7.تفسير الطبري سورة الأعراف
تفسير سورة الأعراف
تفسير السورة التي يذكر فيها الأعراف
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدَّست أسماؤه المص ( 1 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قول الله تعالى ذكره: ( المص ) .
فقال بعضهم: معناه: أنا الله أفضل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي, عن شريك, عن عطاء بن السائب, عن أبي الضحى, عن ابن عباس: ( المص ) ، أنا الله أفضل.
حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا عمار بن محمد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير في قوله: ( المص ) ، أنا الله أفضل.
وقال آخرون: هو هجاء حروف اسم الله تبارك وتعالى الذي هو « المصوّر » .
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( المص ) ، قال: هي هجاء « المصوّر » .
وقال آخرون: هي اسم من أسماء الله، أقسم ربنا به.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( المص ) ، قسم أقسمه الله, وهو من أسماء الله.
وقال آخرون: هو اسم من أسماء القرآن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( المص ) ، قال: اسم من أسماء القرآن.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
وقال آخرون: هي حروف هجاء مقطّعة.
وقال آخرون: هي من حساب الجمَّل.
وقال آخرون: هي حروف تحوي معاني كثيرة، دلّ الله بها خلقه على مراده من ذلك.
وقال آخرون: هي حروف اسم الله الأعظم.
وقد ذكرنا كل ذلك بالرواية فيه, وتعليل كلّ فريق قال فيه قولا. وما الصواب من القول عندنا في ذلك، بشواهده وأدلته فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قول الله تعالى ذكره كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: هذا القرآن، يا محمد، كتاب أنـزله الله إليك.
ورفع « الكتاب » بتأويل: هذا كتابٌ.
القول في تأويل قوله : فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا يضق صدرك، يا محمد، من الإنذار به مَنْ أرسلتك لإنذاره به, وإبلاغه مَنْ أمرتك بإبلاغه إياه, ولا تشك في أنه من عندي, واصبر للمضيّ لأمر الله واتباع طاعته فيما كلفك وحملك من عبء أثقال النبوة, كما صبر أولو العزم من الرسل, فإن الله معك.
و « الحرج » ، هو الضيق، في كلام العرب, وقد بينا معنى ذلك بشواهده وأدلته في قوله: ضَيِّقًا حَرَجًا [ سورة الأنعام: 125 ] ، بما أغنى عن إعادته.
وقال أهل التأويل في ذلك ما:-
حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) ، قال: لا تكن في شك منه.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) ، قال: شك.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) ، شك منه.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة، مثله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) ، قال: أما « الحرج » ، فشك.
حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا في قوله: ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) ، قال: شك من القرآن.
قال أبو جعفر: وهذا الذي ذكرته من التأويل عن أهل التأويل، هو معنى ما قلنا في « الحرج » ، لأن الشك فيه لا يكون إلا من ضيق الصدر به، وقلة الاتساع لتوجيهه وجهته التي هي وجهته الصحيحة. وإنما اخترنا العبارة عنه بمعنى « الضيق » ، لأن ذلك هو الغالب عليه من معناه في كلام العرب, كما قد بيناه قبل.
القول في تأويل قوله : لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 2 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: هذا كتاب أنـزلناه إليك، يا محمد، لتنذر به من أمرتك بإنذاره, ( وذكرى للمؤمنين ) وهو من المؤخر الذي معناه التقديم. ومعناه: « كتاب أنـزل إليك لتنذر به » , و « ذكرى للمؤمنين » , فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ .
وإذا كان ذلك معناه، كان موضع قوله: ( وذكرى ) نصبًا، بمعنى: أنـزلنا إليك هذا الكتاب لتنذر به, وتذكر به المؤمنين.
ولو قيل معنى ذلك: هذا كتاب أنـزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، أن تنذر به، وتذكّر به المؤمنين كان قولا غير مدفوعة صحته.
وإذا وُجِّه معنى الكلام إلى هذا الوجه، كان في قوله: ( وذكرى ) من الإعراب وجهان:
أحدهما: النصب بالردّ على موضع « لتنذر به » .
والآخر: الرفع، عطفًا على « الكتاب » , كأنه قيل: المص * كِتَابٌ أُنْـزِلَ إِلَيْكَ ، و « ذكرى للمؤمنين » .
القول في تأويل قوله : اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 3 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من قومك الذين يعبدون الأوثان والأصنام: اتبعوا، أيها الناس، ما جاءكم من عند ربكم بالبينات والهدى, واعملوا بما أمركم به ربكم, ولا تتبعوا شيئًا من دونه يعني: شيئًا غير ما أنـزل إليكم ربكم. يقول: لا تتبعوا أمر أوليائكم الذين يأمرونكم بالشرك بالله وعبادة الأوثان, فإنهم يضلونكم ولا يهدونكم.
فإن قال قائل: وكيف قلت: « معنى الكلام: قل اتبعوا » , وليس في الكلام موجودًا ذكرُ القول؟
قيل: إنه وإن لم يكن مذكورًا صريحًا, فإن في الكلام دلالة عليه, وذلك قوله: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ , ففي قوله: « لتنذر به » ، الأمر بالإنذار, وفي الأمر بالإنذار، الأمرُ بالقول، لأن الإنذار قول. فكأن معنى الكلام: أنذر القومَ وقل لهم: اتبعوا ما أنـزل إليكم من ربكم.
ولو قيل معناه: لتنذر به وتذكر به المؤمنين فتقول لهم: اتبعوا ما أنـزل إليكم كان غير مدفوع.
وقد كان بعض أهل العربية يقول: قوله: ( اتبعوا ) ، خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم , ومعناه: كتاب أنـزل إليك, فلا يكن في صدرك حرج منه, اتبع ما أنـزل إليك من ربك ويرى أن ذلك نظير قول الله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ سورة الطلاق: 1 ] ، إذ ابتدأ خطابَ النبي صلى الله عليه وسلم , ثم جعل الفعل للجميع, إذ كان أمر الله نبيه بأمرٍ، أمرًا منه لجميع أمته, كما يقال للرجل يُفْرَد بالخطاب والمراد به هو وجماعة أتباعه أو عشيرته وقبيلته: « أما تتقون الله، أما تستحيون من الله! » ، ونحو ذلك من الكلام.
وذلك وإن كان وجهًا غير مدفوع, فالقولُ الذي اخترناه أولى بمعنى الكلام، لدلالة الظاهر الذي وصفنا عليه.
وقوله: ( قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) ، يقول: قليلا ما تتعظون وتعتبرون فتراجعون الحق.
القول في تأويل قوله : وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( 4 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: حذّر هؤلاء العابدين غيري، والعادلين بي الآلهة والأوثان، سَخَطي لا أُحِلّ بهم عقوبتي فأهلكهم، كما أهلكت من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم, فكثيرًا ما أهلكت قبلهم من أهل قرى عصوني وكذَّبوا رسلي وعبدوا غيري ( فجاءها بأسنا بياتًا ) ، يقول: فجاءتهم عقوبتنا ونقمتنا ليلا قبل أن يصبحوا أو جاءتهم « قائلين » , يعني: نهارًا في وقت القائلة.
وقيل: « وكم » لأن المراد بالكلام ما وصفت من الخبر عن كثرة ما قد أصاب الأمم السالفة من المَثُلاث، بتكذيبهم رسلَه وخلافهم عليه. وكذلك تفعل العرب إذا أرادوا الخبر عن كثرة العدد, كما قال الفرزدق:
كَـمْ عَمـةٍ لَـكَ يـا جَـرِيرُ وَخَالَـةٍ فَدْعَـاءَ قَـدْ حَـلَبَتْ عَـلَيَّ عِشَـارِي
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره إنما أخبر أنه « أهلك قرًى » , فما في خبره عن إهلاكه « القرى » من الدليل على إهلاكه أهلها؟
قيل: إن « القرى » لا تسمى « قرى » ولا « القرية » « قرية » ، إلا وفيها مساكن لأهلها وسكان منهم, ففي إهلاكها إهلاك مَنْ فيها من أهلها.
وقد كان بعض أهل العربية يرى أن الكلام خرج مخرج الخبر عن « القرية » , والمراد به أهلها.
قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بالحق، لموافقته ظاهر التنـزيل المتلوّ.
فإن قال قائل: وكيف قيل: ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون ) ؟ وهل هلكت قرية إلا بمجيء بأس الله وحلول نقمته وسَخَطه بها؟ فكيف قيل: « أهلكناها فجاءها » ؟ وإن كان مجيء بأس الله إياها بعد هلاكها، فما وجه مجيء ذلك قومًا قد هلكوا وبادوا، ولا يشعرون بما ينـزل بهم ولا بمساكنهم؟
قيل: إن لذلك من التأويل وجهين، كلاهما صحيح واضح منهجه:
أحدهما: أن يكون معناه: « وكم من قرية أهلكناها » ، بخذلاننا إياها عن اتباع ما أنـزلنا إليها من البينات والهدى، واختيارها اتباع أمر أوليائها المُغْوِيتِهَا عن طاعة ربها « فجاءها بأسنا » إذ فعلت ذلك « بياتا أو هم قائلون » ، فيكون « إهلاك الله إياها » ، خذلانه لها عن طاعته, ويكون « مجيء بأس الله إياهم » ، جزاء لمعصيتهم ربهم بخذلانه إياهم.
والآخر منهما: أن يكون « الإهلاك » هو « البأس » بعينه، فيكون في ذكر « الإهلاك » الدلالةُ على ذكر « مجيء البأس » , وفي ذكر « مجيء البأس » الدلالة على ذكر « الإهلاك » .
وإذا كان ذلك كذلك, كان سواء عند العرب، بُدئ بالإهلاك ثم عطف عليه بالبأس, أو بدئ بالبأس ثم عطف عليه بالإهلاك. وذلك كقولهم: « زرتني فأكرمتني » ، إذ كانت « الزيارة » هي « الكرامة » , فسواء عندهم قدم « الزيارة » وأخر « الكرامة » , أو قدم « الكرامة » وأخر « الزيارة » فقال: « أكرمتني فزرتني » .
وكان بعض أهل العربية يزعم أن في الكلام محذوفًا, لولا ذلك لم يكن الكلام صحيحًا وأن معنى ذلك: وكم من قرية أهلكناها, فكان مجيء بأسنا إياها قبل إهلاكنا. وهذا قول لا دلالة على صحته من ظاهر التنـزيل، ولا من خبر يجب التسليم له. وإذا خلا القولُ من دلالة على صحته من بعض الوجوه التي يجبُ التسليم لها، كان بيّنًا فساده.
وقال آخر منهم أيضًا: معنى « الفاء » في هذا الموضع معنى « الواو » . وقال: تأويل الكلام: وكم من قرية أهلكناها، وجاءها بأسنا بياتًا. وهذا قول لا معنى له, إذ كان لـ « الفاء » عند العرب من الحكم ما ليس للواو في الكلام, فصرفها إلى الأغلب من معناها عندهم، ما وجد إلى ذلك سبيل، أولى من صرفها إلى غيره.
فإن قال: وكيف قيل: ( فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون ) , وقد علمت أن الأغلب من شأن « أو » في الكلام، اجتلابُ الشك, وغير جائز أن يكون في خبر الله شك؟
قيل: إن تأويل ذلك خلافُ ما إليه ذهبتَ. وإنما معنى الكلام: وكم من قرية أهلكناها فجاء بعضها بأسنا بياتًا, وبعضها وهم قائلون. ولو جعل مكان « أو » في هذا الموضع « الواو » ، لكان الكلام كالمحال, ولصار الأغلب من معنى الكلام: أن القرية التي أهلكها الله جاءها بأسه بياتًا وفي وقت القائلة . وذلك خبرٌ عن البأس أنه أهلك من قد هلك، وأفنى من قد فني. وذلك من الكلام خَلْفٌ . ولكن الصحيح من الكلام هو ما جاء به التنـزيل, إذ لم يفصل القرى التي جاءها البأس بياتًا، من القرى التي جاءها ذلك قائلةً. ولو فُصلت، لم يخبر عنها إلا بالواو.
وقيل: « فجاءها بأسنا » خبرًا عن « القرية » أن البأس أتاها, وأجرى الكلام على ما ابتدئ به في أول الآية . ولو قيل: « فجاءهم بأسنا بياتًا » ، لكان صحيحًا فصيحًا، ردًّا للكلام إلى معناه, إذ كان البأس إنما قصد به سكان القرية دون بنيانها, وإن كان قد نال بنيانها ومساكنها من البأس بالخراب، نحوٌ من الذي نال سكانها. وقد رجع في قوله: ( أو هم قائلون ) ، إلى خصوص الخبر عن سكانها دون مساكنها، لما وصفنا من أن المقصود بالبأس كان السكان، وإن كان في هلاكهم هلاك مساكنهم وخرابها.
ولو قيل: « أو هي قائلة » ، كان صحيحًا، إذ كان السامعون قد فهموا المراد من الكلام.
فإن قال قائل: أو ليس قوله: ( أو هم قائلون ) ، خبرًا عن الوقت الذي أتاهم فيه بأس الله من النهار؟
قيل: بلى!
فإن قال: أو ليس المواقيت في مثل هذا تكون في كلام العرب بالواو الدالِّ على الوقت؟
قيل: إن ذلك، وإن كان كذلك, فإنهم قد يحذفون من مثل هذا الموضع، استثقالا للجمع بين حرفي عطف, إذ كان « أو » عندهم من حروف العطف, وكذلك « الواو » , فيقولون: « لقيتني مملقًا أو أنا مسافر » , بمعنى: أو وأنا مسافر, فيحذفون « الواو » وهم مريدوها في الكلام، لما وصفت.
القول في تأويل قوله : فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 5 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلم يكن دعوى أهل القرية التي أهلكناها، إذ جاءهم بأسنا وسطوتُنا بياتًا أو هم قائلون, إلا اعترافهم على أنفسهم بأنهم كانوا إلى أنفسهم مسيئين، وبربهم آثمين، ولأمره ونهيه مخالفين.
وعنى بقوله جل ثناؤه: ( دعواهم ) ، في هذا الموضع دعاءَهم.
ولـ « الدعوى » ، في كلام العرب، وجهان: أحدهما: الدعاء ، والآخر: الادعاء للحق.
ومن « الدعوى » التي معناها الدعاء، قول الله تبارك وتعالى: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ [ سورة الأنبياء: 15 ] ، ومنه قول الشاعر:
وَإِنْ مَـذِلَتْ رِجْـلِي دَعَـوْتُكِ أَشْـتَفِي بِدَعْــوَاكِ مِـنْ مَـذْلٍ بِهَـا فَيَهُـونُ
وقد بينا فيما مضى قبل أن « البأس » و « البأساء » الشدة, بشواهد ذلك الدالة على صحته, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وفي هذه الآية الدلالةُ الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: « ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم » .
وقد تأوّل ذلك كذلك بعضهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن أبي سنان, عن عبد الملك بن ميسرة الزرَّاد قال، قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله: ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم - قال قلت لعبد الملك: كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية: ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا ) ، الآية .
فإن قال قائل: وكيف قيل: ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ) ؟ وكيف أمكنتهم الدعوى بذلك، وقد جاءهم بأس الله بالهلاك؟ أقالوا ذلك قبل الهلاك؟ فإن كانوا قالوه قبل الهلاك, فإنهم قالوا قبل مجيء البأس, والله يخبر عنهم أنهم قالوه حين جاءهم، لا قبل ذلك؟ أو قالوه بعد ما جاءهم، فتلك حالة قد هلكوا فيها, فكيف يجوز وصفهم بقيل ذلك إذا عاينوا بأس الله، وحقيقة ما كانت الرسل تَعِدهم من سطوة الله؟.
قيل: ليس كل الأمم كان هلاكها في لحظة ليس بين أوّله وآخره مَهَلٌ, بل كان منهم من غرق بالطوفان. فكان بين أوّل ظهور السبب الذي علموا أنهم به هالكون، وبين آخره الذي عمَّ جميعهم هلاكُه، المدة التي لا خفاء بها على ذي عقل . ومنهم من مُتِّع بالحياة بعد ظهور علامة الهلاك لأعينهم أيامًا ثلاثة, كقوم صالح وأشباههم. فحينئذ لما عاينوا أوائل بأس الله الذي كانت رسل الله تتوعدهم به، وأيقنوا حقيقة نـزول سطوة الله بهم, دعوا: يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ، فلم يك ينفعهم إيمانهم مع مجيء وعيد الله وحلول نقمته بساحتهم. فحذّر ربنا جل ثناؤه الذين أرسل إليهم نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم من سطوته وعقابه على كفرهم به وتكذيبهم رسوله, ما حلَّ بمن كان قبلهم من الأمم إذ عصوا رُسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد.
القول في تأويل قوله : فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( 6 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لنسألن الأمم الذين أرسلت إليهم رسلي: ماذا عملت فيما جاءتهم به الرسل من عندي من أمري ونهيي؟ هل عملوا بما أمرتهم به، وانتهوا عما نهيتهم عنه، وأطاعوا أمري, أم عصوني فخالفوا ذلك؟ ( ولنسألن المرسلين ) ، يقول: ولنسألن الرسل الذين أرسلتهم إلى الأمم: هل بلغتهم رسالاتي، وأدَّت إليهم ما أمرتهم بأدائه إليهم, أم قصّروا في ذلك ففرَّطوا ولم يبلغوهم؟.
وكذلك كان أهل التأويل يتأولونه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) ، قال: يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين, ويسأل المرسلين عما بلغوا.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ) إلى قوله: ( غائبين ) ، قال: يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما كانوا يعملون.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فلنسألنّ الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) ، يقول فلنسألن الأمم: ما عملوا فيما جاءت به الرسل؟ ولنسألن الرسل: هل بلغوا ما أرسلوا به؟
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، قال مجاهد: ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ) ، الأمم ولنسألن الذين أرسلنا إليهم عما ائتمناهم عليه: هل بلغوا؟
القول في تأويل قوله : فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ( 7 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلنخبرن الرسل ومَنْ أرسلتهم إليه بيقين علمٍ بما عملوا في الدنيا فيما كنت أمرتهم به, وما كنت نهيتهم عنه « وما كنا غائبين » ، عنهم وعن أفعالهم التي كانوا يفعلونها.
فإن قال قائل: وكيف يسأل الرسلَ، والمرسل إليهم, وهو يخبر أنه يقصّ عليهم بعلم بأعمالهم وأفعالهم في ذلك؟
قيل: إن ذلك منه تعالى ذكره ليس بمسألة استرشاد، ولا مسألة تعرّف منهم ما هو به غير عالم, وإنما هو مسألة توبيخ وتقرير معناها الخبر, كما يقول الرجل للرجل: « ألم أحسن إليك فأسأت؟ » ، و « ألم أصلك فقطعت؟ » . فكذلك مسألة الله المرسلَ إليهم، بأن يقول لهم: « ألم يأتكم رسلي بالبينات؟ ألم أبعث إليكم النذر فتنذركم عذابي وعقابي في هذا اليوم من كفر بي وعبد غيري » ؟ كما أخبر جل ثناؤه أنه قائل لهم يومئذ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [ سورة يس: 60- 61 ] .
ونحو ذلك من القول الذي ظاهره ظاهر مسألة, ومعناه الخبر والقصص، وهو بعدُ توبيخ وتقرير.
وأما مسألة الرسل الذي هو قصص وخبر, فإن الأمم المشركة لما سئلت في القيامة قيل لها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ ؟ أنكر ذلك كثير منهم وقالوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ . فقيل للرسل: « هل بلغتم ما أرسلتم به » ؟ أو قيل لهم: « ألم تبلغوا إلى هؤلاء ما أرسلتم به؟ » ، كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكما قال جل ثناؤه لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ، [ سورة البقرة: 143 ] . فكل ذلك من الله مسألة للرسل على وجه الاستشهاد لهم على من أرسلوا إليه من الأمم، وللمرسَل إليهم على وجه التقرير والتوبيخ, وكل ذلك بمعنى القصص والخبر.
فأما الذي هو عن الله منفيٌّ من مسألته خلقه, فالمسألة التي هي مسألة استرشاد واستثبات فيما لا يعلمه السائل عنها ويعلمه المسؤول, ليعلم السائل علم ذلك من قِبَله، فذلك غير جائز أن يوصف الله به ، لأنه العالم بالأشياء قبل كونها وفي حال كونها وبعد كونها, وهي المسألة التي نفاها جل ثناؤه عن نفسه بقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ، [ سورة الرحمن: 39 ] ، وبقوله: وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ، [ سورة القصص: 78 ] ، يعني: لا يسأل عن ذلك أحدًا منهم مستثبت, ليعلم علم ذلك من قبل مَنْ سأل منه, لأنه العالم بذلك كله وبكل شيء غيره.
وقد ذكرنا ما روي في معنى ذلك من الخبر في غير هذا الموضع, فكرهنا إعادته.
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في معنى قوله: ( فلنقصن عليهم بعلم ) ، أنه ينطق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم.
هذا قولٌ غيرُ بعيد من الحق, غير أن الصحيح من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه تَرْجُمان, فيقول له: « أتذكر يوم فعلت كذا وفعلت كذا » ؟ حتى يذكره ما فعل في الدنيا والتسليم لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من التسليم لغيره.
القول في تأويل قوله : وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 8 )
قال أبو جعفر: « الوزن » مصدر من قول القائل: « وزنت كذا وكذا أزِنه وَزْنًا وزِنَةً » , مثل: « وَعدته أعده وعدًا وعدة » .
وهو مرفوع بـ « الحق » , و « الحق » به.
ومعنى الكلام: والوزن يوم نسأل الذين أرسل إليهم والمرسلين, الحق ويعني بـ « الحق » ، العدلَ.
وكان مجاهد يقول: « الوزن » ، في هذا الموضع، القضاء.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « والوزن يومئذ » ، القضاء.
وكان يقول أيضًا: معنى « الحق » ، هاهنا، العدل.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد: ( والوزن يومئذ الحق ) ، قال: العدل.
وقال آخرون: معنى قوله: ( والوزن يومئذ الحق ) ، وزن الأعمال.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, قوله: ( والوزن يومئذ الحق ) ، توزن الأعمال.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( والوزن يومئذ الحق ) ، قال: قال عبيد بن عمير: يؤتى بالرجل العظيم الطويل الأكول الشَّروب, فلا يزن جناح بَعُوضة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( والوزن يومئذ الحق ) ، قال: قال عبيد بن عمير: يؤتى بالرجل الطويل العظيم فلا يزن جناح بعوضة.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يوسف بن صهيب, عن موسى, عن بلال بن يحيى, عن حذيفة قال: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، قال: يا جبريل، زِن بينهم! فردَّ من بعضٍ على بعض. قال: وليس ثم ذهبٌ ولا فضة. قال: فإن كان للظالم حسنات، أخذ من حسناته فترد على المظلوم, وإن لم يكن له حسنات حُمِل عليه من سيئات صاحبه ، فيرجع الرجل عليه مثل الجبال, فذلك قوله: ( والوزن يومئذ الحق ) .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( فمن ثقلت موازينه ) .
فقال بعضهم: معناه: فمن كثرت حسناته.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد: ( فمن ثقلت موازينه ) ، قال: حسناته.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن ثقلت موازينه التي توزن بها حسناته وسيئاته. قالوا: وذلك هو « الميزان » الذي يعرفه الناس, له لسان وكِفَّتان.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال لي عمرو بن دينار قوله: ( والوزن يومئذ الحق ) ، قال: إنا نرى ميزانًا وكفتين, سمعت عبيد بن عمير يقول: يُجْعَل الرجل العظيم الطويل في الميزان, ثم لا يقوم بجناح ذباب.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، القول الذي ذكرناه عن عمرو بن دينار، من أن ذلك هو « الميزان » المعروف الذي يوزن به, وأن الله جل ثناؤه يزن أعمال خلقه الحسنات منها والسيئات, كما قال جل ثناؤه: ( فمن ثقلت موازينه ) ، موازين عمله الصالح ( فأولئك هم المفلحون ) ، يقول: فأولئك هم الذين ظفروا بالنجاح، وأدركوا الفوز بالطلبات, والخلود والبقاء في الجنات, لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « ما وُضِع في الميزان شيء أثقل من حسن الخُلق » , ونحو ذلك من الأخبار التي تحقق أن ذلك ميزانٌ يوزن به الأعمال، على ما وصفت.
فإن أنكر ذلك جاهل بتوجيه معنى خبر الله عن الميزان وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنه، وِجْهَته, وقال: أوَ بالله حاجة إلى وزن الأشياء، وهو العالم بمقدار كل شيء قبل خلقه إياه وبعده، وفي كل حال ؟ أو قال: وكيف توزن الأعمال, والأعمال ليست بأجسام توصف بالثقل والخفة, وإنما توزن الأشياء ليعرف ثقلها من خفتها، وكثرتها من قلتها, وذلك لا يجوز إلا على الأشياء التي توصف بالثقل والخفة، والكثرة والقلة؟
قيل له في قوله: « وما وجه وزن الله الأعمالَ، وهو العالم بمقاديرها قبل كونها » : وزن ذلك، نظيرُ إثباته إياه في أمِّ الكتاب واستنساخه ذلك في الكتب، من غير حاجة به إليه، ومن غير خوف من نسيانه, وهو العالم بكل ذلك في كل حال ووقت قبل كونه وبعد وجوده, بل ليكون ذلك حجة على خلقه, كما قال جل ثناؤه في تنـزيله: ( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [ سورة الجاثية: 28- 29 ] الآية فكذلك وزنه تعالى أعمال خلقه بالميزان، حجة عليهم ولهم, إما بالتقصير في طاعته والتضييع، وإما بالتكميل والتتميم
وأمّا وجه جواز ذلك, فإنه كما:
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا عبد الرحمن بن زياد الإفريقي, عن عبد الله بن يزيد, عن عبد الله بن عمرو، قال: يُؤْتى بالرجل يوم القيامة إلى الميزان, فيوضع في الكِفّة, فيخرج له تسعة وتسعون سِجِلا فيها خطاياه وذنوبه. قال: ثم يخرج له كتاب مثل الأنْمُلة, فيها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم . قال: فتوضع في الكِفّة، فترجح بخطاياه وذنوبه.
فكذلك وزن الله أعمال خلقه، بأن يوضع العبد وكتب حسناته في كفة من كفتي الميزان, وكتب سيئاته في الكفة الأخرى, ويحدث الله تبارك وتعالى ثقلا وخفة في الكفة التي الموزون بها أولى، احتجاجًا من الله بذلك على خلقه، كفعله بكثير منهم: من استنطاق أيديهم وأرجلهم, استشهادًا بذلك عليهم, وما أشبه ذلك من حججه.
ويُسأل مَن أنكر ذلك فيقال له: إن الله أخبرنا تعالى ذكره أنه يثقل موازين قوم في القيامة، ويخفف موازين آخرين, وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحقيق ذلك, فما الذي أوجب لك إنكار الميزان أن يكون هو الميزان الذي وصفنا صفته، الذي يتعارفه الناس؟ أحجة عقل تُبْعِد أن يُنال وجه صحته من جهة العقل؟ وليس في وزن الله جل ثناؤه خلقَه وكتبَ أعمالهم لتعريفهم أثقل القسمين منها بالميزان، خروجٌ من حكمة, ولا دخول في جور في قضية, فما الذي أحال ذلك عندك من حجةِ عقلٍ أو خبر؟ إذ كان لا سبيل إلى حقيقة القول بإفساد ما لا يدفعه العقل إلا من أحد الوجهين اللذين ذكرتُ، ولا سبيل إلى ذلك. وفي عدم البرهان على صحة دعواه من هذين الوجهين، وضوحُ فساد قوله، وصحة ما قاله أهل الحق في ذلك.
وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في هذا المعنى على من أنكر الميزان الذي وصفنا صفته, إذ كان قصدُنا في هذا الكتاب: البيانَ عن تأويل القرآن دون غيره. ولولا ذلك لقرنَّا إلى ما ذكرنا نظائره, وفي الذي ذكرنا من ذلك كفاية لمن وُفِّق لفهمه إن شاء الله.
القول في تأويل قوله : وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ( 9 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ومن خفت موازين أعماله الصالحة، فلم تثقل بإقراره بتوحيد الله، والإيمان به وبرسوله، واتباع أمره ونهيه, فأولئك الذين غَبَنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته ( بما كانوا بآياتنا يظلمون ) ، يقول: بما كانوا بحجج الله وأدلته يجحدون, فلا يقرّون بصحتها, ولا يوقنون بحقيقتها، كالذي:-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن مجاهد: ( ومن خفت موازينه ) ، قال: حسناته.
وقيل: « فأولئك » ، و « من » في لفظ الواحد, لأن معناه الجمع. ولو جاء موحَدًا كان صوابًا فصيحًا.
القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ( 10 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد وطَّأْنا لكم، أيها الناس، في الأرض, وجعلناها لكم قرارًا تستقرُّون فيها, ومهادًا تمتهدونها, وفراشًا تفترشونها ( وجعلنا لكم فيها معايش ) ، تعيشون بها أيام حياتكم, من مطاعم ومشارب, نعمة مني عليكم، وإحسانًا مني إليكم ( قليلا ما تشكرون ) ، يقول: وأنتم قليل شكركم على هذه النعم التي أنعمتها عليكم لعبادتكم غيري, واتخاذكم إلهًا سواي.
* *
والمعايش: جمع « معيشة » .
واختلفت القرأة في قراءتها.
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: ( مَعَايِشَ ) بغير همز.
وقرأه عبد الرحمن الأعرج: « مَعَائِشَ » بالهمز.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: ( مَعَايِشَ ) بغير همز, لأنها « مفاعل » من قول القائل « عشتَ تعيش » , فالميم فيها زائدة، والياء في الحكم متحركة, لأن واحدها « مَفْعلة » ، « مَعْيشة » ، متحركة الياء, نقلت حركة الياء منها إلى « العين » في واحدها . فلما جُمعت، رُدّت حركتها إليها لسكون ما قبلها وتحركها. وكذلك تفعل العرب بالياء والواو إذا سكن ما قبلهما وتحركتا، في نظائر ما وصفنا من الجمع الذي يأتي على مثال « مفاعل » , وذلك مخالف لما جاء من الجمع على مثال « فعائل » التي تكون الياء فيها زائدة ليست بأصل. فإن ما جاء من الجمع على هذا المثال، فالعرب تهمزه، كقولهم: « هذه مدائن » و « صحائف » ونظائرهما, لأن « مدائن » جمع « مدينة » , و « المدينة » ، « فعيلة » من قولهم: « مدنت المدينة » , وكذلك، « صحائف » جمع « صحيفة » , و « الصحيفة » ، « فعيلة » من قولك: « صحفت الصحيفة » , فالياء في واحدها زائدة ساكنة, فإذا جمعت همزت، لخلافها في الجمع الياء التي كانت في واحدها, وذلك أنها كانت في واحدها ساكنة, وهي في الجمع متحركة. ولو جعلت « مدينة » « مَفْعلة » من: « دان يدين » , وجمعت على « مفاعل » , كان الفصيح ترك الهمز فيها. وتحريك الياء. وربما همزت العرب جمع « مفعلة » في ذوات الياء والواو وإن كان الفصيح من كلامها ترك الهمز فيها. إذا جاءت على « مفاعل » تشبيهًا منهم جمعها بجمع « فعيلة » , كما تشبه « مَفْعلا » « بفعيل » فتقول: « مَسِيل الماء » , من: « سال يسيل » , ثم تجمعها جمع « فعيل » , فتقول: « هي أمسلة » ، في الجمع، تشبيهًا منهم لها بجمع « بعير » وهو « فعيل » , إذ تجمعه « أبعرة » . وكذلك يجمع « المصير » وهو « مَفْعل » ، « مُصْران » تشبيهًا له بجمع: « بعير » وهو « فعيل » , إذ تجمعه « بُعْران » , وعلى هذا همز الأعرج « معايش » . وذلك ليس بالفصيح في كلامها، وأولى ما قرئ به كتاب الله من الألسن أفصحها وأعرفها، دون أنكرها وأشذِّها.
القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ( 11 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويل ذلك: ( ولقد خلقناكم ) ، في ظهر آدم، أيها الناس ( ثم صورناكم ) ، في أرحام النساء. خلقًا مخلوقًا ومثالا ممثلا في صورة آدم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) , قوله: ( خلقناكم ) ، يعني آدم وأما « صورناكم » ، فذريّته.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) الآية, قال: أمّا « خلقناكم » ، فآدم. وأمّا « صورناكم » ، فذرية آدم من بعده.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع: ( ولقد خلقناكم ) ، يعني: آدم ( ثم صورناكم ) ، يعني: في الأرحام.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس في قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، يقول: خلقناكم خلق آدم, ثم صَوَّرناكم في بطون أمهاتكم.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، يقول: خلقنا آدم، ثم صورنا الذرية في الأرحام.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: خلق الله آدم من طين « ثم صورناكم » ، في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق: علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا, ثم كسا العظام لحمًا, ثم أنشأناه خلقًا آخر.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: خلق الله آدم، ثم صوّر ذريته من بعده.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمر بن هارون, عن نصر بن مُشارس, عن الضحاك: ( خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: ذريته.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك, قوله: ( ولقد خلقناكم ) ، يعني آدم ( ثم صورناكم ) , يعني: ذريته.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: « ولقد خلقناكم » ، في أصلاب آبائكم « ثم صورناكم » ، في بطون أمهاتكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شريك, عن سماك, عن عكرمة: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: خلقناكم في أصلاب الرجال, وصوّرناكم في أرحام النساء.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحمانى قال، حدثنا شريك, عن سماك, عن عكرمة, مثله.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان قال، سمعت الأعمش يقرأ: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: خلقناكم في أصلاب الرجال, ثم صورناكم في أرحام النساء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ( خلقناكم ) ، يعني آدم ( ثم صورناكم ) ، يعني في ظهره.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( ولقد خلقناكم ) ، قال: آدم ( ثم صورناكم ) ، قال: في ظهر آدم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، في ظهر آدم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: صورناكم في ظهر آدم.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا في قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: في ظهر آدم، لما تصيرون إليه من الثواب في الآخرة.
وقال آخرون: معنى ذلك: « ولقد خلقناكم » ، في بطون أمهاتكم « ثم صورناكم » ، فيها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عمن ذكره قال: ( خلقناكم ثم صورناكم ) ، قال: خلق الله الإنسان في الرحم, ثم صوّره، فشقَّ سمعه وبصره وأصابعه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويله: ( ولقد خلقناكم ) ، ولقد خلقنا آدم ( ثم صورناكم ) ، بتصويرنا آدم, كما قد بينا فيما مضى من خطاب العرب الرجلَ بالأفعال تضيفها إليه, والمعنيُّ في ذلك سلفه, وكما قال جل ثناؤه لمن بين أظهر المؤمنين من اليهود على عهد رسول الله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ، [ سورة البقرة: 63 ] . وما أشبه ذلك من الخطاب الموجَّه إلى الحيّ الموجود، والمراد به السلف المعدوم, فكذلك ذلك في قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، معناه: ولقد خلقنا أباكم آدم ثم صوَّرناه.
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب, لأن الذي يتلو ذلك قوله: ( ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) ، ومعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أمر الملائكة بالسجود لآدم، قبل أن يصوِّر ذريته في بطون أمهاتهم, بل قبل أن يخلُق أمهاتهم.
و « ثم » في كلام العرب لا تأتي إلا بإيذان انقطاع ما بعدها عما قبلها, وذلك كقول القائل: « قمت ثم قعدت » , لا يكون « القعود » إذ عطف به بـ « ثم » على قوله: « قمت » إلا بعد القيام, وكذلك ذلك في جميع الكلام. ولو كان العطف في ذلك بالواو، جاز أن يكون الذي بعدها قد كان قبل الذي قبلها, وذلك كقول القائل: « قمت وقعدت » , فجائز أن يكون « القعود » في هذا الكلام قد كان قبل « القيام » , لأن الواو تدخل في الكلام إذا كانت عطفًا، لتوجب للذي بعدها من المعنى ما وجب للذي قبلها، من غير دلالة منها بنفسها على أن ذلك كان في وقت واحد أو وقتين مختلفين, أو إن كانا في وقتين، أيهما المتقدم وأيهما المتأخر. فلما وصفنا قلنا إنّ قوله: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ) ، لا يصح تأويله إلا على ما ذكرنا.
فإن ظن ظانّ أن العربَ، إذ كانت ربما نطقت بـ « ثم » في موضع « الواو » في ضرورة شعره، كما قال بعضهم:
سَــأَلْتُ رَبِيعَــةَ: مَــنْ خَيْرُهَــا أَبًــا ثُــمَّ أُمًّــا? فَقَـالَتْ: لِمَـهْ?
بمعنى: أبًا وأمًّا, فإن ذلك جائز أن يكون نظيره فإن ذلك بخلاف ما ظن . وذلك أن كتاب الله جل ثناؤه نـزل بأفصح لغات العرب, وغير جائز توجيه شيء منه إلى الشاذّ من لغاتها، وله في الأفصح الأشهر معنى مفهومٌ ووجه معروف.
وقد وجَّه بعض من ضعفت معرفته بكلام العرب ذلك إلى أنه من المؤخر الذي معناه التقديم, وزعم أن معنى ذلك: ولقد خلقناكم, ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم, ثم صورناكم. وذلك غير جائز في كلام العرب, لأنها لا تدخل « ثم » في الكلام وهي مرادٌ بها التقديم على ما قبلها من الخبر, وإن كانوا قد يقدِّمونها في الكلام, إذا كان فيه دليل على أن معناها التأخير, وذلك كقولهم: « قام ثم عبد الله عمرو » ، فأما إذا قيل: « قام عبد الله ثم قعد عمرو » , فغير جائز أن يكون قعود عمرو كان إلا بعد قيام عبد الله, إذا كان الخبر صدقًا, فقول الله تبارك وتعالى: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا ) ، نظير قول القائل: « قام عبد الله ثم قعد عمرو » ، في أنه غير جائز أن يكون أمرُ الله الملائكةَ بالسجود لآدم كان إلا بعد الخلق والتصوير، لما وصفنا قبل.
وأما قوله للملائكة: ( اسجدوا لآدم ) ، فإنه يقول جل ثناؤه: فلما صوّرنا آدم وجعلناه خلقًا سويًّا, ونفخنا فيه من روحنا, قلنا للملائكة: « اسجدوا لآدم » , ابتلاء منا واختبارًا لهم بالأمر, ليعلم الطائع منهم من العاصي ، ( فسجدوا ) ، يقول: فسجد الملائكة، إلا إبليس فإنه لم يكن من الساجدين لآدم، حين أمره الله مع مَنْ أمرَ من سائر الملائكة غيره بالسجود.
وقد بينا فيما مضى، المعنى الذي من أجله امتحن جَلّ جلاله ملائكته بالسجود لآدم, وأمْرَ إبليس وقصصه, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله : قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 12 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيله لإبليس، إذ عصاه فلم يسجد لآدم إذ أمره بالسجود له. يقول: قال الله لإبليس: ( ما منعك ) ، أيّ شيء منعك ( ألا تسجد ) ، أن تدع السجود لآدم ( إذ أمرتك ) ، أن تسجد « قال أنا خير منه » ، يقول: قال إبليس: أنا خير من آدم « خلقتني من نار وخلقته من طين » .
فإن قال قائل: أخبرنا عن إبليس, ألحقته الملامة على السجود، أم على ترك السجود؟ فإن تكن لحقته الملامة على ترك السجود, فكيف قيل له: ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) ؟ وإن كان النكير على السجود, فذلك خلافُ ما جاء به التنـزيل في سائر القرآن, وخلاف ما يعرفه المسلمون!
قيل: إن الملامة لم تلحق إبليس إلا على معصيته ربه بتركه السجود لآدم إذ أمره بالسجود له.
غير أن في تأويل قوله: ( ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك ) ، بين أهل المعرفة بكلام العرب اختلافًا، أبدأ بذكر ما قالوا, ثم أذكر الذي هو أولى ذلك بالصواب .
فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما منعك أن تسجد و « لا » ها هنا زائدة, كما قال الشاعر:
أبَـى جُـودُهُ لا البُخْـلَ, وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَـمْ, مِـنْ فَتًـى لا يَمْنَعُ الجُوعَ قَاتِلهْ
وقال: فسرته العرب: « أبى جوده البخل » , وجعلوا « لا » زائدةً حشوًا ها هنا، وصلوا بها الكلام. قال: وزعم يونس أن أبا عمرو كان يجر « البخل » , ويجعل « لا » مضافة إليه, أراد: أبى جوده « لا » التي هي للبخل, ويجعل « لا » مضافة, لأن « لا » قد تكون للجود والبخل, لأنه لو قال له: « امنع الحق ولا تعط المسكين » فقال: « لا » كان هذا جودًا منه.
وقال بعض نحويي الكوفة نحو القول الذي ذكرناه عن البصريين في معناه وتأويله, غير أنه زعم أن العلة في دخول « لا » في قوله: ( أن لا تسجد ) ، أن في أول الكلام جحدا يعني بذلك قوله: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ، فإن العرب ربما أعادوا في الكلام الذي فيه جحد، الجحدَ, كالاستيثاق والتوكيد له . قال: وذلك كقولهم:
مَــا إنْ رَأَيْنَــا مِثْلَهُــنَّ لِمَعْشَـرٍ سُــودِ الــرُّؤُوسِ, فَـوَالِجٌ وَفُيُـولُ
فأعاد على الجحد الذي هو « ما » جحدًا, وهو قوله « إن » ، فجمعهما للتوكيد.
وقال آخر منهم: ليست « لا » ، بحشو في هذا الموضع ولا صلة, ولكن « المنع » هاهنا بمعنى « القول » ، وإنما تأويل الكلام: مَنْ قال لك لا تسجد إذ أمرتك بالسجود ولكن دخل في الكلام « أن » ، إذ كان « المنع » بمعنى « القول » ، لا في لفظه, كما يُفعل ذلك في سائر الكلام الذي يضارع القول, وهو له في اللفظ مخالف، كقولهم: « ناديت أن لا تقم » , و « حلفت أن لا تجلس » , وما أشبه ذلك من الكلام. وقال: خفض « البخل » من روى: « أبى جوده لا البخل » ، بمعنى: كلمة البخل, لأن « لا » هي كلمة البخل, فكأنه قال: كلمة البخل.
وقال بعضهم: معنى « المنع » ، الحول بين المرء وما يريده. قال: والممنوع مضطّر به إلى خلاف ما منع منه, كالممنوع من القيام وهو يريده, فهو مضطر من الفعل إلى ما كان خلافًا للقيام, إذ كان المختار للفعل هو الذي له السبيل إليه وإلى خلافه, فيوثر أحدهما على الآخر فيفعله . قال: فلما كانت صفة « المنع » ذلك, فخوطب إبليس بالمنع فقيل له: ( ما منعك ألا تسجد ) ، كان معناه كأنه قيل له: أيّ شيء اضطرك إلى أن لا تسجد؟
قال أبو جعفر: والصواب عندي من القول في ذلك أن يقال: إن في الكلام محذوفًا قد كفى دليلُ الظاهر منه, وهو أن معناه: ما منعك من السجود فأحوجك أن لا تسجد فترك ذكر « أحوجك » ، استغناء بمعرفة السامعين قوله: إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ، أن ذلك معنى الكلام، من ذكره. ثم عمل قوله: ( ما منعك ) ، في « أن » ما كان عاملا فيه قبل « أحوجك » لو ظهر، إذ كان قد ناب عنه.
وإنما قلنا إن هذا القول أولى بالصواب، لما قد مضى من دلالتنا قبل على أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له, وأن لكل كلمة معنًى صحيحًا, فتبين بذلك فسادُ قول من قال: « لا » في الكلام حشو لا معنى لها.
وأما قول من قال: معنى « المنع » ههنا « القول » , فلذلك دخلت « لا » مع « أن » فإن « المنعَ » وإن كان قد يكون قولا وفعلا فليس المعروف في الناس استعمالُ « المنع » ، في الأمر بترك الشيء, لأن المأمور بترك الفعل إذا كان قادرًا على فعله وتركه ففعله، لا يقال: « فعله » ، وهو ممنوع من فعله، إلا على استكراه للكلام . وذلك أن المنع من الفعل حَوْلٌ بينه وبينه, فغير جائز أن يكون وهو مَحُولٌ بينه وبينه فاعلا له, لأنه إن جاز ذلك، وجب أن يكون مَحُولا بينه وبينه لا محولا وممنوعًا لا ممنوعًا.
وبعدُ, فإن إبليس لم يأتمر لأمر الله تعالى ذكره بالسجود لآدم كبرًا, فكيف كان يأتمر لغيره في ترك أمر الله وطاعته بترك السجود لآدم, فيجوز أن يقال له: « أي شيء قال لك: لا تسجد لآدم إذ أمرتك بالسجود له؟ » ولكن معناه إن شاء الله ما قلت: « ما منعك من السجود له فأحوجك, أو: فأخرجك, أو: فاضطرك إلى أن لا تسجد له » ، على ما بيَّنت.
وأما قوله: ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) ، فإنه خبرٌ من الله جل ثناؤه عن جواب إبليس إياه إذ سأله: ما الذي منعه من السجود لآدم, فأحوجه إلى أن لا يسجد له, واضطره إلى خلافه أمرَه به، وتركه طاعته أنّ المانعَ كان له من السجود، والداعيَ له إلى خلافه أمر ربه في ذلك: أنه أشد منه أيْدًا، وأقوى منه قوة، وأفضل منه فضلا لفضل الجنس الذي منه خلق، وهو النارُ, على الذي خلق منه آدم، وهو الطين . فجهل عدوّ الله وجه الحق, وأخطأ سبيل الصواب. إذ كان معلومًا أن من جوهر النار الخفة والطيش والاضطراب والارتفاع علوًّا, والذي في جوهرها من ذلك هو الذي حملَ الخبيث بعد الشقاء الذي سبق له من الله في الكتاب السابق، على الاستكبار عن السجود لآدم، والاستخفاف بأمر ربه, فأورثه العطبَ والهلاكَ. وكان معلومًا أن من جوهر الطين الرزانة والأناة والحلم والحياء والتثبُّت, وذلك الذي هو في جوهره من ذلك، كان الداعي لآدم بعد السعادة التي كانت سبقت له من ربه في الكتاب السابق، إلى التوبة من خطيئته, ومسألته ربَّه العفوَ عنه والمغفرة . ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان: « أول مَنْ قاسَ إبليس » , يعنيان بذلك: القياسَ الخطأ, وهو هذا الذي ذكرنا من خطأ قوله، وبعده من إصابة الحق، في الفضل الذي خص الله به آدم على سائر خلقه: من خلقه إياه بيده, ونفخه فيه من روحه, وإسجاده له الملائكة, وتعليمه أسماء كلِّ شيء، مع سائر ما خصه به من كرامته . فضرب عن ذلك كلِّه الجاهلُ صفحًا, وقصد إلى الاحتجاج بأنه خُلق من نار وخلق آدم من طين!! وهو في ذلك أيضًا له غير كفء, لو لم يكن لآدم من الله جل ذكره تكرمة شيء غيره, فكيف والذي خصّ به من كرامته يكثر تعداده، ويملّ إحصاؤه؟
حدثني عمرو بن مالك قال، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي, عن هشام, عن ابن سيرين قال: أوّل من قاس إبليس, وما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن كثير, عن ابن شوذب, عن مطر الورّاق, عن الحسن قوله: ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) ، قال: قاس إبليس وهو أول من قاس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما خلق الله آدم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة، دون الملائكة الذين في السموات: اسْجُدُوا لآدَمَ ، فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر, لما كان حدَّث نفسه، من كبره واغتراره, فقال: « لا أسجد له, وأنا خير منه, وأكبر سنًّا, وأقوى خلقًا, خلقتني من نار وخلقته من طين! » يقول: إنّ النار أقوى من الطين.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( خلقتني من نار ) ، قال: ثم جعل ذريته من ماء.
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله عدوّ الله ليس لما سأله عنه بجواب. وذلك أن الله تعالى ذكره قال له: ما منعك من السجود؟ فلم يجب بأن الذي منعه من السجود أنه خُلِقَ من نار وخلق آدم من طين, ولكنه ابتدأ خبرًا عن نفسه, فيه دليل على موضع الجواب فقال: ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )
القول في تأويل قوله : قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ( 13 )
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قال الله لإبليس عند ذلك: ( فاهبط منها ) .
وقد بيَّنا معنى « الهبوط » فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته.
( فما يكون لك أن تتكبر فيها ) ، يقول تعالى ذكره: فقال الله له: « اهبط منها » ، يعني: من الجنة « فما يكون لك » , يقول: فليس لك أن تستكبر في الجنة عن طاعتي وأمري.
فإن قال قائل: هل لأحد أن يتكبر في الجنة؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ, وإنما معنى ذلك: فاهبط من الجنة, فإنه لا يسكن الجنة متكبر عن أمر الله, فأما غيرها، فإنه قد يسكنها المستكبر عن أمر الله، والمستكين لطاعته.
وقوله: ( فاخرج إنك من الصاغرين ) ، يقول: فاخرج من الجنة، إنك من الذين قد نالهم من الله الصَّغَار والذلّ والمَهانة.
يقال منه: « صَغِرَ يَصْغَرُ صَغَرًا وصَغارًا وصُغْرَانًا » ، وقد قيل: « صغُرَ يَصْغُرُ صَغارًا وصَغارَة » .
وبنحو ذلك قال السدي.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فاخرج إنك من الصاغرين ) ، و « الصغار » ، هو الذل.
القول في تأويل قوله : قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 14 ) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 15 )
قال أبو جعفر: وهذه أيضًا جَهْلة أخرى من جَهَلاته الخبيثة. سأل ربه ما قد علم أنه لا سبيل لأحد من خلق الله إليه . وذلك أنه سأل النَّظِرة إلى قيام الساعة, وذلك هو يوم يبعث فيه الخلق. ولو أعطي ما سأل من النَّظِرة، كان قد أعطي الخلودَ وبقاءً لا فناء معه, وذلك أنه لا موت بعد البعث. فقال جل ثناؤه له: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ سورة الحجر: 37- 38 / سورة ص: 80 ، 81 ] ، وذلك إلى اليوم الذي قد كتب الله عليه فيه الهلاك والموت والفناء، لأنه لا شيء يبقى فلا يفنى، غير ربِّنا الحيِّ الذي لا يموت. يقول الله تعالى ذكره: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ، [ سورة آل عمران: 185 / سورة الأنبياء: 35 / سورة العنكبوت: 57 ] .
و « الإنظار » في كلام العرب، التأخير. يقال منه: « أنظرته بحقي عليه أنظره به إنظارًا » .
فإن قال قائل: فإن الله قد قال له إذ سأله الإنظار إلى يوم يبعثون: ( إنك من المنظرين ) في هذا الموضع, فقد أجابه إلى ما سأل؟
قيل له: ليس الأمر كذلك, وإنما كان مجيبًا له إلى ما سأل لو كان قال له: « إنك من المنظرين إلى الوقت الذي سألت أو: إلى يوم البعث أو إلى يوم يبعثون » , أو ما أشبه ذلك، مما يدل على إجابته إلى ما سأل من النظرة. وأما قوله: ( إنك من المنظرين ) ، فلا دليل فيه لولا الآية الأخرى التي قد بيَّن فيها مدة إنظاره إياه إليها, وذلك قوله: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ، [ سورة الحجر: 37 ، 38 / سورة ص: 80 ، 81 ] ، كم المدة التي أنظره إليها, لأنه إذا أنظره يومًا واحدًا أو أقل منه أو أكثر, فقد دخل في عداد المنظرين، وتمَّ فيه وعد الله الصادق, ولكنه قد بيَّن قدر مدة ذلك بالذي ذكرناه, فعلم بذلك الوقت الذي أُنظِر إليه.
وبنحو ذلك كان السدي يقول.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ سورة الحجر: 36- 38 / سورة ص: 80 ، 81 ] ، فلم ينظره إلى يوم البعث, ولكن أنظره إلى يوم الوقت المعلوم, وهو يوم ينفخ في الصور النفخة الأولى, فصعق مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض, فمات.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: قال إبليس لربه: « أنظرني » ، أي أخّرني وأجّلني, وأنسئْ في أجلي, ولا تمتني إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ , يقول: إلى يوم يبعث الخلق. فقال تعالى ذكره: ( إنك من المنظرين ) ، إلى يوم ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله.
فإن قال قائل: فهل أحَدٌ مُنْظرٌ إلى ذلك اليوم سوى إبليس، فيقال له: « إنك منهم » ؟
قيل: نعم, مَنْ لم يقبض الله روحه من خلقه إلى ذلك اليوم، ممن تقوم عليه الساعة, فهم من المنظرين بآجالهم إليه . ولذلك قيل لإبليس: ( إنك من المنظرين ) ، بمعنى: إنك ممن لا يميته الله إلا ذلك اليوم.
القول في تأويل قوله : قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( 16 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: قال إبليس لربه: ( فبما أغويتني ) ، يقول: فبما أضللتني، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( فبما أغويتني ) ، يقول: أضللتني.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فبما أغويتني ) ، قال: فبما أضللتني.
وكان بعضهم يتأول قوله: ( فبما أغويتني ) ، بما أهلكتني, من قولهم: « غَوِيَ الفصيل يَغوَى غَوًى » , وذلك إذا فقد اللبن فمات, من قول الشاعر:
مُعَطَّفَــةُ الأَثْنَــاءِ لَيْسَ فَصِيلُهَــا بِرَازِئِهَــا دَرًّا وَلا مَيِّــتٍ غَــوَى
وأصل الإغواء في كلام العرب: تزيين الرجل للرجل الشيء حتى يحسّنه عنده، غارًّا له.
وقد حكي عن بعض قبائل طيئ، أنها تقول: « أصبح فلان غاويًا » ، أي: أصبح مريضًا.
وكان بعضهم يتأوّل ذلك أنه بمعنى القسم, كأن معناه عنده: فبإغوائك إياي، لأقعدن لهم صراطك المستقيم, كما يقال: « بالله لأفعلن كذا » .
وكان بعضهم يتأول ذلك بمعنى المجازاة, كأن معناه عنده: فلأنك أغويتني أو: فبأنك أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم.
قال أبو جعفر: وفي هذا بيان واضح على فساد ما يقول القدرية، من أن كل من كفر أو آمن فبتفويض الله أسبابَ ذلك إليه, وأن السبب الذي به يصل المؤمن إلى الإيمان، هو السبب الذي به يصل الكافر إلى الكفر . وذلك أنّ ذلك لو كان كما قالوا: لكان الخبيث قد قال بقوله: ( فبما أغويتني ) ، « فبما أصلحتني » , إذ كان سبب « الإغواء » هو سبب « الإصلاح » , وكان في إخباره عن الإغواء إخبارٌ عن الإصلاح, ولكن لما كان سبباهما مختلفين، وكان السبب الذي به غوَى وهلك من عند الله. أضاف ذلك إليه فقال: ( فبما أغويتني ) .
وكذلك قال محمد بن كعب القرظي, فيما:-
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا أبو مودود, سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: قاتل الله القدريّة, لإبليس أعلمُ بالله منهم !
وأما قوله: ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) ، فإنه يقول: لأجلسن لبني آدم « صراطك المستقيم » , يعني: طريقك القويم, وذلك دين الله الحق, وهو الإسلام وشرائعه. وإنما معنى الكلام: لأصدَّن بني آدم عن عبادتك وطاعتك, ولأغوينهم كما أغويتني, ولأضلنهم كما أضللتني.
وذلك كما روي عن سبرة بن أبي الفاكه:-
أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشيطان قعد لابن آدم بأطْرِقَةٍ، فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذرُ دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك, وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطِّوَل؟ فعصاه وهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد, وهو جَهْدُ النفس والمال, فقال: أتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال؟ قال: فعصاه فجاهد.
وروي عن عون بن عبد الله في ذلك ما:-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حَبّويه أبو يزيد, عن عبد الله بن بكير, عن محمد بن سوقة, عن عون بن عبد الله: ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) ، قال: طريق مكة.
والذي قاله عون، وإن كان من صراط الله المستقيم، فليس هو الصراط كله. وإنما أخبر عدوّ الله أنه يقعد لهم صراط الله المستقيم، ولم يخصص منه شيئًا دون شيء. فالذي روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشبهُ بظاهر التنـزيل، وأولى بالتأويل, لأن الخبيث لا يألو عباد الله الصدَّ عن كل ما كان لهم قربة إلى الله.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل في معنى « المستقيم » ، في هذا الموضع.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( صراطك المستقيم ) ، قال: الحق.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا يقول: ( لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم ) ، قال: سبيل الحق, فلأضلنَّهم إلا قليلا.
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في ذلك.
فقال بعض نحويي البصرة: معناه: لأقعدن لهم على صراطك المستقيم, كما يقال: « توجَّه مكة » ، أي إلى مكة, وكما قال الشاعر:
كَــأَنِّي إذْ أَسْــعَى لأظْفَـرَ طَـائِرًا مَـعَ النَّجْـمِ مِـنْ جَـوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
بمعنى: لأظفر بطائر, فألقى « الباء » ، وكما قال: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ، [ سورة الأعراف: 150 ] ، بمعنى: أعجلتم عن أمر ربكم.
وقال بعض نحويي الكوفة، المعنى، والله أعلم: لأقعدن لهم على طريقهم, وفي طريقهم . قال: وإلقاء الصفة من هذا جائز, كما تقول: « قعدت لك وجهَ الطريق » و « على وجه الطريق » ، لأن الطريق صفة في المعنى، فاحتمل ما يحتمله « اليوم » و « الليلة » و « العام » , إذا قيل: « آتيك غدًا » , و « آتيك في غد » .
قال أبو جعفر: وهذا القول هو أولى القولين في ذلك عندي بالصواب, لأن « القعود » مقتضٍ مكانًا يقعد فيه, فكما يقال: « قعدت في مكانك » , يقال: « قعدت على صراطك » , و « في صراطك » , كما قال الشاعر:
لَــدْنٌ بِهَــزِّ الْكَـفِّ يَعْسِـلُ مَتْنُـهُ فِيـهِ, كَمَـا عَسَـلَ الطَّـرِيقَ الثَّعْلَـبُ
فلا تكاد العرب تقول ذلك في أسماء البلدان, لا يكادون يقولون: « جلست مكة » ، و « قمت بغداد » .
القول في تأويل قوله : ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( 17 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى قوله: ( لآتينهم من بين أيديهم ) ، من قبل الآخرة ( ومن خلفهم ) ، من قبل الدنيا ( وعن أيمانهم ) ، من قِبَل الحق ( وعن شمائلهم ) ، من قبل الباطل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ) ، يقول: أشككهم في آخرتهم ( ومن خلفهم ) ، أرغبهم في دنياهم ( وعن أيمانهم ) ، أشبِّه عليهم أمرَ دينهم ( وعن شمائلهم ) ، أشَهِّي لهم المعاصي.
وقد روي عن ابن عباس بهذا الإسناد في تأويل ذلك خلاف هذا التأويل, وذلك ما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ) ، يعني من الدنيا ( ومن خلفهم ) ، من الآخرة ( وعن أيمانهم ) ، من قبل حسناتهم ( وعن شمائلهم ) ، من قبل سيئاتهم.
وتحقق هذه الرواية، الأخرى التي:
حدثني بها محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) ، قال: أما بين « أيديهم » ، فمن قبلهم ، وأما « من خلفهم » ، فأمر آخرتهم ، وأما « عن أيمانهم » ، فمن قبل حسناتهم ، وأما « عن شمائلهم » ، فمن قبل سيئاتهم.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ) الآية, أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار « ومن خلفهم » ، من أمر الدنيا, فزيَّنها لهم ودعاهم إليها « وعن أيمانهم » ، من قبل حسناتهم بطَّأهم عنها « وعن شمائلهم » ، زين لهم السيئات والمعاصي، ودعاهم إليها، وأمرهم بها. أتاك يابن آدم من كل وجه, غير أنه لم يأتك من فوقك, لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله!
وقال آخرون: بل معنى قوله: ( من بين أيديهم ) ، من قبل دنياهم ( ومن خلفهم ) ، من قبل آخرتهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم في قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم ) ، قال: ( من بين أيديهم ) ، من قبل دنياهم ( ومن خلفهم ) ، من قبل آخرتهم ( وعن أيمانهم ) من قبل حسناتهم ( وعن شمائلهم ) ، من قبل سيئاتهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن الحكم: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) ، قال: ( من بين أيديهم ) ، من دنياهم ( ومن خلفهم ) ، من آخرتهم ( وعن أيمانهم ) ، من حسناتهم ( وعن شمائلهم ) ، من قِبَل سيئاتهم.
حدثنا سفيان قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن الحكم: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ) ، قال: من قبل الدنيا يزيِّنها لهم ( ومن خلفهم ) من قبل الآخرة يبطّئهم عنها ( وعن أيمانهم ) ، من قبل الحق يصدّهم عنه ( وعن شمائلهم ) ، من قبل الباطل يرغّبهم فيه ويزينه لهم.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) ، أما ( من بين أيديهم ) ، فالدنيا، أدعوهم إليها وأرغبهم فيها ( ومن خلفهم ) ، فمن الآخرة أشككهم فيها وأباعدها عليهم ( وعن أيمانهم ) ، يعني الحق فأشككهم فيه ( وعن شمائلهم ) ، يعني الباطل أخفّفه عليهم وأرغّبهم فيه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: ( من بين أيديهم ) ، من دنياهم، أرغّبهم فيها ( ومن خلفهم ) ، آخرتهم، أكفّرهم بها وأزهِّدهم فيها ( وعن أيمانهم ) ، حسناتهم أزهدهم فيها ( وعن شمائلهم ) ، مساوئ أعمالهم، أحسِّنها إليهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: من حيث يبصرون ومن حيث لا يبصرون.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قول الله: ( من بين أيديهم وعن أيمانهم ) ، قال: حيث يبصرون ( ومن خلفهم ) ( وعن شمائلهم ) ، حيث لا يبصرون.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن منصور قال، تذاكرنا عند مجاهد قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) ، فقال مجاهد: هو كما قال، يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم زاد ابن حميد, قال: « يأتيهم من ثَمَّ » .
