وَكَفَلَهَا ) مخففة « الفاء » . بمعنى: ضمها زكريا إليه، اعتبارًا بقول الله عز وجل: يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [ سورة آل عمران: 44 ] .
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين. ( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ) ، بمعنى: وكفَّلها اللهُ زكريا.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: ( وَكَفَّلَهَا ) مشددة « الفاء » ، بمعنى: وكفَّلها الله زكريا، بمعنى: وضمها الله إليه. لأن زكريا أيضًا ضمها إليه بإيجاب الله له ضمَّها إليه بالقُرْعة التي أخرجها اللهُ له، والآية التي أظهرَها لخصومه فيها، فجعله بها أولى منهم، إذ قَرَعَ فيها من شاحَّه فيها. وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومَه في مريم إذ تنازعوا فيها أيهم تكونُ عنده، تساهموا بقِدَاحهم، فرموا بها في نهر الأردنّ. فقال بعض أهل العلم: ارْتزّ قدح زكريا، فقام ولم يجر به الماء، وجرى بقدَاح الآخرين الماء. فجعل الله ذلك لزكريا علَمًا أنه أحق المتنازعين فيها بها.
وقال آخرون: بل اصّاعدَ قدح زكريا في النهر، وانحدرت قداحُ الآخرين مع جرية الماء وذهبت، فكان ذلك له علَمًا من الله في أنه أولى القوم بها.
قال أبو جعفر: وأيّ الأمرين كان من ذلك، فلا شك أن ذلك كان قضاءً من الله بها لزكريا على خصومه، بأنه أولاهم بها، وإذْ كان ذلك كذلك، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضمّ الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تَشاحِّهم فيها، واختصامهم في أولاهم بها.
وإذْ كان ذلك كذلك؛ كان بيِّنًا أنّ أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد « كفَّلها » .
وأما ما اعتلَّ به القارئون ذلك بتخفيف « الفاء » ، من قول الله: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وأن ذلك موجبٌ صحةَ اختيارهم التخفيفَ في قوله: « وكفلها » فحجة دالةٌ على ضَعف احتيال المحتج بها.
ذلك أنه غير ممتنع ذُو عقل من أن يقول قائل: « كفَّل فلانٌ فلانًا فكفَله فلان » . فكذلك القول في ذلك: ألقى القوم أقلامهم: أيهم يكفُل مريم، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام.
قال أبو جعفر: وكذلك اختلفت القرأة في قراءة « زكريا » .
فقرأته عامة قرأة المدينة بالمدّ.
وقرأته عامة قرأة الكوفة بالقصر.
وهما لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين، وليس في القراءة بإحداهما خلافٌ لمعنى القراءة الأخرى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.
غيرَ أن الصوابَ عندنا - إذا مُدّ « زكريا » أن يُنصب بغير تنوين، لأنه اسم من أسماء العجم لا يُجرَى، ولأن قراءتنا في « كفَّلها » بالتشديد، وتثقيل « الفاء » . فـ « زكرياء » منصوب بالفعل الواقع عليه.
وفي « زكريا » لغة ثالثة لا تجوز القراءة بها، لخلافها مصاحفَ المسلمين، وهو « زكري » بحذف المدة و « الياء » الساكنة، تشبهه العرب بالمنسوب من الأسماء، فتنوّنه وتُجْريه في أنواع الإعراب مجاريَ « ياء » النسبة.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: وضمها اللهُ إلى زكريا، من قول الشاعر:
فَهُوَ لِضُلالِ الهَوَامِ كَافِل
يراد به: لما ضلّ من متفرّق النعم ومنتشره، ضامٌّ إلى نفسه وجامع. وقد روي:
فَهُوَ لِضُلالِ الهَوافِي كَافِلُ
بمعنى أنه لما ندّ فهرب من النعمَ ضامٌّ من قولهم: « هفا الظَّليم » ، إذا أسرَع الطيران.
يقال منه للرجل: « ما لك تكفُل كلَّ ضالة » ؟ يعني به: تضمها إليك وتأخذُها.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاويّ قال حدثنا محمد بن ربيعة، عن النضر بن عربيّ، عن عكرمة في قوله: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، قال: ألقوا أقلامهم فجرَت بها الجِرْية، إلا قلم زكريا اصّاعدَ، فكفلها زكريا.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وكفلها زكريا » ، قال: ضمها إليه. قال: ألقوا أقلامهم - يقول: عصَّيهم - قال: فألقوها تلقاء جِرْية الماء، فاستقبلت عصا زكريا جِرْيةَ الماء، فَقرَعهم.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ، قال الله عز وجل: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ، فانطلقت بها أمها في خِرَقها - يعني أمّ مريم بمريم - حين ولدتها إلى المحراب وقال بعضهم: انطلقت حين بلغتْ إلى المحراب وكان الذين يكتبون التوراةَ إذا جاءوا إليهم بإنسان يجرّبونه، اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه. وكان زكريا أفضلهم يومئذ، وكان بينهم، وكانت خالة مريم تحته. فلما أتوا بها اقترعوا عليها، وقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها، تحتي أختها! فأبوا، فخرجوا إلى نهر الأردنّ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها: أيهم يقوم قلمه فيكفلها. فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قُرْنتَه كأنه في طين، فأخذ الجارية. وذلك قول الله عز وجل: « وكفلها زكريا » ، فجعلها زكريا معه في بيته، وهو المحراب.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وكفلها زكريا » ، يقول: ضمها إليه.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وكفلها زكريا » ، قال: سَهمهم بقلمه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، قال: كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم. قال: فتشاحَّ عليها أحبارُهم، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها. قال قتادة: وكان زكريا زوجَ أختها، فكفلها، وكانت عنده وَحضَنَها.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره، عن عكرمة وأبي بكر، عن عكرمة قال: ثم خرجت بها يعني: أمّ مريم بمريم في خِرَقها تحملها إلى بني الكاهن بن هارون، أخي موسى بن عمران. قال: وهم يومئذ يَلون من بيت المقدس ما يلي الحجبةُ من الكعبة، فقالت لهم: دُونكم هذه النذيرة، فإنّي حرّرتها، وهي ابنتي، ولا يدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردُّها إلى بيتي! فقالوا: هذه ابنة إمامنا وكان عمران يؤُمهم في الصلاة وصاحب قُرْباننا! فقال زكريا: ادفعوها إلىّ، فإن خالتها عندي. قالوا: لا تطيب أنفسنا، هي ابنة إمامنا! فذلك حين اقترعوا، فاقترعوا بأقلامهم عليها - بالأقلام التي يكتبون بها التوراة - فقرعهم زكريا، فكفلها.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جعلها زكريا معه في محرابه، قال الله عز وجل: « وكفلها زكريا » قال حجاج قال، ابن جريج: « الكاهنُ » في كلامهم: العالمُ.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « وكفلها زكريا » ، بعد أبيها وأمها، يذكرها باليتم، ثم قص خبرها وخبرَ زكريا.
حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير قوله: « وكفلها زكريا » ، قال: كانت عنده.
حدثني علي بن سهل قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله: « وكفلها زكريا » ، قال: جعلها زكريا معه في مِحْرابه.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ، وتقارعها القومُ، فقرَع زكريا، فكفلها زكريا.
وقال آخرون: بل كان زكريا بعد ولادة حَنَّةَ ابنتها مريمَ، كفَلها بغير اقتراع ولا استهام عليها، ولا منازعة أحد إياه فيها. وإنما كفلها، لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة، وعند زكريا خالتها ألاشِباع ابنة فاقوذ وقد قيل. إنّ اسم أم يحيى خالة عيسى: إشبع.
حدثنا بذلك القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبأيّ: أن اسم أم يحيى أشبع.
فضمها إلى خالتها أمّ يحيى، فكانت إليهم ومعهم، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذْر أمها التي نذرت فيها.
قالوا: والاقتراع فيها بالأقلام، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة أصابتهم، ضَعُفَ زكريا عن حمل مئونتها، فتدافعوا حملَ مؤونتها، لا رغبة منهم، ولا تنافسًا عليها وعلى احتمال مؤونتها. وسنذكر قصّتها على قول من قال ذلك، إذَا بلغنا إليها إن شاء الله تعالى.
حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق.
فعلى هذا التأويل، تصح قراءة من قرأ: « وكفَلها زكريا » بتخفيف « الفاء » ، لو صح التأويلُ. غير أن القول متظاهرٌ من أهل التأويل بالقول الأوّل: أن استهامَ القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سَهمه منها فالجًا على سهام خُصومه فيها. فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف.
القول في تأويل قوله : كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أن زكريا كان كلما دخل عليها المحرابَ، بعد إدخاله إياها المحراب، وجد عندها رزقًا من الله لغذائها.
فقيل إن ذلك الرزقَ الذي كان يجده زكريا عندها، فاكهةُ الشتاء في الصيف، وفاكهةُ الصيف في الشتاء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وجد عندها رزقًا » ، قال: وجد عندَها عنبًا في مِكْتَلٍ في غير حينه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد في قوله: « كلما دخل عليها زكريا المحراب وَجد عندها رزقًا » ، قال: العنب في غير حينه.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « وجد عندها رزقًا » ، قال: فاكهة في غير حينها.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو إسحاق الكوفي، عن الضحاك: أنه كان يجدُ عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف يعني في قوله: « وجد عندها رزقًا » .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه، عن الضحاك مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك مثله.
حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا من سمع الحكم بن عتيبة يحدّث، عن مجاهد قال: كان يجدُ عندها العنب في غير حينه.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وجد عندها رزقًا » ، قال: عنبًا وجده زكريا عند مريم في غير زمانه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله: « وجد عندها رزقًا » ، قال: فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: « كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا » ، قال: كنا نحدَّث أنها كانت تؤتَى بفاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: « وجد عندها رزقًا » ، قال: وجد عندها ثمرةً في غير زمانها.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: جعل زكريا دونها عليها سبعةَ أبواب، فكان يدخل عليها فيجد عندها فاكهةَ الشتاء في الصيف، وفاكهةَ الصيف في الشتاء.
حدثني موسى [ بن عبد الرحمن ] قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال: جعلها زكريا معه في بيتٍ - وهو المحراب - فكان يدخل عليها في الشتاء فيجد عندها فاكهةَ الصيف، ويدخل في الصيف فيجد عندها فاكهةَ الشتاء.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وجدَ عندها رزقًا » ، قال: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس « كلما دخل عليها زكريا المحرابَ وجد عندها رزقًا » ، قال: وجد عندها ثمارَ الجنة، فاكهةَ الصّيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم: أنّ زكريا كان يجد عندها ثمرةَ الشتاء في الصيف، وثمرةَ الصيف في الشتاء.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن قال: كان زكريا إذا دخل عليها يعني على مريم المحرابَ وجد عندها رزقًا من السماء، من الله، ليس من عند الناس. وقالوا: لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده، لم يسألها عنه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلا عما كان يأتيها به، الذي كان يَمُونها في تلك الأيام.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: كفلها بعد هلاك أمها فضمها إلى خالتها أم يحيى، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنَذْر أمها الذي نذرت فيها، فجعلت تنبت وتزيد. قال: ثم أصابت بني إسرائيل أزْمة وهي على ذلك من حالها، حتى ضعف زكريا عن حملها، فخرج على بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل، أتعلمون؟ والله لقد ضعفتُ عن حَمل ابنة عمران! فقالوا: ونحن لقد جُهِدنا وأصابنا من هذه السنة ما أصابكم! فتدافعوها بينهم، وهم لا يرون لهم من حملها بُدًّا، حتى تقارعوا بالأقلام، فخرج السّهم بحملها على رجل من بني إسرائيل نجار يقال لهُ جريج، قال: فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه، فكانت تقول له: يا جريج، أحسن بالله الظن! فإن الله سيرزقنا! فجعل جريج يرزق بمكانها، فيأتيها كلّ يوم من كسبه بما يُصلحها، فإذا أدخله عليها وهي في الكنيسة، أنماه الله وكثَّره، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق، وليس بقدر ما يأتيها به جُريج، فيقول: « يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا » ؟ فتقول: « هو من عند الله إنّ الله يرْزُق من يشاء بغير حساب » .
قال أبو جعفر: وأما « المحراب » ، فهو مقدم كل مجلس ومصلًّى، وهو سيد المجالس وأشرفُها وأكرمُها، وكذلك هو من المساجد، ومنه قول عديّ بن زيد:
كَــدُمَى العَـاجِ فِـي المَحَـارِيبِ أَوْ كـالبَيْضِ فِـي الرَّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ
و « المحاريب » جمع « محراب » ، وقد يجمع على « محارب » .
القول في تأويل قوله : قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 37 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « قال » زكريا: « يا مريم: أنَّى لك هذا » ؟ من أي وجه لك هذا الذي أرَى عندك من الرزقَ؟ قالت مريم مجيبة له: « هو من عند الله » ، تعني: أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها.
وإنما كان زكريا يقول ذلك لها، لأنه كان - فيما ذكر لنا - يُغلِق عليها سبعة أبواب، ويخرج. ثم يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. فكان يعجب مما يرى من ذلك، ويقول لها تعجبًا مما يرى: « أنَّى لك هذا » ؟ فتقول: من عند الله.
حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، فذكر نحوه.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « يا مريم أنَّى لك هذا قالت هو من عند الله » ، قال: فإنه وجد عندها الفاكهة الغضّة حين لا تُوجد الفاكهة عند أحد، فكان زكريا يقول: « يا مريم أنَّى لك هذا » ؟
وأما قوله: « إنّ الله يَرْزُقُ مَن يشاء بغير حساب » ، فخبرٌ من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقَه، بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبدَه. لأنه جل ثناؤه لا ينقصُ سَوْقُه ذلك إليه كذلك خزائنَه، ولا يزيدُ إعطاؤه إياه، ومحاسَبته عليه في مُلكه، وفيما لديه شيئًا، ولا يعزب عنه علمُ ما يرزقه، وإنما يُحاسب مَنْ يعطي مَا يعطيه، مَنْ يخشى النقصانَ من ملكه، ودخولَ النفاد عليه بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف، ومن كان جاهلا بما يعطى على غير حساب.
القول في تأويل قوله : هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ( 38 )
قال أبو جعفر: وأما قوله: « هنالك دعا زكريا ربه » ، فمعناها: عند ذلك، أي: عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رَزَقها، وفضله الذي آتاها من غير تسبُّب أحد من الآدميين في ذلك لها ومعاينته عندَها الثمرة الرّطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندَها في الأرض طمع بالولد، مع كبر سنه، من المرأة العاقر. فرجا أن يرزقه الله منها الولد، مع الحال التي هما بها، كما رزق مريم على تخلِّيها من الناس ما رَزَقها من ثمرة الصيف في الشتاء وثمرة الشتاء في الصيف، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العاداتُ في الأرض، بل المعروف في الناس غير ذلك، كما أن ولادة العاقر غيرُ الأمر الجاريةِ به العادات في الناس. فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد، وسأله ذرّيةً طيبة.
وذلك أن أهل بيت زكريا - فيما ذكر لنا - كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت، كما:-
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فلما رأى زكريا من حالها ذلك يعني: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف قال: إنّ ربًّا أعطاها هذا في غير حينه، لقادرٌ على أن يرزقني ذرية طيبة! ورغب في الولد، فقام فصلَّى، ثم دعا ربه سرًّا فقال: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [ سورة مريم: 4- 6 ] ، وقوله: ( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ) وقال: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [ سورة الأنبياء: 89 ] .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: فلما رأى ذلك زكريا - يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف - عند مريم قال: إنّ الذي يأتي بهذا مريمَ في غير زمانه، قادرٌ أن يرزقني ولدًا، قال الله عز وجل: « هنالك دعا زكريا ربه » ، قال: فذلك حين دعا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة قال: فدخل المحرابَ وغلَّق الأبوابَ، وناجى ربه فقال: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا إلى قوله: رَبِّ رَضِيًّا فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ الآية.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم قال: فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسنّ ولا ولد له، وقد انقرض أهل بيته فقال: « ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء » ، ثم شكا إلى ربه فقال: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا إلى وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ الآية.
وأما قوله: « ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة » ، فإنه يعني بـ « الذرية » النسل، وبـ « الطيبة » المباركة، كما:-
حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « قال رَبّ هب لي من لدنك ذرية طيبة » ، يقول: مباركة.
وأما قوله: « من لدنك » ، فإنه يعني: من عندك.
وأما « الذرية » ، فإنها جمع، وقد تكون في معنى الواحد، وهي في هذا الموضع الواحد. وذلك أنّ الله عز وجل قال في موضع آخر، مخبرًا عن دعاء زكريا: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [ سورة مريم: 5 ] ، ولم يقل: أولياء - فدلّ على أنه سأل واحدًا. وإنما أنث « طيبة » ، لتأنيث الذرّية، كما قال الشاعر:
أَبُــوكَ خَلِيفَــةٌ وَلَدَتْــهُ أُخْــرَى وَأَنْـــتَ خَلِيفَـــةٌ, ذَاكَ الكَمَــالُ
فقال: « ولدته أخرى » ، فأنَّث، وهو ذَكر، لتأنيث لفظ « الخليفة » ، كما قال الآخر:
فَمَــا تَْــزدَرِي مِـنْ حَيَّـةٍ جَبَلِيَّـةٍ سُـكَاتٍ, إذَا مَـا عَـضَّ لَيْسَ بِـأَدْرَدَا
فأنث « الجبلية » لتأنيث لفظ « الحية » ، ثم رجع إلى المعنى فقال: « إذا مَا عَضّ » ، لأنه كان أراد حَية ذكرًا، وإنما يجوز هذا فيما لم يقع عليه « فلانٌ » من الأسماء، كـ « الدابة، والذرية، والخليفة » . فأما إذا سُمّي رجل بشيء من ذلك، فكان في معنى « فلان » ، لم يجز تأنيثُ فعله ولا نعته.
وأما قوله: « إنك سميع الدعاء » ، فإن معناه: إنك سامع الدعاء، غير أنّ « سميع » ، أمدَحُ، وهو بمعنى: ذو سمع له.
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: إنك تَسمعَ ما تُدْعى به.
قال أبو جعفر: فتأويل الآية، فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال: رب هب لي من عندك ولدًا مباركًا، إنك ذو سَمعٍ دُعاءَ من دَعاك.
القول في تأويل قوله : فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعضُ أهل الكوفة والبصرة: « فنادته الملائكة » على التأنيث بالتاء، يراد بها: جمع « الملائكة » . وكذلك تفعل العرب في جماعة الذّكور إذا تقدّمت أفعالها، أنَّثت أفعالها، ولا سيما الأسماء التي في ألفاظها التأنيث، كقولهم: جاءَت الطَّلحات « . »
وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بالياء، بمعنى فناداه جبريل، فذكروه للتأويل، كما قد ذكرنا آنفًا أنهم يُؤنثون فعل الذّكر للفظ، فكذلك يذكِّرون فعلَ المؤنث أيضًا للفظ. واعتبروا ذلك فيما أرى بقراءةٍ يذكر أنها قراءَةُ عبد الله بن مسعود، وهو ما:-
حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، أنّ قراءة ابن مسعود: ( فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ) .
وكذلك تأوّل قوله: « فنادته الملائكة » جماعةٌ من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « فنادته الملائكة » ، وهو جبريل أو: قالت الملائكة، وهو جبريل « أنّ الله يُبشرك بيَحيى » .
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف جاز أن يقال على هذا التأويل: « فنادته الملائكة » ، و « الملائكة » جمع لا واحد؟ قيل: ذلك جائز في كلام العرب، بأن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع، كما يقال في الكلام: « خرج فلان على بغال البُرُد » ، وإنما ركب بغلا واحدًا « وركب السفن » ، وإنما ركب سفينةً واحدة. وكما يقال: « ممن سمعتَ هذا الخبر » ؟ فيقال: « من الناس » ، وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قيل إنّ منه قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [ سورة آل عمران: 173 ] ، والقائلُ كانَ فيما كان ذُكر - واحدًا وقوله: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ [ سورة الروم: 33 ] ، والناس بمعنى واحد. وذلك جائز عندهم فيما لم يقصد فيه قصد واحد.
قال أبو جعفر: وإنما الصواب من القول عندي في قراءة ذلك، أنهما قراءتان معروفتان أعني « التاء » و « الياء » فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذلك أنه لا اختلافَ في معنى ذلك باختلاف القراءتين، وهما جميعًا فصيحتان عند العرب، وذلك أنّ « الملائكة » إن كان مرادًا بها جبريل، كما روى عن عبد الله، فإن التأنيث في فعلها فصيحٌ في كلام العرب للفظها، إن تقدمها الفعل. وجائز فيه التذكير لمعناها.
وإن كان مرادًا بها جمع « الملائكة » ، فجائز في فعلها التأنيث، وهو من قَبلها، للفظها. وذلك أن العرب إذا قدّمت على الكثير من الجماعة فعلها، أنثته، فقالت: « قالت النساء » . وجائز التذكير في فعلها، بناءً على الواحد، إذا تقدم فعله، فيقال: « قال الرجال » .
وأما الصّواب من القول في تأويله، فأنْ يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر أنّ الملائكة نادته. والظاهرُ من ذلك، أنها جماعة من الملائكة دون الواحد، وجبريلُ واحد.
ولا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب، دون الأقل ما وُجِد إلى ذلك سبيل. ولم تَضطَّرنا حاجةٌ إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفيّ من الكلام والمعاني.
وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم، منهم: قتادة، والربيع بن أنس، وعكرمة، ومجاهد، وجماعة غيرهم. وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فيما مَضَى.
القول في تأويل قوله : وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « وهو قائم: » فنادته الملائكة في حال قيامه مصلِّيًا. فقوله: « وهو قائم » ، خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا.
وقوله: « يُصَلي » في موضع نصب على الحال من « القيام » ، وهو رفع بالياء.
وأما « المحراب » ، فقد بينا معناه، وأنه مقدّم المسجد.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: « أنّ اللهَ يبشرك » .
فقرأته عامة القرأة: ( أَنَّ اللَّهَ ) بفتح « الألف » من « أن » ، بوقوع « النداء » عليها، بمعنى: فنادته الملائكة بذلك.
وقرأه بعض قرأة أهل الكوفة: ( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ) بكسر « الألف » ، بمعنى: قالت الملائكة: إنّ الله يبشرك، لأن النداء قولٌ. وذكروا أنها في قراءة عبد الله: ( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ يَا زَكَرِيَّا إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ) قالوا: وإذا بطل النداء أن يكون عاملا في قوله: « يا زكريا » ، فباطلٌ أيضًا أن يكون عاملا في « إن » .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا: « أنّ الله يبشرك » بفتح « أن » بوقوع النداء عليه، بمعنى: فنادته الملائكة بذلك.
وليست العلة التي اعتلّ بها القارئون بكسر « إن » منْ أنّ عبد الله كان يقرؤها كذلك، فقرءوها كذلك [ لهم بعلة ] وذلك أن عبد الله إنْ كان قرأ ذلك كذلك، فإنما قرأها بزعمهم، وقد اعترض بنداء زكريا بين « إن » وبين قوله: فَنَادَتْهُ ، وإذا اعترض به بينهما، فإن العرَب تعمل حينئذ النداء في « أنّ » ، وتبطله عنها. أما الإبطال، فلأنه بطل عن العمل في المنادى قبله، فأسلكوا الذي بعده مسلكه في بطول عمله. وأما الإعمال، فلأن النداء فعل واقعٌ كسائر الأفعال.
وأما قراءتنا، فليس نداء زكريا ب « يا زكريا » معترضًا به بين « أن » وبين قوله: فَنَادَتْهُ . وإذا لم يكن ذلك بينهما، فالكلامُ الفصيح من كلام العرب إذا نصبتْ بقوْلِ: « ناديت » اسمَ المنادَى وأوقعوه عليه، أن يوقعوه كذلك على « أنّ » بعده. وإن كان جائزًا إبطالُ عمله، فقوله: « نادته » ، قد وَقع على مكنيّ « زكريا » ، فكذلك الصواب أن يكون واقعًا على « أن » وعاملا فيها.
مع أنّ ذلك هو القراءة المستفيضة في قراءة أمصار الإسلام. ولا يُعترض بالشاذّ على الجماعة التي تجيء مجيءَ الحجة.
وأما قوله: « يبشرك » ، فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والبصرة: ( أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ) بتشديد « الشين » وضم « الياء » ، على وجه تبشير الله زكريا بالولد، من قول الناس: « بشَّرتْ فلانًا البُشَراء بكذا وكذا » ، أي: أتته بشارات البُشراء بذلك.
وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة وغيرهم: ( أَنَّ اللَّهَ يَبْشُرُكَ ) ، بفتح « الياء » وضم « الشين » وتخفيفها، بمعنى: أن الله يَسرّك بولد يَهَبُه لك، من قول الشاعر:
بَشَـرْتُ عِيَـالِي إِذْ رَأَيْـتُ صَحِيفَـةً أَتَتْــكَ مِـنَ الحَجَّـاجُ يُتْـلَى كِتَابُهَـا
وقد قيل: إن « بشَرت » لغة أهلِ تهامة من كنانة وغيرهم من قريش، وأنهم يقولون: « بشَرتُ فلانًا بكذا، فأنا أبشُرُه بَشْرًا » ، و « هل أنتَ باشرٌ بكذا » ؟ وينشد لهم البيت في ذلك:
وَإذَا رَأَيْــتَ البَاهِشِـينَ إلَـى العُـلَى غُــبْرًا أَكُــفُّهُمُ بِقَــاعٍ مُمْحِــلِ
فَـأَعِنْهُمُ, وَابْشَـرْ بِمَـا بَشِـرُوا بِـهِ, وَإذَا هُــمُ نَزَلُــوا بِضَنْـكٍ فَـانْزِلِ
فإذا صاروا إلى الأمر، فالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف فيقال: « ابشَرْ فلانًا بكذا » ، ولا يكادون يقولون: « بشِّره بكذا، ولا أبشِره » .
وقد روي عن حميد بن قيس أنه كان يقرأ: ( يبشرك ) ، بضم « الياء » وكسر « الشين » وتخفيفها. وقد:-
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ الكوفيّ قال: من قرأ: ( يُبَشِّرُهُمْ ) مثقلة، فإنه من البشارة، ومن قرأ: ( يَبْشُرُهُمْ ) ، مخففة، بنصب « الياء » ، فإنه من السرور، يسرُّهم.
قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءة عندنا في ذلك، ضم « الياء » وتشديد « الشين » ، بمعنى التبشير. لأن ذلك هي اللغة السائرةُ والكلامُ المستفيض المعروف في الناس، مع أن جميع قرأة الأمصار مجمعون في قراءة: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [ سورة الحجر: 54 ] ، على التشديد. والصواب في سائر ما في القرآن من نظائره، أنْ يكون مثله في التشديد وضم « الياء » .
وأما ما روي عن معاذ الكوفي من الفرق بين معنى التخفيف والتشديد في ذلك، فلم نجدْ أهل العلم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح، فلا معنى لما حُكي من ذلك عنه، وقد قال جرير بن عطية:
يَــا بِشْـرُ حُـقَّ لِوَجْـهِكَ التَّبْشِـيرُ هَـلا غَضِبْـتَ لَنَـا? وَأَنْـتَ أَمِـيرُ!
فقد علم أنه أراد بقوله « التبشير » ، الجمال والنضارة والسرور، فقال « التبشير » ولم يقل « البشر » ، فقد بيَّن ذلك أن معنى التخفيف والتثقيل في ذلك واحدٌ.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: « إن الله يبشرك بيحيى » ، قال: بشرته الملائكة بذلك.
وأما قوله: « بيحيى » ، فإنه اسم، أصله « يفعل » ، من قول القائل: « حيي فلانٌ فهو يحيَى » ، وذلك إذا عاش. « فيحيى » « يفعل » من قولهم « حيي » .
وقيل: إن الله جل ثناؤه سماه بذلك، لأنه يتأوّل اسمه: أحياه بالإيمان.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « أنّ الله يبشرُك بيحيى » ، يقول: عبدٌ أحياه الله بالإيمان.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله: « إنّ الله يبشرك بيحيى » ، قال: إنما سمي يحيى، لأن الله أحياه بالإيمان.
القول في تأويل قوله : مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنًا لك، « مصدّقًا بكلمة من الله » ، يعني: بعيسى ابن مريم.
ونصب قوله: « مصدقًا » على القطع من « يحيى » ، لأنّ « مصدقًا » نعتٌ له، وهو نكرة، و « يحيى » غير نكرة.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال، حدثنا محمد بن ربيعة قال، حدثنا النضر بن عربيّ، عن مجاهد قال: قالت امرأة زكريا لمريم: إني أجد الذي في بطني يتحرّك للذي في بطنك! قال: فوضعت امرأةُ زكريا يحيى، ومريمُ عيسى، ولذا قال: « مصدِّقًا بكلمة من الله » ، قال: يحيى مصدّق بعيسى.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الرقاشي في قول الله: « يبشرك بيحيى مصدّقًا بكلمة من الله » ، قال: مصدّقًا بعيسى ابن مريم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله: « مصدقًا بكلمة من الله » ، قال: مصدقًا بعيسى.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « مصدقًا بكلمة من الله » ، يقول: مصدّقًا بعيسى ابن مريم، وعلى سُنَّته ومنهاجه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « مصدقًا بكلمة من الله » ، يعني: عيسى ابن مريم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة: « مصدقًا بكلمة من الله » ، يقول: مصدقًا بعيسى ابن مريم، يقول على سننه ومنهاجه.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « مصدقًا بكلمة من الله » ، قال: كان أوّلَ رجل صدَّق عيسى، وهو كلمة من الله ورُوحٌ.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « مصدقًا بكلمة من الله » ، يصدق بعيسى.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « إنّ الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله » ، كان يحيى أول من صدق بعيسى وشهدَ أنه كلمة من الله، وكان يحيى ابن خالة عيسى، وكان أكبر من عيسى.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة عن ابن عباس قوله: « مصدقًا بكلمة من الله » ، قال: عيسى ابن مريم، هو الكلمة من الله، اسمه المسيح.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: « مصدقًا بكلمة من الله » ، قال: كان عيسى ويحيى ابنَيْ خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجدُ للذي في بطنك! فذلك تصديقه بعيسى: سُجوده في بطن أمه. وهو أول من صدق بعيسى وكلمة عيسى، ويحيى أكبر من عيسى.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « أن الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله » ، قال: الكلمة التي صدق بها: عيسى.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لقيت أمّ يحيى أمّ عيسى، وهذه حامل بيحيى، وهذه حامل بعيسى، فقالت امرأة زكريا: يا مريم، استشعرتُ أنِّي حبلى! قالت مريم: استشعرت أني أيضًا حبلى! قالت امرأة زكريا: فإني وجدتُ ما في بطني يسجُد لما في بطنك! فذلك قوله: « مصدّقًا بكلمة من الله » .
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قول الله: « أنّ الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله » ، قال: مصدّقًا بعيسى ابن مريم.
قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل البصرة، أنّ معنى قوله: « مصدقًا بكلمة من الله » ، بكتاب من الله، من قول العرب: « أنشدني فلانٌ كلمة كذا » ، يراد به: قصيدة كذا جهلا منه بتأويل « الكلمة » ، واجتراءً على تَرجمة القرآن برأيه.
القول في تأويل قوله : وَسَيِّدًا
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « وسيدًا » ، وشريفًا في العلم والعبادة.
ونصب « السيد » عطفًا على قوله: مُصَدِّقًا .
وتأويل الكلام: أن الله يبشرك بيحيى مصدّقًا بهذا، وسيدًا.
« والسيد » « الفيعل » من قول القائل: « سادَ يسود » ، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وسيدًا » إي والله، لسيدٌ في العبادة والحلم والعلِم والوَرَع.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله: « وسيدًا » ، قال: السيدُ، لا أعلمه إلا قال: في العلم والعبادة.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: السيد الحليم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، « وسيدًا » ، قال: الحليم.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير: « وسيدًا » ، قال: السيد التقيُّ.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « وسيدا » ، قال: السيد الكريم على الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال: زعم الرّقاشي أنّ السيد، الكريم على الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قول الله عز وجل: « وسيدًا » ، قال: السيد الحليم التقي.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وسيدًا » ، قال: يقول: تقيًّا حليما.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان في قوله: « وسيدًا » ، قال: حليما تقيًّا.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله: « وسيدًا » ، قال: السيد: الشريف.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال: حدثنا بقية بن الوليد، عن عبد الملك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قول الله عز وجل: « وسيدًا » ، قال: السيد الفقيه العالم.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال: حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « وسيدًا » ، قال، يقول: حليما تقيًّا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة: « وسيدًا » ، قال: السيد الذي لا يغلبُه الغضب.
القول في تأويل قوله : وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ( 39 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك: ممتنعًا من جماع النساء، من قول القائل: « حَصِرْتُ من كذا أحْصَر » ، إذا امتنع منه. ومنه قولهم: « حَصِرَ فلان في قراءته » ، إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها. وكذلك « حَصْرُ العدوّ » ، حَبْسهم الناسَ ومنعهم إياهم التصرف، ولذلك قيل للذي لا يُخرج مع ندمائه شيئًا، « حَصُور » ، كما قال الأخطل:
وَشَــارِبٍ مُـرْبِحٍ بِالكَـأْسِ نَـادَمَنِي لا بِــالَحصُورِ وَلا فِيهَــا بِسَــوَّارِ
ويروى: « بسآر » . ويقال أيضًا للذي لا يخرج سره ويكتمه « حصور » ، لأنه يمنع سره أن يظهر، كما قال جرير:
وَلَقَـدْ تَسَـاقَطَنِي الوُشَـاةُ, فَصَـادَفُوا حَــصِرًا بِسِـرِّكِ يَـا أُمَيْـمَ ضَنِينَـا
وأصل جميع ذلك واحد، وهو المنع والحبس.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن خلف قال، حدثنا حماد بن شعيب، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله في قوله: « وسيدًا وحصورًا » ، قال: الحصور، الذي لا يأتي النساء.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: حدثني ابن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنبٌ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا. قال: ثم دلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَه إلى الأرض، فأخذ عُوَيْدًا صغيرًا، ثم قال: وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود، وبذلك سماه الله « سيدًا وحصُورًا » .
حدثني يونس قال، أخبرنا أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد قال، سمعت سعيد بن المسيب يقول: ليس أحدٌ إلا يلقى الله يوم القيامة ذا ذَنْبٌ إلا يحيى بن زكريا، كان حصورًا، معه مثل الهُدْبة.
حدثنا أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا عمر بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال ابن العاص - إما عبد الله، وإما أبوه - : ما أحد يلقى الله إلا وهو ذو ذنب، إلا يحيى بن زكريا. قال وقال سعيد بن المسيب: « وسيدًا وحصورًا » ، قال: الحصور، الذي لا يغشى النساء، ولم يكن ما معه إلا مثل هُدْبة الثوب.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن عبد الملك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قوله: « وحصورًا » قال: الحصور الذي لا يشتهي النساء. ثم ضرب بيده إلى الأرض فأخذ نواة فقال: ما كان معه إلا مثل هذه.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: الحصور، الذي لا يأتي النساء.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد مثله.
حدثني عبد الرحمن بن الأسود قال، حدثنا محمد بن ربيعة قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد: « وحصورًا » ، قال: الذي لا يأتي النساء.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الحصور: لا يقرَبُ النساء.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال: زعم الرقاشي: « الحصور » الذي لا يقرب النساء.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: « الحصور » ، الذي لا يولد له، وليس له ماء.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وحصورًا » ، قال: هو الذي لا ماء له.
حدثنا بشر قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وحصورًا » ، كنا نُحدّث أن الحصور الذي لا يقرب النساء.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله: « وسيدًا وحصورًا » ، قال: الحصور الذي لا يأتي النساء.
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الحصور الذي لا ينـزل الماء.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد: « وحصورًا » ، قال: الحصور الذي لا يأتي النساء.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وحصورًا » ، قال: الحصور، الذي لا يريد النساء.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن: « وحصورًا » ، قال: لا يقرب النساء.
وأمّا قوله: « ونبيًّا من الصالحين » فإنه يعني: رسولا لربه إلى قومه، ينبئهم عنه بأمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ويبلِّغهم عنه ما أرسله به إليهم.
ويعني بقوله: « من الصّالحين » ، من أنبيائه الصالحين.
وقد دللنا فيما مضى على معنى « النبوّة » وما أصلها، بشواهد ذلك والأدلة الدالة على الصحيح من القول فيه، بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله : قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ
قال أبو جعفر: يعني أنّ زكريا قال إذ نادته الملائكة: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ « أنى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكبر » ؟ يعني: مَنْ بلغ من السن ما بلغتُ لم يولد لهُ « وامرأتي عاقر » .
« والعاقر » من النساء التي لا تلد. يقال منه: « امرأة عاقر، ورجلٌ عاقرٌ » ، كما قال عامر بن الطفيل:
لَبِئْـسَ الفَتَـى! إنْ كُـنْتُ أَعْوَرَ عَاقِرًا جَبَانًـا, فَمَـا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ!!
وأما « الكبر » فمصدر: « كبِرَ فهو يَكبَرُ كِبَرا » .
وقيل: « بلغني الكبر » ، وقد قال في موضع آخر: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ [ سورة مريم: 8 ] ، لأن ما بلغك فقد بلغته. وإنما معناه: قد كبرت، وهو كقول القائل: « قد بلغني الجهد » بمعنى: أني في جهد.
فإن قال قائل: وكيف قال زكريا وهو نبيّ الله: « ربّ أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر » ، وقد بشرته الملائكة بما بشرته به عن أمر الله إياها به؟ أشكّ في صدقهم؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصفَ به أهل الإيمان بالله! فكيف الأنبياء والمرسلون؟ أم كان ذلك منه استنكارًا لقدرة ربه؟ فذلك أعظم في البلية!
قيل: كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على غير ما ظننتَ، بل كان قِيله ما قال من ذلك، كما:-
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما سمع النداء - يعني زكريا، لما سمع نداء الملائكة بالبشارة بيحيى - جاءه الشيطان فقال له: يا زكريا، إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله، إنما هو من الشيطان يسخرُ بك! ولو كان من الله أوحاه إليك كما يُوحى إليك في غيره من الأمر! فشكّ مَكانه، وقال: « أنَّي يكون لي غلام » ، ذكرٌ؟ يقول: من أين؟ « وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر » .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة قال: فأتاه الشيطان فأراد أن يكدّر عليه نعمةَ ربه فقال: هل تدري من ناداك؟ قال: نعم! نادتني ملائكةُ ربي! قال: بل ذلك الشيطان! لو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءك! فقال: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً .
فكان قولهُ ما قال من ذلك، ومراجعته ربَّه فيما راجع فيه بقوله: « أنى يكون لي غلام » ، للوسوسة التي خالطتْ قلبه من الشيطان حتى خيَّلت إليه أنّ النداء الذي سمعه كان نداءً من غير الملائكة، فقال: « رب أنَّى يكون لي غلام » ، مستثبتًا في أمره، ليتقرّر عنده بآية يريها الله في ذلك - أنه بشارة من الله على ألسن ملائكته، ولذلك قال: « رب اجعل لي آية » .
وقد يجوز أن يكون قيله ذلك، مسألةً منه ربَّه: من أيّ وجه يكون الولدُ الذي بُشر به؟ أمن زوجته؟ فهي عاقر - أم من غيرها من النساء؟ فيكون ذلك على غير الوجه الذي قاله عكرمة والسدي ومن قال مثلَ قولهما.
القول في تأويل قوله : قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ( 40 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « كذلك الله » ، أي هو ما وصفَ به نفسه أنه هيِّنٌ عليه أن يخلق ولدًا من الكبير الذي قد يَئس من الولد، ومن العاقر التي لا يُرْجى من مثلها الولادة، كما خلقك يا زكريا من قبل خلْق الولدِ منك ولم تك شيئًا، لأنه الله الذي لا يتعذر عليه خلق شيء أراده، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءَه، لأن قدرَته القدرةُ التي لا تُشبهها قدرة، كما:-
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: « كذلك الله يفعل ما يشاء » ، وقد خلقتك من قبل ولم تكُ شيئًا.
القول في تأويل قوله : قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه، خبرًا عن زكريا، قال زكريا: ربّ إن كان هذا النداء الذي نُوديتُه، والصوتُ الذي سمعته، صوتَ ملائكتك وبشارةً منك لي، فاجعل لي آية يقول: علامةً أن ذلك كذلك، ليزول عنِّي ما قد وسوس إليّ الشيطان فألقاه في قلبي، من أنّ ذلك صوتُ غير الملائكة، وبشارةٌ من عند غيرك، كما:-
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: « رب اجعل لي آية » ، قال: قال - يعني زكريا - : يا ربّ، فإن كان هذا الصوت منكَ، فاجعل لي آيةً.
وقد دللنا فيما مضى على معنى « الآية » ، وأنها العلامة، بما أغنى عن إعادته.
وقد اختلف أهل العربية في سبب ترك العرب همْزها، ومن شأنها همزُ كل « ياء » جاءت بعد « ألف » ساكنة.
فقال بعضهم: ترك همزها، لأنها كانت « أيَّة » ، فثقُل عليهم التشديد، فأبدلوه « ألفًا » لانفتاح ما قبل التشديد كما قالوا: « أيْما فلانٌ فأخزاه الله » .
وقال آخرون منهم: بل هي « فاعلة » منقوصة.
فسئلوا فقيل لهم: فما بال العرب تصغرها « أيَيَّة » ، ولم يقولوا « أوَيَّة » . فقالوا: قيل ذلك، كما قيل في « فاطمة » ، « هذه فُطيمة » . فقيل لهم: فإنهم إنما يصغرون « فاعلة » ، على « فعيلة » ، إذا كان اسمًا في معنى فلان وفلانة، فأما في غير ذلك فليس من تصغيرهم « فاعلة » على « فعيلة » .
وقال آخرون: إنه « فَعْلة » صيرت ياؤها الأولى « ألفا » ، كما فعل بـ « حاجة، وقامة » .
فقيل لهم: إنما تفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة.
وقال من أنكر ذلك من قِيلهم: لو كان كما قالوا: لقيل في « نواة » ناية، وفي « حَياة » حَاية.
القول في تأويل قوله : قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا
قال أبو جعفر: فعاقبه الله - فيما ذكر لنا - بمسألته الآية، بعد مشافهة الملائكة إياه بالبشارة، فجعل آيته على تحقيق ما سمع من البشارة من الملائكة بيحيى أنه من عند الله آية من نفسه، جمعَ تعالى ذكره بها العلامة التي سألها ربَّه على ما يبيِّن له حقيقة البشارة أنها من عند الله، وتمحيصًا له من هفوته، وخطإ قِيله ومسألته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناسَ ثلاثةَ أيام إلا رمزًا » ، إنما عوقب بذلك، لأن الملائكة شافهته مشافهة بذلك، فبشَّرته بيحيى، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه. فأخِذَ عليه بلسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا ما أومأ وأشار، فقال الله تعالى ذكره، كما تسمعون: « آيتك ألا تكلم الناس ثلاثةَ أيام إلا رمزًا » .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا ، قال: شافهته الملائكة، فقال: « رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا » ، يقول: إلا إيماءً، وكانت عقوبةً عُوقب بها، إذ سأل الآيةَ مع مشافهة الملائكة إياه بما بشرته به.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع في قوله: « رب اجعل لي آية، قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا » ، قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه عوقب، لأن الملائكة شافهته مشافهة، فبشرته بيحيى، فسأل الآية بعدُ، فأخِذَ بلسانه.
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه عوقب، لأن الملائكة شافهته فبشرته بيحيى، قالت: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ، فسأل بعد كلام الملائكة إياه الآية، فأخِذ عليه لسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا رمزًا - يقول: يومئ إيماءً.
حدثني أبو عبيد الوَصّابي قال، حدثنا محمد بن حمير قال، حدثنا صفوان بن عمرو، عن جُبير بن نُفير في قوله: « قال رب اجعل لي آيةً قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا » ، قال: ربَا لسانه في فيه حتى ملأه، ثم أطلقه الله بعد ثلاثٍ.
قال أبو جعفر: وإنما اختارت القرأةُ النصبَ في قوله: « ألا تكلم الناس » ، لأن معنى الكلام: قال آيتك أن لا تكلمَ الناسَ فيما يستقبلُ ثَلاثة أيام فكانت « أن » هي التي تصحب الاستقبال، دون التي تصحب الأسماء فتنصبها. ولو كان المعنى فيه: آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام أي: أنك على هذه الحال ثلاثة أيام كان وجه الكلام الرفع. لأن « أن » كانت تكون حينئذ بمعنى الثقيلة خففت. ولكن لم يكن ذلك جائزًا، لما وصفت من أن ذلك بالمعنى الآخر.
وأما « الرّمز » ، فإنّ الأغلب من معانيه عند العرب: الإيماءُ بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحيانًا، وذلك غير كثير فيهم. وقد يقال للخفي من الكلام الذي هو مثلُ الهمس بخفض الصّوت: « الرمز » ، ومنه قول جُؤيّة بن عائذ:
وَكَــانَ تَكَــلُّمُ الأبْطَــالِ رَمْــزًا وَهَمْهَمَــةً لَهُــمْ مِثْــلَ الهَدِيــرِ
يقال منه: « رَمز فلان فهو يَرْمِزُ ويرمُز رَمزًا ويترمَّزُ ترمُّزًا » ، ويقال: « ضربه ضربةً فارتمز منها » ، أي اضطرب للموت، قال الشاعر:
خَرَرْتُ مِنْهَا لِقِفَايَ أَرْتَمِزْ
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عنى الله عز وجل به في إخباره عن زكريا من قوله: « آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا » ، وأيّ معاني « الرمز » عني بذلك؟
فقال بعضهم: عني بذلك: آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا تحريكًا بالشفتين، من غير أن ترمز بلسانك الكلام.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله: « إلا رمزًا » ، قال: تحريك الشفتين.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ثلاثة أيام إلا رمزًا » ، قال: إيماؤه بشفتيه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك: الإيماء والإشارة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: « إلا رمزًا » ، قال: الإشارة.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « إلا رمزًا » ، قال: الرمز أن يشير بيده أو رأسه، ولا يتكلم.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « إلا رمزًا » ، قال: الرمزُ: أنْ أخِذ بلسانه، فجعل يكلم الناس بيده.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « إلا رمزًا » ، قال: والرمز الإشارة.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا » ، الآية، قال: جعل آيته أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا، إلا أنه يذكر الله. والرّمز: الإشارة، يشير إليهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: « إلا رمزًا » ، إلا إيماءً.
حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إلا رمزًا » ، يقول: إشارة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: « إلا رمزًا » ، إلا إشارة.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: « قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا » ، قال: أمسكَ بلسانه، فجعل يومئ بيده إلى قومه: أنْ سبِّحوا بُكرة وعشيًّا.
القول في تأويل قوله : وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( 41 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك: قال الله جل ثناؤه لزكريا: يا زكريا، آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا ، بغير خرس ولا عاهة ولا مرض، « واذكر ربك كثيرًا » ، فإنك لا تمنع ذكرَه، ولا يحالُ بينك وبين تسبيحه وغير ذلك من ذكره، وقد:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب قال: لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر، لرخَّص لزكريا حيث قال: « آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا واذكر ربك كثيرًا » ، أيضًا.
وأما قوله: « وسبح بالعشي » ، فإنه يعني: عَظِّم ربك بعبادته بالعشي.
و « العَشيّ » من حين تزُول الشمس إلى أن تغيب، كما قال الشاعر:
فَـلا الظِّـلَّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعَهُ, وَ لا الفَـيْءَ مِـنْ بَـرْدِ العَشِـيِّ تَذُوقُ
فالفيء، إنما تبتدئ أوْبته عند زوال الشمس، وَيتناهى بمغيبها.
وأما « الإبكار » فإنه مصدر من قول القائل: « أبكر فلان في حاجة فهو يُبْكِر إبكارًا » ، وذلك إذا خرج فيها من بين مطلع الفجر إلى وقت الضُّحى، فذلك « إبكار » . يقال فيه: « أبكر فلان » و « بكر يَبكُر بُكورًا » . فمن « الإبكار » ، قول عمر بن أبي ربيعة:
أَمِنْ آلِ نُعَمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ
ومن « البكور » قول جرير:
أَلا بَكَــرَتْ سَـلْمَى فَجَـدَّ بُكُورُهَـا وَشَـقَّ العَصَـا بَعْـدَ اجْتِمَـاعٍ أَمِيرُهَا
ويقال من ذلك: « بكر النخلُ يَبْكُر بُكورًا وأبكر يُبكر إبكارًا » ، و « الباكور » من الفواكه: أوّلها إدراكًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وسبِّح بالعشيّ والإبكار » ، قال: الإبكار أوّل الفجر، والعشيّ مَيْل الشمس حتى تغيب.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ( 42 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ، « وإذ قالت الملائكة يا مريمُ إن الله اصطفاك . »
ومعنى قوله: « اصطفاك » ، اختارك واجتباك لطاعته وما خصّك به من كرامته.
وقوله: « وطهَّرك » ، يعني: طهَّر دينك من الرّيب والأدناس التي في أديان نساء بني آدم
« واصطفاك على نساء العالمين » ، يعني: اختارك على نساء العالمين في زمانك، بطاعتك إياه، ففضَّلك عليهم، كما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « خيرُ نسائها مريم بنت عمران، وخيرُ نسائها خديجة بنت خويلد » يعني بقوله: « خير نسائها » ، خير نساء أهل الجنة.
حدثني بذلك الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا محاضر بن المورّع قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: سمعت عليًّا بالعراق يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خيرُ نسائها مريم بنت عمران، وخيرُ نسائها خديجة.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني المنذر بن عبد الله الحزامي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير نساء الجنة مريم بنت عمران، وخير نساء الجنة خديجة بنت خويلد.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين » ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: حسبك بمريم بنت عمران، وامرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد، من نساء العالمين قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « خيرُ نساء ركبن الإبل صوالحُ نساء قريش، أحناهُ على ولد في صغره، وأرعاهُ على زوج في ذات يده » قال قتادة: وذكر لنا أنهُ كان يقول: « لو علمت أنّ مريم ركبت الإبل، ما فضّلت عليها أحدًا » .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: « يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين » ، قال: كان أبو هريرة يحدث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيرُ نساء ركبن الإبل صُلحُ نساء قُرْيش، أحناه على ولد، وأرعاه لزوج في ذات يده قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بعيرًا قط.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله: « وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين » ، قال: كان ثابت البناني يحدث، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا عمرو بن مرة قال، سمعت مرة الهمداني يحدث، عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كمل من الرّجال كثيرٌ، ولم يكمل من النساء إلا مريم، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو الأسود المصري قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان: أن فاطمة بنت حسين بن علي حدثته: أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وأنا عند عائشة، فناجاني، فبكيتُ، ثم ناجاني فضحكت، فسألتني عائشة عن ذلك، فقلت: لقد عَجلْتِ! أخبرُك بسرّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فتركتني. فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عائشة فقالت: نعم، ناجاني فقال: جبريلُ كان يعارضُ القرآنَ كلّ عام مرة، وإنه قد عارضَ القرآنَ مرّتين؛ وإنه ليس من نبيّ إلا عُمِّر نصف عُمر الذي كان قبله، وإن عيسى أخي كان عُمْره عشرين ومئة سنة، وهذه لي ستون، وأحسبني ميتًا في عامي هذا، وإنه لم تُرْزأ امرأةٌ من نساء العالمين بمثل ما رُزئتِ، ولا تكوني دون امرأة صبرًا! قالت: فبكيتُ، ثم قال: أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول. فتوفي عامه ذلك.
حدثني المثنى قال حدثنا أبو الأسود قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن الحارث، أن أبا زياد الحميريّ حدثه، أنه سمع عمار بن سعد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فُضّلت خديجةُ على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين.
وبمثل الذي قلنا في معنى قوله: « وطهرك » ، أنه: وطهَّر دِينك من الدّنس والرّيب، قاله مجاهد.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « إن الله اصطفاك وطهرك » ، قال: جعلك طيبةً إيمانًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح: « واصطفاك على نساء العالمين » ، قال: ذلك للعالمين يومئذ.
وكانت الملائكة - فيما ذكر ابن إسحاق - تقول ذلك لمريم شفاهًا.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: كانت مريم حبيسًا في الكنيسة، ومعها في الكنيسة غُلام اسمه يُوسف، وقد كانَ أمه وأبوه جعلاه نذيرًا حبيسًا، فكانا في الكنيسة جميعًا، وكانت مريم، إذا نَفِدَ ماؤها وماء يوسف، أخذا قُلَّتيهما فانطلقا إلى المفازة التي فيها الماء الذي يستعذِبان منه، فيملآن قلتيهما، ثم يرجعان إلى الكنيسة، والملائكة في ذلك مقبلة على مريم: « يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين » ، فإذا سمع ذلك زكريا قال: إنّ لابنة عمرانَ لشأنًا.
القول في تأويل قوله : يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ( 43 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله - خبرًا عن قِيل ملائكته لمريم: « يا مريم اقنتي لربك » ، أخلصي الطاعة لربك وحده.
وقد دللنا على معنى « القنوت » ، بشواهده فيما مضى قبل. والاختلافُ بين أهل التأويل فيه في هذا الموضع، نحو اختلافهم فيه هنالك. وسنذكر قول بعضهم أيضًا في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معنى « اقنتي » ، أطيلي الرُّكود.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « يا مريم اقنتي لربك » ، قال: أطيلي الركود، يعني القنوت.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج « اقنتي لربك » ، قال قال مجاهد: أطيلي الركود في الصّلاة يعني القنوت.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: لما قيل لها: « يا مريم اقنتي لربك » ، قامت حتى وَرِم كعباها.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: لما قيل لها: « يا مريم اقنتي لربك » ، قامت حتى ورمت قدَماها.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن مجاهد: « اقنتي لربك » ، قال: أطيلي الركود.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « يا مريم اقنتي لربك » ، قال: القنوت: الركود. يقول: قومي لربك في الصلاة. يقول: اركدي لربّك: أي انتصبي له في الصلاة « واسجدي واركعي مع الراكعين » .
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: « يا مريم اقنتي لربك » ، قال: كانت تصلي حتى تَرِم قدماها.
حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا الأوزاعي: « يا مريم اقنتي لربك » ، قال: كانت تقوم حتى يَسيل القيح من قدميها.
وقال أخرون: معناه: أخلصي لربك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: « يا مريم اقنتي لربك » ، قال: أخلصي لربك.
وقال أخرون: معناه: أطيعي ربك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « اقنتي لربك » ، قال: أطيعي ربك.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « اقنتي لربك » ، أطيعي ربك.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال حدثنا ابن لهيعة، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل حرف يذكر فيه القنوت من القرآن، فهو طاعة لله.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « يا مريم اقنتي لربك » ، قال يقول: اعبدي ربك.
قال أبو جعفر: وقد بينا أيضًا معنى « الرّكوع » « والسجود » بالأدلة الدالة على صحته، وأنهما بمعنى الخشوع لله، والخضوع له بالطاعة والعُبُودة.
فتأويل الآية، إذًا: يا مريم أخلصي عبادةَ ربك لوجهه خالصًا، واخشعي لطاعته وعبادته مع من خشع له من خلقه، شكرًا له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتَّطهير من الأدناس، والتفضيل على نساء عالم دَهرك.
القول في تأويل قوله : ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله ذلك: الأخبارَ التي أخبرَ بها عبادَه عن امرأة عمران وابنتها مريم، وزكريا وابنه يحيى، وسائر ما قصَّ في الآيات من قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا ، ثم جمعَ جميعَ ذلك تعالى ذكره بقوله: « ذلك » ، فقال: هذه الأنباء من « أنباء الغيب » ، أي: من أخبار الغيب.
ويعني ب « الغيب » ، أنها من خفيّ أخبار القوم التي لم تطَّلع أنت، يا محمد، عليها ولا قومك، ولم يعلمها إلا قليلٌ من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم.
ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إليه، حجةً على نبوته، وتحقيقًا لصدقه، وقطعًا منه به عذرَ منكري رسالته من كفار أهل الكتابين، الذين يعلمون أنّ محمدًا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها، ولم يدرك معرفتها مع خُمولها عند أهلها، إلا بإعلام الله ذلك إياه. إذ كان معلومًا عندهم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أميٌّ لا يكتب فيقرأ الكتب، فيصل إلى علم ذلك من قِبَل الكتب، ولا صاحبَ أهل الكتُب فيأخذ علمه من قِبَلهم.
وأما « الغيْب » فمصدر من قول القائل: « غاب فلان عن كذا فهو يَغيب عنه غيْبًا وَغيبةً » .
وأما قوله: « نُوحيه إليك » ، فإن تأويله: نُنَـزِّله إليك.
وأصل « الإيحاء » ، إلقاء الموحِي إلى الموحَى إليه.
وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء، وبإلهام، وبرسالة، كما قال جل ثناؤه: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [ سورة النحل: 68 ] ، بمعنى: ألقى ذلك إليها فألهمها، وكما قال: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ [ سورة المائدة: 111 ] ، بمعنى: ألقيت إليهم علمَ ذلك إلهامًا، وكما قال الراجز:
* أَوْحَى لَهَا القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ *
بمعنى ألقى إليها ذلك أمرًا، وكما قال جل ثناؤه: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [ سورة مريم: 11 ] ، بمعنى: فألقى ذلك إليهم إيماء. والأصل فيه ما وصفتُ، من إلقاء ذلك إليهم. وقد يكون إلقاؤه ذلك إليهم إيماءً، ويكون بكتاب. ومن ذلك قوله: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [ سورة الأنعام: 121 ] ، يلقون إليهم ذلك وسوسةً، وقوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ سورة الأنعام: 19 ] ، ألقى إلي بمجيء جبريل عليه السلام به إليّ من عند الله عز وجل.
وأما « الوحْي » ، فهو الواقع من الموحِي إلى الموحَى إليه، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب « وحيًا » ، لأنه واقع فيما كُتِب ثابتٌ فيه، كما قال كعب بن زهير:
أَتَـى العُجْـمَ والآفَـاقَ مِنْـهُ قَصَـائِدٌ بَقِيـنَ بَقَـاءَ الوَحْيِ فِي الحَجَرِ الأصَمّ
يعني به: الكتابَ الثابت في الحجر. وقد يقال في الكتاب خاصةً، إذا كتبه الكاتب: « وحَى » بغير ألف، ومنه قول رؤبة:
كَأَنَّـــهُ بَعْــدَ رِيَــاحِ تَدْهَمُــهْ وَمُرْثَعِنَّـــاتِ الدُّجُـــونِ تَثِمُــهْ
إنْجِيلُ أَحْبَارٍ وَحَى مُنَمْنِمُهْ
القول في تأويل قوله : وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وما كنت لديهم » ، وما كنت، يا محمد، عندهم فتعلم ما نعلِّمكه من أخبارهم التي لم تشهدها، ولكنك إنما تعلم ذلك فتدركُ معرفته، بتعريفناكَهُ.
ومعنى قوله: « لديهم » ، عندهم.
ومعنى قوله: « إذ يلقون » ، حينَ يلقون أقلامهم.
وأما « أقلامهم » ، فسهامهم التي استهم بها المتسهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم، على ما قد بينا قبل في قوله: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام بن عمرو، عن سعيد، عن قتادة في قوله: « وما كنت لديهم » ، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « يلقون أقلامهم » ، زكريا وأصحابه، استهموا بأقلامهم على مريم حين دخلتْ عليهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون » ، كانت مريم ابنة إمامهم وسيّدهم، فتشاحّ عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها، فقَرَعهم زكريا، وكان زوجَ أختها، « فكفَّلها زكريا » ، يقول: ضمها إليه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « يلقون أقلامهم » ، قال: تساهموا على مريم أيُّهم يكفلها، فقرَعهم زكريا.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم » ، وإنّ مريم لما وضعت في المسجد، اقترع عليها أهلُ المصلَّى وهم يكتبون الوَحْى، فاقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفُلها، فقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: « وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لدَيهم إذْ يختصمون » .
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم » ، اقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفل مريم، فقرَعهم زكريا.
حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: « وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم » ، قال: حيث اقترعوا على مريم، وكان غَيبًا عن محمد صلى الله عليه وسلم حين أخبرَه الله.
وإنما قيل: « أيهم يكفل مريم » ، لأن إلقاء المستهمين أقلامَهم على مريم، إنما كان لينظروا أيهم أولى بكفالتها وأحقّ. ففي قوله عز وجل: « إذ يلقون أقلامهم » ، دلالة على محذوف من الكلام، وهو: « لينظروا أيهم يكفل، وليتبيَّنوا ذلك ويعلموه » .
فإن ظن ظانّ أنّ الواجب في « أيهم » النصبُ، إذ كان ذلك معناه، فقد ظن خطأ. وذلك أن « النظر » و « التبين » و « العلم » مع « أيّ » يقتضي استفهامًا واستخبارًا، وحظ « أىّ » في الاستخبار، الابتداءُ وبطولُ عمل المسألة والاستخبار عنه. وذلك أن معنى قول القائل: « لأنظُرَنّ أيهم قام » ، لأستخبرنَ الناس: أيهم قام، وكذلك قولهم: « لأعلمن » .
وقد دللنا فيما مضى قبل أن معنى « يكفل » ، يضمُّ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله : وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( 44 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما كنتَ، يا محمد، عند قوم مريم، إذ يختصمون فيها أيُّهم أحقّ بها وأولى.
وذلك من الله عز وجل، وإن كان خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فتوبيخٌ منه عز وجل للمكذبين به من أهل الكتابين. يقول: كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم وأنت تنبئهم هذه الأنباءَ ولم تشهدْها، ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمورَ، ولست ممن قرأ الكتب فعَلِم نبأهم، ولا جالَس أهلها فسمع خبَرَهم؟
كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « وما كنت لديهم إذ يختصمون » ، أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها. يخبره بخفيّ ما كتموا منه من العلم عندهم، لتحقيق نبوته والحجة عليهم لما يأتيهم به مما أخفوا منه.
القول في تأويل قوله : إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « إذ قالت الملائكة » ، وما كنت لديهم إذ يختصمون، وما كنت لديهم أيضًا إذ قالت الملائكة: يا مريم إنّ الله يبشرك.
« والتبشير » إخبار المرء بما يسره من خبر.
وقوله: « بكلمة منه » ، يعني برسالة من الله وخبر من عنده، وهو من قول القائل: « ألقى فلانٌ إليّ كلمةً سَرّني بها » ، بمعنى: أخبرني خبرًا فرحت به، كما قال جل ثناؤه: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [ سورة النساء: 171 ] ، يعني: بشرى الله مريمَ بعيسى، ألقاها إليها.
فتأويل الكلام: وما كنت، يا محمد، عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم: يا مريم إنّ الله يبشرك ببُشرى من عنده، هي ولدٌ لك اسمهُ المسيحُ عيسى ابن مريم.
وقد قال قوم - وهو قول قتادة - : إن « الكلمة » التي قال الله عز وجل: « بكلمة منه » ، هو قوله: « كن » .
حدثنا بذلك الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: « بكلمة منه » ، قال: قوله: « كن » .
فسماه الله عز وجل « كلمته » ، لأنه كان عن كلمته، كما يقال لما قدّر الله من شيء: « هذا قدَرُ الله وقضاؤُه » ، يعنى به: هذا عن قدر الله وقضائه حدث، وكما قال جل ثناؤه: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا [ سورة النساء: 47 \ سورة الأحزاب: 37 ] ، يعني به: ما أمر الله به، وهو المأمور [ به ] الذي كان عن أمر الله عز وجل.
وقال آخرون: بل هي اسم لعيسى سماه الله بها، كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: « الكلمة » هي عيسى.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: « إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه » ، قال: عيسى هو الكلمة من الله.
قال أبو جعفر: وأقربُ الوُجوه إلى الصواب عندي، القولُ الأول. وهو أنّ الملائكة بشَّرت مريمَ بعيسى عن الله عز وجل برسالته وكلمته التي أمرَها أن تُلقيها إليها: أنّ الله خالقٌ منها ولدًا من غير بَعْل ولا فَحل، ولذلك قال عز وجل: « اسمه المسيح » ، فذكَّر، ولم يقُل: « اسمُها » فيؤنث، و « الكلمة » مؤنثة، لأن « الكلمة » غير مقصود بها قصدُ الاسم الذي هو بمعنى « فلان » ، وإنما هي بمعنى البشارة، فذكِّرت كنايتها كما تذكر كناية « الذرّية » و « الدابّة » والألقاب، على ما قد بيناه قبل فيما مضى.
فتأويل ذلك كما قلنا آنفًا، من أنّ معنى ذلك: إن الله يبشرك ببشرى ثم بيَّن عن البشرى أنها ولدٌ اسمه المسيح.
وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه إنما ذكر فقال: « اسمه المسيح » ، وقد قال: « بكلمة منه » ، و « الكلمة » ، عنده هي عيسى لأنه في المعنى كذلك، كما قال جل ثناؤه: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا ، ثم قال بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا [ سورة الزمر: 56 ،59 ] ، وكما يقال: « ذو الثُّدَيَّة » ، لأن يده كانت قصيرة قريبة من ثدييه، فجعلها كأنّ اسمها « ثَدْيَة » ، ولولا ذلك لم تدخل « الهاء » في التصغير.
وقال بعض نحويي الكوفة نحو قول من ذكرنا من نحويي البصرة: في أنّ « الهاء » من ذكر « الكلمة » ، وخالفه في المعنى الذي من أجله ذكر قوله « اسمه » ، و « الكلمة » ، متقدمة قبله. فزعم أنه إنما قيل: « اسمه » ، وقد قدّمت « الكلمة » ، ولم يقل: « اسمها » ، لأن من شأن العرب أن تفعل ذلك فيما كان من النعوت والألقاب والأسماء التي لم توضَع لتعريف المسمى به، كـ « فلان » و « فلان » ، وذلك، مثل « الذرّية » و « الخليفة » و « الدابة » ، ولذلك جاز عنده أن يقال: « ذرية طيبة » و « ذرّيةً طيبًا » ، ولم يجز أن يقال: « طلحة أقبلت ومغيرة قامت » .
وأنكر بعضهم اعتلالَ من اعتلّ في ذلك بـ « ذي الثدية » ، وقالوا: إنما أدخلت « الهاء » في « ذي الثدية » ، لأنه أريد بذلك القطعة منَ الثَّدْي، كما قيل: « كنا في لحمة ونَبيذة » ، يراد به القطعة منه. وهذا القول نحو قولنا الذي قلناه في ذلك.