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، قال مجاهد، فذكر نحو حديث محمد بن عمرو, عن أبي عاصم.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: ثم لآتينهم من جميع وجوه الحقّ والباطل, فأصدّهم عن الحق، وأحسِّن لهم الباطل . وذلك أن ذلك عَقِيب قوله: لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، فاخبر أنه يقعد لبني آدم على الطريق الذي أمرَهم الله أن يسلكوه, وهو ما وصفنا من دين الله دينِ الحق، فيأتيهم في ذلك من كل وجوهه، من الوجه الذي أمرهم الله به, فيصدّهم عنه, وذلك « من بين أيديهم وعن أيمانهم » ومن الوجه الذي نهاهم الله عنه, فيزيّنه لهم ويدعوهم إليه, وذلك « من خلفهم وعن شمائلهم » .
وقيل: ولم يقل: « من فوقهم » ، لأن رحمة الله تنـزل على عباده من فوقهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) ، ولم يقل: « من فوقهم » , لأن الرحمة تنـزل من فوقهم.
وأما قوله: ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) . فإنه يقول: ولا تجد، ربِّ، أكثر بني آدم شاكرين لك نعمتَك التي أنعمت عليهم، كتكرمتك أباهم آدم بما أكرمته به, من إسجادك له ملائكتك, وتفضيلك إياه عليَّ و « شكرهم إياه » ، طاعتهم له بالإقرار بتوحيده, واتّباع أمره ونهيه.
وكان ابن عباس يقول في ذلك بما:-
حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) ، يقول: موحِّدين.
القول في تأويل قوله : قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن إحلاله بالخبيث عدوِّ الله ما أحلّ به من نقمته ولعنته, وطرده إياه عن جنته, إذ عصاه وخالف أمره, وراجعه من الجواب بما لم يكن له مراجعته به . يقول: قال الله له عند ذلك: ( اخرج منها ) ، أي من الجنة ( مذؤُومًا مدحورًا ) ، يقول: مَعِيبًا.
و « الذأم » ، العيب. يقال منه: « ذأمَه يذأمه ذأمًا فهو مذؤوم » , ويتركون الهمز فيقولون: « ذِمْته أذيمه ذيمًا وذامًا » , و « الذأم » و « الذيم » ، أبلغ في العيب من « الذمّ » ، وقد أنشد بعضهم هذا البيت:
صَحِـبْتُكَ إذْ عَيْنِـي عَلَيْهَـا غِشَـاوَةٌ فَلَمَّـا انْجَـلَتْ قَطَّعْـتُ نَفْسِـي أَذِيمُهَا
وأكثر الرواة على إنشاده « ألومها » .
وأما المدحور: فهو المُقْصَى, يقال: « دحره يدحَرُه دَحْرًا ودُحُورًا » ، إذا أقصاه وأخرجه، ومنه قولهم: « ادحَرْ عنكَ الشيطان » .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( اخرج منها مذؤومًا مدحورًا ) ، يقول: اخرج منها لعينًا منفيًّا.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « مذؤومًا » ممقوتًا.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( قال اخرج منها مذؤومًا ) ، يقول: صغيرًا منفيًّا.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( اخرج منها مذؤومًا مدحورًا ) ، أما « مذؤومًا » ، فمنفيًّا, وأما « مدحورا » ، فمطرودًا.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( مذؤومًا ) ، قال: منفيًّا ( مدحورًا ) ، قال: مطرودًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: ( اخرج منها مذؤومًا ) ، قال: منفيًّا. و « المدحور » , قال: المصغَّر.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال:، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن يونس وإسرائيل, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس: ( اخرج منها مذؤومًا ) ، قال: منفيًّا.
حدثني أبو عمرو القرقساني عثمان بن يحيى قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن التميمي, سأل ابن عباس: ما ( اخرج منها مذؤومًا مدحورًا ) ، قال: مقيتًا.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( اخرج منها مذؤومًا مدحورًا ) ، فقال: ما نعرف « المذؤوم » و « المذموم » إلا واحدًا, ولكن تكون حروف منتقصة, وقد قال الشاعر لعامر: يا « عام » , ولحارث: « يا حار » , وإنما أنـزل القرآن على كلام العرب.
القول في تأويل قوله : لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ( 18 )
قال أبو جعفر: وهذا قسم من الله جل ثناؤه. أقسم أن مَنْ اتبع من بني آدم عدوَّ الله إبليس وأطاعه وصَدَّق ظنه عليه، أن يملأ من جميعهم يعني: من كفرة بني آدم تُبّاع إبليس، ومن إبليس وذريته جهنم. فرحم الله امرأً كذّب ظن عدوِّ الله في نفسه, وخيَّب فيها أمله وأمنيته, ولم يمكّن من طمعَ طمعٍ فيها عدوَّه, واستغشَّه ولم يستنصحه، فإن الله تعالى ذكره إنما نبّه بهذه الآيات عباده على قِدَم عداوة عدوِّه وعدوهم إبليس لهم, وسالف ما سلف من حسده لأبيهم, وبغيه عليه وعليهم, وعرّفهم مواقع نعمه عليهم قديمًا في أنفسهم ووالدهم ليدّبروا آياته, وليتذكر أولو الألباب, فينـزجروا عن طاعة عدوه وعدوهم إلى طاعته ويُنيبوا إليها.
القول في تأويل قوله : وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 19 )
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وقال الله لآدم: ( يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ) . فأسكن جل ثناؤه آدم وزوجته الجنة بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه منها, وأباح لهما أن يأكلا من ثمارها من أيّ مكان شاءا منها, ونهاهما أن يقربا ثمر شجرة بعينها.
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في ذلك، وما نرى من القول فيه صوابًا، في غير هذا الموضع, فكرهنا إعادته.
( فتكونا من الظالمين ) ، يقول: فتكونا ممن خالف أمر ربِّه، وفعل ما ليس له فعله.
القول في تأويل قوله : فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( فوسوس لهما ) ، فوسوس إليهما, وتلك « الوسوسة » كانت قوله لهما: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ، وإقسامه لهما على ذلك.
وقيل: « وسوس لهما » , والمعنى ما ذكرت, كما قيل: « غَرِضت إليه » , بمعنى: اشتقْتُ إليه, وإنما تعني: غَرضت من هؤلاء إليه. فكذلك معنى ذلك.
فوسوس من نفسه إليهما الشيطان بالكذب من القيل، ليبدي لهما ما وُوري عنهما من سوءاتهما، كما قال رؤبة:
* وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الفَلَقْ *
ومعنى الكلام: فجذب إبليس إلى آدم حوّاء, وألقى إليهما: ما نهاكما ربكما عن أكل ثمر هذه الشجرة، إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ليبدي لهما ما واراه الله عنهما من عوراتهما فغطاه بستره الذي ستره عليهما.
وكان وهب بن منبه يقول في الستر الذي كان الله سترهما به، ما:-
حدثني به حوثرة بن محمد المنقري قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو, عن ابن منبه, في قوله: فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا قال: كان عليهما نور، لا ترى سوءاتهما.
القول في تأويل قوله : وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( 20 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وقال الشيطان لآدم وزوجته حواء: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة أن تأكلا ثمرَها، إلا لئلا تكونا ملكين.
وأسقطت « لا » من الكلام، لدلالة ما ظهر عليها, كما أسقطت من قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، [ سورة النساء: 176 ] . والمعنى: يبين الله لكم أن لا تضلوا.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يزعم أن معنى الكلام: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تكونا ملكين, كما يقال: « إياك أن تفعل » كراهيةَ أن تفعل.
« أو تكونا من الخالدين » ، في الجنة، الماكثين فيها أبدًا، فلا تموتا.
والقراءة على فتح « اللام » ، بمعنى: ملكين من الملائكة.
وروي عن ابن عباس، ما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا عيسى الأعمى, عن السدّي قال: كان ابن عباس يقرأ: « إلا أَنْ تَكُونَا مَلِكَيْنِ » ، بكسر « اللام » .
وعن يحيى بن أبي كثير، ما:-
حدثني أحمد بن يوسف قال، حدثني القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن هارون قال، حدثنا يعلى بن حكيم, عن يحيى بن أبي كثير أنه قرأها: « مَلِكَيْنِ » ، بكسر « اللام » .
وكأنَّ ابن عباس ويحيى وجَّها تأويل الكلام إلى أن الشيطان قال لهما: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين من الملوك وأنهما تأوّلا في ذلك قول الله في موضع آخر: قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ، [ سورة طه: 120 ] .
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز القراءة في ذلك بغيرها, القراءةُ التي عليها قرأة الأمصار وهي، فتح « اللام » من: « مَلَكَيْنِ » , بمعنى: ملكين، من الملائكة ، لما قد تقدم من بياننا في أن كل ما كان مستفيضًا في قرأة الإسلام من القراءة, فهو الصواب الذي لا يجوزُ خلافه.
القول في تأويل قوله : وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( 21 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وقاسمهما ) ، وحلف لهما, كما قال في موضع آخر: تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ ، [ سورة النمل: 49 ] ، بمعنى تحالفوا بالله ، وكما قال خالد بن زهير [ ابن ] عمّ أبي ذويب:
وَقَاسَــمَهَا بِاللــهِ جَــهْدًا لأَنْتُــمُ ألَـذُّ مِـنَ السَّـلْوَى إِذَا مَـا نَشُـورُهَا
بمعنى: وحالفهما بالله ، وكما قال أعشى بني ثعلبة:
رَضِيعَــيْ لِبَـانٍ, ثَـدْيَ أُمٍّ تَقَاسَـمَا بِأَسْــحَمَ دَاجٍ عَــوْضُ لا نَتَفَــرَّقُ
بمعنى تحالفا.
وقوله: ( إني لكما لمن الناصحين ) أي: لممن ينصح لكما في مشورته لكما, وأمره إياكما بأكل ثمر الشجرة التي نهيتما عن أكل ثمرها، وفي خبري إياكما بما أخبركما به، من أنكما إن أكلتماه كنتما ملكين أو كنتما من الخالدين، كما:-
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ) ، فحلف لهما بالله حتى خدعهما, وقد يُخْدع المؤمن بالله, فقال: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما, فاتبعاني أرشدكما. وكان بعض أهل العلم يقول: « من خادَعنا بالله خُدِعْنا » .
القول في تأويل قوله : فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( فدلاهما بغرور ) ، فخدعهما بغرور.
يقال منه: « ما زال فلان يدلّي فلانًا بغرور » , بمعنى: ما زال يخدعه بغرور، ويكلمه بزخرف من القول باطل.
( فلما ذاقا الشجرة ) ، يقول: فلما ذاق آدم وحواء ثمر الشجرة, يقول: طعماه ( بدت لهما سوآتهما ) يقول: انكشفت لهما سوءاتهما, لأن الله أعراهما من الكسوة التي كان كساهما قبل الذنب والخطيئة, فسلبهما ذلك بالخطيئة التي أخطآ والمعصية التي ركبا ( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) ، يقول: أقبلا وجعلا يشدَّان عليهما من ورق الجنة، ليواريا سوءاتهما، كما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس: ( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) ، قال: جعلا يأخذان من ورق الجنة، فيجعلان على سوءاتهما.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي بكر, عن الحسن, عن أبي بن كعب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان آدم كأنه نخلةٌ سَحُوق، كثيرُ شعر الرأس, فلما وقع بالخطيئة بدت له عورته، وكان لا يراها, فانطلق فارًّا, فتعرضت له شجرة فحبسته بشعره, فقال لها: أرسليني! فقالت: لست بمرسلتك! فناداه ربه: يا آدم, أمنِّي تفرّ؟ قال: لا ولكني استحييتك.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان بن عيينة وابن مبارك, عن الحسن, عن عمارة, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال، كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، السنبلة . فلما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما, وكان الذي وَارى عنهما من سوءاتهما أظفارُهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، ورق التين، يلصقان بعضها إلى بعض. فانطلق آدم مولّيًا في الجنة, فأخذت برأسه شجرة من الجنة, فناداه: أي آدم أمني تفرّ؟ قال: لا ولكني استحييتك يا رب ! قال: أما كان لك فيما منحتُك من الجنة وأبحتُك منها مندوحةٌ عما حرمت عليك؟ قال: بلى يا رب, ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا. قال: وهو قول الله: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . قال: فبعزّتي لأهبطنك إلى الأرض, ثم لا تنال العيش إلا كدًّا. قال: فأهبط من الجنة, وكانا يأكلان فيها رغدًا, فأهبطا في غير رغد من طعام وشراب, فعُلّم صنعة الحديد, وأُمر بالحرث, فحرث وزرع ثم سقى، حتى إذا بلغ حصد، ثم داسَه, ثم ذرّاه, ثم طحنه, ثم عجنه, ثم خبزه, ثم أكله, فلم يبلعْه حتى بُلِّعَ منه ما شاء الله أن يبلعَ.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( يخصفان ) ، قال: يرقعان، كهيئة الثوب.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: يخصفان عليهما من الورق كهيئة الثوب.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما ) وكانا قبل ذلك لا يريانها ( وطفقا يخصفان ) ، الآية.
. . . . قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، حدثنا الحسن, عن أبي بن كعب: أن آدم عليه السلام كان رجلا طُوالا كأنه نخلة سَحُوق, كثير شعر الرأس . فلما وقع بما وقع به من الخطيئة, بدت له عورته عند ذلك، وكان لا يراها. فانطلق هاربًا في الجنة, فعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة, فقال لها: أرسليني ! قالت: إني غير مرسلتك! فناداه ربه: يا آدم, أمنّي تفرّ؟ قال: رب إني استحييتك.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جعفر بن عون, عن سفيان الثوري, عن ابن أبي ليلى, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) ، قال: ورق التين.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن ابن أبي ليلى, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) ، قال: ورق التين.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن حسام بن مِصَكّ، عن قتادة وأبي بكر، عن غير قتادة قال: كان لباس آدم في الجنة ظُفُرًا كله, فلما وقع بالذنب، كُشِط عنه وبدت سوءته قال أبو بكر: قال غير قتادة: ( فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) ، قال: ورق التين.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: ( بدت لهما سوءاتهما ) ، قال: كانا لا يريان سوءاتهما.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو قال، سمعت وهب بن منبه يقول: يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ، [ سورة الأعراف: 27 ] . قال: كان لباس آدم وحواء عليهما السلام نورًا على فروجهما, لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا. فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوءاتهما.
القول في تأويل قوله : وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 22 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونادى آدمَ وحواءَ ربُّهما: ألم أنهكما عن أكل ثمرة الشجرة التي أكلتما ثمرها, وأعلمكما أن إبليس لكما عدو مبين يقول: قد أبان عداوته لكما، بترك السجود لآدم حسدًا وبغيًا، كما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي معشر, عن محمد بن قيس قوله: ( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ) ، لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب، أطعمتني حواء ! قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية! قال للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس! قال: ملعون مدحور ! أما أنت يا حواء فكما دمَّيت الشجرة تَدْمَيْن كل شهر. وأما أنت يا حية، فأقطع قوائمك فتمشين على وجهك, وسيشدخُ رأسك من لقيك ، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عباد بن العوّام, عن سفيان بن حسين, عن يعلى بن مسلم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لما أكل آدم من الشجرة قيل له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني! قال: فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كَرْهًا، ولا تضع إلا كرها. قال: فرنَّت حواء عند ذلك, فقيل لها: الرنّة عليك وعلى ولدك.
القول في تأويل قوله : قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 23 )
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله جل ثناؤه عن آدم وحواء فيما أجاباه به, واعترافِهما على أنفسهما بالذنب, ومسألتهما إياه المغفرة منه والرحمة, خلاف جواب اللعين إبليس إياه.
ومعنى قوله: ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ) ، قال: آدم وحواء لربهما: يا ربنا، فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمعصيتك وخلاف أمرك، وبطاعتنا عدوَّنا وعدوَّك, فيما لم يكن لنا أن نطيعه فيه، من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها ( وإن لم تغفر لنا ) ، يقول: وإن أنت لم تستر علينا ذنبنا فتغطيه علينا، وتترك فضيحتنا به بعقوبتك إيانا عليه « وترحمنا » ، بتعطفك علينا, وتركك أخذنا به ( لنكونن من الخاسرين ) ، يعني: لنكونن من الهالكين.
وقد بيَّنا معنى « الخاسر » فيما مضى بشواهده، والرواية فيه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: قال آدم عليه السلام: يا رب, أرأيتَ إن تبتُ واستغفرتك؟ قال: إذًا أدخلك الجنة . وأما إبليس فلم يسأله التوبة, وسأل النَّظِرة, فأعطى كلَّ واحد منهما ما سأل.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا ) ، الآية, قال: هي الكلمات التي تلقَّاها آدم من ربه.
القول في تأويل قوله : قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 24 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن فعله بإبليس وذريته، وآدم وولده، والحية.
يقول تعالى ذكره لآدم وحواء وإبليس والحية: اهبطوا من السماء إلى الأرض، بعضكم لبعض عدوّ، كما:-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن طلحة, عن أسباط, عن السدي: ( اهبطوا بعضكم لبعض عدو ) ، قال: فلعنَ الحية, وقطع قوائمها, وتركها تمشي على بطنها, وجعل رزقها من التراب, وأهبطوا إلى الأرض: آدم، وحواء، وإبليس، والحية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن أبي عوانة, عن إسماعيل بن سالم, عن أبي صالح: ( اهبطوا بعضكم لبعض عدو ) ، قال: آدم، وحواء، والحية.
وقوله: ( ولكم في الأرض مستقر ) ، يقول: ولكم، يا آدم وحواء، وإبليس والحية في الأرض قرارٌ تستقرونه، وفراش تمتهدونه، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( ولكم في الأرض مستقر ) ، قال: هو قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا ، [ سورة البقرة: 22 ] .
وروي عن ابن عباس في ذلك، ما:-
حدثت عن عبيد الله, عن إسرائيل, عن السدي, عمن حدثه, عن ابن عباس قوله: ( ولكم في الأرض مستقر ) ، قال: القبور.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ آدم وحواءَ وإبليس والحية، إذ أهبطوا إلى الأرض: أنهم عدوٌّ بعضهم لبعض, وأن لهم فيها مستقرًّا يستقرون فيه, ولم يخصصها بأن لهم فيها مستقرًّا في حال حياتهم دون حال موتهم, بل عمَّ الخبرَ عنها بأن لهم فيها مستقرًّا, فذلك على عمومه، كما عمّ خبرُ الله, ولهم فيها مستقر في حياتهم على ظهرها، وبعد وفاتهم في بطنها, كما قال جل ثناؤه: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ، [ سورة المرسلات: 25- 26 ] .
وأما قوله: ( ومتاع إلى حين ) ، فإنه يقول جل ثناؤه: « ولكم فيها متاع » ، تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا, وذلك هو الحين الذي ذكره، كما:-
حدثت عن عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل, عن السدي, عمن حدثه, عن ابن عباس: ( ومتاع إلى حين ) ، قال: إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا.
و « الحين » نفسه: الوقت, غير أنه مجهول القدر ، يدل على ذلك قول الشاعر:
وَمَـا مِرَاحُـكَ بَعْـدَ الْحِـلْمِ وَالـدِّينِ وَقَـدْ عَـلاكَ مَشِـيبٌ حِـينَ لا حِـينِ
أي وقت لا وقت.
القول في تأويل قوله : قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( 25 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال الله للذين أهبطهم من سمواته إلى أرضه: ( فيها تحيون ) ، يقول: في الأرض تحيون, يقول: تكونون فيها أيام حياتكم ( وفيها تموتون ) ، يقول في الأرض تكون وفاتكم, ( ومنها تخرجون ) ، يقول: ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم إليه لبعث القيامة أحياء.
القول في تأويل قوله : يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للجهلة من العرب الذين كانوا يتعرَّون للطواف، اتباعًا منهم أمرَ الشيطان، وتركًا منهم طاعةَ الله, فعرفهم انخداعهم بغروره لهم، حتى تمكن منهم فسلبهم من ستر الله الذي أنعمَ به عليهم, حتى أبدى سوءاتهم وأظهرها من بعضهم لبعض, مع تفضل الله عليهم بتمكينهم مما يسترونها به, وأنهم قد سار بهم سيرته في أبويهم آدم وحواء اللذين دلاهما بغرور حتى سلبهما ستر الله الذي كان أنعم به عليهما حتى أبدى لهما سوءاتهما فعرّاهما منه: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا ) ، يعني بإنـزاله عليهم ذلك، خلقَه لهم, ورزقه إياهم و « اللباس » ما يلبسون من الثياب ( يواري سوآتكم ) يقول: يستر عوراتكم عن أعينكم وكنى بـ « السوءات » ، عن العورات.
واحدتها « سوءة » , وهي « فعلة » من « السوء » , وإنما سميت « سوءة » ، لأنه يسوء صاحبها انكشافُها من جسده, كما قال الشاعر:
خَــــرَقُوا جَـــيْبَ فَتَـــاتِهِمُ لَـــمْ يُبَــالُوا سَــوْءَةَ الرَّجُلَــهْ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( لباسًا يواري سوآتكم ) قال: كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراةً, ولا يلبس أحدهم ثوبًا طاف فيه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم وريشًا ) ، قال: أربع آيات نـزلت في قريش. كانوا في الجاهلية لا يطوفون بالبيت إلا عراة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عوف قال: سمعت معبدًا الجهني يقول في قوله: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم وريشًا ) ، قال: اللباس الذي تلبسون.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم ) قال: كانت قريش تطوف عراة, لا يلبس أحدهم ثوبًا طاف فيه. وقد كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف, عن عوف, عن معبد الجهني: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم ) قال: اللباس الذي يواري سوءاتكم: وهو لَبُوسكم هذه.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لباسًا يواري سوآتكم ) قال: هي الثياب.
حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، حدثني مَنْ سمع عروة بن الزبير يقول، اللباس: الثياب.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم ) قال: يعني ثيابَ الرجل التي يلبسها.
القول في تأويل قوله : وَرِيشًا
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( وَرِيشًا ) ، بغير « ألف » .
وذكر عن زر بن حبيش والحسن البصري: أنهما كانا يقرآنه: « وَرِياشًا » .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, عن أبان العطار قال، حدثنا عاصم: أن زر بن حبيش قرأها: « وَرِياشًا » .
قال أبو جعفر: والصوابُ من القراءة في ذلك، قراءة من قرأ: ( وَرِيشًا ) بغير « ألف » ، لإجماع الحجة من القرأة عليها.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرٌ في إسناده نظر: أنه قرأه: « وَرِياشًا » .
فمن قرأ ذلك: « وَرِياشًا » فإنه محتمل أن يكون أراد به جمع « الريش » , كما تجمع « الذئب » ، « ذئابًا » ، و « البئر » « بئارًا » .
ويحتمل أن يكون أراد به مصدرًا، من قول القائل: « راشه الله يَريشه رياشًا ورِيشًا » , كما يقال: « لَبِسه يلبسه لباسًا ولِبْسًا » ، وقد أنشد بعضهم:
فَلَمــا كَشَـفْنَ اللِّبْسَ عَنْـهُ مَسَـحْنَهُ بِـأَطْرَافِ طَفْـلٍ زَانَ غَيْـلا مُوَشَّـمَا
بكسر « اللام » من « اللبس » .
و « الرياش » ، في كلام العرب، الأثاث، وما ظهر من الثياب من المتاع مما يلبس أو يُحْشى من فراش أو دِثَار.
و « الريش » إنما هو المتاع والأموال عندهم. وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال. يقولون: « أعطاه سرجًا بريشه » , و « رحْلا بريشه » ، أي بكسوته وجهازه. ويقولون: « إنه لحسن ريش الثياب » ، وقد يستعمل « الرياش » في الخصب ورَفاهة العيش.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال: « الرياش » ، المال:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وريشًا ) ، يقول: مالا.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وريشًا ) ، قال: المال.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ورياشًا » ، قال: أما « رياشًا » ، فرياش المال.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، حدثني من سمع عروة بن الزبير يقول: « الرياش » ، المال.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك قوله: « ورياشًا » ، يعني، المال.
* ذكر من قال: هو اللباس ورفاهة العيش.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ورياشًا » ، قال: « الرياش » ، اللباس والعيش والنَّعيم.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف, عن عوف, عن معبد الجهني: « ورياشًا » ، قال: « الرياش » ، المعاش.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا عوف قال، قال معبد الجهني: « ورياشًا » ، قال: هو المعاش.
وقال آخرون: « الريش » ، الجمال.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ورياشًا » ، قال: « الريش » ، الجمال.
القول في تأويل قوله : وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: « لباس التقوى » ، هو الإيمان.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ولباس التقوى ) ، هو الإيمان.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولباس التقوى ) ، الإيمان.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج, عن ابن جريج: ( ولباس التقوى ) ، الإيمان.
وقال آخرون: هو الحياء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف, عن عوف, عن معبد الجهني في قوله: ( ولباس التقوى ) ، الذي ذكر الله في القرآن، هو الحياء.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا عوف قال، قال معبد الجهني, فذكر مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عوف, عن معبد، بنحوه.
وقال آخرون: هو العمل الصالح.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( ولباس التقوى ذلك خير ) ، قال: لباس التقوى: العمل الصالح.
وقال آخرون: بل ذلك هو السَّمْت الحسن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا عبد الله بن داود, عن محمد بن موسى, عن . . . . بن عمرو, عن ابن عباس: ( ولباس التقوى ) ، قال: السمت الحسن في الوجه.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل, عن سليمان بن أرقم, عن الحسن قال: رأيت عثمان بن عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليه قميصٌ قُوهيّ محلول الزرّ, وسمعته يأمر بقتل الكلاب، وينهى عن اللعب بالحمام, ثم قال: يا أيها الناس، اتقوا الله في هذه السرائر, فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « والذي نفس محمد بيده، ما عمل أحدٌ قط سرًّا إلا ألبسه الله رداءَ علانيةٍ, إن خيرًا فخيرًا, وإن شرًّا فشرًا » ، ثم تلا هذه الآية: « وَرِيَاشًا » ولم يقرأها: وَرِيشًا
( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ) ، قال: السمتُ الحسن.
وقال آخرون: هو خشية الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدنى قال، حدثني من سمع عروة بن الزبير يقول: ( لباس التقوى ) ، خشية الله.
وقال آخرون: ( لباس التقوى ) ، في هذه المواضع، ستر العورة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولباس التقوى ) ، يتقي الله، فيواري عورته, ذلك « لباس التقوى » .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة المكيين والكوفيين والبصريين: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) ، برفع « ولباس » .
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة: « وَلِبَاسَ التَّقْوَى » ، بنصب « اللباس » , وهي قراءة بعض قرأة الكوفيين.
فمن نصب: « ولباس » ، فإنه نصبه عطفًا على « الريش » ، بمعنى: قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا, وأنـزلنا لباسَ التقوى.
وأما الرفع, فإن أهل العربية مختلفون في المعنى الذي ارتفع به « اللباس » .
فكان بعض نحويي البصرة يقول: هو مرفوع على الابتداء, وخبره في قوله: ( ذلك خير ) . وقد استخطأه بعض أهل العربية في ذلك وقال: هذا غلط, لأنه لم يعد على « اللباس » في الجملة عائد, فيكون « اللباس » إذا رفع على الابتداء وجعل « ذلك خير » خبرًا.
وقال بعض نحويي الكوفة: ( ولباس ) ، يرفع بقوله: ولباس التقوى خير، ويجعل « ذلك » من نعته.
قال أبو جعفر: وهذا القول عندي أولى بالصواب في رافع « اللباس » ، لأنه لا وجه للرفع إلا أن يكون مرفوعًا بـ « خير » ، وإذا رفع بـ « خير » لم يكن في ذلك وجه إلا أن يجعل « اللباس » نعتًا, لا أنه عائد على « اللباس » من ذكره في قوله: ( ذلك خير ) ، فيكون خير مرفوعًا بـ « ذلك » ، و « ذلك » ، به.
فإذ، كان ذلك كذلك, فتأويل الكلام إذا رفع « لباس التقوى » : ولباس التقوى ذلك الذي قد علمتموه، خير لكم يا بني آدم، من لباس الثياب التي تواري سوءاتكم, ومن الرياش التي أنـزلناها إليكم، هكذا فالبَسوه.
وأما تأويل مَنْ قرأه نصبًا, فإنه: « يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى » ، هذا الذي أنـزلنا عليكم من اللباس الذي يواري سوءاتكم, والريش, ولباس التقوى خير لكم من التعرِّي والتجرد من الثياب في طوافكم بالبيت, فاتقوا الله والبسوا ما رزقكم الله من الرياش, ولا تطيعوا الشيطان بالتجرد والتعرِّي من الثياب, فإن ذلك سخرية منه بكم وخدعة, كما فعل بأبويكم آدم وحواء، فخدعهما حتى جرّدهما من لباس الله الذي كان ألبسهما بطاعتهما له، في أكل ما كان الله نهاهما عن أكله من ثمر الشجرة التي عصَياه بأكلها.
قال أبو جعفر: وهذه القراءة أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب, أعني نصب قوله: « وَلِبَاسَ التَّقْوَى » ، لصحة معناه في التأويل على ما بيّنت, وأن الله إنما ابتدأ الخبر عن إنـزاله اللباس الذي يواري سوءاتنا والرياش، توبيخًا للمشركين الذين كانوا يتجرّدون في حال طوافهم بالبيت, ويأمرهم بأخذ ثيابهم والاستتار بها في كل حال، مع الإيمان به واتباع طاعته ويعلمهم أن كلّ ذلك خير من كلّ ما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله، وتعرِّيهم, لا أنه أعلمهم أن بعض ما أنـزل إليهم خيرٌ من بعض.
وما يدل على صحة ما قلنا في ذلك، الآيات التي بعد هذه الآية, وذلك قوله: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا وما بعد ذلك من الآيات إلى قوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ، فإنه جل ثناؤه يأمر في كل ذلك بأخذ الزينة من الثياب، واستعمال اللباس وترك التجرّد والتعرّي، وبالإيمان به، واتباع أمره والعمل بطاعته, وينهى عن الشرك به واتباع أمر الشيطان ، مؤكدًا في كل ذلك ما قد أجمله في قوله: ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) .
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله: « ولباس التقوى » ، استشعار النفوس تقوى الله، في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه، والعمل بما أمر به من طاعته ، وذلك يجمع الإيمان، والعمل الصالح، والحياء، وخشية الله، والسمتَ الحسن, لأن مَنْ اتقى الله كان به مؤمنًا، وبما أمره به عاملا ومنه خائفًا، وله مراقبًا, ومن أن يُرَى عند ما يكرهه من عباده مستحييًا. ومَنْ كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه, فحسن سَمْته وهَدْيه، ورُئِيَتْ عليه بهجة الإيمان ونوره.
وإنما قلنا: عنى بـ « لباس التقوى » ، استشعارَ النفس والقلب ذلك لأن « اللباس » ، إنما هو ادِّراع ما يلبس، واجتياب ما يكتسى, أو تغطية بدنه أو بعضه به. فكل من ادَّرع شيئًا واجتابهُ حتى يُرَى عَيْنه أو أثرُه عليه, فهو له « لابس » . ولذلك جعل جل ثناؤه الرجال للنساء لباسًا، وهن لهم لباسًا, وجعل الليل لعباده لباسًا.
* ذكر من تأول ذلك بالمعنى الذي ذكرنا من تأويله، إذا قرئ قوله: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ) ، رفعًا.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولباس التقوى ) ، الإيمان ( ذلك خير ) ، يقول: ذلك خير من الرياش واللباس يواري سوءاتكم.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولباس التقوى ) ، قال: لباس التقوى خير, وهو الإيمان.
القول في تأويل قوله : ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( 26 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ذلك الذي ذكرت لكم أنّي أنـزلته إليكم، أيها الناس، من اللباس والرياش، من حجج الله وأدلته التي يعلم بها مَنْ كفر صحة توحيد الله, وخطأ ما هم عليه مقيمون من الضلالة ( لعلهم يذكرون ) ، يقول جل ثناؤه: جعلت ذلك لهم دليلا على ما وصفت، ليذكروا فيعتبروا وينيبوا إلى الحق وترك الباطل, رحمة مني بعبادي.
القول في تأويل قوله : يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا بني آدم، لا يخدعنكم الشيطان فيبدي سوءاتكم للناس بطاعتكم إياه عند اختباره لكم, كما فعل بأبويكم آدم وحواء عند اختباره إياهما فأطاعاه وعصيا ربهما، فأخرجهما بما سبَّب لهما من مكره وخدعه، من الجنة, ونـزع عنهما ما كان ألبسهما من اللباس، ليريهما سوءاتهما بكشف عورتهما، وإظهارها لأعينهما بعد أن كانت مستترةً.
وقد بينا فيما مضى أن معنى « الفتنة » ، الاختبار والابتلاء، بما أغنى عن إعادته.
وقد اختلف أهل التأويل في صفة « اللباس » الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه نـزعه عن أبوينا، وما كان.
فقال بعضهم: كان ذلك أظفارًا.
* ذكر من لم يذكر قوله فيما مضى من كتابنا هذا في ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عكرمة: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: لباس كل دابة منها, ولباس الإنسان الظُّفر, فأدركت آدم التوبة عند ظُفُره أو قال: أظفاره.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الحميد الحماني, عن نضر أبي عمر, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: تركت أظفاره عليه زينة ومنافع، في قوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ) .
حدثني أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير قال، أخبرنا مخلد بن الحسين, عن عمرو بن مالك, عن أبي الجوزاء, عن ابن عباس في قوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: كان لباسهما الظفر ، فلما أصابا الخطيئة نـزع عنهما, وتركت الأظفار تذكرة وزينة.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سماك, عن عكرمة في قوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: كان لباسه الظفر, فانتهت توبته إلى أظفاره.
وقال آخرون: كان لباسهما نورًا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن وهب بن منبه: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، النور.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو قال، سمعت وهب بن منبه يقول في قوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ) قال: كان لباس آدم وحواء نورًا على فروجهما, لا يرى هذا عورة هذه, ولا هذه عورة هذا.
وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، يسلبهما تقوى الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مطلب بن زياد, عن ليث, عن مجاهد: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: التقوى.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن ليث, عن مجاهد: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: التقوى.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد, مثله.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى حذر عباده أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم آدم وحواء, وأن يجرِّدهم من لباس الله الذي أنـزله إليهم, كما نـزع عن أبويهم لباسهما. « اللباس » المطلق من الكلام بغير إضافة إلى شيء في متعارف الناس, وهو ما اجتابَ فيه اللابس من أنواع الكُسي, أو غطى بدنه أو بعضه.
وإذ كان ذلك كذلك, فالحق أن يقال: إن الذي أخبر الله عن آدم وحواء من لباسهما الذي نـزعه عنهما الشيطان، هو بعض ما كانا يواريان به أبدانهما وعوْرَتهما . وقد يجوز أن يكون ذلك كان ظفرًا ويجوز أن يكون كان ذلك نورًا ويجوز أن يكون غير ذلك ولا خبر عندنا بأيِّ ذلك تثبت به الحجة, فلا قول في ذلك أصوب من أن يقال كما قال جلّ ثناؤه: ( ينـزع عنهما لباسهما ) .
وأضاف جل ثناؤه إلى إبليس إخراجَ آدم وحواء من الجنة, ونـزعَ ما كان عليهما من اللباس عنهما، وإن كان الله جل ثناؤه هو الفاعل ذلك بهما عقوبة على معصيتهما إياه, إذ كان الذي كان منهما في ذلك عن تسْنيةِ ذلك لهما بمكره وخداعه, فأضيف إليه أحيانًا بذلك المعنى, وإلى الله أحيانًا بفعله ذلك بهما.
القول في تأويل قوله : إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ( 27 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: إن الشيطان يراكم هو و « الهاء » في « إنه » عائدة على الشيطان و « قبيله » ، يعني: وصنفه وجنسه الذي هو منه واحدٌ جمع جيلا وهم الجن، كما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: ( إنه يراكم هو وقبيله ) ، قال: الجن والشياطين.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إنه يراكم هو وقبيله ) ، قال: « قبيله » ، نسله.
وقوله: ( من حيث لا ترونهم ) ، يقول: من حيث لا ترون أنتم، أيها الناس، الشيطان وقبيله ( إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) ، يقول: جعلنا الشياطين نُصراء الكفار الذين لا يوحِّدون الله ولا يصدقون رسله.
القول في تأويل قوله : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 28 )
قال أبو جعفر: ذكر أن معنى « الفاحشة » ، في هذا الموضع, ما:-
حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال، حدثنا أبو محياة، عن منصور, عن مجاهد: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, يقولون: « نطوف كما ولدتنا أمهاتنا » , فتضع المرأة على قُبُلها النِّسعة أو الشيء، فتقول:
الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد في قوله: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ) ، فاحشتهم أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن مفضل, عن منصور, عن مجاهد, مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير والشعبي: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) ، قال: كان قبيلة من العرب من أهل اليمن يطوفون بالبيت عراة, فإذا قيل: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: وجدنا عليها آباءنا, والله أمرنا بها.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وإذا فعلوا فاحشة ) ، قال: طوافهم بالبيت عراة.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد, عن مجاهد ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ) ، قال: في طواف الحُمْس في الثياب، وغيرهم عراة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ) ، قال: كان نساؤهم يطفن بالبيت عراة, فتلك الفاحشة التي وجدوا عليها آباءهم: ( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ) ، الآية.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله، الذين جعل الله الشياطين لهم أولياء، قبيحًا من الفعل، وهو « الفاحشة » , وذلك تعرِّيهم للطواف بالبيت وتجردهم له, فعُذِلوا على ما أتوا من قبيح فعلهم وعوتبوا عليه, قالوا: « وجدنا على مثل ما نفعل آباءنا, فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون, ونقتدي بهديهم، ونستنّ بسنتهم, والله أمرنا به, فنحن نتبع أمره فيه » .
يقول الله جل ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهم: « إن الله لا يأمر بالفحشاء » , يقول: لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومساويها « أتقولون » ، أيها الناس، « على الله ما لا تعلمون » ، يقول: أتروون على الله أنه أمركم بالتعرِّي والتجرد من الثياب واللباس للطواف, وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك؟
القول في تأويل قوله : قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء الذين يزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء كذبًا على الله: ما أمر ربي بما تقولون, بل ( أمر ربي بالقسط ) ، يعني: بالعدل، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( قل أمر ربي بالقسط ) ، بالعدل.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( قل أمر ربي بالقسط ) ، والقسط: العدل.
وأما قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله . فقال بعضهم: معناه: وجِّهوا وجوهكم حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، إلى الكعبة حيثما صليتم، في الكنيسة وغيرها.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، قال: إذا صليتم فاستقبلوا الكعبة، في كنائسكم وغيرها.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، هو « المسجد » ، الكعبة.
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خالد بن عبد الرحمن, عن عمر بن ذر, عن مجاهد في قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، قال: الكعبة، حيثما كنت.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، قال: أقيموها للقبلة، هذه القبلة التي أمركم الله بها.
وقال آخرون: بل عنى بذلك: واجعلوا سجودكم لله خالصًا، دون ما سواه من الآلهة والأنداد.
ذكر من قال ذلك.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، قال: في الإخلاص، أن لا تدعوا غيره, وأن تخلصوا له الدين.
قال أبو جعفر: وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية، ما قاله الربيع: وهو أن القوم أُمِروا أن يتوجهوا بصلاتهم إلى ربهم, لا إلى ما سواه من الأوثان والأصنام, وأن يجعلوا دعاءهم لله خالصًا, لا مُكاءً ولا تصدية.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية, لأن الله إنما خاطب بهذه الآية قومًا من مشركي العرب، لم يكونوا أهل كنائس وبيع, وإنما كانت الكنائس والبِيَع لأهل الكتابين. فغير معقول أن يقال لمن لا يصلي في كنيسة ولا بِيعة: « وجِّه وجهك إلى الكعبة في كنيسة أو بِيعةٍ » .
وأما قوله: ( وادعوه مخلصين له الدين ) ، فإنه يقول: واعملوا لربكم مخلصين له الدين والطاعة, لا تخلطوا ذلك بشرك، ولا تجعلوا في شيء مما تعملون له شريكًا، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( وادعوه مخلصين له الدين ) ، قال: أن تخلصوا له الدين والدعوة والعمل, ثم توجِّهون إلى البيت الحرام.
القول في تأويل قوله : كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ( 29 ) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .
فقال بعضهم: تأويله: كما بدأكم أشقياء وسُعَداء, كذلك تبعثون يوم القيامة.
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( كما بدأكم تعودون فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة ) ، قال: إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا, كما قال جل ثناؤه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ، [ سورة التغابن: 2 ] ، ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم، مؤمنًا وكافرًا.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور قال، حدثنا أصحابنا, عن ابن عباس: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: يبعث المؤمن مؤمنًا, والكافر كافرًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن الضريس, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن رجل, عن جابر قال: يبعثون على ما كانوا عليه, المؤمن على إيمانه، والمنافق على نفاقه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع, عن أبي العالية قال: عادوا إلى علمه فيهم, ألم تسمع إلى قول الله فيهم: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ؟ ألم تسمع قوله: ( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) ؟.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: رُدُّوا إلى علمه فيهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو همام الأهوازي قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب في قوله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: من ابتدأ الله خلقه على الشِّقوة صار إلى ما ابتدأ الله خلقه عليه، وإن عمل بأعمال أهل السعادة, كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه. ومن ابتدئ خلقه على السعادة، صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه، وإن عمل بأعمال أهل الشقاء, كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء، ثم صاروا إلى ما ابتدئ عليه خلقهم.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن وِقَاء بن إياس أبي يزيد, عن مجاهد: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: يبعث المسلم مسلمًا, والكافر كافرًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو دكين قال، حدثنا سفيان, عن أبي يزيد, عن مجاهد: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: يبعث المسلم مسلمًا, والكافر كافرًا.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا محمد بن أبي الوضاح, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: كما كتب عليكم تكونون.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد, مثله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( كما بدأكم تعودون فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة ) ، يقول: كما بدأكم تعودون، كما خلقناكم, فريق مهتدون، وفريق ضال, كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم.
حدثنا ابن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن جابر, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تُبعث كل نفس على ما كانت عليه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري, عن شريك, عن سالم, عن سعيد بن جبير: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: كما كتب عليكم تكونون.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا حماد بن زيد, عن ليث, عن مجاهد قال، يبعث المؤمن مؤمنًا, والكافر كافرًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، شقيًّا وسعيدًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة عن مجاهد, مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: كما خلقكم ولم تكونوا شيئًا، تعودون بعد الفناء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر, عن عوف, عن الحسن: ( كما بدأكم تعودون ) ، قال: كما بدأكم ولم تكونوا شيئًا فأحياكم, كذلك يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى, عن عوف, عن الحسن: ( كما بدأكم تعودون ) ، قال: كما بدأكم في الدنيا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: بدأ خلقهم ولم يكونوا شيئًا, ثم ذهبوا، ثم يعيدهم.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( كما بدأكم تعودون فريقًا هدى ) ، يقول: كما خلقناكم أول مرة، كذلك تعودون.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، يحييكم بعد موتكم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: كما خلقهم أولا كذلك يعيدهم آخرًا.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, القولُ الذي قاله من قال: معناه: كما بدأكم الله خلقًا بعد أن لم تكونوا شيئًا، تعودون بعد فنائكم خلقًا مثله, يحشركم إلى يوم القيامة لأن الله تعالى ذكره: أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلم بما في هذه الآية قومًا مشركين أهلَ جاهلية، لا يؤمنون بالمعاد، ولا يصدِّقون بالقيامة. فأمره أن يدعوهم إلى الإقرار بأن الله باعثهم يوم القيامة، ومثيبُ مَنْ أطاعه، ومعاقبُ مَنْ عصاه. فقال له: قل لهم: أمرَ ربي بالقسط, وأن أقيموا وجوهكم عند كل مسجد, وأن ادعوه مخلصين له الدين, وأن أقرُّوا بأنْ كما بدأكم تعودون فترك ذكر « وأن أقروا بأن » . كما ترك ذكر « أن » مع « أقيموا » , إذ كان فيما ذكر دلالة على ما حذف منه.
وإذ كان ذلك كذلك, فلا وجه لأن يؤمر بدعاء مَنْ كان جاحدًا النشورَ بعد الممات، إلى الإقرار بالصفة التي عليها ينشر مَنْ نُشِر, وإنما يؤمر بالدعاء إلى ذلك مَنْ كان بالبعث مصدّقًا, فأما مَنْ كان له جاحدًا، فإنما يدعى إلى الإقرار به، ثم يعرَّف كيف شرائط البعث. على أن في الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:-
حدثناه محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يُحْشر الناس عُراة غُرْلا وأوّل مَنْ يكسى إبراهيم صلى الله عليه وسلم . ثم قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ، [ سورة الأنبياء: 104 ]
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا إسحاق بن يوسف قال، حدثنا سفيان, عن المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم , بنحوه.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة, فقال: يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حُفَاة غُرْلا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ .
ما يبيِّن صحة القول الذي قلنا في ذلك, من أن معناه: أن الخلقَ يعودون إلى الله يوم القيامة خلقًا أحياء، كما بدأهم في الدنيا خلقًا أحياء.
يقال منه: « بدأ الله الخلق يبدؤهم وأبدأَهُم يُبْدِئهم إبداءً » ، بمعنى خلقهم, لغتان فصيحتان.
ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه عما سبق من علمه في خلقه، وجرى به فيهم قضاؤه, فقال: هدى الله منهم فريقًا فوفّقهم لصالح الأعمال فهم مهتدون, وحقَّ على فريق منهم الضلالة عن الهدى والرشاد, باتخاذهم الشيطان من دون الله وليًّا.
وإذا كان التأويل هذا, كان « الفريق » الأول منصوبًا بإعمال « هدى » فيه, و « الفريق » ، الثاني بوقوع قوله: « حق » على عائد ذكره في « عليهم » , كما قال جل ثناؤه: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ، [ سورة الإنسان: 31 ]
ومن وجه تأويل ذلك إلى أنه: كما بدأكم في الدنيا صنفين: كافرًا, ومؤمنًا, كذلك تعودون في الآخرة فريقين: فريقًا هدى، وفريقًا حق عليهم الضلالة نصب « فريقًا » ، الأول بقوله: « تعودون » , وجعل الثاني عطفًا عليه. وقد بينا الصواب عندنا من القول فيه.
القول في تأويل قوله : إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( 30 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة، إنما ضلوا عن سبيل الله وجارُوا عن قصد المحجة, باتخاذهم الشياطين نُصراء من دون الله، وظُهراء, جهلا منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك، بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحق, وأن الصواب ما أتوه وركبوا.
وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعمَ أن الله لا يعذِّب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها. لأن ذلك لو كان كذلك, لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسَبُ أنه هادٍ. وفريق الهدى، فَرْقٌ. وقد فرَّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية.
القول في تأويل قوله : يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 31 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يتعرَّون عند طوافهم ببيته الحرام، ويبدون عوراتهم هنالك من مشركي العرب, والمحرِّمين منهم أكل ما لم يحرِّمه الله عليهم من حلال رزقه، تبرُّرًا عند نفسه لربه: ( يا بني آدم خذوا زينتكم ) ، من الكساء واللباس ( عند كل مسجد وكلوا ) ، من طيبات ما رزقتكم, وحللته لكم ( واشربوا ) ، من حلال الأشربة, ولا تحرِّموا إلا ما حَرَّمْتُ عليكم في كتابي أو على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا شعبة, عن سلمة, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أن النساء كنّ يطفن بالبيت عراة وقال في موضع آخر: بغير ثياب إلا أن تجعل المرأة على فرجها خِرقة، فيما وُصِف إن شاء الله, وتقول:
الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ
قال: فنـزلت هذه الآية: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) .
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن سلمة بن كهيل, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كانوا يطوفون عراة, الرجال بالنهار, والنساء بالليل, وكانت المرأة تقول:
الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ
فقال الله: ( خذوا زينتكم ) .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن ابن عباس: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: الثياب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر ووهب بن جرير, عن شعبة, عن سلمة بن كهيل قال: سمعت مسلمًا البطين يحدث، عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة قال غندر: وهي عريانة قال، وهب: كانت المرأة تطوف بالبيت وقد أخرجت صدرَها وما هنالك قال غندر: وتقول: « مَنْ يعيرني تِطْوافًا » ، تجعله على فرْجها وتقول:
الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ
فأنـزل الله ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) .
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعرَّوا.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) « الآية » قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة, فأمرهم الله بالزينة و « الزينة » ، اللباس, وهو ما يواري السوءة, وما سوى ذلك من جيِّد البزِّ والمتاع فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي وابن فضيل, عن عبد الملك, عن عطاء: ( خذوا زينتكم ) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, فأمروا أن يلبسوا ثيابهم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, عن عبد الملك, عن عطاء, بنحوه.
حدثني عمرو قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا عبد الملك, عن عطاء في قوله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، البسوا ثيابكم.
حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: كان ناس يطوفون بالبيت عراة، فنهوا عن ذلك.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, فأمروا أن يلبسوا الثياب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: ما وارى العورة ولو عبَاءة.
حدثنا عمرو قال:حدثنا يحيى بن سعيد, وأبو عاصم, وعبد الله بن داود, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد في قوله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: ما يواري عورتك، ولو عباءة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، في قريش, لتركهم الثياب في الطواف.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان, عن سالم, عن سعيد بن جبير: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: الثياب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب, عن إبراهيم, عن نافع, عن ابن طاوس, عن أبيه: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: الشَّمْلة من الزينة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن طاوس: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: الثياب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد وأبو أسامة, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن سعيد بن جبير قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, فطافت امرأة بالبيت وهي عريانة فقالت:
الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، قال: كان حي من أهل اليمن، كان أحدهم إذا قدم حاجًّا أو معتمرًا يقول: « لا ينبغي أن أطوف في ثوب قد دَنِسْتُ فيه » , فيقول: من يعيرني مئزرًا؟ فإن قدر على ذلك, وإلا طاف عريانًا, فأنـزل الله فيه ما تسمعون: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) .
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: قال الله: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) يقول: ما يواري العورة عند كل مسجد.
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: أن العرب كانت تطوف بالبيت عراة, إلا الحُمْس، قريش وأحلافهم. فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه وطاف في ثياب أحمس, فإنه لا يحل له أن يلبس ثيابه. فإن لم يجد من يعيره من الحمس، فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانًا. وإن طاف في ثياب نفسه، ألقاها إذا قضى طوافه، يحرِّمها، فيجعلها حرامًا عليه. فلذلك قال الله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) .
وبه عن معمر قال، قال ابن طاوس, عن أبيه: الشَّملة، من الزينة.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، الآية, كان ناسٌ من أهل اليمن والأعراب إذا حجوا البيت يطوفون به عُراة ليلا فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم، ولا يتعرّوا في المسجد.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( خذوا زينتكم ) ، قال: زينتهم، ثيابهم التي كانوا يطرحونها عند البيت ويتعرّون.
وحدثني به مرة أخرى بإسناده, عن ابن زيد في قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ، قال: كانوا إذا جاءوا البيت فطافوا به، حرمت عليهم ثيابهم التي طافوا فيها. فإن وجدوا مَنْ يُعيرهم ثيابًا, وإلا طافوا بالبيت عراة. فقال: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ ، قال: ثياب الله التي أخرج لعباده، الآية.
وكالذي قلنا أيضًا قالوا في تأويل قوله: ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه, عن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سَرَفًا أو مَخِيلة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قوله: ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ، في الطعام والشراب.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرِّمون عليهم الوَدَك ما أقاموا بالموسم, فقال الله لهم: ( كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ، يقول: لا تسرفوا في التحريم.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) ، قال: أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تسرفوا ) ، لا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.
وقوله ( إنه لا يحب المسرفين ) ، يقول: إن الله لا يحب المتعدِّين حدَّه في حلال أو حرام, الغالين فيما أحلّ الله أو حرم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال, ولكنه يحبّ أن يحلَّل ما أحل ويحرَّم ما حرم, وذلك العدل الذي أمر به.
القول في تأويل قوله : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يتعرّون عند طوافهم بالبيت, ويحرمون على أنفسهم ما أحللت لهم من طيبات الرزق: من حرَّم، أيها القوم، عليكم زينة الله التي خلقها لعباده أن تتزيَّنوا بها وتتجملوا بلباسها, والحلال من رزق الله الذي رزق خلقه لمطاعمهم ومشاربهم.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ: بـ « الطيبات من الرزق » ، بعد إجماعهم على أن « الزينة » ما قلنا.
فقال بعضهم: « الطيبات من الرزق » في هذا الموضع، اللحم. وذلك أنهم كانوا لا يأكلونه في حال إحرامهم.
ذكر من قال ذلك منهم:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) ، وهو الودَك.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) ، الذي حرموا على أنفسهم. قال: كانوا إذا حجُّوا أو اعتمروا، حرموا الشاة عليهم وما يخرج منها.
وحدثني به يونس مرة أخرى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( قل من حرم زينة الله ) إلى آخر الآية, قال: كان قوم يحرِّمون ما يخرج من الشاة، لبنها وسمنها ولحمها, فقال الله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) ، قال: والزينة من الثياب.
حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن رجل, عن الحسن قال: لما بعث محمدًا فقال: « هذا نبيي، هذا خياري, استنّوا به » ، خذوا في سَنَنه وسبيله، لم تغلق دونه الأبواب، ولم تُقَمْ دونه الحَجَبَة, ولم يُغْدَ عليه بالجفان، ولم يُرْجع عليه بها، وكان يجلس بالأرض, ويأكل طعامه بالأرض, ويلعق يده, ويلبس الغليظ, ويركب الحمار, ويُرْدِف بعده, وكان يقول: « مَنْ رغب عن سنتي فليس مني » . قال الحسن: فما أكثر الراغبين عن سنته، التاركين لها! ثم إنّ عُلُوجًا فُسَّاقًا, أكلة الربا والغُلول, قد سفَّههم ربي ومقتهم, زعموا أن لا بأس عليهم فيما أكلوا وشربوا، وزخرفوا هذه البيوت, يتأوّلون هذه الآية: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) ، وإنما جعل ذلك لأولياء الشيطان, قد جعلها ملاعبَ لبطنه وفرجه من كلام لم يحفظه سفيان.
وقال آخرون: بل عنى بذلك ما كانت الجاهلية تحرم من البحائر والسوائب.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) ، وهو ما حرم أهل الجاهلية عليهم من أموالهم: البحيرة, والسائبة, والوصيلة, والحام.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) ، قال: إن الجاهلية كانوا يحرمون أشياءَ أحلها الله من الثياب وغيرها, وهو قول الله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا ، [ سورة يونس: 59 ] ، وهو هذا, فأنـزل الله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق )
القول في تأويل قوله : قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد لهؤلاء الذين أمرتك أن تقول لهم: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ، إذ عَيُّوا بالجواب، فلم يدروا ما يجيبونك : زينة الله التي أخرج لعباده, وطيبات رزقه، للذين صدّقوا الله ورسوله, واتبعوا ما أنـزل إليك من ربك، في الدنيا, وقد شركهم في ذلك فيها من كفر بالله ورسوله وخالف أمر ربه, وهي للذين آمنوا بالله ورسوله خالصة يوم القيامة, لا يشركهم في ذلك يومئذ أحدٌ كفر بالله ورسوله وخالف أمر ربه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، يقول: شارك المسلمون الكفار في الطيبات, فأكلوا من طيبات طعامها, ولبسوا من خِيار ثيابها, ونكحوا من صالح نسائها, وخلصوا بها يوم القيامة.
وحدثني به المثنى مرة أخرى بهذا الإسناد بعينه, عن ابن عباس فقال: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ) ، يعني: يشارك المسلمون المشركين في الطيبات في الحياة الدنيا, ثم يُخْلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا, وليس للمشركين فيها شيء.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ، يقول: قل هي في الآخرة خالصة لمن آمن بي في الدنيا, لا يشركهم فيها أحدٌ في الآخرة. وذلك أن الزينة في الدنيا لكل بني آدم, فجعلها الله خالصة لأوليائه في الآخرة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سلمة بن نبيط, عن الضحاك: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، قال: اليهود والنصارى يشركونكم فيها في الدنيا, وهي للذين آمنوا خالصة يوم القيامة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، خالصةً للمؤمنين في الآخرة، لا يشاركهم فيها الكفار. فأما في الدنيا فقد شاركوهم.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، مَنْ عمل بالإيمان في الدنيا خلصت له كرامة الله يوم القيامة, ومَنْ ترك الإيمان في الدنيا قَدِم على ربّه لا عذرَ له.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السديّ: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ) ، يشترك فيها معهم المشركون ( خالصة يوم القيامة ) ، للذين آمنوا.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، يقول: المشركون يشاركون المؤمنين في الدنيا في اللباس والطعام والشراب, ويوم القيامة يَخْلُص اللباس والطعام والشراب للمؤمنين, وليس للمشركين في شيء من ذلك نصيبٌ.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: الدنيا يصيب منها المؤمن والكافر, ويخلص خيرُ الآخرة للمؤمنين, وليس للكافر فيها نصيب.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، قال: هذه يوم القيامة للذين آمنوا, لا يشركهم فيها أهل الكفر، ويشركونهم فيها في الدنيا. وإذا كان يوم القيامة، فليس لهم فيها قليل ولا كثير.
وقال سعيد بن جبير في ذلك بما:-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسماعيل بن أبان، وحبويه الرازي أبو يزيد، عن يعقوب القمي, عن سعيد بن جبير: ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) ، قال: ينتفعون بها في الدنيا، ولا يتبعهم إثمها.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: « خالصة » .
فقرأ ذلك بعض قرأة المدينة: « خَالِصَةٌ » ، برفعها, بمعنى: قل هي خالصة للذين آمنوا.
وقرأه سائر قرأة الأمصار: ( خَالِصَةً ) ، بنصبها على الحال من « لهم » , وقد ترك ذكرها من الكلام اكتفاءً منها بدلالة الظاهر عليها, على ما قد وصفت في تأويل الكلام أن معنى الكلام: قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة, وهي لهم في الآخرة خالصة. ومن قال ذلك بالنصب، جعل خبر « هي » في قوله: ( للذين آمنوا )
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصحة، قراءة من قرأ نصبًا, لإيثار العرب النصبَ في الفعل إذا تأخر بعد الاسم والصفة، وإن كان الرفع جائزًا, غير أن ذلك أكثر في كلامهم.
القول في تأويل قوله : كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 32 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما بينت لكم الواجب عليكم في اللباس والزينة، والحلال من المطاعم والمشارب والحرام منها, وميزت بين ذلك لكم، أيها الناس, كذلك أبيِّن جميع أدلتي وحججي، وأعلامَ حلالي وحرامي وأحكامي، لقوم يعلمون ما يُبَيَّن لهم، ويفقهون ما يُمَيَّز لهم.
القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يتجرّدون من ثيابهم للطواف بالبيت, ويحرمون أكل طيبات ما أحل الله لهم من رزقه: أيها القوم، إن الله لم يحرم ما تحرمونه, بل أحل ذلك لعباده المؤمنين وطيَّبه لهم، وإنما حرم ربِّي القبائح من الأشياء وهي « الفواحش » « ما ظهر منها » ، فكان علانية « وما بطن » ، منها فكان سرًّا في خفاء.
وقد روي عن مجاهد في ذلك ما:-
حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: « ما ظهر منها » ، طوافُ أهل الجاهلية عراة « وما بطن » ، الزنى.
وقد ذكرت اختلاف أهل التأويل في تأويل ذلك بالروايات فيما مضى، فكرهت إعادته.
وأما « الإثم » ، فإنه المعصية « والبغي » ، الاستطالة على الناس.
يقول تعالى ذكره: إنما حرم ربي الفواحش مع الإثم والبغي على الناس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( والإثم والبغي ) ، أما « الإثم » فالمعصية و « البغي » ، أن يبغي على الناس بغير الحق.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا في قوله: ( ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي ) ، قال: نهى عن « الإثم » ، وهي المعاصي كلها وأخبر أن الباغيَ بَغْيُه كائنٌ على نفسه.
القول في تأويل قوله : وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 33 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: إنما حرم ربي الفواحش والشرك به، أن تعبدوا مع الله إلهًا غيره ( ما لم ينـزل به سلطانًا ) ، يقول: حرم ربكم عليكم أن تجعلوا معه في عبادته شِرْكًا لشيء لم يجعل لكم في إشراككم إياه في عبادته حجة ولا برهانًا, وهو « السلطان » ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ، يقول: وأن تقولوا إن الله أمركم بالتعرِّي والتجرُّد للطواف بالبيت, وحرم عليكم أكل هذه الأنعام التي حرمتموها وسيَّبتموها وجعلتموها وصائل وحوامي, وغير ذلك مما لا تعلمون أن الله حرّمه، أو أمر به، أو أباحه, فتضيفوا إلى الله تحريمه وحَظْره والأمر به, فإن ذلك هو الذي حرمه الله عليكم دون ما تزعمون أن الله حرمه، أو تقولون إن الله أمركم به، جهلا منكم بحقيقة ما تقولون وتضيفونه إلى الله.