وأما قوله: « اسمهُ المسيح عيسى ابن مريم » ، فإنه جل ثناؤه أنبأ عباده عن نسبة عيسى، وأنه ابن أمّه مريم، ونفى بذلك عنه ما أضاف إليه الملحدون في الله جل ثناؤه من النصارى، من إضافتهم بنوّته إلى الله عز وجل، وما قَرَفَتْ أمَّه به المفتريةُ عليها من اليهود، كما:-
حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين » ، أي: هكذا كان أمرُه، لا ما يقولون فيه.
وأما « المسيح » ، فإنه « فعيل » صرف من « مفعول » إلى « فعيل » ، وإنما هو « ممسوح » ، يعني: مَسحه الله فطهَّره من الذنوب، ولذلك قال إبراهيم: « المسيح » الصدّيق...
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.
وقال آخرون: مُسح بالبركة.
حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، قال سعيد: إنما سمي « المسيح » ، لأنه مُسِح بالبركة.
القول في تأويل قوله : وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( 45 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله « وجيهًا » ، ذا وَجْهٍ ومنـزلة عالية عند الله، وشرفٍ وكرامة. ومنه يقال للرجل الذي يَشرُف وتعظمه الملوك والناس « وجيه » ، يقال منه: « ما كان فلان وَجيهًا، ولقد وَجُهَ وَجاهةً » « وإن له لَوجْهًا عند السلطان وَجاهًا ووَجاهةً » ، و « الجاه » مقلوب، قلبت، واوه من أوّله إلى موضع العين منه، فقيل: « جاه » ، وإنما هو « وجه » ، و « فعل » من الجاه: « جاهَ يَجوه » . مسموع من العرب: « أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا » ، بمعنى: أن يستقبلني في وجهي بأعظم منه.
وأما نصب « الوجيه » ، فعلى القطع من « عيسى » ، لأن « عيسى » معرفة، و « وجيه » نكرة، وهو من نعته. ولو كان مخفوضًا على الردّ على « الكلمة » كانَ جائزًا.
وبما قلنا من أنّ تأويل ذلك: وجيهًا في الدنيا والآخرة عند الله قال، فيما بلغنا، محمد بن جعفر.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « وجيهًا » ، قال: وجيهًا في الدنيا والآخرة عند الله.
وأما قوله: « ومِنَ المقرّبين » ، فإنه يعني أنه ممن يقرِّبه الله يوم القيامة، فيسكنه في جواره ويدنيه منه، كما:-
حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ومن المقربين » ، يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة.
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « ومن المقرّبين » ، يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
القول في تأويل قوله : وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ( 46 )
قال أبو جعفر: وأما قوله: « ويكلمُ الناس في المهد » ، فإن معناه: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهًا عند الله، ومُكلِّمًا الناسَ في المهد.
ف « يكلم » ، وإن كان مرفوعًا، لأنه في صورة « يفعل » بالسلامة من العوامل فيه، فإنه في موضع نصب، وهو نظير قول الشاعر:
بِــتُّ أُعَشِّــيهَا بِعَضْــبٍ بَــاتِرِ يَقْصِــدُ فِــي أَسْــوُقِهَا وَجَــائِرِ
وأما « المهد » ، فإنه يعني به: مضجع الصبيّ في رضاعه، كما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « ويكلم الناس في المهد » ، قال: مضجع الصبي في رَضَاعه.
وأما قوله : « وكهلا » ، فإنه: وُمحتَنِكًا فوق الغُلومة، ودُون الشيخوخة، يقال منه: « رجل كهل وامرأة كهلة » ، كما قال الراجز:
وَلا أَعُـــودُ بَعْدَهَـــا كَرِيَّـــا أُمَـــارِسُ الكَهْلَـــةَ وَالصَّبِيَّـــا
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: « ويكلم الناسَ في المهد وكهلا » ، ويكلم الناس طفلا في المهد دلالةً على براءَة أمه مما قَرَفها به المفترون عليها، وحجة له على نبوّته وبالغًا كبيرًا بعد احتناكه، بوحي الله الذي يوحيه إليه، وأمره ونهيه، وما ينـزل عليه من كتابه.
وإنما أخبر الله عز وجل عبادَه بذلك من أمر المسيح، وأنه كذلك كان، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولا وشيوخًا احتجاجًا به على القائلين فيه من أهل الكفر بالله من النصارى الباطلَ، وأنه كان [ منذ أنشأه ] مولودًا طفلا ثم كهلا يتقلب في الأحداث، ويتغير بمرُور الأزمنة عليه والأيام، من صِغر إلى كبر، ومن حال إلى حال وأنه لو كان، كما قال الملحدون فيه، كان ذلك غيرَ جائز عليه. فكذّب بذلك ما قاله الوفدُ من أهل نجران الذين حاجُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، واحتج به عليهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم أنه كان كسائر بني آدم، إلا ما خصه الله به من الكرامة التي أبانه بها منهم، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين » : يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمره، كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارًا وكبارًا، إلا أن الله خَصّه بالكلام في مهده آيةً لنبوته، وتعريفًا للعباد مواقع قدرته.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين » ، يقول: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « ويكلم الناس في المهد وكهلا » ، قال: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وكهلا ومن الصالحين » ، قال: الكهلُ الحليم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كلمهم صغيرًا وكبيرًا وكهلا وقال ابن جريج، وقال مجاهد: الكهل الحليم.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: « ويكلم الناس في المهد وكهلا » ، قال: كلمهم في المهد صبيًّا، وكلمهم كبيرًا.
وقال آخرون: معنى قوله: « وكهلا » ، أنه سيكلمهم إذا ظهر.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني ابن زيد - يقول في قوله: « ويكلم الناس في المهد وكهلا » ، قال: قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذ كهلٌ.
ونصب « كهلا » ، عطفًا على موضع « ويكلم الناس » .
وأما قوله : « ومن الصالحين » ، فإنه يعني: من عِدَادهم وأوليائهم، لأنّ أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل.
القول في تأويل قوله : قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 47 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه، قالت مريم إذ قالت لها الملائكة أنّ الله يبشرك بكلمة منه : « ربِّ أنَّى يكون لي ولد » ، من أيِّ وجه يكون لي ولد؟ أمِن قبل زوج أتزوجه وبعل أنكحه، أمْ تبتدئ فيَّ خلقه من غير بعل ولا فحل، ومن غير أن يمسَّني بشر؟ فقال الله لها « كذلك الله يخلق ما يشاء » ، يعني: هكذا يخلق الله منك ولدًا لك من غير أن يمسَّك بشر، فيجعله آيةً للناس وعبرة، فإنه يخلق ما يشاء ويصنعُ ما يريد، فيعطي الولد من يشاء من غير فحل ومن فحلٍ، ويحرِمُ ذلك من يشاءُ من النساء وإن كانت ذات بعلٍ، لأنه لا يتعذر عليه خلق شيء أراد خلقه، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئًا ما أراد [ خلقه ] فيقول له: « كن فيكون » ما شاء، مما يشاء، وكيف شاء، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشرٌ قال كذلك الله يخلق ما يشاء » ، يصنع ما أراد، ويخلق ما يشاء، من بشر أو غير بشر « إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن » ، مما يشاء وكيف يشاء « فيكون » ما أراد.
القول في تأويل قوله : وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ( 48 )
قال أبو جعفر: اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة الكوفيين: ( وَيُعلِّمُهُ ) بالياء، ردًّا على قوله: كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ، « وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ » ، فألحقوا الخبرَ في قوله: « ويعلمه » ، بنظير الخبر في قوله: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ، وقوله: فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين وبعض البصريين: ( وَنُعَلِّمُهُ ) بالنون، عطفًا به على قوله: نُوحِيهِ إِلَيْكَ ، كأنه قال: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ونعلمه الكتاب « . وقالوا: ما بعد نُوحِيهِ في صلته إلى قوله: كُنْ فَيَكُونُ ، ثم عطف بقوله: » ونعلمه « عليه. »
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مختلفتان، غير مختلفتي المعاني، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الصوابَ في ذلك، لاتفاق معنى القراءتين، في أنه خبر عن الله بأنّه يعلم عيسى الكتاب، وما ذكر أنه يعلمه.
وهذا ابتداء خبر من الله عز وجل لمريم ما هو فاعلٌ بالولد الذي بشَّرها به من الكرامة ورفعة المنـزلة والفضيلة، فقال: كذلك الله يخلق منك ولدًا، من غير فحل ولا بعل، فيعلمه الكتاب، وهو الخطّ الذي يخطه بيده والحكمة، وهي السنة التي يُوحيها إليه في غير كتاب والتوراة، وهي التوراة التي أنـزلت على موسى، كانت فيهم من عهد موسى والإنجيل، إنجيل عيسى ولم يكن قبله، ولكن الله أخبر مريمَ قبل خلق عيسى أنه مُوحيه إليه.
وإنما أخبرها بذلك فسَّماه لها، لأنها قد كانت علمت فيما نـزل من الكتب أن الله باعثٌ نبيًا، يوحى إليه كتابًا اسمه الإنجيل، فأخبرها الله عز وجل أن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي سَمعت بصفته الذي وعد أنبياءه من قبل أنه منـزل عليه الكتاب الذي يسمى إنجيلا هو الولد الذي وهبه لها وبشَّرها به.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: « ونعلمه الكتاب » ، قال: بيده.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ونعلمه الكتاب والحكمة » ، قال: الحكمة السنة.
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله: « ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل » ، قال: « الحكمة » السنة « والتوراة والإنجيل » ، قال: كان عيسى يقرأ التوراةَ والإنجيل.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « ونعلمه الكتاب والحكمة » ، قال: الحكمة السنة.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: أخبرها - يعني أخبر الله مريم - ما يريد به فقال: « ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة » التي كانت فيهم من عهد موسى « والإنجيل » ، كتابًا آخر أحدثه إليه لم يكن عندهم علمه، إلا ذِكرُه أنه كائن من الأنبياء قبله.
القول في تأويل قوله : وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ورسولا » ، ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل، فترك ذكر « ونجعله » لدلالة الكلام عليه، كما قال الشاعر:
وَرَأَيْــتِ زَوْجَــكِ فِــي الـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا وَرُمْحَـــا
وقوله: « أني قد جئتكم بآية من ربكم » ، يعني: ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل بأنه نبيّي وبشيري ونذيري وحجتي على صدقي على ذلك: « أني قد جئتكم بآية من ربكم » ، يعني: بعلامة من ربكم تحقق قولي، وتصدق خبري أني رسول من ربكم إليكم، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم » ، أي: يُحقق بها نبوّتي، أني رسولٌ منه إليكم.
القول في تأويل قوله : أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم » ، ثم بين عن الآية ما هي، فقال: « أني أخلق لكم » .
فتأويل الكلام: ورسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم، بأنْ أخلق لكم من الطين كهيئة الطير.
« والطير » جمع « طائر » .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل الحجاز: ( كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا ) ، على التوحيد.
وقرأه آخرون: ( كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا ) ، على الجماع فيهما.
قال أبو جعفر: وأعجب القراءات إليّ في ذلك قراءة من قرأ: « كهيئة الطير فأنفخُ فيه فيكون طيرًا » ، على الجماع فيهما جميعًا، لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله، وأنه موافق لخطّ المصحف. واتباعُ خطّ المصحف مع صحة المعنى واستفاضة القراءة به، أعجب إليّ من خلاف المصحف.
وكان خلق عيسى ما كان يخلق من الطير، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق: أنّ عيسى صلوات الله عليه جلسَ يومًا مع غلمان من الكُتّاب، فأخذ طينًا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرًا؟ قالوا: وتستطيع ذلك! قال: نعم! بإذن ربي. ثم هيّأه، حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال: « كن طائرًا بإذن الله » ، فخرج يطيرُ بين كفيه. فخرج الغلمان بذلك من أمره، فذكروه لمعلّمهم، فأفشوه في الناس. وترعرع، فهمَّت به بنو إسرائيل، فلما خافت أمه عليه حملته على حُمَيرِّ لها، ثم خرجت به هاربة.
وذكر أنه لما أراد أن يخلق الطيرَ من الطين سألهم: أيّ الطير أشدّ خلقًا؟ فقيل له: الخفاش، كما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قوله: « أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير » ، قال: أيّ الطير أشدّ خلقًا؟ قالوا: الخفاش، إنما هو لحم. قال ففعل.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل: « فأنفخ فيه » ، وقد قيل: « أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير » ؟
قيل: لأن معنى الكلام: فأنفخ في الطير. ولو كان ذلك: « فأنفخ فيها » . كان صحيحًا جائزًا، كما قال في المائدة، فَتَنْفُخُ فِيهَا [ سورة المائدة: 110 ] : يريد: فتنفخ في الهيئة. وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين: « فأنفخها » ، بغير « في » . وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول: « رب ليلة قد بتُّها، وبتُّ فيها » ، قال الشاعر:
مَـا شُـقَّ جَـيْبٌ وَلا قَـامَتْكَ نَائِحَـةٌ وَلا بَكَــتْكَ جِيَــادٌ عِنْـدَ أَسْـلابِ
بمعنى: ولا قامت عليك، وكما قال الآخر:
إحْـدَى بَنِـي عَيِّـذِ اللـهِ اسْـتَمَرَّ بِهَا حُـلْوُ العُصَـارَةِ حَـتَّى يُنْفَـخَ الصُّوَرُ
القول في تأويل قوله : وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: « وأبرئ » ، وأشفي. يقال منه: « أبرأ الله المريض » ، إذا شفاه منه، « فهو يُبرئه إبراءً » ، و « بَرَأ المريض فهو يَبرَأ بَرْأ » ، وقد يقال أيضًا: « بَرئ المريض فهو يبرَأ » ، لغتان معروفتان.
واختلف أهل التأويل في معنى « الأكمه » .
فقال بعضهم: هو الذي لا يبصر بالليل، ويُبصر بالنهار.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وأبرئ الأكمه » ، قال: الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، فهو يتكمَّه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون: هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نحدَّثُ أن « الأكمه » ، الذي ولد وهو أعمى مغموم العينين.
حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله: « وأبرئ الأكمه والأبرص » ، قال: كنا نحدّث أن الأكمه الذي يولد وهو أعمى، مضموم العينين.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الأكمه، الذي يولد وهو أعمى.
وقال آخرون: بل هو الأعمى.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وأبرئ الأكمه » ، هو الأعمى.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: الأعمى.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « وأبرئ الأكمه » ، قال: الأكمه الأعمى.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور عن الحسن في قوله: « وأبرئ الأكمه » ، قال: الأعمى.
وقال آخرون: هو الأعمش.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: « وأبرئ الأكمه » ، قال: الأعمش.
قال أبو جعفر: والمعروف عند العرب من معنى « الكمه » ، العَمى، يقال منه: « كمِهَت عينه فهي تَكْمَه كمهًا، وأكمهتها أنا » إذا أعميتها، كما قال سويد بن أبي كاهل:
كَــمَّهَتْ عَيْنَيْــهِ حَــتَّى ابْيَضّتَـا فَهْــوَ يَلْحَــى نَفْسَــهُ لَمَّـا نـزعْ
ومنه قول رؤبة:
هَرَّجْــتُ فَــارْتَدَّ ارْتِـدَادَ الأكْمَـهِ فِــي غَــائِلاتِ الحَــائِرِ المُتَهْتِـهِ
وإنما أخبر الله عز وجل عن عيسى صلوات الله عليه أنه يقول ذلك لبني إسرائيل، احتجاجًا منه بهذه العِبر والآيات عليهم في نبوته، وذلك أن: الكَمَه والبرص لا علاج لهما، فيقدرَ على إبرائه ذو طِبّ بعلاج، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله: إنه لله رسول، لأنه من المعجزات، مع سائر الآيات التي أعطاه الله إياها دلالةً على نبوته.
فأما ما قال عكرمة من أن « الكمه » ، العمش، وما قاله مجاهد: من أنه سوء البصر بالليل، فلا معنى لهما. لأن الله لا يحتج على خلقه بحجة تكون لهم السبيلُ إلى معارضته فيها، ولو كان مما احتجَّ به عيسى على بني إسرائيل في نبوته، أنه يبرئ الأعمش، أو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، لقدروا على معارضته بأن يقولوا: « وما في هذا لك من الحجة، وفينا خَلقٌ ممن يعالج ذلك، وليسوا لله أنبياءَ ولا رسلا »
ففي ذلك دلالة بينة على صحة ما قلنا، من أنّ « الأكمه » ، هو الأعمى الذي لا يبصر شيئًا لا ليلا ولا نهارًا. وهو بما قال قتادة: - من أنه المولود كذلك - أشبهُ، لأن علاجَ مثل ذلك لا يدّعيه أحدٌ من البشر، إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى، وكذلك علاجُ الأبرص.
القول في تأويل قوله : وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ
قال أبو جعفر: وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله، يدعو لهم، فيستجيب له، كما:-
حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معفل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر: أنِ اطْلُعي به إلى الشام. ففعلت الذي أمرت به. فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، وكانت نبوّته ثلاث سنين، ثم رفعه الله إليه قال: وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفًا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله.
وأما قوله: « وأنبئكم بما تأكلون » ، فإنه يعني: وأخبرُكم بما تأكلون، مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكلكموه « وما تدّخرون » ، يعني بذلك: وما ترفعونه فتخبئونه ولا تأكلونه.
يعلمهم أنّ من حجته أيضًا على نبوّته مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوّته وصدقه في خبره أنّ الله أرسله إليهم: من خلق الطير من الطين، وإبراءِ الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، التي لا يطيقها أحدٌ من البشر، إلا من أعطاه الله ذلك عَلَمًا له على صدقه، وآيةً له على حقيقة قوله، من أنبيائه ورسله، وَمن أحبّ من خلقه إنباءَه عن الغيب الذي لا سبيل لأحد من البشر الذين سبيلُهم سبيلُه، عليه.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كان في قوله لهم: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم » من الحجة له على صدقه، وقد رأينا المتنجِّمة والمتكهِّنة تخبرُ بذلك كثيرًا فتصيب؟
قيل: إن المتنجِّم والمتكهِّن معلوم منهما عند من يخبرانه بذلك، أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه. ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ومن سائر أنبياء الله ورُسله، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج، ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياه، من غير أصل تقدّم ذلك احتذاه، أو بنى عليه، أو فزع إليه، كما يفزَع المتنجم إلى حسابه، والمتكهن إلى رئيِّه. فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها، وبين علم سائر المتكذِّبة على الله، أو المدَّعية علم ذلك، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما بلغ عيسى تسع سنين أو عشرًا أو نحو ذلك، أدخلته أمه الكتاب، فيما يزعمون. فكان عند رجل من المكتِّبين يعلمه كما يعلّم الغلمان، فلا يذهب يعلمه شيئًا مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه، فيقول: ألا تعجبون لابن هذه الأرْملة، ما أذهب أعلّمه شيئًا إلا وحدته أعلمَ به منى! !
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي: لما كبر عيسى أسلمته أمه يتعلم التوراة، فكان يلعب مع الغلمان غلمان القرية التي كان فيها، فيحدّث الغلمان بما يصنع آباؤهم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم. قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم » ، قال: كان عيسى ابن مريم، إذْ كان في الكتّاب، يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدَّخرون.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم » ، قال: إن عيسى ابن مريم كان يقول للغلام في الكتّاب: « يا فلان، إن أهلكُ قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام، فتطعمني منه » ؟
قال أبو جعفر: فهكذا فعل الأنبياء وحججها، إنما تأتي بما أتت به من الحجج بما قد يوصل إليه ببعض الحيل، على غير الوجه الذي يأتي به غيرها، بل من الوجه الذي يعلم الخلق أنه لا يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قِبَل الله.
وبنحو ما قلناه في تأويل قوله: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم » قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم » ، قال: بما أكلتم البارحة، وما خبأتم منه عيسى ابن مريم يقوله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء بن أبي رباح - يعني قوله: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم » - قال: الطعام والشيء يدخرونه في بيوتهم، غيبًا علمه الله إياه.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم » ، قال: « ما تأكلون » ، ما أكلتم البارحةَ من طعام، وما خبأتم منه.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي قال: كان - يعني عيسى ابن مريم - يحدّث الغلمان وهو معهم في الكتّاب بما يصنع آباؤهم، وبما يَرْفعون لهم، وبما يأكلون. ويقول للغلام: « انطلق، فقد رفع لك أهلك كذا وكذا، وهم يأكلون كذا وكذا » ، فينطلق الصبي فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء. فيقولون له: من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى! فذلك قول الله عز وجل: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم » فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر! فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم، فقالوا: ليس هم هاهنا، فقال: ما في هذا البيت؟ فقالوا: خنازير. قال عيسى: كذلك يكونون! ففتحوا عنهم، فإذا هم خنازير. فذلك قوله: عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [ سورة المائدة: 78 ] .
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: « وما تدخرون في بيوتكم » ، قال: ما تخبأون مخافةَ الذي يمسك أن يخلفه.
وقال آخرون: إنما عنى بقوله: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم » ، ما تأكلون من المائدة التي تنـزل عليكم، وما تدخرون منها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم » ، فكان القومُ لما سألوا المائدةَ فكانت خِوانًا ينـزل عليه أينما كانوا ثمَرًا من ثمار الجنة، فأمر القوم أن لا يخونوا فيه ولا يخبئوا ولا يدخروا لغد، بلاءٌ ابتلاهم الله به. فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئًا أنبأهم به عيسى ابن مريم، فقال: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم » .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون » ، قال: أنبئكم بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها. قال: فكان أخذ عليهم في المائدة حين نـزلتْ: أن يأكلوا ولا يدّخروا، فادخروا وخانوا، فجعلوا خنازير حين ادّخروا وخانوا، فذلك قوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [ سورة المائدة: 115 ] .
قال ابن يحيى قال، عبد الرزاق قال، معمر، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر، ذلك.
وأصل « يدخرون » من « الفعل » ، « يفتعلون » من قول القائل: « ذخرتُ الشيء » بالذّال، « فأنا أذخره » . ثم قيل: « يدّخر » ، كما قيل: « يدَّكِرُ » من: « ذكرت الشيء » ، يراد به « يذتخر » . فلما اجتمعت « الذال » و « التاء » وهما متقاربتا المخرج، ثقل إظهارهما على اللسان، فأدغمت إحداهما في الأخرى، وصيرتا « دالا » مشددة، صيروها عَدْلا بين « الذال » و « التاء » . ومن العرب من يغلب « الذال » على « التاء » ، فيدغم « التاء » في « الذال » ، فيقول: وما تَذَّخِرون « ، » وهو مذّخَر لك « ، » وهو مُذَّكِر « . »
واللغة التي بها القراءةُ، الأولى، وذلك إدغام « الذال » في « التاء » ، وإبدالهما « دالا » مشددة. لا يجوز القراءة بغيرها، لتظاهر النقل من القرأة بها، وهي اللغة الجُودَى، كما قال زهير:
إنّ الكَــرِيمَ الَّــذِي يُعْطِيـكَ نَائِلَـهُ عَفْــوًا, وَيُظْلَــمُ أَحْيَانًــا فَيَظَّلِـمُ
يروى « بالظاء » ، يريد: « فيفتعل » من « الظلم » ، ويروى « بالطاء » أيضًا.
القول في تأويل قوله : إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 49 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ في خلقي من الطين الطيرَ بإذن الله، وفي إبرائي الأكمهَ والأبرصَ، وإحيائي الموتى، وإنبائيَ إياكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، ابتداءً من غير حساب وتنجيم، ولا كهانة وعرافة لعبرةً لكم ومتفكَّرًا، تتفكرون في ذلك فتعتبرون به أنيّ محق في قولي لكم: « إني رسولٌ من ربكم إليكم » ، وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق « إن كنتم مؤمنين » ، يعني: إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته، مقرّين بتوحيده، وبنبيه موسى والتوراة التي جاءكم بها.
القول في تأويل قوله : وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبأني قد جئتكم بآية من ربكم، وجئتكم مصدقًا لما بين يديّ من التوراة، ولذلك نصب « مصدّقًا » على الحال من جِئْتُكُمْ .
والذي يدل على أنه نصب على قوله : جِئْتُكُمْ ، دون العطف على قوله: وَجِيهًا ، قوله: « لما بين يديّ من التوراة » . ولو كان عطفًا على قوله وَجِيهًا ، لكان الكلام: ومصدّقًا لما بين يديه من التوراة، وليحل لكم بعض الذي حرم عليكم.
وإنما قيل: « ومصدّقًا لما بين يديّ من التوراة » ، لأن عيسى صلوات الله عليه، كان مؤمنًا بالتوراة مقرًا بها، وأنها من عند الله. وكذلك الأنبياء كلهم، يصدّقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله، وإن اختلف بعضُ شرائع أحكامهم، لمخالفة الله بينهم في ذلك. مع أنّ عيسى كان - فيما بلغنا - عاملا بالتوراة لم يخالف شيئًا من أحكامها، إلا ما خفَّف الله عن أهلها في الإنجيل، مما كان مشددًا عليهم فيها، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن عيسى كان على شريعة موسى صلى الله عليه وسلم، وكانَ يسبِت، ويستقبل بيت المقدس، فقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة، إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وأضع عنكم من الآصار.
حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ومصدقًا لما بين يديّ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حُرّم عليكم » ، كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حُرّم عليهم فيما جاء به موسى لحومُ الإبل والثُّروب، وأشياء من الطير والحيتان.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ومصدّقًا لما بين يديّ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم » ، قال: كان الذي جاء به عيسى ألينَ من الذي جاء به موسى. قال: وكان حُرّم عليهم فيما جاء به موسى من التوراة، لحومُ الإبل والثُّروب، فأحلها لهم على لسان عيسى - وحرّمت عليهم الشحوم، وأحلت لهم فيما جاء به عيسى - وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير مما لا صِيصِيَةَ له، وفي أشياء حرّمها عليهم، وشدّدها عليهم، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل، فكان الذي جاء به عيسى ألينَ من الذي جاء به موسى صلوات الله عليه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم » ، قال: لحوم الإبل والشحوم. لما بُعث عيسى أحلَّها لهم، وبُعث إلى اليهود فاختلفوا وتفرّقوا.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « ومصدقًا لما بين يدىّ من التوراة » ، أي: لما سبقني منها - « ولأحلّ لكم بعض الذي حرم عليكم » ، أي: أخبركم أنه كان حرامًا عليكم فتركتموه، ثم أحله لكم تخفيفًا عنكم، فتصيبون يُسْرَه، وتخرجون من تِباعَته.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن: « ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم » ، قال: كان حرّم عليهم أشياء، فجاءهم عيسى ليحلّ لهم الذي حرّم عليهم، يبتغي بذلك شُكْرهم.
القول في تأويل قوله : وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
قال أبو جعفر: يعني بذلك: وجئتكم بحجة وعبرة من ربكم، تعلمون بها حقيقةَ ما أقول لكم. كما:-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وجئتكم بآية من ربكم » ، قال: ما بيَّن لهم عيسى من الأشياء كلها، وما أعطاه ربه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وجئتكم بآية من ربكم » ، ما بيَّن لهم عيسى من الأشياء كلها.
ويعني بقوله: « من ربكم » ، من عند ربكم.
القول في تأويل قوله : فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( 50 ) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 51 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك: وجئتكم بآية من ربكم تعلمون بها يقينًا صدقي فيما أقول « فاتقوا الله » ، يا معشرَ بني إسرائيل، فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنـزله على موسى، فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه « وأطيعون » ، فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم ربي وربكم، فاعبدوه، فإنه بذلك أرسلني إليكم، وبإحلال بعض ما كان محرّمًا عليكم في كتابكم، وذلك هو الطريق القويمُ، والهدى المتينُ الذي لا اعوجاج فيه، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم » ، تبرِّيًا من الذي يقولون فيه - يعني: ما يقول فيه النصارى - واحتجاجًا لربه عليهم « فاعبدوه هذا صراط مستقيم » ، أي: هذا الذي قد حملتُكم عليه وجئتكم به.
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: « إن الله ربي وربكم فاعبدوه » .
فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ) بكسر « ألف » « إنّ » على ابتداء الخبر.
وقرأه بعضهم: ( أَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ) ، بفتح « ألف » « أنّ » ، بتأويل: وجئتكم بآية من ربكم، أنّ الله ربي وربكم، على ردّ « أن » على « الآية » ، والإبدال منها.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا ما عليه قرأة الأمصار، وذلك كسر ألف « إن » على الابتداء، لإجماع الحجة من القرأة على صحة ذلك. وما اجتمعت عليه فحجةٌ، وما انفرد به المنفرد عنها فرأيٌ. ولا يعترضُ بالرأي على الحجة.
وهذه الآية وإن كان ظاهرُها خبرًا، ففيه الحجة البالغة من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على الوفد الذين حاجُّوه من أهل نجران، بإخبار الله عزّ وجل عن أن عيسى كان بريئًا مما نسبه إليه مَن نسبه إلى غير الذي وصفَ به نفسه، من أنه لله عبدٌ كسائر عبيده من أهل الأرض، إلا ما كان الله جل ثناؤه خصَّه به من النبوة والحجج التي آتاه دليلا على صدقه - كما آتى سائرَ المرسلين غيره من الأعلام والأدلة على صدقهم - وحُجةً على نبوته.
القول في تأويل قوله : فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( 52 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فلما أحسّ عيسى منهم الكفر » ، فلما وَجد عيسى منهم الكفر.
« والإحساس » ، هو الوجود، ومنه قول الله عز وجل: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ [ سورة مريم: 98 ] .
فأما « الحَسُّ » ، بغير « ألف » ، فهو الإفناء والقتل، ومنه قوله: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [ سورة آل عمران: 152 ] .
« والحَسُّ » أيضًا العطف والرقة، ومنه قول الكميت:
هَـلْ مَنْ بَكَى الدَّارَ رَاجٍ أَنْ تَحِسَّ لَهُ, أَوْ يُبْكِـيَ الـدَّارَ مَـاءُ العَبْرَةِ الخَضِلُ?
يعني بقوله: « أن تحس له » ، أن ترقّ له.
فتأويل الكلام: فلما وَجد عيسى - من بني إسرائيل الذين أرسله الله إليهم - جحودًا لنبوّته، وتكذيبًا لقوله، وصدًّا عما دعاهم إليه من أمر الله، قال: « مَن أنصاري إلى الله » ؟، يعني بذلك: قال عيسى: من أعواني على المكذبين بحجة الله، والمولِّين عن دينه، والجاحدين نبوة نبيه، « إلى الله » عز وجل؟
ويعني بقوله: « إلى الله » ، مع الله.
وإنما حَسُن أن يقال: « إلى الله » ، بمعنى: مع الله، لأن من شأن العرب إذا ضموا الشيء إلى غيره، ثم أرادوا الخبر عنهما بضم أحدهما مع الآخر إذا ضم إليه، جعلوا مكان « مع » ، « إلى » أحيانًا، وأحيانًا تخبر عنهما بـ « مع » فتقول: « الذود إلى الذود إبل » ، بمعنى: إذا ضممتَ الذود إلى الذود صارت إبلا. فأما إذا كان الشيء مع الشيء لم يقولوه بـ « إلى » ، ولم يجعلوا مكان « مع » « إلى » .
غيرُ جائز أن يقال: « قدم فلانٌ وإليه مالٌ » ، بمعنى: ومعه مال.
وبمثل ما قلنا في تأويل قوله: « مَنْ أنصاري إلى الله » ، قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « من أنصاري إلى الله » ، يقول: مع الله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « من أنصاري إلى الله » ، يقول: مع الله.
وأما سبب استنصار عيسى عليه السلام من استنصر من الحواريين، فإن بين أهل العلم فيه اختلافًا.