القول في تأويل قوله : وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( 34 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره تهدُّدًا للمشركين الذين أخبر جل ثناؤه عنهم أنهم كانوا إذا فعلوا فاحشة قالوا: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ووعيدًا منه لهم على كذبهم عليه، وعلى إصرارهم على الشرك به والمقام على كفرهم ومذكرًا لهم ما أحلّ بأمثالهم من الأمم الذين كانوا قبلهم : ( ولكل أمة أجل ) ، يقول: ولكل جماعة اجتمعت على تكذيب رُسل الله، وردِّ نصائحهم, والشرك بالله، مع متابعة ربهم حججه عليهم « أجل » , يعني: وقت لحلول العقوبات بساحتهم, ونـزول المثُلات بهم على شركهم ( فإذا جاء أجلهم ) ، يقول: فإذا جاء الوقت الذي وقّته الله لهلاكهم، وحلول العقاب بهم ( لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ، يقول: لا يتأخرون بالبقاء في الدنيا، ولا يُمَتَّعون بالحياة فيها عن وقت هلاكهم وحين حلول أجل فنائهم، ساعة من ساعات الزمان ( ولا يستقدمون ) ، يقول: ولا يتقدّمون بذلك أيضًا عن الوقت الذي جعله الله لهم وقتًا للهلاك.
القول في تأويل قوله : يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 35 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره معرِّفًا خلقه ما أعدَّ لحزبه وأهل طاعته والإيمان به وبرسوله, وما أعدّ لحزب الشيطان وأوليائه والكافرين به وبرسله: ( يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم ) ، يقول: إن يجئكم رسلي الذين أرسلهم إليكم بدعائكم إلى طاعتي، والانتهاء إلى أمري ونهيي « منكم » , يعني: من أنفسكم, ومن عشائركم وقبائلكم ( يقصون عليكم آياتي ) ، يقول: يتلون عليكم آيات كتابي, ويعرّفونكم أدلتي وأعلامي على صدق ما جاؤوكم به من عندي, وحقيقة ما دعوكم إليه من توحيدي ( فمن اتقى وأصلح ) ، يقول: فمن آمن منكم بما أتاه به رُسلي مما قص عليه من آياتي وصدَّق، واتقى الله فخافه بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه على لسان رسوله ( وأصلح ) ، يقول: وأصلح أعماله التي كان لها مفسدًا قبل ذلك من معاصي الله بالتحوُّب منها ( فلا خوف عليهم ) ، يقول: فلا خوف عليهم يوم القيامة من عقاب الله إذا وردوا عليه ( ولا هم يحزنون ) ، على ما فاتهم من دنياهم التي تركوها, وشهواتهم التي تجنَّبوها, اتباعًا منهم لنهي الله عنها، إذا عاينوا من كرامة الله ما عاينوا هنالك.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام أبو عبد الله قال، حدثنا هياج قال، حدثنا عبد الرحمن بن زياد, عن أبي سيّار السُّلَمي قال، إن الله جعل آدم وذريته في كفّه فقال: ( يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، ثم نظر إلى الرسل فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [ سورة المؤمنون: 51- 52 ] ، ثم بَثَّهم.
فإن قال قائل: ما جواب قوله: ( إما يأتينكم رسل منكم ) ؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك.
فقال بعضهم في ذلك: الجوابُ مضمرٌ, يدل عليه ما ظهر من الكلام, وذلك قوله: ( فمن اتقى وأصلح ) . وذلك لأنه حين قال: ( فمن اتقى وأصلح ) ، كأنه قال: فأطيعوهم.
وقال آخرون منهم: الجواب: « فمن اتقى » , لأن معناه: فمن اتقى منكم وأصلح. قال: ويدل على أنّ ذلك كذلك, تبعيضه الكلام, فكان في التبعيض اكتفاء من ذكر « منكم » .
القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 36 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وأما من كذّب بإيتاء رسلي التي أرسلتها إليه، وجحد توحيدي، وكفر بما جاء به رسلي، واستكبر عن تصديق حُجَجي وأدلّتي ( فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، يقول: هم في نار جهنم ماكثون, لا يخرجون منها أبدًا.
القول في تأويل قوله : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فمن أخطأ فعلا وأجهلُ قولا وأبعد ذهابًا عن الحق والصواب ( ممن افترى على الله كذبًا ) ، يقول: ممن اختلق على الله زُورًا من القول, فقال إذا فعل فاحشة: إن الله أمرنا بها ( أو كذب بآياته ) ، يقول: أو كذب بأدلته وأعلامه الدّالة على وحدانيته ونبوّة أنبيائه, فجحد حقيقتها ودافع صحتها ( أولئك ) يقول: مَنْ فعل ذلك، فافترى على الله الكذب وكذب بآياته ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، يقول: يصل إليهم حظهم مما كتب الله لهم في اللوح المحفوظ.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة ذلك « النصيب » ، الذي لهم في « الكتاب » ، وما هو؟
فقال بعضهم: هو عذاب الله الذي أعدَّه لأهل الكفر به.
ذكر من قال ذلك.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا مروان, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، أي من العذاب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن إسماعيل, عن أبي صالح, مثله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، يقول: ما كتب لهم من العذاب.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن كثير بن زياد, عن الحسن في قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: من العذاب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن جويبر, عن أبي سهل, عن الحسن, قال: من العذاب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن رجل, عن الحسن, قال: من العذاب.
وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم مما سبق لهم من الشقاء والسعادة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن سعيد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: من الشِّقوة والسعادة.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، كشقي وسعيد.
حدثنا واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن فضيل, عن الحسن ابن عمرو الفقيمي, عن الحكم قال: سمعت مجاهدًا يقول: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: هو ما سبق.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، ما كتب لهم من الشقاوة والسعادة.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، ما كتب عليهم من الشقاوة والسعادة, كشقي وسعيد.
. . . . قال، حدثنا ابن المبارك, عن شريك, عن جابر, عن مجاهد, عن ابن عباس: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، من الشقاوة والسعادة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير وابن إدريس, عن الحسن بن عمرو, عن الحكم, عن مجاهد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما قد سبق من الكتاب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن فضيل بن مرزوق, عن عطية: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما سبق لهم في الكتاب.
. . . . قال، حدثنا سويد بن عمرو ويحيى بن آدم, عن شريك, عن سالم, عن سعيد: ( أولئك ينالهم نصيبهم ) ، قال: من الشقاوة والسعادة.
. . . . قال: حدثنا أبو معاوية, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ما قُضي أو قُدِّر عليهم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ( ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، ينالهم الذي كتب عليهم من الأعمال.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا مروان بن معاوية, عن إسماعيل بن سميع, عن بكر الطويل, عن مجاهد في قول الله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: قوم يعملون أعمالا لا بُدَّ لهم من أن يعملوها.
وقال آخرون: معنى ذلك، أولئك ينالهم نصيبهم من كتابهم الذي كتب لهم أو عليهم، بأعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير وشر.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، يقول: نصيبهم من الأعمال, من عمل خيرًا جُزي به, ومن عمل شرًّا جزي به.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) قال: من أحكام الكتاب، على قدر أعمالهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ينالهم نصيبهم في الآخرة من أعمالهم التي عملوا وأسْلَفوا.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، أي: أعمالهم, أعمال السوء التي عملوها وأسلفوها.
حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، قال أبي: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، زعم قتادة: من أعمالهم التي عملوا.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، يقول: ينالهم نصيبهم من العمل. يقول: إن عمل من ذلك نصيبَ خير جُزِي خيرًا, وإن عمل شرًّا جُزِي مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: ينالهم نصيبهم مما وُعِدوا في الكتاب من خير أو شر.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء, عن سفيان, عن جابر, عن مجاهد, عن ابن عباس في هذه الآية: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: من الخير والشر.
. . . قال حدثنا زيد, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد قال: ما وُعدوا.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما وعدوا.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما وعدوا فيه من خير أو شر.
. . . . قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن مجاهد, عن ليث, عن ابن عباس: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما وُعِدوا مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك قال: ما وُعِدوا فيه من خير أو شر.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم، قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما وُعِدوا فيه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد في قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ما وعدوا من خير أو شر.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا مروان بن معاوية, عن الحسن بن عمرو, عن الحكم, عن مجاهد في قول الله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: ينالهم ما سبق لهم من الكتاب.
وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب الذي كتبه الله على من افترى عليه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، يقول: ينالهم ما كتب عليهم. يقول: قد كتب لمن يفتري على الله أنّ وجهه مسوَدٌّ.
وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم مما كتب لهم من الرزق والعمر والعمل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع بن أنس: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، مما كتب لهم من الرزق.
. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب, عن ابن لهيعة, عن أبي صخر, عن القرظي: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: عمله ورزقه وعمره.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، قال: من الأعمال والأرزاق والأعمار, فإذا فني هذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم، وقد فرغوا من هذه الأشياء كلها.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب، مما كتب لهم من خير وشر في الدنيا، ورزق وعمل وأجل. وذلك أن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، فأبان بإتباعه ذلك قولَه: ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) ، أن الذي ينالهم من ذلك إنما هو ما كان مقضيًّا عليهم في الدنيا أن ينالهم, لأنه قد أخبر أن ذلك ينالهم إلى وقت مجيئهم رسلَه لتقبض أرواحهم. ولو كان ذلك نصيبهم من الكتاب، أو مما قد أعدّ لهم في الآخرة, لم يكن محدودًا بأنه ينالهم إلى مجيء رسل الله لوفاتهم، لأن رسل الله لا تجيئهم للوفاة في الآخرة, وأن عذابهم في الآخرة لا آخر له ولا انقضاء، فإن الله قد قضى عليهم بالخلود فيه. فبيِّنٌ بذلك أن معناه ما اخترنا من القول فيه.
القول في تأويل قوله : حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( 37 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( حتى إذا جاءتهم رسلنا ) ، إلى أن جاءتهم رسلنا. يقول جل ثناؤه: وهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب، أو كذبوا بآيات ربهم, ينالهم حظوظهم التي كتب الله لهم، وسبق في علمه لهم من رزق وعمل وأجل وخير وشر في الدنيا, إلى أن تأتيهم رسلنا لقبض أرواحهم. فإذا جاءتهم رسلنا، يعني ملك الموت وجنده ( يتوفونهم ) ، يقول: يستوفون عددهم من الدنيا إلى الآخرة ( قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله ) ، يقول: قالت الرسل: أين الذين كنتم تدعونهم أولياء من دون الله وتعبدونهم, لا يدفعون عنكم ما قد جاءكم من أمر الله الذي هو خالقكم وخالقهم، وما قد نـزل بساحتكم من عظيم البلاء؟ وهلا يُغيثونكم من كرب ما أنتم فيه فينقذونكم منه؟ فأجابهم الأشقياء فقالوا: ضَلَّ عنا أولياؤنا الذين كنا ندعو من دون الله. يعني بقوله: ( ضلوا ) ، جاروا وأخذوا غير طريقنا، وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم ينفعونا. يقول الله جل ثناؤه: وشهد القوم حينئذ على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بالله، جاحدين وحدانيته.
القول في تأويل قوله : قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن قيله لهؤلاء المفترين عليه، المكذبين آياته يوم القيامة. يقول تعالى ذكره: قال لهم حين وردوا عليه يوم القيامة، ادخلوا، أيها المفترون على ربكم، المكذبون رسله، في جماعات من ضُرَبائكم ( قد خلت من قبلكم ) ، يقول: قد سلفت من قبلكم « من الجن والإنس في النار » ، ومعنى ذلك: ادخلوا في أمم هي في النار، قد خلت من قبلكم من الجن والإنس وإنما يعني بـ « الأمم » ، الأحزابَ وأهلَ الملل الكافرة ( كلما دخلت أمة لعنت أختها ) ، يقول جل ثناؤه: كلما دخلت النارَ جماعةٌ من أهل ملة لعنت أختها, يقول: شتمت الجماعة الأخرى من أهل ملتها، تبرِّيًا منها.
وإنما عنى بـ « الأخت » ، الأخوة في الدين والملة، وقيل: « أختها » ، ولم يقل: « أخاها » , لأنه عنى بها « أمة » وجماعة أخرى, كأنه قيل: كلما دخلت أمة لعنت أمة أخرى من أهل ملتها ودينها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( كلما دخلت أمة لعنت أختها ) ، يقول: كلما دخل أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك الدين, يلعن المشركون المشركين، واليهودُ اليهودَ، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوسُ المجوسَ, تلعن الآخرةُ الأولى.
القول في تأويل قوله : حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: حتى إذا تداركت الأمم في النار جميعًا, يعني اجتمعت فيها.
يقال: « قد ادَّاركوا » ، و « تداركوا » ، إذا اجتمعوا.
يقول: اجتمع فيها الأوَّلون من أهل الملل الكافرة والآخِرون منهم.
القول في تأويل قوله : قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ( 38 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن محاورة الأحزاب من أهل الملل الكافرة في النار يوم القيامة. يقول الله تعالى ذكره: فإذا اجتمع أهل الملل الكافرة في النار فادّاركوا, قالت أخرى أهل كل ملة دخلت النار الذين كانوا في الدنيا بعد أولى منهم تَقَدَّمتها وكانت لها سلفًا وإمامًا في الضلالة والكفر لأولاها الذين كانوا قبلهم في الدنيا: ربنا هؤلاء أضلونا عن سبيلك، ودعونا إلى عبادة غيرك، وزيَّنوا لنا طاعة الشيطان, فآتهم اليوم من عذابك الضعفَ على عذابنا، كما:-
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قالت أخراهم » ، الذين كانوا في آخر الزمان « لأولاهم » ، الذين شرعوا لهم ذلك الدين ( ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النار )
وأما قوله: ( قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ) ، فإنه خبر من الله عن جوابه لهم, يقول: قال الله للذين يدعونه فيقولون: « ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النار » : لكلكم, أوَّلكم وآخركم، وتابعوكم ومُتَّبَعوكم « ضعف » , يقول: مكرر عليه العذاب.
و « ضعف الشيء » ، مثله مرة.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما:-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( عذابًا ضعفًا من النار قال لكل ضعف ) ، مضعّف.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال الله: ( لكل ضعف ) ، للأولى، وللآخرة ضعف.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان قال، حدثني غير واحد, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله: ( ضعفًا من النار ) ، قال: أفاعي.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله: ( فآتهم عذابًا ضعفًا من النار ) ، قال: حيّات وأفاعي.
وقيل: إن « المضَعَّف » ، في كلام العرب، ما كان ضعفين، و « المضاعف » ، ما كان أكثر من ذلك.
وقوله: ( ولكن لا تعلمون ) ، يقول: ولكنكم، يا معشر أهل النار, لا تعلمون ما قدْرُ ما أعدّ الله لكم من العذاب, فلذلك تسأل الضعفَ منه الأمةُ الكافرةُ الأخرى لأختها الأولى.
القول في تأويل قوله : وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( 39 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وقالت أولى كل أمة وملة سبقت في الدنيا، لأخراها الذين جاؤوا من بعدهم، وحَدَثوا بعد زمانهم فيها, فسلكوا سبيلهم واستنوا سنتهم: ( فما كان لكم علينا من فضل ) ، و قد علمتم ما حل بنا من عقوبة الله جل ثناؤه بمعصيتنا إياه وكفرنا بآياته, بعدما جاءتنا وجاءتكم بذلك الرسل والنذر, فهل أنَبْتم إلى طاعة الله, وارتدعتم عن غوايتكم وضلالتكم؟ فانقضت حجة القوم وخُصِموا ولم يطيقوا جوابًا بأن يقولوا: « فضِّلنا عليكم إذ اعتبرنا بكم فآمنا بالله وصدقنا رسله » , قال الله لجميعهم: فذوقوا جميعكم، أيها الكفرة، عذابَ جهنم, بما كنتم في الدنيا تكسبون من الآثام والمعاصي, وتجترحون من الذنوب والإجرام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عمران, عن أبي مجلز: ( وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ) ، قال: يقول: فما فَضْلكم علينا, وقد بُيِّن لكم ما صنع بنا، وحُذِّرتم؟
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل ) ، فقد ضللتم كما ضللنا.
وكان مجاهد يقول في هذا بما:-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن أبن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فما كان لكم علينا من فضل ) ، قال: من التخفيف من العذاب.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فما كان لكم علينا من فضل ) ، قال: من تخفيف.
وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد، قولٌ لا معنى له لأن قول القائلين: « فما كان لكم علينا من فضل » لمن قالوا ذلك، إنما هو توبيخ منهم على ما سلف منهم قبل تلك الحال, يدل على ذلك دخول « كان » في الكلام. ولو كان ذلك منهم توبيخًا لهم على قيلهم الذي قالوا لربهم: « آتهم عذابًا ضعفًا من النار » , لكان التوبيخ أن يقال: « فما لكم علينا من فضل، في تخفيف العذاب عنكم، وقد نالكم من العذاب ما قد نالنا » ، ولم يقل: « فما كان لكم علينا من فضل » .
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين كذبوا بحججنا وأدلتنا فلم يصدقوا بها، ولم يتبعوا رسلنا ( واستكبروا عنها ) ، يقول: وتكبروا عن التصديق بها وأنفوا من اتباعها والانقياد لها تكبرًا « لا تفتح لهم » ، لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم « أبواب السماء » , ولا يصعد لهم في حياتهم إلى الله قول ولا عمل, لأن أعمالهم خبيثة، وإنما يُرْفع الكلم الطيبُ والعملُ الصالح, كما قال جل ثناؤه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [ سورة فاطر: 10 ] .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) .
فقال بعضهم: معناه: لا تفتح لأرواح هؤلاء الكفار أبواب السماء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يعلى, عن أبي سنان, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: عنى بها الكفار، أنّ السماء لا تفتح لأرواحهم، وتفتح لأرواح المؤمنين.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن أبي سنان, عن الضحاك قال، قال ابن عباس: تُفتح السماء لروح المؤمن, ولا تفتح لروح الكافر.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: إن الكافر إذا أُخِذ روحُه، ضربته ملائكة الأرض حتى يرتفع إلى السماء, فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء فهبط, فضربته ملائكة الأرض فارتفع, فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء الدنيا فهبط إلى أسفل الأرضين. وإذا كان مؤمنًا نفخ روحه, وفتحت له أبواب السماء, فلا يمرّ بملك إلا حيَّاه وسلم عليه، حتى ينتهي إلى الله, فيعطيه حاجته, ثم يقول الله: ردّوا روحَ عبدي فيه إلى الأرض, فإني قضيتُ من التراب خلقه, وإلى التراب يعود, ومنه يخرج.
وقال آخرون: معنى ذلك أنه لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاءٌ إلى الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن سفيان, عن ليث, عن عطاء, عن ابن عباس: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، لا يصعد لهم قولٌ ولا عمل.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، يعني: لا يصعد إلى الله من عملهم شيء.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، يقول: لا تفتح لخير يعملون.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: لا يصعد لهم كلامٌ ولا عمل.
حدثنا مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا عبد الله بن داود قال، حدثنا شريك, عن منصور, عن إبراهيم, في قوله: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن سالم, عن سعيد: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سعيد: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: لا يرفع لهم عملٌ صالح ولا دعاء.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم ولا لأعمالهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال: لأرواحهم ولا لأعمالهم.
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا في تأويل ذلك ما اخترنا من القول، لعموم خبر الله جل ثناؤه أن أبواب السماء لا تفتح لهم. ولم يخصص الخبر بأنه يفتح لهم في شيء, فذلك على ما عمّه خبر الله تعالى بأنها لا تفتح لهم في شيء، مع تأييد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلنا في ذلك، وذلك ما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن الأعمش, عن المنهال, عن زاذان, عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبضَ روح الفاجر, وأنه يصعد بها إلى السماء, قال: فيصعدون بها، فلا يمرّون على ملإ من الملائكة إلا قالوا: « ما هذا الروح الخبيث » ؟ فيقولون: « فلان » ، بأقبح أسمائه التي كان يُدعى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له فلا يفتح له. ثم قرأ رسول الله: ( لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط )
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن, عن ابن أبي ذئب, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الميت تحضره الملائكة, فإذا كان الرجلَ الصالحَ قالوا: « اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب, اخرجي حميدة, وأبشري برَوْح وريحان، وربّ غير غضبان » ، قال: فيقولون ذلك حتى يُعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها, فيقال: « من هذا » ؟ فيقولون: « فلان » . فيقال: « مرحبًا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب, ادخلي حميدة, وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان » ، فيقال لها حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله. وإذا كان الرجلَ السَّوْءَ قال: « اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث, اخرجي ذميمة, وأبشري بحميم وغسَّاق، وآخر من شكله أزواج » ، فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها, فيقال: « من هذا » ؟ فيقولون: « فلان » . فيقولون: « لا مرحبًا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث, ارجعي ذميمة، فإنه لم تفتح لك أبواب السماء » ، فترسل بين السماء والأرض، فتصير إلى القبر.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثني ابن أبي ذئب, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الكوفة: « لا يُفَتَحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء » ، بالياء من « يفتح » ، وتخفيف « التاء » منها, بمعنى: لا يفتح لهم جميعها بمرة واحدةٍ وفتحةٍ واحدة.
وقرأ ذلك بعض المدنيين وبعض الكوفيين: ( لا تُفَتَّحُ ) ، بالتاء وتشديد التاء الثانية, بمعنى: لا يفتح لهم باب بعد باب، وشيء بعد شيء.
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك عندي من القول أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى. وذلك أن أرواح الكفار لا تفتح لها ولا لأعمالهم الخبيثة أبوابُ السماء بمرة واحدة، ولا مرة بعد مرة، وباب بعد باب. فكلا المعنيين في ذلك صحيح.
وكذلك « الياء » ، و « التاء » في « يفتح » ، و « تفتح » , لأن « الياء » بناء على فعل الواحد للتوحيد، و « التاء » لأن « الأبواب » جماعة, فيخبر عنها خبر الجماعة.
القول في تأويل قوله : وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ( 40 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ولا يدخل هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها، الجنة التي أعدّها الله لأوليائه المؤمنين أبدًا, كما لا يلج الجمل في سمِّ الخياط أبدًا, وذلك ثقب الإبرة.
وكل ثقب في عين أو أنف أو غير ذلك, فإن العرب تسميه « سَمًّا » وتجمعه « سمومًا » ، و « السِّمام » , في جمع « السَّم » القاتل، أشهر وأفصح من « السموم » . وهو في جمع « السَّم » الذي هو بمعنى الثقب أفصح. وكلاهما في العرب مستفيض. وقد يقال لواحد « السموم » التي هي الثقوب « سَمٌّ » و « سُمٌّ » بفتح السين وضمها, ومن « السَّم » الذي بمعنى الثقب قول الفرزدق:
فَنَفَّسْــتُ عَـنْ سَـمَّيْهِ حَـتَّى تَنَفَّسَـا وَقُلْـتُ لَـهُ: لا تَخْـشَ شَـيْئًا وَرَائِيـا
يعني بسمِّيه، ثقبي أنفه.
وأما « الخياط » فإنه « المخيط » ، وهي الإبرة. قيل لها: « خِيَاط » و « مِخْيَط » , كما قيل: « قِناع » و « مِقْنع » , و « إزار » و « مِئْزر » , و « قِرام » و « مِقْرَم » , و « لحاف » و « مِلْحف » .
وأما القرأة من جميع الأمصار, فإنها قرأت قوله: ( فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) ، بفتح « السين » , وأجمعت على قراءة: « الجَمَلُ » بفتح « الجيم » ، و « الميم » وتخفيف ذلك.
وأما ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير, فإنه حكي عنهم أنهم كانوا يقرؤون ذلك: « الجُمَّلُ » ، بضم « الجيم » وتشديد « الميم » , على اختلاف في ذلك عن سعيد وابن عباس.
فأما الذين قرؤوه بالفتح من الحرفين والتخفيف, فإنهم وجهوا تأويله إلى « الجمل » المعروف، وكذلك فسروه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض, عن مغيرة, عن إبراهيم, عن عبد الله في قوله: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: الجمل ابن الناقة, أو: زوج الناقة.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي حصين, عن إبراهيم, عن عبد الله: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: « الجمل » ، زوج الناقة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي حصين, عن إبراهيم, عن عبد الله, مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي, عن هشيم, عن مغيرة, عن إبراهيم, عن عبد الله قال: « الجمل » ، زوج الناقة.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن مغيرة, عن إبراهيم, عن عبد الله، مثله.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا قرة قال، سمعت الحسن يقول: « الجمل » ، الذي يقوم في المِرْبد.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: حتى يدخل البعير في خُرت الإبرة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي, عن هشيم, عن عباد بن راشد, عن الحسن قال: هو الجمل! فلما أكثروا عليه قال: هو الأشتر.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم, عن عباد بن راشد, عن الحسن, مثله.
حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن يحيى قال: كان الحسن يقرؤها: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: فذهب بعضهم يستفهمه, قال: أشتر، أشتر.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد, عن شعيب بن الحبحاب, عن أبي العالية: ( حتى يلج الجمل ) ، قال: الجمل الذي له أربع قوائم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن أبي حصين أو: حصين , عن إبراهيم, عن ابن مسعود في قوله: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: زوج الناقة, يعني الجمل.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك أنه كان يقرأ: ( الجمل ) ، وهو الذي له أربع قوائم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو تميلة, عن عبيد, عن الضحاك: ( حتى يلج الجمل ) ، الذي له أربع قوائم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب, عن قرة, عن الحسن: ( حتى يلج الجمل ) ، قال: الذي بالمربد.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: « حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ الأَصْفَرُ » .
حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا يحيى بن سليم قال، حدثنا عبد الكريم بن أبي المخارق, عن الحسن في قوله: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: الجمل ابن الناقة أو بَعْلُ الناقة.
وأما الذين خالفوا هذه القراءة فإنهم اختلفوا.
فروي عن ابن عباس في ذلك روايتان: إحداهما الموافقة لهذه القراءة وهذا التأويل.
* ذكر الرواية بذلك عنه:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، والجمل: ذو القوائم.
وذكر أن ابن مسعود قال ذلك.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، وهو الجمل العظيم، لا يدخل في خُرْت الإبرة، من أجل أنه أعظم منها.
والرواية الأخرى ما:-
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ » ، قال: هو قَلْس السفينة.
حدثني عبد الأعلى بن واصل قال، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل, عن خالد بن عبد الله الواسطي, عن حنظلة السدوسي, عن عكرمة, عن ابن عباس أنه كان يقرأ: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ » ، يعني الحبل الغليظ فذكرت ذلك للحسن فقال: ( حتى يلجَ الجمَل ) ، قال عبد الأعلى: قال أبو غسان, قال خالد: يعني: البعير.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن فضيل, عن مغيرة, عن مجاهد, عن ابن عباس أنه قرأ: « الجُمَّلُ » ، مثقَّلة, وقال: هو حبل السفينة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي, عن هشيم, عن مغيرة, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: « الجمَّل » ، حبال السفن.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن ابن مبارك, عن حنظلة, عن عكرمة, عن ابن عباس: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ » ، قال: الحبل الغليظ.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن مجاهد, عن ابن عباس: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ » قال: هو الحبل الذي يكون على السفينة.
واختُلِف عن سعيد بن جبير أيضًا في ذلك, فروي عنه روايتان إحداهما مثل الذي ذكرنا عن ابن عباس: بضم « الجيم » وتثقيل « الميم » .
* ذكر الرواية بذلك عنه:
حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا حسين المعلم, عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: أنه قرأها: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ » ، يعني قُلُوس السفن, يعني: الحبال الغلاظ.
والأخرى منهما بضم « الجيم » وتخفيف « الميم » .
* ذكر الرواية بذلك عنه:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عمرو, عن سالم بن عجلان الأفطس قال، قرأت على أبي: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلَ » فقال: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَلُ » خفيفة، هو حبل السفينة هكذا أقرأنيها سعيد بن جبير.
وأما عكرمة, فإنه كان يقرأ ذلك: « الْجُمَّلُ » ، بضم « الجيم » وتشديد « الميم » , وبتأوّله كما:-
حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبو تميلة, عن عيسى بن عبيد قال: سمعت عكرمة يقرأ: « الْجُمَّلُ » مثقلة, ويقول: هو الحبل الذي يصعد به إلى النخل.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا كعب بن فروخ قال، حدثنا قتادة, عن عكرمة, في قوله: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ » ، قال: الحبل الغليظ في خرق الإبرة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ » ، قال: حبل السفينة في سمّ الخياط.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: سمعت مجاهدًا يقول: الحبل من حبال السفن.
وكأنَّ من قرأ ذلك بتخفيف « الميم » وضم « الجيم » ، على ما ذكرنا عن سعيد بن جبير، على مثال « الصُّرَد » و « الجُعَل » ، وجهه إلى جماع « جملة » من الحبال جمعت « جُمَلا » , كما تجمع « الظلمة » ، « ظُلَمًا » ، و « الخُرْبة » « خُرَبًا » .
وكان بعض أهل العربية ينكر التشديد في « الميم » ويقول: إنما أراد الراوي « الجُمَل » بالتخفيف, فلم يفهم ذلك منه فشدّده.
وحدثت عن الفراء, عن الكسائي أنه قال: الذي رواه عن ابن عباس كان أعجميًّا.
وأما من شدد « الميم » وضم « الجيم » فإنه وجهه إلى أنه اسم واحد، وهو الحبل، أو الخيط الغليظ.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، ما عليه قرأة الأمصار، وهو: ( حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) ، بفتح « الجيم » و « الميم » من « الجمل » وتخفيفها, وفتح « السين » من « السم » , لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار, وغير جائز مخالفة ما جاءت به الحجة متفقة عليه من القراءة.
وكذلك ذلك في فتح « السين » من قوله: ( سَمِّ الخياط ) .
وإذ كان الصواب من القراءة ذلك, فتأويل الكلام: ولا يدخلون الجنة حتى يلج و « الولوج » الدخول، من قولهم: « ولج فلان الدار يلِجُ ولوجًا » , بمعنى: دخل الجملُ في سم الإبرة، وهو ثقبها
( وكذلك نجزي المجرمين ) ، يقول: وكذلك نثيب الذين أجرَموا في الدنيا ما استحقوا به من الله العذاب الأليم في الآخرة.
وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله: ( سم الخياط ) ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة وابن مهدي وسويد الكلبي, عن حماد بن زيد, عن يحيى بن عتيق قال: سألت الحسن عن قوله: ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ، قال: ثقب الإبرة.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا كعب بن فروخ قال، حدثنا قتادة, عن عكرمة: ( في سم الخياط ) ، قال: ثقب الإبرة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن, مثله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( في سم الخياط ) ، قال: جُحْر الإبرة.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( في سم الخياط ) ، يقول: جُحْر الإبرة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( في سم الخياط ) ، قال: في ثقبه.
القول في تأويل قوله : لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ( 41 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: لهؤلاء الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها ( من جهنم مهاد ) .
وهو ما امتهدوه مما يقعد عليه ويضطجع، كالفراش الذي يفرش، والبساط الذي يبسط.
( ومن فوقهم غواش ) .
وهو جمع « غاشية » , وذلك ما غَشَّاهم فغطاهم من فوقهم.
وإنما معنى الكلام: لهم من جهنم مهاد من تحتهم فُرُش، ومن فوقهم منها لُحُف, وإنهم بين ذلك.
وبنحو ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب: ( لهم من جهنم مهاد ) ، قال: الفراش ( ومن فوقهم غواش ) ، قال: اللُّحُف
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح, عن أبي روق, عن الضحاك: ( لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) ، قال: « المهاد » ، الفُرُش, و « الغواشي » ، اللحف.
حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) ، أما « المهاد » كهيئة الفراش و « الغواشي » ، تتغشاهم من فوقهم.
وأما قوله ( وكذلك نجزي الظالمين ) ، فإنه يقول: وكذلك نثيب ونكافئ من ظلم نفسه، فأكسبها من غضب الله ما لا قبل لها به بكفره بربه، وتكذيبه أنبياءه.
القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 42 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: والذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به من وحي الله وتنـزيله وشرائع دينه, وعملوا ما أمرهم الله به فأطاعوه، وتجنبوا ما نهاهم عنه ( لا نكلف نفسًا إلا وسعها ) ، يقول: لا نكلف نفسًا من الأعمال إلا ما يسعها فلا تحرج فيه ( أولئك ) ، يقول: هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( أصحاب الجنة ) ، يقول: هم أهل الجنة الذين هم أهلها، دون غيرهم ممن كفر بالله, وعمل بسيئاتهم ( هم فيها خالدون ) ، يقول هم في الجنة ماكثون, دائمٌ فيها مكثهم، لا يخرجون منها، ولا يُسلبون نعيمها.
القول في تأويل قوله : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وَصَف صفتهم، وأخبر أنهم أصحاب الجنة, ما فيها من حقد وغِمْرٍ وعَداوة كان من بعضهم في الدنيا على بعض, فجعلهم في الجنة إذا أدخلهموها على سُرُر متقابلين, لا يحسد بعضهم بعضًا على شيء خصَّ الله به بعضهم وفضّله من كرامته عليه, تجري من تحتهم أنهار الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: ( ونـزعنا ما في صدورهم من غل ) ، قال: العداوة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن سعيد بن بشير, عن قتادة: ( ونـزعنا ما في صدورهم من غل ) ، قال: هي الإحَن.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك, عن ابن عيينة, عن إسرائيل أبي موسى, عن الحسن, عن علي قال: فينا والله أهلَ بدر نـزلت: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [ سورة الحجر: 47 ] .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن إسرائيل قال: سمعته يقول: قال علي عليه السلام: فينا والله أهلَ بدر نـزلت: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: قال علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير، من الذين قال الله تعالى فيهم: ( وَنـزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) ، رضوان الله عليهم.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ونـزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار ) ، قال: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا, وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان, فشربوا من إحداهما, فينـزع ما في صدورهم من غِلّ, فهو « الشراب الطهور » ، واغتسلوا من الأخرى, فجرت عليهم « نَضْرة النعيم » , فلم يشعَثُوا ولم يتَّسخوا بعدها أبدًا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن الجريري, عن أبي نضرة قال، يحبس أهل الجنة دون الجنة حتى يقضى لبعضهم من بعض, حتى يدخلوا الجنة حين يدخلونها ولا يطلب أحدٌ منهم أحدًا بقلامة ظُفُرٍ ظلمها إياه. ويحبس أهل النار دون النار حتى يقضى لبعضهم من بعض, فيدخلون النار حين يدخلونها ولا يطلب أحدٌ منهم أحدًا بقُلامة ظفر ظلمها إياه.
القول في تأويل قوله : وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حين أدخلوا الجنة, ورأوا ما أكرمهم الله به من كرامته, وما صرف عنهم من العذاب المهين الذي ابتلي به أهل النار بكفرهم بربهم، وتكذيبهم رُسله: ( الحمد لله الذي هدانا لهذا ) ، يقول: الحمد لله الذي وفقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله، وصرف عذابه عنا ( وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) ، يقول: وما كنا لنرشد لذلك، لولا أن أرشدنا الله له ووفقنا بمنّه وطَوْله، كما:-
حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا الأعمش, عن أبي صالح, عن [ أبي سعيد ] قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل أهل النار يرى منـزله من الجنة, فيقولون: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ , فتكون عليهم حسرة. وكل أهل الجنة يرى منـزله من النار, فيقولون: « لولا أن هدانا الله » ! فهذا شكرهم.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت أبا إسحاق يحدِّث عن عاصم بن ضمرة, عن علي قال، ذكر عمر لشيء لا أحفظه , ثم ذكر الجنة فقال: يدخلون، فإذا شجرة يخرج من تحت ساقها عينان. قال: فيغتسلون من إحداهما, فتجري عليهم نضرة النعيم, فلا تشعَث أشعارهم ولا تغبرُّ أبشارهم. ويشربون من الأخرى, فيخرج كل قذًى وقذر وبأس في بطونهم. قال، ثم يفتح لهم باب الجنة, فيقال لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ، قال: فتستقبلهم الوِلدان, فيحفّون بهم كما تحفّ الولدان بالحميم إذا جاء من غيبته. ثم يأتون فيبشرون أزواجهم, فيسمونهم بأسمائهم وأسماء آبائهم. فيقلن: أنت رأيته! قال: فيستخفهنَّ الفرَح, قال: فيجئن حتى يقفن على أُسْكُفَّة الباب. قال: فيجيئون فيدخلون, فإذا أسُّ بيوتهم بِجَندل اللؤلؤ, وإذا صُرُوح صفر وخضر وحمر ومن كل لون, وسُرُر مرفوعة, وأكواب موضوعة, ونمارق مصفوفة, وزرِابيُّ مبثوثة. فلولا أن الله قدَّرها، لالْتُمِعَتْ أبصارهم مما يرون فيها. فيعانقون الأزواج, ويقعدون على السرر, ويقولون: ( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ) ، الآية.
القول في تأويل قوله : لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 43 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنهم يقولون عند دخولهم الجنة، ورؤيتهم كرامة الله التي أكرمهم بها, وهو أنّ أعداء الله في النار: والله لقد جاءتنا في الدنيا، وهؤلاء الذين في النار، رسل ربنا بالحق من الأخبار عن وعد الله أهلَ طاعته والإيمان به وبرسله، ووعيده أهلَ معاصيه والكفر به.
وأما قوله: ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) ، فإن معناه: ونادى منادٍ هؤلاء الذين وصف الله صفتهم، وأخبر عما أعدّ لهم من كرامته: أنْ يا هؤلاء، هذه تلكم الجنة التي كانت رسلي في الدنيا تخبركم عنها, أورَثكموها الله عن الذين كذبوا رسله, لتصديقكم إياهم وطاعتكم ربكم. وذلك هو معنى قوله: ( بما كنتم تعملون ) .
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) ، قال: ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنار منـزل، فإذا دخل أهل الجنة الجنةَ، وأهل النار النارَ, ودخلوا منازلهم, رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها, فقيل لهم: « هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله » , ثم يقال: « يا أهل الجنة، رِثُوهم بما كنتم تعملون » ، فتُقْسم بين أهل الجنة منازلهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن سعد أبو داود الحفري, [ عن سعيد بن بكير ] , عن سفيان الثوري, عن أبي إسحاق, عن الأغرّ: ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) ، قال: نودوا أنْ صِحُّوا فلا تسقموا، واخلُدوا فلا تموتوا، وانعموا فلا تَبْأسوا.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن الأغر, عن أبي سعيد: ( ونودوا أن تلكم الجنة ) ، الآية, قال: ينادي منادٍ: أن لكم أنْ تصحُّوا فلا تسقموا أبدًا.
واختلف أهل العربية في « أنْ » التي مع « تلكم » .
فقال بعض نحويي البصرة: هي « أنّ » الثقيلة، خففت وأضمر فيها, ولا يستقيم أن تجعلها الخفيفة، لأن بعدها اسمًا, والخفيفة لا تليها الأسماء, وقد قال الشاعر:
فِـي فِتْيَـةٍ كَسُـيُوفِ الهِنْـد, قَدْ عَلِمُوا أنْ هَـالِكٌ كُـلُّ مَـنْ يَحْـفَى وَيَنْتَعِـلُ
وقال آخر:
أُكَاشِـــرُهُ وَأَعْلَـــمُ أَنْ كِلانَـــا عَـلَى مَـا سَـاءَ صَاحِبَـهُ حَـرِيصُ
قال: فمعناه: أنه كِلانا. قال: ويكون كقوله: أَنْ قَدْ وَجَدْنَا ، في موضع « أي » ؛ وقوله: أَنْ أَقِيمُوا ، [ سورة الشورى: 13 ] ، ولا تكون « أن » التي تعمل في الأفعال, لأنك تقول: « غاظني أن قام » , و « أن ذهب » , فتقع على الأفعال، وإن كانت لا تعمل فيها. وفي كتاب الله: وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ سورة ص: 6 ] ، أي: امشوا.
وأنكر ذلك من قوله هذا بعض أهل الكوفة, فقال: غير جائز أن يكون مع « أن » في هذا الموضع « هاء » مضمرة, لأن « أن » دخلت في الكلام لتَقِيَ ما بعدها. قال: « وأن » هذه التي مع « تلكم » هي الدائرة التي يقع فيها ما ضارع الحكاية, وليس بلفظ الحكاية, نحو: « ناديت أنك قائم, » و « أنْ زيد قائم » و « أنْ قمت » , فتلي كلَّ الكلام, وجعلت « أن » وقاية, لأن النداء يقع على ما بعده, وسلم ما بعد « أن » كما سلم ما بعد « القول » . ألا ترى أنك تقول: « قلت: زيد قائم » , و « قلت: قام » , فتليها ما شئت من الكلام؟ فلما كان النداء بمعنى « الظن » وما أشبهه من « القول » سلم ما بعد « أن » , ودخلت « أن » وقاية. قال: وأما « أي » ، فإنها لا تكون على « أن » لا يكون « أي » جواب الكلام, و « أن » تكفي من الاسم.
القول في تأويل قوله : وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( 44 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونادى أهلُ الجنة أهلَ النار بعد دخولهموها: يا أهل النار، قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا في الدنيا على ألسن رسله، من الثواب على الإيمان به وبهم، وعلى طاعته, فهل وجدتم ما وعدنا ربكم على ألسنتهم على الكفر به وعلى معاصيه من العقاب؟ فأجابهم أهل النار: بأنْ نعم, قد وجدنا ما وعد ربنا حقًّا، كالذي:-
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا قالوا نعم ) ، قال: وجد أهل الجنة ما وُعدوا من ثواب, وأهل النار ما وُعدوا من عقاب.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا ) ، وذلك أن الله وعد أهل الجنة النعيم والكرامة وكلَّ خير علمه الناس أو لم يعلموه, ووعدَ أهل النار كلَّ خزي وعذاب علمه الناس أو لم يعلموه، فذلك قوله: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ، [ سورة ص: 58 ] . قال: فنادى أصحاب الجنة أصحابَ النار أنْ قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ قالوا: نعم. يقول: من الخزي والهوان والعذاب. قال أهل الجنة: فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا من النعيم والكرامة ( فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ) .
واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( قالوا نعم ) .
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة والبصرة: ( قَالُوا نَعَمْ ) ، بفتح العين من « نعم » .
ورُوِي عن بعض الكوفيين أنه قرأ: « قَالُوا نَعِمْ » بكسر « العين » , وقد أنشد بيتا لبني كلب:
نَعِــمْ, إِذَا قالَهَــا, مِنْــهُ مُحَقَّقَـةٌ وَلاتَخِيبُ « عَسَــى » مِنْــهُ وَلا قَمـنُ
بكسر « نعم » .
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا ( نَعَمْ ) بفتح « العين » , لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار، واللغة المشهورة في العرب.
وأما قوله: ( فأذن مؤذن بينهم ) ، يقول: فنادى مناد, وأعلم مُعْلِمٌ بينهم ( أن لعنة الله على الظالمين ) ، يقول: غضب الله وسخطه وعقوبته على مَنْ كفر به.
وقد بينا القول في « أنّ » إذا صحبت من الكلام ما ضارع الحكاية، وليس بصريح الحكاية, بأنها تشددها العرب أحيانًا، وتوقع الفعل عليها فتفتحها وتخففها أحيانًا, وتعمل الفعل فيها فتنصبها به، وتبطل عملها عن الاسم الذي يليها، فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وإذ كان ذلك كذلك, فسواء شُدِّدت « أن » أو خُفِّفت في القراءة, إذ كان معنى الكلام بأيّ ذلك قرأ القارئ واحدًا, وكانتا قراءتين مشهورتين في قرأة الأمصار.
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ( 45 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: إن المؤذن بين أهل الجنة والنار يقول: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ، الذين كفروا بالله وصدّوا عن سبيله ( ويبغونها عوجًا ) ، يقول: حاولوا سبيل الله وهو دينه « أن يغيروه ويبدِّلوه عما جعله الله له من استقامته » ( وهم بالآخرة كافرون ) ، يقول: وهم لقيام الساعة والبعث في الآخرة والثواب والعقاب فيها جاحدون.
والعرب تقول للميل في الدِّين والطريق: « عِوَج » بكسر « العين » , وفي ميل الرجل على الشيء والعطف عليه: « عاجَ إليه يَعُوج عِيَاجًا وعَوَجًا وعِوَجًا » , بالكسر من « العين » والفتح, كما قال الشاعر:
قِفَــا نَسْــأَلْ مَنَــازِلَ آلِ لَيْــلى عَــلَى عِــوَجٍ إلَيْهَــا وَانْثِنَــاءِ
ذكر الفراء أن أبا الجرّاح أنشده إياه بكسر العين من « عوج » ، فأما ما كان خلقة في الإنسان, فإنه يقال فيه: « عَوَج ساقه » , بفتح العين.
القول في تأويل قوله : وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وبينهما حجاب ) ، وبين الجنة والنار حجاب, يقول: حاجز, وهو: السور الذي ذكره الله تعالى فقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ، [ سورة الحديد: 13 ] . وهو « الأعراف » التي يقول الله فيها: ( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ ) ، كذلك.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد قال: « الأعراف » ، حجاب بين الجنة والنار.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وبينهما حجاب ) ، وهو « السور » , وهو « الأعراف » .
وأما قوله: ( وعلى الأعراف رجال ) ، فإن « الأعراف » جمع، واحدها « عُرْف » , وكل مرتفع من الأرض عند العرب فهو « عُرْف » , وإنما قيل لعُرف الديك « عرف » , لارتفاعه على ما سواه من جسده، ومنه قول الشماخ بن ضرار:
وَظَلًّــتْ بِــأَعْرَافٍ تَغَـالَى, كَأَنَّهَـا رِمَـاحٌ نَحَاهَـا وِجْهَـةَ الـرِّيحِ رَاكِزُ
يعني بقوله: « بأعراف » ، بنشوز من الأرض، ومنه قول الآخر:
كُـــلُّ كِنَـــازٍ لَحْمُــهُ نِيَــافِ كَــالْعَلَمِ الْمُــوفِي عَـلَى الأعْـرَافِ
وكان السدي يقول: إنما سمي « الأعراف » أعرافًا, لأن أصحابه يعرفون الناس.
حدثني بذلك محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سفيان بن وكيع, قال:حدثنا ابن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد, سمع ابن عباس يقول: « الأعراف » ، هو الشيء المشرف.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس يقول, مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي, عن سفيان, عن جابر, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: « الأعراف » ، سور كعرف الديك.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن جابر, عن مجاهد, عن ابن عباس, مثله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « الأعراف » ، حجاب بين الجنة والنار، سور له باب قال أبو موسى: وحدثني عبيد الله بن أبي يزيد: أنه سمع ابن عباس يقول: إن الأعراف تَلٌّ بين الجنة والنار، حُبس عليه ناسٌ من أهل الذنوب بين الجنة والنار.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: « الأعراف » ،حجاب بين الجنة والنار, سور له باب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن حبيب بن أبي ثابت, عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس قال: « الأعراف » ، سور بين الجنة والنار.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: « الأعراف » ، سور بين الجنة والنار.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وعلى الأعراف رجال ) ، يعني بالأعراف: السور الذي ذكر الله في القرآن، وهو بين الجنة والنار.
||
حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: « الأعراف » ، سور له عُرْف كعرف الديك.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر قال: « الأعراف » ، سور بين الجنة والنار.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: « الأعراف » ، السور الذي بين الجنة والنار.
واختلف أهل التأويل في صفة الرجال الذين أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم على الأعراف، وما السبب الذي من أجله صاروا هنالك.
فقال بعضهم: هم قوم من بني آدم، استوت حسناتهم وسيئاتهم, فجعلوا هنالك إلى أن يقضي الله فيهم ما يشاء, ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته إياهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال، قال الشعبي: أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذكوان مولى قريش, وإذا هما قد ذكرَا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذَكَرا, فقلت لهما: إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة، فقالا هات ! فقلت: إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال: هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصرت بهم سيِّئاتهم عن الجنة, فإذا صُرفت أبصارُهم تلقاء أصحاب النار قالوا: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . فبينا هم كذلك, اطّلع إليهم ربك تبارك وتعالى فقال: اذهبوا وادخلوا الجنة, فإني قد غفرت لكم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين, عن الشعبي, عن حذيفة, أنه سئل عن أصحاب الأعراف, قال فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة, وخلّفت بهم حسناتهم عن النار. قال: فوُقِفوا هنالك على السور حتى يقضي الله فيهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير وعمران بن عيينة, عن حصين, عن عامر, عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قومٌ كانت لهم ذنوب وحسنات, فقصرت بهم ذنوبهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار, فهم كذلك حتى يقضي الله بين خلقه، فينفذ فيهم أمره.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن جابر, عن الشعبي, عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, فيقول: ادخلوا الجنة بفضلي ومغفرتي, لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن يونس بن أبي إسحاق, عن عامر, عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار, وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة.
حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن أبي بكر الهذلي قال: قال سعيد بن جبير, وهو يحدّث ذلك عن ابن مسعود قال: يحاسب الناس يوم القيامة, فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة, ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار. ثم قرأ قول الله: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، [ سورة الأعراف: 8- 9 ] . ثم قال: إن الميزان يخفّ بمثقال حبة ويرجح. قال: فمن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط, ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار, فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا: سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظرُوا أصحاب النار قالوا: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [ سورة الأعراف: 47 ] ، فيتعوذون بالله من منازلهم، قال: فأما أصحاب الحسنات, فإنهم يعطون نورًا فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم, ويعطى كل عبد يومئذ نورًا، وكل أمَةٍ نورًا. فإذا أتوا على الصراط سَلب الله نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون, قالوا: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا . وأما أصحاب الأعراف, فإن النور كان في أيديهم فلم ينـزع من أيديهم, فهنالك يقول الله: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ، فكان الطمع دخولا. قال: فقال ابن مسعود: على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر, وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة. ثم يقول: هلك من غلب وُحْدَانُه أعشارَه.
حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع قال، أخبرني ابن وهب قال، أخبرني عيسى الحنّاط، عن الشعبي, عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار, وهم آخر من يدخل الجنة, قد عرَفوا أهل الجنة وأهل النار.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا همام, عن قتادة قال: قال ابن عباس: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم، ولا سيئاتهم على حسناتهم.
حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور, عن حبيب بن أبي ثابت, عن عبد الله بن الحارث, عن ابن عباس قال: « الأعراف » ، سور بين الجنة والنار, وأصحاب الأعراف بذلك المكان, حتى إذا بَدَا لله أن يعافيهم, انْطُلِق بهم إلى نهر يقال له: « الحياة » ، حافتاه قَصَبُ الذهب، مكلَّل باللؤلؤ، ترابه المسك, فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم، ويبدو في نحورهم شامَةٌ بيضاء يعرفون بها, حتى إذا صلحت ألوانهم، أتى بهم الرحمنُ فقال: تمنوا ما شئتم ! قال: فيتمنون, حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم: لكم الذي تمنيتم ومثله سبعين مرة! فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها, يسمَّون مساكين الجنة.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن حبيب, عن مجاهد, عن عبد الله بن الحارث قال: أصحاب الأعراف، يؤمر بهم إلى نهر يقال له: « الحياة » , ترابه الوَرْس والزعفران, وحافتاه قَصَبُ اللؤلؤ قال: وأحسبه قال: مكلل باللؤلؤ وقال: فيغتسلون فيه, فتبدو في نحورهم شامة بيضاء، فيقال لهم: تمنوا ! فيقال لهم: لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفًا! وإنهم مساكين أهل الجنة قال حبيب: وحدثني رجل: أنهم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن مجاهد, عن عبد الله بن الحارث قال: أصحاب الأعراف، ينتهى بهم إلى نهر يقال له: « الحياة » , حافتاه قَصَب من ذهب قال سفيان: أراه قال : مكلل باللؤلؤ قال: فيغتسلون منه اغتسالةً فتبدو في نحورهم شامة بيضاء, ثم يعودون فيغتسلون، فيزدادون. فكلما اغتسلوا ازدادت بياضًا, فيقال لهم: تمنوا ما شئتم ! فيتمنون ما شاءوا، فيقال لهم: لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفًا ! قال: فهم مساكين أهل الجنة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن حصين, عن الشعبي, عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, فهم على سور بين الجنة والنار: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان ابن عباس يقول: « الأعراف » ، بين الجنة والنار, حبس عليه أقوام بأعمالهم. وكان يقول: قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم, ولا سيئاتهم على حسناتهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال، قال ابن عباس: أهل الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
. . . . وقال، حدثنا يحيى بن يمان, عن شريك, عن منصور, عن سعيد بن جبير قال: أصحاب الأعراف، استوت أعمالهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم, فوُقِفوا هنالك على السور.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن حبيب بن أبي ثابت, عن سفيع، أو سميع قال أبو جعفر: كذا وجدت في كتاب سفيع ، عن أبي علقمة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
وقال آخرون: كانوا قتلوا في سبيل الله عصاة لآبائهم في الدنيا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن أبي مسعر, عن شرحبيل بن سعد قال: هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خالد, عن سعيد, عن يحيى بن شبل: أن رجلا من بني النضير أخبره، عن رجل من بني هلال: أن أباه أخبره: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: هم قوم غزوا في سبيل الله عصاةً لآبائهم, فقتلوا, فأعتقهم الله من النار بقتلهم في سبيله, وحُبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم, فهم آخر من يدخل الجنة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن أبي معشر, عن يحيى بن شبل مولى بني هاشم, عن محمد بن عبد الرحمن, عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف, فقال: قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم, فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار, ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة.
وقال آخرون: بل هم قوم صالحون فقهاء علماء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن خصيف, عن مجاهد قال: أصحاب الأعراف، قوم صالحون فقهاء علماء.
وقال آخرون: بل هم ملائكة وليسوا ببني آدم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي مجلز قوله: ( وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: هم رجال من الملائكة، يعرفون أهل الجنة وأهل النار، قال: وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، إلى قوله: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، قال: فنادى أصحاب الأعراف رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ . أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ، قال: فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عمران قال: قلت لأبي مجلز: يقول الله: ( وعلى الأعراف رجال ) ، وتزعم أنتَ أنهم الملائكة؟ قال فقال: إنهم ذكور، وليسوا بإناث.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز: ( وعلى الأعراف رجال ) ، قال: رجال من الملائكة، يعرفون الفريقين جميعًا بسيماهم, أهل النار وأهل الجنة, وهذا قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن أبي عدي, عن التيمي, عن أبي مجلز, بنحوه.
. . . . وقال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن التيمي, عن أبي مجلز قال: أصحاب الأعراف، الملائكة.
حدثني المثنى قال، حدثنا يعلى بن أسد قال، حدثنا خالد قال، أخبرنا التيمي, عن أبي مجلز: ( وعلى الأعراف رجال ) ، قال: هم الملائكة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز: ( وعلى الأعراف رجال ) ، قال: هم الملائكة. قلت: يا أبا مجلز، يقول الله تبارك وتعالى: « رجال » , وأنت تقول: ملائكة؟ قال: إنهم ذُكران ليسوا بإناث.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز في قوله: ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: الملائكة. قال قلت: يقول الله « رجال » ؟ قال: الملائكة ذكور.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في أصحاب الأعراف أن يقال كما قال الله جل ثناؤه فيهم: هم رجال يعرفون كُلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم, ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصح سنده ،ولا أنه متفق على تأويلها, ولا إجماع من الأمة على أنهم ملائكة.
فإذ كان ذلك كذلك, وكان ذلك لا يدرك قياسًا, وكان المتعارف بين أهل لسان العرب أن « الرجال » اسم يجمع ذكور بني آدم دون إناثهم ودون سائر الخلق غيرهم, كان بيِّنًا أن ما قاله أبو مجلز من أنهم ملائكة، قولٌ لا معنى له, وأن الصحيح من القول في ذلك ما قاله سائر أهل التأويل غيره. هذا مع مَنْ قال بخلافه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأخبار، وإن كان في أسانيدها ما فيها، وقد:-
حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني جرير عن عمارة بن القعقاع, عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: هم آخر مَنْ يفصل بينهم من العباد, وإذا فرغ ربُّ العالمين من فصله بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلكم الجنة, وأنتم عُتَقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم.
القول في تأويل قوله : يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( 46 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعلى الأعراف رجال يعرفون أهل الجنة بسيماهم, وذلك بياض وجوههم، ونضرةُ النعيم عليها ويعرفون أهل النار كذلك بسيماهم, وذلك سواد وجوههم، وزرقة أعينهم, فإذا رأوا أهل الجنة نادوهم: « سَلامٌ عَلَيْكُمْ » .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: يعرفون أهل النار بسواد الوجوه, وأهل الجنة ببياض الوجوه.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: أنـزلهم الله بتلك المنـزلة، ليعرفوا من في الجنة والنار, وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه, ويتعوَّذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين, وهم في ذلك يحيّون أهل الجنة بالسلام, لم يدخلوها، وهم يطمعون أن يدخلوها, وهم داخلوها إن شاء الله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( بسيماهم ) ، قال: بسواد الوجوه، وزُرقة العيون.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، الكفار بسواد الوجوه وزرقة العيون, وسيما أهل الجنة مبيَضَّة وجوههم.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف إذا رأوا أصحاب الجنة عرَفوهم ببياض الوجوه, وإذا رأوا أصحاب النار عرفوهم بسواد الوجوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن جويبر, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: إن أصحاب الأعراف رجال كانت لهم ذنوبٌ عِظام, وكان حَسْمُ أمرهم لله, فأقيموا ذلك المقام، إذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه, فقالوا: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، وإذا نظروا إلى أهل الجنة عرفوهم ببياض الوجوه, فذلك قوله: ( ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ) .
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، زعموا أن أصحاب الأعراف رجال من أهل الذنوب، أصابوا ذنوبًا، وكان حَسْم أمرهم لله, فجعلهم الله على الأعراف. فإذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه, فتعوذوا بالله من النار. وإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوهم: « أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ » , قال الله: ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) . قال: وهذا قول ابن عباس.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( يعرفون كلا بسيماهم ) ، يعرفون الناس بسيماهم, يعرفون أهل النار بسواد وجوههم, وأهل الجنة ببياض وجوههم.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( يعرفون كلا بسيماهم ) ، يعرفون أهل النار بسواد وجوههم, وأهل الجنة ببياض وجوههم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: أهل الجنة بسيماهم. بيض الوجوه وأهل النار بسيماهم، سود الوجوه. قال: وقوله ( يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: أصحاب الجنة وأصحاب النار « ونادوا أصحاب الجنة » , قال: حين رأوا وجوههم قد ابيضت.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: ( يعرفون كلا بسيماهم ) ، قال: بسواد الوجوه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن مبارك, عن الحسن: ( بسيماهم ) ، قال: بسواد الوجوه وزرقة العيون.
و « السيماء » ، العلامة الدالة على الشيء، في كلام العرب. وأصله من « السِّمَة » ، نقلت واوها التي هي فاء الفعل، إلى موضع العين, كما يقال: « اضمحلّ » و « امضحلّ » . وذكر سماعًا عن بعض بني عقيل: « هي أرض خامة » , يعني « وَخِمة » . ومنه قولهم: « له جاه عند الناس » , بمعنى « وجه » , نقلت واوه إلى موضع عين الفعل. وفيها لغات ثلاث: « سيما » مقصورة, و « سيماء » ، ممدودة, و « سيمياء » ، بزيادة ياء أخرى بعد الميم فيها، ومدها، على مثال « الكبرياء » , كما قال الشاعر:
غُـلامٌ رَمَـاهُ اللـه بِالحُسْـنِ إذْ رَمَى لَـهُ سِـيمِيَاءُ لا تَشُـقُّ عَـلَى البَصَـرْ
وأما قوله: ( ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ) ، أي: حلت عليهم أمنة الله من عقابه وأليم عذابه.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) .
فقال بعضهم: هذا خبر من الله عن أهل الأعراف: أنهم قالوا لأهل الجنة ما قالوا قبل دخول أصحاب الأعراف, غير أنهم قالوه وهم يطمعون في دخولها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: أهل الأعراف يعرفون الناسَ, فإذا مرُّوا عليهم بزُمْرة يُذْهب بها إلى الجنة قالوا: « سلام عليكم » . يقول الله لأهل الأعراف: لم يدخلوها، وهم يطمعون أن يدخلوها.
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، تلا الحسن: ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) ، قال: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم، إلا لكرامة يريدها بهم.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) ، قال: أنبأكم الله بمكانهم من الطمع.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن أبي بكر الهذلي قال، قال سعيد بن جبير, وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال: أما أصحاب الأعراف, فإن النور كان في أيديهم، فانتزع من أيديهم، يقول الله: ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) ، قال: في دخولها. قال ابن عباس: فأدخل الله أصحاب الأعراف الجنة.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن عكرمة وعطاء: ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) ، قالا في دخولها.
وقال آخرون: إنما عني بذلك أهلَ الجنة, وأن أصحاب الأعراف يقولون لهم قبل أن يدخلوا الجنة: « سلام عليكم » , وأهل الجنة يطمعون أن يدخلوها, ولم يدخلوها بعدُ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا جرير, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز: ( ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ) ، قال: الملائكة، يعرفون الفريقين جميعًا بسيماهم. وهذا قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة، أصحاب الأعراف ينادون أصحابَ الجنة: أنْ سلام عليكم، لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها.
القول في تأويل قوله : وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 47 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا صرفت أبصارُ أصحاب الأعراف تلقاء أصحاب النار يعني: حِيالَهم ووِجاههم فنظروا إلى تشويه الله لهم ( قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) ، الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها من سخطك ما أورثهم من عذابك ما هم فيه.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: وإذا مروا بهم يعني بأصحاب الأعراف بزمرة يُذهب بها إلى النار, قالوا: ( ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) .
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن جويبر, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم، قالوا: ( ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي مكين, عن أخيه, عن عكرمة: ( وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ) ، قال: تحرد وجوههم للنار, فإذا رأوا أهل الجنة ذهبَ ذلك عنهم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، ابن زيد في قوله: ( وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ) ، فرأوا وجوههم مسودّة، وأعينهم مزرقّة, ( قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) .