فقال بعضهم: كان سبب ذلك ما:-
حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما بعث الله عيسى، فأمره بالدعوة، نفتْه بنو إسرائيل وأخرجوه، فخرج هو وأمُّه يسيحون في الأرض. فنـزل في قرية على رجل فضافَهم وأحسن إليهم. وكان لتلك المدينة ملك جبارٌ معتدٍ، فجاء ذلك الرجل يومًا وقد وقعَ عليه همٌّ وحزن، فدخل منـزله ومريم عند امرأته. فقالت مريم لها: ما شأن زوجك؟ أراه حزينًا! قالت: لا تسألي! قالت: أخبريني! لعل الله يُفرِّج كربته! قالت: فإن لنا ملكًا يجعل على كلّ رجل منا يومًا يُطعمه هو وجنودَه ويسقيهم من الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، وإنه قد بلغت نَوبتُه اليوم الذي يريد أن نصنع له فيه، وليس لذلك عندنا سعة! قالت: فقولي له لا يهتم، فإني آمر ابني فيدعُو له، فيُكْفَي ذلك. قالت مريم لعيسى في ذلك، قال عيسى: يا أمَّهْ، إني إن فعلت كان في ذلك شرٌّ. قالت: فلا تُبالِ، فإنه قد أحسنَ إلينا وأكرمنا! قال عيسى: فقولي له: إذا اقترب ذلك، فاملأ قُدُورك وخوَابيك ماء، ثم أعلمني. قال: فلما ملأهنَّ أعلمه، فدعا الله، فتحوَّل ما في القدُور لحمًا ومَرَقًا وخبزًا، وما في الخوابي خمرًا لم ير الناس مثله قطّ وإياه طعامًا. فلما جاء الملك أكل، فلما شرب الخمرَ سأل: من أين هذه الخمر؟ قال له: هي من أرض كذا وكذا. قال الملك: فإنّ خمري أوتَي بها من تلك الأرض، فليس هي مثل هذه! قال: هي من أرض أخرى. فلما خلَّط على الملك اشتدّ عليه، قال: فأنا أخبرك، عندي غلام لا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، وإنه دعا اللهَ، فجعل الماءَ خمرًا. قال الملك وكان له ابنٌ يريد أن يستخلفه، فمات قبل ذلك بأيام، وكان أحب الخلق إليه فقال: إن رجلا دعا الله حتى جعل الماء خمرًا، ليُستجابَنّ له حتى يُحييَ ابني! فدعا عيسى فكلمه، فسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه، فقال عيسى: لا تفعلْ، فإنه إن عاش كان شرًا. فقال الملك: لا أبالي، أليس أراه، فلا أبالي ما كان. فقال عيسى عليه السلام: فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب أينما شئنا؟ قال الملك: نعم. فدعا الله فعاش الغلام. فلما رآه أهل مملكته قد عاش، تنادَوْا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف ابنه، فيأكلنا كما أكلنا أبوه!! فاقتتلوا، وذهب عيسى وأمُّه، وصحبهما يهودي، وكان مع اليهودي رغيفان، ومع عيسى رغيف، فقال له عيسى: شاركني. فقال اليهودي: نعم. فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم، فلما ناما جعل اليهوديّ يريد أن يأكلَ الرغيف، فلما أكل لقمة قال له عيسى: ما تصنع؟ فيقول: لا شيء! فيطرحها، حتى فرغ من الرغيف كله. فلما أصبحا قال له عيسى: هلمَّ طعامك! فجاء برغيف، فقال له عيسى: أين الرغيف الآخر؟ قال: ما كان معي إلا واحد. فسكت عنه عيسى، فانطلقوا، فمروا براعي غنم، فنادى عيسى: يا صاحب الغنم، أجزرْنا شاةً من غنمك. قال: نعم، أرسل صاحبك يأخذها. فأرسل عيسى اليهوديّ، فجاء بالشاة فذبحوها وشوَوْها، ثم قال لليهودي: كل، ولا تكسِرنّ عظمًا. فأكلا. فلما شبعوا، قذفَ عيسى العظام في الجلد، ثم ضربها بعصاه وقال: قومي بإذن الله! فقامت الشاة تَثغُو، فقال: يا صاحبَ الغنم، خذ شاتك. فقال له الراعي: من أنتَ؟ فقال: أنا عيسى ابن مريم. قال: أنت الساحر! وفرّ منه. قال: عيسى لليهودي: بالذي أحيى هذه الشاة بعدَما أكلناها، كم كان معك رغيفًا؟ فحلف كان معه إلا رغيف واحد، فمرُّوا بصاحب بَقر، فنادى عيسى فقال: يا صاحب البقر، أجزرنا من بَقرك هذه عجلا. قال: ابعث صاحبك يأخذه. قال: انطلق يا يهوديّ فجئ به. فانطلق فجاءَ به. فذبحه وشواه وصاحبُ البقر ينظر، فقال له عيسى: كلْ ولا تكسِرَن عظمًا. فلما فرغوا، قذف العظام في الجلد ثم ضربه بعصاه، وقال: قم بإذن الله. فقام وله خُوَارٌ، قال: خُذ عجلك. قال: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى. قال: أنت السحَّار! ثم فر منه. قال اليهودي: يا عيسى أحييته بعد ما أكلناه! قالَ عيسى: فبالذي أحيَى الشاة بعد ما أكلناها، والعجلَ بعد ما أكلناه، كم كان معك رغيفًا؟ فحلف بالله ما كان معه إلا رغيف واحد. فانطلقا، حتى نـزلا قريةً، فنـزل اليهودي أعلاها وعيسى في أسفلها، وأخذ اليهودي عَصا مثل عصا عيسى وقال: أنا الآنَ أحيي الموتى! وكان ملك تلك المدينة مريضًا شديد المرض، فانطلق اليهودي يُنادي: من يبتغي طبيبًا؟ حتى أتى ملك تلك القرية، فأخبر بوجعه، فقال: أدخلوني عليه فأنا أبرئه، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه. فقيل له: إن وجع الملك قد أعيَى الأطباء قبلك، ليس من طبيب يُداويه ولا يُفيء دواؤه شيئًا إلا أمر به فصلب. قال: أدخلوني عليه، فإني سأبرئه. فأدخل عليه فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات، فجعل يضربه بعصاه وهو ميت ويقول: قُم بإذن الله! فأخذ ليُصْلب، فبلغ عيسى، فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة، فقال: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم، أتتركون لي صاحبي؟ قالوا: نعم. فأحيى اللهُ الملكَ لعيسى، فقام وأنـزل اليهودي فقال: يا عيسى أنتَ أعظم الناس عليّ منةً، والله لا أفارقك أبدًا. قال عيسى فيما حدثنا به محمد بن الحسين بن موسى قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي لليهودي: أنشُدك بالذي أحيى الشاة والعجلَ بعد ما أكلناهما، وأحيى هذا بعد ما مات، وأنـزلك من الجِذْع بعد ما رُفعت عليه لتصلب، كم كان معك رغيفًا؟ قال: فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد، قال: لا بأس! فانطلقا، حتى مرّا على كنـز قد حفرته السباع والدواب، فقال اليهودي: يا عيسى، لمن هذا المال؟ قال عيسى: دعه، فإنّ له أهلا يهلكون عليه. فجعلت نفسُ اليهودي تَطلَّعُ إلى المال، ويكره أن يعصي عيسى، فانطلق مع عيسى. ومرّ بالمال أربعة نَفر، فلما رأوه اجتمعوا عليه، فقال: اثنان لصاحبيهما: انطلقا فابتاعا لنا طعامًا وشرابًا ودوابَّ نحملُ عليها هذا المال. فانطلق الرجلان فابتاعا دوابّ وطعامًا وشرابًا، وقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن نجعل لصاحبينا في طعامهما سَمًّا، فإذا أكلا ماتا، فكان المال بيني وبينك، فقال الآخر: نعم! ففعلا. وقال الآخران: إذا ما أتيانا بالطعام، فليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله، فيكون الطعامُ والدوابّ بيني وبينك. فلما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما، ثم قعدا على الطعام فأكلا منه، فماتا. وأعْلِم ذلك عيسى، فقال لليهودي: أخرجه حتى نقتسمه، فأخرجه، فقسمه عيسى بين ثلاثة، فقال اليهودي: يا عيسى، اتق الله ولا تظلمني، فإنما هو أنا وأنت!! وما هذه الثلاثة؟ قال له عيسى: هذا لي، وهذا لك، وهذا الثلث لصاحب الرغيف. قال اليهودي: فإن أخبرتك بصاحب الرغيف، تعطيني هذا المال؟ فقال عيسى: نعم. قال: أنا هو. قال: عيسى: خذ حظي وحظَّك وحظَّ صاحب الرغيف، فهو حظك من الدنيا والآخرة. فلما حمله مَشى به شيئًا، فخُسِف به. وانطلق عيسى ابن مريم، فمر بالحواريِّين وهم يصطادون السمك، فقال: ما تصنعون؟ فقالوا: نصطاد السمك. فقال: أفلا تمشون حتى نصطادَ الناس؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى ابن مريم، فآمنوا به وانطلقوا معه. فذلك قول الله عز وجل: « مَنْ أنصاري إلى الله قال الحواريون نحنُ أنصارُ الله آمنا بالله واشهدْ بأنا مسلمون » .
7122م - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله » ، الآية قال: استنصر فنصرَه الحواريون، وظهر عليهم.
وقال آخرون: كان سببُ استنصار عيسى من استنصرَ، لأن من استنصرَ الحواريِّين عليه كانوا أرادُوا قتله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: « فلما أحس عيسى منهم الكفر » ، قال: كفروا وأرادُوا قتله، فذلك حين استنصر قومه « قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصارُ الله » .
« والأنصار » ، جمع « نصير » ، كما « الأشراف » جمع « شريف » ، « والأشهاد » جمع « شهيد » .
وأما « الحواريون » ، فإن أهل التأويل اختلفوا في السبب الذي من أجله سموا « حواريون » .
فقال بعضهم: سموا بذلك لبياض ثيابهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال: مما روى أبي قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن ميسرة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: إنما سمُّوا « الحواريين » ، ببياض ثيابهم.
وقال آخرون: سموا بذلك: لأنهم كانوا قَصّارين يبيِّضون الثياب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أبي أرطأة قال: « الحواريون » ، الغسالون الذين يحوّرون الثياب، يغسلونها.
وقال آخرون: هم خاصّة الأنبياء وصفوتهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن روح بن القاسم، أن قتادة ذكرَ رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان من الحواريين. فقيل له: من الحواريُّون؟ قال: الذين تصلح لهم الخلافة.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا بشر، عن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله: « إذ قال الحواريون » ، قال: أصفِياء الأنبياء.
قال أبو جعفر: وأشبه الأقوال التي ذكرنا في معنى « الحواريين » ، قولُ من قال: « سموا بذلك لبياض ثيابهم، ولأنهم كانوا غسّالين » .
وذلك أن « الحوَر » عند العرب شدة البياض، ولذلك سمي « الحُوَّارَى » من الطعام « حُوّارَى » لشدة بياضه، ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين « أحور » ، وللمرأة « حوراء » . وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سُمُّوا بالذي ذكرنا، من تبييضهم الثيابَ، وأنهم كانوا قصّارين، فعرفوا بصحبة عيسى، واختياره إياهم لنفسه أصحابًا وأنصارًا، فجرى ذلك الاسم لهم، واستُعمل، حتى صار كل خاصّة للرجل من أصحابه وأنصاره: « حواريُّه » ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم.
« إنّ لكلّ نبيَ حواريًّا، وَحوَاريَّ الزبير » .
يعني خاصته. وقد تسمي العرب النساء اللواتي مساكنهن القرَى والأمصار « حَوَاريَّات » ، وإنما سمين بذلك لغلبة البياض عليهن، ومن ذلك قول أبي جَلْدة اليشكري:
فَقُــلْ لِلْحَوَارِيَّــاتِ يَبْكِـينَ غَيْرَنَـا وَلا تَبْكِنَــا إلا الكِــلابُ النَّــوابِحُ
ويعني بقوله: « قال الحواريون » ، قال هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا، من تبييضهم الثياب: « آمنا بالله » ، صدقنا بالله، واشهد أنتَ يا عيسى بأننا مسلمون.
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله عز وجل أن الإسلامَ دينُه الذي ابتعثَ به عيسى والأنبياءَ قبله، لا النصرانية ولا اليهوديةَ وتبرئةٌ من الله لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان بها، كما برّأ إبراهيم من سائر الأديان غير الإسلام، وذلك احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على وفد نجران، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « فلما أحسّ عيسى منهم الكفر » والعدوان « قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله » ، وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضلَ من ربهم « واشهد بأنا مسلمون » ، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه - يعني وفدَ نصارَى نجران.
القول في تأويل قوله : رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْـزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( 53 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل عن الحواريين أنهم قالوا: « ربنا آمنا » ، أي: صدّقنا « بما أنـزلت » ، يعني: بما أنـزلتَ على نبيك عيسى من كتابك « واتبعنا الرسول » ، يعني بذلك: صرنا أتباع عيسى على دينك الذي ابتعثته به، وأعوانه على الحق الذي أرسلتَه به إلى عبادك وقوله: « فاكتبنا مع الشاهدين » ، يقول: فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق، وأقرُّوا لك بالتوحيد، وصدّقوا رسلك، واتبعوا أمرك ونهيك، فاجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به من كرامتك، وأحِلَّنا محلهم، ولا تجعلنا ممن كفر بك، وصدَّ عن سبيلك، وخالف أمرك ونهيك.
يعرّف خلقه جل ثناؤه بذلك سبيلَ الذين رضي أقوالهم وأفعالهم، ليحتذوا طريقهم، ويتبعوا منهاجهم، فيصلوا إلى مثل الذي وصلوا إليه من درجات كرامته ويكذّب بذلك الذين انتحلوا من الملل غير الحنيفية المسلمة، في دعواهم على أنبياء الله أنهم كانوا على غيرها ويحتجُّ به على الوفد الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجران: بأنّ قِيلَ مَنْ رضي الله عنه من أتباع عيسى كان خلاف قِيلهم، ومنهاجهم غير منهاجهم، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « ربنا آمنا بما أنـزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين » ، أي: هكذا كان قولهم وإيمانهم.
القول في تأويل قوله : وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( 54 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الذين كفروا من بني إسرائيل، وهم الذين ذكر الله أنّ عيسى أحسّ منهم الكفر.
وكان مكرهم الذي وصفهم الله به، مُواطأة بعضهم بعضًا على الفتك بعيسى وقَتْله، وذلك أن عيسى صلوات الله عليه، بعد إخراج قومه إياه وأمّه من بين أظهُرِهم، عاد إليهم، فيما:-
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن عيسى سار بهم يعني: بالحواريين الذين كانوا يصطادون السمك، فآمنوا به واتبعوه إذ دعاهم حتى أتى بني إسرائيل ليلا فصَاح فيهم، فذلك قوله: فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ الآية [ سورة الصف: 14 ] .
وأما مكر الله بهم: فإنه - فيما ذكر السدي - إلقاؤه شبَه عيسى على بعض أتباعه حتى قتله الماكرون بعيسى، وهم يحسبونه عيسى، وقد رفع الله عز وجل عيسى قبل ذلك، كما:-
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن بني إسرائيل حَصروا عيسى وتسعةَ عشر رجلا من الحواريِّين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم، وصُعِد بعيسى إلى السماء، فذلك قوله: « ومكرُوا ومكر الله والله خير الماكرين » . فلما خرج الحواريون أبصرُوهم تسعةَ عشر، فأخبروهم أن عيسى قد صُعد به إلى السماء، فجعلوا يعدّون القوم فيجدُونهم ينقصون رجلا من العِدّة، ويرون صورةَ عيسى فيهم، فشكُّوا فيه. وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يُرَوْن أنه عيسى وصَلبوه، فذلك قول الله عز وجل: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [ سورة النساء: 157 ] .
وقد يحتمل أن يكون معنى « مكر الله بهم » ، استدراجُه إياهم ليبلغ الكتاب أجله، كما قد بينا ذلك في قول الله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [ سورة البقرة: 15 ] .
القول في تأويل قوله : إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الله بالقوم الذين حاولوا قتلَ عيسى مع كفرهم بالله، وتكذيبهم عيسى فيما أتاهم به من عند ربهم إذ قال الله جل ثناؤه: « إني متوفيك » ، فـ « إذ » صلةٌ من قوله: وَمَكَرَ اللَّهُ ، يعني: ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى « إني متوفيك ورافعك إليّ، فتوفاه ورفعه إليه. »
ثم اختلف أهل التأويل في معنى « الوفاة » التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية.
فقال بعضهم: « هي وفاة نَوْم » ، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني مُنِيمك ورافعك في نومك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « إني متوفيك » ، قال: يعني وفاةَ المنام، رفعه الله في منامه قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: « إن عيسَى لم يمتْ، وإنه راجعٌ إليكم قبل يوم القيامة. »
وقال آخرون: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض، فرافعك إليّ، قالوا: ومعنى « الوفاة » ، القبض، لما يقال: « توفَّيت من فلان ما لي عليه » ، بمعنى: قبضته واستوفيته. قالوا: فمعنى قوله: « إني متوفيك ورافعك » ، أي: قابضك من الأرض حيًّا إلى جواري، وآخذُك إلى ما عندي بغير موت، ورافعُك من بين المشركين وأهل الكفر بك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق في قول الله: « إني متوفيك » ، قال: متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: « إني متوفيك » ، قال: متوفيك من الأرض.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا » ، قال: فرفعه إياه إليه، توفِّيه إياه، وتطهيره من الذين كفروا.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح: أن كعب الأحبار قال: ما كان الله عز وجل ليميت عيسى ابن مريم، إنما بعثه الله داعيًا ومبشرًا يدعو إليه وحده، فلما رأى عيسى قِلة من اتبعه وكثرة من كذّبه، شكا ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه: « إني متوفيك ورافعك إليّ » ، وليس مَنْ رفعته عندي ميتًا، وإني سأبعثك على الأعوَر الدجّال فتقتله، ثم تعيش بعد ذلك أربعًا وعشرين سنة، ثم أميتك ميتة الحيّ.
قال كعب الأحبار: وذلك يصدّق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: كيف تهلك أمة أنا في أوّلها، وعيسى في آخرها.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « يا عيسى إني متوفيك » ، أي قابضُك.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « إني متوفيك ورافعك إليّ » ، قال: « متوفيك » : قابضك قال: « ومتوفيك » و « رافعك » ، واحدٌ قال: ولم يمت بعدُ، حتى يقتل الدجالَ، وسيموتُ. وقرأ قول الله عز وجل: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا ، قال: رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلا قال: وينـزل كهلا.
حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قول الله عز وجل: « يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي » ، الآية كلها، قال: رفعه الله إليه، فهو عنده في السماء.
وقال آخرون: معنى ذلك: إني متوفيك وفاةَ موتٍ.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « إني متوفيك » ، يقول: إني مميتك.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني أنه قال: توفى الله عيسى ابن مريم ثلاثَ ساعات من النهار حتى رفعه إليه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: والنصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياهُ الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليّ ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنـزالي إياك إلى الدنيا. وقال: هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا، قولُ من قال: « معنى ذلك: إني قابضك من الأرض ورافعك إليّ » ، لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ينـزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض مدة ذكَرها، اختلفت الرواية في مبلغها، ثم يموت فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليهبطنّ اللهُ عيسى ابن مريم حَكمًا عدلا وإمامًا مُقسِطًا، يكسر الصَّليب، ويقتل الخنـزير، ويضَعُ الجزية، ويُفيضُ المالَ حتى لا يجد من يأخذه، وليسكنّ الرّوْحاء حاجًا أو معتمرًا، أو ليُثَنِّينَّ بهما جميعًا.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأنبياء إخوَةٌ لعَلاتٍ، أمَّهاتهم شتى، ودينهم واحد. وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وأنه خليفتي على أمتي. وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه: فإنه رجل مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سَبط الشعر، كأن شَعرَه يقطُر، وإن لم يصبه بَللٌ، بين مُمصَّرَتين، يدق الصّليبَ، ويقتل الخنـزير، ويُفيضُ المال، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه المِللَ كلها، ويهلك الله في زمانه مسيحَ الضّلالة الكذّاب الدجال وتقعُ في الأرض الأمَنَةُ حتى ترتع الأسُود مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الغلمانُ بالحيات، لا يَضرُّ بعضُهم بعضًا، فيثبت في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى، ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه.
قال أبو جعفر: ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عز وجل، لم يكن بالذي يميته مِيتةً أخرى، فيجمع عليه ميتتين، لأن الله عز وجل إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يُميتهم ثم يُحييهم، كما قال جلّ ثناؤه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [ سورة الروم: 40 ] .
فتأويل الآية إذًا: قال الله لعيسى: يا عيسى، إني قابضك من الأرض، ورافعك إليّ، ومطهرك من الذين كفروا فجحدوا نبوّتك.
وهذا الخبر، وإن كان مخرجه مخرجَ خبر، فإن فيه من الله عز وجل احتجاجًا على الذين حاجُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من وفد نجرانَ بأن عيسى لم يُقتَل ولم يُصْلب كما زعموا، وأنهم واليهودَ الذين أقرُّوا بذلك وادَّعوا على عيسى - كذَبةٌ في دعواهم وزعمهم، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ثم أخبرهم - يعني الوفد من نجران - وردّ عليهم فيما أقرُّوا لليهود بصلبه، كيفَ رفعه وطهره منهم، فقال: « إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ » .
وأما « مطهِّرك من الذين كفروا » ، فإنه يعني: منظّفك، فمخلّصك ممن كفر بك، وجحد ما جئتهم به من الحق من اليهود وسائر الملل غيرها، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « ومطهرك من الذين كفروا » ، قال: إذْ همُّوا منك بما همّوا.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: « ومطهرك من الذين كفروا » ، قال: طهَّره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه.
القول في تأويل قوله عز وجل : وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وجاعل الذين اتبعوك على منهاجِك وملَّتك من الإسلام وفطرته، فوق الذين جحدوا نبوّتك وخالفوا سبيلهم [ من ] جميع أهل الملل، فكذّبوا بما جئت به وصدّوا عن الإقرار به، فمصيِّرهم فوقهم ظاهرين عليهم، كما:-
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: « وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة » ، هم أهلُ الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسُنته، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة.
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة » ، ثم ذكر نحوه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة » ، ثم ذكر نحوه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة » ، قال: ناصرُ من اتبعك على الإسلام، على الذين كفروا إلى يوم القيامة.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة » ، أما « الذين اتبعوك » ، فيقال: هم المؤمنون، ويقال: بل هم الرّوم.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن: « وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة » ، قال: جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. قال: المسلمون من فوقهم، وجعلهم أعلى ممن ترك الإسلام إلى يوم القيامة.
وقال آخرون: معنى ذلك: وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق اليهود.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، قال: الذين كفروا من بني إسرائيل « وجاعل الذين اتبعوك » ، قال: الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم « فوق الذين كفروا » ، النصارى فوقَ اليهود إلى يوم القيامة. قال: فليس بلدٌ فيه أحدٌ من النصارى، إلا وهم فوق يهودَ، في شرقٍ ولا غرب، هم في البلدان كلِّها مستذلون.
القول في تأويل قوله : ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 55 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « ثم إليّ » ، ثم إلى الله، أيها المختلفون في عيسى « مرجعكم » ، يعني: مصيركم يوم القيامة « فأحكم بينكم » ، يقول: فأقضي حينئذ بين جَميعكم في أمر عيسى بالحق « فيما كنتم فيه تختلفون » من أمره.
وهذا من الكلام الذي صُرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة، وذلك أن قوله: « ثم إليَّ مرجعكم » ، إنما قُصد به الخبرُ عن متَّبعي عيسى والكافرين به.
وتأويل الكلام: وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إليّ مَرجعُ الفريقين: الذين اتبعوك، والذين كفروا بك، فأحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون. ولكن ردَّ الكلام إلى الخطاب لسبوق القول، على سبيل ما ذكرنا من الكلام الذي يخرج على وجه الحكاية، كما قال: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [ سورة يونس: 22 ] .
القول في تأويل قوله : فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 56 ) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( 57 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فأما الذين كفروا » ، فأما الذين جَحدوا نبوّتك يا عيسى، وخالفوا ملتك، وكذّبوا بما جئتهم به من الحق، وقالوا فيك الباطلَ، وأضافوك إلى غير الذي ينبغي أن يُضيفوك إليه، من اليهود والنصارى وسائر أصناف الأديان، فإني أعذبهم عذابًا شديدًا، أما في الدنيا فبالقتل والسباء والذلة والمسكنة، وأما في الآخرة فبنار جهنم خالدين فيها أبدًا « وما لهم من ناصرين » ، يقول: وما لهم من عذاب الله مانعٌ، ولا عن أليم عقابه لهم دافع بقوة ولا شفاعة، لأنه العزيز ذُو الانتقام.
وأما قوله: « وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات » ، فإنه يعني تعالى ذكره: وأما الذين آمنوا بك يا عيسى - يقول: صدّقوك - فأقروا بنبوتك وبما جئتهم به من الحقّ من عندي، ودانوا بالإسلام الذي بعثتك به، وعملوا بما فرضتُ من فرائضي على لسانك، وشرعتُ من شرائعي، وسننتُ من سنني. كما:
حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « وعملوا الصالحات » ، يقول: أدوا فرائضي.
« فيوفيهم أجورَهم » ، يقول: فيعطيهم جزاءَ أعمالهم الصالحة كاملا لا يُبخسون منه شيئًا ولا يُنقصونه.
وأما قوله: « والله لا يحب الظالمين » ، فإنه يعني: والله لا يحبُّ من ظلم غيرَه حقًا له، أو وضع شيئًا في غير موضعه.
فنفى جل ثناؤه عن نفسه بذلك أن يظلم عبادَه، فيجازي المسيءَ ممن كفر جزاءَ المحسنين ممن آمن به، أو يجازي المحسنَ ممن آمن به واتبعَ أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه، جزاءَ المسيئين ممن كفر به وكذّب رسله وخالف أمره ونهيه. فقال: إني لا أحبّ الظالمين، فكيف أظلم خلقي؟
وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان خرج مخرج الخبر، فإنه وعيدٌ منه للكافرين به وبرسله، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله، لأنه أعلم الفريقين جميعًا أنه لا يبخسُ هذا المؤمن حقه، ولا يظلمُ كرامته فيضعها فيمن كفر به وخالف أمره ونهيه، فيكون لها بوضعها في غير أهلها ظالمًا.
القول في تأويل قوله : ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( 58 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ذلك » ، هذه الأنباءَ التي أنبأ بها نبيه عن عيسى وأمِّه مريم، وأمِّها حَنَّة وزكريا وابنه يحيى، وما قصَّ من أمر الحواريين واليهودَ من بنى إسرائيل « نتلوها عليك » ، يا محمد، يقول: نقرؤها عليك يا محمد على لسان جبريل صلى الله عليه وسلم، بوحيناها إليك « من الآيات » ، يقول: من العبر والحجج على من حاجَّك من وفد نصارى نجران، ويهود بني إسرائيل الذين كذَّبوك وكذبوا ما جئتهم به من الحق من عندي « والذكر » ، يعني: والقرآن « الحكيم » ، يعني: ذي الحكمة الفاصلة بين الحقّ والباطل، وبينك وبين ناسبي المسيح إلى غير نسبه، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم » ، القاطع الفاصل الحقّ، الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلنّ خبرًا غيره.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم » ، قال: القرآن.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: « والذكر » ، يقول: القرآن « الحكيم » الذي قد كمَلَ في حكمته.
القول في تأويل قوله : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 59 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: إن شبه عيسى في خلقي إياه من غير فحل فأخبرْ به، يا محمد، الوفدَ من نصارى نجران عندي، كشبه آدمَ الذي خلقتُه من تراب ثم قلت له: « كن » ، فكان من غير فحل ولا ذكر ولا أنثى. يقول: فليس خلقي عيسى من أمه من غير فحل، بأعجب من خلقي آدم من غير ذكر ولا أنثى، وأمري إذ أمرته أن يكون فكان لحمًا. يقول: فكذلك خلقى عيسى: أمرتُه أن يكون فكانَ.
وذكر أهل التأويل أن الله عز وجل أنـزل هذه الآية احتجاجًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الوفد من نصارى نجران الذين حاجُّوه في عيسى.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر قال: كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى في عيسى قولا فكانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله عز وجل هذه الآية في سورة آل عمران: « إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » ، إلى قوله فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ .
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » ، وذلك أن رهطًا من أهل نجران قدموا على محمد صلى الله عليه وسلم وكان فيهم السيّد والعاقب فقالوا لمحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسَى، تزعم أنه عبدُ الله! فقال محمد: أجل، إنه عبد الله. قالوا له: فهل رأيت مثلَ عيسى، أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريل صلى الله عليه وسلم بأمر ربِّنا السميع العليم فقال: قل لهم إذا أتوك: « إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم » ، إلى آخر الآية.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » ، ذكر لنا أنّ سيِّديْ أهل نجران وأسقُفَّيْهم: السيد والعاقبُ، لقيا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن عيسى فقالا كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنـزل الله عز وجل فيه هذه الآية: « إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » .
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إن مَثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب » ، لما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع به أهل نجران، أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم. منهم: العاقب، والسيد، وما سَرجس، ومار يحز. فسألوه ما يقول في عيسى، فقال: هو عبد الله ورُوحُه وكلمته. قالوا هم: لا! ولكنه هو الله، نـزل من ملكه فدَخل في جوف مريم، ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمرَه! فهل رأيتَ قَط إنسانًا خُلق من غير أب؟ فأنـزل الله عز وجل: « إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » . 7164 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح، عن عكرمة قوله: « إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » ، قال: نـزلت في العاقب والسيد من أهل نجران، وهما نصرانيان. قال ابن جريج: بلغنا أنّ نصارى أهل نجران قدم وفدُهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فيهم السيد والعاقبُ، وهما يومئذ سيدا أهل نجران، فقالوا: يا محمد، فيما تشتمُ صاحبنا؟ قال: من صاحبكما! قالا عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أجل، إنه عبدُ الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه. فغضبوا وقالوا: إن كنت صادقًا فأرنا عبدًا يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، الآية، لكنه الله. فسكتَ حتى أتاه جبريلُ فقال: يا محمد: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [ سورة المائدة: 17، 72 ] الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، إنهم سألوني أن أخبرَهم بمثَل عيسى. قال جبريل: مثلُ عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كُن فيكون. فلما أصبحوا عادُوا، فقرأ عليهم الآيات. »
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « إن مثل عيسى عند الله » ، فاسمع، « كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين » ، فإن قالوا: خُلق عيسى من غير ذكر، فقد خلقت آدمَ من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر، فكان كما كانَ عيسى لحمًا ودمًا وشعرًا وبَشرًا، فليس خلقُ عيسى من غير ذكر بأعجبَ من هذا.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل: « إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب » ، قال: أتى نجرانيَّان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا له: هل علمتَ أنّ أحدًا وُلد من غير ذكر، فيكون عيسى كذلك؟ قال: فأنـزل الله عز وجل: « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » ، أكان لآدم أب أو أم! ! كما خلقت هذا في بطن هذه؟
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فكيف قال: « كمثل آدم خلقه » ، « وآدم » معرفة، والمعارفُ لا تُوصَل؟
قيل: إن قوله: « خلقه من تراب » غير صلة لآدم، وإنما هو بيان عن أمره على وجه التفسير عن المثل الذي ضربه، وكيف كان.
وأما قوله: « ثم قال له كن فيكون » ، فإنما قال: « فيكون » وقد ابتدأ الخبر عن خلق آدم، وذلك خبر عن أمر قد تقضَّى، وقد أخرجَ الخبر عنه مُخرَج الخبر عما قد مضَى فقال جل ثناؤه: « خلقه من تراب ثم قال له كن » ، لأنه بمعنى الإعلام من الله نبيَّه أن تكوينه الأشياء بقوله: « كن » ، ثم قال: « فيكون » ، خبرًا مبتدأ، وقد تناهى الخبر عن أمر آدم عند قوله: « كنْ » .
فتأويل الكلام إذًا: « إن مثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن » ، واعلم، يا محمد، أن ما قال له ربك « كن » ، فهو كائن.
فلما كان في قوله: « كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن » ، دلالةٌ على أن الكلام يرادُ به إعلام نبي الله صلى الله عليه وسلم وسائر خلقه أنه كائن ما كوّنه ابتداءً من غير أصل ولا أوّل ولا عُنصر، استغنى بدلالة الكلام على المعنى، وقيل: « فيكون » ، فعطف بالمستقبل على الماضي على ذلك المعنى.
وقد قال بعض أهل العربية: « فيكون » ، رفع على الابتداء، ومعناه: كن فكان، فكأنه قال: فإذا هو كائن.
القول في تأويل قوله : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 60 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذي أنبأتك به من خبر عيسى، وأنَّ مثله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له ربه كُنْ هو الحق من ربك، يقول: هو الخبر الذي هو من عند ربك « فلا تكن من الممترين » ، يعني: فلا تكن من الشاكين في أنّ ذلك كذلك، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « الحق من ربك فلا تكن من الممترين » ، يعني: فلا تكن في شكّ من عيسى أنه كمثل آدم، عبدُ الله ورسوله، وكلمةُ الله ورُوحه.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « الحق من ربك فلا تكن من الممترين » ، يقول: فلا تكن في شكّ مما قصصنا عليك أنّ عيسى عبدُ الله ورسوله، وكلمةٌ منه ورُوحٌ، وأنّ مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تُراب ثم قال له كن فيكون.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « الحق من ربك » ، ما جاءك من الخبر عن عيسى « فلا تكن من الممترين » ، أي: قد جاءك الحق من ربك فلا تمتَرِ فيه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فلا تكن من الممترين » ، قال: والممترون الشاكون.
« والمرية » « والشك » « والريب » ، واحد سواءٌ، كهيئة ما تقول: « أعطني » « وناولني » « وهلم » ، فهذا مختلف في الكلام وهو واحد.
القول في تأويل قوله : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( 61 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فمن حاجك فيه » ، فمن جادلك، يا محمد، في المسيح عيسى ابن مريم.
والهاء في قوله: « فيه » ، عائدة على ذكر عيسى. وجائز أن تكون عائدة على « الحق » الذي قال تعالى ذكره: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ .
ويعني بقوله: « من بعد ما جاءك من العلم » ، من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بيَّنته لك في عيسى أنه عبد الله « فقل تعالوا » ، هلموا فلندع « أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل » ، يقول: ثم نلتعن.
يقال في الكلام: « ما لهُ؟ بَهَله الله » أي: لعنه الله « وما له؟ عليه بُهْلةُ الله » ، يريد اللعن، وقال لبيد، وذكر قومًا هلكوا فقال:
* نَظَرَ الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهِلْ *
يعني: دعا عليهم بالهلاك.