القول في تأويل قوله : وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ( 48 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ( ونادى أصحاب الأعراف رجالا ) ، من أهل الأرض ( يعرفونهم بسيماهم ) ، سيما أهل النار ( قالوا ما أغنى عنكم جمعكم ) ، ما كنتم تجمعون من الأموال والعَدَد في الدنيا ( وما كنتم تستكبرون ) ، يقول: وتكبُّركم الذي كنتم تتكبرون فيها، كما:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال، فمرّ بهم يعني بأصحاب الأعراف ناس من الجبَّارين عرفوهم بسيماهم. قال: يقول: قال أصحاب الأعراف: ( ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ) .
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( ونادى أصحاب الأعراف رجالا ) ، قال: في النار ( يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ) ، وتكبركم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز: ( ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ) ، قال: هذا حين دخل أهل الجنةِ الجنةَ, أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ، الآية، قلت لأبي مجلز: عن ابن عباس؟ قال: لا بل عن غيره.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز: ( ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ) ، قال: نادت الملائكة رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ . أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ، قال: هذا حين دخل أهل الجنةِ الجنةَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ) ، فالرجال، عظماء من أهل الدنيا. قال: فبهذه الصفة عرَف أهلُ الأعراف أهلَ الجنة من أهل النار. وإنما ذكر هذا حين يذهب رئيس أهل الخير ورئيس أهل الشر يوم القيامة قال: وقال ابن زيد في قوله: ( ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ) ، قال: على أهل طاعة الله.
القول في تأويل قوله : أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ( 49 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّين بهذا الكلام.
فقال بعضهم: هذا قِيل الله لأهل النار، توبيخًا على ما كان من قِيلهم في الدنيا، لأهل الأعراف، عند إدخاله أصحابَ الأعراف الجنة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: « أصحاب الأعراف » ، رجال كانت لهم ذنوب عظام، وكان حَسْم أمرهم لله، يقومون على الأعراف، فإذا نظروا إلى أهل الجنة طمعوا أن يدخلوها. وإذا نظروا إلى أهل النار تعوَّذوا بالله منها، فأدخلوا الجنة. فذلك قوله تعالى: « أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة » ، يعني أصحابَ الأعراف « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » .
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك قال، قال ابن عباس: إن الله أدخل أصحابَ الأعراف الجنة لقوله: « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » .
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: قال الله لأهل التكبر والأموال: « أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة » ، يعني أصحاب الأعراف « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » .
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أهؤلاء » ، الضعفاء « الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » ، قال: فقال حذيفة: « أصحاب الأعراف » ، قوم تكافأت أعمالهم، فقصَّرت بهم حسناتهم عن الجنة، وقصَّرت بهم سيئاتهم عن النار، فجعلوا على الأعراف، يعرفون الناس بسيماهم. فلما قُضِي بين العباد، أذن لهم في طلب الشفاعة، فأتوا آدم عليه السلام، فقالوا: يا آدم، أنت أبونا فاشفع لنا عند ربك ! فقال: هل تعلمون أحدًا خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسبقت رحمته إليه غضبه، وسجدت له الملائكة، غيري؟ فيقولون: لا! قال: فيقول: ما عملت فيه كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا ابني إبراهيم ! قال: فيأتون إبراهيم عليه السلام فيسألونه أن يشفع لهم عند ربه، فيقول: هل تعلمون من أحدٍ اتخذه الله خليلا؟ هل تعلمون أحدًا أحرقه قومه في النار في الله، غيري؟ فيقولون: لا! فيقول: ما عملت كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا ابني موسى ! فيأتون موسى عليه السلام، فيقول: هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليمًا، وقرّبه نجيًّا، غيري؟ فيقولون: لا! فيقول: ما عملت فيه كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا عيسى ! فيأتونه فيقولون: اشفع لنا عند ربك ! فيقول: هل تعلمون أحدًا خلقه الله من غير أب، غيري؟ فيقولون: لا! فيقول: هل تعلمون من أحد كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله غيري؟ قال: فيقولون: لا! قال: فيقول: أنا حجيجُ نفسي، ما عملت فيه كُنْهَ ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيأتوني، فأضرب بيدي على صدري، ثم أقول: أنا لها! ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش، فأثني على ربي، فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قطُّ، ثم أسجد فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، سل تُعطَه، واشفع تُشَفَّع ! فأرفع رأسي فأقول: رب، أمتي ! فيقال: هم لك، فلا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرَّب إلا غَبَطني يومئذ بذلك المقام، وهو المقام المحمود. قال: فآتي بهم باب الجنة، فأستفتح فيفتح لي ولهم، فيُذهب بهم إلى نهر يقال له « نهر الحيوان » ، حافتاه قَصَب من ذهب مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت، فيغتسلون منه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة وريح أهل الجنة، ويصيرون كأنهم الكواكب الدرّية، ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها، يقال لهم: « مساكين أهل الجنة » .
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك قال: إن الله أدخلهم بعد أصحاب الجنة، وهو قوله: « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » ، يعني أصحاب الأعراف. وهذا قول ابن عباس.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على هذا التأويل الذي ذكرنا عن ابن عباس، ومن ذكرنا قوله فيه: قال الله لأهل التكبر عن الإقرار بوحدانية الله، والإذعان لطاعته وطاعة رسله، الجامعين في الدنيا الأموال مكاثرة ورياء: أيها الجبابرة كانوا في الدنيا، أهؤلاء الضعفاء الذين كنتم في الدنيا أقسمتم لا ينالهم الله برحمة؟ قال: قد غفرت لهم ورحمتهم بفضلي ورحمتي، ادخلوا يا أصحاب الأعراف الجنة لا خوف عليكم بعدها من عقوبة تعاقبون بها على ما سلف منكم في الدنيا من الآثام والإجرام، ولا أنتم تحزنون على شيء فاتكم في دنياكم.
وقال أبو مجلز: بل هذا القول خبر من الله عن قيل الملائكة لأهل النار، بعد ما دخلوا النار، تعييرًا منهم لهم على ما كانوا يقولون في الدنيا للمؤمنين الذين أدخلهم الله يوم القيامة جنته. وأما قوله: « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » ، فخبر من الله عن أمره أهل الجنة بدخولها.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز قال: نادت الملائكة رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم: « ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة » ، قال: فهذا حين يدخل أهل الجنة الجنةَ « ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » .
القول في تأويل قوله : وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن استغاثة أهل النار بأهل الجنة، عند نـزول عظيم البلاء بهم من شدة العطش والجوع، عقوبةً من الله لهم على ما سلف منهم في الدنيا من ترك طاعة الله، وأداء ما كان فرض عليهم فيها في أموالهم من حقوق المساكين من الزكاة والصدقة.
يقول تعالى ذكره: « ونادى أصحاب النار » ، بعد ما دخلوها « أصحاب الجنة » ، بعد ما سكنوها « أن » ، يا أهل الجنة « أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله » ، أي: أطعمونا مما رزقكم الله من الطعام، كما:-
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله » ، قال: من الطعام.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله » ، قال: يستطعمونهم ويستسقونهم.
فأجابهم أهل الجنة، إن الله حرم الماء والطعام على الذين جحدوا توحيده، وكذبوا في الدنيا رسله.
و « الهاء والميم » في قوله: « إن الله حرّمهما » ، عائدتان على « الماء » وعلى « ما » التي في قوله: « أو مما رزقكم الله » .
وبنحو ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عثمان الثقفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله » ، قال: ينادي الرجلُ أخاه أو أباه، فيقول: « قد احترقت، أفض عليَّ من الماء! » ، فيقال لهم: أجيبوهم ! فيقولون: « إن الله حرمهما على الكافرين »
وحدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا سفيان، عن عثمان، عن سعيد بن جبير: « ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله » ، قال: ينادي الرجل أخاه: يا أخي، قد احترقتُ فأغثني! فيقول: « إن الله حرمهما على الكافرين » .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « قالوا إن الله حرمهما على الكافرين » ، قال: طعامُ أهل الجنة وشرابُها.
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 51 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عن قِيل أهل الجنة للكافرين.
يقول تعالى ذكره: فأجاب أهلُ الجنة أهلَ النار: « إن الله حرمهما على الكافرين » الذين كفروا بالله ورسله، الذين اتخذوا دينهم الذي أمرهم الله به لهوًا ولعبا ، يقول: سخرية ولعبًا.
وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: « الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا » ، الآية، قال: وذلك أنهم كانوا إذا دُعوا إلى الإيمان سخِروا ممن دعاهم إليه وهزؤوا به، اغترارًا بالله.
« وغرتهم الحياة الدنيا » ، يقول: وخدعهم عاجلُ ما هم فيه من العيش والخفض والدَّعة، عن الأخذ بنصيبهم من الآخرة، حتى أتتهم المنية يقول الله جل ثناؤه : « فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا » ، أي ففي هذا اليوم ، وذلك يوم القيامة « ننساهم » ، يقول: نتركهم في العذاب المبين جياعًا عطاشًا بغير طعام ولا شراب، كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا ، ورفضوا الاستعداد له بإتعاب أبدانهم في طاعة الله.
وقد بينا معنى قوله: « ننساهم » ، بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد: « فاليوم ننساهم » ، قال: نسوا في العذاب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فاليوم ننساهم » ، قال: نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « ننساهم » ، قال: نتركهم في النار.
حدثني المثتي قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا » ، قال: نتركهم من الرحمة، كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا.
حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا » ، الآية ، يقول: نسيهم الله من الخير، ولم ينسهم من الشرّ.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا في قوله: « فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا » ، قال: نؤخرهم في النار.
وأما قوله: « وما كانوا بآياتنا يجحدون » ، فإن معناه: « اليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا » ، وكما كانوا بآياتنا يجحدون.
فـ « ما » التي في قوله: « وما كانوا » معطوفة على « ما » التي في قوله: « كما نسوا » .
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: فاليوم نتركهم في العذاب، كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة، وكما كانوا بآيات الله يجحدون وهي حججه التي احتج بها عليهم، من الأنبياء والرسل والكتب وغير ذلك
« يجحدون » ، يكذبون ولا يصدقون بشيء من ذلك.
القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 52 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أقسم، يا محمد، لقد جئنا هؤلاء الكفرة بكتاب يعني القرآن الذي أنـزله إليه. يقول: لقد أنـزلنا إليهم هذا القرآن، مفصَّلا مبيَّنًا فيه الحق من الباطل « على علم » ، يقول: على علم منا بحقِّ ما فُصِّل فيه، من الباطل الذي مَيَّز فيه بينه وبين الحق « هدى ورحمة » ، يقول: بيناه ليُهْدَى ويُرْحَم به قومٌ يصدقون به، وبما فيه من أمر الله ونهيه، وأخباره، ووعده ووعيده، فينقذهم به من الضلالة إلى الهدى.
وهذه الآية مردودة على قوله: كِتَابٌ أُنْـزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [ سورة الأعراف 2 ] « ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم » .
و « الهدى » في موضع نصب على القطع من « الهاء » التي في قوله: « فصلناه » ، ولو نصب على فعل « فصلناه » ، فيكون المعنى: فصلنا الكتاب كذلك كان صحيحًا.
ولو قرئ: « هدى ورحمةٍ » كان في الإعراب فصيحًا، وكان خفض ذلك بالردِّ على « الكتاب » .
القول في تأويل قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « هل ينظرون إلا تأويله » ، هل ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذبون بآيات الله ويجحدون لقاءه « إلا تأويله » ، يقول: إلا ما يؤول إليه أمرهم، من ورودهم على عذاب الله، وصِلِيِّهم جحيمه، وأشباه هذا مما أوعدهم الله به.
وقد بينا معنى « التأويل » فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « هل ينظرون إلا تأويله » ، أي: ثوابه « يوم يأتي تأويله » ، أي ثوابه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة: « هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله » ، قال: « تأويله » ، عاقبته.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح: عن مجاهد، « هل ينظرون إلا تأويله » ، قال: جزاءه « يوم يأتي تأويله » ، قال: جزاؤه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « هل ينظرون إلا تأويله » ، أما « تأويله » ، فعواقبه، مثل وقعة بدر، والقيامة، وما وعد فيها من موعد.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: « هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق » ، فلا يزال يقع من تأويله أمرٌ بعد أمر، حتى يتم تأويله يوم القيامة، ففي ذلك أنـزل: « هل ينظرون إلا تأويله » ، حيث أثابَ الله تبارك وتعالى أولياءَه وأعداءه ثواب أعمالهم. يقول يومئذ الذين نسوه من قبل: « قد جاءت رسل ربنا بالحق » ، الآية.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله » ، قال: يوم القيامة.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يوم يأتي تأويله » ، قال: يوم يأتي حقيقته، وقرأ قول الله تعالى: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ ، [ سورة يوسف: 100 ] . قال: هذا تحقيقها. وقرأ قول الله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ
، [ سورة آل عمران: 7 ] ، قال: ما يعلم حقيقته ومتى يأتي، إلا الله تعالى
وأما قوله: « يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل » ، فإن معناه: يوم يجيء ما يؤول إليه أمرهم من عقاب الله « يقول الذين نسوه من قبل » ، أي: يقول الذين ضيَّعوا وتركوا ما أمروا به من العمل المنجيهم مما آل إليه أمرهم يومئذ من العذاب، من قبل ذلك في الدنيا « لقد جاءت رسل ربنا بالحق » ، أقسم المساكين حين عاينوا البلاءَ وحلّ بهم العقاب: أنّ رسل الله التي أتتهم بالنِّذارة وبلغتهم عن الله الرسالة، قد كانت نصحت لهم وصَدَقتهم عن الله، وذلك حين لا ينفعهم التصديق. ولا ينجيهم من سَخَط الله وأليم عقابه كثرة القال والقيل.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق » ، أما « الذين نسوه » ، فتركوه، فلما رأوا ما وعدهم أنبياؤهم، استيقنوا فقالوا: « قد جاءت رسل ربنا بالحق » .
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « يقول الذين نسوه » ، قال: أعرضوا عنه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
القول في تأويل قوله : فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 53 )
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم، أنهم يقولون عند حلول سَخَط الله بهم، وورودهم أليمَ عذابه، ومعاينتهم تأويل ما كانت رسلُ الله تعِدهم: هل لنا من أصدقاءَ وأولياء اليوم فيشفعوا لنا عند ربنا، فتنجينا شفاعتهم عنده مما قد حلّ بنا من سوء فعالنا في الدنيا أو نردّ إلى الدنيا مرة أخرى، فنعمل فيها بما يرضيه ويُعْتِبُه من أنفسنا؟ قال هذا القولَ المساكينُ هنالك، لأنهم كانوا عهدوا في الدنيا أنفسهم لها شفعاء تشفع لهم في حاجاتهم، فيذكروا ذلك في وقت لا خُلة فيه لهم ولا شفاعة.
يقول الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : « قد خسروا أنفسهم » ، يقول: غَبَنوا أنفسهم حظوظها، ببيعهم ما لا خطر له من نعيم الآخرة الدائم، بالخسيس من عَرَض الدنيا الزائل « وضل عنهم ما كانوا يفترون » ، يقول: وأسلمهم لعذاب الله، وحار عنهم أولياؤهم، الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، ويزعمون كذبًا وافتراء أنهم أربابهم من دون الله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « قد خسروا أنفسهم » ، يقول: شروها بخسران.
وإنما رفع قوله: « أو نردُّ » ولم ينصب عطفًا على قوله: « فيشفعوا لنا » ، لأن المعنى: هل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو هل نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ ولم يرد به العطف على قوله: « فيشفعوا لنا » .
القول في تأويل قوله : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن سيدكم ومصلح أموركم، أيها الناس، هو المعبود الذي له العبادة من كل شيء « الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام » ، وذلك يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد قال: بدءُ الخلق العرشُ والماء والهواء، وخلقت الأرض من الماء، وكان بدء الخلق يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وجُمع الخلق في يوم الجمعة، وتهوَّدت اليهودُ يوم السبت. ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون.
« ثم استوى على العرش » .
وقد ذكرنا معنى « الاستواء » واختلاف الناس فيه، فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: « يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا » ، فإنه يقول: يورد الليل على النهار فيلبسه إياه، حتى يذهب نضرته ونوره « يطلبه » ، يقول: يطلب الليل النهار « حثيثًا » ، يعني: سريعًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « يطلبه حثيثًا » ، يقول: سريعًا.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا » ، قال: يغشي الليل النهارَ بضوئه، ويطلبه سريعًا حتى يدركه.
القول في تأويل قوله : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 54 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم، كلّ ذلك بأمره، أمرهن الله فأطعن أمرَه، ألا لله الخلق كله، والأمرُ الذي لا يخالف ولا يردّ أمره، دون ما سواه من الأشياء كلها، ودون ما عبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، ولا تخلق ولا تأمر، تبارك الله معبودُنا الذي له عبادة كل شيء، رب العالمين.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثني عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري، عن عبد العزيز الشامي، عن أبيه، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه، قلَّ شكره، وحَبِط عمله. ومَنْ زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئًا فقد كفر بما أنـزل الله على أنبيائه، لقوله: « ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين » .
القول في تأويل قوله : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 55 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ادعوا، أيها الناس، ربَّكم وحده، فأخلصوا له الدعاء، دون ما تدعون من دونه من الآلهة والأصنام « تضرعًا » ، يقول: تذلُّلا واستكانة لطاعته « وخفية » ، يقول بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه، لا جهارًا ومراءاةً، وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته وربوبيته، فعلَ أهل النفاق والخداع لله ولرسوله، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: إنْ كانَ الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعرُ جارُه. وإن كان الرجل لقد فَقُه الفقهَ الكثير، وما يشعرُ به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْر، وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبدًا! ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: « ادعوا ربكم تضرعًا وخفية » ، وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحًا فرضِي فعله فقال: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ، [ سورة مريم: 3 ] .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في غَزَاة، فأشرفوا على وادٍ يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم، فقال: « أيها الناس، اربَعُوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا! إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم » .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: « ادعوا ربكم تضرعًا وخفية » ، قال: السر.
وأما قوله: « إنه لا يحب المعتدين » ، فإن معناه: إن ربكم لا يحب من اعتدى فتجاوز حدَّه الذي حدَّه لعباده في دعائه ومسألته ربَّه، ورفعه صوته فوق الحد الذي حدَّ لهم في دعائهم إياه، ومسألتهم، وفي غير ذلك من الأمور، كما:-
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، أنبأنا إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، عن عباد بن عباد، عن علقمة، عن أبي مجلز: « ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين » ، قال: لا يسأل منازلَ الأنبياء عليهم السلام.
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: « إنه لا يحب المعتدين » ، في الدعاء ولا في غيره قال ابن جريج: إن من الدعاء اعتداءً، يُكره رفعُ الصوتِ والنداءُ والصياحُ بالدعاء، ويُؤمر بالتضرُّع والاستكانة.
القول في تأويل قوله : وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 56 )
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها » ، لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها، وذلك هو الفساد فيها.
وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى، وبينا معناه بشواهده.
« بعد إصلاحها » يقول: بعد إصلاح الله إياها لأهل طاعته، بابتعاثه فيهم الرسل دعاة إلى الحق، وإيضاحه حججه لهم « وادعوه خوفًا وطمعًا » ، يقول: وأخلصوا له الدعاء والعمل، ولا تشركوا في عملكم له شيئًا غيره من الآلهة والأصنام وغير ذلك، وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفًا من عقابه، وطمعًا في ثوابه. وإنّ مَن كان دعاؤه إياه على غير ذلك، فهو بالآخرة من المكذبين، لأنّ من لم يخف عقابَ الله ولم يرجُ ثوابه، لم يبال ما ركب من أمر يسخَطه الله ولا يرضاه « إن رحمة الله قريب من المحسنين » ، يقول تعالى ذكره: إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا، قريب منهم، وذلك هو رحمته، لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من رحمته وما أعدّ لهم من كرامته إلا أن تفارق أرواحهم أجسادهم.
ولذلك من المعنى ذُكِّر قوله: « قريب » ، وهو من خبر « الرحمة » ، و « الرحمة » مؤنثة، لأنه أريد به القرب في الوقت لا في النَّسب، والأوقات بذلك المعنى إذا وقعت أخبارًا للأسماء، أجرتها العرب مجرى الحال، فوحّدتها مع الواحد والاثنين والجميع، وذكَّرتها مع المؤنث، فقالوا: « كرامة الله بعيد من فلان » ، و « هي قريب من فلان » ، كما يقولون: « هند قريب منا » ، و « الهندان منا قريب » ، و « الهندات منا قريب » ، لأن معنى ذلك: هي في مكان قريب منا. فإذا حذفوا المكان وجعلوا « القريب » خلفًا منه، ذكَّروه ووحَّدوه في الجمع، كما كان المكان مذكرًا وموحدًا في الجمع. وأما إذا أنثوه، أخرجوه مثنى مع الاثنين، ومجموعًا مع الجميع، فقالوا: « هي قريبة منا » ، و « هما منّا قريبتان » ، كما قال عروة [ بن الورد ] :
عَشِــيَّةَ لا عَفْــرَاءُ مِنْـكَ قَرِيبَـةٌ فَتَدْنُــو, وَلا عَفْــرَاءُ مِنْـكَ بَعِيـدُ
فأنث « قريبة » ، وذكّر « بعيدًا » ، على ما وصفت. ولو كان « القريب » ، من « القرابة » في النسب، لم يكن مع المؤنث إلا مؤنثًا، ومع الجميع إلا مجموعًا.
وكان بعض نحويي البصرة يقول: ذكَّر « قريب » وهو صفة لـ « الرحمة » ، وذلك كقول العرب: « ريح خريق » ، و « ملحفَة جديد » ، و « شاة سديس » . قال: وإن شئت قلت: تفسير « الرحمة » هاهنا، المطر ونحوه، فلذلك ذكَّر، كما قال: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا ، [ سورة الأعراف : 87 ] ، فذكَّر، لأنه أراد الناس. وإن شئت جعلته كبعض ما يذكرون من المؤنث، كقول الشاعر:
وَلا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
وقد أنكر ذلك من قِيله بعضُ أهل العربية، ورأى أنه يلزمه إن جاز أن يذكِّر « قريبًا » ، توجيهًا منه للرحمة إلى معنى المطر، أن يقول: « هند قام » ، توجيهًا منه لـ « هند » وهي امرأة، إلى معنى: « إنسان » ، ورأى أن ما شبَّه به قوله: « إن رحمة الله قريب من المحسنين » ، بقوله: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا ، غير مُشْبِهِه. وذلك أن « الطائفة » فيما زعم مصدر، بمعنى « الطيف » ، كما « الصيحة » و « الصياح » ، بمعنًى، ولذلك قيل: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ، [ سورة هود: 67 ] .
القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 57 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، هو الذي يرسل الرياح نشرًا بين يدي رحمته.
و « النشر » بفتح « النون » وسكون « الشين » ، في كلام العرب، من الرياح، الطيبة اللينة الهبوب، التي تنشئ السحاب. وكذلك كل ريح طيبة عندهم فهي « نشر » ، ومنه قول امرئ القيس:
كَــأَنَّ المُــدَامَ وَصَــوْبَ الغَمَـامِ وَرِيــحَ الخُــزَامَى وَنَشْـرَ القُطُـرْ
وبهذه القراءة قرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين، خلا عاصم بن أبي النجود، فإنه كان يقرؤه: « بشرًا » على اختلاف عنه فيه.
فروى ذلك بعضهم عنه: ( بُشْرًا ) ، بالباء وضمها، وسكون الشين.
وبعضهم، بالباء وضمها وضم الشين.
وكان يتأوّل في قراءته ذلك كذلك قوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [ سورة الروم: 46 ] ، تبشر بالمطر، وأنه جمع « بشير » يبشر بالمطر، جُمِع « بُشُرًا » ، كما يجمع « النذير » « نُذُرًا » .
وأما قرأة المدينة وعامة المكيين والبصريين، فإنهم قرؤوا ذلك: ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِل الرِّيَاحَ نُشُرَا ) ، بضم « النون » ، و « الشين » بمعنى جمع « نَشور » جمع « نشرًا » ، كما يجمع « الصبور » « صُبُرًا » ، و « الشكور » « شُكُرًا » .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: معناها إذا قرئت كذلك: أنها الريح التي تهبّ من كل ناحية، وتجيء من كل وجه.
وكان بعضهم يقول: إذا قرئت بضم النون، فينبغي أن تسكن شينها، لأن ذلك لغة بمعنى « النَّشْر » بالفتح. وقال: العرب تضم النون من « النُّشْر » أحيانًا، وتفتح أحيانًا بمعنى واحد. قال: فاختلاف القرأة في ذلك على قدر اختلافها في لغتها فيه. وكان يقول: هو نظير « الخَسْف » ، « والخُسْف » ، بفتح الخاء وضمها.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قراءة من قرأ ذلك: ( نَشْرًا ) و ( نُشُرًا ) ، بفتح « النون » وسكون « الشين » ، وبضم « النون » و « الشين » قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار.
... ... .... ...... ..... ..... ...... ...... ...... ..... ..... ... ... ...... ..... ..... ... ... .
فلا أحب القراءة بها، وإن كان لها معنى صحيح ووجه مفهوم في المعنى والإعراب، لما ذكرنا من العلة .
وأما قوله: « بين يدي رحمته » ، فإنه يقول: قدام رحمته وأمامها.
والعرب كذلك تقول لكل شيء حدث قدام شيء وأمامه: « جاء بين يديه » ، لأن ذلك من كلامهم جرى في أخبارهم عن بني آدم، وكثر استعماله فيهم، حتى قالوا ذلك في غير ابن آدم وما لا يَدَ له.
و « الرحمة » التي ذكرها جل ثناؤه في هذا الموضع، المطر.
فمعنى الكلام إذًا: والله الذي يرسل الرياح ليّنًا هبوبها، طيبًا نسيمها، أمام غيْثه الذي يسوقه بها إلى خلقه، فينشئ بها سحابًا ثقالا حتى إذا أقلتها و « الإقلال » بها، حملها، كما يقال: « استقلّ البعير بحمله » ، و « أقله » ، إذا حمله فقام به ساقه الله لإحياء بلد ميت، قد تعفَّت مزارعه، ودَرَست مشاربه، وأجدب أهلُه، فأنـزل به المطر، وأخرج به من كل الثمرات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وهو الذي يرسل الرياح نشرًا بين يدي رحمته » إلى قوله: « لعلكم تذكرون » ، قال: إن الله يرسل الريح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين، طرف السماء والأرض من حيث يلتقيان، فيخرجه من ثَمَّ، ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء، ثم يفتح أبواب السماء، فيسيل الماء على السحاب، ثم يمطر السحاب بعد ذلك. وأما « رحمته » ، فهو المطر.
وأما قوله: « كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون » ، فإنه يقول تعالى ذكره: كما نحيي هذا البلد الميت بما ننـزل به من الماء الذي ننـزله من السحاب، فنخرج به من الثمرات بعد موته وجدوبته وقُحُوط أهله، كذلك نخرج الموتى من قبورهم أحياءً بعد فنائهم ودروس آثارهم « لعلكم تذكرون » ، يقول تعالى ذكرُه للمشركين به من عبدة الأصنام، المكذبين بالبعث بعد الممات، المنكرين للثواب والعقاب: ضربتُ لكم، أيها القوم، هذا المثل الذي ذكرت لكم: من إحياء البلد الميت بقَطْر المطر الذي يأتي به السحاب الذي تنشره الرياح التي وصفت صفتها، لتعتبروا فتذكروا وتعلموا أن مَنْ كان ذلك من قدرته، فيسيرٌ في قدرته إحياء الموتى بعد فنائها، وإعادتها خلقًا سويًّا بعد دُرُوسها.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون » ، وكذلك تخرجون، وكذلك النشور، كما نخرج الزرع بالماء.
وقال أبو هريرة: إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى، أمطر عليهم من ماء تحت العرش يُدعى « ماء الحيوان » أربعين سنة، فينبتون كما ينبت الزرع من الماء. حتى إذا استكملت أجسادهم، نفخ فيهم الروح، ثم تُلْقى عليهم نَوْمة، فينامون في قبورهم. فإذا نفخ في الصور الثانية عاشوا، وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم، كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه، فعند ذلك يقولون: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ، فناداهم المنادي: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [ سورة يس: 52 ] .
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « كذلك نخرج الموتى » ، قال: إذا أراد الله أن يخرج الموتى، أمطر السماء حتى تتشقق عنهم الأرض، ثم يرسل الأرواح، فتعود كل روح إلى جسدها، فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض.
القول في تأويل قوله : وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( 58 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والبلدُ الطيبة تربته، العذبةُ مشاربه، يخرج نباته إذا أنـزل الله الغيث وأرسل عليه الحيا، بإذنه، طيبًا ثمرُه في حينه ووقته. والذي خَبُث فردؤت تربته، وملحت مشاربه، لا يخرج نباته إلا نكدًا
يقول: إلا عَسِرًا في شدة، كما قال الشاعر:
لا تُنْجِــزُ الوعْـدَ, إِنْ وَعَـدْتَ, وإن أَعْطَيْــتَ أَعْطَيْــتَ تَافِهًــا نَكِـدَا
يعني بـ « التافه » ، القليل، وبـ « النكد » العسر. يقال منه: « نكِد يَنْكَد نكَدًا، ونَكْدًا فهو نَكَدٌ ونَكِدٌ » ، والنُّكْد، المصدر. ومن أمثالهم: « نَكْدًا وجحدًا » ، « ونُكدًا وجُحْدا » . و « الجحد » ، الشدة والضيق. ويقال: « إذا شُفِه وسئل: قد نَكَدوه ينكَدُونه نَكْدًا » ، كما قال الشاعر:
وَأَعْـــطِ مَــا أَعْطَيْتَــهُ طَيِّبًــا لا خَــيْرَ فِــي المَنْكُــودِ والنَّـاكِدِ
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل المدينة: ( إلا نَكَدًا ) ، بفتح الكاف.
وقرأه بعض الكوفيين بسكون الكاف: ( نَكْدًا ) .
وخالفهما بعد سائر القرأة في الأمصار، فقرؤوه: ( إلا نَكِدًا ) ، بكسر الكاف.
كأن من قرأه: « نكَدًا » بنصب الكاف أراد المصدر.
وكأنّ من قرأه بسكون الكاف أراد كسرها، فسكنها على لغة من قال: « هذه فِخْذ وكِبْد » ، وكان الذي يجب عليه إذا أراد ذلك أن يكسر « النون » من « نكد » حتى يكون قد أصاب القياس.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءةُ من قرأهُ: ( نَكِدًا ) ، بفتح « النون » وكسر « الكاف » ، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليه.
وقوله: « كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون » ، يقول: كذلك: نُبين آية بعد آية، وندلي بحجة بعد حجة، ونضرب مثلا بعد مثل، لقوم يشكرون الله على إنعامه عليهم بالهداية، وتبصيره إياهم سبيل أهل الضلالة، باتباعهم ما أمرَهم باتباعه، وتجنُّبهم ما أمرهم بتجنبه من سبل الضلالة. وهذا مثل ضرَبه الله للمؤمن والكافر، فالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه، مثل للمؤمن والذي خَبُث فلا يخرج نباته إلا نكدًا، مثلٌ للكافر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: « والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا » ، فهذا مثل ضربه الله للمؤمن. يقول: هو طيب، وعمله طيب، كما البلد الطيب ثمره طيب. ثم ضرب مثلَ الكافر كالبلدة السَّبِخة المالحة التي يخرج منها النـز فالكافر هو الخبيث، وعمله خبيث.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « والبلد الطيب » ، و « الذي خبث » قال: كل ذلك من الأرض السِّباخ وغيرها، مثل آدم وذريته، فيهم طيب وخبيث.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: « والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا » ، قال: هذا مثل ضربه الله في الكافر والمؤمن.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد يعني ابن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث » ، هي السبخة لا يخرج نباتها إلا نكدًا و « النكد » ، الشيء القليل الذي لا ينفع. فكذلك القلوب لما نـزل القرآن، فالقلب المؤمن لما دخله القرآن آمن به وثبت الإيمان فيه، والقلب الكافر لما دخله القرآن لم يتعلق منه بشيء ينفعه، ولم يثبت فيه من الإيمان شيء إلا ما لا ينفع، كما لم يُخْرِج هذا البلد إلا ما لا ينفع من النبات.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: « والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا » ، قال: الطيب ينفعه المطر فينبت، « والذي خبث » السباخُ، لا ينفعه المطر، لا يخرج نباته إلا نكدًا. قال: هذا مثل ضربه الله لآدم وذريته كلهم، إنما خلقوا من نفس واحدة، فمنهم من آمن بالله وكتابه، فطابَ. ومنهم من كفر بالله وكتابه، فخَبُث.
القول في تأويل قوله : لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 59 )
قال أبو جعفر: أقسم ربنا جل ثناؤه للمخاطبين بهذه الآية: أنه أرسل نوحًا إلى قومه، منذرَهم بأسَه، ومخوِّفَهم سَخَطه، على عبادتهم غيره، فقال لمن كفر منهم: يا قوم، اعبدوا الله الذي له العبادة، وذِلُّوا له بالطاعة، واخضعوا له بالاستكانة، ودعوا عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، فإنه ليس لكم معبودٌ يستوجب عليكم العبادةَ غيرُه، فإني أخاف عليكم إن لم تفعلوا ذلك « عذابَ يوم عظيم » ، يعني: عذابَ يوم يعظم فيه بلاؤكم بمجيئه إياكم بسخط ربِّكم.
وقد اختلفت القَرَأة في قراءة قوله: « غيره » .
فقرأ ذلك بعض أهل المدينة والكوفة: ( مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِهِ ) ، بخفض « غير » على النعت لـ « إله » .
وقرأه جماعة من أهل المدينة والبصرة والكوفة: ( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه ) ، برفع « غير » ، ردًّا لها على موضع « من » ، لأن موضعها رفع، لو نـزعت من الكلام لكان الكلام رفعًا، وقيل: « ما لكم إله غيرُ الله » . فالعرب [ لما وصفت من أن المعلوم بالكلام ] أدخلت « من » فيه أو أخرجت، وأنها تدخلها أحيانًا في مثل هذا من الكلام، وتخرجها منه أحيانًا، تردّ ما نعتت به الاسم الذي عملت فيه على لفظه، فإذا خفضت، فعلى كلام واحد، لأنها نعت لـ « الإله » . وأما إذا رفعت، فعلى كلامين: « ما لكم غيره من إله » ، وهذا قول يستضعفه أهل العربية.
القول في تأويل قوله : قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 60 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عن جواب مشركي قوم نوح لنوح، وهم « الملأ » و « الملأ » ، الجماعة من الرجال، لا امرأة فيهم أنهم قالوا له حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له: « إنا لنراك » ، يا نوح « في ضلال مبين » ، يعنون في أمر زائل عن الحق، مبين زوالهُ عن قصد الحقّ لمن تأمله.
القول في تأويل قوله : قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 61 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه مجيبًا لهم: يا قوم، لم آمركم بما أمرتكم به من إخلاص التوحيد لله، وإفراده بالطاعة دون الأنداد والآلهة، زوالا مني عن محجة الحقّ، وضلالا لسبيل الصواب، وما بي ما تظنون من الضلال، ولكنّي رسول إليكم من رب العالمين بما أمرتكم به: من إفراده بالطاعة، والإقرار له بالوحدانية، والبراءة من الأنداد والآلهة.
القول في تأويل قوله : أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 62 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه الذين كفروا بالله وكذبوه: وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أرسلني إليكم، فأنا أبلغكم رسالات ربي، وأنصح لكم في تحذيري إياكم عقابَ الله على كفركم به، وتكذيبكم إياي، وردّكم نصيحتي « وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ » ، من أن عقابه لا يردُّ عن القوم المجرمين.
القول في تأويل قوله : أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 63 )
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله عز ذكره عن قِيل نوح لقومه أنه قال لهم، إذ ردُّوا عليه النصيحة في الله، وأنكروا أن يكون الله بعثه نبيًّا، وقالوا له: مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ، [ سورة هود : 27 ] : « أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم » ، يقول: أوعجبتم أن جاءكم تذكير من الله وعِظة، يذكركم بما أنـزل ربكم « على رجل منكم » ، قيل: معنى قوله: « على رجل منكم » ، مع رجل منكم « لينذركم » ، يقول: لينذركم بأس الله ويخوِّفكم عقابه على كفركم به « ولتتقوا » ، يقول: وكي تتقوا عقابَ الله وبأسه، بتوحيده وإخلاص الإيمان به، والعمل بطاعته « ولعلكم ترحمون » ، يقول: وليرحمكم ربكم إن اتقيتم الله، وخفتموه وحَذِرتم بأسه.
وفتحت « الواو » من قوله: « أوعجبتم » ، لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف استفهام.
القول في تأويل قوله : فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ( 64 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فكذب نوحًا قومه إذ أخبرهم أنه لله رسولٌ إليهم، يأمرهم بخلع الأنداد، والإقرار بوحدانية الله، والعمل بطاعته، وخالفوا أمر ربهم، ولجُّوا في طغيانهم يعمهون، فأنجاه الله في الفلك والذين معه من المؤمنين به، وكانوا بنوح عليه السلام أنفسًا عشرة، فيما:-
حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: نوح، وبنوه الثلاثة سامٌ وحام ويافث، وأزواجهم، وستة أناسيّ ممن كان آمن به.
وكان حمل معه في الفلك من كل زوجين اثنين، كما قال تبارك وتعالى: وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ [ سورة هود: 40 ] .
و « الفلك » ، هو السفينة.
« وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا » ، يقول: وأغرق الله الذين كذبوا بحججه، ولم يتبعوا رسله، ولم يقبلوا نصيحته إياهم في الله بالطوفان.
« إنهم كانوا قومًا عمين » ، يقول: عمين عن الحق، كما:-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « عمين » ، قال: عن الحق.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « قوما عمين » ، قال: العَمَى، العامي عن الحق.
القول في تأويل قوله : وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 65 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا ولذلك نصب « هودًا » ، لأنه معطوف به على « نوح » عليهما السلام قال هود: يا قوم، اعبدوا الله فأفردوا له العبادة، ولا تجعلوا معه إلهًا غيره، فإنه ليس لكم إله غيره « أفلا تتقون » ، ربكم فتحذرونه، وتخافون عقابه بعبادتكم غيره، وهو خالقكم ورازقكم دون كل ما سواه.
القول في تأويل قوله : قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 66 ) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 67 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مخبرًا عما أجاب هودًا به قومُه الذين كفروا بالله: « قال الملأ الذين كفروا » ، يعني: الذين جحدوا توحيد الله وأنكروا رسالة الله إليهم
« إِنَّا لَنَرَاكَ » ، يا هود « في سفاهة » ، يعنون: في ضلالة عن الحق والصواب بتركك ديننا وعبادة آلهتنا « وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ » ، في قيلك: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال: « يا قوم ليس بي سفاهة » ، يقول: أي ضلالة عن الحق والصواب « ولكني رسول من رب العالمين » ، أرسلني، فأنا أبلغكم رسالات ربي، وأؤدّيها إليكم كما أمرني أن أؤدِّيَها.
القول في تأويل قوله : أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( 68 ) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 69 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: « أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي » ، أؤدي ذلك إليكم، أيها القوم « وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ » ، يقول: وأنا لكم في أمري إياكم بعبادة الله دون ما سواه من الأنداد والآلهة، ودعائكم إلى تصديقي فيما جئتكم به من عند الله، ناصحٌ، فاقبلوا نصيحتي، فإني أمين على وحي الله، وعلى ما ائتمنني الله عليه من الرسالة، لا أكذب فيه ولا أزيد ولا أبدِّل، بل أبلغ ما أمرت كما أمرت « أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم » ، يقول: أوعجبتم أن أنـزل الله وحيه بتذكيركم وعظتكم على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة، على رجل منكم لينذركم بأس الله ويخوّفكم عقابه « واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » ، يقول: فاتقوا الله في أنفسكم، واذكروا ما حلّ بقوم نوح من العذاب إذ عصوا رسولهم، وكفروا بربهم، فإنكم إنما جعلكم ربكم خلفاء في الأرض منهم، لمّا أهلكهم أبدلكم منهم فيها، فاتقوا الله أن يحلّ بكم نظير ما حل بهم من العقوبة، فيهلككم ويبدل منكم غيركم، سنَّته في قوم نوح قبلكم، على معصيتكم إياه وكفركم به « وزادكم في الخلق بسطة » ، زاد في أجسامكم طولا وعِظَمًا على أجسام قوم نوح، وفي قواكم على قواهم، نعمة منه بذلك عليكم، فاذكروا نعمه وفضله الذي فضلكم به عليهم في أجسامكم وقُوَاكم، واشكروا الله على ذلك بإخلاص العبادة له، وترك الإشراك به، وهجر الأوثان والأنداد « لعلكم تفلحون » ، يقول: كي تفلحوا فتدركوا الخلود والبقاء في النعم في الآخرة، وتنجحوا في طلباتكم عنده.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » ، يقول: ذهب بقوم نوح، واستخلفكم من بعدهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » ، أي: ساكني الأرض بعد قوم نوح.
وبنحو الذي قلنا أيضًا قالوا في تأويل قوله: « بسطة » .
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وزادكم في الخلق بسطة » ، قال: ما لقوّةِ قوم عاد.
وأما « الآلاء » ، فإنها جمع، واحدها: « إلًى » بكسر « الألف » في تقدير « مِعًى » ، ويقال: « ألَى » في تقدير « قَفَا » بفتح « الألف » . وقد حكي سماعًا من العرب: « إلْي » مثل « حِسْي » . و « الآلاء » ، النعم.
وكذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فاذكروا آلاء الله » ، أي: نعم الله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما « آلاء الله » ، فنعم الله.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فاذكروا آلاء الله » ، قال: آلاؤه، نعمه.
قال أبو جعفر: و « عاد » ، هؤلاء القوم الذين وصف الله صفتهم، وبعث إليهم هودًا يدعوهم إلى توحيد الله، واتّباع ما أتاهم به من عنده، هم، فيما:-
حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.
وكانت مساكنهم الشِّحْر، من أرض اليمن وما وَالى بلاد حضرموت إلى عُمَان، كما:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن عادًا قوم كانوا باليمن، بالأحقاف.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثيبًا أحمر تخالطه مَدَرَةٌ حمراء، ذا أرَاك وسِدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، هل رأيته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! والله إنك لتنعته نعتَ رجل قد رآه! قال: لا ولكني قد حُدِّثت عنه. فقال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبرُ هود صلوات الله عليه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال كانت منازل عاد وجماعتهم، حين بعث الله فيهم هودًا، الأحقاف. قال: و « الأحقاف » ، الرملُ، فيما بين عُمان إلى حضرموت، فاليمن كله. وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلِّها، وقهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم الله. وكانوا أصحاب أوثانٍ يعبدونها من دون الله: صنم يقال له « صُداء » ، وصنم يقال له « صَمُود » ، وصنم يقال له « الهباء » . فبعث الله إليهم هودًا، وهو من أوْسطهم نسبًا، وأفضلهم موضعًا، فأمرهم أن يوحِّدوا الله ولا يجعلوا معه إلهًا غيره، وأن يكفُّوا عن ظلم الناس. ولم يأمرهم فيما يذكر، والله أعلم، بغير ذلك. فأبوا عليه وكذبوه. وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً . واتبعه منهم ناسٌ، وهم يسيرٌ مكتتمون بإيمانهم. وكان ممن آمن به وصدّقه رجلٌ من عاد يقال له: « مرثد بن سعد بن عفير » ، وكان يكتم إيمانه. فلما عتوا على الله تبارك وتعالى وكذبوا نبيَّهم، وأكثروا في الأرض الفساد، وتجبَّروا وبنوا بكل رِيع آية عبَثًا بغير نفع، كلمهم هود فقال: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [ سورة الشعراء: 128- 131 ] ، قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ، أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا جنون أصابك به بعض آلهتنا هذه التي تعيب قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي ، إلى قوله: صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ سورة هود: 53- 56 ] . فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر من السَّماء ثلاث سنين، فيما يزعمون، حتى جهدهم ذلك. وكان الناس في ذلك الزمان إذا نـزل بهم بلاء أو جَهْد، فطلبوا إلى الله الفرج منه، كانت طَلِبتهم إلى الله عند بيته الحرام بمكة، مسلمهم ومشركهم، فيجتمع بمكة ناس كثيرٌ شتى مختلفةٌ أديانُهم، وكلهم معظّم لمكة، يعرف حُرْمتها ومكانَها من الله.
قال ابن إسحاق: وكان البيت في ذلك الزمان معروفًا مكانه، والحرم قائم فيما يذكرون، وأهل مكة يومئذ العماليق وإنما سموا « العماليق » ، لأن أباهم: « عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح » وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة، فيما يزعمون رجلا يقال له معاوية بن بكر، وكان أبوه حيًّا في ذلك الزمان، ولكنه كان قد كبر، وكان ابنه يرأس قومه. وكان السؤدد والشرف من العماليق، فيما يزعمون، في أهل ذلك البيت. وكانت أم معاوية بن بكر، كلهدة ابنة الخيبري، رجلٍ من عادٍ، فلما قَحَطَ المطر عن عاد وجُهِدوا، قالوا: جهزوا منكم وفدًا إلى مكة فليستسقوا لكم، فإنكم قد هلكتم! فبعثوا قيل بن عنـز ولقيم بن هزّال بن هزيل، وعتيل بن صُدّ بن عاد الأكبر. ومرثد بن سعد بن عفير، وكان مسلمًا يكتم إسلامه، وجُلْهُمَة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر أخو أمه. ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صُدّ بن عاد الأكبر. فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه، حتى بلغ عدّة وفدهم سبعين رجلا. فلما قدموا مكة نـزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارجًا من الحرم، فأنـزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وصِهْرَه.
فلما نـزل وفد عاد على معاوية بن بكر، أقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر، وتغنِّيهم الجرادَتان قينتان لمعاوية بن بكر. وكان مسيرهم شهرًا، ومقامهم شهرًا. فلما رأى معاوية بن بكر طُول مقامهم، وقد بعثهم قومُهم يتعوَّذون بهم من البلاء الذي أصابهم، شقَّ ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري! وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي نازلون عليّ! والله ما أدري كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له، فيظنوا أنه ضِيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك مَنْ وراءهم من قومهم جَهْدًا وعَطَشا!! أو كما قال. فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرًا نُغنِّيهم به، لا يدرون مَنْ قاله، لعل ذلك أن يحرِّكهم! فقال معاوية بن بكر، حين أشارتا عليه بذلك:
أَلا يَــا قَيْـلَ, ويْحَـكَ! قُـمْ فَهَيْنِـمْ لَعَــلَّ اللــهَ يُصْبِحُنَــا غَمَامَــا
فَيَسْــقِي أَرْضَ عَــادٍ, إنَّ عَــادًا قَــدَ امْسَــوا لا يُبِينُــونَ الكَلامَـا
مِــنَ الْعَطَشِ الشَّـدِيدِ, فَلَيْسَ نَرْجُـو بِــهِ الشَّــيْخَ الكَبِـيرَ وَلا الغُلامَــا
وَقــدْ كَــانَتْ نِسَــاؤُهُمُ بِخَــيْرٍ فَقَــدْ أَمْسَــتْ نِسَــاؤُهُمُ عَيَـامَى
وَإنَّ الْوَحْـــشَ تَــأتِيهِمْ جِهَــارًا وَلا تَخْشَـــى لِعَـــادِيٍّ سِــهَامَـا
وَأنْتُــمْ هَــا هُنَـا فِيمَـا اشْـتَهَيْتُمْ نَهَــــارَكُمُ وَلَيْلَكُـــمُ التَّمَامَـــا
فَقُبِّــحَ وَفْــدُكُمْ مِــنْ وَفْـدِ قَـوْمٍ وَلا لُقُّـــوا التَّحِيَّـــةَ وَالسَّــلامَا
فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان. فلما سمع القوم ما غنَّتا به، قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنما بعثكم قومُكم يتعوَّذون بكم من هذا البلاء الذي نـزل بهم، وقد أبطأتم عليهم! فادخلوا هذا الحرمَ واستسقوا لقومكم! فقال لهم مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله لا تُسْقَون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيَّكم، وأنبتم إليه، سُقِيتم! فأظهر إسلامه عند ذلك، فقال لهم جُلْهُمة بن الخيبريّ، خال معاوية بن بكر، حين سمع قوله، وعرف أنه قد اتبع دين هودٍ وآمن به:
أَبَــا سَــعْدٍ فَــإِنَّكَ مِــنْ قَبِيـلٍ ذَوِي كَــرَمٍ وَأُمُّــكَ مِــنْ ثَمُـودِ
فَإنَّــا لَــنْ نُطِيعَــكَ مَــا بقِينَـا وَلَسْـــنَا فَــاعِلِينَ لِمَــا تُرِيــدُ
أَتَأْمُرنَـــا لِنَــتْرُكَ دِيــنَ رِفْــدٍ وَرَمْـــلَ وَآلَ صُـــدَّ والعُبُــودِ
وَنَـــتْرُكَ دِيــنَ آبــاءٍ كِــرَامٍ ذَوِي رَأيٍ وَنَتْبَـــعَ دِيــنَ هُــودِ
ثم قالوا لمعاوية بن أبي بكر وأبيه بكرٍ: احبسَا عَنَّا مرثد بن سعد، فلا يقدمنَّ معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك دينَنَا ! ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد. فلما ولَّوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منـزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بها، قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له. فلما انتهى إليهم، قام يدعو الله بمكة، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعُون، يقول: « اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفدُ عاد » ! وكان قيل بن عنـز رأس وفد عاد. وقال وفد عاد: « اللهمّ أعطِ قَيْلا ما سألك، واجعل سؤلَنا مع سُؤله » ! وكان قد تخلّف عن وفد عاد حين دعا، لقمانُ بن عاد، وكان سيِّد عادٍ. حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال: « اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي، فأعطني سؤلي » ! وقال قيل بن عنـز حين دعا: « يا إلهنا، إن كان هود صادقًا فاسقِنا، فإنّا قد هلكنا » ! فأنشأ الله لهم سحائب ثلاثًا: بيضاء، وَحمراء، وسوداء. ثم ناداه منادٍ من السحاب: « يا قيل، اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب » . فقال: « اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماءً » ! فناداه منادٍ: « اخترت رَمَادًا، رِمْدِدًا، لا تُبقي مِن آل عاد أحدًا، لا والدًا تترك ولا ولدًا، إلا جعلته هَمِدًا، إلا بني اللُّوذِيّة المُهَدَّى » و « بنو اللوذية » ، بنو لقيم بن هزّال بن هزيلة بن بكر، وكانوا سكانًا بمكة مع أخوالهم، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عادٌ الآخِرة، ومن كان من نسلهم الذين بقُوا من عاد.
وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها قَيْل بن عنـز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى خرجت عليهم من وادٍ يقال له: « المغيث » . فلما رأوها استبشروا بها، وقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ، يقول الله: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [ سورة الأحقاف: 24- 25 ] ، أي: كلّ شيء أُمِرَتْ به. وكان أوّل من أبصر ما فيها وعرف أنها رِيح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها « مَهْدَد » .، فلما تيقنت ما فيها صاحت، ثم صَعِقت. فلما أن أفاقت قالوا: ماذا رأيت يا مهدد؟ قالت: رأيتُ ريحًا فيها كشُهُب النار، أمامها رجالٌ يقودُونها! فسخَّرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسومًا، كما قال الله و « الحسوم » ، الدائمة فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك. فاعتزل هُود، فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليهِ الجلود، وتَلتذُّ الأنفس، وإنها لتمرُّ على عاد بالطَّعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وخرج وفد عاد من مكّة حتى مرُّوا بمعاوية بن بكر وأبيه، فنـزلوا عليه. فبينما هم عنده، إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمِرة مُسْيَ ثالثةٍ من مُصاب عادٍ، فأخبرهم الخبر، فقالوا له: أين فارقت هودًا وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر. فكأنهم شكُّوا فيما حدّثهم به، فقالت هزيلة بنت بكر: صدَق وربِّ الكعبة!
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا عاصم، عن الحارث بن حسّان البكري قال: قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بامرأة بالرّبَذَة، فقالت: هل أنت حاملي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم! فحملتها حتى قدِمت المدينة، فدخلتُ المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وإذا بلالٌ متقلِّدَ السيف، وإذا رايات سُودٌ. قال قلت: ما هذا؟ قالوا: عمرو بن العاص قدم من غزوته. فلما نـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على منبره، أتيته فاستأذنتُ، فأذن لي، فقلت: يا رسول الله، إن بالباب امرأة من بني تميم، وقد سألتني أن أحملها إليك. قال: يا بلال، ائذن لها. قال: فدخلتْ، فلما جلست قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم! وكانت الدَّبَرَة عليهم فإن رأيت أن تجعل الدَّهنا بيننا وبينهم حاجزًا فعلت! قال: تقول المرأة: فأين تضطرُّ مُضَرَك، يا رسول الله؟ قال قلت: مَثَلي مَثَلُ مِعْزى حملت حَتْفًا! قال قلت: وحملتُك تكونين عليَّ خَصْمًا! أعوذ بالله أن أكون كوافدِ عاد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما وافدُ عادٍ؟ قال قلت: على الخبير سقطتَ! إنّ عادًا قَحَطت فبعثت مَنْ يستسقي لها، فبعثُوا رجالا فمرُّوا على بكر بن معاوية، فسقاهم الخمر وتغنَّتهم الجرادتان شهرًا، ثم بعث من عنده رجلا حتى أتى جبالَ مَهْرة، فدعَوْا، فجاءت سحابات. قال: وكلما جاءت سحابة قال: اذهبي إلى كذا، حتى جاءت سحابة، فنودي منها « خذها رَمادًا رِمددًا * لا تدعُ من عادٍ أحدًا » . قال: فسمعه وكتمهم حتى جاءهم العذاب قال أبو كريب: قال أبو بكر بعد ذلك في حديث عادٍ، قال: فأقبل الذين أتاهم، فأتى جبال مهرة، فصعد فقال: اللهم إنّي لم أجئك لأسير فأفاديه، ولا لمريض فأشفيه، فأسْقِ عادًا ما كنت مُسْقِيه ! قال: فرفعت له سحاباتٌ، قال: فنودي منها: اخْتَر ! قال: فجعل يقول: اذهبي إلى بني فلان، اذهبي إلى بني فلان. قال: فمرَّت آخرَها سحابةٌ سوداء، فقال: اذهبي إلى عاد! فنودي منها: « خُذْها رمادًا رِمْددًا، لا تدع من عاد أحدًا » . قال: وكتمهم، والقوم عند بكر بن معاوية، يشربون. قال: وكره بكر بن معاوية أن يقولَ لهم، من أجل أنهم عنده، وأنهم في طعامه. قال: فأخذَ في الغناء وذكَّرهم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا سلام أبو المنذر النحوي قال، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث بن يزيد البكري قال: خرجت لأشكوَ العلاء بن الحضرميّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربَذَة، فإذا عجوزٌ منقَطعٌ بها، من بني تميم، فقالت: يا عبد الله، إنّ لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجةً، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها، فقدمت المدينة. قال: فإذا رايات، قلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث بعمرو بن العاص وجهًا. قال: فجلست حتى فرغ. قال: فدخل منـزله أو قال: رَحْله فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فقعدت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كان بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم! وكانت لنا الدَّبَرة عليهم، وقد مررت بالربذة، فإذا عجوز منهم مُنقطَعٌ بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب. فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت، فقلت: يا رسول الله، اجعل بيننا وبين تميم الدَّهنا حاجزًا، فحميت العجوزُ واستوفزت، وقالت: فأين تضطرُّ مُضَرَك يا رسول الله؟ قال، قلت: أنا كما قال الأول: « معزى حملت حَتْفًا » ! حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصمًا! أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد! قال: وما وافدُ عادٍ؟ « قلت » على الخبير سقطتَ! قال: وهو يستطعمني الحديثَ. قلت: إن عادًا قُحِطوا فبعثوا « قَيْلا » وافدًا، فنـزل على بكرٍ، فسقاه الخمرَ شهرًا وتغنّيه جاريتان يقال لهما « الجرادتان » ، فخرج إلى جبال مهرة، فنادى: « إني لم أجئ لمريض فأداويه، ولا لأسير فأفاديه، اللهم فأسقِ عادًا ما كانت تُسْقِيه » ! فمرت به سحابات سُودٌ، فنودي منها: « خذها رمادًا رِمْدِدًا، لا تبقي من عادٍ أحدًا » . قال: فكانت المرأة تقول: « لا تكن كوافد عادٍ » ! فما بَلَغني أنَّه ما أرسل عليهم من الريح، يا رسول الله، إلا قَدْر ما يجري في خاتمي قال أبو وائل: فكذلك بلغني.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ، أنّ عادًا أتاهم هود، فوعظهم وذكّرهم بما قَصّ الله في القرآن، فكذبوه وكفَروا، وسألوه أن يأتيهم بالعذاب، فقال لهم: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ [ سورة الأحقاف: 23 ] . وإن عادًا أصابهم حين كفروا قُحُوطُ المطر، حتى جُهِدوا لذلك جَهْدًا شديدًا. وذلك أن هودًا دَعَا عليهم، فبعث الله عليهم الريح العَقيم، وهي الريح التي لا تُلْقِح الشجرَ. فلما نظروا إليها قالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [ سورة الأحقاف: 24 ] . فلما دنت منهم، نظروا إلى الإبل والرجال تطيرُ بهم الريحُ بين السماء والأرض. فلما رأوها تبادَروا إلى البيوت، فلما دخلوا البيوت، دخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم من البيوت، فأصابتهم فِي يَوْمِ نَحْسٍ والنحس، هو الشؤم و مُسْتَمِرٍّ ، استمر عليهم بالعذاب سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا حَسمت كل شيء مرّت به، فلما أخرجتهم من البيوت قال الله: تَنْـزِعُ النَّاسَ من البيوت، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ، [ سورة القمر: 20 ] انقعر من أصوله « خاوية » ، خوت فسقطت. فلما أهلكهم الله، أرسل عليهم طيرًا سودًا، فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه، فذلك قوله: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ [ سورة الأحقاف: 25 ] . ولم تخرج ريحٌ قط إلا بمكيال، إلا يومئذ، فإنها عَتَتْ على الخَزَنة فغلبتهم، فلم يعلموا كم كان مكيالها، وذلك قوله: فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ، [ سورة الحاقة: 6 ] و « الصرصر » ، ذات الصوت الشديد.
القول في تأويل قوله : قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 70 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت عاد له: أجئتنا تتوعَّدنا بالعقاب من الله على ما نحن عليه من الدين، كي نعبد الله وحده، وندين له بالطاعة خالصًا، ونهجر عبادة الآلهة والأصنام التي كان آباؤنا يعبدونها، ونتبرَّأ منها؟ فلسنا فاعِلي ذلك، ولا نحن متبعوك على ما تدعونا إليه، فأتنا بما تعدنا من العقابِ والعذاب على تركنا إخلاص التوحيد لله، وعبادتنا ما نعبد من دونه مِنَ الأوثان، إن كنت من أهل الصدق على ما تقول وتعِدُ.
القول في تأويل قوله : قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 71 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هود لقومه: قد حَلَّ بكم عذَابٌ وغضبٌ من الله.
وكان أبو عمرو بن العلاء فيما ذكر لنا عنه يزعم أن « الرجز » و « الرجس » بمعنى واحد، وأنها مقلوبة، قلبت السين زايًا، كما قلبت « ستّ » وهي من « سداس » بسين، وكما قالوا « قَرَبُوس » و « قَرَبُوت » وكما قال الراجز:
أَلا لَحَــى اللــهُ بَنِــي السِّـعْلاتِ عَمْــرَو بْـنَ يَرْبُـوعٍ لِئَـامَ النَّـاتِ
لَيْسُــوا بِأَعْفَـافٍ وَلا أَكْيَــاتِ
يريد « الناس » ، و « أكياس » ، فقلبت السين تاء، كما قال رؤبة:
كَـمْ قَـدْ رَأَيْنَـا مِـنْ عَدِيـدٍ مُـبْزِي حَــتَّى وَقَمْنَــا كَيْــدَهُ بــالرِّجْزِ
روي عن ابن عباس أنه كان يقول: « الرجس » ، السّخط.
حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبى طلحة، عن ابن عباس، قوله: ( قد وقع عليكم من ربكم رجس ) يقول: سَخَط.
وأما قوله: ( أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ) فإنه يقول: أتخاصمونني في أسماء سمَّيتموها أصنامًا لا تضر ولا تنفع ( أنتم وآباؤكم ما نـزل الله بها من سلطان ) يقول: ما جعل الله لكم في عبادتكم إياها من حجة تحتجُّون بها ، ولا معذرة تعتذرون بها ، لأن العبادة إنما هي لمن ضرَّ ونفع ، وأثابَ على الطاعة وعاقب على المعصية ، ورزق ومنَع . فأما الجماد من الحجارة والحديد والنحاس ، فإنه لا نفع فيه ولا ضرّ، إلا أن تتخذ منه آلةً، ولا حجة لعابد عبده من دون الله في عبادته إياه ، لأن الله لم يأذن بذلك، فيعتذر من عبدَه بأنه يعبده اتباعًا منه أمرَ الله في عبادته إياه. ولا هو إذ كان الله لم يأذن في عبادته مما يرجى نفعه ، أو يخاف ضرّه ، في عاجل أو آجل، فيعبد رجَاء نفعه ، أو دفع ضره - ( فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) يقول: فانتظروا حكمَ الله فينا وفيكم ( إني معكم من المنتظرين ) حكمَه وفصل قضائه فينا وفيكم.