« فنجعل لعنة الله على الكاذبين » منا ومنكم في أنه عيسى، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم » ، أي: في عيسى: أنه عبدُ الله ورسوله، من كلمة الله وروحه « فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم » ، إلى قوله: « على الكاذبين » .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم » ، أي: من بعد ما قصصت عليك من خبره، وكيف كان أمره « فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم » ، الآية.
حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم » ، يقول: من حاجك في عيسى من بعد ما جاءك فيه من العلم.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين » ، قال: منا ومنكم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، وحدثني ابن لهيعة، عن سليمان بن زياد الحضرمي، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « ليتَ بيني وبيني أهل نجرانَ حجابًا فلا أراهم ولا يروني! من شْدّة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم. »
القول في تأويل قوله : إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 62 ) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( 63 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن هذا الذي أنبأتك به، يا محمد، من أمر عيسى فقصصته عليك من أنبائه، وأنه عبدي ورسولي وكلمتي ألقيتها إلى مريم وروح منّي، لهو القصَص والنبأ الحق، فاعلم ذلك. واعلم أنه ليس للخلق معبودٌ يستوجبُ عليهم العبادةَ بملكه إياهم إلا معبودك الذي تعبُدُه، وهو الله العزيز الحكيم.
ويعني بقوله: الْعَزِيزُ ، العزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، وادعى معه إلهًا غيرَه، أو عبد ربًّا سواه الْحَكِيمُ في تدبيره، لا يدخل ما دبره وَهَنٌ، ولا يلحقه خللٌ.
« فإن تولوا » ، يعني: فإن أدبر هؤلاء الذين حاجُّوك في عيسى، عما جاءك من الحق من عند ربك في عيسى وغيره من سائر ما آتاك الله من الهدى والبيان، فأعرضوا عنه ولم يقبلوه
« فإن الله عليم بالمفسدين » ، يقول: فإن الله ذو علم بالذين يعصون ربهم، ويعملون في أرضه وبلاده بما نهاهم عنه، وذلك هو إفسادهم. يقول تعالى ذكره: فهو عالم بهم وبأعمالهم، يحصيها عليهم ويحفظها، حتى يجازيهم عليها جزاءَهم.
وبنحو ما قلنا قي ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) ، أي: إن هذا الذي جئتَ به من الخبر عن عيسى، ( لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) ، من أمره.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ ) ، إن هذا الذي قُلنا في عيسى ( لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) ، قال: إن هذا القصصَ الحقّ في عيسى، ما ينبغي لعيسى أن يتعدَّى هذا ولا يُجاوزُه: أنْ يتعدّى أن يكون كلمة الله ألقاها إلى مريم، وروحًا منه، وعبدَ الله ورسوله.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) ، إنّ هذا الذي قلنا في عيسى، هو الحق وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ ، الآية.
فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبين الوفد من نصارى نجران، بالقضاء الفاصل والحكم العادل، أمرَه إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله، وأنه لا ولد له ولا صاحبة، وأنّ عيسى عبدُه ورسوله، وأبوا إلا الجدلَ والخصومة أن يدعوَهم إلى الملاعنة. ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، انخزلوا فامتنعوا من الملاعنة، ودعوا إلى المصالحة، كالذي:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر قال: فأمِر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - بملاعنتهم - يعني: بملاعنة أهل نجران - بقوله: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ، الآية. فتواعدوا أن يلاعنوه وواعدوه الغدَ. فانطلقوا إلى السيد والعاقب، وكانا أعقلهم، فتابعاهم. فانطلقوا إلى رجل منهم عاقل، فذكروا له ما فارقوا عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما صنعتم!! ونَدَّمهم، وقال لهم: إن كان نبيًّا ثم دعا عليكم لا يغضبُه الله فيكم أبدًا، ولئن كان ملِكًا فظهر عليكم لا يستبقيكم أبدًا. قالوا: فكيف لنا وقد واعدنا! فقال لهم: إذا غدوتم إليه فعرض عليكم الذي فارقتموه عليه، فقولوا: « نعوذ بالله » ! فإن دعاكم أيضًا فقولوا له: « نعوذ بالله » ! ولعله أن يعفيَكم من ذلك. فلما غدَوْا غدَا النبّي صلى الله عليه وسلم محتضِنًا حسَنًا آخذًا بيد الحسين، وفاطمة تمشي خلفه. فدعاهم إلى الذي فارقوه عليه بالأمس، فقالوا: « نعوذ الله » ! ثم دعاهم فقالوا: « نعوذ بالله » ! مرارًا قال: فَإن أبيتم فأسلموا ولكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين كما قال الله عز وجل، فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون كما قال الله عز وجل. قالوا: ما نملك إلا أنفسنا! قال: فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء كما قال الله عز وجل. قالوا: ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكن نؤدّي الجزية. قال: فجعل عليهم في كل سنة ألفي حلة، ألفًا في رجب، وألفًا في صفر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أتاني البشير بهلكه أهل نجران، حتى الطير على الشجر أو: العصافيرُ على الشجر لو تمُّوا على الملاعنة.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال: فقلت للمغيرة: إن الناس يروُون في حديث أهل نجران أن عليًّا كان معهم! فقال: أما الشعبي فلم يذكره، فلا أدري لسوء رأي بني أمية في عليّ، أو لم يكن في الحديث!
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) إلى قوله: فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ، فدعاهم إلى النَّصَف، وقطع عنهم الحجة. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من الله عنه، والفصلُ من القضاء بينه وبينهم، وأمره بما أمره به من ملاعنتهم، إنْ ردُّوا عليه دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نُريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رَأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ قال: والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أنّ محمدًا لنبيّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قَوْمٌ نبيًّا قط فبقي كبيرُهم ولا نبتَ صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلْفَ دينكم، والإقامةَ على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادِعوا الرجلَ، ثم انصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمنٌ رَأيه. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نلاعنَك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضَاهُ لنا، يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رِضًى.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عيسى بن فرقد، عن أبي الجارود، عن زيد بن علي في قوله: تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ الآية، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ، الآية، فأخذ - يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم - بيد الحسن والحسين وفاطمة، وقال لعلي: اتبعنا. فخرجَ معهم، فلم يخرج يومئذ النصارَى، وقالوا: إنا نخاف أن يكون هذا هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس دعوة النبيّ كغيرها ! ! فتخلفوا عنه يومئذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لو خرجوا لاحترقوا! فصالحوه على صلح: على أنّ له عليهم ثمانين ألفًا، فما عجزت الدراهم ففي العُرُوض: الحُلة بأربعين وعلى أن له عليهم ثلاثًا وثلاثين درعًا، وثلاثًا وثلاثين بعيرًا، وأربعة وثلاثين فرسًا غازيةً كلّ سنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَامنٌ لها حتى نُؤدّيها إليهم. »
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا وفدًا من وفد نجران من النصارى، وهم الذين حاجوه، في عيسى، فنكصُوا عن ذلك وخافوا وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: والذي نفس محمد بيده، إن كان العذاب لقد تَدَلَّى على أهل نجران، ولو فعلوا لاستُؤصلوا عن جديد الأرض.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ، قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خرج ليُداعي أهل نجران، فلما رأوه خرج، هابوا وفَرِقوا، فَرَجعوا قال معمر، قال قتادة: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أهل نَجران، أخذَ بيد حسن وحسين وقال لفاطمة: اتبعينا. فلما رأى ذلك أعداءُ الله، رجعوا.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لو خرج الذين يُباهلون النبّي صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زكريا، عن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو لاعنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحدٌ إلا أهلك الله الكاذبين.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا ابن زيد قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لاعنت القوم، بمن كنتَ تأتي حين قلت « أبناءَنا وأبناءَكم » ؟ قال: حسن وحسين.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا المنذر بن ثعلبة قال، حدثنا علباء بن أحمر اليشكري قال: لما نـزلت هذه الآية: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ، الآية، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عليّ وفاطمةَ وابنيهما الحسن والحسين، ودعا اليهود ليُلاعنهم، فقال شاب من اليهود، ويحكم! أليس عهدُكم بالأمس إخوانُكم الذين مُسخوا قردةً وخنازير؟! لا تُلاعنوا! فانتهَوْا.
القول في تأويل قوله : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( 64 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « قل » ، يا محمد، لأهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل « تعالوا » ، هلموا « إلى كلمة سواء » ، يعني: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، والكلمة العدل، هي أن نوحِّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا.
وقوله: « ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا » ، يقول: ولا يدين بعضُنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله، ويعظِّمه بالسجود له كما يسجدُ لربه « فإن تولوا » ، يقول: فإن أعرضوا عما دعوتَهم إليه من الكلمة السواء التي أمرُتك بدعائهم إليها، فلم يجيبوك إليها « فقولوا » ، أيها المؤمنون، للمتولِّين عن ذلك « اشهدوا بأنا مسلمون » .
واختلف أهل التأويل فيمن نـزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم: نـزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حَوالى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهودَ أهل المدينة إلى الكلمة السواء، وهم الذين حاجوا في إبراهيم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم دَعا اليهود إلى كلمة السَّواء.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا يهودَ أهل المدينة إلى ذلك، فأبوا عليه، فجاهدهم قال: دعاهم إلى قول الله عز وجل: « قل يا أهل الكتاب تَعالوْا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم » ، الآية.
وقال آخرون: بل نـزلت في الوفد من نصارى نجران.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: « قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم » الآية، إلى قوله: « فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون » ، قال: فدعاهم إلى النَّصَف، وقطع عنهم الحجةَ - يعني وفد نجران.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم دعاهم رسُول الله صلى الله عليه وسلم. - يعني الوفدَ من نصارى نجران - فقال: « يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم » ، الآية.
حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، حدثنا ابن زيد قال قال: يعني جل ثناؤه: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ، في عيسى على ما قد بيناه فيما مضى قال: فأبوا - يعني الوفدَ من نجران - فقال: ادعهم إلى أيسر من هذا، « قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم » ، فقرأ حتى بلغ: « أربابًا من دون الله » ، فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الآخر.
قال أبو جعفر: وإنما قلنا عنى بقوله: « يا أهل الكتاب » ، أهلَ الكتابين، لأنهما جميعًا من أهل الكتاب، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله: « يا أهل الكتاب » بعضًا دون بعض. فليس بأن يكون موجَّهًا ذلك إلى أنه مقصود به أهلُ التوراة، بأولى منه بأن يكون موجهًا إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دُون غيرهم من أهل التوراة. وإذ لم يكن أحدُ الفريقين بذلك بأولى من الآخر لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر، ولا أثر صحيح فالواجب أن يكون كل كتابيّ معنيًّا به. لأن إفرادَ العبادة لله وحدَه، وإخلاصَ التوحيد له، واجبٌ على كل مأمور منهيٍّ من خلق الله. واسم « أهل الكتاب » ، يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل، فكان معلومًا بذلك أنه عني به الفريقان جميعًا.
وأما تأويل قوله: « تعالوا » ، فإنه: أقبلوا وهلمُّوا. وإنما « هو تفاعلوا » من « العلوّ » فكأن القائل لصاحبه: « تعالَ إليّ » ، قائلٌ « تفاعل » من « العلوّ » ، كما يقال: « تَدَانَ مني » من « الدنوّ » ، و « تقارَبْ مني » ، من « القرب » .
وقوله: « إلى كلمة سواء » . فإنها الكلمة العدلُ، « والسَّواء » من نعتِ « الكلمة » .
وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع « سواء » في الإعراب « لكلمة » ، وهو اسمٌ لا صفة.
فقال بعض نحويي البصرة: جر « سواء » لأنها من صفة « الكلمة » وهي العدل، وأراد مستوية. قال: ولو أراد « استواء » ، كان النصب. وإن شاء أن يجعلها على « الاستواء » ويجرّ، جاز، ويجعله من صفة « الكلمة » ، مثل « الخلق » ، لأن « الخلق » هو « المخلوق » . « والخلق » قد يكونُ صفةً واسمًا، ويجعل « الاستواء » مثل « المستوى » ، قال عز وجل: الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [ سورة الحج: 25 ] ، لأن « السواء » للآخر، وهو اسمٌ ليس بصفة فيجرى على الأول، وذلك إذا أراد به « الاستواء » . فإن أراد به « مستويًا » جاز أن يُجرَي على الأول. والرفع في ذا المعنى جيدٌ، لأنها لا تغيَّر عن حالها ولا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث فأشبهت الأسماء التي هي مثل « عدل » و « رضًى » و « جُنُب » ، وما أشبه ذلك. وقالوا: [ في قوله ] : أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ [ سورة الجاثية: 21 ] ، فـ « السواء » للمحيا والممات بهذا، المبتدأ.
وإن شئت أجريته على الأول، وجعلتَه صفة مقدمة، كأنها من سبب الأول فجرت عليه. وذلك إذا جعلته في معنى « مستوى » . والرفع وجه الكلام كما فسَّرتُ لك.
وقال بعض نحويي الكوفة: « سواء » مصدرٌ وضع موضع الفعل، يعني موضع « متساوية » : و « متساو » ، فمرة يأتي على الفعل، ومرّةً على المصدر. وقد يقال في « سواء » ، بمعنى عدل: « سِوًى وسُوًى » ، كما قال جل ثناؤه: مَكَانًا سُوًى و سُوًى [ سورة طه: 58 ] ، يراد به: عدل ونصَفٌ بيننا وبينك. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك ( إِلَى كَلَمَةٍ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم « ) . »
وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله: « إلى كلمة سواء بيننا وبينكم » ، بأن « السواء » هو العدلٍ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم » ، عدل بيننا وبينكم « ألا نعبد إلا الله » ، الآية.
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا » ، بمثله.
وقال آخرون: هو قولُ « لا إله إلا الله » .
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، قال أبو العالية: « كلمة السواء » ، لا إله إلا الله.
وأما قوله: « ألا نعبُدَ إلا الله » ، فإنّ « أنْ » في موضع خفض على معنى: تعالوا إلى أنْ لا نعبد إلا الله.
وقد بينا - معنى « العبادة » في كلام العرب فيما مضى، ودللنا على الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: « ولا يتخذ بعضُنا بعضًا أربابًا » ، فإنّ « اتخاذ بعضهم بعضًا » ، ما كان بطاعة الأتباع الرؤساءَ فيما أمروهم به من معاصي الله، وتركِهم ما نهوهم عنه من طاعة الله، كما قال جل ثناؤه: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [ سورة التوبة: 31 ] ، كما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: « ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله » ، يقول: لا يطع بعضُنا بعضًا في معصية الله. ويقال إنّ تلك الرُّبوبية: أن يطيعَ الناس سادَتهم وقادتهم في غير عبادة، وإن لم يصلُّوا لهم.
وقال آخرون: « اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا » ، سجودُ بعضهم لبعض.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: « ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله » ، قال: سجود بعضهم لبعض.
وأما قوله: « فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون » ، فإنه يعني: فإن تولَّى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا، فقولوا أنتم، أيها المؤمنون، لهم: اشهدوا علينا بأنا بما تولَّيتم عنه، من توحيد الله، وإخلاص العبودية له، وأنه الإلهُ الذي لا شريك له « مسلمون » ، يعني: خاضعون لله به، متذلِّلون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا.
وقد بينا معنى « الإسلام » فيما مضى، ودللنا عليه بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 65 )
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « يا أهل الكتاب » ، يا أهل التوراة والإنجيل « لم تحاجون » ، لم تجادلون « في إبراهيم » وتخاصمون فيه، يعني: في إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه.
وكان حجِاجهم فيه: ادّعاءُ كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان منهم، وأنه كان يدين دينَ أهل نِحْلته. فعابهم الله عز وجل بادِّعائهم ذلك، ودلّ على مُناقضتهم ودعواهم، فقال: وكيف تدَّعون أنه كان على ملتكم ودينكم، ودينُكم إما يهودية أو نصرانية، واليهودي منكم يزعُم أنّ دينه إقامةُ التوراة والعملُ بما فيها، والنصراني منكم يزعم أنّ دينه إقامةُ الإنجيل وما فيه، وهذان كتابان لم ينـزلا إلا بعد حين من مَهلِك إبراهيم ووفاته؟ فكيف يكون منكم؟ فما وجه اختصامكم فيه، وادعاؤكم أنه منكم، والأمر فيه على ما قد علمتم؟
وقيل: نـزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم، وادعاء كل فريق منهم أنه كان منهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبارُ يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيمُ إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا! فأنـزل الله عز وجل فيهم: « يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنـزلت التوراةُ والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون » ، قالت النصارى: كان نصرانيًّا! وقالت اليهود: كان يهوديًّا! فأخبرهم الله أنّ التوراة والإنجيل ما أنـزلا إلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « يا أهل الكتاب لم تحاجُّون في إبراهيم » ، يقول: « لم تحاجون في إبراهيم » وتزعمون أنه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، « وما أنـزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده » ، فكانت اليهودية بعد التوراة، وكانت النصرانية بعد الإنجيل، « أفلا تعقلون » ؟
وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه منهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى كلمة السواء، وهم الذين حاجُّوا في إبراهيم، وزعموا أنه مات يهوديًّا. فأكذبهم الله عز وجل ونفاهم منه فقال: « يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنـزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون » .
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم » ، قال: اليهود والنصارى، برَّأه الله عز وجل منهم، حين ادعت كل أمة أنه منهم، وألحق به المؤمنين، مَنْ كان من أهل الحنيفية.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
وأما قوله: « أفلا تعقلون » فإنه يعني: « أفلا تعقلون » ، تفقَهون خطأ قيلكم: إنّ إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وقد علمتم أنّ اليهودية والنصرانية حدَثَت من بعد مَهلكه بحين؟
القول في تأويل قوله : هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 66 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ها أنتم » ، القومَ الذين [ قالوا في إبراهيم ما قالوا « حاججتم » ] ، خاصمتم وجادلتم « فيما لكم به علم » ، من أمر دينكم الذي وجدتموه في كتبكم، وأتتكم به رسل الله من عنده، وفي غير ذلك مما أوتيتموه وثبتت عندكم صحته « فلم تحاجون » ، يقول: فلم تجادلون وتخاصمون « فيما ليس لكم به علم » ، يعني: في الذي لا علم لكم به من أمر إبراهيم ودينه، ولم تجدوه في كتب الله، ولا أتتكم به أنبياؤكم، ولا شاهدتموه فتعلموه؟ كما:-
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجُّون فيما ليس لكم به علم، أما » الذي لهم به علم « ، فما حرّم عليهم وما أمروا به. وأما » الذي ليس لهم به علم « ، فشأن إبراهيم. »
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم » ، يقول: فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم « فلم تحاجُّون فيما ليس لكم به علم » ، فيما لم تشاهدوا ولم تروا ولم تعاينوا « والله يعلم وأنتم لا تعلمون » .
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
وقوله: « والله يعلم وأنتم لا تعلمون » ، يقول: والله يعلم ما غَاب عنكم فلم تشاهدوه ولم تروه، ولم تأتكم به رسلُه من أمر إبراهيم وغيره من الأمور ومما تجادلون فيه، لأنه لا يغيب عنه شيء، ولا يعزُبُ عنه علم شيء في السموات ولا في الأرض « وأنتم لا تعلمون » ، من ذلك إلا ما عاينتم فشاهدتم، أو أدركتم علمه بالإخبار والسَّماع.
القول في تأويل قوله : مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 67 )
قال أبو جعفر: وهذا تكذيبٌ من الله عز وجل دعوَى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى، وادَّعوا أنه كان على ملتهم وتبرئة لهم منه، وأنهم لدينه مخالفون وقضاءٌ منه عز وجل لأهل الإسلام ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل دينه، وعلى منهاجه وشرائعه، دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم.
يقول الله عز وجل: ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا كان من المشركين، الذين يعبدون الأصنامَ والأوثانَ أو مخلوقًا دون خالقه الذي هو إله الخلق وبارئهم « ولكن كان حنيفًا » ، يعني: متبعًا أمرَ الله وطاعته، مستقيمًا على محجَّة الهدى التي أمر بلزومها « مسلمًا » ، يعني: خاشعًا لله بقلبه، متذللا له بجوارحه، مذعنًا لما فَرَض عليه وألزمه من أحكامه.
وقد بينا اختلاف أهل التأويل في معنى « الحنيف » فيما مضى، ودللنا على القول الذي هو أولى بالصحة من أقوالهم، بما أغنى عن إعادته.
وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، قال: قالت اليهود: إبراهيم على ديننا. وقالت النصارى: هو على ديننا. فأنـزل الله عز وجل: « ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا » الآية، فأكذبهم الله، وأدحض حجتهم - يعني: اليهودَ الذين ادّعوا أن إبراهيم ماتَ يهوديًّا.
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله - لا أراه إلا يحدثه عن أبيه - : أنّ زيد بن عمرو بن نفيل خرَج إلى الشام يسأل عن الدِّين، ويتبعه، فلقي عالمًا من اليهود، فسأله عن دينه، وقال: إني لعلِّي أنْ أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. فقال له اليهودي: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غَضب الله شيئًا أبدًا وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا! قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يك يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وكان لا يعبد إلا الله. فخرج من عنده فلقي عالمًا من النصارى، فسأله عن دينه فقال: إني لعلِّي أن أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. قال: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: لا أحتمل من لعنة الله شيئًا، ولا من غضب الله شيئًا أبدًا، وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحوًا مما قاله اليهودي: لا أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. فخرج من عنده، وقد رَضِي الذي أخبراه والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم، فلم يزل رافعًا يديه إلى الله وقال: اللهم إني أشهِدك أني على دين إبراهيم.
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال، حدثنا محمد بن جرير الطبري:
القول في تأويل قوله : إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ( 68 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « إنّ أولى الناس بإبراهيم » ، إنّ أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته وولايته « للذين اتبعوه » ، يعني: الذين سلكوا طريقَه ومنهاجه، فوحَّدوا الله مخلصين له الدين، وسنُّوا سُنته، وشرَعوا شرائعه، وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به « وهذا النبي » ، يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم « والذين آمنوا » ، يعني: والذين صدّقوا محمدًا، وبما جاءهم به من عند الله « والله ولي المؤمنين » ، يقول: والله ناصرُ المؤمنين بمحمد، المصدِّقين له في نبوّته وفيما جاءهم به من عنده، على من خالفهم من أهل الملل والأديان.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه » ، يقول: الذين اتبعوه على ملّته وسنَّته ومنهاجه وفطرته « وهذا النبي » ، وهو نبي الله محمد « والذين آمنوا » معه، وهم المؤمنون الذين صدّقوا نبيّ الله واتبعوه. كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه من المؤمنين، أولى الناس بإبراهيم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
حدثنا محمد بن المثنى، وجابر بن الكردي، والحسن بن أبي يحيى المقدسي، قالوا: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبيّ ولاةً من النبيين، وإن وليِّي منهم أبِي وخليل رَبّي، ثم قرأ: « إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين » .
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله، أراه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: يقول الله سبحانه: « إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه » ، وهم المؤمنون.
القول في تأويل قوله : وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 69 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ودّت » ، تمنت « طائفة » ، يعني جماعة « من أهل الكتاب » ، وهم أهل التوراة من اليهود، وأهل الإنجيل من النصارى « لو يضلُّونكم » ، يقولون: لو يصدّونكم أيها المؤمنون، عن الإسلام، ويردُّونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر، فيهلكونكم بذلك.
و « الإضلال » في هذا الموضع، الإهلاكُ، من قول الله عز وجل: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [ سورة السجدة: 10 ] ، يعني: إذا هلكنا، ومنه قول الأخطل في هجاء جرير:
كُـنْتَ القَـذَى فِـي مَـوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ قَــذَفَ الأتِـيُّ بِـهِ فَضَـلّ ضـلالا
يعنى: هلك هلاكًا، وقول نابغة بني ذبيان:
فَــآبَ مُضِلُّــوهُ بِعَيْــنٍ جَلِيَّــةٍ وَغُــودِرَ بِـالجَوْلانِ حَـزْمٌ ونَـائِلُ
يعني مهلكوه.
« وما يضلون إلا أنفسهم » ، وما يهلكون - بما يفعلون من محاولتهم صدّكم عن دينكم - أحدًا غير أنفسهم، يعني بـ « أنفسهم » : أتباعهم وأشياعَهم على ملَّتِهم وأديانهم، وإنما أهلكوا أنفسَهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخَطه، واستحقاقهم به غَضَبه ولعنته، لكفرهم بالله، ونقضِهم الميثاقَ الذي أخذ الله عليهم في كتابهم، في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، والإقرار بنبوّته.
ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون، من محاولة صدّ المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة والردى، على جهل منهم بما اللهُ بهمُ محلٌّ من عقوبته، ومدَّخِر لهم من أليم عذابه، فقال تعالى ذكره: « وما يشعرون » أنهم لا يضلون إلا أنفسهم، بمحاولتهم إضلالكم أيها المؤمنون.
ومعنى قوله: « وما يشعرون » ، وما يدرون ولا يعلمون.
وقد بينا تأويل ذلك بشواهده في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته.
القول في تأويل قوله : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ( 70 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « يا أهل الكتاب » ، من اليهود والنصارى « لم تكفرون » ، يقول: لم تجحدون « بآيات الله » ، يعني: بما في كتاب الله الذي أنـزله إليكم على ألسن أنبيائكم، من آيه وأدلته « وأنتم تشهدون » أنه حق من عند ربكم.
وإنما هذا من الله عز وجل، توبيخٌ لأهل الكتابين على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوّته، وهم يجدونه في كتبهم، مع شَهادتهم أن ما في كتبهم حقٌّ، وأنه من عند الله، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون » ، يقول: تشهدون أن نَعتَ محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في كتابكم، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل: النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ .
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون » ، يقول: تشهدون أن نعتَ محمد في كتابكم، ثم تكفرون به ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل: « النبيّ الأميّ » .
حدثني محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون » ، « آيات الله » محمد، وأما « تشهدون » ، فيشهدون أنه الحق، يجدونه مكتوبًا عندهم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: « يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون » أنّ الدين عند الله الإسلام، ليس لله دين غيره.
القول في تأويل قوله : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أهل التوراة والإنجيل « لم تلبسون » ، يقول: لم تخلطون « الحق بالباطل » .
وكان خلطهم الحقّ بالباطل، إظهارهم بألسنتهم من التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، غيرَ الذي في قلوبهم من اليهودية والنصرانية.
كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيِّف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنـزل على محمد وأصحابه غُدْوةً ونكفُر به عشيةً، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنعُ، فيرجعوا عن دينهم! فأنـزل الله عز وجل فيهم: « يا أهل الكتاب لم تلبسون الحقّ بالباطل » إلى قوله: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل » ، يقول: لم تلبسون اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أنّ دين الله الذي لا يقبل غيرَه، الإسلام، ولا يجزي إلا به؟
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله إلا أنه قال: الذي لا يقبل من أحد غيرَه، الإسلامُ ولم يقل: « ولا يجزي إلا به » .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل » ، الإسلامَ باليهودية والنصرانية.
وقال آخرون: في ذلك بما:-
حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل: « لم تلبسون الحق بالباطل » ، قال: « الحقّ » التوراة التي أنـزل الله على موسى، و « الباطل » ، الذي كتبوه بأيديهم.
قال أبو جعفر: وقد بينا معنى « اللبس » فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله : وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 71 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولم تكتمون، يا أهل الكتاب، الحقّ؟
و « الحق » الذي كتموه: ما في كتُبهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه ونبوّته، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وتكتمون الحق وأنتم تعلمون » ، كتموا شأنَ محمد، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وَينهاهم عن المنكر.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وتكتمون الحق وأنتم تعلمون » ، يقول: يكتمون شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « تكتمون الحق » ، الإسلام، وأمرَ محمد صلى الله عليه وسلم « وأنتم تعلمون » أنّ محمدًا رسولُ الله، وأنّ الدين الإسلامُ.
وأما قوله: « وأنتم تعلمون » ، فإنه يعني به: وأنتم تعلمون أنّ الذي تكتمونه من الحق حقّ، وأنه من عند الله. وهذا القول من الله عز وجل، خبرٌ عن تعمُّد أهل الكتاب الكفرَ به، وكتمانِهم ما قد علموا من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وَوَجدوه في كتبهم، وجاءَتهم به أنبياؤهم.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 72 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة المعنى الذي أمرت به هذه الطائفة مَنْ أمرَت به: من الإيمان وجهَ النهار، وكفرٍ آخره.
فقال بعضهم: كان ذلك أمرًا منهم إياهم بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في نبوّته وما جاء به من عند الله، وأنه حق، في الظاهر من غير تصديقه في ذلك بالعزم واعتقاد القلوب على ذلك وبالكفر به وجحود ذلك كله في آخره.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره » ، فقال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضى بدينهم أوّل النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدّقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدَرُ أن يرجعوا عن دينهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قوله: « آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره » ، قال: قالت اليهود: آمنوا معهم أوّل النهار، واكفروا آخره، لعلهم يرجعون معكم.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون » ، كان أحبارُ قُرَى عربيةَ اثني عشر حبرًا، فقالوا لبعضهم: ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا: « نشهد أن محمدًا حقّ صادقٌ » ، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا: « إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم، فحدَّثونا أن محمدًا كاذب، وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم » ، لعلهم يشكّون، يقولون: هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار، فما بالهم؟ فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: قالت اليهود بعضهم لبعض: أسلِموا أول النهار، وارتدُّوا آخره لعلهم يرجعون. فأطلع الله على سرّهم، فأنـزل الله عز وجل: « وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون » .
وقال آخرون: بل الذي أمرَت به من الإيمان: الصلاةُ، وحضورها معهم أول النهار، وتركُ ذلك آخرَه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار » ، يهودُ تقوله. صلَّت مع محمد صلاةَ الصبح، وكفروا آخرَ النهار، مكرًا منهم، ليُرُوا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالةُ، بعد أن كانوا اتَّبعوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار » ، الآية، وذلك أنّ طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم أوّل النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم، لعلهم يقولون: هؤلاء أهلُ الكتاب، وهم أعلم منا! لعلهم ينقلبون عن دينهم، ولا تُؤمنوا إلا لمن تَبع دينكم.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: « وقالت طائفة من أهل الكتاب » ، يعني: من اليهود الذين يقرأون التوراة « آمنوا » صدّقوا « بالذي أنـزل على الذين آمنوا » ، وذلك ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين الحقّ وشرائعه وسننه « وجه النهار » ، يعني: أوّل النهار.
وسمَّى أوّله « وجهًا » له، لأنه أحسنه، وأوّلُ ما يواجه الناظرَ فيراه منه، كما يقال لأول الثوب: « وجهه » ، وكما قال ربيع بن زياد:
مَـنْ كَـانَ مَسْـرُورًا بمَقْتَـلِ مَـالِكٍ فَلْيَــأْتِ نِسْــوَتَنَا بِوَجْــهِ نَهَــارِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وجه النهار » ، أوّلَ النهار.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « وجه النهار » ، أول النهار « واكفروا آخره » ، يقول: آخر النهار.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره ) ، قال قال: صلوا معهم الصبح، ولا تصلّوا معهم آخرَ النهار، لعلكم تستزلُّونهم بذلك.
وأما قوله: « واكفروا آخره » ، فإنه يعني به، أنهم قالوا: واجحدوا ما صدَّقتم به من دينهم في وَجه النهار، في آخر النهار « لعلهم يرجعون » : يعني بذلك: لعلهم يرجعون عن دينهم معكم ويَدَعونه: كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « لعلهم يرجعون » ، يقول: لعلهم يدَعون دينهم، ويرجعون إلى الذي أنتم عليه.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « لعلهم يرجعون » ، لعلهم ينقلبون عن دينهم.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « لعلهم يرجعون » ، لعلهم يشكّون.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: « لعلهم يرجعون » ، قال: يرجعون عن دينهم.
القول في تأويل قوله : وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم فكان يهوديًّا.
وهذا خبر من الله عن قول الطائفة الذين قالوا لإخوانهم من اليهود: « آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار » .
و « اللام » التي في قوله: « لمن تبع دينكم » ، نظيرة « اللام » التي في قوله: عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ ، بمعنى: ردفكم، بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [ سورة النمل: 72 ] .
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم » ، هذا قول بعضهم لبعض.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7247 م - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم » قال: لا تؤمنوا إلا لمن تبع اليهودية.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن يزيد في قوله: « ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم » ، قال: لا تؤمنوا إلا لمن آمن بدينكم، ومَنْ خالفه فلا تؤمنوا له.
القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: قوله: « قل إنّ الهدى هدى الله » ، اعتراضٌ به في وسط الكلام، خبرًا من الله عن أن البيان بيانُه والهدى هُداه. قالوا: وسائرُ الكلام بعدَ ذلك متصلٌ بالكلام الأول، خبرًا عن قِيل اليهود بعضها لبعض. فمعنى الكلام عندهم: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، أو أنْ يحاجُّوكم عند ربكم أي: ولا تؤمنوا أن يحاجّكم أحدٌ عند ربكم. ثم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ، و « إن الهدى هدى الله » .
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم » ، حسدًا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادةَ أن يُتَّبعوا على دينهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون: تأويل ذلك: قل يا محمد: « إن الهدى هدى الله » ، إنّ البيان بيانُ الله « أن يؤتى أحدٌ » ، قالوا: ومعناه: لا يؤتى أحدٌ من الأمم مثل ما أوتيتم، كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [ سورة النساء: 176 ] ، بمعنى: لا تضلون، وكقوله: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ [ سورة الشعراء: 200- 201 ] ، يعني: أن لا يؤمنوا « مثل ما أوتيتم » ، يقول: مثل ما أوتيتَ، أنت يا محمد، وأمتك من الإسلام والهدى « أو يحاجوكم عند ربكم » ، قالوا: ومعنى « أو » : « إلا » ، أيْ: إلا أن « يحاجوكم » ، يعني: إلا أن يجادلوكم عند ربكم عند ما فَعل بهم ربُّكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: « قل إنّ الهدى هُدَى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم » ، يقول، مثل ما أوتيتم يا أمة محمد « أو يحاجوكم عند ربكم » ، تقول اليهود: فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة، حتى أنـزل علينا المن والسلوى فإن الذي أعطيتكم أفضلُ فقولوا: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ، الآية.
فعلى هذا التأويل، جميع هذا الكلام، [ أمرٌ ] من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود، وهو متلاصق بعضه ببعض لا اعتراض فيه. و « الهدى » الثاني ردّ على « الهدى » الأول، و « أن » في موضع رفع على أنه خبر عن « الهدى » .
وقال آخرون: بل هذا أمر من الله نبيَّه أن يقوله لليهود. وقالوا: تأويله: « قل » يا محمد « إن الهدى هُدى الله أن يؤتى أحد » من الناس « مثل ما أوتيتم » ، يقول: مثل الذي أوتيتموه أنتُم يا معشر اليهود من كتاب الله، ومثل نبيكم، فلا تحسدوا المؤمنين على ما أعطيتهم، مثلَ الذي أعطيتكم من فضلي، فإن الفضل بيدي أوتيه من أشاء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « قل إن الهدى هدى الله أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم » ، يقول: لما أنـزل الله كتابًا مثلَ كتابكم، وبعثَ نبيًّا مثل نبيكم، حسدتموهم على ذلك « قلْ إنّ الفضلَ بيد الله » ، الآية.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
وقال آخرون: بل تأويل ذلك: « قل » يا محمد: « إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم » أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله. قالوا: وهذا آخر القول الذي أمرَ الله به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود من هذه الآية. قالوا: وقوله: « أو يحاجوكم » ، مردود على قوله: وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ .
وتأويل الكلام - على قول أهل هذه المقالة - : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فتتركوا الحقَّ: أنّ يحاجُّوكم به عند ربكم من اتبعتم دينه فاخترتموه: أنه محقٌّ، وأنكم تجدون نعته في كتابكم. فيكون حينئذ قوله: « أو يحاجوكم » مردودًا على جواب نهي متروك، على قول هؤلاء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم » ، يقول: هذا الأمر الذي أنتم عليه: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم « أو يحاجوكم عند ربكم » ، قال: قال بعضهم لبعض: لا تخبروهم بما بيَّن الله لكم في كتابه، ليحاجُّوكم قال: ليخاصموكم به عند ربكم « قل إن الهدى هدى الله » .
[ قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون قوله: « قل إن الهدى هُدى الله » ] معترضًا به، وسائر الكلام متَّسِقٌ على سياقٍ واحد. فيكون تأويله حينئذ: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم بمعنى: لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم « أو يحاجوكم عند ربكم » ، بمعنى: أو أن يحاجوكم عند ربكم . . . . . . . . أحد بإيمانكم، لأنكم أكرمُ على الله بما فضلكم به عليهم. فيكون الكلام كله خبرًا عن قول الطائفة التي قال الله عز وجل: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ سوى قوله: « قلُ إن الهدى هدى الله » . ثم يكون الكلامُ مبتدأ بتكذيبهم في قولهم: « قل » ، يا محمد، للقائلين ما قولوا من الطائفة التي وصفتُ لك قولها لتُبَّاعها من اليهود « إن الهدى هدى الله » ، إن التوفيق توفيقُ الله والبيانَ بيانُه، « وإن الفضل بيده يؤتيه من يشاء » لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود.
وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها، لأنه أصحها معنًى، وأحسنُها استقامةً، على معنى كلام العرب، وأشدُّها اتساقًا على نظم الكلام وسياقه. وما عدا ذلك من القول، فانتزاع يبعُد من الصحة، على استكراه شديدٍ للكلام.
القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 73 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « قل » يا محمد، لهؤلاء اليهود الذين وصفتُ قولهم لأوليائهم « إنّ الفضل بيد الله » ، إنّ التوفيق للإيمان والهدايةَ للإسلام، بيد الله وإليه، دونكم ودون سائر خلقه « يؤتيه من يشاء » من خلقه، يعني: يعطيه من أراد من عباده، تكذيبًا من الله عز وجل لهم في قولهم لتُبّاعهم: « لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم » . فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: ليس ذلك إليكم، إنما هو إلى الله الذي بيده الأشياء كلها، وإليه الفضل، وبيده، يُعطيه من يشاء « والله واسع عليم » ، يعني: والله ذُو سعةٍ بفضله على من يشاء أن يتفضل عليه « عليم » ، ذو علم بمن هو منهم للفضل أهل.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قراءةً، عن ابن جريج في قوله: « قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء » ، قال: الإسلام.
القول في تأويل قوله : يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 74 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: « يختص برحمته من يشاء » ، « يفتعل » من قول القائل: « خصصت فلانًا بكذا، أخُصُّه به » .
وأما « رحمته » ، في هذا الموضع، فالإسلام والقرآن، مع النبوّة، كما:-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « يختص برحمته من يشاء » ، قال: النبوّة، يخصُّ بها من يشاء.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « يختص برحمته من يشاء » ، قال: يختص بالنبوة من يشاء.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قراءةً، عن ابن جريج: « يختص برحمته من يشاء » ، قال: القرآن والإسلام.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج مثله.
« والله ذو الفضل العظيم » ، يقول: ذو فضل يتفضَّل به على من أحبّ وشاء من خلقه. ثم وصف فضله بالعِظَم فقال: « فضله عظيم » ، لأنه غير مشبهه في عِظَم موقعه ممن أفضله عليه [ فضلٌ ] من إفضال خلقه، ولا يقاربه في جلالة خطره ولا يُدانيه.
القول في تأويل قوله : وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل: أنّ من أهل الكتاب - وهم اليهود من بني إسرائيل - أهلَ أمانة يؤدُّونها ولا يخونونها، ومنهم الخائن أمانته، الفاجرُ في يمينه المستحِلُّ.
فإن قال قائل: وما وجه إخبار الله عز وجل بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وقد علمتَ أنّ الناس لم يزالوا كذلك: منهم المؤدِّي أمانته والخائنُها؟
قيل: إنما أراد جل وعز بإخباره المؤمنين خبرَهم - على ما بينه في كتابه بهذه الآيات - تحذيرَهم أن يأتمنوهم على أموالهم، وتخويفهم الاغترارَ بهم، لاستحلال كثير منهم أموالَ المؤمنين.
فتأويل الكلام: ومن أهل الكتاب الذي إنْ تأمنه، يا محمد، على عظيم من المال كثير، يؤدِّه إليك ولا يخنْك فيه، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنْك فيه فلا يؤدِّه إليك، إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة.
و « الباء » في قوله: « بدينار » و « على » يتعاقبان في هذا الموضع، كما يقال: « مررت به، ومررت عليه » .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « إلا ما دمت عليه قائمًا » .
فقال بعضهم: « إلا ما دمت له متقاضيًا » .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « إلا ما دمت عليه قائمًا » ، إلا ما طلبته واتبعته.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « إلا ما دمت عليه قائمًا » ، قال: تقتضيه إياه.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « إلا ما دمت عليه قائمًا » ، قال: مواظبًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: « إلا ما دمتَ قائمًا على رأسه » .
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « إلا ما دمت عليه قائمًا » ، يقول: يعترف بأمانته ما دمت قائمًا على رأسه، فإذا قمتَ ثم جئت تطلبهُ كافرك الذي يؤدِّي، والذي يجحد.
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: « معنى ذلك: إلا ما دمت عليه قائمًا بالمطالبة والاقتضاء » . من قولهم: « قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي » ، أي عمل في تخليصه، وسَعى في استخراجه منه حتى استخرجه. لأن الله عز وجل إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين، وأنّ منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة. وليس القيام على رأس الذي عليه الدين، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحلّ، ولكن قد يكون - مع استحلاله الذهابَ بما عليه لربّ الحقّ - إلى استخراجه السبيلُ بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة. فذلك الاقتضاء، هو قيام ربِّ المال باستخراج حقه ممن هو عليه.
القول في تأويل قوله : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ من استحلّ الخيانةَ من اليهود، وجحودَ حقوق العربيّ التي هي له عليه، فلم يؤدّ ما ائتمنه العربيُّ عليه إلا ما دامَ له متقاضيًا مطالبًا من أجل أنه يقول: لا حرَج علينا فيما أصبنا من أموال العرب ولا إثم، لأنهم على غير الحق، وأنهم مشركون.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو قولنا فيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل » الآية، قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيلٌ.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ليس علينا في الأميين سبيل » ، قال: ليس علينا في المشركين سبيل يعنون من ليس من أهل الكتاب.
حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل » ، قال: يقال له: ما بالك لا تؤدِّي أمانتك؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلَّها الله لنا! !
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: لما نـزلت « وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ » ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبَ أعداءُ الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ إلى البر والفاجر.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام بن عبيد الله، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: لما قالت اليهود: « ليس علينا في الأميين سبيل » ، يعنون أخذَ أموالهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه إلا أنه قال: إلا وهو تحت قدميّ هاتين، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ ولم يزد على ذلك.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ » ، وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون: ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء، لأنهم أمِّيُّون. فذلك قوله: ( ليس علينا في الأميين سبيل ) ، إلى آخر الآية.
وقال آخرون في ذلك، ما:-
حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل » ، قال: بايع اليهودَ رجالٌ من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم ثمنَ بُيوعهم، فقالوا: ليس لكم علينا أمانةٌ، ولا قضاءَ لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه! قال: وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، فقال الله عز وجل: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صعصعة قال: قلت لابن عباس: إنا نغزو أهلَ الكتاب فنصيبُ من ثمارهم؟ قال: وتقولون كما قال أهلُ الكتاب: « ليس علينا في الأميين سبيل!! »
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن صعصعة: أن رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزْو أو: [ العذق ] ، الشك من الحسن من أموال أهل الذمة الدجاجةَ والشاة، فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا بذلك بأس! قال: هذا كما قال أهل الكتاب: « ليس علينا في الأميين سبيل » ! إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيِب أنفسهم.
القول في تأويل قوله : وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 75 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن القائلين منهم: « ليس علينا في أموال الأميين من العرب حَرَجٌ أن نختانهم إياه » ، يقولون بقيلهم إنّ الله أحل لنا ذلك، فلا حرجَ علينا في خيانتهم إياه، وترك قضائهم الكذبَ على الله عامدين الإثمَ بقيل الكذب على الله، إنه أحلّ ذلك لهم. وذلك قوله عز وجل: « وهم يعلمون » ، كما:-
حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فيقول على الله الكذب وهو يعلم يعني الذي يقول منهم - إذا قيل له: ما لك لا تؤدي أمانتك؟ - : ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلها الله لنا!
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: « ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون » ، يعني: ادّعاءهم أنهم وجدُوا في كتابهم قولهم: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ .
القول في تأويل قوله : بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( 76 )
قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله عز وجل عمَّا لمنْ أدَّى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبتَه، عنده. فقال جل ثناؤه: ليس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود، من أنه ليس عليهم في أموَال الأميين حرج ولا إثم، ثمّ قال: بلى، ولكن من أوفى بعهده واتقى - يعني: ولكن الذي أوفى بعهده، وذلك وصيته إياهم التي أوصاهم بها في التوراة، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به.
و « الهاء » في قوله: « من أوفى بعهده » ، عائدة على اسم « الله » في قوله: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ .
يقول: بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه، فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصَدّق به وبما جاء به من الله، من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها، وغير ذلك من أمر الله ونهيه « واتقى » ، يقول: واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به، وسائر معاصيه التي حرّمها عليه، فاجتنبَ ذلك مراقبةَ وعيد الله وخوفَ عقابه « فإنّ الله يحبّ المتقين » ، يعني: فإن الله يحب الذين يتقونه فيخافون عقابه ويحذرون عذابه، فيجتنبون ما نهاهم عنه وحرّمه عليهم، ويطيعونه فيما أمرهم به.
وقد روى عن ابن عباس أنه كان يقول: هو اتقاء الشرك.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « بلى من أوفى بعهده واتقى » يقول: اتقى الشرك « فإنّ الله يحب المتقين » ، يقول: الذين يتقون الشرك.
وقد بينا اختلافَ أهل التأويل في ذلك والصوابَ من القول فيه، بالأدلة الدّالة عليه، فيما مضى من كتابنا، بما فيه الكفاية عن إعادته.
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 77 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين يستبدلون - بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم، ووصيته التي أوصاهم بها في الكتب التي أنـزلها الله إلى أنبيائه، باتباع محمد وتصديقه والإقرار به وما جاء به من عند الله - وبأيمانهم الكاذبة التي يستحلون بها ما حرّم الله عليهم من أموال الناس التي ائتمنوا عليها « ثمنًا » ، يعني عوضًا وبدلا خسيسًا من عرض الدنيا وحُطامها « أولئك لا خلاق لهم في الآخرة » ، يقول: فإن الذين يفعلون ذلك لا حظ لهم في خيرات الآخرة، ولا نصيب لهم من نعيم الجنة وما أعدّ الله لأهلها فيها دون غيرهم.
وقد بينا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في معنى « الخلاق » ، ودللنا على أولى أقوالهم في ذلك بالصواب، بما فيه الكفاية.
وأما قوله: « ولا يكلمهم الله » ، فإنه يعني: ولا يكلمهم الله بما يسرُّهم « ولا ينظر إليهم » ، يقول: ولا يعطف عليهم بخير، مقتًا من الله لهم، كقول القائل لآخر: « انظُر إليّ نَظر الله إليك » ، بمعنى: تعطف عليّ تعطّف الله عليك بخير ورحمة وكما يقال للرجل: « لا سمع الله لك دعاءَك » ، يراد: لا استجاب الله لك، والله لا يخفى عليه خافية، وكما قال الشاعر:
دَعَــوْتُ اللــهَ حَـتى خِـفْتُ أَنْ لا يَكْــونَ اللــهُ يَسْــمَعُ مَـا أَقُـولُ
وقوله « ولا يُزكيهم » ، يعني: ولا يطهرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم « ولهم عذاب أليم » ، يعني: ولهم عذابٌ موجع.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنـزلت هذه الآية، ومن عني بها.
فقال بعضهم نـزلت في أحبار من أحبار اليهود.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: نـزلت هذه الآية: « إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » ، في أبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحُييّ بن أخطب.
وقال آخرون: بل نـزلت في الأشعث بن قيس وخصم له.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من حَلف على يمين هو فيها فاجرٌ ليقتطع بها مالَ امرئ مسلم، لقيَ اللهَ وهو عليه غضبان فقال الأشعث بن قيس: فيّ والله كان ذلك: كان بيني وبين رجل من اليهود أرضٌ فجحدني، فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك بيِّنة؟ قلت: لا! فقال لليهودي: » احلفْ. قلت: يا رسول الله، إذًا يحلف فيذهبَ مالي! فأنـزل الله عز وجل: « إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » الآية.
حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جرير بن حازم، عن عدي بن عدي، عن رجاء بن حيوة والعُرس أنهما حدثاه، عن أبيه عدي بن عميرة قال: كان بين امرئ القيس ورجل من حضرموت خصومةٌ، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للحضرمي: « بيِّنَتَك، وإلا فيمينه » . قال: يا رسول الله، إن حلف ذهب بأرضي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حقّ أخيه ، لقي الله وهو عليه غضبان. فقال امرؤ القيس: يا رسول الله، فما لمن تركها، وهو يعلم أنها حقّ؟ قال: الجنة. قال: فإني أشهدك أني قد تركتها قال جرير: فكنت مع أيوب السختياني حين سمعنا هذا الحديث من عدي، فقال أيوب: إنّ عديًّا قال في حديث العُرْس بن عميرة: فنـزلت هذه الآية: « إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » إلى آخر الآية قال جرير: ولم أحفظ يومئذ من عدي.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال آخرون: إن الأشعث بن قيس اختصم هو ورجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض كانت في يده لذلك الرجل، أخذها لتعزُّزه في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أقم بينتك. قال الرجل: ليس يشهد لي أحدٌ على الأشعث! قال: فلك يمينه. فقام الأشعث ليحلف، فأنـزل الله عز وجل هذه الآية، فنكلَ الأشعَث وقال: إني أشهد الله وأشهدكم أنّ خصمي صادق. فرد إليه أرضَه، وزاده من أرض نفسه زيادةً كثيرةً، مخافة أن يبقى في يده شيء من حقه، فهي لعقب ذلك الرجل بعده. »
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن شقيق، عن عبد الله قال: من حلف على يمين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه غضبان، ثم أنـزل الله تصديق ذلك: « إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » الآية. ثم إن الأشعث بن قيس خَرَج إلينا فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه بما قال، فقال: صَدَق، لفيَّ أنـزلت! كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « شاهداك أو يمينه. فقلت: إذًا يحلف ولا يُبالي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: » من حلف على يمين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه غضبان « ، ثم أنـزل الله عز وجل تصديقَ ذلك: » إنّ الذين يشترُون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا « ، الآية. »
وقال آخرون بما:-
حدثنا به محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب قال، أخبرني داود بن أبي هند، عن عامر: أنّ رجلا أقام سِلعته أوّل النهار، فلما كان آخرُه جاء رجل يساومه، فحلفَ لقد منعها أوّل النهار من كذا وكذا، ولولا المساء ما باعها به، فأنـزل الله عز وجل: « إن الذي يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » .
حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن رجل، عن مجاهد نحوه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا ) الآية، إلى: « ولهم عذاب أليم » ، أنـزلهم الله بمنـزلة السَّحَرة.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن عمران بن حصين كان يقول: من حَلفَ على يمين فاجرة يقتطع بها مالَ أخيه، فليتبوَّأ مقعده من النار. فقال له قائل: شيءٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لهم: إنكم لتجدون ذلك. ثم قرأ هذه الآية: « إنّ الذين يشترُون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » الآية.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام قال، قال محمد، عن عمران بن حصين: من حلف على يمين مَصْبورَة فليتبوّأ بوجهه مقعده من النار. ثم قرأ هذه الآية كلها: « إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: إن اليمين الفاجرة من الكبائر. ثم تلا « إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا » .
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، أن عبد الله بن مسعود كان يقول: كنا نَرى ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ من الذنب الذي لا يُغفر: يمين الصَّبر، إذا فجر فيها صاحبها.
القول في تأويل قوله : وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 78 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإنّ من أهل الكتاب وهم اليهود الذين كانوا حَوالي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده، من بني إسرائيل.
و « الهاء والميم » في قوله: « منهم » ، عائدة على أَهْلِ الْكِتَابِ الذين ذكرهم في قوله: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ .
وقوله « لفريقًا » ، يعني: جماعة « يلوون » ، يعني: يحرِّفون « ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب » ، يعني: لتظنوا أن الذي يحرّفونه بكلامهم من كتاب الله وتنـزيله. يقول الله عز وجل: وما ذلك الذي لوَوْا به ألسنتهم فحرّفوه وأحدثوه من كتاب الله، ويزعمون أن ما لووا به ألسنتهم من التحريف والكذب والباطل فألحقوه في كتاب الله « من عند الله » ، يقول: مما أنـزله الله على أنبيائه « وما هو من عند الله » ، يقول: وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم فأحدثوه، مما أنـزله الله إلى أحد من أنبيائه، ولكنه مما أحدثوه من قِبَل أنفسهم افتراء على الله.
يقول عز وجل: « ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون » ، يعني بذلك: أنهم يتعمدون قِيلَ الكذب على الله، والشهادة عليه بالباطل، والإلحاقَ بكتاب الله ما ليس منه، طلبًا للرياسة والخسيس من حُطام الدنيا.
وبنحو ما قلنا في معنى « يلوون ألسنتهم بالكتاب » ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب » ، قال: يحرفونه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب » ، حتى بلغ: « وهم يعلمون » ، هم أعداء الله اليهود، حرَّفوا كتابَ الله، وابتدعوا فيه، وزعموا أنه من عند الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: « وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب » ، وهم اليهود، كانوا يزيدون في كتاب الله ما لم ينـزل اللهُ.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « وإن منهم لفريقًا يلوونَ ألسنتهم بالكتاب » ، قال: فريقٌ من أهل الكتاب « يلوون ألسنتهم » ، وذلك تحريفهم إياه عن موضعه.
قال أبو جعفر: وأصل « الليّ » ، الفَتْل والقلب. من قول القائل: « لوَى فلانٌ يدَ فلان » ، إذا فَتلها وقَلبها، ومنه قول الشاعر:
لَوَى يَدَهُ اللهُ الَّذِي هُوَ غَالِبُهْ
يقال منه: « لوى يدَه ولسانه يلوي ليًّا » « وما لوى ظهر فلان أحد » ، إذا لم يصرعه أحدٌ، ولم يَفتل ظهره إنسان « وإنه لألوَى بعيدُ المستمر » ، إذا كان شديد الخصومة، صابرًا عليها، لا يُغلب فيها، قال الشاعر:
فَلَـوْ كَـانَ فِـي لَيْلَى شَدًا مِنْ خُصُومَةٍ لَلَــوَّيْتُ أَعْنَـاقَ الخُـصُومِ المَلاوِيَـا
القول في تأويل قوله : مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما ينبغي لأحد من البشر.
و « البشر » جمع بني آدم لا واحد له من لفظه مثل: « القوم » و « الخلق » . وقد يكون اسمًا لواحد « أن يؤتيه الله الكتاب » يقول: أن ينـزل الله عليه كتابه « والحكم » يعني: ويعلمه فصْل الحكمة « والنبوة » ، يقول: ويعطيه النبوّة « ثم يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله » ، يعني: ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله، وقد آتاه الله ما آتاه من الكتاب والحكم والنبوة. ولكن إذا آتاه الله ذلك، فإنما يدعوهم إلى العلم بالله، ويحدوهم على معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا رؤساء في المعرفة بأمر الله ونهيه، وأئمةً في طاعته وعبادته، بكونهم معلِّمي الناس الكتاب، وبكونهم دَارِسيه.
وقيل: إنّ هذه الآية نـزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتدعونا إلى عبادتك؟ كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك، كما تعبد النصارَى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرِّبِّيس: أوَ ذاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعونا! أو كما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذَ الله أن نَعبُد غيرَ الله، أو نأمر بعبادة غيره! ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني أو كما قال. فأنـزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: « ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة » ، الآية إلى قوله: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي، فذكر نحوه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله » ، يقول: ما كان ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوةَ، يأمر عبادَه أن يتخذوه ربًّا من دون الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كان ناس من يهود يتعبَّدون الناسَ من دون ربهم، بتحريفهم كتابَ الله عن موضعه، فقال الله عز وجل: « ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقولَ للناس كونوا عبادًا لي من دون الله » ، ثم يأمر الناس بغير ما أنـزل الله في كتابه.
القول في تأويل قوله : وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: « ولكن » يقول لهم: « كونوا ربانيين » ، فترك « القول » ، استغناء بدلالة الكلام عليه.
وأما قوله: « كونوا ربانيين » ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: كونوا حكماء علماء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين: « كونوا ربانيين » ، قال: حكماء علماء.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين: « كونوا ربانيين » ، قال: حكماء علماء.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبي رزين مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي رزين: « ولكن كونوا ربانيين » ، حكماء علماء.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله: « كونوا ربانيين » ، قال: كونوا فقهاء علماء.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « كونوا ربانيين » ، قال: فقهاء.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال أخبرني القاسم، عن مجاهد قوله: « ولكن كونوا ربانيين » ، قال: فقهاء.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولكن كونوا ربانيين » ، قال: كونوا فقهاء علماء.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن منصور بن المعتمر، عن أبي رزين في قوله: « كونوا ربانيين » ، قال: علماء حكماء قال معمر: قال قتادة.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: « كونوا ربانيين » ، أما « الربانيون » ، فالحكماء الفقهاء.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: « الربانيون » ، الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « ولكن كونوا ربانيين » ، يقول: كونوا حكماء فقهاء.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي حمزة الثمالي، عن يحيى بن عقيل في قوله: الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ [ سورة المائدة: 63 ] ، قال: الفقهاء العلماء.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس مثله.
حدثني ابن سنان القزاز قال، حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال، حدثنا أبو كدينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: « كونوا ربانيين » ، قال: كونوا حكماء فقهاء.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « كونوا ربانيين » ، يقول: كونوا فقهاء علماء.
وقال آخرون: بل هم الحكماء الأتقياء.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قوله: « كونوا ربانيين » ، قال: حكماء أتقياء.
وقال آخرون: بل هم ولاة الناس وقادتهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله: « كونوا ربانيين » ، قال: الربانيون: الذين يربُّون الناس، ولاة هذا الأمر، يرُبُّونهم: يلونهم. وقرأ: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ [ سورة المائدة: 63 ] ، قال: الربانيون: الولاة، والأحبار العلماء.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب في « الربانيين » أنهم جمع « رباني » ، وأن « الرباني » المنسوب إلى « الرَّبَّان » ، الذي يربُّ الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم، و « يربّها » ، ويقوم بها، ومنه قول علقمة بن عبدة:
وَكُـنْتُ امْـرَأً أَفْضَـتْ إلَيْـكَ رِبَابَتي وَقَبْلَــكَ رَبَّتْنـي, فَضِعْـتُ, رُبُـوبُ
يعني بقوله: « ربتني » : ولي أمري والقيامَ به قبلك من يربه ويصلحه، فلم يصلحوه، ولكنهم أضاعوني فضعتُ.
يقال منه: « رَبَّ أمري فلان، فهو يُربُّه رَبًّا، وهو رَابُّه » . فإذا أريد به المبالغة في مدْحه قيل: « هو ربّان » ، كما يقال: « هو نعسان » من قولهم: « نعَس يَنعُس » . وأكثر ما يجيء من الأسماء على « فَعْلان » ما كان من الأفعال ماضيه على « فَعِل » مثل قولهم: « هو سكران، وعطشان، وريان » من « سَكِر يسكَر، وعطِش يعطَش، ورَوي يرْوَى » . وقد يجيء مما كان ماضيه على « فَعَل يَفعُل » ، نحو ما قلنا من « نَعَس يَنعُس » و « ربَّ يَرُبّ » .
فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وكان « الربَّان » ما ذكرنا، و « الربّاني » هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفتُ وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين، يَرُبّ أمورَ الناس، بتعليمه إياهم الخيرَ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم وكان كذلك الحكيمُ التقيُّ لله، والوالي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وَليه المقسطون من المصْلحين أمورَ الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاحُ عاجلهم وآجلهم، وعائدةُ النفع عليهم في دينهم، ودنياهم كانوا جميعًا يستحقون أن [ يكونوا ] ممن دَخل في قوله عز وجل: « ولكن كونوا ربانيين » .
ف « الربانيون » إذًا، هم عمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد: « وهم فوق الأحبار » ، لأن « الأحبارَ » هم العلماء، و « الرباني » الجامعُ إلى العلم والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دُنياهم ودينهم.
القول في تأويل قوله : بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ( 79 )
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز وبعض البصريين: ( بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) بفتح « التاء » وتخفيف « اللام » ، يعني: بعلمكم الكتابَ ودراستكم إياه وقراءتكم.
واعتلُّوا لاختيارهم قراءة ذلك كذلك، بأن الصواب كذلك، لو كان التشديد في « اللام » وضم « التاء » لكان الصواب في: « تدرسون » ، بضم « التاء » وتشديد « الراء » .
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ ) بضم « التاء » من « تعلمون » ، وتشديد « اللام » ، بمعنى: بتعليمكم الناسَ الكتابَ ودراستكم إياه.
واعتلوا لاختيارهم ذلك، بأن مَنْ وصفهم بالتعليم، فقد وصفهم بالعلم، إذ لا يعلِّمون إلا بعد علمهم بما يعلِّمون. قالوا: ولا موصوف بأنه « يعلم » ، إلا وهو موصوف بأنه « عالم » . قالوا: فأما الموصوف بأنه « عالم » ، فغير موصوف بأنه معلِّم غيره. قالوا: فأولى القراءتين بالصواب أبلغهما في مدح القوم، وذلك وصفهم بأنهم كانوا يعلمون الناسَ الكتابَ، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج، عن مجاهد أنه قرأ: « بما كنتم تَعلَمون الكتابَ وبما كنتم تَدْرسون » ، مخففةً بنصب « التاء » وقال ابن عيينة: ما علَّموه حتى علِموه!
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءة من قرأه بضم « التاء » وتشديد « اللام » . لأن الله عز وجل وصف القوم بأنهم أهل عمادٍ للناس في دينهم ودنياهم، وأهل إصلاح لهم ولأمورهم وتربية.
يقول جل ثناؤه: « ولكن كونوا ربانيين » ، على ما بينا قبل من معنى « الرباني » ، ثم أخبر تعالى ذكره عنهم أنهم صاروا أهل إصلاح للناس وتربية لهم بتعليمهم إياهم كتابَ ربِّهم.
و « دراستهم » إياه: تلاوته.
وقد قيل: « دراستهم » ، الفقه.
وأشبه التأويلين بالدراسة ما قلنا: من تلاوة الكتاب، لأنه عطف على قوله: « تعلمون الكتاب » ، « والكتاب » هو القرآن، فلأنْ تكون الدراسة معنيًّا بها دراسة القرآن، أولى من أن تكون معنيًّا بها دراسة الفقه الذي لم يجرِ له ذكرٌ.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، قال يحيى بن آدم قال، أبو زكريا: كان عاصم يقرأها: ( بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ ) ، قال: القرآن ( وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ) ، قال: الفقه.
فمعنى الآية: ولكن يقول لهم: كونوا، أيها الناس، سادة الناس، وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم، ربَّانيِّين بتعليمكم إياهم كتاب الله وما فيه من حلال وحرام، وفرض وندب، وسائر ما حواه من معاني أمور دينهم، وبتلاوتكم إياه ودراسَتِكموه.
القول في تأويل قوله : وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 80 )
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: « ولا يأمركم » .
فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة: ( وَلا يَأْمُرُكُمْ ) ، على وجه الابتداء من الله بالخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأمركم، أيها الناس، أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا. واستشهد قارئو ذلك كذلك بقراءة ذكروها عن ابن مسعود أنه كان يقرؤها، وهي: ( « وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ » ) ، فاستدلوا بدخول « لن » ، على انقطاع الكلام عما قبله، وابتداء خبر مستأنف. قالوا: فلما صير مكان « لن » في قراءتنا « لا » ، وجبت قراءَته بالرفع.
وقرأه بعض الكوفيين والبصريين: ( وَلا يَأْمُرَكُمْ ) ، بنصب « الراء » ، عطفًا على قوله: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ . وكان تأويله عندهم: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب، ثم يقولَ للناس، ولا أن يأمرَكم بمعنى: ولا كان له أن يأمرَكم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك: « ولا يأمرَكم » ، بالنصب على الاتصال بالذي قبله، بتأويل: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتابَ والحكمَ والنبوةَ، ثم يقولَ للناس كونوا عبادًا لي من دون الله ولا أنْ يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا. لأن الآية نـزلت في سبب القوم الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتريد أن نعبدك » ؟ فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه ليس لنبيّه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناسَ إلى عبادة نفسه، ولا إلى اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا. ولكن الذي له: أنْ يدعوهم إلى أن يكونوا ربانيين.
فأما الذي ادَّعى من قرأ ذلك رفعًا، أنه في قراءة عبد الله: « ولن يأمركم » استشهادًا لصحة قراءته بالرفع، فذلك خبر غيرُ صحيح سَنَده، وإنما هو خبر رواه حجاج، عن هارون الأعور أنّ ذلك في قراءة عبد الله كذلك. ولو كان ذلك خبرًا صحيحًا سنده، لم يكن فيه لمحتجٍّ حجة. لأن ما كان على صحته من القراءة من الكتاب الذي جاءَ به المسلمون وراثةً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، لا يجوز تركه لتأويلٍ على قراءة أضيفت إلى بعض الصحابة، بنقل من يجوز في نقله الخطأ والسهو.
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: وما كان للنبي أن يأمركم، أيها الناس، « أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا » يعني بذلك آلهة يعبدون من دون الله ، كما ليس له أن يقول لهم: كونوا عبادًا لي من دون الله.
ثم قال جل ثناؤه نافيًا عن نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يأمرَ عباده بذلك : « أيأمُركم بالكفر » ، أيها الناس، نبيُّكم، بجحود وحدانية الله « بعد إذ أنتم مسلمون » ، يعني: بعد إذ أنتم له منقادون بالطاعة، متذللون له بالعبودة أي أن ذلك غير كائن منه أبدًا. وقد:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: « ولا يأمركم » النبيُّ صلى الله عليه وسلم « أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربايًا » .
القول في تأويل قوله : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا، يا أهل الكتاب، « إذ أخذ الله ميثاق النبيين » ، يعني: حين أخذ الله ميثاق النبيين « وميثاقهم » ، ما وثقوا به على أنفسهم طاعةَ الله فيما أمرهم ونهاهم.