القول في تأويل قوله : فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( 72 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فأنجينا نوحًا والذين معه من أتباعه على الإيمان به والتصديق به وبما دعَا إليه ، من توحيد الله ، وهجر الآلهة والأوثان ( برحمة منّا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ) يقول: وأهلكنا الذين كذَّبوا من قوم هود بحججنا جميعًا عن آخرهم، فلم نبق منهم أحدًا ، كما:-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: ( وقطعنا دابرَ الذين كذبوا بآياتنا ) قال: استأصلناهم.
وقد بينا فيما مضى معنى قوله: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [ الأنعام: 45 ] ، بشواهده ، بما أغنى عن إعادته.
( وما كانوا مؤمنين ) يقول: لم يكونوا مصَدّقين بالله ولا برسوله هود.
القول في تأويل قوله : وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 73 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا.
و « ثمود » ، هو ثمود بن غاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو جَدِيس بن غاثر ، وكانت مساكنهما الحِجْر ، بين الحجاز والشأم ، إلى وادي القُرَى وما حوله.
ومعنى الكلام: وإلى بني ثمود أخاهم صالحًا.
وإنما منع « ثمود » ، لأن « ثمود » قبيلة ، كما « بكر » قبيلة، وكذلك « تميم » .
( قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) ، يقول: قال صالح لثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم إله يجوزُ لكم أن تعبدوه غيره، وقد جاءتكم حُجَّة وبرهان على صدق ما أقول، وحقيقة ما إليه أدعو ، من إخلاص التوحيد لله ، وإفراده بالعبادة دون ما سواه ، وتصديقي على أني له رسول. وبيِّنتي على ما أقول وحقيقة ما جئتكم به من عند ربي، وحجتي عليه ، هذه الناقة التي أخرجها الله من هذه الهَضْبة ، دليلا على نبوّتي وصدق مقالتي ، فقد علمتم أن ذلك من المعجزات التي لا يقدر على مثلها أحدٌ إلا الله.
وإنما استشهد صالح ، فيما بلغني ، على صحة نبوّته عند قومه ثمود بالناقة ، لأنهم سألُوه إياها آيةً ودلالة على حقيقةِ قوله.
ذكر من قال ذلك، وذكر سبب قتل قوم صالح الناقة:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل قال، قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من الصادقين ! قال: فقال لهم صالح: اخرجوا إلى هَضْبَةٍ من الأرض! فخرجوا، فإذا هي تَتَمَخَّض كما تتمخَّض الحامل ، ثم إنها انفرجت فخرجت من وسَطها الناقة، فقال صالح: ( هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسُّوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ) لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، [ سورة الشعراء:155 ] . فلما ملُّوها عقروها، فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ، [ سورة هود:65 ] قال عبد العزيز: وحدثني رجل آخر: أنّ صالحًا قال لهم: إن آية العذاب أن تصبحوا غدًا حُمْرًا، واليوم الثاني صُفْرًا، واليوم الثالث سُودًا. قال: فصبَّحهم العذاب، فلما رأوا ذلك تحنَّطُوا واستعدُّوا.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وإلى ثمود أخاهم صالحًا ) ، قال: إن الله بعث صالحا إلى ثمود، فدعاهم فكذّبوه، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن، فسألوه أن يأتيهم بآية، فجاءهم بالناقة، لها شِرْب ولهم شِرْبُ يومٍ معلوم. وقال: ( ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء ) . فأقرُّوا بها جميعًا، فذلك قوله: فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ، [ سورة فصلت: 17 ] . وكانوا قد أقرُّوا به على وجه النفاق والتقيَّة، وكانت الناقة لها شِرْبٌ، فيومَ تشرب فيه الماء تمرّ بين جبلين فيرحمانها، ففيهما أثرُها حتى الساعة، ثم تأتي فتقف لهم حتى يحلبُوا اللبنَ ، فيرويهم، إنما تصبُّ صبًّا، ويوم يشربون الماءَ لا تأتيهم. وكان معها فصيل لها، فقال لهم صالح: إنه يولدُ في شهركم هذا غلامٌ يكون هلاككم على يديه ! فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر، فذبحوا أبناءهم، ثم وُلد للعاشر فأبَى أن يذبح ابنه، وكان لم يولد له قبل ذلك شيء. فكان ابن العاشر أزْرَق أحمرَ ، فنبت نباتًا سريعًا، فإذا مرَّ بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياءَ كانوا مثل هذا! فغضب التِّسعة على صالح ، لأنه أمرهم بذبح أبنائهم تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ، [ النمل:49 ] . قالوا: نخرج، فيرى الناس أنّا قد خرجنا إلى سفر، فنأتي الغار فنكون فيه، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى المسجد ، أتيناه فقتلناه ، ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه، ثم رجعنا فقلنا: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ، يصدقوننا ، يعلمون أنّا قد خرجنا إلى سفر! فانطلقوا ، فلما دخلوا الغارَ أرادوا أن يخرجوا من الليل، فسقط عليهم الغارُ فقتلهم، فذلك قوله: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ حتى بلغ ها هنا: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [ سورة النمل: 48- 51 ] . وكبر الغلام ابن العاشر، ونبت نباتًا عجبًا من السرعة، فجلس مع قومٍ يصيبون من الشَّراب، فأرادُوا ماءً يمزجون به شرابهم، وكان ذلك اليوم يوم شِرب الناقة، فوجدوا الماء قد شربته الناقةُ، فاشتدَّ ذلك عليهم ، وقالوا في شأن الناقة: ما نَصْنع نحن باللبن؟ لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة، فنُسْقيه أنعامنا وحروثنا، كان خيرًا لنا ! فقال الغلام ابن العاشر: هل لكم في أن أعْقِرَها لكم؟ قالوا: نعم! فأظهروا دينَهم، فأتاها الغلام، فلما بَصُرت به شدَّت عليه، فهرب منها ، فلما رأى ذلك، دخل خلف صخرةٍ على طريقها فاستتر بها، فقال: أحِيشوها عليّ ! فأحَاشوها عليه، فلما جازت به نادوه: عليك ! فتناولها فعقرها، فسقطت ، فذلك قوله: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ، [ سورة القمر:29 ] . وأظهروا حينئذٍ أمرهم، وعقروا الناقة، وعَتَوْا عن أمر ربهم، وقالوا: يا صالحُ ائتنا بما تعِدنا . وفزع ناسٌ منهم إلى صالح ، وأخبروه أن الناقة قد عُقرت، فقال: عليَّ بالفصيل ! فطلبوا الفَصِيل فوجدوه على رَابية من الأرض، فطلبوه، فارتفعت به حتى حلَّقت به في السماء، فلم يقدروا عليه. ثم رَغَا الفصيلُ إلى الله، فأوحى الله إلى صالح: أنْ مُرْهم فليتمتَّعوا في دارهم ثلاثة أيام! فقال لهم صالح: تَمتَّعوا في داركم ثلاثة أيام ، وآية ذلك أن تُصبح وجوهكم أوَّل يوم مصفَرَّة، والثاني محمرّة، واليوم الثالث مسوَدّة، واليومُ الرابعُ فيه العذاب. فلما رأوا العلامات تكفّنوا وتحنّطوا ولطَّخوا أنفسهم بالمرّ، ولبسوا الأنْطاع، وحفروا الأسراب فدخلوا فيها ينتظرون الصيحة، حتى جاءهم العذاب فهلكوا. فذلك قوله: دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، لما أهلك الله عادًا وتقضَّى أمرها، عَمِرتْ ثمود بعدَها واستُخْلِفوا في الأرض، فنـزلوا فيها وانتشروا ، ثم عتوا على الله . فلما ظهر فسادهم وعبدوا غيرَ الله، بعث إليهم صالحًا وكانوا قومًا عَربًا، وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم موضعًا رسولا وكانت منازلهم الحِجر إلى قُرْح، وهو وادي القرى، وبين ذلك ثمانية عشر ميلا فيما بين الحجاز والشأم! فبعث الله إليهم غلامًا شابًا، فدعاهم إلى الله، حتى شَمِط وكبر، لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعَفون ، فلما ألحّ عليهم صالح بالدعاء، وأكثر لهم التحذير، وخوَّفهم من الله العذاب والنقمة، سألوه أن يُريهم آية تكون مِصداقًا لما يقول فيما يدعوهم إليه، فقال لهم: أيَّ آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عِيدِنا هذا وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم وما يعبدون من دون الله ، في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندْعُو آلهتنا، فإن استجيب لك اتَّبعناك! وإن استجيب لنا اتَّبعتنا! فقال لهم صالح: نعم! فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك، وخرج صالح معهم إلى الله فدعَوْا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء ممّا يدعو به. ثم قال له جندع بن عمرو بن جواس بن عمرو بن الدميل، وكان يومئذٍ سيّد ثمود وعظيمَهم: يا صالح ، أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحِجْر ، يقال لها الكاثِبة ناقةً مخترجة جَوْفاء وَبْرَاء و « المخترجة » ، ما شاكلت البُخْت من الإبل. وقالت ثمود لصالح مثل ما قال جندع بن عمرو فإن فعلت آمنَّا بك وصَدَّقناك ، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحقّ ! وأخذ عليهم صالح مواثيقهم: لئن فعلتُ وفَعَل الله لتصدِّقُنِّي ولتؤمنُنَّ بي! قالوا: نعم! فأعطوه على ذلك عهودَهم. فدعا صالح ربَّه بأن يخرجَها لهم من تلك الهَضْبة ، كما وصفوا.
فحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدَّث: أنَّهم نظروا إلى الهضبة ، حين دعا الله صالح بما دعا به ، تتمخَّض بالناقة تمخُّض النَّتُوج بولدها، فتحركت الهضبة ، ثم انتفضت بالناقة، فانصدعت عن ناقة ، كما وصَفوا ، جوفاءَ وَبْرَاء نَتُوج، ما بين جنبيها لا يعلمه إلا الله عِظمًا ، فآمن به جندع بن عمرو ومَنْ كان معه على أمره من رهطه، وأراد أشرافُ ثمود أن يؤمنوا به ويصدِّقوا، فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد ، والحباب صاحبُ أوثانهم ، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكانوا من أشراف ثمود، فردُّوا أشرافَها عن الإسلام والدخول فيما دعاهم إليه صالح من الرَّحمة والنجاة ، وكان لجندع ابن عم يقال له: « شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد بن جواس » ، فأراد أن يسلم ، فنهاه أولئك الرهط عن ذلك، فأطاعهم، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فقال رجل من ثمود يقال له: « مهوس بن عنمة بن الدّميل » ، وكان مسلمًا:
وَكَــانَتْ عُصْبَــةٌ مِـنْ آلِ عَمْـروٍ إِلَــى دِيــنِ النَّبِـيِّ دَعَـوْا شِـهَابَا
عَزِيــزَ ثَمُــودَ كُــلِّهِمُ جَمِيعًــا فَهَــمَّ بِــأَنْ يُجِــيبَ وَلَـوْ أَجَابَـا
لأَصْبَــحَ صَــالِحٌ فِينَــا عَزِيـزًا وَمَــا عَدَلــوا بصَــاحِبِهم ذُؤَابَـا
وَلكِــنَّ الغُــوَاةَ مِــن َآلِ حُجْـرٍ تَوَلَّـــوْا بَعْــدَ رُشْــدِهِمُ ذُبَابَــا
فمكثت الناقة التي أخرجها الله لهم معها سَقْبها في أرض ثمودَ ترعى الشجر وتشرب الماء، فقال لهم صالح عليه السلام: ( هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ، وقال الله لصالح: إن الماء قسمةٌ بينهم، كُلّ شِرْبٍ مُحْتَضَر أي: إن الماء نصفان ، لهم يوم ، ولها يوم وهي محتضرة، فيومها لا تدع شربها. وقال: لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، [ سورة الشعراء:155 ] . فكانت ، فيما بلغني والله أعلم ، إذا وردت ، وكانت تَرِد غِبًّا ، وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها « بئر الناقة » ، فيزعمون أنها منها كانت تشرب إذا وردت ، تضع رأسَها فيها، فما ترْفَعه حتى تشرب كل قطرة ماء في الوادي، ثم ترفع رأسها فتفشَّج يعني تفحَّج لهم فيحتلبون ما شاؤوا من لبن، فيشربون ويدَّخرون ، حتى يملؤوا كل آنيتهم، ثم تصدر من غير الفجّ الذي منه وردت، لا تقدِرُ على أن تصدر من حيث ترِدُ لضيقِه عنها، فلا ترجع منه . حتى إذا كان الغدُ ، كان يومهم، فيشربون ما شاؤوا من الماء، ويدّخرون ما شاؤوا ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة. وكانت الناقة ، فيما يذكرون ، تَصِيف إذا كان الحرّ ظَهْرَ الوادي، فتهرب منها المواشي ، أغنامُهم وأبْقارهم وإبلُهم، فتهبط إلى بطن الوادي في حرِّه وجَدْبه وذلك أن المواشي تنفِرُ منها إذا رأتها وتشتو في بطن الوادي إذا كان الشتاء، فتهرب مَواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدْب، فأضرّ ذلك بمواشيهم للبلاءِ والاختبار. وكانت مرابعُها ، فيما يزعمون ، الحبابُ وحِسْمَى، كل ذلك ترعى مع وادي الحِجر ، فكبر ذلك عليهم، فعتوا عن أمر ربهم، وأجمعوا في عقر الناقة رأيَهم.
وكانت امرأة من ثمودَ يقال لها: « عنيزة بنت غنم بن مجلز » ، تكني بأم غنم، وهي من بني عبيد بن المهل ، أخي رُميل بن المهل، وكانت امرأةَ ذؤاب بن عمرو، وكانت عجوزًا مسنة، وكانت ذات بناتٍ حسان، وكانت ذات مال من إبلٍ وبقر وغنم وامرأة أخرى يقال لها: « صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا » ، سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول ، وكان الوادي يقال له: « وادي المحيا » ، وهو المحيَّا الأكبر ، جد المحيَّا الأصغر أبي صدوف وكانت « صدوف » من أحسن الناس، وكانت غنيَّة ، ذات مالٍ من إبل وغنم وبقر وكانتَا من أشدِّ امرأتين في ثمود عداوةً لصالح ، وأعظمِه به كفرًا، وكانتا تَحْتالان أن تُعْقَر الناقة مع كفرهما به ، لما أضرَّت به من مواشيهما. وكانت صدوف عند ابن خالٍ لها يقال له: « صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف » ، من بني هليل، فأسلم فحسن إسلامه، وكانت صدوفُ قد فَوَّضت إليه مالها، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح حتى رَقَّ المال. فاطّلعت على ذلك من إسلامه صدوفُ، فعاتبته على ذلك، فأظهر لها دينه ، ودعاها إلى الله وإلى الإسلام، فأبت عليه، وبيَّتتْ له، فأخذت بنيه وبناته منه فغيَّبتهم في بني عبيد بطنِها الذي هي منه. وكان صنتم زوجُها من بني هليل، وكان ابنَ خالها، فقال لها: ردِّي عليَّ ولدي ! فقالت: حتى أنافِرك إلى بني صنعان بن عبيد ، أو إلى بني جندع بن عبيد! فقال لها صنتم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد ! وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام ، وأبطأ عنه الآخرون. فقالت: لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه ! فقال بنو مرداس: والله لتعطِنَّه ولده طائعةً أو كارهة ! فلما رأت ذلك أعطته إياهم.
ثم إن صدوف وعُنيزة مَحَلَتا في عقر الناقة ، للشقاء الذي نـزل. فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له « الحباب » لعقر الناقة. وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل، فأبَى عليها. فدعت ابن عم لها يقال له : « مصدع بن مهرج بن المحيَّا » ، وجعلت له نفسها ، على أن يعقر الناقة، وكانت من أحسن الناسِ ، وكانت غنية كثيرة المال، فأجابها إلى ذلك. ودعت عنيزة بنت غنم ، « قدارَ بن سالف بن جندع » ، رجلا من أهل قُرْح. وكان قُدار رجلا أحمرَ أزرقَ قصيرًا ،يزعمون أنه كان لزَنْيَةٍ ، من رجل يقال له : « صهياد » ، ولم يكن لأبيه « سالف » الذي يدعى إليه ، ولكنه قد ولد على فراش « سالف » ، وكان يدعى له وينسب إليه. فقالت: أعطيك أيَّ بناتي شئتَ على أن تعقر الناقة ! وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود، وكان زوجها ذؤاب بن عمرو ، من أشراف رجال ثمود. وكان قدار عزيزًا منيعًا في قومه. فانطلق قدار بن سالف ، ومصدع بن مهرج، فاستنفرَا غُواةً من ثمود ، فاتّبعهما سبعة نفر، فكانوا تسعة نفر، أحدُ النفر الذين اتبعوهما رجل يقال له : « هويل بن ميلغ » خال قدار بن سالف ، أخو أمّه لأبيها وأمها، وكان عزيزًا من أهل حجر و « دعير بن غنم بن داعر » ، وهو من بني خلاوة بن المهل و « دأب بن مهرج » ، أخو مصدع بن مهرج، وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم..... فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها قُدار في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى. فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظمَ به عضَلَة ساقها. وخرجت أم غنم عنيزة ، وأمرت ابنتها ، وكانت من أحسن الناس وجهًا ، فأسفرت لقدار وأرته إياه، ثم ذمَّرته، فشدّ على الناقة بالسيف، فخشَفَ عُرْقوبها، فخرَّت ورغت رَغَاةً واحدة تحذّرُ سَقْبها ، ثم طعن في لبَّتها فنحرَها ، وانطلق سقبها حتى أتى جبلا مُنِيفًا، ثم أتى صخرة في رأس الجبل فزعًا ولاذ بها واسم الجبل فيما يزعمون « صنو » ، فأتاهم صالح، فلما رأى الناقة قد عقرت ، ثم قال: انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذاب الله تبارك وتعالى ونقمته ! فاتّبع السقبَ أربعةُ نفر من التّسعة الذين عقرُوا الناقة، وفيهم « مصدع بن مهرج » ، فرماه مصدع بسهم، فانتظمَ قلبَه، ثم جرَّ برجله فأنـزله، ثم ألقوا لحمَه مع لحم أمه.
فلما قال لهم صالح: « أبشروا بعذاب الله ونقمته » ، قالوا له وهم يهزؤون به: ومتى ذلك يا صالح؟ وما آية ذلك؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم: الأحد « أول » والاثنين « أهون » ، والثلاثاء « دبار » ، والأربعاء « جبار » ، والخميس « مؤنس » ، والجمعة « العروبة » ، والسبت « شيار » ، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح حين قالوا ذلك: تصبحون غداة يوم مؤنس ، يعني يوم الخميس ، ووجوهكم مصفرّة ، ثم تصبحون يوم العروبة ، يعني يوم الجمعة ، ووجوهكم محمرّة ، ثم تصبحون يوم شيار ، يعني يوم السبت ، ووجوهكم مسودَّة ، ثم يصبحكم العذاب يوم الأول ، يعني يوم الأحد. فلما قال لهم صالح ذلك، قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلمَّ فلنقتل صالحًا ، إن كان صادقًا عجَّلناه قبلنا، وإن كان كاذبًا يكون قد ألحقناه بناقتِه ! فأتوه ليلا ليبيِّتوه في أهله، فدمَغَتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطؤوا على أصحابهم ، أتوا منـزلَ صالح، فوجدوهم مشدَّخين قد رُضِخوا بالحجارة، فقالوا لصالح: أنت قتلتهم ! ثم همُّوا به، فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاحَ، وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدًا، فقد وعدكم أنَّ العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا لم تزيدوا ربَّكم عليكم إلا غضبًا، وإن كان كاذبًا فأنتم من وراء ما تريدون! فانصرفوا عنهم ليلتَهم تلك، والنفر الذين رَضَختهم الملائكة بالحجارة ، التسعةُ الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بقوله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ إلى قوله: لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، [ سورة النمل: 48 - 52 ] .
فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح ، وجوههم مصفرَّة، فأيقنوا بالعذاب، وعرفوا أن صالحًا قد صدَقهم، فطلبوه ليقتلوه. وخرج صالح هاربًا منهم ، حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم : « بنو غنم » ، فنـزل على سيِّدهم رجلٍ منهم يقال له : « نفيل » ، يكنى بأبي هدب، وهو مشرِك، فغيَّبه ، فلم يقدروا عليه. فغدوا على أصحاب صالح فعذّبوهم ليدلُّوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له : « ميدع بن هرم » : يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلَّهم عليك، أفندلُّهم عليك؟ قال: نعم ! فدلهم عليه « ميدع بن هرم » ، فلما علموا بمكان صالح ، أتوا أبا هُدْب فكلموه، فقال لهم: عندي صالح، وليس لكم إليه سبيل! فأعرضوا عنه وتركوه، وشغلهم عنه ما أنـزل الله بهم من عذابه. فجعل بعضهم يخبر بعضًا بما يرون في وجوههم حين أصبحوا من يوم الخميس، وذلك أن وجوههم أصبحت مصفرَّة، ثم أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم محمرَّة، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودّة، حتى إذا كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشأم، فنـزل رملة فلسطين، وتخلّف رجل من أصحابه يقال له : « ميدع بن هرم » ، فنـزل قُرْح وهي وادي القرى، وبين القرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلا فنـزل على سيِّدِهم رجلٍ يقال له : « عمرو بن غنم » ، وقد كان أكل من لحم الناقة ولم يَشْتَركْ في قتلها، فقال له ميدع بن هرم: يا عمرو بن غنم، أخرج من هذا البلد، فإن صالحًا قال: « من أقام فيه هلك ، ومن خرج منه نجا » ، فقال عمرو: ما شرِكت في عَقْرها، وما رضيت ما صُنع بها! فلما كانت صبيحة الأحد أخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك، إلا جارية مقعدة يقال لها : « الزُّرَيْعَة » ، وهي الكلبة ابنة السِّلق، كانت كافرة شديدَة العداوة لصالح، فأطلق الله لها رجليها بعدما عاينت العذابَ أجمعَ، فخرجت كأسرع ما يُرَى شيءٌ قط، حتى أتت أهل قُرْحٍ فأخبرتهم بما عاينتْ من العذاب وما أصاب ثمود منه، ثم استسقت من الماء فسُقِيت، فلما شربت ماتت.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر ، أخبرني من سمع الحسن يقول: لما عقرت ثمود الناقة ، ذهبَ فصيلها حتى صعد تلا فقال: يا رب ، أين أمي؟ ثم رغا رَغوةً، فنـزلت الصيحةُ، فأخمدتهم.
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن بنحوه إلا أنه قال: أصعد تلا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: أن صالحًا قال لهم حين عقروا الناقة: تمتَّعوا ثلاثة أيام! وقال لهم: آية هلاككم أن تصبح وجوهكم مصفرَّة، ثم تصبح اليومَ الثاني محمرَّة، ثم تصبح اليوم الثالث مسودَّة ، فأصبحت كذلك. فلما كان اليوم الثالث وأيقنوا بالهلاك ، تكفَّنوا وتحنَّطوا، ثم أخذتهم الصيحة فأهمدتهم قال قتادة: قال عاقر الناقة لهم: لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين! فجعلوا يدخلون على المرأة في حِجْرها فيقولون: أترضين؟ فتقول: نعم! والصبيّ، حتى رضوا أجمعين، فعقرها.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال، لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحِجر قال: لا تسألوا الآيات، فقد سألها قومُ صالح، فكانت ترد من هذا الفجّ ، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم ، فعقروها ، وكانت تشرب ماءهم يومًا ، ويشربون لبنها يومًا. فعقروها، فأخذتهم الصيحة: أهمد الله مَنْ تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدًا كان في حَرَم الله ، قيل: من هو؟ قال: أبو رِغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه.
.... قال عبد الرزاق، قال معمر: وأخبرني إسماعيل بن أمية: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبر أبي رِغال، فقال: أتدرون ما هذا؟ ، قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: هذا قبر أبي رِغال؟ قالوا فمن أبو رِغال؟ قال: رجل من ثمود ، كان في حرم الله، فمنعه حرم الله عذابَ الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب! فنـزل القوم فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عليه، فاستخرجوا الغصن.
. . . قال عبد الرزاق: قال: معمر: قال الزهري: أبو رِغال: أبو ثقيف.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن جابر قال، مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال في حديثه: قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: أبو رِغال.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة قال، كان يقال إنّ أحمرَ ثمود الذي عقر الناقة، كان ولد زَنْية.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن أبي إسحاق قال، قال أبو موسى: أتيت أرض ثمود، فذرعت مَصْدرَ الناقة ، فوجدته ستين ذراعًا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، وأخبرني إسماعيل بن أمية بنحو هذا يعني بنحو حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن جابر قال: ومرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبر أبي رِغال، قالوا: ومن أبو رِغال؟ قال: أبو ثقيف، كان في الحرم لما أهلك الله قومه، منعه حرم الله من عذاب الله ، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه ، فدفن ها هنا ، ودفن معه غصن من ذهب. قال: فابتدره القوم يبحثون عنه ، حتى استخرجوا ذلك الغصن.
وقال الحسن: كان للناقة يوم ولهم يومٌ، فأضرَّ بهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري قال: لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين ، أنْ يصيبكم مثل الذي أصابهم! ثم قال: هذا وادي النَّفَر! ثم قَنَّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي.
وأما قوله: ( ولا تمسوها بسوء ) ، فإنه يقول: ولا تمسوا ناقة الله بعقرٍ ولا نحر ( فيأخذكم عذابٌ أليم ) ، يعني: موجع.
القول في تأويل قوله : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 74 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه ، واعظًا لهم: واذكروا ، أيها القوم ، نعمة الله عليكم ( إذ جعلكم خلفاء ) ، يقول: تخلفون عادًا في الأرض بعد هلاكها.
و « خلفاء » جمع « خليفة » . وإنما جمع « خليفة » « خلفاء » ، و « فُعلاء » إنما هي جمع « فعيل » ، كما « الشركاء » جمع « شريك » ، و « العلماء » جمع « عليم » ، و « الحلماء » جمع « حليم » ، لأنه ذهب بالخليفة إلى الرجل، فكأن واحدهم « خليف » ، ثم جمع « خلفاء » ، فأما لو جمعت « الخليفة » على أنها نظيرة « كريمة » و « حليلة » و « رغيبة » ، قيل « خلائف » ، كما يقال: « كرائم » و « حلائل » و « رغائب » ، إذ كانت من صفات الإناث. وإنما جمعت « الخليفة » على الوجهين اللذين جاء بهما القرآن، لأنها جُمعت مرّة على لفظها، ومرة على معناها.
وأما قوله: ( وبوأكم في الأرض ) ، فإنه يقول: وأنـزلكم في الأرض، وجعل لكم فيها مساكن وأزواجًا ، ( تتخذون من سهولها قصورًا وتنحتون الجبال بيوتًا ) ، ذكر أنهم كانوا ينقُبون الصخر مساكن، كما:-
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وتنحتون الجبال بيوتًا ) ، كانوا ينقبون في الجبال البيوتَ.
وقوله: ( فاذكروا آلاء الله ) ، يقول: فاذكروا نعمة الله التي أنعم بها عليكم ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) .
وكان قتادة يقول في ذلك ما:-
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، يقول: لا تسيروا في الأرض مفسدين.
وقد بينت معنى ذلك بشواهده واختلاف المختلفين فيه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله : قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 75 ) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 76 )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله: ( قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) ، قال الجماعة الذين استكبروا من قوم صالح عن اتباع صالح والإيمان بالله وبه ( للذين استضعفوا ) ، يعني: لأهل المسكنة من تبَّاع صالح والمؤمنين به منهم، دون ذوي شرفهم وأهل السُّؤدد منهم ( أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه ) ، أرسله الله إلينا وإليكم ، قال الذين آمنوا بصالح من المستضعفين منهم: إنا بما أرسل الله به صالحًا من الحقّ والهدى مؤمنون ، يقول: مصدِّقون مقرّون أنه من عند الله ، وأن الله أمر به ، وعن أمر الله دعانا صالح إليه ( قال الذين استكبروا ) ، عن أمر الله وأمر رسوله صالح ( إنا ) ، أيها القوم ( بالذي آمنتم به ) ، يقول: صدقتم به من نبوّة صالح، وأن الذي جاء به حق من عند الله ( كافرون ) ، يقول: جاحدون منكرون، لا نصدِّق به ولا نقرُّ.
القول في تأويل قوله : فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 77 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمودُ الناقةَ التي جعلها الله لهم آية ( وعتوا عن أمر ربهم ) ، يقول: تكبروا وتجبروا عن اتباع الله، واستعلوا عن الحق ، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وعتوا ) ، علوا عن الحق ، لا يبصرون.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: ( عتوا عن أمر ربهم ) ، علوا في الباطل.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد في قوله: ( وعتوا عن أمر ربهم ) ، قال: عتوا في الباطل وتركوا الحق.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( وعتوا عن أمر ربهم ) ، قال: علوا في الباطل.
وهو من قولهم: « جبّار عاتٍ » ، إذا كان عاليًا في تجبُّره.
( وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدُنا ) ، يقول: قالوا: جئنا ، يا صالح ، بما تعدنا من عذاب الله ونقمته ، استعجالا منهم للعذاب ( إن كنت من المرسلين ) ، يقول: إن كنت لله رسولا إلينا، فإن الله ينصر رسله على أعدائه ، فعجَّل ذلك لهم كما استعجلوه، يقول جل ثناؤه: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ .
القول في تأويل قوله : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 78 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فأخذت الذين عقروا الناقةَ من ثمود ( الرجفة ) ، وهي الصيحة.
و « الرجفة » ، « الفعلة » ، من قول القائل: « رجَف بفلان كذا يرجُفُ رجْفًا » ، وذلك إذا حرَّكه وزعزعه، كما قال الأخطل:
إِمَّـا تَـرَيْنِي حَنَـانِي الشَّـيْبُ مِنْ كِبَرٍ كَالنَّسْـرِ أَرْجُـفُ , وَالإنْسَـانُ مَهْدُودُ
وإنما عنى بـ « الرجفة » ، ها هنا الصيحة التي زعزعتهم وحركتهم للهلاك، لأن ثمود هلكت بالصيحة ، فيما ذكر أهل العلم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: « الرجفة » ، قال: الصيحة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( فأخذتهم الرجفة ) ، وهي الصيحة.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: ( فأخذتهم الرجفة ) ، قال: الصيحة.
وقوله: ( فأصبحوا في دارهم جاثمين ) ، يقول: فأصبح الذين أهلك الله من ثمود ( في دارهم ) ، يعني في أرضهم التي هلكوا فيها وبلدتهم.
ولذلك وحَّد « الدار » ولم يجمعها فيقول « في دورهم » وقد يجوز أن يكون أريد بها الدور، ولكن وجَّه بالواحدة إلى الجميع، كما قيل: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) [ العصر: 1- 2 ] .
وقوله: ( جاثمين ) ، يعني: سقوطًا صرعَى لا يتحركون ، لأنهم لا أرواح فيهم ، قد هلكوا. والعرب تقول للبارك على الركبة: « جاثم » ، ومنه قول جرير:
عَــرَفْتُ المُنْتَـأَى , وَعَـرَفْتُ مِنْهَـا مَطَايَــا القِــدْرِ كَــالحِدَإِ الجُـثُومِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: ( فأصبحوا في دارهم جاثمين ) ، قال: ميتين.
القول في تأويل قوله : فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( 79 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فأدبر صالح عنهم حين استعجلوه العذاب وعقروا ناقة الله ، خارجًا عن أرضهم من بين أظهُرهم ، لأن الله تعالى ذكره أوحَى إليه: إنّي مهلكهم بعد ثالثة.
وقيل: إنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهُرها.
فأخبر الله جل ثناؤه عن خروج صالح من بين قومه الذين عتوا على ربهم حين أراد الله إحلال عقوبته بهم، فقال: ( فتولى عنهم ) صالح وقال لقومه ثمود ( لقد أبلغتكم رسالة ربي ) ، وأدّيت إليكم ما أمرني بأدائه إليكم ربّي من أمره ونهيه ( ونصحت لكم ) ، في أدائي رسالة الله إليكم ، في تحذيركم بأسه بإقامتكم على كفركم به وعبادتكم الأوثان ( ولكن لا تحبون الناصحين ) ، لكم في الله ، الناهين لكم عن اتباع أهوائكم ، الصادِّين لكم عن شهوات أنفسكم.
القول في تأويل قوله : وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ( 80 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا لوطًا.
ولو قيل: معناه: واذكر لوطًا ، يا محمد ، ( إذ قال لقومه ) إذ لم يكن في الكلام صلة « الرسالة » كما كان في ذكر عاد وثمود كان مذهبًا.
وقوله: ( إذ قال لقومه ) ، يقول: حين قال لقومه من سَدُوم، وإليهم كان أرسل لوط ( أتأتون الفاحشة ) ، وكانت فاحشتهم التي كانوا يأتونها ، التي عاقبهم الله عليها ، إتيان الذكور ( ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) ، يقول: ما سبقكم بفعل هذه الفاحشة أحد من العالمين ، وذلك كالذي:-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار قوله: ( ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) ، قال: ما رُئي ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط.
القول في تأويل قوله : إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( 81 )
قال أبو جعفر : يخبر بذلك تعالى ذكره عن لوط أنه قال لقومه، توبيخًا منه لهم على فعلهم: إنكم ، أيها القوم ، لتأتون الرجال في أدبارهم، شهوة منكم لذلك، من دون الذي أباحه الله لكم وأحلَّه من النساء ( بل أنتم قوم مسرفون ) ، يقول: إنكم لقوم تأتون ما حرَّم الله عليكم ، وتعصونه بفعلكم هذا.
وذلك هو « الإسراف » ، في هذا الموضع.
و « الشهوة » ، « الفَعْلة » ، وهي مصدر من قول القائل: « شَهَيتُ هذا الشيء أشهاه شهوة » ومن ذلك قول الشاعر:
وأَشْـعَثَ يَشْهَى النَّوْمَ قُلْتُ لَهُ: ارْتَحِلْ! إذَا مَـا النُّجُـومُ أَعْـرَضَتْ وَاسْبَطَرَّتِ
فَقَــامَ يَجُـرُّ الـبُرْدَ , لَـوْ أَنَّ نَفْسَـهُ يُقَـالُ لَـهُ : خُذْهَـا بِكَـفَّيْكَ! خَـرَّتِ
القول في تأويل قوله : وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( 82 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وما كان جواب قوم لُوط للوط ، إذ وبَّخهم على فعلهم القبيح ، وركوبهم ما حرم الله عليهم من العمل الخبيث ، إلا أن قال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطًا وأهله ولذلك قيل: « أخرجوهم » ، فجمع ، وقد جرى قبل ذكر « لوط » وحده دون غيره.
وقد يحتمل أن يكون إنما جمع بمعنى: أخرجوا لوطًا ومن كان على دينه من قريتكم فاكتفى بذكر « لوط » في أول الكلام عن ذكر أتباعه، ثم جمع في آخر الكلام، كما قيل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ، [ الطلاق: 1 ] .
وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
( إنهم أناس يتطهرون ) ، يقول: إن لوطًا ومن تبعه أناس يتنـزهون عما نفعله نحنُ من إتيان الرجال في الأدبار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هانئ بن سعيد النخعي، عن الحجاج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ( إنهم أناس يتطهرون ) ، قال: من أدبار الرجال وأدبار النساء.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مجاهد: ( إنهم أناس يتطهرون ) ، من أدبار الرجال وأدبار النساء.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن الحجاج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: ( إنهم أناس يتطهرون ) ، قال: يتطهرون من أدبار الرجال والنساء.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ( إنهم أناس يتطهرون ) ، قال: من أدبار الرجال ومن أدبار النساء.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( إنهم أناس يتطهرون ) ، قال: يتحرَّجون.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( إنهم أناس يتطهرون ) ، يقول: عابوهم بغير عَيْب، وذمُّوهم بغير ذَمّ.
القول في تأويل قوله : فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 83 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فلما أبى قوم لوط مع توبيخ لوط إياهم على ما يأتون من الفاحشة، وإبلاغه إياهم رسالة ربه بتحريم ذلك عليهم إلا التمادي في غيّهم، أنجينا لوطًا وأهله المؤمنين به ، إلا امرأته ، فإنها كانت للوط خائنة ، وبالله كافرة.
وقوله: ( من الغابرين ) ، يقول: من الباقين.
وقيل: ( من الغابرين ) ، ولم يقل « الغابرات » ، لأنه أريد أنها ممن بقي مع الرجال، فلما ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قيل: « من الغابرين » .
والفعل منه: « غبَرَ يَغْبُرُ غُبُورًا ، وغَبْرًا » ، وذلك إذا بقي ، كما قال الأعشى:
عَــضَّ بِمَــا أَبْقَـى المَوَاسِـي لَـهُ مِــنْ أَمَــةٍ فِــي الـزَّمَنِ الغَـابِرِ
وكما قال الآخر:
وَأَبِــي الَّـذِي فَتَـحَ البِـلادَ بِسَـيْفِهِ فَأَذَلَّهـــا لِبَنِــي أَبَــانَ الغَــابِرِ
يعني: الباقي.
فإن قال قائل: فكانت امرأة لوط ممن نجا من الهلاك الذي هلك به قوم لوط؟
قيل: لا بل كانت فيمن هلك.
فإن قال: فكيف قيل: ( إلا امرأته كانت من الغابرين ) ، وقد قلت إن معنى « الغابر » الباقي؟ فقد وجب أن تكون قد بقيت؟
قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبتَ إليه ، وإنما عنى بذلك ، إلا امرأته كانت من الباقين قبلَ الهلاك ، والمعمَّرين الذين قد أتى عليهم دهرٌ كبيرٌ ومرّ بهم زمن كثيرٌ، حتى هرِمت فيمن هرِم من الناس، فكانت ممن غبرَ الدهرَ الطويلَ قبل هلاك القوم، فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين جاءهم العذاب.
وقيل: معنى ذلك: من الباقين في عذاب الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ، [ سورة الشعراء : 171 /سورة الصافات : 135 ] ، في عذاب الله.
القول في تأويل قوله : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( 84 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأمطرنا على قوم لوط الذين كذبوا لوطًا ولم يؤمنوا به ، مطرًا من حجارة من سجّيل أهلكناهم به ( فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ) ، يقول جل ثناؤه: فانظر ، يا محمد ، إلى عاقبة هؤلاء الذين كذبوا الله ورسوله من قوم لوط، فاجترموا معاصيَ الله ، وركبوا الفواحش ، واستحلوا ما حرم الله من أدبار الرجال، كيف كانت؟ وإلى أي شيء صارت؟ هل كانت إلا البوار والهلاك؟ فإن ذلك أو نظيرَه من العقوبة، عاقبةُ من كذَّبك واستكبر عن الإيمان بالله وتصديقك إن لم يتوبوا، من قومك.
القول في تأويل قوله : وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 85 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى ولد مدين و « مدين » ، هم ولدُه مديان بن إبراهيم خليل الرحمن، فيما:-
حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
فإن كان الأمر كما قال: فـ « مدين » ، قبيلة كَتميم.
وزعم أيضًا ابن إسحاق: أن شعيبًا الذي ذكر الله أنه أرسله إليهم ، من ولد مدين هذا، وأنه « شعيب بن ميكيل بن يشجر » ، قال: واسمه بالسريانية ، « يثرون » .
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام على ما قاله ابن إسحاق: ولقد أرسلنا إلى ولد مدين ، أخاهم شعيب بن ميكيل، يدعوهم إلى طاعة الله ، والانتهاء إلى أمره، وترك السعي في الأرض بالفساد ، والصدِّ عن سبيله، فقال لهم شعيب: يا قوم ، اعبدوا الله وحده لا شريك له، ما لكم من إله يستوجب عليكم العبادة غير الإله الذي خلقكم ، وبيده نفعكم وضركم ( قد جاءتكم بينة من ربكم ) ، يقول: قد جاءتكم علامة وحجة من الله بحقيقة ما أقول ، وصدق ما أدعوكم إليه ( فأوفوا الكيل والميزان ) ، يقول: أتموا للناس حقوقهم بالكيل الذي تكيلون به ، وبالوزن الذي تزنون به ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) ، يقول ولا تظلموا الناس حقوقهم ، ولا تنقصوهم إياها.
ومن ذلك قولهم: « تَحْسَبُها حَمْقَاءَ وهي بَاخِسَةٌ » ، بمعنى: ظالمة ومنه قول الله: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ، [ سورة يوسف: 20 ] ، يعني به: رديء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) ، يقول: لا تظلموا الناس أشياءهم.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) ، : قال: لا تظلموا الناس أشياءهم.
قوله: ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) ، يقول: ولا تعملوا في أرض الله بمعاصيه ، وما كنتم تعملونه قبل أن يبعث الله إليكم نبيه، من عبادة غير الله ، والإشراك به ، وبخس الناس في الكيل والوزن ( بعد إصلاحها ) ، يقول: بعد أن قد أصلح الله الأرض بابتعاث النبي عليه السلام فيكم، ينهاكم عما لا يحل لكم ، وما يكرهه الله لكم ( ذلكم خير لكم ) ، يقول: هذا الذي ذكرت لكم وأمرتكم به ، من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ، وإيفاء الناس حقوقهم من الكيل والوزن ، وترك الفساد في الأرض، خيرٌ لكم في عاجل دنياكم وآجل آخرتكم عند الله يوم القيامة ( إن كنتم مؤمنين ) ، يقول: إن كنتم مصدقيَّ فيما أقول لكم ، وأؤدِّي إليكم عن الله من أمره ونهيه.
القول في تأويل قوله : وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( 86 )
قال أبو جعفر : يعني بقوله: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، ولا تجلسوا بكل طريق وهو « الصراط » توعدون المؤمنين بالقتل.
وكانوا ، فيما ذكر ، يقعدون على طريق من قصد شعيبًا وأراده ليؤمن به، فيتوعَّدونه ويخوِّفونه ، ويقولون: إنه كذاب!
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( بكل صراط توعدون ) ، قال: كانوا يوعدون مَنْ أتى شعيبًا وغشِيَه فأراد الإسلام.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، و « الصراط » ، الطريق، يخوِّفون الناس أن يأتوا شعيبًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله ) ، قال: كانوا يجلسون في الطريق ، فيخبرون مَنْ أتى عليهم: أن شعيبًا عليه السلام كذاب، فلا يفتنكم عن دينكم.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: ( بكل صراط ) ، قال:طريق ( توعدون ) ، بكل سبيل حق.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، كانوا يقعدون على كل طريق يوعدون المؤمنين.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن السدي: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، قال: العشَّارُون.
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة أو غيره شك أبو جعفر الرازي قال: أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسْرِي به على خشبة على الطريق ، لا يمرُّ بها ثوبٌ إلا شقته ، ولا شيء إلا خرقته ، قال: ما هذا يا جبريل ؟ ، قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه! ثم تلا ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون ) .
وهذا الخبر الذي ذكرناه عن أبي هريرة ، يدلّ على أن معناه كان عند أبي هريرة: أن نبي الله شعيبًا إنما نهى قومه بقوله: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، عن قطع الطريق، وأنهم كانوا قُطَّاع الطريق.
وقيل: ( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، ولو قيل في غير القرآن: « لا تقعدوا في كلّ صراط » ، كان جائزًا فصيحًا في الكلام ، وإنما جاز ذلك لأن الطريق ليس بالمكان المعلوم، فجاز ذلك كما جاز أن يقال: « قعد له بمكان كذا، وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا » .
وقال: ( توعدون ) ، ولم يقل: « تَعِدُون » ، لأن العرب كذلك تفعل فيما أبهمت ولم تفصح به من الوعيد. تقول: « أوعدته » بالألف ، « وتقدَّم مني إليه وعيد » ، فإذا بينت عما أوعدت وأفصحت به، قالت: « وعدته خيرًا » ، و « وعدته شرًّا » ، بغير ألف، كما قال جل ثناؤه: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، [ سورة الحج: 72 ] .
وأما قوله: ( وتصدون عن سبيل الله من آمن به ) ، فإنه يقول: وتردُّون عن طريق الله ، وهو الردُّ عن الإيمان بالله والعمل بطاعته ( من آمن به ) ، يقول: تردُّون عن طريق الله مَنْ صدق بالله ووحّده ( وتبغونها عوجًا ) ، يقول: وتلتمسون لمن سلك سبيل الله وآمن به وعمل بطاعته ( عوجًا ) ، عن القصد والحق ، إلى الزيغ والضلال ، كما:-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وتصدون عن سبيل الله ) ، قال: أهلها ( وتبغونها عوجًا ) ، تلتمسون لها الزيغ.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( وتبغونها عوجًا ) ، قال: تبغون السبيل عن الحق عوجًا.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وتصدون عن سبيل الله ) ، عن الإسلام تبغون السبيل ( عوجًا ) ، هلاكًا.
وقوله: ( واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ) ، يذكرهم شعيب نعمة الله عندهم بأن كثّرَ جماعتهم بعد أن كانوا قليلا عددهم، وأنْ رَفعهم من الذلة والخساسة ، يقول لهم: فاشكروا الله الذي أنعم عليكم بذلك ، وأخلصوا له العبادة، واتقوا عقوبته بالطاعة، واحذروا نقمته بترك المعصية ، ( وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ) ، يقول: وانظروا ما نـزل بمن كان قبلكم من الأمم حين عتوا على ربهم وعصوا رسله، من المَثُلات والنقمات، وكيف وجدوا عقبى عصيانهم إياه؟ ألم يُهلك بعضهم غرقًا بالطوفان ، وبعضهم رجمًا بالحجارة ، وبعضهم بالصيحة؟
و « الإفساد » ، في هذا الموضع ، معناه: معصية الله.
القول في تأويل قوله : وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 87 )
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره: ( وإن كان طائفة منكم ) ، وإن كانت جماعة منكم وفرقة ( آمنوا ) ، يقول: صدّقوا ( بالذي أرسلتُ به ) من إخلاص العبادة لله ، وترك معاصيه ، وظلم الناس ، وبخسهم في المكاييل والموازين، فاتّبعوني على ذلك ( وطائفة لم يؤمنوا ) ، يقول: وجماعة أخرى لم يصدِّقوا بذلك، ولم يتبعوني عليه ( فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ) ، يقول: فاحتبسوا على قضاء الله الفاصل بيننا وبينكم ( وهو خير الحاكمين ) ، يقول: والله خيرُ من يفصل وأعدل من يقضي، لأنه لا يقع في حكمه مَيْلٌ إلى أحدٍ، ولا محاباة لأحدٍ.
القول في تأويل قوله : قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ( 88 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ( قال الملأ الذين استكبروا ) ، يعني بالملأ الجماعة من الرجال ويعني بالذين استكبروا ، الذين تكبروا عن الإيمان بالله ، والانتهاء إلى أمره ، واتباع رسوله شعيب ، لما حذرهم شعيبٌ بأسَ الله ، على خلافهم أمرَ ربهم، وكفرهم به ( لنخرجنك يا شعيب ) ، ومن تبعك وصدقك وآمن بك، وبما جئت به معك ( من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ) ، يقول: لترجعن أنت وهم في ديننا وما نحن عليه قال شعيب مجيبًا لهم: ( أولو كنا كارهين ) .
ومعنى الكلام: أن شعيبًا قال لقومه: أتخرجوننا من قريتكم، وتصدّوننا عن سبيل الله، ولو كنا كارهين لذلك؟ ثم أدخلت « ألف » الاستفهام على « واو » « ولو » .
القول في تأويل قوله : قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( 89 )
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه: قال شعيب لقومه إذ دعوه إلى العود إلى ملتهم ، والدخول فيها، وتوعَّدوه بطرده ومَنْ تبعه من قريتهم إن لم يفعل ذلك هو وهم: ( قد افترينا على الله كذبًا ) ، يقول: قد اختلقنا على الله كذبًا، وتخرّصنا عليه من القول باطلا إن نحن عدنا في ملتكم، فرجعنا فيها بعد إذ أنقذنا الله منها، بأن بصَّرنا خطأها وصوابَ الهدى الذي نحن عليه وما يكون لنا أن نرجع فيها فندين بها ، ونترك الحق الذي نحن عليه ( إلا أن يشاء الله ربنا ) إلا أن يكون سبق لنا في علم الله أنّا نعود فيها ، فيمضي فينا حينئذ قضاء الله، فينفذ مشيئته علينا ( وسع ربنا كل شيء علما ) ، يقول: فإن علم ربنا وسع كل شيء فأحاط به، فلا يخفى عليه شيء كان، ولا شيء هو كائن. فإن يكن سبق لنا في علمه أنّا نعود في ملتكم ، ولا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن، فلا بد من أن يكون ما قد سبق في علمه، وإلا فإنا غير عائدين في ملّتكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( قد افترينا على الله كذبًا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، يقول: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله منها ، إلا أن يشاء الله ربنا، فالله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد علم شيئًا، فإنه وسع كل شيء علمًا.
وقوله: ( على الله توكلنا ) ، يقول: على الله نعتمد في أمورنا وإليه نستند فيما تعِدوننا به من شرِّكم ، أيها القوم، فإنه الكافي من توكَّل عليه.
ثم فزع صلوات الله عليه إلى ربه بالدعاء على قومه إذ أيس من فلاحهم، وانقطع رجاؤه من إذعانهم لله بالطاعة ، والإقرار له بالرسالة، وخاف على نفسه وعلى من اتبعه من مؤمني قومه من فَسَقتهم العطبَ والهلكة بتعجيل النقمة، فقال: ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، يقول: احكم بيننا وبينهم بحكمك الحقّ الذي لا جور فيه ولا حَيْف ولا ظلم، ولكنه عدل وحق ( وأنت خير الفاتحين ) ، يعني: خير الحاكمين.
ذكر الفرَّاء أنّ أهلَ عُمان يسمون القاضي « الفاتح » و « الفتّاح » .
وذكر غيره من أهل العلم بكلام العرب: أنه من لغة مراد، وأنشد لبعضهم بيتًا وهو:
أَلا أَبْلِــغْ بَنــي عُصْــمٍ رَسُـولا بِـــأَنِّي عَــنْ فُتَــاحَتِكُمْ غَنِــيُّ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن قتادة، عن ابن عباس قال: ما كنت أدري ما قوله: ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول: « تعالَ أفاتحك » ، تعني: أقاضيك.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، يقول: اقض بيننا وبين قومنا.
حدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا مسعر قال، سمعت قتادة يقول: قال ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله: ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، حتى سمعت ابنةَ ذي يزن تقول: « تعالَ أفاتحك » .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، أي: اقض بيننا وبين قومنا بالحق.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة: ( افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، : اقض بيننا وبين قومنا بالحق.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، أما قوله: ( افتح بيننا ) ، فيقول: احكم بيننا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال الحسن البصري: افتح احكم بيننا وبين قومنا، و إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، [ الفتح: 1 ] حكمنا لك حكمًا مبينًا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « افتح » ، اقض.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير قال، حدثنا مسعر ، عن قتادة، عن ابن عباس قال: لم أكن أدري ما ( افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: « انطلق أُفاتحك » .
القول في تأويل قوله : وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ( 90 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وقالت الجماعة من كفرة رجال قوم شعيب وهم « الملأ » الذين جحدوا آيات الله ، وكذبوا رسوله ، وتمادوا في غيِّهم، لآخرين منهم: لئن أنتم اتبعتم شُعَيبًا على ما يقول ، وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه من توحيد الله ، والانتهاء إلى أمره ونهيه ، وأقررتم بنبوَّته ( إنكم إذًا لخاسرون ) ، يقول: لمغبونون في فعلكم، وترككم ملتكم التي أنتم عليها مقيمون ، إلى دينه الذي يدعوكم إليه وهالِكُون بذلك من فعلكم.
القول في تأويل قوله : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 91 )
قال أبو جعفر : يقول: فأخذت الذين كفروا من قوم شعيب ، الرجفة. وقد بيّنت معنى « الرجفة » قبل ، وأنها الزلزلة المحركة لعذاب الله.
( فأصبحوا في دارهم جاثمين ) ، على ركبهم ، موتَى هلكى.
وكانت صفة العذاب الذي أهلكهم الله به ، كما:-
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ، قال: إن الله بعث شعيبًا إلى مدين، وإلى أصحاب الأيكة و « الأيكة » ، هي الغيضة من الشجر وكانوا مع كفرهم يبخَسون الكيل والميزان، فدعاهم فكذبوه، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن، وما ردُّوا عليه. فلما عتوا وكذبوه، سألوه العذابَ، ففتح الله عليهم بابًا من أبواب جهنم، فأهلكهم الحرّ منه، فلم ينفعهم ظلٌ ولا ماء. ثم إنه بعثَ سحابةً فيها ريحٌ طيبة، فوجدوا بَرْدَ الرّيح وطيبِها، فتنادوا: « الظُّلّةَ، عليكم بها » ! فلما اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم، انطبقت عليهم فأهلكتهم، فهو قوله: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ، [ سورة الشعراء: 189 ] .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، كان من خبر قصة شعيب وخبر قومه ما ذكر الله في القرآن. كانوا أهلَ بخسٍ للناس في مكاييلهم وموازينهم، مع كفرهم بالله ، وتكذيبهم نبيَّهم . وكان يدعوهم إلى الله وعبادته ، وترك ظلم الناس وبخسهم في مكاييلهم وموازينهم ، فقال نُصْحًا لهم ، وكان صادقا: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ، [ هود: 88 ] . قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لي يعقوب بن أبي سلمة إذا ذكر شعيبًا قال: « ذاك خطيب الأنبياء » ! لحسن مراجعته قومه فيما يرادُ بهم. فلما كذَّبوه وتوعَّدوه بالرَّجْم والنفي من بلادهم ، وعتوا على الله، أخذهُم عذاب يوم الظُّلة ، إنه كان عذاب يوم عظيم. فبلغني أن رجلا من أهل مدين يقال له : عمرو بن جلهاء، لما رآها قال : يَـا قَـوْم إنَّ شُـعَيْبًا مُرْسَـلٌ فَـذَرُوا عنكـم سُـمَيْرًا وَعِمْـرَانَ بْـنَ شَـدَّادِ
إنِّـي أَرَى غَبْيَـةً يَـا قَـوْم قَدْ طَلَعَتْ تَدْعُـو بِصَـوْتٍ عَـلَى صَمَّانَةِ الْوَادِي
وَإِنَّكـمْ لَـنْ تَـرَوْا فِيهَـا ضَحَـاءَ غَدٍ إلا الــرَّقِيمَ يُمَشِّــي بَيْــنَ أنْجَـادِ
و « سمير » و « عمران » ، كاهناهم و « الرقيم » ، كلبهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: فبلغني ، والله أعلم ، أنَّ الله سلط عليهم الحرّ حتى أنضجهم، ثم أنشأ لهم الظُّلةَ كالسحابة السوداء، فلما رأوها ابتدرُوها يستغيثون ببَرْدها مما هم فيه من الحر، حتى إذا دَخلوا تحتها ، أطبقت عليهم، فهلكوا جميعًا، ونجى الله شعيبًا والذين آمنوا معه برحمته.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني أبو عبد الله البجلي قال: « أبو جاد » و « هوّز » و « حُطّي » و « كلمون » و « سعفص » و « قرشت » ، أسماء ملوك مدين، وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب « كلمون » ، فقالت أخت كلمون تبكيه:
كَلَمُــونٌ هَــــــدَّ رُكْنِـــي هُلْكُــــهُ وَسْــــطَ المَحَلَّـــهْ
سَــــيِّدُ الْقَـــوْمِ أَتَـــاهُ الْـ حَـــتْفُ نَــارًا وَسْــطَ ظُلَّـــةْ
جُــــعِلَتْ نَـــارًا عَلَيْهِـــمْ , دَارُهُــــــمْ كَالْمُضْمَحِلَّـــــةْ
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ( 92 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فأهلك الذين كذبوا شعيبًا فلم يؤمنوا به، فأبادَهم، فصارت قريتهم منهم خاوية خلاءً ( كأن لم يغنوا فيها ) ، يقول: كأن لم ينـزلوا قطّ ولم يعيشوا بها حين هلكوا .
يقال: « غَنِيَ فلان بمكان كذا ، فهو يَغْنَى به غِنًى وغُنِيًّا » ، إذا نـزل به وكان به، كما قال الشاعر.
وَلَقَــدْ يَغْنَــى بِهَــا جِـيرَانُكِ الْ مُمْسِــكُو مِنْــكِ بِعَهْــدٍ وَوِصَـالِ
وقال رؤبة:
وَعَهْدُ مَغْنَى دِمْنَةٍ بِضَلْفَعَا
إنما هو « مفعل » من « غني » .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة. ( كأن لم يغنوا فيها ) ، : كأن لم يعيشوا، كأن لم ينعموا.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال : حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ( كأن لم يغنوا فيها ) ، يقول : كأن لم يعيشوا فيها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( كأن لم يغنوا فيها ) ، كأن لم يكونوا فيها قطُّ.
وقوله: ( الذين كذبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين ) ، يقول تعالى ذكره: لم يكن الذين اتَّبعوا شعيبًا الخاسرين ، بل الذين كذّبوه كانوا هم الخاسرين الهالكين. لأنه أخبر عنهم جل ثناؤه: أن الذين كذبوا شعيبًا قالوا للذين أرادُوا اتباعه: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ، فكذبهم الله بما أحلَّ بهم من عاجلِ نَكاله، ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ما خسر تُبَّاع شعيب، بل كانَ الذين كذبوا شعيبًا لما جاءت عقوبة الله ، هم الخاسرين ، دون الذين صدّقوا وآمنوا به.
القول في تأويل قوله : فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ( 93 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فأدبر شعيب عنهم ، شاخصًا من بين أظهرهم حين أتاهم عذاب الله، وقال لما أيقن بنـزول نقمة الله بقومه الذين كذّبوه ، حزنًا عليهم: ( يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ) ، وأدّيت إليكم ما بعثني به إليكم، من تحذيركم غضبَه على إقامتكم على الكفر به ، وظلم الناس أشياءهم ( ونصحت لكم ) ، بأمري إياكم بطاعة الله ، ونهيكم عن معصيته- ( فكيف آسى ) ، يقول: فكيف أحزن على قوم جَحَدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله ، وأتوجَّع لهلاكهم؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ( فكيف آسى ) ، يعني: فكيف أحزن؟
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( فكيف آسى ) ، يقول: فكيف أحزن؟
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: أصاب شعيبًا على قومه حُزْن لما يرى بهم من نقمةِ الله، ثم قال يعزي نفسه ، فيما ذكر الله عنه: ( يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ) .
القول في تأويل قوله : وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ( 94 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، معرِّفَه سنّته في الأمم التي قد خَلَت من قبل أمته، ومذكّرَ من كفر به من قريش ، لينـزجروا عما كانوا عليه مقيمين من الشرك بالله ، والتكذيب لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( وما أرسلنا في قرية من نبي ) ، قبلك ( إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ) ، وهو البؤس وشَظَف المعيشة وضِيقها و « الضراء » ، وهي الضُّرُ وسوء الحال في أسباب دُنياهم ( لعلهم يضرعون ) ، يقول: فعلنا ذلك ليتضرّعوا إلى ربهم، ويستكينوا إليه، وينيبوا ، بالإقلاع عن كفرهم، والتوبة من تكذيب أنبيائِهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ) ، يقول: بالفقر والجوع.
وقد ذكرنا فيما مضى الشواهدَ على صحّة القول بما قلنا في معنى: « البأساء » ، و « الضراء » ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقيل: « يضرّعون » ، والمعنى: يتضرعون، ولكن أدغمت « التاء » في « الضاد » ، لتقارب مخرجهما.
القول في تأويل قوله : ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 95 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ( ثم بدلنا ) أهلَ القرية التي أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ( مكان السيئة ) ، وهي البأساء والضراء. وإنما جعل ذلك « سيئة » ، لأنه ممّا يسوء الناس ولا تسوءهم « الحَسَنة » ، وهي الرخاء والنعمة والسعة في المعيشة ( حتى عفوا ) ، يقول: حتى كَثرُوا.
وكذلك كل شيء كثر، فإنه يقال فيه: « قد عفا » ، كما قال الشاعر:
ولَكِنَّــا نُعِــضُّ السَّــيْفَ مِنْهَــا بِأَسْــوُقِ عَافِيَــاتِ الشَّــحْمِ كُـومِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( مكان السيئة الحسنة ) ، قال: مكان الشدة رخاء ( حتى عفوا ) .
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( مكان السيئة الحسنة ) ، قال: « السيئة » ، الشر، و « الحسنة » ، الرخاء والمالُ والولد.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال : حدثنا شبل، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: ( مكان السيئة الحسنة ) ، قال: « السيئة » ، الشر، و « الحسنة » ، الخير.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ) ، يقول: مكان الشدة الرَّخاء.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ) ، قال: بدلنا مكان ما كرهوا ما أحبُّوا في الدنيا ( حتى عفوا ) ، من ذلك العذاب ( وقالوا قد مسّ آباءنا الضراء والسراء ) .
واختلفوا في تأويل قوله: ( حتى عفوا ) .
فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( حتى عفوا ) ، يقول: حتى كثروا وكثرت أموالهم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( حتى عفوا ) ، قال: جَمُّوا.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( حتى عفوا ) ، قال: كثرت أموالهم وأولادهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( حتى عفوا ) ، حتى كثروا.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: ( حتى عفوا ) ، قال: حتى جَمُّوا وكثروا.
... قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ( حتى عفوا ) ، قال: حتى جَمُّوا.
... قال ، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( حتى عفوا ) ، يعني: جَمُّوا وكثروا.
... قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( حتى عفوا ) ، قال: حتى كثرت أموالهم وأولادهم.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( حتى عفوا ) ، كثروا كما يكثر النّبات والرّيش، ثم أخذهم عند ذلك ( بغتة وهم لا يَشْعُرون ) .
وقال آخرون: معنى ذلك: حتى سُرُّوا.
ذكر من قال ذلك.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( حتى عفوا ) ، يقول: حتى سُرُّوا بذلك.
قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله قتادة في معنى : « عفوا » ، تأويلٌ لا وجه له في كلام العرب. لأنه لا يعرف « العفو » بمعنى السرور ،في شيء من كلامها ، إلا أن يكون أراد: حتى سُرُّوا بكثرتهم وكثرةِ أموالهم، فيكون ذلك وجهًا، وإن بَعُد.
وأما قوله: ( وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء ) ، فإنه خبرٌ من الله عن هؤلاء القوم الذين أبدلهم مكان الحسنة السيئة التي كانوا فيها ، استدراجًا وابتلاء ، أنهم قالوا إذ فعل ذلك بهم: هذه أحوال قد أصابتْ مَنْ قبلنا من آبائنا ، ونالت أسلافَنا، ونحن لا نعدُو أن نكون أمثالَهم يصيبنا ما أصابهم من الشدة في المعايش والرخاء فيها وهي « السراء » ، لأنها تَسرُّ أهلها.
وجهل المساكين شكرَ نعمة الله، وأغفلوا من جهلهم استدامةَ فضلهِ بالإنابة إلى طاعته، والمسارعة إلى الإقلاع عما يكرهه بالتوبة، حتى أتاهم أمره وهم لا يشعرون.
يقول جل جلاله: ( فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ) ، يقول: فأخذناهم بالهلاك والعذاب فجأة ، أتاهم على غِرّة منهم بمجيئه، وهم لا يدرون ولا يعلمون أنّه يجيئهم، بل هُم بأنه آتيهم مكذّبون حتى يعاينوه ويَرَوه.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 96 ) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ( 97 ) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( 98 )
القول في تأويل قوله : أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ( 99 )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: أفأمن ، يا محمد هؤلاء الذين يكذّبون الله ورسوله ، ويجحدون آياته، استدراجَ الله إيّاهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحّة الأبدان ورخاء العيش، كما استدرج الذين قصَّ عليهم قصصهم من الأمم قبلهم ، فإنّ مكر الله لا يأمنه، يقول: لا يأمن ذلك أن يكون استدراجًا، مع مقامهم على كفرهم ، وإصرارهم على معصيتهم ( إلا القوم الخاسرون ) وهم الهالكون.
القول في تأويل قوله : أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ( 100 )
قال أبو جعفر : يقول: أوَلم يَبن للّذين يُسْتخلفون في الأرض بعد هلاك آخرين قبلهم كانُوا أهلها، فساروا سيرتهم ، وعملوا أعمالهم، وعتوا عن أمر ربهم ( أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ) ، يقول: أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، فأخذناهم بذنوبهم ، وعجّلنا لهم بأسَنا كما عجلناه لمن كان قبلهم ممن ورثوا عنه الأرض ، فأهلكناهم بذنوبهم ( ونطبع على قلوبهم ) ، يقول: ونختم على قلوبهم فهم ( لا يسمعون ) ، موعظةً ولا تذكيرًا ، سماعَ منتفع بهما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك.
حدثنا محمد بن عمرو، قال : حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( أولم يهد ) ، قال: يبيَّن.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
... قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( أولم يهد ) ، أولم يُبَيَّنْ.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ) ، يقول: أو لم يتبين لهم.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ) ، يقول: أولم يتبين للذين يرثون الأرض من بعد أهلها هم المشركون.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ) ، أولم نُبَيِّنْ لهم ( أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ) ، قال: و « الهدى » ، البيان الذي بُعث هاديًا لهم ، مبيِّنًا لهم حتى يعرفوا. لولا البيان لم يعرفُوا.
القول في تأويل قوله : تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ( 101 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هذه القرى التي ذكرت لك، يا محمد، أمَرها وأمر أهلها يعني: قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب « نقص عليك من أنبائها » فنخبرك عنها وعن أخبار أهلها, وما كان من أمرهم وأمر رُسل الله التي أرسلت إليهم, لتعلم أنا ننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا على أعدائنا وأهل الكفر بنا، ويعلم مكذبوك من قومك ما عاقبة أمر من كذَّب رسل الله, فيرتدعوا عن تكذيبك, وينيبوا إلى توحيد الله وطاعته « ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات » ، يقول: ولقد جاءت أهل القرى التي قصصت عليك نبأها، « رسلهم بالبينات » ، يعني بالحجج: البينات « فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل » .
[ ثم ] اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. .
فقال بعضهم: معناه: فما كان هؤلاء المشركون الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم بما كذبوا من قبل ذلك, وذلك يوم أخذِ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام.
ذكر من قال ذلك.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل » قال : ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرهًا.
وقال آخرون: معنى ذلك: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل، بما سبق في علم الله أنهم يكذبون به يوم أخرجهم من صُلب آدم عليه السلام .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية, عن أبي بن كعب: « فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل: قال: كان في علمه يوم أقرُّوا له بالميثاق » .
حدثني المثنى , قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال، يحق على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم والأنبياء، ويدعوا علمَ ما أخفى الله عليهم, فإن علمه نافذٌ فيما كان وفيما يكون، وفي ذلك قال: « ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين » ، قال: نفذ علمه فيهم، أيُّهم المطيع من العاصي حيث خلقهم في زمان آدم. وتصديق ذلك حيث قال لنوح: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ، [ هود: 48 ] ، وقال في ذلك: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، [ الأنعام: 28 ] ، وفي ذلك قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [ الإسراء: 15 ] ، وفي ذلك قال: لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [ النساء: 165 ] ، ولا حجة لأحد على الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: « فما كانوا » لو أحييناهم بعد هلاكهم ومعاينتهم ما عاينوا من عذاب الله، « ليؤمنوا بما كذبوا من قبل » هلاكهم, كما قال جل ثناؤه: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ .
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: « بما كذبوا من قبل » ، قال: كقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ .
قال أبو جعفر: وأشبه هذه الأقوال بتأويل الآية وأولاها بالصواب, القولُ الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب والربيع. وذلك أن من سبق في علم الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن به, فلن يؤمن أبدًا, وقد كان سبق في علم الله تبارك وتعالى لمن هلك من الأمم التي قص نبأهم في هذه السورة، أنه لا يؤمن أبدًا, فأخبر جل ثناؤه عنهم, أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذبون في سابق علمه، قبل مجيء الرسل وعند مجيئهم إليهم. ولو قيل: تأويله: فما كان هؤلاء الذين وَرِثوا الأرض، يا محمد، من مشركي قومك من بعد أهلها، الذين كانوا بها من عاد وثمود, ليؤمنوا بما كذب به الذين ورثوها عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده كان وجهًا ومذهبًا, غير أني لا أعلم قائلا قاله ممن يعتمد على علمه بتأويل القرآن.
وأما الذي قاله مجاهد من أن معناه: لو ردّوا ما كانوا ليؤمنوا فتأويلٌ لا دلالة عليه من ظاهر التنـزيل, ولا من خبر عن الرسول صحيح. وإذا كان ذلك كذلك, فأولى منه بالصواب ما كان عليه من ظاهر التنـزيل دليل.
وأما قوله: « كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين » ، فإنه يقول تعالى ذكره: كما طبع الله على قلوب هؤلاء الذين كفروا بربهم وعصوا رسله من هذه الأمم التي قصصنا عليك نبأهم، يا محمد، في هذه السورة، حتى جاءهم بأسُ الله فهلكوا به « كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين » ، الذين كتب عليهم أنهم لا يؤمنون أبدًا من قومك. .
القول في تأويل قوله : وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ( 102 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولم نجد لأكثر أهل هذه القرى التي أهلكناها واقتصصنا عليك، يا محمد، نبأها « من عهد » , يقول: من وفاء بما وصيناهم به، من توحيد الله, واتباع رسله, والعمل بطاعته, واجتناب معاصيه، وهجر عبادة الأوثان والأصنام.
و « العهد » ، هو الوصية, قد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. . « وإن وجدنا أكثرهم » ، يقول: وما وجدنا أكثرهم إلا فسقة عن طاعة ربهم, تاركين عهده ووصيته. وقد بينا معنى « الفسق » ، قبل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى: « وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين » قال: القرون الماضية.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: « وما وجدنا لأكثرهم من عهد » ، الآية, قال: القرون الماضية. و « عهده » ، الذي أخذه من بني آدم في ظهر آدم ولم يفوا به.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية, عن أبي بن كعب: « وما وجدنا لأكثرهم من عهد » قال: في الميثاق الذي أخذه في ظهر آدم عليه السلام.
حدثني محمد بن سعد, قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين » وذلك أن الله إنما أهلك القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما أوصاهم به.
القول في تأويل قوله : ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( 103 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، موسى بن عمران.
و « الهاء والميم » اللتان في قوله: « من بعدهم » ، هي كناية ذكر الأنبياء عليهم السلام التي ذكرت من أول هذه السورة إلى هذا الموضع.
« بآياتنا » يقول: بحججنا وأدلتنا « إلى فرعون وملئه » , يعني: إلى جماعة فرعون من الرجال « فظلموا بها » ، يقول: فكفروا بها. و « الهاء والألف » اللتان في قوله: « بها » عائدتان على « الآيات » . ومعنى ذلك: فظلموا بآياتنا التي بعثنا بها موسى إليهم وإنما جاز أن يقال: « فظلموا بها, » بمعنى: كفروا بها, لأن الظلم وَضْعُ الشيء في غير موضعه. وقد دللت فيما مضى على أن ذلك معناه، بما أغنى عن إعادته. .
والكفر بآيات الله، وضع لها في غير موضعها, وصرف لها إلى غير وجهها الذي عُنِيت به « فانظر كيف كان عاقبه المفسدين » ، يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر يا محمد، بعين قلبك، كيف كان عاقبة هؤلاء الذين أفسدوا في الأرض؟ يعني فرعون وملأه, إذ ظلموا بأيات الله التي جاءهم بها موسى عليه السلام , وكان عاقبتهم أنهم أغرقوا جميعًا في البحر.
القول في تأويل قوله : وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 104 )
قال أبوجعفر: يقول جل ثناؤه: وقال موسى لفرعون: يا فرعون إنّي رسول من رب العالمين.
القول في تأويل قوله : حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 105 ) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 106 )
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: « حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ » .
فقرأه جماعة من قراء المكيين والمدنيين والبصرة والكوفة: ( حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ ) ، بإرسال « الياء » من « على » ، وترك تشديدها, بمعنى: أنا حقيقٌ بأن لا أقول على الله إلا الحق فوجهوا معنى « على » إلى معنى « الباء » كما يقال: « رميت بالقوس » و « على القوس » , و « جئت على حال حسنة » و « بحال حسنة » . . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: إذا قرئ ذلك كذلك, فمعناه: حريص على أن لا أقول، أو فحق أن لا أقول. .
وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة: « حَقِيقٌ عَلَيَّ أَلا أَقُولَ » ، بمعنى: واجب عليَّ أن لا أقول , وحق علي أن لا أقول.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى, قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرأة, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته الصوابَ.
وقوله: « قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ » ، يقول: قال موسى لفرعون وملئه: قد جئتكم ببرهان من ربكم، يشهدُ، أيها القوم، على صحة ما أقول، وصدق ما أذكر لكم من إرسال الله إياي إليكم رَسولا فأرسل يا فرعون معي بني إسرائيل. فقال له فرعون: « إن كنت جئت بآية » , يقول: بحجة وعلامة شاهدة على صدق ما تقول « فأت بها إن كنت من الصادقين » .
القول في تأويل قوله : فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ( 107 ) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ( 108 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: فألقى موسى عصاه « فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ » ، يعني حية « مُبِينٌ » يقول: تتبين لمن يراها أنها حية. .
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر, عن قتادة: « فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ » قال: تحولت حية عظيمة. وقال غيره: مثل المدينة.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ » ، يقول: فإذا هي حية كاد يَتَسوَّره يعني: كاد يَثبُ عليه. .
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ » ، « والثعبان » : الذكر من الحيات, فاتحةً فاها, واضعة لحيها الأسفل في الأرض, والأعلى على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه, فلما رأها ذُعِر منها, ووثب فأحدث, ولم يكن يُحْدِث قبل ذلك, وصاح: يا موسى، خذها وأنا مؤمن بك، وأرسل معك بنى إسرائيل! فأخذها موسى فعادت عصًا.
حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، حدثنا أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس: « فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ » قال: ألقى العصا فصارت حية, فوضعت فُقْمًا لها أسفل القبة, وفُقْمًا لها أعلى القبة قال عبد الكريم، قال إبراهيم: وأشار سفيان بأصبعه الإبهام والسبابة هكذا: شِبْه الطاق فلما أرادت أن تأخذه, قال فرعون: يا موسى خذها ! فأخذها موسى بيده, فعادت عصا كما كانت أول مرة.
حدثنا العباس بن الوليد قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا الأصبغ بن زيد, عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: ألقى عصاه فتحولت حيه عظيمة فاغرةً فاها, مسرعة إلى فرعون، فلما رأى فرعون أنها قاصدةٌ إليه, اقتحم عن سريره, فاستغاث بموسى أن يكفَّها عنه, ففعل.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « ثُعْبَانٌ مُبِينٌ » قال: الحية الذكر.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما دخل موسى على فرعون, قال له فرعون: أعرفك؟ قال: نعم! قال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا ؟ [ سورة الشعراء: 18 ] . قال: فرد إليه موسى الذي ردَّ, فقال فرعون: خذوه! فبادره موسى فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين, فحملت على الناس فانهزموا, فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا, قتل بعضُهم بعضًا, وقام فرعون منهزمًا حتى دخل البيتَ.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ، [ سورة طه: 20 ] ، قال: ما بين لَحْيَيها أربعون ذراعًا.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان, عن جويبر, عن الضحاك: « فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ » ، قال: الحية الذكر.
قال أبو جعفر: وأما قوله: « ونـزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين » ، فإنه يقول: وأخرج يده، فإذا هي بيضاء تلوح لمن نظر إليها من الناس. .
وكان موسى، فيما ذكر لنا، آدمَ, فجعل الله تحوُّل يده بيضاء من غير برص، له آية، وعلى صدق قوله: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، حجة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا العباس قال، أخبرنا يزيد قال، حدثنا الأصبغ بن زيد, عن القاسم بن أبي أيوب, قال: حدثني سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال، أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء يعني: من غير برص ثم أعادها إلى كمّه, فعادت إلى لونها الأول.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبى طلحة, عن ابن عباس , قوله: « بيضاء للناظرين » ، يقول: من غير برص.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: « ونـزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين » ، قال: نـزع يده من جيبه بيضاء من غير برص.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ونـزع يده » ، أخرجها من جيبه « فإذا هي بيضاء للناظرين » .
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: « ونـزع يده » قال: نـزع يده من جيبه « فإذا هي بيضاء للناظرين » ، وكان موسى رجلا آدم, فأخرج يده, فإذا هي بيضاء، أشد بياضا من اللبن مِنْ غَيْرِ سُوءٍ , قال: من غير برص، آيةً لفرعون.
القول في تأويل قوله : قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( 109 ) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( 110 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت الجماعة من رجال قوم فرعون والأشراف منهم « إِنَّ هَذَا » ، يعنون موسى صلوات الله عليه « لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ » ، يعنون: أنه يأخذ بأعين الناس بخداعه إياهم، حتى يخيل إليهم العصا حية، والآدم أبيض, والشيء بخلاف ما هو به. ومنه قيل: « سَحر المطرُ الأرضَ » ، إذا جادها، فقطع نباتها من أصوله, وقلب الأرض ظهرًا لبطن, فهو يَسْحَرُها سَحْرًا , و « الأرض مسحورة » ، إذا أصابها ذلك. فشبه « سحر الساحر » بذلك، لتخييله إلى من سحره أنه يرى الشيء بخلاف ما هو به، ومنه قول ذي الرمة في صفة السراب:
وَسَــاحِرَةِ العُيُــونِ مِـنَ المَـوَامِي تَــرقَّصُ فــي نَوَاشِــرِهَا الأرُومُ .
وقوله ( عَلِيمٌ ) يقول: ساحر عليم بالسحر « يريد أن يخرجكم من أرضكم » أرض مصر، معشر القبط السحرة وقال فرعون للملأ « فماذا تأمرون » يقول: فأي شيء تأمرون أن نفعل في أمره؟ بأي شيء تشيرون فيه؟
وقيل: « فماذا تأمرون » ، والخبر بذلك عن فرعون, ولم يذكر فرعون, وقلما يجيء مثل ذلك في الكلام, وذلك نظير قوله: قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، [ يوسف: 51- 52 ] . فقيل: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، من قول يوسف, ولم يذكر يوسف، ومن ذلك أن يقول: « قلت لزيد قم، فإنى قائم » ، وهو يريد: « فقال زيد: إنّي قائم » . .
القول في تأويل قوله : قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( 111 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره. قال الملأ من قوم فرعون لفرعون: أرجئه: أي أخِّره.
وقال بعضهم: معناه: احبس.
والإرجاء في كلام العرب التأخير. يقال منه: « أرجيت هذا الأمر » ، و « أرجأته » ، إذا أخرته. ومنه قول الله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ ، [ سورة الأحزاب: 51 ] تؤخر, فالهمز من كلام بعض قبائل قيس، يقولون: « أرجأت هذا الأمر » , وترك الهمز من لغة تميم وأسد، يقولون: « أرجيته » . .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة المدينة وبعض العراقيين: « أَرْجِهِ » بغير الهمز وبجرّ الهاء.
وقرأه بعض قرأة الكوفيين: « أَرْجِهْ » بترك الهمز وتسكين « الهاء » ، على لغة من يقف على الهاء في المكنيِّ في الوصل، إذا تحرك ما قبلها, كما قال الراجز:
أَنْحَــى عَـلَيَّ الدَّهْـرُ رِجْـلا وَيَـدَا يُقْسِـــمُ لا يُصْلِـــحُ إلا أَفْسَــدَا
فَيُصْلِحُ الْيَوْمَ وَيُفْسِدُهُ غَدَا
وقد يفعلون مثل هذا بهاء التأنيث، فيقولون: « هذه طلحَهْ قد أقبلت » , كما قال الراجز:
لَمَّــا رأَى أنْ لا دَعَــهْ وَلا شِــبَعْ مَـالَ إلَـى أَرْطَـأةِ حِـقْفٍ فَاضْطَجَعْ
وقراه بعض البصريين: « أَرْجِئْهُ » بالهمز وضم « الهاء » , على لغة من ذكرت من قيس.
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك بالصواب، أشهرها وأفصحها في كلام العرب, وذلك ترك الهمز وجرُّ « الهاء » , وإن كانت الأخرى جائزة, غير أن الذي اخترنا أفصح اللغات وأكثرها على ألسن فصحاء العرب.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « أرجه »
فقال بعضهم : معناه: أخره.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم, قال : حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: قال ابن جريج: أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس, قوله: « أرجه وأخاه » قال: أخِّره.
وقال آخرون. معناه احبسه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « أرجه وأخاه » ، أي: أحبسه وأخاه.
وأما قوله: « وأرسل في المدائن حاشرين » يقول: من يحشرُ السحرة فيجمعهم إليك. .
وقيل: هم الشُّرَط.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عباس بن أبي طالب قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا الحكم بن ظهير, عن السدي , عن ابن عباس: « وأرسل في المدائن حاشرين » ، قال: الشرط.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر, عن أبيه, عن مجاهد: « وأرسل في المدائن حاشرين » ، قال: الشرط.
قال: حدثنا حميد, عن قيس, عن السدي: « وأرسل في المدائن حاشرين » ، قال: الشرط.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر, عن أبيه, عن مجاهد, عن ابن عباس, في قوله: « في المدائن حاشرين » ، قال: الشرط.
حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس: « وأرسل في المدائن حاشرين » ، قال: الشرط.
القول في تأويل قوله : يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ( 112 ) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ( 113 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشورة الملأ من قوم فرعون على فرعون, أن يرسل في المدائن حاشرين يحشرون كل ساحر عليم.
وفي الكلام محذوف، اكتفى بدلالة الظاهر من إظهاره, وهو: فأرسل في المدائن حاشرين، يحشرون السحرة.
« فجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرًا » يقول: إن لنا لثوابًا على غلبتنا موسى عندك « إن كنا » ، يا فرعون، « نحن الغالبين » .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا العباس قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا الأصبغ بن زيد, عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: « فأرسل في المدائن حاشرين » , فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعملُ هذا الساحر؟ قالوا: يعمل بالحيات. قالوا: والله ما في الأرض قوم يعملون بالسحر والحيات والحبال والعصي أعلم منا, فما أجرنا إن غلبنا؟ فقال لهم: أنتم قرابتي وحامَّتي, وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم.
حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال: حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان, قال: حدثنا أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: قال فرعون: لا نغالبه يعني موسى إلا بمن هو منه، فأعدّ علماء من بني إسرائيل, فبعث بهم إلى قرية بمصر يقال لها: « الفرما » , يعلمونهم السحر كما يعلم الصبيان الكِتَاب في الكتّاب. قال: فعلموهم سحرًا كثيرًا. قال: وواعد موسى فرعون موعدًا، فلما كان في ذلك الموعد، بعث فرعون, فجاء بهم وجاء بمعلمهم معهم, فقال له: ماذا صنعت؟ قال: قد علمتهم من السحر سحرًا لا يطيقه سحر أهل الأرض, إلا أن يكون أمرًا من السماء, فإنه لا طاقة لهم به, فأما سحر أهل الأرض، فإنه لن يغلبهم. فلما جاءت السحرة قالوا لفرعون: أئن لنا لأجرًا إن كنا نحن الغالبين؟ قال: نعم، وإنكم إذًا لمن المقربين.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ، فحشروا عليه السحرة « فلما جاء السحرة فرعون قالوا إنّ لنا لأجرًا إن كنا نحن الغالبين » يقول: عطية تعطينا « إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ . »
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ، أي كاثره بالسحرة، لعلك أن تجد في السحرة من يأتي بمثل ما جاء به. وقد كان موسى وهارون خرجا من عنده حين أراهم من سلطان الله ما أراهم. وبعث فرعون في مملكته, فلم يترك في سلطانه ساحرًا إلا أتي به. فذكر لي، والله أعلم، أنه جمع له خمسة عشر ألف ساحر، فلما اجتمعوا إليه، أمرهم أمره, وقال لهم: قد جاءنا ساحرٌ ما رأينا مثله قط, وإنكم إن غلبتموه أكرمتكم وفضلتكم, وقرَّبتكم على أهل مملكتي! قالوا: وإن لنا ذلك إن غلبناه؟ قال: نعم!. . »
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين, عن يزيد , عن عكرمة قال: السحرة كانوا سبعين قال أبو جعفر: أحسبه أنه قال: ألفًا.
قال: حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن ابن المنذر, قال: كان السحرة ثمانين ألفا.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن عبد العزيز بن رفيع, عن خيثمة, عن أبي سودة, عن كعب قال: كان سحرة فرعون اثني عشر ألفًا.
القول في تأويل قوله : قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( 114 ) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ( 115 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: قال فرعون للسحرة، إذ قالوا له: إن لنا عندك ثوابًا إن نحن غلبنا موسى؟ قال: نعم, لكم ذلك, وإنكم لممن أقرِّبه وأدْنيه مني « قالوا يا موسى » يقول: قالت السحرة لموسى: يا موسى، اختر أن تلقي عصاك, أو نلقي نحن عصينا. ولذلك أدخلت « أن » مع « إما » في الكلام، لأنها في موضع أمر بالاختيار. ف « أن » إذًا في موضع نصب لما وصفت من المعنى, لأن معنى الكلام: اختر أن تلقي أنت, أو نلقي نحن, والكلام مع « إما » إذا كان على وجه الأمر, فلا بد من أن يكون فيه « أن » ، كقولك للرجل: « إما أن تمضي, وإما أن تقعد » , بمعنى الأمر: امض أو اقعد, فإذا كان على وجه الخبر، لم يكن فيه « أن » كقوله: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [ التوبة: 106 ] . وهذا هو الذي يسمى « التخيير » وكذلك كل ما كان على وجه الخبر, و « إما » في جميع ذلك مكسورة. .
القول في تأويل قوله : قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ( 116 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال موسى للسحرة: ( ألقوا ) ما أنتم ملقون! فألقت السحرة ما معهم، فلما ألقوا ذلك « سحروا أعين الناس » ، خيلوا إلى أعين الناس بما أحدثوا من التخييل والخُدَع أنها تسعى « واسترهبوهم » ، يقول: واسترهبوا الناس بما سحروا في أعينهم, حتى خافوا من العصيّ والحبال, ظنًّا منهم أنها حيات « وجاءوا » كما قال الله، « بسحر عظيم » ، بتخييل عظيم كبير, من التخييل والخداع . وذلك كالذي: -
حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون! فألقوا حبالهم وعصيهم! وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل, ليس منهم رجل إلا معه حبل وعصا « فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم » يقول: فرَّقوهم، فأوجس في نفسه خيفة موسى.
حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال: حدثنا أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: ألقوا حبالا غلاظًا طوالا وخشبًا طوالا قال: فأقبلت يخيَّل إليه من سحرهم أنها تسعى.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: صفّ خمسة عشر ألف ساحر, مع كل ساحر حباله وعصيه. وخرج موسى معه أخوه يتكئ على عصاه حتى أتى الجمعَ، وفرعونُ في مجلسه مع أشراف مملكته, ثم قالت السحرة: يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [ طه: 65- 66 ] . . فكان أوّل ما اختطفوا بسحرهم بصرَ موسى وبصرَ فرعون, ثم أبصارَ الناس بعدُ. ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من العصىّ والحبال, فإذا هي حيات كأمثال الجبال, قد ملأت الوادي يركبُ بعضها بعضًا فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ، [ طه: 67 ] ، وقال: والله إن كانت لعصيًّا في أيديهم, ولقد عادت حيات! وما تعدو عصايَ هذه! أو كما حدّث نفسه. .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية , عن هشام الدستوائي قال، حدثنا القاسم بن أبي بزة قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحر, وألقوا سبعينَ ألف حبل، وسبعين ألف عصًا, حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
القول في تأويل قوله : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( 117 )
يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك, فألقاها فاذا هي تلقم وتبتلع ما يسحرون كذبًا وباطلا.
يقال منه: لقفت الشيء فأنا ألقُفُه لَقْفًا ولَقَفَانًا. .
وذلك كالذي:-
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك » , فألقى موسى عصاه, فتحولت حية, فأكلت سحرهم كله.
حدثنا عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس: فألقى عصاه فإذا هي حية تلقف ما يأفكون لا تمر بشيء من حبالهم وخُشُبهم التي ألقوها إلا التقمته, فعرفت السحرة أن هذا أمرٌ من السماء, وليس هذا بسحر, فخرُّوا سجَّدًا وقالوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ . .
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: أوحى الله إلى موسى: لا تخف, وألق ما في يمينك تلقف ما يأفكون. فألقى عصاه، فأكلت كل حية لهم. فلما رأوا ذلك سجدوا, وقالوا: آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: أوحى الله إليه: أن ألق ما في يمينك! فألقى عصاه من يده, فاستعرضَت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم, وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى، فجعلت تلقفها، تبتلعها، حية حية, حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوه. ثم أخذها موسى، فإذا هى عصاه في يده كما كانت, ووقع السحرة سجدًا قالوا: « آمنا برب العالمين رب موسى وهارون. لو كان هذا سحرا ما غلبنا » ! .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن هشام الدستوائي قال، حدثنا القاسم بن أبي بزة قال: أوحى الله إليه: أن ألق عصاك! فألقى عصاه، فاذا هي ثعبان فاغرٌ فاه , فابتلع حبالهم وعصيهم. فألقي السحرة عند ذلك سجّدًا، فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنارَ وثوابَ هلهما. .
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد, في قول الله: « يأفكون » قال: يكذبون.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « فإذا هي تلقف ما يأفكون » ، قال: يكذبون.
حدثنا إبراهيم بن المستمر قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا قرة بن خالد السدوسي, عن الحسن: « تلقف ما يأفكون » ، قال: حيالهم وعصيهم، تسترطها استراطا. .
القول في تأويل قوله : فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 118 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فظهر الحق وتبين لمن شهده وحضره في أمر موسى, وأنه لله رسول يدعو إلى الحق « وبطل ما كانوا يعملون » ، من إفك السحر وكذبه ومخايله.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « فوقع الحق » ، قال: ظهر.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر, عن أبيه, عن مجاهد في قوله: « فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون » ، قال: ظهر الحق، وذهب الإفك الذي كانوا يعملون.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, في قوله: « فوقع الحق » ، قال: ظهر الحق.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فوقع الحق » ، ظهر موسى.
القول في تأويل قوله : فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ( 119 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فغلب موسى فرعون وجموعه « هنالك » ، عند ذلك « وانقلبوا صاغرين » ، يقول: وانصرفوا عن موطنهم ذلك بصغر مقهورين. . يقال منه: « صغِرَ الرجل يصْغَر صَغَرًا وصُغْرًا وصَغارًا. »
القول في تأويل قوله : وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ( 120 )
القول في تأويل قوله : قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 121 ) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ( 122 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وألقي السحرة عندما عاينوا من عظيم قدرة الله, ساقطين على وجوههم سجَّدًا لربهم، يقولون: « آمنا برب العالمين » , يقولون: صدقنا بما جاءنا به موسى، وأنّ الذي علينا عبادته، هو الذي يملك الجنّ والإنس وجميع الأشياء, وغير ذلك, ويدبر ذلك كله « رب موسى وهارون » , لا فرعون، كالذي:-
حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما رأت السحرة ما رأت, عرفت أن ذلك أمر من السماء وليس بسحر, فخروا سجدًا, وقالوا: « آمنا برب العالمين* رب موسى وهارون » .
القول في تأويل قوله : قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 123 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال فرعون للسحرة إذ آمنوا بالله يعني صدّقوا رسوله موسى عليه السلام، لما عاينوا من عظيم قدرة الله وسلطانه: « آمنتم به » ، يقول: أصدقتم بموسى وأقررتم بنبوّته « قبل أن آذن لكم » ، بالإيمان به « إن هذا » ، يقول: تصديقكم إياه, وإقراركم بنبوّته « لمكر مكرتموه في المدينة » ، يقول لخدعة خدعتم بها من في مدينتنا، لتخرجوهم منها « فسوف تعلمون » ، ما أفعل بكم, وما تلقون من عقابي إياكم على صنيعكم هذا.
وكان مكرهم ذلك فيما:-
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي, في حديث ذكره، عن أبي مالك وعلي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, وعن مرة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: التقى موسى وأميرُ السحرة, فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي، وتشهد أنّ ما جئت به حق؟ قال الساحر: لآتين غدًا بسحر لا يغلبه سحر, فوالله لئن غلبتني لأومنن بك، ولأشهدن أنك حق! وفرعون ينظر إليهم، فهو قول فرعون: « إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة » ، إذ التقيتما لتتظاهرا فتخرجا منها أهلها. .
القول في تأويل قوله : لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ( 124 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل فرعون للسحرة إذ آمنوا بالله وصدقوا رسوله موسى: « لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف » ، وذلك أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى, أو يقطع يده اليسرى ورجله اليمنى, فيخالف بين العضوين في القَطْع, فمخالفته في ذلك بينهما هو « القطع من خلاف » . .
ويقال: إن أوّل من سن هذا القطع فرعون « ثم لأصلبنكم أجمعين » ، وإنما قال هذا فرعون, لما رأى من خذلان الله إياه، وغلبة موسى عليه السلام وقهره له.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري وحبوية الرازي, عن يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين » ، قال: أوّل من صلّب، وأول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف، فرعون. .
القول في تأويل قوله : قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ( 125 ) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ( 126 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال السحرة مجيبة لفرعون, إذ توعَّدهم بقطع الأيدي والأرجل من خلاف, والصلب: « إنا إلى ربّنا منقلبون » يعني بالانقلاب إلى الله، الرجوع إليه والمصير وقوله: « وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا » ، يقول: ما تنكر منا، يا فرعون، وما تجد علينا, إلا من أجل أن آمنا، أي صدقنا « بآيات ربنا » , يقول: بحجج ربّنا وأعلامه وأدلته التي لا يقدر على مثلها أنت ولا أحد، سوى الله, الذي له ملك السموات والأرض. . ثم فزعوا إلى الله بمسألته الصبرَ على عذاب فرعون, وقبض أرواحهم على الإسلام فقالوا: ( ربنا أفرغ علينا صبرًا ) ، يعنون بقولهم: « أفرغ » ، أنـزل علينا حَبْسًا يحبسنا عن الكفر بك، عند تعذيب فرعون إيانا ( وتوفنا مسلمين ) ، يقول: واقبضنا إليك على الإسلام دين خليلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم, لا على الشرك بك .
فحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ، فقتلهم وصلبهم, كما قال عبد الله بن عباس، حين قالوا: ( ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفّنا مسلمين ) . قال: كانوا في أول النهار سحرة, وفى آخر النهار شهداء.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن عبد العزيز بن رفيع, عن عبيد بن عمير قال: كانت السحرة أول النهار سحرة, وآخر النهار شهداء.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ، قال: ذكر لنا أنهم كانوا في أوّل النهار سحرة, وآخره شهداء.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين ) ، قال: كانوا أوّل النهار سحرة , وآخره شهداء.
القول في تأويل قوله : وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ( 127 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقالت جماعة رجال من قوم فرعون لفرعون أتدع موسى وقومه من بني إسرائيل « ليفسدوا في الأرض » ، يقول: كي يفسدوا خدمك وعبيدك عليك في أرضك من مصر ( ويذرك وآلهتك ) ، يقول: « ويذرك » ، ويدع خِدْمتك موسى وعبادتك وعبادة آلهتك.
وفي قوله: ( ويذرك وآلهتك ) ، وجهان من التأويل.
أحدهما: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، وقد تركك وترك عبادتك وعبادة آلهتك وإذا وجه الكلام إلى هذا الوجه من التأويل، كان النصبُ في قوله: ( ويذرك ) ، على الصرف, لا على العطف به على قوله: « ليفسدوا » .
والثاني: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، وليذرك وآلهتك كالتوبيخ منهم لفرعون على ترك موسى ليفعل هذين الفعلين. وإذا وجِّه الكلام إلى هذا الوجه، كان نصب: ( ويذرك ) على العطف على ( ليفسدوا ) . قال أبو جعفر: والوجه الأول أولى الوجهين بالصواب, وهو أن يكون نصب ( ويذرك ) على الصرف, لأن التأويل من أهل التأويل به جاء.
وبعدُ, فإن في قراءة أبيّ بن كعب الذي:-
حدثنا أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج عن هارون قال، في حرف أبي بن كعب: ( وقَدْ تَرَكُوكَ أَنْ يَعْبُدُوكَ وآلِهَتَكَ ) .
دلالةً واضحةً على أن نصب ذلك على الصرف.
وقد روي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: ( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) ، عطفًا بقوله: ( ويذرك ) على قوله: ( أتذر موسى ) . كأنه وجَّه تأويله إلى: أتذر موسى وقومه، ويذرك وآلهتك، ليفسدوا في الأرض. وقد تحتمل قراءة الحسن هذه أن يكون معناها: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، وهو يذرك وآلهتك؟ فيكون « يذرك » مرفوعًا بابتداء الكلام والسلامة من الحوادث.
وأما قوله: ( وآلهتك ) ، فإن قرأة الأمصار على فتح « الألف » منها ومدِّها, بمعنى: وقد ترك موسى عبادتك وعبادة آلهتك التي تعبدها.
وقد ذكر عن ابن عباس أنه قال: كان له بقرة يعبدها.
وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما كانا يقرآنها: ( وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ ) بكسر الألف بمعنى: ويذرك وعبودتك.
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نرى القراءة بغيرها, هي القراءة التي عليها قرأة الأمصار، لإجماع الحجة من القرأة عليها.
* ذكر من قال: كان فرعون يعبد آلهة على قراءة من قرأ: ( ويذرك وآلهتك ) .
حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ويذرك وآلهتك ) ، وآلهته فيما زعم ابن عباس, كانت البقر، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها, فلذلك أخرج لهم عِجْلا وبقرة.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان, عن عمرو, عن الحسن قال: كان لفرعون جمانة معلقة في نحره، يعبدها ويسجد لها.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا أبان بن خالد قال، سمعت الحسن يقول: بلغني أن فرعون كان يعبدُ إلهًا في السر، وقرأ: « ويذرك وآلهتك » .
حدثنا محمد بن سنان, قال : حدثنا أبو عاصم, عن أبي بكر, عن الحسن قال: كان لفرعون إله يعبده في السر.
* ذكر من قال: معنى ذلك: ويذرك وعبادتك, على قراءة من قرأ: ( وَإَلاهَتَكَ ) .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن محمد بن عمرو بن الحسن, عن ابن عباس: ( وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ ) قال: إنما كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبُد.
. . . قال، حدثنا أبي, عن نافع, عن ابن عمر, عن عمرو بن دينار, عن ابن عباس أنه قرأ، ( ويَذَرَكَ وإِلاهَتَكَ ) قال: وعبادتك, ويقول: إنه كان يُعْبَد ولا يَعْبُد.
حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ ) ، قال: يترك عبادتك.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن عمرو بن دينار, عن ابن عباس أنه كان يقرأ: ( وَإِلاهَتَكَ ) ، يقول: وعبادتك.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ ) ، قال: عبادتك.
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان, عن عمرو بن دينار, عن محمد بن عمرو بن حسين, عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: ( وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ ) ، وقال : إنما كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبُد.
وقد زعم بعضهم: أن من قرأ: « وَإِلاهَتَكَ » ، إنما يقصد إلى نحو معنى قراءة من قرأ: ( وآلِهَتَكَ ) ، غير أنه أنّث وهو يريد إلهًا واحدًا, كأنه يريد: ويذرك وإلاهك ثم أنث « الإله » فقال: « وإلاهتك » .
وذكر بعض البصريين أن أعرابيًّا سئل عن « الإلاهة » فقال: « هي عَلَمة » يريد علمًا, فأنث « العلم » , فكأنه شيء نصب للعبادة يعبد. وقد قالت بنت عتيبة بن الحارث اليربوعي: تَرَوَّحْنَــا مِــنَ اللَّعْبَــاء قَصْـرًا وَأَعْجَلْنَـــا الإلاهَــةَ أَنْ تَؤُوبَــا
يعني بـ « الإلاهة » ، في هذا الموضع، الشمس. وكأنّ هذا المتأول هذا التأويل, وجّه « الإلاهة » ، إذا أدخلت فيها هاء التأنيث, وهو يريد واحد « الآلهة » , إلى نحو إدخالهم « الهاء » في « وِلْدتي » و « كوكبتي » و « مَاءتي » , وهو « أهلة ذاك » , وكما قال الراجز: يَـا مُضَـرُ الْحَـمْرَاءُ أَنْـتِ أُسْـرَتِي وأنــت ملجــاتي وأنـت ظهـرتي
يريد: ظهري.
وقد بين ابن عباس ومجاهد ما أرادا من المعنى في قراءتهما ذلك على ما قرآ, فلا وجه لقول هذا القائل ما قال، مع بيانهما عن أنفسهما ما ذهبا إليه من معنى ذلك.
وقوله: ( قال سنقتل أبناءهم ) ، يقول: قال فرعون: سنقتل أبناءهم الذكور من أولاد بني إسرائيل ( ونستحيي نساءهم ) ، يقول: ونستبقي إناثهم ( وإنا فوقهم قاهرون ) ، يقول: وإنا عالون عليهم بالقهر, يعني بقهر الملك والسلطان.
وقد بينا أن كل شيء عالٍ بالقهر وغلبة على شيء, فإن العرب تقول: هو فوقه.
القول في تأويل قوله : قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( 128 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « قال موسى لقومه » ، من بني إسرائيل، لما قال فرعون للملأ من قومه: « سنقتل أبناء بني إسرائيل ونستحيي نساءهم » : ( استعينوا بالله ) على فرعون وقومه فيما ينوبكم من أمركم « واصبروا » على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم من فرعون. وكان قد تبع موسى من بني إسرائيل على ما: -
حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما آمنت السحرة, اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل.
وقوله: ( إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ) ، يقول: إن الأرض لله, لعل الله أن يورثكم إن صبرتم على ما نالكم من مكروه في أنفسكم وأولادكم من فرعون, واحتسبتم ذلك, واستقمتم على السداد أرضَ فرعون وقومه, بأن يهلكهم ويستخلفكم فيها, فإن الله يورث أرضه من يشاء من عباده ( والعاقبة للمتقين ) ، يقول: والعاقبة المحمودة لمن اتقى الله وراقبه, فخافه باجتناب معاصيه وأدَّى فرائضه.
القول في تأويل قوله : قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( 129 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم موسى لموسى، حين قال لهم اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ( أوذينا ) بقتل أبنائنا ( من قبل أن تأتينا ) ، يقول: من قبل أن تأتينا برسالة الله إلينا، لأن فرعون كان يقتل أولادهم الذكور حين أظلَّه زمان موسى على ما قد بينت فيما مضى من كتابنا هذا. وقوله: ( ومن بعد ما جئتنا ) ، يقول: ومن بعد ما جئتنا برسالة الله, لأن فرعون لما غلبت سَحرَته، وقال للملأ من قومه ما قال, أراد تجديدَ العذاب عليهم بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم.
وقيل: إن قوم موسى قالوا لموسى ذلك، حين خافوا أن يدركهم فرعون وهم منه هاربون, وقد تراءى الجمعان, فقالوا له: ( يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ) ، كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا ( ومن بعد ما جئتنا ) ، اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( من قبل أن تأتينا ) ، من قبل إرسال الله إياك وبعده.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي : فلما تراءى الجمعان فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد رَدِفهم, قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، وقالوا: ( أوذينا من قبل أن تأتينا ) ، كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا ( ومن بعد ما جئتنا ) ، اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا إنا لمدركون.
حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: سار موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر, فالتفتوا فإذا هم برَهَج دوابِّ فرعون, فقالوا: « يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا » , هذا البحر أمامنا وهذا فرعون بمن معه! قال: ( عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) .
وقوله: ( قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ) ، يقول جل ثناؤه: قال موسى لقومه: لعل ربكم أن يهلك عدوكم : فرعون وقومه ( ويستخلفكم ) ، يقول: يجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم, لا تخافونهم ولا أحدًا من الناس غيرهم ( فينظر كيف تعملون ) ، يقول: فيرى ربكم ما تعملون بعدهم، من مسارعتكم في طاعته، وتثاقلكم عنها.
القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( 130 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد اختبرنا قوم فرعون وأتباعه على ما هم عليه من الضلالة « بالسنين » , يقول: بالجُدوب سنة بعد سنة، والقحوط.
يقال منه: « أسْنَتَ القوم » ، إذا أجدبوا.
( ونقص من الثمرات ) ، يقول: واختبرناهم مع الجدوب بذهاب ثمارهم وغلاتهم إلا القليل ( لعلهم يذكرون ) ، يقول: عظة لهم وتذكيرًا لهم, لينـزجروا عن ضلالتهم، ويفزعوا إلى ربهم بالتوبة. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن أبي إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عبد الله: ( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ) ، قال: سني الجوع.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( بالسنين ) ، الجائحة ( ونقص من الثمرات ) ، دون ذلك.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثني القاسم بن دينار قال، حدثنا عبيد الله بن موسى, عن شيبان, عن أبي إسحاق, عن رجاء بن حيوة في قوله: ( ونقص من الثمرات ) ، قال: حيث لا تحمل النخلة إلا تمرة واحدة.
حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن رجاء بن حيوة, عن كعب قال: يأتي على الناس زمانٌ لا تحمل النخلة إلا ثمرة.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن رجاء بن حيوة: ( ونقص من الثمرات ) ، قال: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة.
حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتاده, قوله: ( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ) ، أخذهم الله بالسنين، بالجوع، عامًا فعامًا ( ونقص من الثمرات ) ، فأما « السنين » فكان ذلك في باديتهم وأهل مواشيهم وأما « بنقص من الثمرات » فكان ذلك في أمصارهم وقراهم.
القول في تأويل قوله : فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ( 131 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإذا جاءت آل فرعون العافية والخصب والرخاء وكثرة الثمار, ورأوا ما يحبون في دنياهم ( قالوا لنا هذه ) ، نحن أولى بها ( وإن تصبهم سيئة ) ، يعني جدوب وقحوط وبلاء ( يطيروا بموسى ومن معه ) ، يقول: يتشاءموا ويقولوا: ذهبت حظوظنا وأنصباؤنا من الرخاء والخصب والعافية, مذ جاءنا موسى عليه السلام .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( فإذا جاءتهم الحسنة ) ، العافية والرخاء ( قالوا لنا هذه ) ، نحن أحق بها ( وإن تصبهم سيئة ) ، بلاء وعقوبة ( يطيروا ) ، يتشاءموا بموسى.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ) ، قالوا: ما أصابنا هذا إلا بك يا موسى وبمن معك, ما رأينا شرًّا ولا أصابنا حتى رأيناك! وقوله: ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه ) ، قال: الحسنة ما يحبُّون. وإذا كان ما يكرهون قالوا: ما أصابنا هذا إلا بشؤم هؤلاء الذين ظلموا! قال قوم صالح: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ، فقال الله إنما: طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ، [ سورة النمل: 47 ] .
القول في تأويل قوله : أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 131 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا ما طائر آل فرعون وغيرهم وذلك أنصباؤهم من الرخاء والخصب وغير ذلك من أنصباء الخير والشر « إلا عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون » ، أن ذلك كذلك, فلجهلهم بذلك كانوا يطَّيّرون بموسى ومن معه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( ألا إنما طائرهم عند الله ) ، يقول: مصائبهم عند الله. قال الله: ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) .
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ( ألا إنما طائرهم عند الله ) ، قال: الأمر من قبل الله.
القول في تأويل قوله : وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ( 132 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال آل فرعون لموسى: يا موسى، مهما تأتنا به من علامة ودلالة « لتسحرنا » , يقول: لتلفتنا بها عما نحن عليه من دين فرعون ( فما نحن لك بمؤمنين ) ، يقول: فما نحن لك في ذلك بمصدقين على أنك محق فيما تدعونا إليه.
وقد دللنا فيما مضى على معنى « السحر » بما أغنى عن إعادته.
وكان ابن زيد يقول في معنى: ( مهما تأتنا به من آية ) ، ما: -
حدثني يونس قال، [ أخبرنا ابن وهب ] ، قال ابن زيد في قوله: ( مهما تأتنا به من آية ) ، قال: إن ما تأتنا به من آية وهذه فيها زيادة « ما » .
القول في تأويل قوله : فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « الطوفان » . فقال بعضهم: هو الماء.
ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن وكيع قال، حدثنا حبوية أبو يزيد, عن يعقوب القمي, عن جعفر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: لما جاء موسى بالآيات, كان أول الآيات الطوفان, فأرسل الله عليهم السماء.
حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا سفيان, عن إسماعيل, عن أبي مالك قال: « الطوفان » ، الماء.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك قال: « الطوفان » ، الماء.
. . . قال، حدثنا جابر بن نوح, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: « الطوفان » ، الغرق.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « الطوفان » ، الماء، « والطاعون » ، على كل حال.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « الطوفان » ، الموت على كل حال.
حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: « الطوفان » ، الماء.
وقال آخرون: بل هو الموت.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا المنهال بن خليفة, عن الحجاج, عن الحكم بن ميناء, عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطوفان الموتُ.
حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال، سألت عطاء: ما الطوفان؟ قال: الموت.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء, عن ابن جريج, عن عطاء عمن حدثه, عن مجاهد قال: « الطوفان » ، الموت.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن عبد الله بن كثير: ( فأرسلنا عليهم الطوفان ) ، قال: الموت قال ابن جريج: وسألت عطاء عن « الطوفان » , قال: الموت قال ابن جريج: وقال مجاهد: الموتُ على كل حال.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن المنهال بن خليفة, عن حجاج, عن رجل, عن عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطوفان الموت . وقال آخرون: بل ذلك كان أمرًا من الله طاف بهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا جرير, عن قابوس بن أبي ظبيان, عن أبيه, عن ابن عباس: ( فأرسلنا عليهم الطوفان ) ، قال: أمرُ الله الطوفان, ثم قرأ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ، [ القلم: 19 ] .
وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة, يزعم أن « الطوفان » من السيل: البُعَاق والدُّباش, وهو الشديد. ومن الموت المبَالغ الذَّريع السريع.
وقال بعضهم: هو كثرة المطر والريح.
وكان بعض نحويي الكوفيين يقول: « الطوفان » مصدر مثل « الرجحان » و « النقصان » ، لا يجمع.
وكان بعض نحويي البصرة يقول: هو جمع, واحدها في القياس « الطوفانة » .
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي, ما قاله ابن عباس، على ما رواه عنه أبو ظبيان أنه أمر من الله طاف بهم, وأنه مصدر من قول القائل: « طاف بهم أمر الله يطوف طُوفَانًا » , كما يقال: « نقص هذا الشيء ينقُص نُقْصَانًا » . وإذا كان ذلك كذلك, جاز أن يكون الذي طاف بهم المطر الشديد وجاز أن يكون الموتَ الذريعَ. ومن الدلالة على أن المطر الشديد قد يسمى « طوفانًا » قول حُسَيل بن عُرْفطة
غَـــيَّر الجِـــدَّةُ مِــنْ آيَاتِهَــا خُــرُقُ الــرِّيحِ وَطُوفَـانُ المَطَـرْ
ويروى:
خُرُقُ الرِّيحِ بِطُوفَان المَطَرْ
وقول الراعي:
تُضْحِــي إذَا العِيسُ أَدْرَكْنَـا نَكَائِثَهَـا خَرْقَـاءَ يَعْتَادُهَـا الطُّوفَـانُ والـزُّؤُدُ
وقول أبي النجم:
قَــدْ مَــدَّ طُوفَــانٌ فَبَـثَّ مَـدَدَا شَــهْرًا شَــآبِيبَ وَشَــهْرًا بَـرَدَا
وأما « القُمَّل » , فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه.
فقال بعضهم: هو السوس الذي يخرج من الحنطة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن يعقوب القمي, عن جعفر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: « القمّل » ، هو السوس الذي يخرج من الحنطة.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بنحوه.
وقال آخرون: بل هو الدَّبَى, وهو صغار الجراد الذي لا أجنحة له.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: « القمّل » ، الدبى.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي, قال: الدبى، القمّل.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: « القمل » ، هو الدَّبَى.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « القمل » ، الدبيَ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة قال: « القُمَّل » ، هي الدَّبَى, وهي أولاد الجراد.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جابر بن نوح, عن أبي روق, عن الضحاك , عن ابن عباس قال: « القمل » ، الدبى.
. . . . قال حدثنا يحيى بن آدم, عن قيس عمن ذكره, عن عكرمة قال: « القمل » ، بناتُ الجراد.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس قال: « القمل » ، الدبَى.
وقال آخرون: بل « القمل » ، البراغيثُ.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا أبن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل ) ، قال: زعم بعض الناس في القمل أنها البراغيث.
وقال بعضهم: هي دوابُّ سُودٌ صغار.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي بكر قال: سمعت سعيد بن جبير والحسن قالا القمّل: دوابّ سود صغار.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن « القمل » ، عند العرب: الحَمْنان والحمنان ضرب من القِرْدان واحدتها: « حَمْنانة » ، فوق القَمقامة. و « القمَّل » جمع، واحدتها « قملة » , وهي دابة تشبه القَمْل تأكلها الإبل فيما بلغني, وهي التي عناها الأعشى في قوله:
قَــوْمٌ تُعَــالِجُ قُمَّــلا أَبْنَــاؤُهُمْ وَسَلاسِــلا أُجُــدًا وَبَابًـا مُؤْصَـدَا
وكان الفراء يقول: لم أسمع فيه شيئًا, فإن لم يكن جمعًا، فواحده « قامل » , مثل « ساجد » و « راكع » , وإن يكن اسمًا على معنى جمع, فواحدته: « قملة » . * ذكر المعاني التي حدثت في قوم فرعون بحدوث هذه الآيات، والسبب الذي من أجله أحدَثها الله فيهم.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: لما أتى موسى فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل! فأبى عليه, فأرسل الله عليهم الطوفان وهو المطر فصبّ عليهم منه شيئًا, فخافوا أن يكون عذابًا, فقالوا لموسى: ادع لنا ربّك أن يكشف عنا المطر، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه, فلم يؤمنوا, ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فأنبت لهم في تلك السنة شيئًا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ. فقالوا: هذا ما كنا نتمنَّى، فأرسل الله عليهم الجراد, فسلَّطه على الكلأ فلما رأوا أثَره في الكلأ عرفوا أنه لا يُبقى الزرع. فقالوا: يا موسى ادْع لنا ربك فيكشف عنا الجرادَ فنؤمن لك, ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه, فكشف عنهم الجرادَ, فلم يؤمنوا, ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فدَاسُوا وأحرزُوا في البيوت, فقالوا: قد أحرزْنَا فأرسل الله عليهم القُمَّل وهو السوس الذي يخرج منه فكان الرجل يخرج عشرة أجرِبة ٍإلى الرحى, فلا يردّ منها ثلاثة أقفِزة. فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنا القمَّل, فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه, فكشف عنهم, فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل . فبينا هو جالس عند فرعون، إذ سمع نقيق ضِفْدَع, فقال لفرعون: ما تلقى أنت وقومك من هذا! فقال: وما عسى أن يكون كيدُ هذا! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذَقْنه في الضفادع, ويهمُّ أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه. فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع, فنؤمن لك, ونرسل معك بني إسرائيل! [ فكشف عنهم فلم يؤمنوا ] فأرسل الله عليهم الدم, فكان ما استقوا من الأنهار والآبار, أو ما كان في أوعيتهم وجدُوه دمًا عَبِطًا, فشكوا إلى فرعون فقالوا: إنا قد ابتلينا بالدّم, وليس لنا شراب! فقال: إنه قد سحركم! فقالوا: من أين سحرنا، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئًا من الماءِ إلا وجدناه دمًا عبيطًا؟ فأتوه فقالوا: يا موسى ادعُ لنا ربك يكشف عنا هذا الدم, فنؤمن لك, ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه فكشف عنهم, فلم يؤمنوا, ولم يرسلوا معه بني إسرائيل.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبوية أبو يزيد, عن يعقوب القمي, عن جعفر, عن ابن عباس قال، لما خافوا الغرق، قال فرعون: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنّا هذا المطر، فنؤمن لك ثم ذكر نحو حديث ابن حميد, عن يعقوب.
حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: ثم إن الله أرسل عليهم يعني على قوم فرعون الطوفان، وهو المطر, فغرق كل شيء لهم, فقالوا: يا موسى ادع لنا ربَّك يكشف عنَّا , ونحن نؤمن لك, ونرسل معك بني إسرائيل ! فكشف الله عنهم، ونبتت به زروعهم, فقالوا: ما يسرّنا أنا لم نمطر. فبعث الله عليهم الجراد , فأكل حروثهم, فسألوا موسى أن يدعو ربّه، فيكشفه، ويؤمنوا به. فدعا فكشفه, وقد بقي من زروعهم بقيّة فقالوا: لم تؤمنون، وقد بقي من زرعنا بقيه تكفينا؟ فبعث الله عليهم الدَّبى وهو القمل فلحس الأرض كلها, وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيعضُّه, وكان لأحدهم الطعام فيمتلئ دَبًى, حتى إن أحدهم ليبني الأسطوانة بالجصّ، فيزلّقُها حتى لا يرتقي فوقها شيء, يرفع فوقها الطعام, فإذا صعد إليه ليأكله وجده ملآن دَبًى, فلم يصابوا ببلاء كان أشدَّ عليهم من الدبى وهو « الرِّجْز » الذي ذكر الله في القرآن أنه وقع عليهم فسألوا موسى أن يدعو ربه فيكشف عنهم ويؤمنوا به، فلما كُشف عنهم، أبوا أن يؤمنوا, فأرسل الله عليهم الدَّم, فكان الإسرائيلي يأتي هو والقِبْطي يستقيان من ماء واحد, فيخرج ماءُ هذا القبطي دمًا, ويخرج للإسرائيلي ماءً. فلما اشتدَّ ذلك عليهم، سألوا موسى أن يكشفه ويؤمنوا به, فكشف ذلك, فأبوا أن يؤمنوا, وذلك حين يقول الله: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ، [ الزخرف: 50 ]
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( فأرسلنا عليهم الطوفان ) ، قال: أرسل الله عليهم الماءَ حتى قاموا فيه قيامًا. ثم كشف عنهم فلم يؤمنوا, وأخصبت بلادهم خصبًا لم تخصب مثله، فأرسل الله عليه الجرادَ فأكله إلا قليلا فلم يؤمنوا أيضًا. فأرسل الله القمّل وهي الدَّبى, وهي أولاد الجراد فأكلت ما بقي من زروعهم , فلم يؤمنوا. فأرسل عليهم الضفادع, فدخلت عليهم بيوتهم, ووقعت في آنيتهم وفُرشهم, فلم يؤمنوا. ثم أرسل الله عليهم الدمَ, فكان أحدهم إذا أراد أن يشرب تحوَّل ذلك الماء دمًا، قال الله: ( آيات مفصلات ) .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( فأرسلنا عليهم الطوفان ) ، حتى بلغ: ( مجرمين ) ، قال: أرسل الله عليهم الماء حتى قاموا فيه قيامًا , فدعوا موسى، فدعا ربّه فكشفه عنهم, ثم عادوا لسوء ما يحضر بهم. ثم أنبتت أرضهم، ثم أرسل الله عليهم الجراد, فأكل عامة حُروثهم وثمارهم. ثم دعوا موسى فدعا ربه فكشف عنهم، ثم عادوا بشرِّ ما يحضر بهم. فأرسل الله عليهم القمل, هذا الدبى الذي رأيتم, فأكل ما أبقى الجراد من حُروثهم, فلحسه. فدعوا موسى, فدعا ربه فكشفه عنهم, ثم عادوا بشرّ ما يحضر بهم. ثم أرسل الله عليهم الضفادع حتى ملأت بيوتهم وأفنيتهم. فدعوا موسى, فدعا ربه فكشف عنهم. ثم عادوا بشرّ ما يحضر بهم, فأرسل الله عليهم الدم, فكانوا لا يغترفون من مائهم إلا دمًا أحمر, حتى لقد ذُكر أنَّ عدو الله فرعون، كان يجمع بين الرجلين على الإناء الواحد, القبطي والإسرائيلي, فيكون مما يلي الإسرائيلي ماءً, ومما يلي القبطي دمًا. فدعوا موسى, فدعا ربه, فكشفه عنهم في تسع آياتٍ: السنين, ونقص من الثمرات, وأراهم يدَ موسى عليه السلام وعصاه.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( فأرسلنا عليهم الطوفان ) ، وهو المطر، حتى خافوا الهلاك, فأتوا موسى فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنّا المطر, [ إنا نؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربّه فكشف عنهم المطر ] ، فأنبت الله به حرثهم, وأخصب به بلادهم, فقالوا: ما نحبُّ أنا لم نُمطر بترك ديننا, فلن نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل! فأرسل الله عليهم الجراد, فأسرعَ في فسادِ ثمارهم وزروعهم, فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك [ أن يكشف عنا الجراد, فإنا سنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! ] . فدعا ربه, فكشف عنهم الجراد. وكان قد بقي من زروعهم ومعاشهم بقايا, فقالوا، قد بقي لنا ما هو كافينا, فلن نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل. فأرسل الله عليهم القُمَّل وهو الدَّبى فتتبع ما كان ترك الجراد, فجزعوا وأحسُّوا بالهلاك، قالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا الدَّبى, فإنا سنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه, فكشف عنهم الدَّبى, فقالوا: ما نحن لك بمؤمنين، ولا مرسلين معك بني إسرائيل! فأرسل الله عليهم الضفادع, فملأ بيوتهم منها, ولقُوا منها أذًى شديدًا لم يلقوا مثله فيما كان قبله, أنها كانت تثبُ في قدورهم, فتفسد عليهم طعامهم, وتطفئ نيرانهم. قالوا: يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا الضفادع, فقد لقينا منها بلاءً وأذًى, فإنا سنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه, فكشف عنهم الضفادع, فقالوا: لا نؤمن لك, ولا نرسل معك بني إسرائيل! فأرسل الله عليهم الدّم, فجعلوا لا يأكلون إلا الدم, ولا يشربون إلا الدم, فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك أن يكشف عنّا الدم, فإنا سنؤمن لك, ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه، فكشف عنهم الدم, فقالوا: يا موسى، لن نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل! فكانت آيات مفصَّلات بعضها على إثر بعض, ليكون لله عليهم الحجة, فأخذهم الله بذنوبهم, فأغرقهم في اليمّ.
حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: أرسل على قوم فرعون الآيات: الجراد, والقمّل, والضفادع, والدم، آياتٌ مفصّلات. قال: فكان الرجل من بني إسرائيل يركبُ مع الرجل من قوم فرعون في السّفينة, فيغترف الإسرائيلي ماءً, ويغترف الفرعوني دمًا. قال: وكان الرجل من قوم فرعون ينام في جانب, فيكثر عليه القمل والضفادع حتى لا يقدر أن ينقلب على الجانب الآخر. فلم يزالوا كذلك حتى أوحى الله إلى موسى: أنْ أسْرِ بعبادِي إنكم متَّبعون.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: لما أتى موسى فرعون بالرسالة، أبى أن يؤمن وأن يرسل معه بني إسرائيل, فاستكبر قال: لن أرسل معك بني إسرائيل ! فأرسل الله عليهم الطوفان وهو الماء أمطر عليهم السماء، حتى كادوا يهلكون، وامتنع منهم كل شيء, فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك بما عهد عندك، لئن كشفت عنّا هذا لنؤمننّ لك ولنرسلن معك بني إسرائيل! فدعا الله فكشف عنهم المطر, فأنبت الله لهم حُروثهم, وأحيا بذلك المطر كل شيء من بلادهم, فقالوا: والله ما نحبَّ أنا لم نكن أمطرنا هذا المطر, ولقد كان خيرًا لنا, فلن نرسل معك بني إسرائيل, ولن نؤمن لك يا موسى! فبعث الله عليهم الجراد, فأكل عامة حروثهم, وأسرع الجراد في فسادِها, فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنا الجراد, فإنا مؤمنون لك, ومرسلون معك بني إسرائيل ! فكشف الله عنهم الجراد. وكان الجراد قد أبقى لهم من حروثهم بقيَّة, فقالوا: قد بَقي لنا من حروثنا ما كان كافِينَا, فما نحن بتاركي ديننا, ولن نؤمن لك, ولن نرسل معك بني إسرائيل ! فأرسل الله عليهم القمّل و « القمّل » ، الدبى، وهو الجراد الذي ليست له أجنحة فتتبع ما بقي من حروثهم وشجرهم وكل نبات كان لهم, فكان القمّل أشدّ عليهم من الجراد، فلم يستطيعوا للقمل حيلةً, وجزعوا من ذلك. وأتوا موسى, فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنا القمل, فإنه لم يبق لنا شيئًا, قد أكل ما بقي من حروثنا, ولئن كشفت عنا القمل لنؤمنن لك, ولنرسلن معك بني إسرائيل ! فكشف الله عنهم القمل، فنكثوا, وقالوا: لن نؤمن لك, ولن نرسل معك بني إسرائيل! فأرسل الله عليهم الضفادع, فامتلأت منها البيوتُ, فلم يبق لهم طعام ولا شراب إلا وفيه الضفادع, فلقوا منها شيئًا لم يلقوه فيما مضى, فقالوا: يا موسى ادع لنا ربّك لئن كشفت عنا الرِّجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ! قال: فكشف الله عنهم، فلم يفعلوا, فأنـزل الله: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ، إلى: وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا الحسن بن واقد, عن زيد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: كانت الضفادع برِّية, فلما أرسلها الله على آل فرعون، سمعت وأطاعت, فجعلت تغرق أنفسها في القُدُور وهي تغلي, وفي التنانير وهي تفور, فأثابها الله بحسن طاعتها بَرْدَ الماء.
حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: فرجع عدوّ الله يعني فرعون, حين آمنت السحرة مغلوبًا مغلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتماديَ في الشر, فتابع الله عليه بالآيات, وأخذه بالسنين, فأرسل عليه الطوفان, ثم الجراد, ثم القمل, ثم الضفادع , ثم الدم، آيات مفصلات، , فأرسل الطوفان وهو الماء ففاض على وجه الأرض, ثم ركد, لا يقدرون على أن يحرُثوا, ولا يعملوا شيئًا, حتى جُهِدوا جوعًا; فلما بلغهم ذلك، قالوا: يا موسى، ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك, ولنرسلن معك بني إسرائيل ! فدعا موسى ربه, فكشفه عنهم, فلم يفُوا له بشيء مما قالوا, فأرسل الله عليهم الجراد, فأكل الشجر، فيما بلغني, حتى إنْ كان ليأكل مساميرَ الأبواب من الحديد، حتى تقع دورهم ومساكنهم, فقالوا مثل ما قالوا, فدعا ربه فكشفه عنهم, فلم يفوا له بشيء مما قالوا. فأرسل الله عليهم القمّل, فذكر لي أنّ موسى أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه. فمضى إلى كثيبٍ أهيل عظيم, فضربه بها, فانثَالَ عليهم قمَّلا حتى غلب على البيوت والأطعمة, ومنعهم النوم والقرار. فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا, فدعا ربه فكشفه عنهم, فلم يفوا له بشيء مما قالوا, فأرسل الله عليهم الضفادع, فملأت البيوت والأطعمة والآنية , فلا يكشف أحدٌ ثوبًا ولا طعامًا ولا إناء إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه. فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا, فدعا ربه فكشفه عنهم, فلم يفوا له بشيء مما قالوا. فأرسل الله عليهم الدم , فصارت مياه آل فرعون دمًا, لا يستقون من بئر ولا نهر, ولا يغترفون من إناء، إلا عاد دمًا عبيطًا.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق, عن محمد بن كعب القرظي: أنه حُدِّث: أن المرأة من آل فرعون كانت تأتي المرأةَ من بني إسرائيل حين جَهدهم العطش, فتقول: اسقيني من مائك ! فتغرف لها من جرَّتها أو تصبّ لها من قربتها, فيعود في الإناء دمًا, حتى إن كانت لتقول لها: اجعليه في فيك ثم مُجيِّه في فيَّ ! فتأخذ في فيها ماءً, فإذا مجته في فيها صار دمًا, فمكثوا في ذلك سبعةَ أيام.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: الجراد يأكل زروعهم ونباتهم, والضفادع تسقط على فرشهم وأطعمتهم, والدم يكون في بيوتهم وثيابهم ومائهم وطعامهم.
قال، حدثنا شبل, عن عبد الله بن كثير, عن مجاهد قال: لما سال النِّيلُ دمًا, فكان الإسرائيلي يستقي ماء طيّبًا, ويستقي الفرعوني دمًا، ويشتركان في إناء واحد, فيكون ما يلي الإسرائيلي ماءً طيّبًا وما يلي الفرعوني دمًا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي بكر قال، حدثني سعيد بن حبير: أن موسى لمّا عالج فرعون بالآيات الأربع: العصا, واليد, ونقص من الثمرات, والسنين قال: يا رب، إن عبدك هذا قد علا في الأرض وَعتَا في الأرض, وبغى علي, وعلا عليك, وعالى بقومه, ربِّ خذ عبدك بعُقوبة تجعلها له ولقومه نِقْمةً, وتجعلها لقومي عظةً، ولمن بعدي آية في الأمم الباقية ! فبعث الله عليهم الطوفان وهو الماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة بعضها في بعض, فامتلأت بيوت القبط ماءً, حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم, من جَلس منهم غرق, ولم يدخل في بيوت بني إسرائيل قطرة. فجعلت القبط تنادي موسى: ادع لنا ربك بما عهد عندك, لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك, ولنرسلن معك بني إسرائيل ! قال: فواثقوا موسى ميثاقًا أخذَ عليهم به عهودهم, وكان الماء أخذهم يوم السبت, فأقام عليهم سبعة أيام إلى السبت الآخر. فدعا موسى ربه, فرفع عنهم الماء, فأعشبت بلادهم من ذلك الماء, فأقاموا شهرًا في عافية, ثم جحدوا وقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا، وخصبًا لبلادنا, ما نحب أنه لم يكن . قال: وقد قال قائل لابن عباس: إني سألت ابن عمر عن الطوفان, فقال: ما أدري، موتا كان أو ماء! فقال ابن عباس: أما يقرأ ابن عمر « سورة العنكبوت » حين ذكر الله قوم نوح فقال : فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ، [ العنكبوت: 14 ] . أرأيت لو ماتوا، إلى مَنْ جاء موسى عليه السلام بالآيات الأربع بعد الطوفان؟
قال: فقال موسى: يا رب إن عبادك قد نقضُوا عهدك, وأخلفوا وعدي, رب خذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة, ولقومي عظة, ولمن بعدهم آية في الأمم الباقية ! قال: فبعث الله عليهم الجراد، فلم يدع لهم ورقةً ولا شجرة ولا زهرة ولا ثمرة إلا أكله, حتى لم يُبْقِ جَنًى، حتى إذا أفنى الخضر كلها، أكل الخشب, حتى أكل الأبواب وسقوف البيوت. وابتلى الجراد بالجوع, فجعل لا يشبع, غير أنه لا يدخل بيوتَ بني إسرائيل. فعجُّوا وصاحُوا إلى موسى, فقالوا: يا موسى، هذه المرّة ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل ! فأعطوه عهدَ الله وميثاقه, فدعا لهم ربّه, فكشف الله عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، ثم أقاموا شهرًا في عافية, ثم عادوا لتكذيبهم ولإنكارهم, ولأعمالهم أعمال السَّوْء قال: فقال موسى: يا رب، عبادُك، قد نقضوا عهدي، وأخلفوا موعدي, فخذهم بعقوبة تجعلُها لهم نقمة, ولقومي عظة, ولمن بعدي آية في الأمم الباقية ! فأرسل الله عليهم القمَّل قال أبو بكر: سمعت سعيد بن جبير والحسن يقولان: كان إلى جنبهم كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى « عين شمس » , فمشى موسى إلى ذلك الكثيب, فضربه بعصاه ضربةً صارَ قمّلا تدب إليهم وهي دوابّ سود صغار. فدبَّ إليهم القمّل, فأخذ أشعارهم وأبشارهم وأشفارَ عيونهم وحواجبهم, ولزم جلودَهم, كأنه الجدريّ عليهم, فصرخوا وصاحوا إلى موسى: إنا نتوب ولا نعود, فادع لنا ربك! فدعا ربه فرفع عنهم القمل بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت. فأقاموا شهرًا في عافية, ثم عادوا وقالوا: ما كنّا قط أحق أن نستيقن أنه ساحر مِنّا اليوم, جعل الرَّمل دوابّ! وعزَّة فرعون لا نصدِّقه أبدًا ولا نتبعه ! فعادوا لتكذيبهم وإنكارهم, فدعا موسى عليهم فقال: يا رب إن عبادك نقضوا عهدي, وأخلفوا وعدي, فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة, ولقومي عظة , ولمن بعدي آيه في الأمم الباقية ! فأرسل الله عليهم الضفادع, فكان أحدهم يضطجع, فتركبه الضفادع، فتكون عليه رُكَامًا, حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى الشق الآخر, ويفتح فاه لأكْلته, فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه, ولا يعجن عجينًا إلا تسدَّحَت فيه, ولا يطبخ قِدْرًا إلا امتلأت ضفادع، فعذِّبوا بها أشد العذاب, فشكوا إلى موسى عليه السلام وقالوا: هذه المرة نتوب ولا نعود! فأخذَ عهدهم وميثاقهم. ثم دعا ربه, فكشف الله عنهم الضفادع بعد ما أقام عليهم سبعًا من السبت إلى السبت. فأقاموا شهرًا في عافية، ثم عادوا لتكذيبهم وإنكارهم وقالوا: قد تبيَّن لكم سحره, يجعل التراب دوابَّ, ويجيء بالضفادع في غير ماءٍ ! فآذوا موسى عليه السلام فقال موسى: يا رب إن عبادك نقضوا عهدي, وأخلفوا وعدي, فخذهم بعقوبة تجعلها لهم عقوبة, ولقومي عظة , ولمن بعدي آية في الأمم الباقية ! فابتلاهم الله بالدم, فأفسد عليهم معايشهم, فكان الإسرائيلي والقبطيّ يأتيان النيل فيستقيان, فيخرج للإسرائيليّ ماءً, ويخرج للقبطي دمًا, ويقومان إلى الحُبِّ فيه الماءُ, فيخرج للإسرائيلي في إنائه ماءً, وللقبطي دمًا.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا, في قوله: ( فأرسلنا عليهم الطوفان ) ، قال: الموت « والجراد » قال: الجراد يأكل أمتعتهم وثيابهم ومسامير أبوابهم « والقمل » هو الدّبى, سلطه الله عليهم بعد الجراد قال: « والضفادع » ، تسقط في أطعمتهم التي في بيوتهم وفي أشربتهم.
وقال بعضهم: « الدم » الذي أرسله الله عليهم، كان رُعافًا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أحمد بن خالد قال، حدثنا يحيى بن أبي بكير قال، حدثنا زهير قال، قال زيد بن أسلم: أما « القمل » فالقمل وأما « الدم » ، فسلط الله عليهم الرُّعاف.
وأما قوله: ( آيات مفصلات ) ، فإن معناه: علامات ودلالات على صحّة نبوّة موسى, وحقيقة ما دعاهم إليه « مفصلات » , قد فصل بينها, فجعل بعضها يتلو بعضًا, وبعضها في إثر بعض.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: فكانت آيات مفصلات بعضها في إثر بعض, ليكون لله الحجة عليهم, فأخذهم الله بذنُوبهم، فأغرقهم في اليمّ.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( آيات مفصلات ) ، قال: يتبع بعضها بعضًا، ليكون لله عليهم الحجة, فينتقم منهم بعد ذلك. وكانت الآية تمكث فيهم من السبت إلى السبت, وترفع عنهم شهرًا، قال الله عز وجل: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ، [ الأعراف: 136 ] ... الآية.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: ( آيات مفصلات ) ، : أي آية بعد آية، يتبع بعضُها بعضًا.
وكان مجاهد يقول فيما ذكر عنه في معنى « المفصلات » , ما: -
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في « آيات مفصلات » ، قال: معلومات.
القول في تأويل قوله : فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ( 133 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فاستكبر هؤلاء الذين أرسل الله عليهم ما ذكر في هذه الآيات من الآيات والحجج، عن الإيمان بالله وتصديق رسوله موسى صلى الله عليه وسلم واتباعه على ما دعاهم إليه, وتعظموا على الله وعتَوا عليه ( وكانوا قومًا مجرمين ) ، يقول: كانوا قومًا يعملون بما يكرهه الله من المعاصي والفسق عتوًّا وتمرّدًا.
القول في تأويل قوله : وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 134 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « ولما وقع عليهم الرجز » , ولما نـزل بهم عذاب الله, وحَلّ بهم سخطه.
ثم اختلف أهل التأويل في ذلك « الرجز » الذي أحبر الله أنه وقع بهؤلاء القوم.
فقال بعضهم: كان ذلك طاعونًا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: وأمر موسى قومه من بني إسرائيل وذلك بعد ما جاء قوم فرعونَ بالآيات الخمس: الطوفان وما ذكر الله في هذه الآية, فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل فقال: ليذبح كل رجل منكم كبشًا, ثم ليخضب كفّه في دمه, ثم ليضرب به على بابه! فقالت القبط لبني إسرائيل لم تعالجُون هذا الدمَ على أبوابكم؟ فقالوا: إن الله يرسل عليكم عذابًا، فنسلم وتهلكون. فقالت القبط: فما يعرفكم الله إلا بهذه العلامات؟ فقالوا: هكذا أمرنا به نبيّنا! فأصبحوا وقد طُعِنَ من قوم فرعون سبعون ألفًا, فأمسوا وهم لا يتدَافنون. فقال فرعون عند ذلك: ( ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفتَ عنا الرجز ) ، وهو الطاعون, ( لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ) ، فدعا ربه، فكشفه عنهم, فكان أوفاهم كلّهم فرعون, فقال لموسى: اذهب ببني إسرائيل حيث شئت.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبويه الرازي وأبو داود الحفري, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جبير قال حبويه، عن ابن عباس ( لئن كشفت عنا الرجز ) قال: الطاعون.
وقال آخرون: هو العذاب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الرجز » العذاب.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ ، أي العذاب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: ( ولما وقع عليهم الرجز ) ، يقول: العذاب.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولما وقع عليهم الرجز ) ، قال، « الرجز » ، العذاب الذي سلط الله عليهم من الجراد والقمل وغير ذلك, وكلّ ذلك يعاهدونه ثم ينكثون.
وقد بينا معنى « الرجز » فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده المغنية عن إعادتها.
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في هذا الموضع أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن فرعون وقومه أنهم لما وقع عليهم الرجز وهو العذاب والسخط من الله عليهم فزعوا إلى موسى بمسألته ربَّه كشفَ ذلك عنهم. وجائز أن يكون ذلك « الرجز » كان الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم, لأن كل ذلك كان عذابًا عليهم وجائز أن يكون ذلك « الرجز » كان طاعونًا، ولم يخبرنا الله أيّ ذلك كان, ولا صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيِّ ذلك كان خبرٌ، فنسلم له. فالصواب أن نقول فيه كما قال جل ثناؤه: ( ولما وقع عليهم الرجز ) ، ولا نتعداه إلا بالبيان الذي لا تمانع فيه بين أهل التأويل, وهو لمّا حل بهم عذاب الله وسخطه.
( قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك ) ، يقول: بما أوصاك وأمرك به. وقد بينا معنى: « العهد » ، فيما مضى.
( لئن كشفت عنا الرجز ) ، يقول: لئن رفعت عنا العذاب الذي نحن فيه ( لنؤمننّ لك ) ، يقول: لنصدقن بما جئت به ودعوت إليه ولنقرَّنّ به لك ( ولنرسلن معك بني إسرائيل ) ، يقول: ولنخلِّين معك بني إسرائيل فلا نمنعهم أن يذهبوا حيث شاؤوا.
القول في تأويل قوله : فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ( 135 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فدعا موسى ربه فأجابه, فلما رفع الله عنهم العذاب الذي أنـزله بهم ( إلى أجل هم بالغوه ) ، ليستوفوا عذابَ أيامهم التي جعلَها الله لهم من الحياة أجلا إلى وقت هلاكهم ( إذا هم ينكثون ) ، يقول: إذا هم ينقضون عهودَهم التي عاهدوا ربَّهم وموسى, ويقيمون على كفرهم وضلالهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى: ( إلى أجل هم بالغوه ) ، قال: عدد مسمَّى لهم من أيامهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ) ، قال: ما أعطوا من العهود, وهو حين يقول الله: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ، وهو الجوع وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ، [ الأعراف: 130 ] .
القول في تأويل قوله : فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ( 136 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما نكثوا عهودهم « انتقمنا منهم » , يقول: انتصرنا منهم بإحلال نقمتنا بهم، وذلك عذابه « فأغرقناهم في اليمّ » , وهو البحر, كما قال ذو الرمة:
دَاوِيَّــةٌ وَدُجَــى لَيْــلٍ كَأَنَّهُمَــا يَــمٌّ تَـرَاطَنُ فِـي حَافَاتِـهِ الـرُّومُ
وكما قال الراجز:
* كَبَاذِحِ الْيَمِّ سَقَاهُ الْيَمُّ *
( بأنهم كذبوا بآياتنا ) يقول: فعلنا ذلك بهم بتكذيبهم بحججنا وأعلامنا التي أريناهموها ( وكانوا عنها غافلين ) ، يقول: وكانوا عن النقمة التي أحللناها بهم، غافلين قبل حلولها بهم أنّها بهم حالَّةٌ.
و « الهاء والألف » في قوله: « عنها » ، كناية من ذكر « النقمة » , فلو قال قائل: هي كناية من ذكر « الآيات » , ووجّه تأويل الكلام إلى: وكانوا عنها معرضين فجعل إعراضهم عنها غفولا منهم إذ لم يقبلوها, كان مذهبًا. يقال من « الغفلة » , « غفل الرجل عن كذا يغفُل عنه غَفْلة وغُفُولا وغَفَلا » .
القول في تأويل قوله : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ( 137 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأورثنا القوم الذين كان فرعون وقومه يستضعفونهم, فيذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم, ويستخدمونهم تسخيرًا واستعبادًا من بني إسرائيل مشارق الأرض الشأم, وذلك ما يلي الشرق منها « ومغاربها التي باركنا فيها » , يقول: التي جعلنا فيها الخير ثابتًا دائمًا لأهلها.
وإنما قال جل ثناؤه: ( وأورثنا ) ، لأنه أورث ذلك بني إسرائيل بمهلك من كان فيها من العمالقة.
وبمثل الذي قلنا في قوله: ( مشارق الأرض ومغاربها ) ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن إسرائيل , عن فرات القزاز, عن الحسن في قوله: ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ) ، قال: الشأم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل, عن فرات القزاز قال: سمعت الحسن يقول, فذكر نحوه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن فرات القزاز, عن الحسن، الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ، قال: الشأم.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ) ، هي أرض الشأم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قوله: ( مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ) ، قال: التي بارك فيها، الشأم.
وكان بعض أهل العربية يزعم « أن مشارق الأرض ومغاربَها نصب على المحلّ, بمعني: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون في مشارق في الأرض ومغاربها وأن قوله: وأورثنا إنما وقع على قوله: ( التي باركنا فيها ) . »
وذلك قول لا معنى له, لأن بني إسرائيل لم يكن يستضعفهم أيام فرعون غير فرعون وقومه, ولم يكن له سلطان إلا بمصر , فغير جائز والأمر كذلك أن يقال: الذين يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها.
فإن قال قائل: فإن معناه: في مشارق أرض مصر ومغاربها فإن ذلك بعيد من المفهوم في الخطاب، مع خروجه عن أقوال أهل التأويل والعلماء بالتفسير.
وأما قوله: ( وتمت كلمة ربك الحسنى ) ، فإنه يقول: وَفَي وعدُ الله الذي وعد بني إسرائيل بتمامه, على ما وعدهم، من تمكينهم في الأرض, ونصره إياهم على عدوّهم فرعون وأن كلمته الحسنى أن قوله جل ثناؤه: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ، [ القصص: 5- 6 ] .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو قال « حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل ) ، قال: ظهرَ قوم موسى على فرعون، و تمكين الله لهم في الأرض وما ورَّثهم منها. »
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه.
وأما قوله: ( ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ) ، فإنه يقول: وأهلكنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العِمارات والمزارع ( وما كانوا يعرشون ) ، يقول: وما كانوا يبنون من الأبنية والقصور, وأخرجناهم من ذلك كله , وخرَّبنا جميع ذلك.
وقد بينا معنى التعريش أن فيما مضى بشواهده. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: ( وما كانوا يعرشون ) ، يقول: يبنون.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( يعرشون ) ، يبنون البيوت والمساكن ما بلغت, وكان عنبهم غير معرَّش.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: ( يَعْرِشُونَ ) ، بكسر الراء سوى عاصم بن أبي النجود, فإنه قرأه بضمّها.
قال أبو جعفر: وهما لغتان مشهورتان في العرب, يقال: أن عرَش يعرِش ويعْرُش فإذا كان ذلك كذلك, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب لاتّفاق مَعْنَيي ذلك, وأنهما معروفان من كلام العرب. وكذلك تفعل العرب في أن فعَل إذا ردّته إلى الاستقبال, تضمُّ العين منه أحيانًا , وتكسره أحيانًا. غير أن أحبَّ القراءتين إليّ كسر الراء « ، لشهرتها في العامة، وكثرة القرأة بها، وأنها أصحُّ اللغتين. »
القول في تأويل قوله : وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( 138 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعد الآيات التي أريناهموها، والعبر التي عاينوها على يدي نبيّ الله موسى, فلم تزجرهم تلك الآيات، ولم تعظهم تلك العبر والبينات! حتى قالوا مع معاينتهم من الحجج ما يحق أن يذكُرَ معها البهائم, إذ مرُّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم, يقول: يقومون على مُثُل لهم يعبدونها من دون الله « اجعل لنا » يا موسى « إلهًا » , يقول: مثالا نعبده وصنما نتخذُه إلهًا, كما لهؤلاء القوم أصنامٌ يعبدونها. ولا تنبغي العبادة لشيء سوى الله الواحد القهار. وقال موسى صلوات الله عليه: إنكم أيها القوم قوم تجهلون عظمة الله وواجبَ حقه عليكم, ولا تعلمون أنه لا تجوز العبادة لشيء سوى الله الذي له ملك السماوات والأرض.
وذكر عن ابن جريج في ذلك ما: -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج: ( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ) ، قال ابن جريج: « على أصنام لهم » ، قال: تماثيل بقر. فلما كان عجل السامريّ شبِّه لهم أنه من تلك البقر, فذلك كان أوّل شأن العجل: ( قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ) ،
وقيل: إن القوم الذين كانوا عكوفًا على أصنام لهم، الذين ذكرهم الله في هذه الآية, قوم كانوا من لَخْم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا بشر بن عمرو قال، حدثنا العباس بن المفضل, عن أبي العوام, عن قتادة: ( فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ) ،قال: على لخم.
وقيل: إنهم كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم. وقد:-
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: أن أبا واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين, فمررنا بِسدْرة, قلت: يا نبي الله، اجعل لنا هذه ذاتُ أنواط كما للكفار ذاتُ أنواط! وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: « اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة » , إنكم ستركبون سنن الذين من قبلكم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري, عن سنان بن أبي سنان, عن واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين, فمررنا بسدرة, فقلنا: يا نبي الله، اجعل لنا هذه ذات أنواط, فذكر نحوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن محمد بن إسحاق, عن الزهري, عن سنان بن أبي سنان, عن أبي واقد الليثي, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, نحوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا ابن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل, عن ابن شهاب قال، أخبرني سنان بن أبي سنان الديلي, عن أبي واقد الليثي: أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، قال: وكان للكفار سدرة يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم, يقال لها « ذات أنواط، قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، قال: فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط. قال: » قلتم والذي نفسي بيده، ما قال قوم موسى: « اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون » ، إنها السنن، لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم.
القول في تأويل قوله : إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 139 )
قال أبو حعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل موسى لقومه من بني إسرائيل. يقول تعالى ذكره: قال لهم موسى: إن هؤلاء العُكوف على هذه الأصنام, الله مُهْلِكٌ ما هم فيه من العمل ومفسده, ومخسرهم فيه، بإثابته إياهم عليه العذاب المهين « وباطل ما كانوا يعملون » ، من عبادتهم إياها، فمضمحلّ، لأنه غير نافعهم عند مجيء أمر الله وحلوله بساحتهم, ولا مدافع عنهم بأسَ الله إذا نـزل بهم, ولا منقذهم من عذابه إذا عذبهم في القيامة, فهو في معنى ما لم يكن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل, حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قالا جميعًا، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إن هؤلاء متبر ما هم فيه ) ، يقول: مهلك ما هم فيه.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: ( إن هؤلاء متبر ما هم فيه ) ، يقول: خُسْران.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ) ، قال: هذا كله واحد كهيئة: « غفور رحيم » , « عفوّ غفور » . قال: والعرب تقول: « إنه البائس لمُتَبَّرٌ » , « وإنه البائس لَمُخَسَّرٌ » .
القول في تأويل قوله : قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 140 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال موسى لقومه: أسِوَى الله ألتمسكم إلهًا، وأجعل لكم معبودًا تعبدونه, والله الذي هو خالقكم, فضلكم على عالمي دهركم وزمانكم؟ يقول: أفأبغيكم معبودًا لا ينفعكم ولا يضركم تعبدونه، وتتركون عبادة من فضلكم على الخلق؟ إن هذا منكم لجهل!
القول في تأويل قوله : وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 141 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم: واذكروا مع قيلكم هذا الذي قلتموه لموسى بعد رؤيتكم من الآيات والعبر, وبعد النعم التي سلفت مني إليكم, والأيادي التي تقدمت فعلَكم ما فعلتم ( إذ أنجيناكم من آل فرعون ) ، وهم الذين كانوا على منهاجه وطريقته في الكفر بالله من قومه ( يسومونكم سوء العذاب ) ، يقول: إذ يحملونكم أقبح العذاب وسيئه.
وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا ما كان العذاب الذي كان يسومهم سيئه.
( يقتلون أبناءكم ) ، الذكورَ من أولادهم ( ويستحيون نساءكم ) ، يقول: يستبقون إناثهم ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) ، يقول: وفي سومهم إياكم سوء العذاب, اختبار من الله لكم ونعمة عظيمة.
القول في تأويل قوله : وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً
قال أبوجعفر: يقول تعالى ذكره: وواعدنا موسى لمناجاتنا ثلاثين ليلة. وقيل: إنها ثلاثون ليلة من ذي القعدة. ( وأتممناها بعشر ) ، يقول: وأتممنا الثلاثين الليلة بعشر ليال تتمة أربعين ليلة.
وقيل: إن العشر التي أتمها به أربعين, عشر ذي الحجة.
ذكر من قال ذلك.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد: ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر ) ، قال: ذو القعدة، وعشر ذي الحجة.
... قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد: ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر ) ، قال: ذو القعدة، وعشر ذي الحجة. ففي ذلك اختلفوا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ) ، هو ذو القعدة، وعشر من ذي الحجة, فذلك قوله: ( فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) .
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه قال: زعم حضرميٌّ أن الثلاثين التي كان واعدَ موسى ربه، كانت ذا القعدة، والعشرَ من ذي الحجة التي تمم الله بها الأربعين.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ) ، قال: ذو القعدة. ( وأتممناها بعشر ) ، قال: عشر ذي الحجة قال ابن جريج: قال ابن عباس مثله.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر ) ، قال: ذو القعدة, والعشر الأوَل من ذي الحجة.
... قال: حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن مسروق: ( وأتممناها بعشر ) ، قال: عشر الأضحى.
وأما قوله: ( فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) ، فإنه يعني: فكمل الوقت الذي واعد الله موسى أربعين ليلة، وبلغها. كما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج: ( فتم ميقات ربه ) ، قال: فبلغ ميقات ربه أربعين ليلة.
القول في تأويل قوله : وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ( 142 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لما مضى لموعد ربه قال لأخيه هارون: ( اخلفني في قومي ) ، يقول: كن خليفتي فيهم إلى أن أرجع.
يقال منه: « خَلَفه يخْلُفه خِلافة » .
( وأصلح ) ، يقول: وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله وعبادته، كما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج قال: « وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح » ، وكان من إصلاحه أن لا يدع العجل يُعْبد.
وقوله: ( ولا تتبع سبيل المفسدين ) ، يقول: ولا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض، بمعصيتهم ربهم, ومعونتهم أهل المعاصي على عصيانهم ربهم, ولكن اسلك سبيل المطيعين ربهم.
وكانت مواعدة الله موسى عليه السلام بعد أن أهلك فرعون، ونجَّى منه بني إسرائيل، فيما قال أهل العلم, كما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج, عن ابن جريج قوله: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً ، الآية، قال: يقول: إن ذلك بعد ما فرغ من فرعون وقبل الطور، لما نجى الله موسى عليه السلام من البحر وغرّق آل فرعون، وخلص إلى الأرض الطيبة, أنـزل الله عليهم فيها المنّ والسلوى، وأمره ربه أن يلقَاه, فلما أراد لقاء ربه، استخلف هارون على قومه, وواعدهم أن يأتيهم إلى ثلاثين ليلة، ميعادًا من قِبَله، من غير أمر ربه ولا ميعاده. فتوجه ليلقى ربه, فلما تمت ثلاثون ليلة، قال عدو الله السامريُّ: ليس يأتيكم موسى, وما يصلحكم إلا إله تعبدونه ! فناشدهم هارون وقال: لا تفعلوا، انظروا ليلتكم هذه ويومكم هذا, فإن جاء وإلا فعلتم ما بدا لكم ! فقالوا: نعم! فلما أصبحوا من غد ولم يروا موسى، عاد السامري لمثل قوله بالأمس. قال: وأحدث الله الأجل بعد الأجل الذي جعله بينهم عشرًا, فتم ميقات ربه أربعين ليلة, فعاد هارون فناشدهم إلا ما نظروا يومهم ذلك أيضًا, فإن جاء وإلا فعلتم ما بدا لكم! ثم عاد السامري الثالثة لمثل قوله لهم, وعاد هارون فناشدهم أن ينتظروا، فلما لم يروا ...
قال القاسم، قال الحسين، حدثني حجاج قال، حدثني أبو بكر بن عبد الله الهذليّ قال: قام السامري إلى هارون حين انطلق موسى فقال: يا نبي الله، إنا استعرنا يوم خرجنا من القبط حليًّا كثيرًا من زينتهم, وإن الجند الذين معك قد أسرعوا في الحلي يبيعونه وينفقونه, وإنما كان عارية من آل فرعون، فليسوا بأحياء فنردّها عليهم, ولا ندري لعل أخاك نبيّ الله موسى إذا جاء يكون له فيها رأي, إما يقرّبها قربانا فتأكلها النار , وإما يجعلها للفقراء دون الأغنياء! فقال له هارون: نِعْمَ ما رأيت وما قلت ! فأمر مناديًا فنادى: من كان عنده شيء من حليّ آل فرعون فليأتنا به ! فأتوه به, فقال هارون: يا سامري أنت أحق من كانت عنده هذه الخزانة! فقبضها السامري, وكان عدو الله الخبيث صائغًا, فصاغ منه عجلا جسدًا, ثم قذف في جوفه تُرْبة من القبضة التي قبض من أثر فرس جبريل عليه السلام إذ رآه في البحر, فجعل يخور, ولم يخر إلا مرة واحدة, وقال لبني إسرائيل: إنما تخلف موسى بعد الثلاثين الليلة يلتمس هذا ! هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ، [ طه: 88 ] . يقول: إن موسى عليه السلام نسي ربّه.
القول في تأويل قوله : وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي
قال أبوجعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء موسى للوقت الذي وعدنا أن يلقانا فيه « وكلمه ربه » ، وناجاه « قال » موسى لربه ( أرني أنظر إليك ) ، قال الله له مجيبًا: « ( لن تراني ولكن انظر إلى الجبل ) » .
وكان سبب مسألة موسى ربه النظر إليه, ما:-
حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: إن موسى عليه السلام لما كلمه ربه، أحب أن ينظر إليه قال: « رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني » ، فحُفَّ حول الجبل [ بملائكة ] , وحُفَّ حول الملائكة بنار, وحُفّ حول النار بملائكة، وحُفّ حول الملائكة بنار، ثم تجلى ربه للجبل.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, في قوله: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ، [ مريم: 52 ] ، قال: حدثني من لقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرّبه الربّ حتى سمع صَرِيف القلم, فقال عند ذلك من الشوق إليه: ( رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل ) .
حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي بكر الهذلي قال: لما تخلف موسى عليه السلام بعد الثلاثين, حتى سمع كلام الله، اشتاق إلى النظر إليه فقال: ربّ أرني أنظر إليك! قال: لن تراني، وليس لبشر أن يطيق أن ينظر إليّ في الدنيا, من نظر إلي مات! قال: إلهي سمعت منطقك، واشتقت إلى النظر إليك, ولأن أنظر إليك ثم أموتُ أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك ! قال: فانظر إلى الجبل, فإن استقر مكانه فسوف تراني.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ربّ أرني أنظر إليك ) ، قال: أعطني.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: استخلف موسى هارون على بني إسرائيل وقال: إني متعجل إلى ربي, فاخلفني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين. فخرج موسى إلى ربه متعجلا للقيّه شوقًا إليه, وأقام هارون في بني إسرائيل, ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به. فلما كلم الله موسى, طمع في رؤيته, فسأل ربه أن ينظر إليه, فقال الله لموسى: إنك لن تراني، ربّ كن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ) ، الآية. قال ابن إسحاق: فهذا ما وصل إلينا في كتاب الله عن خبر موسى لما طلب النظر إلى ربه، وأهل الكتاب يزعمونَ وأهلُ التوراة: أنْ قد كان لذلك تفسير وقصة وأمور كثيرة، ومراجعة لم تأتنا في كتاب الله, والله أعلم.
قال ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأوّل بأحاديث أهل الكتاب، إنهم يجدون في تفسير ما عندهم من خبر موسى حين طلب ذلك إلى ربه، أنه كان من كلامه إياه حين طمع في رؤيته, وطلب ذلك منه, وردّ عليه ربه منه ما ردّ: أن موسى كان تطهّر وطهّر ثيابه، وصام للقاء ربه. فلما أتى طور سينا, ودنا الله له في الغمام فكلّمه, سبحه وحمّده وكبره وقدَّسه, مع تضرع وبكاء حزين, ثم أخذ في مِدْحته, فقال: ربّ ما أعظمك وأعظم شأنك كله! من عظمتك أنه لم يكن شيء من قبلك, فأنت الواحد القهار, كأن عرشك تحت عظمتك نارًا توقد لك, وجعلت سرادقًا [ من نور ] من دونه سرادق من نور, فما أعظمك ربّ وأعظم ملكك! جعلت بينك وبين ملائكتك مسيرة خمسمائة عام. فما أعظمك رب وأعظم ملكك في سلطانك! فإذا أردت شيئًا تقضيه في جنودك الذين في السماء أو الذين في الأرض, وجنودك الذين في البحر, بعثت الريح من عندك لا يراها شيء من خلقك، إلا أنت إن شئت, فدخلت في جوف من شئت من أنبيائك, فبلغوا لما أردت من عبادك. وليس أحد من ملائكتك يستطيع شيئًا من عظمتك ولا من عرشك ولا يسمع صوتك, فقد أنعمت عليّ وأعظمت عليّ في الفضل, وأحسنت إليّ كلّ الإحسان! عظمتني في أمم الأرض, وعظمتني عند ملائكتك, وأسمعتني صوتك, وبذلت لي كلامك, وآتيتني حكمتك, فإن أعدَّ نعماك لا أحصيها, وإن أُرِد شكرك لا أستطيعه. دعوتك، ربّ، على فرعون بالآيات العظام, والعقوبة الشديدة, فضربت بعصاي التي في يدي البحر فانفلق لي ولمن معي! ودعوتك حين أجزتُ البحر, فأغرقت عدوك وعدوّي. وسألتك الماء لي ولأمتي, فضربت بعصاي التي في يدي الحجر, فمنه أرويتني وأمتي. وسألتك لأمتي طعامًا لم يأكله أحد كان قبلهم, فأمرتني أن أدعوك من قبل المشرق ومن قبل المغرب، فناديتك من شرقي أمتي فأعطيتهم المن من مشرق لنفسي, وآتيتهم السلوى من غربيهم من قبل البحر, واشتكيت الحر فناديتك, فظللت عليهم بالغمام. فما أطيق نعماك علي أن أعدّها ولا أحصيها, وإن أردت شكرها لا أستطيعه. فجئتك اليوم راغبًا طالبًا سائلا متضرعًا, لتعطيني ما منعت غيري. أطلب إليك، وأسالك يا ذا العظمة والعزة والسلطان، أن تريني أنظر إليك, فإني قد أحببت أن أرى وجهك الذي لم يره شيء من خلقك! قال له رب العزة: ألا ترى يا ابن عمران ما تقول؟ تكلمت بكلام هو أعظم من سائر الخلق! لا يراني أحد فيحيا, [ ليس في السماوات معمري, فإنهن قد ضعفن أن يحملن عظمتي, وليس في الأرض معمري, فإنها قد ضعفت أن تسع بجندي ] . فلستُ في مكان واحد فأتجلى لعين تنظر إليّ. قال موسى: يا رب، أن أراك وأموت, أحب إليّ من أن لا أراك وأحيا. قال له رب العزة: يا ابن عمران تكلمتَ بكلام هو أعظم من سائر الخلق, لا يراني أحد فيحيا! قال: رب تمم علي نعماك, وتمم عليّ فضلك, وتمم عليّ إحسانك، بهذا الذي سألتك، ليس لي أن أراك فأقبض, ولكن أحب أن أراك فيطمئن قلبي. قال له: يا ابن عمران، لن يراني أحد فيحيا! قال: موسى رب تمم عليّ نعماك وتمم عليّ فضلك, وتمم علي إحسانك بهذا الذي سألتك، فأموت على أثر ذلك، أحب إلي من الحياة! فقال الرحمن المترحِّم على خلقه: قد طلبت يا موسى, [ وحي ] لأعطينك سؤلك إن استطعت أن تنظر إليّ, فاذهب فاتخذ لوحين, ثم انظر إلى الحجر الأكبر في رأس الجبل, فإن ما وراءه وما دونه مضيق لا يسع إلا مجلسك يا ابن عمران. ثم انظر فإني أهبط إليك وجنودي من قليل وكثير، ففعل موسى كما أمره ربه, نحت لوحين ثم صعد بهما إلى الجبل فجلس على الحجر، فلما استوى عليه, أمر الله جنوده الذين في السماء الدنيا فقال: ضعي أكتافك حول الجبل. فسمعت ما قال الرب، ففعلت أمره. ثم أرسل الله الصواعق والظلمة والضباب على ما كان يلي الجبل الذي يلي موسى أربعة فراسخ من كل ناحية, ثم أمر الله ملائكة الدنيا أن يمرُّوا بموسى, فاعترضوا عليه, فمروا به طيرانَ النُّغَر، تنبع أفواههم بالتقديس والتسبيح بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد, فقال موسى بن عمران عليه السلام: رب، إني كنت عن هذا غنيًّا, ما ترى عيناي شيئًا، قد ذهب بصرهما من شعاع النور المتصفِّف على ملائكة ربي! ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية: أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه! فهبطوا أمثال الأسد لهم لَجَبٌ بالتسبيح والتقديس, ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى ومما سمع, فاقشعرّت كل شعرة في رأسه وجلده, ثم قال: ندمت على مسألتي إياك, فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء؟ فقال له كبير الملائكة ورأسهم يا موسى، اصبر لما سألت, فقليل من كثير ما رأيت ! ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة: أن اهبطوا على موسى, فاعترضوا عليه! فأقبلوا أمثال النسور لهم قَصْفٌ ورجفٌ ولجبٌ شديد, وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس، كلجَب الجيش العظيم، كلهب النار. ففزع موسى, وأَسِيَتْ نفسه وأساء ظنه, وأَيِسَ من الحياة, فقال له كبير الملائكة ورأسهم: مكانك يا ابن عمران, حتى ترى ما لا تصبر عليه! ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة: أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران! فأقبلوا وهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مرُّوا به قبلهم, ألوانهم كلهب النار, وسائر خلقهم كالثلج الأبيض, أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس, لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مرُّوا به قبلهم. فاصطكّت ركبتاه, وأرعد قلبه, واشتد بكاؤه, فقال كبير الملائكة ورأسهم: يا ابن عمران اصبر لما سألت, فقليل من كثيرٍ ما رأيت ! ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة: أن اهبطوا فاعترضوا على موسى! فهبطوا عليه سبعةَ ألوان, فلم يستطع موسى أن يُتبعهم طرفه, ولم ير مثلهم، ولم يسمع مثل أصواتهم, وامتلأ جوفه خوفًا, واشتد حزنه وكثر بكاؤه, فقال له كبير الملائكة ورأسهم: يا ابن عمران، مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه ! ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة: أن اهبطوا على عبدي الذي طلب أن يراني موسى بن عمران، واعترضوا عليه! فهبطوا عليه في يد كل ملك مثل النخلة الطويلة نارًا أشد ضوءًا من الشمس, ولباسهم كلهب النار, إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم, يقولون بشدة أصواتهم: « سبوح قدوس، رب العزة أبدا لا يموت » في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا, وهو يبكي ويقول: « رب أذكرني, ولا تنس عبدك، لا أدري أأنفلتُ مما أنا فيه أم لا إن خرجت أحرقت, وإن مكثت مت » ! فقال له كبير الملائكة ورئيسهم قد أوشكت يا ابن عمران أن يمتلئ جوفك, وينخلع قلبك, ويشتد بكاؤك، فاصبر للذي جلست لتنظر إليه يا ابن عمران! وكان جبل موسى جبلا عظيما, فأمر الله أن يحمل عرشه, ثم قال: مرُّوا بي على عبدي ليراني, فقليل من كثيرٍ ما رأى ! فانفرج الجبل من عظمة الرب, وغشَّي ضوء عرش الرحمن جبل موسى, ورفعت ملائكة السماوات أصواتها جميعا, فارتجّ الجبل فاندكَّ, وكل شجرة كانت فيه, وخرّ العبد الضعيفُ موسى بن عمران صعقًا على وجهه، ليس معه روحه, فأرسل الله الحياة برحمته, فتغشاه برحمته وقلب الحجر الذي كان عليه وجعله كالمعِدة كهيئة القبة، لئلا يحترق موسى, فأقامه الروح، مثل الأم أقامت جنينها حين يصرع. قال: فقام موسى يسبح الله ويقول: آمنت أنك ربي, وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا, ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه, فما أعظمك ربّ، وأعظم ملائكتك, أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك, تأمر الجنود الذين عندك فيطيعونك وتأمر السماء وما فيها فتطيعك, لا تستنكف من ذلك, ولا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء, رب تبت إليك, الحمد لله الذي لا شريك له, ما أعظمك وأجلّك ربَّ العالمين!
القول في تأويل قوله : فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما اطّلع الرب للجبل، جعل الله الجبل دكًّا، أي: مستويًا بالأرض ( وخر موسى صعقًا ) ، أي: مغشيا عليه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسين بن محمد بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن عكرمة, عن ابن عباس في قول الله: ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) ، قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر ( جعله دكًّا ) ، قال: ترابًا ( وخر موسى صعقًا ) ، قال: مغشيًّا عليه.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال: زعم السدي, عن عكرمة, عن ابن عباس أنه قال: تجلى منه مثل الخِنصر, فجعل الجبل دكَّا, وخر موسى صعقًا, فلم يزل صعقًا ما شاء الله.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وخر موسى صعقا ) ، قال: مغشيًّا عليه.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا ) ، قال انقعر بعضه على بعض ( وخر موسى صعقًا ) ، أي: ميتا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وخر موسى صعقًا ) ، أي: ميتًا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة في قوله: ( دكًّا ) ، قال: دك بعضه بعضًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله: ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا ) ، قال: ساخ الجبل في الأرض، حتى وقع في البحر فهو يذهب معه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, عن الحجاج, عن أبي بكر الهذلي: ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا ) ، انقعر فدخل تحت الأرض، فلا يظهر إلى يوم القيامة.
حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي قال، حدثنا قرة بن عيسى قال، حدثنا الأعمش, عن رجل, عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لما تجلى ربه للجبل أشار بأصبعه فجعله دكًّا » وأرانا أبو إسماعيل بأصبعه السبابة.
حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن ثابت, عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا ) ، قال هكذا بإصبعه، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر « فساخ الجبل » .
حدثني المثنى قال، حدثنا هدبة بن خالد قال، حدثنا حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا ) ، قال: وضع الإبهام قريبًا من طرف خنصره، قال: فساخ الجبل فقال حميد لثابت: تقول هذا؟ قال: فرفع ثابت يده فضرب صدر حُمَيْد, وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوله أنس، وأنا أكتمه!
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا وخرّ موسى صعقًا ) ، وذلك أن الجبل حين كُشِف الغطاء ورأى النور، صار مثل دكّ من الدكَّات.
حدثنا الحرث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد, عن مجاهد: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ، فإنه أكبر منك وأشد خلقا ( فلما تجلى ربه للجبل ) ، فنظر إلى الجبل لا يتمالك, وأقبل الجبل يندك على أوله . فلما رأى موسى ما يصنع الجبل، خر صعقًا.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( دكًّا ) . فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة: ( دكًّا ) ، مقصورًا بالتنوين بمعنى: « دكّ الله الجبل دكًّا » أي: فتته, واعتبارًا بقول الله: كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ، [ سورة الفجر: 21 ] وقوله: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ، [ سورة الحاقة: 14 ] واستشهد بعضهم على ذلك بقول حميد: يَــدُكُّ أَرْكَــانَ الجِبَــال هَزَمُــهْ تَخْــطُرِ بِــالبِيضِ الرِّقَـاقِ بُهَمُـهْ
وقرأته عامة قرأة الكوفيين: « جَعَلَهُ دَكَّاءَ » ، بالمد وترك الجر والتنوين, مثل
« حمراء » و « سوداء » . وكان ممن يقرؤه كذلك، عكرمة, ويقول فيه ما:-
حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا عباد بن عباد, عن يزيد بن حازم, عن عكرمة قال: « دكَّاء من الدكَّاوات » . وقال: لما نظر الله تبارك وتعالى إلى الجبل صار صَحراء ترابًا.
واختلف أهل العربية في معناه إذا قرئ كذلك.
فقال بعض نحويي البصرة: العرب تقول: « ناقة دكَّاء » ، ليس لها سنام. وقال: « الجبل » مذكر, فلا يشبه أن يكون منه، إلا أن يكون جعله: « مثل دكاء » ، حذف « مثل » ، وأجراه مجرى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ سورة يوسف: 82 ] .
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: معنى ذلك: جعل الجبل أرضًا دكاء, ثم حذفت « الأرض » ، وأقيمت « الدكاء » مقامها، إذْ أدَّت عنها.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي، قراءةُ من قرأ: ( جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) ، بالمد وترك الجر، لدلالة الخبر الذي رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحته. وذلك أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « فساخ الجبل » ، ولم يقل: « فتفتت » ولا « تحول ترابًا » . ولا شك أنه إذا ساخ فذهب، ظهرَ وجهُ الأرض, فصار بمنـزلة الناقة التي قد ذهب سنامها, وصارت دكاء بلا سنام. وأما إذا دك بعضه، فإنما يكسر بعضه بعضًا ويتفتت ولا يَسُوخ. وأما « الدكاء » فإنها خَلَفٌ من « الأرض » , فلذلك أنثت، على ما قد بينت.
فمعنى الكلام إذًا: فلما تجلى ربه للجبل ساخ, فجعل مكانه أرضًا دكاء. وقد بينا معنى « الصعق » بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله : فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ( 143 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ثاب إلى موسى عليه السلام فهمه من غشيته, وذلك هو الإفاقة من الصعقة التي خرّ لها موسى صلى الله عليه وسلم « قال سبحانك » ، تنـزيهًا لك، يا رب، وتبرئةً أن يراك أحد في الدنيا، ثم يعيش « تبت إليك » ، من مسألتي إياك ما سألتك من الرؤية « وأنا أوّل المؤمنين » ، بك من قومي، أن لا يراك في الدنيا أحد إلا هلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن موسى, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية في قوله: « تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين » ، قال: كان قبله مؤمنون, ولكن يقول: أنا أوّل من آمن بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: لما رأى موسى ذلك وأفاق, عرف أنه قد سأل أمرًا لا ينبغي له, فقال: « سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين » ، قال أبو العالية: عنى: إني أوّل من آمن بك أنه لن يراك أحدٌ قبل يوم القيامة.
حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، قال سفيان، قال أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس: « وخر موسى صعقًا » ، فمرّت به الملائكة وقد صعق, فقالت: يا ابن النساء الحيَّض، لقد سألت ربك أمرًا عظيمًا! فلما أفاق قال: سبحانك لا إله إلا أنت تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين! قال: أنا أوّل من آمن أنه لا يراك أحدٌ من خلقك يعني: في الدنيا.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين » ، يقول: أنا أوّل من يؤمن أنه لا يراك شيء من خلقك.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: « سبحانك تبت إليك » ، قال: من مسألتي الرؤية.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد, عن مجاهد: « قال سبحانك تبت إليك » ، أن أسألك الرؤية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم, عن سفيان, عن عيسى بن ميمون, عن رجل, عن مجاهد: « سبحانك تبت إليك » ، أن أسألك الرؤية.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عيسى بن ميمون, عن مجاهد في قوله: « سبحانك تبت إليك » ، قال: تبت إليك من أن أسألك الرؤية.
وقال آخرون: معنى قوله: وأنا أول المؤمنين بك من بني إسرائيل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن عكرمة, عن ابن عباس: « وأنا أول المؤمنين » ، قال: أول من آمن بك من بني إسرائيل.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن عكرمة, عن ابن عباس: « وأنا أول المؤمنين » ، يعني: أول المؤمنين من بني إسرائيل.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: « وأنا أول المؤمنين » ، أنا أول قومي إيمانًا.
حدثنا ابن وكيع والمثنى قالا حدثنا أبو نعيم, عن سفيان, عن عيسى بن ميمون, عن رجل, عن مجاهد: « وأنا أول المؤمنين » ، يقول: أول قومي إيمانًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وأنا أول المؤمنين » ، قال: أنا أول قومي إيمانًا.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: « وأنا أول المؤمنين » ، قال: أول قومي آمن.
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في قوله: « وأنا أول المؤمنين » ، على قول من قال: معناه: أنا أول المؤمنين من بني إسرائيل لأنه قد كان قبله في بني إسرائيل مؤمنون وأنبياء , منهم ولدُ إسرائيل لصُلْبه, وكانوا مؤمنين وأنبياء. فلذلك اخترنا القول الذي قلناه قبل.
القول في تأويل قوله : قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 144 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، قال الله لموسى: « يا موسى إني اصطفيتك على الناس » ، يقول: اخترتك على الناس « برسالاتي » إلى خلقي, أرسلتك بها إليهم « وبكلامي » ، كلمتك وناجيتك دون غيرك من خلقي. « فخذ ما آتيتك » يقول: فخذ ما أعطيتك من أمري ونهيي وتمسك به, واعمل به [ ... ] « وكن من الشاكرين » ، لله على ما آتاك من رسالته, وخصك به من النجوى، بطاعته في أمره ونهيه، والمسارعة إلى رضاه.
القول في تأويل قوله : وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكتبنا لموسى في ألواحه.
وأدخلت الألف واللام في « الألواح » بدلا من الإضافة, كما قال الشاعر:
والأحْلامُ غَيْرُ عَوَازِب
وكما قال جل ثناؤه: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ، [ سورة النازعات: 41 ] ، يعني: هي مأواه.
وقوله: « من كل شيء » ، يقول: من التذكير والتنبيه على عظمة الله وعز سلطانه « موعظة » ، لقومه ومن أمر بالعمل بما كتب في الألواح « وتفصيلا لكل شيء » ، يقول: وتبيينًا لكل شيء من أمر الله ونهيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد : أو سعيد بن جبير، وهو في أصل كتابي: عن سعيد بن جبير في قول الله: « وتفصيلا لكل شيء » ، قال: ما أمروا به ونهوا عنه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء » ، من الحلال والحرام.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدا يقول في قوله: « وتفصيلاً لكل شيء » ، قال: ما أمروا به ونهوا عنه.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء » ، قال عطية: أخبرني ابن عباس: أن موسى صلى الله عليه وسلم انْصَلتَ لما كربه الموت، قال: هذا من أجل آدم! قد كان الله جعلنا في دار مثوًى لا نموت, فخطأ آدم أنـزلنا هاهنا! فقال الله لموسى: أبعث إليك آدم فتخاصمه؟ قال: نعم! فلما بعث الله آدم, سأله موسى, فقال أبونا آدم عليهما السلام: يا موسى، سألت الله أن يبعثني لك! قال موسى: لولا أنت لم نكن هاهنا! قال له آدم: أليس قد أتاك الله من كل شيء موعظة وتفصيلا أفلست تعلم أنه ما أصاب في الأرض من مصيبة ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن يبرأها؟ قال موسى: بلى! فخصَمه آدم صلى الله عليهما.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبًا يقول في قوله: « وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء » ، قال: كتب له: لا تشرك بي شيئًا من أهل السماء ولا من أهل الأرض، فإن كل ذلك خلقي. لا تحلف باسمي كاذبًا, فإن من حلف باسمي كاذبًا فلا أزكِّيه, ووقِّر والديك.
القول في تأويل قوله : فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقلنا لموسى إذ كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء: خذ الألواح بقوة.
وأخرج الخبر عن « الألواح » ، والمراد ما فيها.
واختلف أهل التأويل في معنى « القوة » ، في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معناها بجدٍّ.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا ابن عيينة قال، قال أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس: « فخذها بقوة » ، قال: بجدّ.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فخذها بقوّة » ، قال: بجد واجتهاد.
وقال آخرون: معنى ذلك، فخذها بالطاعة لله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر, عن الربيع بن أنس في قوله: « فخذها بقوة » ، قال: بالطاعة.
وقد بينا معنى ذلك بشواهده، واختلاف أهل التأويل فيه، في « سورة البقرة » عند قوله: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [ سورة البقرة: 63 ] فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله : وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قلنا لموسى: « وأمر قومك » ، بني إسرائيل « يأخذوا بأحسنها » ، يقول: يعملوا بأحسن ما يجدون فيها، كما:-
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وأمر قومك يأخذوا بأحسنها » ، بأحسن ما يجدون فيها.
حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس: « وأمر قومك يأخذوا بأحسنها » ، قال: أمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أمر به قومه.
فإن قال قائل: وما معنى قوله: « وأمر قومك يأخذوا بأحسنها » ، أكان من خصالهم ترك بعض ما فيها من الحسن؟.
قيل: لا ولكن كان فيها أمرٌ ونهيٌ, فأمرهم الله أن يعملوا بما أمرهم بعمله، ويتركوا ما نهاهم عنه, فالعمل بالمأمور به، أحسنُ من العمل بالمنهي عنه.
القول في تأويل قوله : سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ( 145 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لموسى، إذ كتب في الألواح من كل شيء: خذها بجدّ في العمل بما فيها واجتهاد, وأمر قومك يأخذوا بأحسن ما فيها, وانههم عن تضييعها وتضييع العمل بما فيها والشرك بي, فإن من أشرك بي منهم ومن غيرهم, فإني سأريه في الآخرة عند مصيره إليّ، « دارَ الفاسقين » , وهي نار الله التي أعدها لأعدائه.
وإنما قال: « سأريكم دار الفاسقين » ، كما يقول القائل لمن يخاطبه: « سأريك غدًا إلامَ يصير إليه حال من خالف أمري! » ، على وجه التهدُّد والوعيد لمن عصاهُ وخالف أمره.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « سأريكم دار الفاسقين » ، قال: مصيرهم في الآخرة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا مبارك, عن الحسن, في قوله: « سأريكم دار الفاسقين » ، قال: جهنم.
وقال آخرون: معنى ذلك: سأدخلكم أرض الشام, فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الجبابرة والعمالقة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « سأريكم دار الفاسقين » ، منازلهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « دار الفاسقين » ، قال: منازلهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: سأريكم دار قوم فرعون, وهي مصر.
ذكر من قال ذلك:
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك, لأن الذي قبل قوله جل ثناؤه: « سأريكم دار الفاسقين » ، أمرٌ من الله لموسى وقومه بالعمل بما في التوراة. فأولى الأمور بحكمة الله تعالى أن يختم ذلك بالوعيد على من ضيّعه وفرَّط في العمل لله، وحاد عن سبيله, دون الخبر عما قد انقطع الخبر عنه، أو عما لم يجر له ذكر.
القول في تأويل قوله : سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: معناه: سأنـزع عنهم فهم الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن منصور المروزي قال، حدثني محمد بن عبد الله بن بكر قال: سمعت ابن عيينة يقول في قول الله: « سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق » ، قال يقول: أنـزع عنهم فهم القرآن, وأصرفهم عن آياتي.
قال أبو جعفر: وتأويل ابن عيينة هذا يدل على أن هذا الكلام كان عنده من الله وعيدًا لأهل الكفر بالله ممن بعث إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، دون قوم موسى, لأن القرآن إنما أنـزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون، موسى عليه السلام .
وقال آخرون في ذلك: معناه: سأصرفهم عن الاعتبار بالحجج.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « سأصرف عن آياتي » ، عن خلق السماوات والأرض والآيات فيها, سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته, وهي أدلته وأعلامه على حقيقة ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله، وغير ذلك من فرائضه. والسماوات والأرض, وكل موجود من خلقه، فمن آياته, والقرآن أيضًا من آياته، وقد عم بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحق, وهم الذين حقَّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون, فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والادّكار بها مصروفون، لأنهم لو وفِّقوا لفهم بعض ذلك فهُدوا للاعتبار به، اتعظوا وأنابوا إلى الحق, وذلك غير كائن منهم, لأنه جلّ ثناؤه قال: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ، فلا تبديل لكلمات الله.
القول في تأويل قوله : وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ( 146 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن ير هؤلاء الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و « وتكبرهم فيها بغير الحق » ، تجبرهم فيها, واستكبارهم عن الإيمان بالله ورسوله، والإذعان لأمره ونهيه, وهم لله عبيدٌ يغذوهم بنعمته، ويريح عليهم رزقه بكرة وعشيًّا، « كل آية » ، يقول: كل حجة لله على وحدانيته وربوبيته, وكل دلالة على أنه لا تنبغي العبادة إلا له خالصة دون غيره. « لا يؤمنوا بها » ، يقول: لا يصدقوا بتلك الآية أنها دالة على ما هي فيه حجة, ولكنهم يقولون: « هي سحر وكذب » « وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا » ، يقول: وإن ير هؤلاء الذين وصف صفتهم طريق الهدى والسداد الذي إن سلكوه نجوا من الهلكة والعطب، وصاروا إلى نعيم الأبد، لا يسلكوه ولا يتخذوه لأنفسهم طريقًا, جهلا منهم وحيرة « وإن يروا سبيل الغي » ، يقول: وإن يروا طريق الهلاك الذي إن سلكوه ضلّوا وهلكوا.
وقد بينا معنى « الغي » فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. « يتخذوه سبيلا » ، يقول: يسلكوه ويجعلوه لأنفسهم طريقًا، لصرف الله إياهم عن آياته، وطبعه على قلوبهم, فهم لا يفلحون ولا ينجحون « ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين » ، يقول تعالى ذكره: صرفناهم عن آياتنا أن يعقلوها ويفهموها فيعتبروا بها و يذكروا فينيبوا، عقوبةً منا لهم على تكذيبهم بآياتنا « وكانوا عنها غافلين » ، يقول: وكانوا عن آياتنا وأدلتنا الشاهدة على حقيقة ما أمرناهم به ونهيناهم عنه « غافلين » ، لا يتفكرون فيها, لاهين عنها، لا يعتبرون بها, فحق عليهم حينئذ قول ربنا فعَطِبوا.
واختلف القرأة في قراءة قوله: « الرشد » .
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض المكيين وبعض البصريين: ( الرُّشْدِ ) ، بضم « الراء » وتسكين « الشين » .
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة وبعض المكيين: ( الرَّشَدِ ) ، بفتح « الراء » و « الشين » .
ثم اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك إذا ضمت راؤه وسكنت شينه, وفيه إذا فتحتا جميعًا.
فذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: معناه إذا ضمت راؤه وسكنت شينه: الصلاح, كما قال الله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا ، [ سورة النساء: 6 ] ، بمعنى: صلاحًا. وكذلك كان يقرؤه هو ومعناه إذا فتحت راؤه وشينه: الرشد في الدين, كما قال جل ثناؤه: تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [ سورة الكهف: 66 ] ، بمعنى الاستقامة والصواب في الدين.