وقد بينا أصل « الميثاق » باختلاف أهل التأويل فيه، بما فيه الكفاية.
: « لما آتيتكم من كتاب وحكمة » ، فاختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق ( لَمَا آتَيْتُكُمْ ) بفتح « اللام » من « لما » ، إلا أنهم اختلفوا في قراءة: « آتيتكم » .
فقرأه بعضهم: « آتيتكم » على التوحيد.
وقرأه آخرون: ( آتينَاكم ) على الجمع.
ثم اختلف أهل العربية إذا قرئ ذلك كذلك.
فقال بعض نحويي البصرة: « اللام » التي مع « ما » في أول الكلام « لام الابتداء » ، نحو قول القائل: « لزيدٌ أفضل منك » ، لأن « ما » اسم، والذي بعدها صلة لها، « واللام » التي في: « لتؤمنن به ولتنصرنه » ، لام القسم، كأنه قال: والله لتؤمنن به يؤكد في أول الكلام وفي آخره، كما يقال: « أما والله أن لو جئتني لكان كذا وكذا » ، وقد يستغنى عنها. فوكَّد في: « لتؤمنن به » ، باللام في آخر الكلام. وقد يستغنى عنها، ويجعل خبر « ما آتيتكم من كتاب وحكمة » « لتؤمنن به » . مثل: « لعبد الله والله لتأتينَّه » . قال: وإن شئت جعلت خبر « ما » « من كتاب » ، يريد: لما آتيتكم، كتابٌ وحكمة وتكون « من » زائدة.
وخطّأ بعضُ نحويي الكوفيين ذلك كله وقال: « اللام » التي تدخل في أوائل الجزاء، تجابُ بجوابات الأيمان، يقال: « لَمَن قام لآتينّه » ، « ولَمَن قام ما أحسن » ، فإذا وقع في جوابها « ما » و « لا » ، علم أن اللام ليست بتوكيد للأولى، لأنه يوضع موضعها « ما » و « لا » ، فتكون كالأولى، وهي جواب للأولى. قال: وأما قوله: « لما آتيتكم من كتاب وحكمة » ، بمعنى إسقاط « من » ، غلطٌ. لأن « منْ » التي تدخل وتخرج، لا تقع مواقع الأسماء، قال: ولا تقع في الخبر أيضًا، إنما تقع في الجحد والاستفهام والجزاء.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل هذه الآية - على قراءة من قرأ ذلك بفتح « اللام » - بالصواب: أن يكون قوله: « لما » بمعنى « لمهما » ، وأن تكون « ما » حرف جزاء أدخلت عليها « اللام » ، وصيِّر الفعل معها على « فَعَل » ، ثم أجيبت بما تجاب به الأيمان، فصارت « اللام » الأولى يمينًا، إذ تُلقِّيت بجواب اليمين.
وقرأ ذلك آخرون: ( لِمَا آتَيْتكُمْ ) « بكسر » اللام « من » لما « ، وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة. »
ثم اختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معناه إذا قرئ كذلك: وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين للذي آتيتكم فـ « ما » على هذه القراءة. بمعنى « الذي » عندهم. وكان تأويل الكلام: وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ثم « جاءكم رسول » ، يعني: ثم إنْ جاءكم رسول، يعني: ذكر محمد في التوراة « لتؤمنن به » ، أي: ليكونن إيمانكم به، للذي عندكم في التوراة من ذكره.
وقال آخرون منهم: تأويل ذلك إذا قرئ بكسر « اللام » من « لما » : وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين، للذي آتاهم من الحكمة. ثم جعل قوله: « لتؤمنن به » من الأخذِ أخذِ الميثاق. كما يقال في الكلام: « أخذتُ ميثاقك لتفعلن » . لأن أخذ الميثاق بمنـزلة الاستحلاف. فكان تأويل الكلام عند قائل هذا القول: وإذ استحلف الله النبيين للذي آتاهم من كتاب وحكمة، متى جاءهم رسولٌ مصدق لما معهم، ليؤمننّ به ولينصرنه.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءةُ من قرأ: « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم » ، بفتح « اللام » . لأن الله عز وجل أخذ ميثاقَ جميع الأنبياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلى خلقه فيما ابتعثه به إليهم، كان ممن آتاه كتابًا أو ممن لم يؤته كتابًا. وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبياء الله عز وجل ورسله، بأنه كان ممن أبيح له التكذيب بأحد من رسله. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أن منهم من أنـزل عليه الكتابَ، وأنّ منهم من لم ينـزل عليه الكتاب كان بينًا أن قراءة من قرأ ذلك: « لمِا آتيتكم » ، بكسر « اللام » ، بمعنى: من أجل الذي آتيتكم من كتاب، لا وجه له مفهومٌ إلا على تأويل بعيد، وانتزاع عميق.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن أخذ ميثاقه بالإيمان بمن جاءه من رُسل الله مصدّقًا لما معه.
فقال بعضهم: إنما أخذ الله بذلك ميثاقَ أهل الكتاب دون أنبيائهم. واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله: « لتؤمنن به ولتنصرنه » . قالوا: فإنما أمر الذين أرسلت إليهم الرّسل من الأمم بالإيمان برسل الله ونُصْرتها على من خالفها. وأما الرسل، فإنه لا وجه لأمرها بنصرة أحد، لأنها المحتاجةُ إلى المعونة على من خالفها من كفَرة بني آدم. فأما هي، فإنها لا تعين الكفرة على كفرها ولا تنصرها. قالوا: وإذا لم يكن غيرُها وغيرُ الأمم الكافرة، فمن الذي ينصر النبي، فيؤخذ ميثاقه بنصرته؟
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة » ، قال: هي خطأ من الكاتب، وهي في قراءة ابن مسعود: « وإذ أخذَ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب » .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين » ، يقول: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، وكذلك كان يقرؤها الربيع: « وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب » ، إنما هي أهل الكتاب. قال: وكذلك كان يقرأها أبي بن كعب. قال الربيع: ألا ترى أنه يقول: « ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه؟ يقول: لتؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولتنصرنه. قال: هم أهل الكتاب. »
وقال آخرون: بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك، الأنبياءُ دون أممها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى وأحمد بن حازم قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين » ، أن يصدّق بعضُهم بعضًا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم » الآية، قال: أخذ الله ميثاق الأوَل من الأنبياء، ليصدقن وليؤمنن بما جَاء به الآخِرُ منهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف بن عُمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب قال: لم يبعث الله عز وجل نبيًّا، آدمَ فمن بعدَه - إلا أخذ عليه العهدَ في محمد: لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرَنّه ويأمرُه فيأخذ العهدَ على قومه، فقال: « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة » ، الآية.
حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب » ، الآية: هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدق بعضُهم بعضًا، وأن يبلِّغوا كتاب الله ورسالاته، فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم - فيما بلَّغتهم رُسلهم - أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدّقوه وينصروه.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة » ، الآية. قال: لم يبعث الله عز وجل نبيًّا قطُّ من لدُنْ نوح، إلا أخذ ميثاقه ليؤمننّ بمحمد ولينصرنَّه إن خَرَج وهو حيّ، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به ولينصرُنَّه إن خَرَج وهم أحياء.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور قال، سألت الحسن عن قوله: « وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة » ، الآية كلها، قال: أخذ الله ميثاق النبيين: ليبلِّغن آخرُكم أولكم، ولا تختلفوا.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه أخذ ميثاق النبيين وأممهم فاجتزأ بذكر الأنبياء عن ذكر أممها، لأن في ذكر أخذ الميثاق على المتبوع، دلالةٌ على أخذه على التبَّاع، لأن الأمم هم تُبَّاعُ الأنبياء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ثم ذكر ما أخذ عليهم - يعني على أهل الكتاب - وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه - يعني بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم - إذا جاءَهم، وإقرارهم به على أنفسهم. فقال: « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة » إلى آخر الآية.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس مثله.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: الخبرُ عن أخذ الله الميثاقَ من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضًا، وأخذ الأنبياء على أممها وتُبَّاعها الميثاقَ بنحو الذي أخذَ عليها ربُّها من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به لأن الأنبياء عليهم السلام بذلك أرسلت إلى أممها. ولم يدَّع أحدٌ ممن صدَّق المرسلين، أن نبيًّا أرسِل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله عز وجل وحُجَجه في عباده بل كلها وإن كذب بعض الأمم بعض أنبياء الله، بجحودها نبوّته مقرّةٌ بأنّ من ثبتت صحّة نبوته، فعليها الدينونة بتصديقه. فذلك ميثاق مقرٌّ به جميعهم.
ولا معنى لقول من زعم أن الميثاق إنما أخذ على الأمم دون الأنبياء. لأن الله عز وجل قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبيين، فسواءٌ قال قائل: « لم يأخذ ذلك منها ربها » أو قال: « لم يأمرها ببلاغ ما أرسلت » ، وقد نصّ الله عز وجل أنه أمرها بتبليغه، لأنهما جميعًا خبرَان من الله عنها: أحدهما أنه أخذ منها، والآخر منهما أنه أمرَها. فإن جاز الشك في أحدهما، جازَ في الآخر.
وأما ما استشهد به الربيع بن أنس، على أن المعنيَّ بذلك أهلُ الكتاب من قوله: « لتؤمنن به ولتنصرنه » ، فإن ذلك غير شاهد على صحة ما قال. لأن الأنبياء قد أمر بعضُها بتصديق بعض، وتصديقُ بعضها بعضًا، نُصرةٌ من بعضها بعضًا.
تم اختلفوا في الذين عُنوا بقوله: « ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه » .
فقال بعضهم: الذين عنوا بذلك، هم الأنبياء، أخذت مواثيقهم أن يصدّق بعضهم بعضًا وأن ينصروه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله.
وقال آخرون: هم أهل الكتاب، أمروا بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه الله وبنصرته، وأخذ ميثاقهم في كتبهم بذلك. وقد ذكرنا الرواية بذلك أيضًا عمن قاله.
وقال آخرون ممن قال: الذين عُنوا بأخذ الله ميثاقهم منهم في هذه الآية هم الأنبياء قوله: « ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم » ، معنيٌّ به أهل الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه في قوله: « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة » ، قال أخذَ الله ميثاق النبيين أن يصدّق بعضهم بعضًا، ثم قال: « ثم جاءكم رسولٌ مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه » ، قال: فهذه الآية لأهل الكتاب، أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بمحمد ويصدِّقوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه قال، قال قتادة: أخذ الله على النبيين ميثاقهم: أن يصدق بعضهم بعضًا، وأن يبلغوا كتابَ الله ورسالتَه إلى عباده، فبلَّغت الأنبياء كتابَ الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذوا مواثيقَ أهل الكتاب - في كتابهم، فيما بلَّغتهم رسلهم - : أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدّقوه وينصروه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندنا في تأويل هذه الآية: أنّ جميع ذلك خبرٌ من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم به، وألزمهم دعاء أممها إليه، والإقرار به. لأن ابتداء الآية خبرٌ من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم، ثم وصف الذي أخذ به ميثاقهم فقال: هو كذا وهو كذا.
وإنما قلنا إنّ ما أخبر الله أنه أخذ به مواثيق أنبيائه من ذلك، قد أخذت الأنبياءُ مواثيق أممها به، لأنها أرسلت لتدعو عبادَ الله إلى الدينونة بما أمرت بالدينونة به في أنفسها، من تصديق رسل الله، على ما قدمنا البيانَ قبل.
قال أبو جعفر: فتأويل الآية: واذكرُوا يا معشرَ أهل الكتاب، إذ أخذَ الله ميثاق النبيين لَمَهْما آتيتكم، أيها النبيون، من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول من عندي مصدق لما معكم، لتؤمنن به يقول: لتصدقنه ولتنصرنه.
وقد قال السديّ في ذلك بما:-
حدثنا به محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « لما آتيتكم » ، يقول لليهود: أخذت ميثاقَ النبيين بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ذكر في الكتاب عندكم.
فتأويل ذلك على قول السدّي الذي ذكرناه: واذكروا، يا معشر أهل الكتاب، إذ أخذ الله ميثاق النبيين بما آتيتكم، أيها اليهود، من كتاب وحكمة.
وهذا الذي قاله السدي كان تأويلا له وجهٌ، لو كان التنـزيل: « بما آتيتكم » ، ولكن التنـزيل باللام « لما آتيتكم » . وغير جائز في لغة أحد من العرب أن يقال: « أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم » ، بمعنى: بما آتيتكم.
القول في تأويل قوله : قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بما ذكر، فقال لهم تعالى ذكره: أأقررتم بالميثاق الذي واثقتموني عليه: من أنكم مهما أتاكم رسولٌ من عندي مصدق لما معكم « لتؤمنن به ولتنصرنه » « وأخذتم على ذلك إصري » ؟ يقول: وأخذتم على ما واثقتموني عليه من الإيمان بالرسل التي تأتيكم بتصديق ما معكم من عندي والقيام بنصرتهم « إصري » . يعني عهدي ووصيتي، وقبلتم في ذلك منّي ورضيتموه.
و « الأخذ » : هو القبول - في هذا الموضع - والرّضى، من قولهم: « أخذ الوالي عليه البيعة » ، بمعنى: بايعه وقبل ولايته ورَضي بها.
وقد بينا معنى « الإصر » باختلاف المختلفين فيه، والصحيح من القول في ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وحذفت « الفاء » من قوله: « قال أأقررتم » ، لأنه ابتداء كلام، على نحو ما قد بينا في نظائره فيما مضى.
وأما قوله: « قالوا أقررنا » ، فإنه يعني به: قال النبيون الذين أخذ الله ميثاقهم بما ذكر في هذه الآية: أقرَرْنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدّقين لما معنا من كتبك، وبنصرتهم.
القول في تأويل قوله : قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( 81 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قال الله: فاشهدوا، أيها النبيون، بما أخذتُ به ميثاقكم من الإيمان بتصديق رسلي التي تأتيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والحكمة، ونُصرتهم على أنفسكم وعلى أتباعكم من الأمم إذ أنتم أخذتم ميثاقهم على ذلك، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم بذلك، كما:-
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب في قوله: « قال فاشهدوا » ، يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك « وأنا معكم من الشاهدين » ، عليكم وعليهم.
القول في تأويل قوله : فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 82 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن أعرَض عن الإيمان برسلي الذين أرسلتهم بتصديق ما كان مع أنبيائي من الكتب والحكمة، وعن نصرتهم، فأدبر ولم يؤمن بذلك، ولم ينصر، ونكث عهدَه وميثاقه « بعد ذلك » ، يعني بعد العهد والميثاق الذي أخذَه الله عليه « فأولئك هم الفاسقون » ، يعني بذلك: أن المتولين عن الإيمان بالرسل الذين وصف أمرَهم، ونُصرتهم بعد العهد والميثاق اللذين أخذَا عليهم بذلك « هم الفاسقون » ، يعني بذلك: الخارجون من دين الله وطاعة ربهم،
كما:-
حدثنا المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب: فمن تولى عنك، يا محمد، بعد هذا العهد من جميع الأمم « فأولئك هم الفاسقون » ، هم العاصون في الكفر.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال أبو جعفر: يعني الرازي « فمن تولى بعد ذلك » يقول: بعد العهد والميثاق الذي أخذَ عليهم « فأولئك هم الفاسقون » .
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، [ عن أبيه ] ، عن الربيع مثله.
قال أبو جعفر: وهاتان الآيتان، وإن كان مَخرَج الخبر فيهما من الله عز وجل بما أخبر أنه أشهدَ وأخذَ به ميثاقَ منْ أخذَ ميثاقه به، عن أنبيائه ورسله، فإنه مقصودٌ به إخبارُ من كان حوالَي مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل أيام حياته صلى الله عليه وسلم، عَمَّا لله عليهم من العهد في الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومعنيٌّ [ به ] تذكيرُهم ما كان الله آخذًا على آبائهم وأسلافهم من المواثيق والعهود، وما كانت أنبياءُ الله عرَّفتهم وتقدّمت إليهم في تصديقه واتباعه ونُصرته على من خالفه وكذبه وتعريفهم ما في كتب الله، التي أنـزلها إلى أنبيائه التي ابتعثها إليهم، من صفته وعلامته.
القول في تأويل قوله : أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( 83 )
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك:
فقرأته عامة قرأة الحجاز من مكة والمدينة، وقرأةُ الكوفة: ( « أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ » ) ، ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) على وجه الخطاب.
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ) ( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) بالياء كلتيهما، على وجه الخبر عن الغائب.
وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ) ، على وجه الخبر عن الغائب، ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، بالتاء على وجه المخاطبة.
قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ: « أفغير دين الله تبغون » على وجه الخطاب « وإليه تُرجعون » بالتاء. لأن الآية التي قبلها خطابٌ لهم، فإتباعُ الخطاب نظيرَه، أولى من صرف الكلام إلى غير نظيره. وإن كان الوجه الآخر جائزًا، لما قد ذكرنا فيما مضى قبل: من أن الحكاية يخرج الكلام معها أحيانًا على الخطاب كله، وأحيانًا على وجه الخبر عن الغائب، وأحيانًا بعضُه على الخطاب، وبعضُه على الغيبة، فقوله: « تبغون » و « إليه ترجعون » في هذه الآية، من ذلك.
وتأويل الكلام: يا معشرَ أهل الكتاب « أفغيرَ دين الله تبغون » ، يقول: أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون، « وله أسلم من في السماوات والأرض » ، يقول: وله خَشع من في السموات والأرض، فخضع له بالعبودة، وأقرّ له بإفراد الربوبية، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية « طوْعًا وكرهًا » ، يقول أسلم لله طائعًا من كان إسلامه منهم له طائعًا، وذلك كالملائكة والأنبياء والمرسلين، فإنهم أسلموا لله طائعين « وكرهًا » ، من كان منهم كارهًا.
واختلف أهل التأويل في معنى إسلام الكاره الإسلام وصفته.
فقال بعضهم: إسلامه، إقراره بأنّ الله خالقه وربُّه، وإن أشرك معه في العبادة غيرَه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: « وله أسلم من في السموات والأرض » ، قال: هو كقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [ سورة الزمر: 38 ] .
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه تُرجعون » ، قال: كل آدميّ قد أقرّ على نفسه بأن الله ربّي وأنا عبده. فمن أشرَكَ في عبادته فهذا الذي أسلم كَرْهًا، ومن أخلص له العبودة، فهو الذي أسلم طوعًا.
وقال آخرون: بل إسلام الكاره منهم، كان حين أخذَ منه الميثاق فأقرَّ به.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: « وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا » ، قال: حين أخذَ الميثاق.
وقال آخرون؛ عنى بإسلام الكاره منهم، سُجودَ ظله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سوَّار بن عبد الله قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا » ، قال: الطائع المؤمن و « كرهًا » ، ظلّ الكافر.
حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « طوعًا وكرهًا » ، قال: سجود المؤمن طائعًا، وسجود الكافر وهو كاره.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « كَرْهًا » ، قال: سجود المؤمن طائعًا، وسجود ظلّ الكافر وهو كاره.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: سجود وجهه طائعًا، وظله كارهًا.
وقال آخرون: بل إسلامه بقلبه في مشيئة الله، واستقادته لأمره وإن أنكر ألوهته بلسانه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر: « وله أسلم من في السموات والأرض » ، قال: استقاد كلهم له.
وقال آخرون: عنى بذلك إسلام من أسلم من الناس كرْهًا، حَذَر السيف على نفسه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا » الآية كلها، فقال: أكره أقوامٌ على الإسلام، وجاء أقوامٌ طائعين.
حدثني الحسن بن قزعة الباهلي قال، حدثنا روح بن عطاء، عن مطر الورّاق في قول الله عز وجل: « وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون » ، قال: الملائكة طوعًا، والأنصار طوعًا، وبنو سُلَيمُ وعبد القيس طوعًا، والناس كلهم كرهًا.
وقال آخرون معنى ذلك: أنّ أهل الإيمان أسلموا طوعًا، وأنّ الكافر أسلم في حال المعاينة، حينَ لا ينفعه إسلامٌ، كرهًا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « أفغير دين الله تبغون » ، الآية، فأما المؤمن فأسلم طائعًا فنفعه ذلك، وقُبِل منه، وأما الكافر فأسلم كارهًا حين لا ينفعه ذلك، ولا يقبل منه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا » ، قال: أما المؤمن فأسلم طائعًا، وأما الكافر فأسلم حين رأى بأسَ الله، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [ سورة غافر: 85 ] .
وقال آخرون: معنى ذلك: أيْ: عبادةُ الخلق لله عز وجل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « أفغير دين الله تبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا » ، قال: عبادتهم لي أجمعين طوعًا وكرهًا، وهو قوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [ سورة الرعد: 15 ] .
وأما قوله: « وإليه تُرجعون » ، فإنه يعني: « وإليه » ، يا معشر من يبتغي غيرَ الإسلام دينًا من اليهود والنصارى وسائر الناس « ترجعون » ، يقول: إليه تصيرون بعد مماتكم، فمجازيكم بأعمالكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءَته.
وهذا من الله عز وجل تحذيرٌ خلقَه أن يرجع إليه أحدٌ منهم فيصيرُ إليه بعد وفاته على غير ملة الإسلام.
القول في تأويل قوله : قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 84 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « أفغير دين الله تبغون » ، يا معشر اليهود، « وله أسلم مَنْ في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون » فإن ابتغوا غيرَ دين الله، يا محمد، فقل لهم: « آمَنَّا بِاللَّهِ » ، فترك ذكر قوله: « فإن قالوا: نعم » ، أو ذكر قوله: « فإن ابتغوا غير دين الله » ، لدلالة ما ظهر من الكلام عليه.
وقوله: « قل آمنا بالله » ، يعني به: قل لهم، يا محمد، : صدقنا بالله أنه ربنا وإلهنا، لا إله غيره، ولا نعبد أحدًا سواه « وما أنزل علينا » ، يقول: وقل: وصدَّقنا أيضًا بما أنـزل علينا من وَحيه وتنـزيله، فأقررنا به « وما أنزل على إبراهيم » ، يقول: وصدقنا أيضًا بما أنـزل على إبراهيم خليل الله، وعلى ابنيه إسماعيل وإسحاق، وابن ابنه يعقوب وبما أنـزل على « الأسباط » ، وهم ولد يعقوب الاثنا عشر، وقد بينا أسماءَهم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. « وما أوتي موسى وعيسى » ، يقول: وصدّقنا أيضًا مع ذلك بالذي أنـزل الله على موسى وعيسى من الكتب والوَحْي، وبما أنـزل على النبيين من عنده.
والذي آتى الله موسى وعيسى مما أمرَ الله عز وجل محمدًا بتصديقهما فيه، والإيمان به التوراة التي آتاها موسى، والإنجيل الذي أتاه عيسى.
« لا نفرق بين أحد منهم » ، يقول: لا نصدّق بعضهم ونكذّب بعضَهم، ولا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، كما كفرت اليهود والنصارى ببعض أنبياء الله وصدّقت بعضًا، ولكنا نؤمن بجميعهم، ونصدّقهم « ونحن له مسلمون » . يعني: ونحن ندين لله بالإسلام لا ندين غيره، بل نتبرأ إليه من كل دين سواه، ومن كل ملة غيره.
ويعني بقوله: « ونحن له مسلمون » . ونحن له منقادون بالطاعة، متذللون بالعبودة، مقرّون لهُ بالألوهة والربوبية، وأنه لا إله غيره. وقد ذكرنا الروايةَ بمعنى ما قلنا في ذلك فيما مضى، وكرهنا إعادته.
القول في تأويل قوله : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 85 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يطلب دينا غيرَ دين الإسلام ليدين به، فلن يقبل الله منه « وهو في الآخرة من الخاسرين » ، يقول: من الباخسين أنفسَهم حظوظَها من رحمة الله عز وجل.
وذُكر أنّ أهل كل ملة ادّعوا أنهم هم المسلمون، لما نـزلت هذه الآية، فأمرهم الله بالحج إن كانوا صادقين، لأن من سُنة الإسلام الحج، فامتنعوا، فأدحض الله بذلك حجتهم.
ذكر الخبر بذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال، زعم عكرمة: « ومن يبتغ غير الإسلام دينًا » ، فقالت الملل: نحن المسلمون! فأنـزل الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [ سورة آل عمران: 97 ] ، فحجَّ المسلمون، وقعدَ الكفار.
حدثني المثنى قال، حدثنا القعنبي قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال: « ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه » ، قالت اليهود: فنحن المسلمون! فأنـزلَ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم يحُجُّهم أنْ: ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) .
حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال: لما نـزلت: « ومن يبتغ غير الإسلام دينًا » إلى آخر الآية، قالت اليهود: فنحن مسلمون! قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم إنْ: ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ ) من أهل الملل فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ .
وقال آخرون: في هذه الآية بما:-
حدثنا به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ إلى قوله: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [ سورة البقرة: 62 ] ، فأنـزل الله عز وجل بعد هذا: « ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه » .
القول في تأويل قوله : كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 86 ) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 87 ) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ( 88 ) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 89 )
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نـزلت.
فقال بعضهم: نـزلت في الحارث بن سويد الأنصاري، وكان مسلمًا فارتدّ بعد إسلامه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لي من توبة؟ قال: فنـزلت: « كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم » إلى قوله: « وجاءَهم البيناتُ والله لا يهدي القوم الظالمين ... إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم » ، فأرسل إليه قومه فأسلم.
حدثني ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة بنحوه، ولم يرفعه إلى ابن عباس إلا أنه قال: فكتب إليه قومه، فقال: ما كذَبني قومي! فرجع.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حكيم بن جُميع، عن علي بن مُسْهر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ارتد رجل من الأنصار، فذكر نحوه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان قال، أخبرنا حميد الأعرج، عن مجاهد قال: جاء الحارث بن سُوَيد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه، فأنـزل الله عز وجل فيه القرآن: « كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعدَ إيمانهم » إلى « إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ » ، قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك والله ما علمتُ لصَدُوقٌ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدقُ منك، وإنّ الله عز وجل لأصدق الثلاثة. قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدُوا أنّ الرسول حق » ، قال: أنـزلت في الحارث بن سُوَيد الأنصاري، كفر بعد إيمانه، فأنـزل الله عز وجل فيه هذه الآيات، إلى: « أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » ، ثم تاب وأسلم، فنسخها الله عنه، فقال: « إلا الذين تابوا من بعد ذلك، وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ » .
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءَهم البينات » ، قال: رجلٌ من بني عمرو بن عوف، كفر بعد إيمانه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: هو رجل من بني عمرو بن عوف، كفر بعد إيمانه قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: لحق بأرض الرّوم فتنصَّر، ثم كتب إلى قومه: « أرسلوا، هل لي من توبة؟ » قال: فحسبتُ أنه آمن، ثم رَجع قال ابن جريج، قال عكرمة، نـزلت في أبي عامر الرّاهب، والحارث بن سويد بن الصامت، ووَحْوَح بن الأسلت في اثني عشر رجلا رَجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم: هل لنا من توبة؟ فنـزلت: « إلا الذين تابوا من بعد ذلك » ، الآيات.
وقال آخرون: عنى بهذه الآية أهل الكتاب، وفيهم نـزلت.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « كيف يهدي الله قومًا كفرُوا بعد إيمانهم » ، فهم أهلُ الكتاب، عرَفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ثم كفروا به.
حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم » الآية كلها، قال: اليهود والنصارى.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول في قوله: « كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم » الآية، هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعتَ محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وأقرّوا به، وشهدوا أنه حقٌّ، فلما بُعث من غيرهم حَسدوا العربَ على ذلك فأنكروه، وكفروا بعد إقرارهم، حسدًا للعرب، حين بُعثَ من غيرهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: « كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم » ، قال: هم أهل الكتاب، كانوا يجدون محمدًا صلى الله عليه وسلم في كتابهم، ويستفتحون به، فكفروا بعد إيمانهم.
قال أبو جعفر: وأشبه القولين بظاهر التنـزيل ما قال الحسن: منْ أنّ هذه الآية معنيٌّ بها أهل الكتاب على ما قال، غيرَ أنّ الأخبار بالقول الآخر أكثر، والقائلين به أعلم، بتأويل القرآن. وجائز أن يكون الله عز وجل أنـزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذُكر أنهم كانوا ارتدّوا عن الإسلام، فجمع قصّتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات. ثم عرّف عباده سُنته فيهم، فيكون داخلا في ذلك كلّ من كان مؤمنًا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أنُ يبعث، ثم كفر به بعد أن بُعث، وكلّ من كان كافرًا ثم أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد وهو حيٌّ عن إسلامه. فيكون معنيًّا بالآية جميعُ هذين الصنفين وغيرُهما ممن كان بمثل معناهما، بل ذلك كذلك إن شاء الله.
فتأويل الآية إذًا: « كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم » ، يعني: كيف يُرشد الله للصواب ويوفّق للإيمان، قومًا جحدُوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم « بعد إيمانهم » ، أي: بعد تصديقهم إياه، وإقرارهم بما جاءَهم به من عند ربه « وَشهدوا أن الرسول حقّ » ، يقول: وبعد أن أقرّوا أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلقه حقًّا « وجاءهم البينات » ، يعني: وجاءهم الحجج من عند الله والدلائلُ بصحة ذلك؟ « والله لا يهدي القوم الظالمين » ، يقول: والله لا يوفّق للحق والصّواب الجماعة الظَّلمة، وهم الذين بدّلوا الحق إلى الباطل، فاختارُوا الكفر على الإيمان.
وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى « الظلم » ، وأنه وضعُ الشيء في غير موضعه، بما أغنى عن إعادته.
« أولئك جزاؤهم » ، يعني: هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حَقّ - « جزاؤهم » ، ثوابهم من عملهم الذي عملوه « أنّ عليهم لعنة الله » ، يعني: أن يحلّ بهم من الله الإقصاء والبعد، ومن الملائكة والناس الدعاءُ بما يسوؤهم من العقاب « أجمعين » ، يعني: من جميعهم، لا من بعض من سمَّاه جل ثناؤه من الملائكة والناس، ولكن من جميعهم. وإنما جعل ذلك جل ثناؤه ثواب عملهم، لأن عملهم كان بالله كفرًا.
وقد بينا صفة « لعنة الناس » الكافرَ في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته.
« خالدين فيها » يعني: ماكثين فيها، يعني في عقوبة الله
« لا يخفَّف عنهم العذاب » ، لا ينقصون من العذاب شيئًا في حال من الأحوال، ولا ينفَّسون فيه « ولا هم ينظرون » ، يعني: ولا هم ينظرون لمعذرة يعتذرون. وذلك كله عَينُ الخلود في العقوبة في الآخرة.
ثم استثنى جل ثناؤه الذين تابوا، من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم فقال تعالى ذكره: « إلا الذين تَابوا من بعد ذلك وأصلحوا » ، يعني: إلا الذين تابوا من بعد ارتدادهم عن إيمانهم، فراجعوا الإيمان بالله وبرسوله، وصدّقوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند ربهم « وأصلحوا » ، يعني: وعملوا الصالحات من الأعمال « فإنّ الله غفور رحيم » ، يعني: فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره « غفور » ، يعني: ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الرّدّة، فتاركٌ عقوبته عليه، وفضيحته به يوم القيامة، غيرُ مؤاخذه به إذا مَات على التوبة منه « رحيم » ، متعطِّف عليه بالرحمة.
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ( 90 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضُهم: عنى الله عز وجل بقوله: « إنّ الذين كفروا » ببعض أنبيائه الذين بعثوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم « بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا » بكفرهم بمحمد « لن تقبل توبتهم » ، عند حُضور الموت وحَشرجته بنفسه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون » ، قال: اليهودُ والنصارى، لن تُقبل توبتهم عند الموت.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا » ، أولئك أعداء الله اليهود، كفروا بالإنجيل وبعيسى، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم والفُرْقان.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ثم ازدادوا كفرًا » ، قال: ازدادوا كفرًا حتى حَضرهم الموت، فلم تقبل توبتهم حين حضرهم الموت قال معمر: وقال مثلَ ذلك عطاءٌ الخراساني.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون » ، وقال: هم اليهود، كفروا بالإنجيل، ثم ازدادوا كفرًا حين بَعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأنكرُوه، وكذبوا به.
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد، بعد إيمانهم بأنبيائهم « ثم ازدادوا كفرًا » ، يعني: ذنوبًا « لن تقبل توبتهم » من ذنوبهم، وهم على الكفر مقيمون.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، قال، حدثنا داود، عن رفيع: « إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا » ، ازدادوا ذنوبًا وهم كفار « لن تقبل توبتهم » من تلك الذنوب، ما كانوا على كفرهم وضَلالتهم.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود قال: سألت أبا العالية، قال، قلت: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم » ؟ قال: إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا، ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها في كفرهم.
حدثنا عبد الحميد بن بيان السُّكري قال، أخبرنا ابن أبي عدي، عن داود قال: سألت أبا العالية عن: الذين آمنوا ثم كفروا، فذكر نحوًا منه.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود قال: سألت أبا العالية عن هذه الآية: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون » ، قال: هم اليهود والنصارى والمجوس، أصابوا ذنوبًا في كفرهم، فأرادوا أن يتوبوا منها، ولن يتوبوا من الكفر، ألا ترى أنه يقول: « وأولئك هم الضالون » ؟
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن داود، عن أبي العالية في قوله: « لن تقبل توبتهم » ، قال: تابوا من بعضٍ، ولم يتوبوا من الأصل.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية قوله: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا » ، قال: هم اليهود والنصارى، يصيبون الذنوبَ فيقولون: « نتوب » ، وهم مشركون. قال الله عز وجل: لن تُقبل التوبة في الضّلالة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الذين كفروا بعد إيمانهم بأنبيائهم « ثم ازدادوا كفرًا » ، يعني: بزيادتهم الكفر: تمامُهم عليه، حتى هلكوا وهم عليه مقيمون « لن تقبل توبتهم » ، لن تنفعهم توبتهم الأولى وإيمانهم، لكفرهم الآخِر وموتهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: « ثم ازدادوا كفرًا » ، قال: تمُّوا على كفرهم قال ابن جريج: « لن تقبل توبتهم » ، يقول: إيمانهم أوّلَ مرة لن ينفعهم.
وقال آخرون: معنى قوله: « ثم ازدادوا كفرًا » ، ماتوا كفارًا، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم. وقالوا: معنى « لن تقبل توبتهم » ، لن تقبل توبتهم عند موتهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون » ، أمّا « ازدادوا كفرًا » ، فماتوا وهم كفار. وأما « لن تقبل توبتهم » فعند موته، إذا تاب لم تقبل توبته.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية، قولُ من قال: « عنى بها اليهودَ » وأن يكون تأويله: إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مَبعثه، بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرًا بما أصَابوا من الذنوب في كفرهم ومُقامهم على ضلالتهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويراجعوا التوبة منه بتصديقه بما جاء به من عند الله.
وإنما قلنا: « ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب » ، لأن الآيات قبلها وبعدها فيهم نـزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها، إذ كانت في سياق واحد.
وإنما قلنا: « معنى ازديادهم الكفر: ما أصابوا في كفرهم من المعاصي » ، لأنه جل ثناؤه قال: « لن تقبل توبتهم » ، فكان معلومًا أن معنى قوله: « لن تقبل توبتهم » ، إنما هو معنيٌّ به: لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم، لا من كفرهم. لأن الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [ سورة الشورى: 25 ] ، فمحالٌ أنْ يقول عز وجل: « أقبل » و « لا أقبل » في شيء واحد. وإذْ كان ذلك كذلك وكان من حُكم الله في عباده أنه قابلٌ توبةَ كل تائب من كل ذنب، وكان الكفر بعد الإيمان أحدَ تلك الذنوب التي وعد قَبول التوبة منها بقوله: إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ علم أنّ المعنى الذي لا يقبل التوبةَ منه، غيرُ المعنى الذي يَقبل التوبة منه. وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي لا يَقبل منه التوبة، هو الازدياد على الكفر بعد الكفر، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره، لأن الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه وضلاله. فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح، فإنّ الله - كما وصف به نفسه - غفورٌ رحيمٌ.
فإن قال قائل: وما تُنكر أن يكون معنى ذلك كما قال من قال: « فلن تقبل توبته من كفره عند حضور أجله وتوبته الأولى » ؟
قيل: أنكرنا ذلك، لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة، وقد وعد الله عز وجل عبادَه قَبول التوبة منهم ما دامت أرواحُهم في أجسادهم. ولا خلاف بين جميع الحجة في أنّ كافرًا لو أسلم قبل خُرُوج نفسه بطرْفة عين، أنّ حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه، والموارثة، وسائر الأحكام غيرهما. فكان معلومًا بذلك أنّ توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة، لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام، ولا منـزلةَ بين الموت والحياة، يجوزُ أن يقال: « لا يقبل الله فيها توبةَ الكافر » . فإذْ صحّ أنها في حال حياته مقبولة، ولا سبيلَ بعد الممات إليها، بطل قولُ الذي زعم أنها غير مقبولة عند حُضُور الأجل.
وأما قول من زعم أنّ معنى ذلك: « التوبة التي كانت قبل الكفر » ، فقولٌ لا معنى له. لأن الله عز وجل لم يصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر، ثم كُفْر بعد إيمان بل إنما وصفهم بكفر بعد إيمان. فلم يتقدم ذلك الإيمانَ كفرٌ كان للإيمان لهم توبة منه، فيكون تأويل ذلك على ما تأوّله قائل ذلك. وتأويل القرآن على ما كان موجودًا في ظاهر التلاوة إذا لم تكن حجة تدل على باطن خاص - أولى من غيره، وإن أمكن توجيهه إلى غيره.
وأما قوله: « وأولئك هم الضالون » ، فإنه يعني بذلك: وهؤلاء الذين كفرُوا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرًا، هم الذين ضلوا سبيل الحقّ فأخطأوا منهجه، وتركوا نِصْف السبيل وهُدَى الدين، حَيرةً منهم، وعَمىً عنه.
وقد بينا فيما مضى معنى « الضلال » بما فيه الكفاية.
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 91 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه « إنّ الذين كفروا » ، أي: جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يصدقوا به وبما جاء به من عند الله من أهل كل ملة، يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم « وماتوا وهم كفار » ، يعني: وماتوا على ذلك من جحود نبوته وجحود ما جاء به « فلن يُقبل من أحدهم ملء الأرض ذَهبًا ولو افتدى به » ، يقول: فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جَزَاءٌ ولا رِشْوةٌ على ترك عقوبته على كفره، ولا جُعْلٌ على العفو عنه، ولو كان له من الذهب قدرُ ما يملأ الأرضَ من مشرقها إلى مغربها، فرَشَا وَجزَى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره عوضًا مما الله مُحلٌّ به من عذابه. لأنّ الرُّشا إنما يقبلها من كان ذَا حاجة إلى ما رُشى. فأما من له الدنيا والآخرة، فكيف يقبل الفدية، وهو خلاق كل فدية افتدَى بها مفتدٍ منْ نفسه أو غيره؟
وقد بينا أن معنى « الفدية » العوَضُ، والجزاء من المفتدى منه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
ثم أخبر عز وجل عما لهم عنده فقال: « أولئك » ، يعني هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفار « لهم عذاب أليم » ، يقول: لهم عند الله في الآخرة عذابٌ موجع « وما لهم من ناصرين » ، يعني: وما لهم من قريب ولا حميم ولا صديق ينصره، فيستنقذه من الله ومن عذابه كما كانوا ينصرونه في الدنيا على من حاول أذَاه ومكروهه؟ وقد:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيتَ لو كان لك ملءُ الأرض ذهبًا، أكنت مفتديًا به؟ فيقول: نعم! قال فيقال: لقد سُئلت ما هو أيسرُ من ذلك! فذلك قوله: « إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا ولو افتدى به » .
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن قوله: « إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا » ، قال: هو كل كافر.
ونصب قوله « ذهبًا » على الخروج من المقدار الذي قبله والتفسير منهُ، وهو قوله: « ملءُ الأرض » ، كقول القائل: « عندي قدرُ زِقٍّ سمنًا وقدْرُ رطل عَسلا » ، ف « العسل » مبينٌ به ما ذكر من المقدار، وهو نكرة منصوبةٌ على التفسير للمقدار والخروج منه.
وأما نحويو البصرة، فإنهم زعموا أنه نصب « الذهب » لاشتغال « الملء » بـ « الأرض » ، ومجيء « الذهب » بعدهما، فصار نصبهُا نظيرَ نصب الحال. وذلك أن الحال يجيء بعد فعل قد شُغل بفاعله، فينصبُ كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي قد شُغل بفاعله. قالوا: ونظير قوله: « ملء الأرض ذهبًا » في نصب « الذهب » في الكلام: « لي مثلك رجُلا » بمعنى: لي مثلك من الرجال. وزعموا أن نصب « الرجل » ، لاشتغال الإضافة بالاسم، فنصب كما ينصب المفعول به، لاشتغال الفعل بالفاعل.
وأدخلت الواو في قوله: « ولو افتدى به » ، لمحذوف من الكلام بعدَه، دلّ عليه دخول « الواو » ، وكالواو في قوله: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [ سورة الأنعام: 75 ] ، وتأويل الكلام: وليكون من الموقنين أرَيناه ملكوتَ السموات والأرض. فكذلك ذلك في قوله: « ولو افتدى به » ، ولو لم يكن في الكلام « واو » ، لكان الكلام صحيحًا، ولم يكن هنالك متروك، وكان: فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا لو افتدى به.
القول في تأويل قوله تعالى : لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 92 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لن تدركوا، أيها المؤمنون، البرَّ وهو « البر » من الله الذي يطلبونه منه بطاعتهم إياه وعبادتهم له ويرجونه منه، وذلك تفضّله عليهم بإدخالهم جنته، وصرف عذابه عنهم.
ولذلك قال كثير من أهل التأويل « البر » الجنة، لأن بر الربّ بعبده في الآخرة، إكرامه إياه بإدخاله الجنة.
ذكر من قال ذلك.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله: « لن تنالوا البر » ، قال: الجنة.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله: « لن تنالوا البر » ، قال: البر الجنة.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « لن تنالوا البر » ، أما البر فالجنة.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: لن تنالوا، أيها المؤمنون، جنة ربكم « حتى تنفقوا مما تحبون » ، يقول: حتى تتصدقوا مما تحبون وتهوَوْن أن يكون لكم، من نفيس أموالكم، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » ، يقول: لن تنالوا برَّ ربكم حتى تنفقوا مما يعجبكم، ومما تهوَوْن من أموالكم.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن قوله: « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » ، قال: من المال.
وأما قوله: « وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم » ، فإنه يعني به: ومهما تنفقوا من شيء فتتصدقوا به من أموالكم، فإنّ الله تعالى ذكرُه بما يتصدَّق به المتصدِّق منكم، فينفقه مما يحبّ من ماله في سبيل الله وغير ذلك - « عليم » ، يقول: هو ذو علم بذلك كله، لا يعزُبُ عنه شيء منه، حتى يجازي صاحبه عليه جزاءَه في الآخرة، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده: « وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم » ، يقول: محفوظٌ لكم ذلك، اللهُ به عليمٌ شاكرٌ له.
وبنحو التأويل الذي قلنا تأوَّل هذه الآية جماعةٌ من الصحابة والتابعين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » ، قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أنْ يبتاع له جارية من جَلولاء يوم فُتحت مدائن كسرى في قتال سَعد بن أبي وقاص، فدعا بها عمر بن الخطاب فقال: إن الله يقول: « لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون » ، فأعتقها عمر وهي مثْل قول الله عز وجل: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [ سورة الإنسان: 8 ] ، و وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [ سورة الحشر: 9 ] .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله سواء.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: لما نـزلت هذه الآية: ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) ، أو هذه الآية: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [ سورة البقرة: 245\ الحديد: 11 ] ، قال أبو طلحة، يا رسول الله، حائطي الذي بكذا وكذا صَدَقة، ولو استطعت أن أجعله سرًّا لم أجعله علانية! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلها في فقراء أهلك.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال، قال حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: لما نـزلت هذه الآية: « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » ، قال أبو طلحة: يا رسول الله، إنّ الله يسألنا من أموالنا، اشهدْ أني قد جعلت أرضي بأرْيحا لله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلها في قرابتك. فجعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب.
حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا ليث، عن ميمون بن مهران: أنّ رجلا سأل أبا ذَرّ: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة عمادُ الإسلام، والجهاد سَنامُ العمل، والصدقة شيء عَجبٌ! فقال: يا أبا ذر، لقد تركتَ شيئًا هو أوَثقُ عملي في نفسي، لا أراك ذكرته! قال: ما هو؟ قال: الصّيام! فقال: قُرْبة، وليس هناك! وتلا هذه الآية: « لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تحبُون » .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني داود بن عبد الرحمن المكي، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن عمرو بن دينار قال: لما نـزلت هذه الآية: « لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون » ، جاء زيدٌ بفرس له يقال له: « سَبَل » إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تصدَّق بهذه يا رسول الله. فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه أسامة بن زيد بن حارثة، فقال: يا رسول الله، إنما أردت أن أتصدّق به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قُبلتْ صَدَقتك.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن أيوب وغيره: أنها حين نـزلت: « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » ، جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبُّها، فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله. فحملَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليها أسامةَ بن زيد، فكأنَّ زيدًا وَجد في نفسه، فلما رأى ذلك منه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما إن الله قد قبلها.
القول في تأويل قوله تعالى : كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَـزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 93 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه لم يكن حرَّم على بني إسرائيل وهم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن شيئًا من الأطعمة من قبل أن تنـزل التوراة، بل كان ذلك كله لهم حلالا إلا ما كان يعقوب حرّمه على نفسه، فإن وَلده حرّموه استنانًا بأبيهم يعقوب، من غير تحريم الله ذلك عليهم في وحي ولا تنـزيل، ولا على لسان رسولٍ له إليهم، من قبل نـزول التوراة.
ثم اختلف أهل التأويل في تحريم ذلك عليهم، هل نـزل في التوراة أم لا؟ فقال بعضهم: لما أنـزل الله عز وجل التوراةَ، حرّم عليهم من ذلك ما كانوا يحرِّمونه قبل نـزولها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين، قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » قالت اليهود: إنما نحرِّم ما حرّم إسرائيل على نفسه، وإنما حرّم إسرائيل العرُوق، كان يأخذه عِرق النَّسا، كان يأخذه بالليل ويتركه بالنهار، فحلف لئْن الله عافاه منه لا يأكل عِرْقًا أبدًا، فحرّمه الله عليهم ثم قال: « قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » ، ما حرَّم هذا عليكم غيري ببغيكم، فذلك قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [ سورة النساء: 160 ]
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل تنـزل التوراة، فإن اللهَ حرّم عليهم من ذلك ما كان إسرائيل حرَّمه على نفسه في التوراة، ببغيهم على أنفسهم وظلمهم لها. قل يا محمد: فأتوا، أيها اليهود، إن أنكرتم ذلك بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أن الله لم يحرم ذلك عليكم في التوراة، وأنكم إنما تحرّمونه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه.
وقال آخرون: ما كان شيءٌ من ذلك عليهم حرامًا، لا حرّمه الله عليهم في التوراة، وإنما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتباعًا لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله. فكذبهم الله عز وجل في إضافتهم ذلك إليه، فقال الله عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: إن كنتم صادقين، فأتوا بالتوراة فاتلوها، حتى ننظر هل ذلك فيها، أم لا؟ فيتبين كذبهم لمن يجهلُ أمرهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت أبا معاذ، قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه » إسرائيل هو يعقوب، أخذه عرق النسا فكان لا يَبيتُ الليل من وجعه، وكان لا يؤذيه بالنهار. فحلف لئن شفاهُ الله لا يأكل عِرْقًا أبدًا، وذلك قبل نـزول التوراة على موسى. فسأل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم اليهود: ما هذا الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ فقالوا: نـزلت التوراة بتحريم الذي حرَّم إسرائيل. فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: « قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » إلى قوله: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، وكذبوا وافتروا، لم تنـزل التوراة بذلك.
وتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل من قبل أن تنـزل التوراة وبعد نـزولها، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة بمعنى: لكن إسرائيل حرم على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة بعض ذلك. وكأن الضحاك وجّه قوله: « إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » إلى الاستثناء الذي يسميه النحويون « الاستثناء المنقطع » .
وقال آخرون: تأويل ذلك: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة، فإنّ ذلك حرامٌ على ولده بتحريم إسرائيل إياه على ولده، من غير أن يكون الله حرّمه على إسرائيل ولا على ولده.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » فإنه حرّم على نفسه العروقَ، وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا، فكان لا ينام الليل، فقال: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد وليس مكتوبًا في التوراة! وسأل محمد صلى الله عليه وسلم نفرًا من أهل الكتاب فقال: ما شأن هذا حرامًا؟ فقالوا: هو حرام علينا من قِبَل الكتاب. فقال الله عز وجل: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل » إلى « إنْ كنتم صادقين » .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: أخذه - يعني إسرائيل- عرقُ النسا، فكان لا يبيتُ بالليل من شدّة الوجع ، وكان لا يؤذيه بالنهار، فحلف لئن شفاه الله لا يأكل عِرقًا أبدًا، وذلك قبل أن تنـزل التوراة. فقال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: نـزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل على نفسه. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: « قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » ، وكذبوا، ليس في التوراة.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: « معنى ذلك: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنـزل التوراة، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من غير تحريم الله ذلك عليه ، فإنه كان حرامًا عليهم بتحريم أبيهم إسرائيل ذلك عليهم، من غير أن يحرمه الله عليهم في تنـزيل ولا وحي قبل التوراة، حتى نـزلت التوراةُ، فحرّم الله عليهم فيها ما شاءَ، وأحلّ لهم فيها ما أحبّ » .
وهذا قول قالته جماعة من أهل التأويل، وهو معنى قول ابن عباس الذي ذكرناه قبل.
ذكر بعض من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة » ، وإسرائيل، هو يعقوب « قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » يقول: كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنـزل التوراة. إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فلما أنـزل الله التوراة حرّم عليهم فيها ما شاء وأحلّ لهم ما شاء.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة بنحوه.
واختلف أهل التأويل في الذي كان إسرائيل حرَّمه على نفسه.
فقال بعضهم: كان الذي حرّمه إسرائيل على نفسه العُرُوق.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن يوسف بن مَاهَك قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال إنه جعل امرأته عليه حرامًا، قال: ليست عليك بحرام. قال: فقال الأعرابي: ولم؟ والله يقول في كتابه: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه » ؟ قال: فضحك ابن عباس وقال: وما يدريك ما كان إسرائيل حَرّم على نفسه؟ قال: ثم أقبل على القوم يحدثهم فقال: إسرائيل عرَضتْ له الأنساءُ فأضنته، فجعل لله عليه إنَ شفاه الله منها لا يطعم عِرْقًا. قال: فلذلك اليهود تنـزع العروق من اللحم.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر. قال: سمعت يوسف بن ماهك يحدثُ: أنّ أعرابيًّا أتى ابن عباس، فذكر رجلا حرّم امرأته فقال: إنها ليست بحرام. فقال الأعرابي: أرأيت قول الله عز وجل: « كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » ؟ فقال: إن إسرائيل كان به عِرْق النسا، فحلف لئن عافاه الله أن لا يأكل العرُوق من اللحم، وإنها ليست عليك بحرام.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله: « كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » قال، إن يعقوب أخذه وجع عرق النسا، فجعل لله عليه أو: أقسم، أو:آلى : لا يأكله من الدواب. قال: والعروق كلها تبعٌ لذلك العرق.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ الذي حرّم إسرائيل على نفسه: أنّ الأنساء أخذته ذات ليلة، فأسهرته ، فتألَّى إنِ الله شفاه لا يطعم نَسًا أبدًا، فتتبعت بنوهُ العروق بعد ذلك يخرجونها من اللحم.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة بنحوه وزاد فيه. قال: فتألَّى لئن شفاه الله لا يأكل عرقًا أبدًا، فجعل بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق، فيخرجونها من اللحم. وكان « الذي حرّم على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة » ، العُروق.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » قال، اشتكى إسرائيل عرق النسا فقال: إنِ الله شفاني لأحرِّمنّ العروق! فحرَّمها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان إسرائيل أخذه عرق النسا، فكان يبيتُ لهُ زُقاء، فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل العروق. فأنـزل الله عز وجل: « كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه » قال سفيان: « له زقاء » ، يعني صياح.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه » قال، كان يشتكي عرق النسا، فحرَّم العروق.
حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال،: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس في قوله: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة » قال، كان إسرائيل يأخذه عرق النسا، فكان يبيت وله زقاء، فحرَّم على نفسه أن يأكل عرقًا.
وقال آخرون: بل « الذي كان إسرائيل حرَّم على نفسه » ، لحوم الإبل وألبانُها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: سمعنا أنه اشتكى شكوى، فقالوا: إنه عرق النسا، فقال: رَبّ، إن أحب الطعام إليّ لحومُ الإبل وألبانُها، فإن شفيتني فإني أحرمها عليّ قال ابن جريج، وقال عطاء بن أبي رباح: لحومَ الإبل وألبانَها حرّم إسرائيل.
حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل » قال، كان إسرائيل حرّم على نفسه لحومَ الإبل، وكانوا يزعمون أنهم يجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه لحومَ الإبل وإنما كان حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل قبل أن تنـزل التوراة، فقال الله: « فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » ، فقال: لا تجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه، أي لحم الإبل.
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال، حدثنا سعيد، عن ابن عباس: أن إسرائيل أخذَه عرق النسا، فكانَ يبيت بالليل له زُقاء يعني: صياح قال: فجعل على نفسه لئن شفاه الله منه لا يأكله يعني: لحوم الإبل قال: فحرمه اليهود، وتلا هذه الآية: « كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » ، أي: إن هذا قبل التوراة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في: « إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » قال، حرّم العروقَ ولحوم الإبل. قال: كان به عرق النسا، فأكل من لحومها فباتَ بليلةٍ يَزْقُو، فحلف أن لا يأكله أبدا.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد في قوله: « إلا ما حرم إسرائيل على نفسه » . قال: حرم لحم الأنعام.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قولُ ابن عباس الذي رواه الأعمش، عن حبيب، عن سعيد عنه: أنّ ذلك، العروقُ ولحوم الإبل، لأنّ اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها، كما كان عليه من ذلك أوائلُها. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك خبر، وهو: ما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس: أن عصابة من اليهود حضرت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا أيّ الطعام حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنشدكم بالذي أنـزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرضَ مرضًا شديدًا، فطال سقمه منه، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من سقْمه ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب إليه، وكان أحبّ الطعام إليه لُحمان الإبل، وأحبّ الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. »
وأما قوله: « قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين » ، فإن معناه: قل، يا محمد، للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها : « ائتوا بالتوراة فاتلوها » ، يقول: قل لهم: جيئوا بالتوراة فاتلوها، حتى يتبين لمن خفى عليه كذبهم وقيلهم الباطلَ على الله من أمرهم: أن ذلك ليس مما أنـزلته في التوراة « إن كنتم صادقين » ، يقول: إن كنتم محقين في دعواكم أنّ الله أنـزل تحريمَ ذلك في التوراة، فأتونا بها، فاتلوا تحريمَ ذلك علينا منها.
وإنما ذلك خبر من الله عن كذبهم، لأنهم لا يجيئون بذلك أبدًا على صحته، فأعلم الله بكذبهم عليه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وجعل إعلامه إياه ذلك حجةً له عليهم. لأن ذلك إذْ كان يخفى على كثير من أهل ملتّهم، فمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أميٌّ من غير ملتهم، لولا أن الله أعلمه ذلك بوحي من عنده كان أحرَى أن لا يعلمَه. فكان ذلك له صلى الله عليه وسلم، من أعظم الحجة عليهم بأنه نبي الله صلى الله عليه وسلم، إليهم. لأن ذلك من أخبار أوائلهم كان من خفيِّ عُلومهم الذي لا يعلمه غير خاصة منهم، إلا من أعلمه الذي لا يخفى عليه خافية من نبي أو رسول، أو من أطلعه الله على علمه ممن شاء من خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 94 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فمن كذَب على الله منا ومنكم، من بعد مجيئكم بالتوراة، وتلاوتكم إياها، وَعَدَمِكم ما ادّعيتم من تحريم الله العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها فيها « فأولئك هم الظالمون » يعني: فمن فعل ذلك منهم « فأولئك » ، يعني: فهؤلاء الذين يفعلون ذلك « هم الظالمون » ، يعني: فهم الكافرون، القائلون على الله الباطل، كما:-
حدثنا المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن زكريا، عن الشعبي: « فأولئك هم الظالمون » قال، نـزلت في اليهود.
القول في تأويل قوله تعالى جل ثناؤه : قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 95 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « قل » ، يا محمد « صدق الله » ، فيما أخبرنا به من قوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وأن الله لم يحرم على إسرائيل ولا على ولده العروقَ ولا لحومَ الإبل وألبانَها، وأنّ ذلك إنما كان شيئًا حرّمه إسرائيل على نفسه وَوَلده بغير تحريم الله إياه عليهم في التوراة وفي كل ما أخبر به عباده من خبر، دونكم.وأنتم، يا معشر اليهود، الكذبةُ في إضافتكم تحريم ذلك إلى الله عليكم في التوراة، المفتريةُ على الله الباطل في دعواكم عليه غير الحق « فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين » ، يقول: فإن كنتم، أيها اليهود، محقين في دعواكم أنكم على الدّين الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورُسله « فاتبعوا ملة إبراهيم » ، خليل الله، فإنكم تعلمون أنه الحق الذي ارتضَاه الله منْ خلقه دينًا، وابتعث به أنبياءَه، ذلك الحنيفية - يعني الاستقامة على الإسلام وشرائعه- دون اليهودية والنصرانية والمشركة.
وقوله: « وما كان من المشركين » ، يقول: لم يكن يشرك في عبادته أحدًا من خلقه. فكذلك أنتم أيضًا، أيها اليهود، فلا يتخذ بعضكم بعضًا أربابًا من دون الله تطيعونهم كطاعة إبراهيم ربه وأنتم يا معشرَ عبدة الأوثان، فلا تتخذوا الأوثان والأصنام أربابًا، ولا تعبدوا شيئًا من دون الله، فإن إبراهيم خليل الرحمن كان دينُه إخلاص العبادة لربه وحدَه، من غير إشراك أحد معه فيه. فكذلك أنتم أيضًا، فأخلصوا له العبادة ولا تشركوا معه في العبادة أحدًا، فإن جميعكم مقرُّون بأنّ إبراهيم كان على حقّ وَهدْى مستقيم، فاتبعوا ما قد أجمع جميعُكم على تصويبه من ملته الحنيفية، ودعوا ما اختلفتم فيه من سائر الملل غيرها، أيها الأحزاب، فإنها بدَع ابتدعتموها إلى ما قد أجمعتم عليه أنه حق، فإن الذي أجمعتم عليه أنه صوابٌ وحق من ملة إبراهيم، هو الحق الذي ارتضيتُه وابتعثتُ به أنبيائي ورسلي، وسائرُ ذلك هو الباطل الذي لا أقبله من أحد من خلقي جاءَني به يوم القيامة.
وإنما قال جل ثناؤه: « وما كان من المشركين » ، يعني به: وما كان من عَدَدهم وأوليائهم. وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم. ونصرةِ بعضهم بعضًا. فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو [ من ] نصرائهم وأهل ولايتهم. وإنما عنى جل ثناؤه بالمشركين، اليهودَ والنصارَى وسائر الأديان، غير الحنيفية. قال: لم يكن إبراهيم من أهل هذه الأديان المشركة، ولكنه كان حنيفًا مسلمًا.
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ( 96 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: إنّ أول بيت وضع للناس، يُعبَد الله فيه مباركًا وهُدًى للعالمين، الذي ببكة. قالوا: وليس هو أوّل بيت وضع في الأرض، لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى عليّ فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أوّل بيت وُضع في الأرض؟ فقال: لا ولكنه أول بيت وضع في البرَكة مقامِ إبراهيم، ومن دَخَله كان آمنًا.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال: سمعت خالدَ بن عرعرة قال: سمعت عليًّا، وقيل له: « إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة » ، هو أوّل بيت كان في الأرض؟ قال: لا! قال: فأين كان قَوْم نُوح؟ وأين كان قوم هود؟ قال: ولكنه أوّل بيت وُضع للناس مبارَكًا وهدًى.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال، سأل حفْصٌ الحسنَ وأنا أسمع عن قوله: « إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا » قال، هو أول مسجد عُبد الله فيه في الأرض.
حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي قال، حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر في قوله: « إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة » قال: قد كانت قبله بيوتٌ، ولكنه أول بيت وُضع للعبادة.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن قوله: « إن أوّل بيت وضع للناس » ، يُعبد الله فيه « للذي ببكة » .
حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: « إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا » قال، وضع للعبادة.
وقال آخرون: بل هو أوّل بيت وضع للناس.
ثم اختلف قائلو ذلك في صفة وضعه أوّل.
فقال بعضهم: خُلق قبل جميع الأرَضين، ثم دُحِيت الأرَضون من تحته.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا شيبان، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: خلق الله البيتَ قبل الأرض بألفي سنة، وكان - إذ كان عرشه على الماء- زَبْدةً بيضاءَ، فدحيتُ الأرض من تحته.
حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال: سمعت مجاهدًا يقول: إنّ أول ما خلق الله الكعبةَ، ثم دَحى الأرض من تحتها.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « إن أول بيت وضع للناس » ، كقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ سورة آل عمران: 110 ]
حدثني محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين » ، أما « أول بيت » ، فإنه يوم كانت الأرض ماء، كان زَبْدَة على الأرض، فلما خلق الله الأرضَ، خلق البيت معها، فهو أول بيت وضع في الأرض.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا ) قال، أوّل بيت وَضَعه الله عز وجل، فطاف به آدم وَمنْ بعده.
وقال آخرون: موضع الكعبة، موضع أوّل بيت وضعه الله في الأرض.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذُكر لنا أن البيتَ هبط مع آدم حين هبط، قال: أهبِط معك بيتي يُطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بَعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمنُ الطوفان، زَمنَ أغرقَ الله قوم نوح، رَفعه الله وطهَّره من أن يصيبهُ عقوبة أهل الأرض، فصار معمورًا في السماء. ثم إنّ إبراهيم تتبع منه أثرًا بعد ذلك، فبناه على أساسٍ قديم كانَ قبله.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قال جل ثناؤه فيه: إن أول بيت مباركٍ وهُدًى وُضع للناس، للذي ببكة. ومعنى ذلك: « إن أول بيت وضع للناس » ، أي: لعبادة الله فيه « مباركًا وهدًى » ، يعني بذلك: ومآبًا لنُسْك الناسكين وطواف الطائفين، تعظيما لله وإجلالا له « للذي ببكة » لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ما:-
حدثنا به محمد بن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال، قلت: يا رسول الله، أيُّ مسجد وضع أوّل؟ قال: « المسجد الحرام. قال: ثم أيٌّ؟ قال: المسجد الأقصى. قال: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة » .
فقد بين هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ المسجد الحرام هو أوّل مسجد وضعه الله في الأرض، على ما قلنا. فأما في موضعه بيتًا، بغير معنى بيت للعبادة والهدى والبركة، ففيه من الاختلاف ما قد ذكرت بعضَه في هذا الموضع، وبعضه في سورة البقرة وغيرها من سُور القرآن، وبينت الصواب من القول عندنا في ذلك بما أغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله: « للذي ببكة مباركا » ،، فإنه يعني: للبيت الذي بمُزْدَحم الناس لطوافهم في حجهم وعمَرهم.
وأصل « البكّ » : الزحم، يقال: منه: « بكّ فلانٌ فلانًا » إذا زحمه وصدمه - « فهو يَبُكه بَكًّا، وهم يتباكُّون فيه » ، يعني به: يتزاحمون ويتصادمون فيه. فكأن « بَكَّة » « فَعْلة » من « بَكَّ فلان فلانًا » زحمه، سُميت البقعة بفعل المزدحمين بها.
فإذا كانت « بكة » ما وصفنا، وكان موضع ازدحام الناس حَوْل البيت، وكان لا طوافَ يجوز خارج المسجد كان معلومًا بذلك أن يكون ما حَوْل الكعبة من داخل المسجد، وأن ما كان خارجَ المسجد فمكة، لا « بكة » . لأنه لا معنى خارجَه يوجب على الناس التَّباكَّ فيه. وإذْ كان ذلك كذلك، كان بيّنًا بذلك فسادُ قول من قال: « بكة » اسم لبطن « مكة » ، ومكة اسم للحرم. .
*ذكر من قال في ذلك ما قلنا: من أن « بكة » موضع مزدحم الناس للطواف:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال،: حدثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري في قوله: « إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة » قال، « بكة » موضع البيت، « ومكة » ما سوى ذلك.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن أبي جعفر قال: مرت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي وهي تطوف بالبيت، فدفعها. قال أبو جعفر: إنها بَكَّةٌ، يبكّ بعضُها بعضًا.
حدثنا ابن المثني قال: حدثنا عبد الصمد قال،: حدثنا شعبة قال، حدثنا سلمة، عن مجاهد قال: إنما سميت « بكة » ، لأن الناس يتباكُّون فيها، الرجالَ والنساءَ.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد قال، قلت لأي شيء سُميت « بكة » ؟ قال: لأنهم يتباكُّون فيها قال: يعني: يزدحمون.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، عن أبيه، عن ابن الزبير قال، إنما سميت « بكة » ، لأنهم يأتونها حُجّاجًا.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا » ، فإن الله بَكَّ به الناس جميعًا، فيصلي النساءُ قدّام الرجال، ولا يصلح ببلد غيره.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: « بكة » ، بكّ الناس بعضهم بعضًا، الرجال والنساء، يصلي بعضُهم بين يدَيْ بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي قال: « بكة » ، موضع البيت، و « مكة » : ما حولها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن أزهر، عن غالب بن عبيد الله: أنه سأل ابن شهاب عن « بكة » قال، « بكة » البيت، والمسجد. وسأله عن « مكة » ، فقال ابن شهاب: « مكة » : الحرم كله.
حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء ومجاهد قالا « بكة » : بكّ فيها الرجالَ والنساءَ.
حدثني عبد الجبار بن يحيى الرملي. قال: قال ضمرة بن ربيعة، « بكة »