وكان الكسائي يقول: هما لغتان بمعنى واحد, مثل: « السُّقم » و « السَّقَم » , و « الحُزْن » و « الحَزَن » وكذلك « الرُّشْد » و « الرَّشَد » .
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضةٌ القراءة بهما في قرأة الأمصار، متفقتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ بها.
القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 147 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء المستكبرون في الأرض بغير الحق, وكلّ مكذِّبٍ حججَ الله ورسله وآياته, وجاحدٍ أنه يوم القيامة مبعوث بعد مماته, ومنكرٍ لقاء الله في آخرته ذهبت أعمالهم فبطلت, وحصلت لهم أوزارها فثبتت, لأنهم عملوا لغير الله، وأتعبوا أنفسهم في غير ما يرضى الله, فصارت أعمالهم عليهم وبَالا. يقول الله جل ثناؤه: « هل يجزون إلا ما كانوا يعملون » ، يقول: هل يثابون إلا ثواب ما كانوا يعملون؟ فصار ثواب أعمالهم الخلودَ في نار أحاط بهم سرادقها, إذ كانت أعمالهم في طاعة الشيطان، دون طاعة الرحمن، نعوذ بالله من غضبه. وقد بينا معنى « الحبوط » و « الجزاء » و « الآخرة » ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله : وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ( 148 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتخذ بنو إسرائيل قومُ موسى، من بعد ما فارقهم موسى ماضيًا إلى ربه لمناجاته، ووفاءً للوعد الذي كان ربه وعده « من حليهم عجلا » , وهو ولد البقرة, فعبدوه. ثم بين تعالى ذكره ما ذلك العجل فقال: « جسدًا له خوار » و « الخوار » : صوت البقر يخبر جل ذكره عنهم أنهم ضلوا بما لا يضل بمثله أهل العقل. وذلك أن الرب جلّ جلاله الذي له ملك السماوات والأرض، ومدبر ذلك, لا يجوز أن يكون جسدًا له خوار, لا يكلم أحدًا ولا يرشد إلى خير. وقال هؤلاء الذين قص الله قصَصهم لذلك: « هذا إلهنا وإله موسى » , فعكفوا عليه يعبدونه، جهلا منهم، وذهابًا عن الله وضلالا.
وقد بينا سبب عبادتهم إياه، وكيف كان اتخاذ من اتخذ منهم العجل، فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
وفي « الحلي » لغتان: ضم « الحاء » وهو الأصل وكسرها, وكذلك ذلك في كل ما شاكله من مثل « صلى » و « جثّي » و « عتّي » ، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب, لاستفاضة القراءة بهما في القراءة, ولا تفاق معنييهما.
وقوله: « ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا » ، يقول: ألم ير الذين عكفوا على العجل الذي اتخذوه من حليهم يعبدونه، أن العجل لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا؟ يقول: ولا يرشدهم إلى طريق؟ وليس ذلك من صفة ربهم الذي له العبادة حقًا, بل صفته أنه يكلم أنبياءه ورسله, ويرشد خلقه إلى سبيل الخير، وينهاهم عن سبيل المهالك والردى. يقول الله جل ثناؤه: « اتخذوه » ، أي: اتخذوا العجل إلهًا، وكانوا باتخاذهم إياه ربًّا معبودًا ظالمين لأنفسهم, لعبادتهم غير من له العبادة, وإضافتهم الألوهة إلى غير الذي له الألوهة.
وقد بينا معنى « الظلم » فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله : وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 149 )
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولما سقط في أيديهم » ، : ولما ندم الذين عبدوا العجل الذي وصف جل ثناؤه صفته، عند رجوع موسى إليهم, واستسلموا لموسى وحكمه فيهم.
وكذلك تقول العرب لكل نادم على أمر فات منه أو سلف، وعاجز عن شيء: « قد سُقِط في يديه » و « أسقط » ، لغتان فصيحتان, وأصله من الاستئسار, وذلك أن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه, فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره، فيكتفه. فالمرميّ به مسقوط في يدي الساقط به. فقيل لكل عاجز عن شيء، وضارع لعجزه، متندِّمٍ على ما قاله: « سقط في يديه » و « أسقط » .
وعنى بقوله: « ورأوا أنهم قد ضلوا » ، ورأوا أنهم قد جاروا عن قصد السبيل، وذهبوا عن دين الله, وكفروا بربهم، قالوا تائبين إلى الله منيبين إليه من كفرهم به: « لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين » .
ثم اختلفت القرأة في قرأة ذلك.
فقرأه بعض قرأة أهل المدينة ومكة والكوفة والبصرة: ( لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا ) بالرفع، على وجه الخبر.
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: ( لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا ) ، بالنصب، بتأويل: لئن لم ترحمنا يا ربنا على وجه الخطاب منهم لربهم. واعتلّ قارئو ذلك كذلك بأنه في إحدى القراءتين: ( قَالُوا رَبَّنَا لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا وتَغْفِرْ لَنَا ) , وذلك دليل على الخطاب.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القراءة في ذلك، القراءة على وجه الخبر بالياء في ( يَرْحَمْنَا ) ، وبالرفع في قوله: ( رَبُّنَا ) , لأنه لم يتقدم ذلك ما يوجب أن يكون موجَّهًا إلى الخطاب.
والقراءة التي حكيت على ما ذكرنا من قراءتها: ( قَالُوا رَبَّنَا لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا ) ، لا نعرف صحتها من الوجه الذي يجب التسليم إليه.
ومعنى قوله: ( لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا ) ، : لئن لم يتعطف علينا ربنا بالتوبة برحمته, ويتغمد بها ذنوبنا, لنكونن من الهالكين الذين حبطت أعمالهم.
القول في تأويل قوله : وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما رجع موسى إلى قومه من بني إسرائيل, رجع غضبان أسفًا, لأن الله كان قد أخبره أنه قد فتن قومه, وأن السامري قد أضلّهم, فكان رجوعه غضبان أسفًا لذلك.
و « الأسف » شدة الغضب، والتغيظ به على من أغضبه، كما:-
حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا عبد السلام بن محمد الحضرمي قال، حدثني شريح بن يزيد قال، سمعت نصر بن علقمة يقول: قال أبو الدرداء: قول الله: « غضبان أسفًا » ، قال: « الأسف » ، منـزلة وراء الغضب، أشدُّ من ذلك, وتفسير ذلك في كتاب الله: ذهب إلى قومه غضبان, وذهب أسفًا.
وقال آخرون في ذلك ما:-
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أسفًا » ، قال: حزينًا.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه , عن ابن عباس: « ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا » ، يقول: « أسفًا » ، « حزينًا » ، وقال في « الزخرف » : فَلَمَّا آسَفُونَا [ سورة الزخرف: 55 ] ، يقول: أغضبونا و « الأسف » ، على وجهين: الغضب، والحزن.
حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا سليمان بن سليمان قال، حدثنا مالك بن دينار قال، سمعت الحسن يقول في قوله: « ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا » ، قال: غضبان حزينًا.
وقوله: « قال بئسما خلفتموني من بعدي » ، يقول: بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم وأوليتموني فيمن خلفت ورائي من قومي فيكم، وديني الذي أمركم به ربكم. يقال منه: « خلفه بخير » ، و « خلفه بشر » ، إذا أولاه في أهله أو قومه ومن كان منه بسبيل من بعد شخوصه عنهم، خيرًا أو شرًّا.
وقوله: « أعجلتم أمر ربكم » ، يقول: أسبقتم أمر ربكم في نفوسكم, وذهبتم عنه؟
يقال منه: « عجل فلان هذا الأمر » ، إذا سبقه و « عجل فلانٌ فلانًا » ، إذا سبقه « ولا تَعْجَلْني يا فلان » ، لا تذهب عني وتدعني و « أعجلته » : استحثثته.
القول في تأويل قوله : وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 150 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وألقى موسى الألواح.
ثم اختلف أهل العلم في سبب إلقائه إياها.
فقال بعضهم: ألقاها غضبًا على قومه الذين عبدوا العجل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا الأصبغ بن زيد, عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا، فأخذ برأس أخيه يجرّه إليه, وألقى الألواح من الغضب.
وحدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا ابن عيينة قال، قال أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما رجع موسى إلى قومه, وكان قريبًا منهم, سمع أصواتهم، فقال: إني لأسمع أصواتَ قومٍ لاهين: فلما عاينهم وقد عكفوا على العجل، ألقى الألواح فكسرها, وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: أخذ موسى الألواح، ثم رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا, فقال: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ، إلى قوله: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [ سورة طه: 86- 87 ] ، فألقى موسى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [ سورة طه: 94 ] .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: لما انتهى موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل, ألقى الألواح من يده, ثم أخذ برأس أخيه ولحيته، ويقول: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [ سورة طه: 92، 93 ] .
وقال آخرون: إنما ألقى موسى الألواح لفضائل أصابها فيها لغير قومه, فاشتدّ ذلك عليه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة , قوله: أَخَذَ الأَلْوَاحَ ، قال: رب، إني أجد في الألواح أمةً خيرَ أمة أخرجت للناس, يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون أي آخرون في الخلق السابقون في دخول الجنة، رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها, وكان من قبلهم يقرأون كتابهم نظرًا، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئًا، ولم يعرفوه. قال قتادة: وإن الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئًا لم يعطه أحدًا من الأمم قال: ربِّ اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر, ويقاتلون فضول الضلالة، حتى يقاتلوا الأعور الكذاب, فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم، ثم يؤجرون عليها وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه, بعث الله عليها نارًا فأكلتها, وإن ردَّت عليه تركت تأكلها الطير والسباع. قال: وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم قال: رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة, فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة, رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها, فإذا عملها كتبت عليه سيئة واحدة, فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفَّعون والمشفوع لهم, فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: وذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد! قال: فأعطي نبي الله موسى عليه السلام ثنتين لم يعطهما نبيٌّ، قال الله: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي ، [ سورة الأعراف: 144 ] . قال: فرضي نبي الله. ثم أعطي الثانية: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [ سورة الأعراف: 159 ] ، قال: فرضي نبي الله صلى الله عليه وسلم كل الرضى.
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: لما أخذ موسى الألواح قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم خير الأمم, يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة, فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد, ثم ذكر نحو حديث بشر بن معاذ إلا أنه قال في حديثه: فألقى موسى عليه السلام الألواح، وقال: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليهما.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك، أن يكون سبب إلقاء موسى الألواح كان من أجل غضبه على قومه لعبادتهم العجل، لأن الله جل ثناؤه بذلك أخبر في كتابه فقال: « ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه » .
وذكر أن الله لما كتب لموسى عليه السلام في الألواح التوراة, أدناه منه حتى سمع صريف القلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن السدي, عن أبي عمارة, عن علي عليه السلام قال: كتب الله الألواح لموسى عليه السلام، وهو يسمع صريف الأقلام في الألواح.
.... قال حدثنا إسرائيل, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير قال: أدناه حتى سمع صريف الأقلام.
وقيل: إن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى موسى الألواح تكسرت, فرفع منها ستة أسباعها, وكان فيما رفع « تفصيل كل شيء » ، الذي قال الله: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وبقي الهدى والرحمة في السبع الباقي، وهو الذي قال الله: أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ، [ سورة الأعراف: 154 ] .
وكانت التوراة فيما ذكر سبعين وَقْر بعير، يقرأ منها الجزء في سنة، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن خالد المكفوف قال، حدثنا عبد الرحمن, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس قال: أنـزلت التوراة وهي سبعون وَقْر بعير, يقرأ منها الجزء في سنة, لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى بن عمران, وعيسى, وعزير, ويوشع بن نون، صلوات الله عليهم.
واختلفوا في « الألواح » .
فقال بعضهم: كانت من زُمرد أخضر.
وقال بعضهم: كانت من ياقوت.
وقال بعضهم: كانت من بَرَد.
* ذكر الرواية بما ذكرنا من ذلك.
حدثني أحمد بن إبراهيم الدَّورقي قال، حدثنا حجاج بن محمد, عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ألقى موسى الألواح فتكسرت, فرفعت إلا سدسها قال ابن جريج: وأخبرني أن الألواح من زبرجد وزمرد من الجنة.
وحدثني موسى بن سهل الرملي، وعلي بن داود، وعبد الله بن أحمد بن شبويه، وأحمد بن الحسن الترمذي قالوا، أخبرنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: كانت ألواح موسى عليه السلام من بَرَد.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن أبي الجنيد, عن جعفر بن أبي المغيرة قال: سألت سعيد بن جبير عن الألواح، من أي شيء كانت؟ قال: كانت من ياقوتة، كتابة الذهب، كتبها الرحمن بيده, فسمع أهل السموات صريف القلم وهو يكتبها.
حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا عبد الرحمن, عن محمد بن أبي الوضاح, عن خصيف, عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال: كانت الألواح زمردًا, فلما ألقى موسى الألواح بقي الهدى والرحمة, وذهب التفصيل.
قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا الأشجعي, عن محمد بن مسلم , عن خصيف, عن مجاهد قال: كانت الألواح من زمرد أخضر.
وزعم بعضهم: أن الألواح كانت لوحين. فإن كان الذي قال كما قال, فإنه قيل: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ ، وهما لوحان, كما قيل: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [ سورة النساء: 11 ] ، وهما أخوان.
أما قوله: « وأخذ برأس أخيه يجره إليه » ، فإن ذلك من فعل نبي الله صلى الله عليه وسلم كان، لموجدته على أخيه هارون في تركه أتباعه، وإقامته مع بني إسرائيل في الموضع الذي تركهم فيه, كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل موسى عليه السلام له: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ؟ [ سورة طه: 92، 93 ] ، حين أخبره هارون بعذره فقبل عذره, وذلك قيله لموسى: لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ، [ سورة طه: 94 ] ، وقال: « يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء » ، الآية:
واختلفت القرأة في قراءة قوله: « يا ابن أم » .
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض أهل البصرة: ( يَا ابْنَ أُمَّ ) بفتح « الميم » من « الأم » .
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: ( يَا ابْنَ أُمِّ ) بكسر « الميم » من الأم.
واختلف أهل العربية في فتح ذلك وكسره, مع إجماع جميعهم على أنهما لغتان مستعملتان في العرب.
فقال بعض نحويي البصرة: قيل ذلك بالفتح، على أنهما اسمان جعلا اسمًا واحدًا, كما قيل: « يا ابن عمَّ » , وقال: هذا شاذ لا يقاس عليه.
وقال: من قرأ ذلك: « يا ابن أمِّ » , فهو على لغة الذين يقولون: « هذا غلامِ قد جاء؟ » , جعله اسمًا واحدًا آخره مكسور, مثل قوله: « خازِ باز » .
وقال بعض نحويي الكوفة: قيل: « يا ابن أمَّ » و « يا ابن عمَّ » , فنصب كما ينصب المعرب في بعض الحالات, فيقال: « يا حسرتا » , « يا ويلتا » . قال: فكأنهم قالوا: « يا أماه » ، و « يا عماه » ، ولم يقولوا ذلك في « أخ » , ولو قيل ذلك لكان صوابًا. قال: والذين خفضوا ذلك، فإنه كثر في كلامهم حتى حذفوا الياء. قال: ولا تكاد العرب تحذف « الياء » إلا من الاسم المنادَى يضيفه المنادِي إلى نفسه, إلا قولهم: « يا ابن أمِّ » و « يا ابن عمِّ » ، وذلك أنهما يكثر استعمالهما في كلامهم, فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا « الياء » فقالوا: « يا ابن أبي » و « يا ابن أختي، وأخي » ، و « يا ابن خالتي » , و « يا ابن خالي » .
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إذا فتحت « الميم » من « ابن أم » , فمرادٌ به الندبة: يا ابن أماه, وكذلك من « ابن عم » . فإذا كسرت فمرادٌ به الإضافة, ثم حذفت « الياء » التي هي كناية اسم المخبر عن نفسه. وكأن بعض من أنكر تشبيه كسر ذلك إذا كسر ككسر الزاي من « خاز باز » ، لأن « خاز باز » لا يعرف الثاني إلا بالأول، ولا الأول إلا بالثاني, فصار كالأصوات.
وحكي عن يونس الجرمي تأنيث « أم » وتأنيث « عم » , وقال: لا يجعل اسمًا واحدًا إلا مع « ابن » المذكر. قالوا: وأما اللغة الجيدة والقياسُ الصحيح، فلغة من قال: « يا ابن أمي » بإثبات « الياء » , كما قال أبو زبيد:
يَـا ابْـنَ أُمِّـي, وَيَـا شُـقَيِّقَ نَفْسِـي أَنْــتَ خَــلَّفْتَني لِدَهْــرٍ شَــدِيدِ
وكما قال الآخر:
يَـا ابْـنَ أُمِّـي! وَلَـوْ شَـهِدْتُكَ إِذْ تَدْ عُــو تَمِيمًـا وَأَنْـتَ غَـيْرُ مُجَـابِ
وإنما أثبت هؤلاء الياء في « الأم » ، لأنها غير مناداة, وإنما المنادى هو « الابن » دونها. وإنما تسقط العرب « الياء » من المنادى إذا أضافته إلى نفسها, لا إذا أضافته إلى غير نفسها, كما قد بينا.
وقيل: إن هارون إنما قال لموسى عليه السلام: « يا ابن أم » , ولم يقل: « يا ابن أبي » , وهما لأب واحد وأم واحدة, استعطافا له على نفسه برحم الأم.
وقوله: « إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني » ، يعني بالقوم، الذين عكفوا على عبادة العجل وقالوا: « هذا إلهنا وإله موسى » , وخالفوا هارون. وكان استضعافهم إياه: تركهم طاعته واتباع أمره « وكادوا يقتلونني » ، يقول: قاربوا ولم يفعلوا.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: « فلا تشمت » .
فقرأ قرأة الأمصار ذلك: ( فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ ) ، بضم « التاء » من « تشمت » وكسر « الميم » منها, من قولهم: « أشمت فلان فلانًا بفلان » , إذا سره فيه بما يكرهه المشمت به.
وروي عن مجاهد أنه قرأ ذلك: ( فَلا تَشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ ) .
حدثني بذلك عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال حميد بن قيس: قرأ مجاهد: ( فَلا تَشْمِتْ بِيَ الأعَدَاءُ ) .
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن حميد قال: قرأ مجاهد: ( فَلا تَشْمِتْ بِيَ الأعَدَاءُ ) .
حدثت عن يحيى بن زياد الفراء قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن رجل, عن مجاهد، أنه قال: ( لا تُشْمِتْ ) .
وقال الفراء: قال الكسائي: ما أدرى, فلعلهم أرادوا: فلا تشمت بي الأعداءُ، فإن تكن صحيحة فلها نظائر. العرب تقول: « فَرِغت وفَرَغت » , فمن قال: « فَرغت » ، قال: « أنا أفرُغ » , ومن قال: « فرِغت » ، قال: « أنا أفرَغُ » , وكذلك: « ركِنت » « وركَنت » ، و « شمِلهم أمرٌ » « وشمَلهم » , في كثير من الكلام. قال: « والأعداء » رفع، لأن الفعل لهم، لمن قال: « تشمَت » أو « تشمِت » .
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز القراءة إلا بها، قراءةُ من قرأ: ( فَلا تُشْمِتْ ) : بضم « التاء » الأولى، وكسر « الميم » من: « أشمتُّ به عدوه أشمته به » , ونصبِ « الأعداء » ، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليها، وشذوذ ما خالفها من القراءة, وكفى بذلك شاهدا على ما خالفها. هذا مع إنكار معرفة عامة أهل العلم بكلام العرب: « شمت فلان فلانًا بفلان » , و « شمت فلان بفلان يشمِت به » , وإنما المعروف من كلامهم إذا أخبروا عن شماتة الرجل بعدوِّه: « شمِت به » بكسر « الميم » : « يشمَت به » ، بفتحها في الاستقبال.
وأما قوله: « ولا تجعلني مع القوم الظالمين » ، فإنه قولُ هارون لأخيه موسى. يقول: لا تجعلني في موجدتك عليَّ وعقوبتك لي ولم أخالف أمرك، محلَّ من عصاك فخالف أمرك، وعبد العجل بعدك، فظلم نفسه، وعبد غيرَ من له العبادة, ولم أشايعهم على شيء من ذلك، كما:-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولا تجعلني مع القوم الظالمين » ، ) قال: أصحاب العجل.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، بمثله.
القول في تأويل قوله : قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( 151 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال موسى، لما تبين له عذر أخيه, وعلم أنه لم يفرط في الواجب الذي كان عليه من أمر الله، في ارتكاب ما فعله الجهلة من عبدة العجل: « رب اغفر لي » ، مستغفرًا من فعله بأخيه, ولأخيه من سالفٍ سلف له بينه وبين الله: تغمد ذنوبنا بستر منك تسترها به « وأدخلنا في رحمتك » ، يقول: وارحمنا برحمتك الواسعة عبادك المؤمنين, فإنك أنت أرحم بعبادك من كل من رحم شيئًا.
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ( 152 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « إن الذين اتخذوا العجل » إلهًا « سينالهم غضب من ربهم » ، بتعجيل الله لهم ذلك « وذلة » ، وهي الهوان, لعقوبة الله إياهم على كفرهم بربهم « في الحياة الدنيا » ، في عاجل الدنيا قبل آجل الآخرة.
وكان ابن جريج يقول في ذلك بما: -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: « إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين » ، قال: هذا لمن مات ممن اتخذ العجل قبل أن يرجع موسى عليه السلام, ومن فرّ منهم حين أمرهم موسى أن يقتل بعضهم بعضًا.
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله ابن جريج, وإن كان قولا له وجه, فإن ظاهر كتاب الله، مع تأويل أكثر أهل التأويل، بخلافه. وذلك أن الله عم بالخبر عمن اتخذ العجل أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وتظاهرت الأخبار عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين بأن الله إذ رجع إلى بني إسرائيل موسى عليه السلام, تابَ على عبدة العجل من فعلهم بما أخبر به عن قيل موسى عليه السلام في كتابه, وذلك قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ سورة البقرة: 54 ] ، ففعلوا ما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم. فكان أمرُ الله إياهم بما أمرهم به من قتل بعضهم أنفُس بعض, عن غضب منه عليهم بعبادتهم العجل. فكان قتل بعضهم بعضًا هوانًا لهم وذلة أذلهم الله بها في الحياة الدنيا, وتوبة منهم إلى الله قبلها. وليس لأحد أن يجعل خبرًا جاء الكتاب بعمومه، في خاصٍّ مما عمه الظاهر، بغير برهان من حجة خبر أو عقل. ولا نعلم خبرًا جاء بوجوب نقل ظاهر قوله: « إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم » ، إلى باطن خاصّ ولا من العقل عليه دليل, فيجب إحالة ظاهره إلى باطنه.
ويعني بقوله: « وكذلك نجزي المفترين » ، وكما جَزيت هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلهًا، من إحلال الغضب بهم, والإذلال في الحياة الدنيا على كفرهم ربّهم, ورِدَّتهم عن دينهم بعد إيمانهم بالله, كذلك نجزي كل من افترى على الله، فكذب عليه، وأقر بألوهية غيره، وعبد شيئًا سواه من الأوثان، بعد إقراره بوحدانية الله, وبعد إيمانه به وبأنبيائه ورسله وقِيلَ ذلك, إذا لم يتب من كفره قبل قتله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعةٌ من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أيوب قال: تلا أبو قلابة: « سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا » الآية، قال: فهو جزاء كل مفترٍ يكون إلى يوم القيامة: أن يذله الله عز وجل.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد, عن أيوب قال: قرأ أبو قلابة يومًا هذه الآية: « إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين » ، قال: هي والله لكل مفترٍ إلى يوم القيامة.
... قال حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد, عن ثابت، وحميد: أن قيس بن عُبَاد، وجارية بن قدامة، دخلا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه, فقالا أرأيت هذا الأمر الذي أنت فيه وتدعو إليه, أعهدٌ عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم رأيٌ رأيته؟ قال: ما لكما ولهذا؟ أعرضا عن هذا! فقالا والله لا نعرضُ عنه حتى تخبرنا! فقال: ما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كتابًا في قراب سيفي هذا! فاستلَّه، فأخرج الكتاب من قراب سيفه, وإذا فيه: « إنه لم يكن نبيّ إلا له حرم, وأنّي حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم عليه السلام مكة, لا يحمل فيها السلاحُ لقتال. من أحدث حدثًا أو آوى مُحدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, لا يقبل منه صرف ولا عَدْل » . فلما خرجا قال أحدهما لصاحبه: أما ترى هذا الكتاب؟ فرجعا وتركاه وقالا إنا سمعنا الله يقول « إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم » ، الآية, وإن القوم قد افتروا فرية, ولا أدري إلا سينـزل بهم ذلة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة: في قوله: « وكذلك نجزي المفترين » قال: كل صاحب بدعة ذليلٌ.
القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 153 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره أنه قابلٌ من كل تائب إليه من ذنب أتاه، صغيرةً كانت معصيته أو كبيرةً, كفرًا كانت أو غير كفر, كما قبل من عَبَدة العجل توبتهم بعد كفرهم به بعبادتهم العجل وارتدادهم عن دينهم. يقول جل ثناؤه: والذين عملوا الأعمال السيئة، ثم رجعوا إلى طلب رضى الله بإنابتهم إلى ما يحب مما يكره، وإلى ما يرضى مما يسخط، من بعد سيئ أعمالهم, وصدَّقوا بأن الله قابل توبة المذنبين، وتائبٌ على المنيبين، بإخلاص قلوبهم ويقين منهم بذلك « لغفور » ، لهم, يقول: لساتر عليهم أعمالهم السيئة, وغير فاضحهم بها « رحيم » ، بهم, وبكل من كان مثلهم من التائبين.
القول في تأويل قوله : وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ( 154 )
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولما سكت عن موسى الغضب » . ولما كفّ عنه وسكن.
وكذلك كل كافٍّ عن شيء: « ساكت عنه » ، وإنما قيل للساكت عن الكلام « ساكت » ، لكفه عنه.
وقد ذكر عن يونس الجرمي أنه قال يقال: « سكت عنه الحزن » ، وكلُّ شيء، فيما زعم، ومنه قول أبي النجم:
وَهَمَّــتِ الأفْعَــى بِــأَنْ تَسِـيحَا وَسَـــكَتَ المُكَّــاءُ أَنْ يَصِيحَــا
« أخذ الألواح » ، يقول: أخذها بعد ما ألقاها, وقد ذهب منها ما ذهب « وفي نسختها هدى ورحمة » ، يقول: وفيما نسخ فيها، أي كتب فيها « هدى » بيان للحق « ورحمة للذين هم لربهم يرهبون » ، يقول: للذين يخافون الله ويخشون عقابَه على معاصيه.
واختلف أهل العربية في وجه دخول « اللام » في قوله: « لربهم يرهبون » ، مع استقباح العرب أن يقال في الكلام: « رهبت لك » : بمعنى رهبتك « وأكرمت لك » ، بمعنى أكرمتك. فقال بعضهم: ذلك كما قال جل ثناؤه: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ، [ سورة يوسف: 43 ] ، أوصل الفعل باللام.
وقال بعضهم: من أجل ربِّهم يرهبون.
وقال بعضهم: إنَّما دخلت عَقِيب الإضافة: الذين هم راهبون لربهم، وراهبُو ربِّهم ثم أدخلت « اللام » على هذا المعنى، لأنها عَقِيب الإضافة، لا على التكليف.
وقال بعضهم: إنما فعل ذلك، لأن الاسم تقدم الفعل, فحسن إدخال « اللام » .
وقال آخرون: قد جاء مثله في تأخير الاسم في قوله: رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [ سورة النمل: 72 ] .
وذكر عن عيسى بن عمر أنه قال: سمعت الفرزدق يقول: « نقدت له مائة درهم » ، يريد: نقدته مائة درهم. قال: والكلام واسع.
القول في تأويل قوله : وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واختار موسى من قومه سبعين رجلا للوقت والأجل الذي وعده الله أن يلقاه فيه بهم، للتوبة مما كان من فعل سفهائهم في أمر العجل، كما: -
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي، قال: إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناسٍ من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل, ووعدهم موعدًا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه, ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة, فإنك قد كلمته، فأرناه! فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رَبِّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم, لو شئتَ أهلكتهم من قبل وإيّاي!
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخيِّر فالخيرَ, وقال: انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم, واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم, صوموا وتَطَهَّروا, وطهِّروا ثيابكم! فخرج بهم إلى طور سيْناء، لميقات وقَّته له ربه. وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم. فقال السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به, وخرجوا معه للقاء ربِّه، لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربِّنا! فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل, وقع عليه عمودُ الغمام، حتى تغشى الجبلَ كله. ودنا موسى فدخل فيه, وقال للقوم: ادنوا! وكان موسى إذا كلمه الله وقَع على جبهته نور ساطع, لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه! فضرب دونه بالحجاب. ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقَعوا سجودًا, فسمعوه وهو يكلِّم موسى, يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل! فلما فرغ الله من أمره، انكشف عن موسى الغمام. أقبل إليهم, فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة! فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فَافْتُلِتَتْ أرواحهم، فماتوا جميعًا, وقام موسى عليه السلام يناشد ربّه ويدعوه ويرغب إليه, ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبلُ وإياي! قد سفهوا! أفتهلك مَنْ ورائي من بني إسرائيل؟
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: « واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا » ، قال: كان الله أمرَه أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرزَ بهم ليدعوا ربَّهم. فكان فيما دَعَوُا الله قالوا: اللهم أعطِنا ما لم تعط أحدًا بعدنا! فكره الله ذلك من دعائهم, فأخذتهم الرجفة. قال موسى: ربِّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيَّاي!
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن حيان, عن جعفر, عن ميمون: « واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا » ، قال: لموعدهم الذي وعدهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « سبعين رجلا لميقاتنا » ، قال: اختارهم لتمام الوعد.
وقال آخرون: إنما أخذتهم الرجفة من أجل دَعْواهم على موسى قتلَ هارون.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا سفيان قال، حدثني أبو إسحاق, عن عمارة بن عبد السَّلولي, عن علي رضي الله عنه قال: انطلق موسى وهارون وشبر وشبير, فانطلقوا إلى سفح جَبَلٍ, فنام هارون على سرير, فتوفاه الله. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفّاه الله. قالوا: أنت قتلته، حسدتنا على خُلقه ولينه أو كلمة نحوها قال: فاختاروا من شئتم! قال: فاختاروا سبعين رجلا. قال: فذلك قوله: « واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا » ، قال: فلما انتهوا إليه، قالوا: يا هارون، من قتلك؟ قال: ما قتلني أحد, ولكنني توفّاني الله! قالوا: يا موسى لن تعصَي بعد اليوم! قال: فأخذتهم الرجفة. قال: فجعل موسى يرجع يمينًا وشمالا وقال: « يا رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء » ، قال: فأحياهم الله وجعلهم أنبياءَ كلهم.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق, عن رجل من بني سلول, أنه سمع عليًّا رضي الله عنه يقول في هذه الآية: « واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا » ، قال: كان هارون حسنَ الخلق محبَّبًا في بني إسرائيل. قال: فلما مات، دَفَنَه موسى. قال: فلما أتى بني إسرائيل، قالوا له: أين هارون؟ قال: مات! فقالوا: قتلته! قال: فاختار منهم سبعين رجلا. قال: فلما أتوا القبرَ قال موسى: أقُتِلت أو مِتّ! قال مت! فأُصعقوا, فقال موسى: ربِّ ما أقول لبني إسرائيل؟ إذا رجعت يقولون: أنت قتلتهم! قال: فأحيُوا وجُعِلوا أنبياء.
حدثني عبد الله بن الحجاج بن المنهال قال، حدثنا أبي قال، حدثنا الربيع بن حبيب قال: سمعت أبا سعيد يعني الرقاشي وقرأ هذه الآية: « واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا » ، فقال: كانوا أبناءَ ما عدا عشرين، ولم يتجاوزوا الأربعين, وذلك أن ابن عشرين قد ذهب جهلُه وصباه, وأنّ من لم يتجاوز الأربعين لم يفقد من عقله شيئًا.
وقال آخرون: إنما أخذت القوم الرَّجفة، لتركهم فِراق عبدة العجل, لا لأنهم كانوا من عَبَدته.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: « واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا » ، فقرأ حتى بلغ: السُّفَهَاءُ مِنَّا ، ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إنما تناولتهم الرجفة، لأنهم لم يزايلوا القوم حين نَصَبُوا العجل, وقد كرهوا أن يجامِعُوهم عليه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: « واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا » ، ممن لم يكن قال ذلك القول، على أنهم لم يجامعوهم عليه, فأخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم يكونوا باينوا قومَهم حين اتخذوا العجل. قال: فلما خرجوا ودعوا, أماتهم الله ثم أحياهم. فلما أخذتهم الرجفة قال: « رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا » .
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، قال مجاهد: « واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا » و « الميقات » ، الموعد فلما أخذتهم الرجفة بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاءَ فلم يستجب لهم، علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصابَه قومهم قال أبو سعد فحدثني محمد بن كعب القرظي قال: لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ويأمروهم بالمعروف. قال: فأخذتهم الرجفة، فماتوا ثم أحياهم الله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عون , عن سعيد بن حيان, عن ابن عباس: أن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه, إنما أخذتهم الرجفة، أنهم لم يرضَوا ولم ينهَوا عن العجل.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عون قال، حدثنا سعيد بن حيان, عن ابن عباس, بنحوه.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله: « قومه سبعين رجلا لميقاتنا » . فقال بعض نحويي البصرة: معناه: واختار موسى من قومه سبعين رجلا فلما نـزع « من » أعمل الفعل, كما قال الفرزدق:
وَمِنَّـا الَّـذِي اخْـتِيرَ الرِّجَـالَ سَمَاحَةً وَجُـودًا, إِذَا هَـبَّ الرِّيَـاحُ الزَّعَـازِعُ
وكما قال الآخر:
أَمَـرْتُكَ الْخَـيْرَ, فَـافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَقَــدْ تَــرَكْتُكَ ذَا مَـالٍ وَذَا نَشَـبٍ
وقال الراعي:
اخْـتَرْتُكَ النَّـاسَ إِذْ غَثَّـتْ خَـلائِقُهُمْ وَاعْتَـلَّ مَـنْ كَـانَ يُرْجَى عِنْدَهُ السُّولُ
وقال بعض نحويي الكوفة: إنما استُجيز وقوع الفعل عليهم إذا طرحت « من » , لأنه مأخوذ من قولك: « هؤلاء خير القوم » و « خير من القوم » , فلما جازت الإضافة مكان « من » ولم يتغير المعنى, استجازُوا: أن يقولوا: « اخترتكم رجلا » , و « اخترت منكم رجلا » ، وقد قال الشاعر:
فَقُلْتُ لَهُ: اخْتَرْهَا قَلُوصًا سَمِينَةً
وقال الراجز:
* تَحْتَ الَّتِي اخْتَارَ لَهُ اللهُ الشَّجَرْ *
بمعنى: اختارَها له الله من الشجر.
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أولى عندي في ذلك بالصواب، لدلالة « الاختيار » على طلب « من » التي بمعنى التبعيض, ومن شأن العرب أن تحذف الشيء من حَشْو الكلام إذا عُرِف موضعه, وكان فيما أظهرت دلالةٌ على ما حذفت. فهذا من ذلك إن شاء الله.
وقد بينا معنى « الرجفة » فيما مضى بشواهدها, وأنّها: ما رجف بالقوم وزعزعهم وحرّكهم، أهلكهم بعدُ فأماتهم، أو أصعقهم, فسلب أفهامهم.
وقد ذكرنا الرواية في غير هذا الموضع وقول من قال: إنها كانت صاعقة أماتتهم.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فلما أخذتهم الرجفة » ، ماتوا ثم أحياهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « سبعين رجلا لميقاتنا » ، اختارهم موسى لتمام الموعد « فلما أخذتهم الرجفة » ، ماتوا ثم أحياهم الله.
حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس: « فلما أخذتهم الرجفة » ، قال: رُجف بهم.
القول في تأويل قوله : أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ( 155 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: أتهلك هؤلاء الذين أهلكتهم بما فعل السفهاء منا، أي: بعبادة من عبد العجل؟ قالوا: وكان الله إنما أهلكهم لأنهم كانوا ممن يَعبد العجل. وقال موسى ما قال، ولا علم عنده بما كان منهم من ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أتهلكنا بما فعل السفهاء منا » ، فأوحى الله إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجلَ! فذلك حين يقول موسى: « إن هي إلا فتنتك تُضل بها من تشاء وتهدي من تشاء » .
وقال آخرون: معنى ذلك: إن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم، هلاك لمن وراءهم من بني إسرائيل، إذا انصرفت إليهم وليسوا معي و « السفهاء » ، على هذا القول، كانوا المهلَكين الذين سألوا موسى أن يُرِيهم ربَّهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: لما أخذت الرجفة السبعين فماتوا جميعًا, قام موسى يناشد ربّه ويدعوه ويرغب إليه، يقول: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ، قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا؟ أي: إن هذا لهم هلاكٌ, قد اخترت منهم سبعين رجلا الخيِّر فالخيِّر, أرجع إليهم وليس معى رجل واحد! فما الذي يصدِّقونني به، أو يأمنونني عليه بعد هذا؟
وقال آخرون في ذلك بما: -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أتهلكنا بما فعل السفهاء منا » ، أتؤاخذنا وليس منا رجلٌ واحد تَرَك عبادتك، ولا استبدل بك غيرك؟
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية, قولُ من قال: إن موسى إنما حزن على هلاك السبعين بقوله: « أتهلكنا بما فعل السفهاء منا » ، وأنّه إنما عنى ب « السفهاء » عبدةَ العجل. وذلك أنه محالٌ أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم كان تخيَّر من قومه لمسألة ربِّه ما أراه أن يسألَ لهم إلا الأفضل فالأفضل منهم, ومحالٌ أن يكون الأفضل كان عنده مَنْ أشرك في عبادة العجل واتخذَه دون الله إلهًا.
قال: فإن قال قائل: فجائز أن يكون موسى عليه السلام كان معتقدًا أن الله سبحانه يعاقب قومًا بذنوب غيرهم, فيقول: أتهلكنا بذنوب من عبد العجل, ونحن من ذلك برآء؟ قيل: جائز أن يكون معنى « الإهلاك » قبض الأرواح على غير وجه العقوبة, كما قال جل ثناؤه: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ، [ سورة النساء: 176 ] يعني: مات فيقول: أتميتنا بما فعل السُّفهاء منَّا؟
وأما قوله: « إن هي إلا فتنتك » ، فإنه يقول جل ثناؤه: ما هذه الفعلة التي فعلَها قومي، من عبادتهم ما عبَدُوا دونك, إلا فتنة منك أصَابتهم ويعني ب « الفتنة » ، الابتلاء والاختبار يقول: ابتليتهم بها، ليتبين الذي يضلَّ عن الحق بعبادته إياه، والذي يهتدي بترك عبادته. وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله, إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سببٍ منه جل ثناؤه.
وبنحو ما قلنا في « الفتنة » قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبى, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( إن هي إلا فتنتك ) ، قال: بليّتك.
.... قال ) ، دثنا حبويه الرازي, عن يعقوب, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير: « إلا فتنتك » ، : إلا بليتك.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر, عن الربيع بن أنس: « إن هي إلا فتنتك » ، قال: بليتك.
.... قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء » ، إن هو إلا عذابك تصيبُ به من تشاء, وتصرفه عمن تشاء.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « إن هي إلا فتنتك » ، أنت فتنتهم.
وقوله: « أنت ولينا » ، يقول: أنت ناصرنا. « فاغفر لنا » ، يقول: فاستر علينا ذنوبَنا بتركك عقابَنا عليها « وارحمنا » ، تعطف علينا برحمتك « وأنت خير الغافرين » ، يقول: خير من صَفَح عن جُرم، وسَتر على ذنب.
القول في تأويل قوله : وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مخبرًا عن دعاء نبيه موسى عليه السلام أنه قال فيه: « واكتب لنا » ، أي: اجعلنا ممن كتَبت له « في هذه الدنيا حسنَةً » ، وهي الصالحات من الأعمال « وفي الآخرة » ، ممن كتبتَ له المغفرة لذنوبه، كما : -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة » ، قال: مغفرة.
وقوله: « إنا هُدنا إليك » ، يقول: إنا تبنا إليك.
وبنحو ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، وابن فضيل، وعمران بن عيينة, عن عطاء, عن سعيد بن جبير وقال عمران: عن ابن عباس « إنا هدنا إليك » قال: تبنا إليك.
قال حدثنا زيد بن حباب, عن حماد بن سلمة, عن عطاء, عن سعيد بن جبير، قال: تبنا إليك.
.... قال، حدثنا جابر بن نوح, عن أبي روق، عن الضحاك, عن ابن عباس قال: تبنا إليك.
.... قال، حدثنا عبد الله بن بكر, عن حاتم بن أبي صغيرة, عن سماك: أن ابن عباس قال في هذه الآية: « إنا هدنا إليك » ، قال: تبنا إليك.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير قال: أحسبه عن ابن عباس: « إنا هدنا إليك » ، قال: تبنا إليك.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « إنا هدنا إليك » ، يقول تبنا إليك.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن سعيد بن جبير في قوله: « إنا هدنا إليك » ، قال: تبنا إليك.
.... قال، حدثنا عبد الرحمن، ووكيع بن الجراح قالا حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني, عن سعيد بن جبير، بمثله.
حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن الأصبهاني, عن سعيد بن جبير, مثله.
.... قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم قال: تبنا إليك.
.... قال، حدثنا محمد بن يزيد، عن العوام عن إبراهيم التيمي قال: تبنا إليك.
15187م- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن العوام, عن إبراهيم التيمي، مثله.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « إنا هدنا إليك » ، أي: إنا تبنا إليك.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: « هدنا إليك » ، قال: تبنا.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إنا هدنا إليك » ، يقول: تبنا إليك.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « إنا هدنا إليك » ، يقول: تبنا إليك.
حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية، قال: « هدنا إليك » ، قال: تبنا إليك.
... قال، حدثنا أبي, عن أبي حجير, عن الضحاك، قال: تبنا إليك.
.... قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك قال: تبنا إليك.
وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول, فذكر مثله.
... قال، حدثنا أبي، وعبيد الله, عن شريك, عن جابر, عن مجاهد قال: تبنا إليك.
... قال، حدثنا حبويه أبو يزيد, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جبير, مثله.
... قال، حدثنا أبي, عن شريك, عن جابر, عن عبد الله بن يحيى, عن علي عليه السلام قال: إنما سميت « اليهود » ، لأنهم قالوا: « هدنا إليك » .
حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « إنا هدنا إليك » ، يعني: تبنا إليك.
حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو قال، سمعت رجلا يسأل سعيدًا: « إنا هدنا إليك » ، قال: إنا هدنا إليك.
وقد بينا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله : قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ( 156 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال الله لموسى: هذا الذي أصبتُ به قومك من الرجفة، عذابي أصيب به من أشاء من خلقي, كما أصيب به هؤلاء الذين أصبتهم به من قومك « ورحمتي وسعت كل شيء » ، يقول: ورحمتي عمَّت خلقي كلهم.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: مخرجه عامٌّ، ومعناه خاص, والمراد به: ورحمتي وَسِعت المؤمنين بي من أمة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم. واستشهد بالذي بعده من الكلام, وهو قوله: « فسأكتبها للذين يتقون » ، الآية.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثني قال، حدثنا أبو سلمة المنقري قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أنه قرأ: « ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون » . قال: جعلها الله لهذه الأمة.
حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، قال سفيان قال، أبو بكر الهذلي: فلما نـزلت: « ورحمتي وسعت كل شيء » ، قال إبليس: أنا من « الشيء » ! فنـزعها الله من إبليس، قال: ( فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) ، فقال اليهود: نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا! فنـزعها الله من اليهود فقال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ، قال: نـزعها الله عن إبليس، وعن اليهود، وجعلها لهذه الأمة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: لما نـزلت: « ورحمتي وسعت كل شيء » ، قال إبليس: أنا من « كل شيء! » . قال الله: ( فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) ، الآية. فقالت اليهود: ونحن نتقي ونؤتي الزكاة! فأنـزل الله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ، قال: نـزعها الله عن إبليس، وعن اليهود, وجعلها لأمة محمدٍ: سأكتبها للذين يتّقون من قومك.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء » ، فقال إبليس: أنا من ذلك « الشيء » ! فأنـزل الله: « فسأكتبها للذين يتقون » معاصي الله « والذين هم بآياتنا يؤمنون » ، فتمنتها اليهود والنصارى، فأنـزل الله شرطًا وَثيقًا بَيِّنًا, فقال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ، فهو نبيّكم، كان أميًّا لا يكتُب صلى الله عليه وسلم.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا خالد الحذاء, عن أنيس بن أبي العريان, عن ابن عباس في قوله: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ، قال: فلم يعطها, فقال: « عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون » إلى قوله: الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ .
حدثني ابن وكيعٍ قال، حدثنا ابن علية، وعبد الأعلى, عن خالد, عن أنيس أبي العُريان قال عبد الأعلى، عن أنيس أبي العُرْيان وقال: قال ابن عباس: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ، قال: فلم يعطها موسى، قال: « عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها » ، إلى آخر الآية.
حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: كان الله كتب في الألواح ذكر محمد وذكرَ أمته، وما ذَخَر لهم عنده، وما يسَّر عليهم في دينهم، وما وَسَّع عليهم فيما أحلّ لهم, فقال: « عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون » يعني: الشركَ الآية.
وقال آخرون: بل ذلك على العموم في الدنيا، وعلى الخصوص في الآخرة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحسن وقتادة في قوله: « ورحمتي وسعت كل شيء » ، قالا وسعت في الدنيا البَرَّ والفاجر, وهي يوم القيامة للذين اتَّقوا خاصَّةً.
وقال آخرون: هي على العموم, وهي التوبة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ، قال: سأل موسى هذا, فقال الله: « عذابي أصيب به من أشاء » العذاب الذي ذَكر « ورحمتي » ، التوبةُ ( وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ) ، قال: فرحمته التوبةُ التي سأل موسى عليه السلام، كتبها الله لنا.
وأما قوله: « فسأكتبها للذين يتقون » ، فإنه يقول: فسأكتب رحمتي التي وسعت كل شيء ومعنى « أكتب » في هذا الموضع: أكتب في اللوح الذي كُتِب فيه التوراة « للذين يتقون » ، يقول: للقوم الذين يخافون الله ويخشون عقابه على الكفر به والمعصية له في أمره ونهيه, فيؤدُّون فرائضه, ويجتنبون معاصيه. وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنّهم يتقونه. فقال بعضهم: هو الشرك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « فسأكتبها للذين يتقون » ، يعني الشرك.
وقال آخرون: بل هو المعاصي كلها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة « فسأكتبها للذين يتقون » ، معاصي الله.
وأما « الزكاة وإيتاؤها » ، فقد بيَّنا صفتها فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
وقد ذكر عن ابن عباس في هذا الموضع أنه قال في ذلك ما: -
حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « ويؤتون الزكاة » ، قال: يطيعون الله ورسولَه.
فكأنّ ابن عباس تأوَّل ذلك بمعنى أنه العمل بما يزكِّي النفسَ ويطهِّرها من صالحات الأعمال.
وأما قوله: « والذين هم بآياتنا يؤمنون » ، فإنه يقول: وللقوم الذين هم بأعلامنا وأدلتنا يصدِّقون ويقرُّون.
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ
قال أبو جعفر: وهذا القول إبانةٌ من الله جل ثناؤه عن أنّ الذين وَعَد موسى نبيَّه عليه السلام أن يكتب لهم الرحمة التي وصفَها جل ثناؤه بقوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ، هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم, لأنه لا يعلم لله رسولٌ وُصف بهذه الصفة أعني « الأمي » غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وبذلك جاءت الروايات عن أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
.... قال، حدثنا زيد بن حباب, عن حماد بن سلمة, عن عطاء, عن ابن عباس قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد في قوله: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فقال موسى عليه السلام: ليتني خلقت في أمّة محمدٍ!.
حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ، قال: الذين يتّبعون محمدًا صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن شهر بن حوشب, عن نوف الحميري قال: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه، قال الله لموسى: أجعل لكم الأرض مسجدًا وطهورًا, وأجعل السكينة معكم في بيوتكم, وأجعلكم تقرأون التوراة عن ظَهْر قلوبكم, يقرؤها الرجل منكم والمرأةُ، والحرُّ والعبدُ، والصغير والكبير. فقال موسى لقومه: إن الله قد يجعل لكم الأرض طهورًا ومسجدًا. قالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس! قال: ويجعل السكينة معكم في بيوتكم. قالوا: لا نريد إلا أن تكون كما كانت، في التابوت! قال: ويجعلكم تقرأون التوراة عن ظهر قلوبكم, ويقرؤها الرجل منكم والمرأة، والحر والعبد، والصغير والكبير. قالوا: لا نريد أن نقرأها إلا نظرًا! فقال الله: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ إلى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن يحيى بن أبي كثير, عن نوف البكالي قال: لما انطلق موسى بوفد بني إسرائيل، كلّمه الله فقال: إني قد بسطت لهم الأرض طهورًا ومساجدَ يصلُّون فيها حيث أدركتهم الصلاة، إلا عند مرحاضٍ أو قبر أو حمّام, وجعلت السكينة في قلوبهم, وجعلتهم يقرأون التوراةَ عن ظهر ألسنتهم. قال: فذكر ذلك موسى لبني إسرائيل, فقالوا: لا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا, فاجعلها لنا في تابوت, ولا نقرأ التوراة إلا نظرًا, ولا نصلي إلا في الكنيسة! فقال الله: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ، حتى بلغ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قال: فقال موسى عليه السلام: يا ربّ، اجعلني نبيَّهم! قال: نبيُّهم منهم! قال: رب اجعلني منهم! قال: لن تدركهم! قال: يا ربّ، أتيتك بوفد بني إسرائيل, فجعلت وِفَادَتنا لغيرنا! فأنـزل الله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [ سورة الأعراف: 159 ] . قال نوف البكالي: فاحمدوا الله الذي حَفظ غيبتكم, وأخذ لكم بسهمكم, وجعل وفادة بني إسرائيل لكم.
حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن يحيى بن أبي كثير, عن نوف البكالي بنحوه إلا أنه قال: فإني أنـزل عليكم التوراة تقرأونها عن ظهر ألسنتكم, رجالكم ونساؤُكم وصبيانكم. قالوا: لا نُصلّي إلا في كنيسة, ثم ذكر سائر الحديث نحوه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جبير: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ، قال: هؤلاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: لما قيل: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ، تمنّتها اليهود والنصارى, فأنـزل الله شرطًا بيّنًا وثيقًا فقال: « الذين يتبعون الرَّسول النبيّ الأمي » ، وهو نبيكم صلى الله عليه وسلم، كان أمِّيًّا لا يكتبُ.
وقد بينا معنى « الأمي » فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: « الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل » ، فإن « الهاء » في قوله: « يجدونه » ، عائدة على « الرسول » , وهو محمّد صلى الله عليه وسلم، كالذي: -
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, قوله: « الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ » ، هذا محمّد صلى الله عليه وسلم.
حدثني ابن المثني قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا فليح، عن هلال بن علي, عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو, فقلت: أخبرني عن صفة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل والله، إنه لموصوف في التوراة كصفتِه في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومُبَشِّرًا ونذيرًا، وحِرْزًا للأمِّيين, أنت عبدي ورسولي, سميتك المتوكّل, ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخَّاب في الأسواق, ولا يجزي بالسيئة السيئة, ولكن يعفو ويصفح، ولن نقبضه حتى نقيم به الملةَ العوجاء, بأن يقولوا: « لا إله إلا الله » ، فنفتح به قلوبًا غُلْفًا، وآذانًا صُمًّا, وأعينًا عُمْيًا قال عطاء: ثم لقيتُ كعبًا فسألته عن ذلك, فما اختلفا حرفًا, إلا أن كعبًا قال بلغته: قلوبًا غُلُوفيا، وآذانًا صمومِيَا, وأعينًا عُمْوميا.
حدثني أبو كريب قال، حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا فليح بن سليمان, عن هلال بن علي قال، حدثني عطاء قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص, فذكر نحوه إلا أنه قال في كلام كعب: أعينًا عمومَا, وآذانًا صموما, وقلوبًا غُلُوفَا.
... قال، حدثنا موسى قال، حدثنا عبد العزيز بن سلمة, عن هلال بن علي, عن عطاء بن يسار, عن عبد الله بنحوه وليس فيه كلام كعب.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال الله: « الذي يجدونه مكتوبًا عندهم » ، يقول: يجدون نعتَه وأمرَه ونبوّته مكتوبًا عندهم.
القول في تأويل قوله : يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يأمر هذا النبيُّ الأميُّ أتباعَه بالمعروف وهو الإيمان بالله ولزوم طاعته فيما أمر ونهى, فذلك « المعروف » الذي يأمرهم به « وينهاهم عن المنكر » وهو الشرك بالله, والانتهاء عمّا نهاهم الله عنه. وقوله: « ويحل لهم الطيبات » ، وذلك ما كانت الجاهلية تحرِّمه من البحائر والسَّوائب والوصائل والحوامي « ويحرم عليهم الخَبَائث » ، وذلك لحم الخنـزير والرِّبا وما كانوا يستحلونه من المطاعم والمشارب التي حرمها الله، كما:-
حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « ويحرم عليهم الخبائث » ، وهو لحم الخنـزير والربا, وما كانوا يستحلونه من المحرَّمات من المآكلِ التي حرمها الله.
وأما قوله: « ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم » ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: يعني بـ « الإصر » ، العهدَ والميثاقَ الذي كان أخذه على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جابر بن نوح, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: « ويضع عنهم إصرهم » ، قال: عهدهم.
... قال حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك، قال: عهدهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن علي قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن مبارك, عن الحسن: « ويضع عنهم إصرهم » ، قال: العهود التي أعطوها من أنفسهم.
.... قال، حدثنا ابن نمير, عن موسى بن قيس, عن مجاهد: « ويضع عنهم إصرهم » ، قال: عهدهم.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم » ، يقول: يضع عنهم عهودهم ومواثيقَهم التي أخذت عليهم في التوراة والإنجيل.
حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم » ، ما كان الله أخذ عليهم من الميثاق فيما حرّم عليهم. يقول: يضع ذلك عنهم.
وقال بعضهم: عني بذلك أنه يضع عمن اتّبع نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، التشديدَ الذي كان على بني إسرائيل في دينهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم » ، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم بإقالةٍ منه وتجاوزٍ عنه.
حدثني المثني قال حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد: « ويضع عنهم إصرهم » ، قال: البولَ ونحوه، مما غُلِّظ على بني إسرائيل.
.... قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد قال: شدّة العمل.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله: « ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم » قال: من اتبع محمدًا ودينه من أهل الكتاب, وُضع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل, عن أشعث, عن ابن سيرين قال: قال أبو هريرة لابن عباس: ما علينا في الدين من حَرَج أن نـزني ونسرق؟ قال: بلى! ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وُضِع عنكم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ويضع عنهم إصرهم » ، قال: إصرهم الذي جعله عليهم.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ « الإصر » هو العهد وقد بينا ذلك بشواهده في موضعٍ غير هذا بما فيه الكفاية وأن معنى الكلام: ويضع النبيُّ الأميُّ العهدَ الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل، من إقامة التوراة والعملِ بما فيها من الأعمال الشديدة، كقطع الجلد من البول, وتحريم الغنائم, ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم مفروضةً, فنسخها حُكْم القرآن.
وأما « الأغلال التي كانت عليهم » , فكان ابن زيد يقول بما: -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عنه في قوله: « والأغلال التي كانت عليهم » ، قال: « الأغلال » ، وقرأ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [ سورة المائدة: 64 ] . قال: تلك الأغلال. قال: ودعاهم إلى أن يؤمنوا بالنبيّ فيضع ذلك عنهم.
القول في تأويل قوله : فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْـزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 157 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فالذين صدَّقوا بالنبي الأمي, وأقرُّوا بنبوّته « وعزَّروه » ، يقول: وَقَّروه وعظموه وحَمَوه من الناس، كما: -
حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « وعزروه » ، يقول: حموه وقَّروه.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثني موسى بن قيس, عن مجاهد: « وعزروه ونصروه » : « عزَّروه » ، سدَّدوا أمره, وأعانوا رَسُوله « ونَصَرُوه » .
وقوله: « نصروه » ، يقول: وأعانوه على أعداء الله وأعدائه، بجهادهم ونصب الحرب لهم « واتبعوا النور الذي أنـزل معه » ، يعني القرآن والإسلام « أولئك هم المفلحون » ، يقول: الذين يفعلون هذه الأفعال التي وصف بها جل ثناؤه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، هم المنجحون المدرِكون ما طلبُوا ورجَوْا بفعلهم ذلك.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: فما نقموا يعني اليهود إلا أن حسدوا نبيَّ الله, فقال الله: « الذين آمنوا به وعزّروه ونصروه » ، فأما نصره وتعزيره فقد سبقتم به, ولكن خياركم من آمن بالله واتَّبع النور الذي أنـزل معه.
يريد قتادة بقوله « فما نَقَموا إلا أن حسدوا نبي الله » ، أن اليهودَ كان محمَّد صلى الله عليه وسلم بما جاء به من عند الله رحمةً عليهم لو اتبعوه, لأنه جاء بوضع الإصر والأغلال عنهم, فحملهم الحسد على الكفر به، وترك قبول التخفيف، لغلبة خِذْلانِ الله عليهم.
القول في تأويل قوله : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد للناس كلهم « إنّي رسول الله إليكم جميعًا » ، لا إلى بعضكم دون بعض, كما كان من قبلي من الرُّسل, مرسلا إلى بعض الناس دون بعض. فمن كان منهم أرسل كذلك, فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض، ولكنها إلى جميعكم.
وقوله: « الذي » ، من نعت اسم « الله » وإنما معنى الكلام: قل: يا أيها الناس إني رسول الله، الذي له ملك السموات والأرض، إليكم.
ويعني جل ثناؤه بقوله: « الذي له ملك السموات والأرض » ، الذي له سلطان السَّموات والأرض وما فيهما, وتدبير ذلك وتصريفه « لا إله إلا هو » ، يقول: لا ينبغي أن تكون الألوهة والعِبادة إلا له جل ثناؤه، دون سائر الأشياء غيره من الأنداد والأوثان, إلا لمن له سلطان كل شيء، والقادر على إنشاء خلق كل ما شاء وإحيائه، وإفنائه إذا شاء إماتته « فآمنوا بالله ورسوله » ، يقول جل ثناؤه: قل لهم: فصدِّقوا بآيات الله الذي هذه صفته, وأقِرُّوا بوحدانيته, وأنه الذي له الألوهة والعبادة, وصدقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنَّه مبعوث إلى خلقه، داع إلى توحيده وطاعته.
القول في تأويل قوله : النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 158 )
قال أبو جعفر: أما قوله: « النبي الأمي » ، فإنه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد بينت معنى « النبي » فيما مضى بما أغنى عن إعادته ومعنى قوله: « الأمي » .
« الذي يؤمن بالله » ، يقول: الذي يصدق بالله وكلماته.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « وكلماته » .
فقال بعضهم: معناه: وآياته.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: « الذي يؤمن بالله وكلماته » ، يقول: آياته.
وقال آخرون: بل عنى بذلك عيسى ابن مريم عليه السلام.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله: « الذي يؤمن بالله وكلماته » ، قال: عيسى ابن مريم.
وحدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « الذي يؤمن بالله وكلماته » ، فهو عيسى ابن مريم.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنَّ الله تعالى ذكره أمرَ عباده أن يصدِّقوا بنبوِّة النبيّ الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، ولم يخصص الخبرَ جل ثناؤه عن إيمانه من « كلمات الله » ببعض دون بعضٍ, بل أخبرهم عن جميع « الكلمات » , فالحق في ذلك أن يعمَّ القول, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمن بكلمات الله كلِّها، على ما جاء به ظاهرُ كتابِ الله.
وأما قوله: « واتبعوه لعلكم تهتدون » ، فاهتدوا به أيها الناس, واعملوا بما أمركم أن تعملوا به من طاعة الله « لعلكم تهتدون » ، يقول: لكي تهتدوا فترشدوا وتصيبوا الحقّ في اتّباعكم إيّاه.
القول في تأويل قوله : وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( 159 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « ومن قوم موسى » ، يعني بني إسرائيل « أمة » ، يقول: جماعة « يهدون بالحق » ، يقول: يهتدون بالحق، أي يستقيمون عليه ويعملون « وبه يعدلون » ، أي: وبالحق يعطُون ويأخذون, ويُنصفون من أنفسهم فلا يجورون.
وقد قال في صفة هذه الأمة التي ذكرها الله في الآية، جماعةٌ أقوالا نحن ذاكرو ما حضَرنا منها.
حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن صدقة أبي الهذيل, عن السدي: « ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون » ، قال: قوم بينكم وبينهم نهر من شُهْدِ.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون » ، قال: بلغني أن بني إسرائيل لمّا قتلوا أنبياءَهم، كفروا. وكانوا اثني عشر سبطًا, تبرّأ سبطٌ منهم مما صنعوا, واعتذروا, وسألوا الله أن يفرِّق بينهم وبينهم, ففتح الله لهم نَفَقًا في الأرض, فساروا فيه حتى خرجُوا من وراء الصين, فهم هنالك، حُنَفاء مسلمُون يستقبلون قبلتنا قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [ سورة الإسراء: 104 ] . و وَعْدُ الآخِرَةِ ، عيسى ابن مريم، يخرجون معه قال ابن جريج: قال ابن عباس: ساروا في السَّرَب سنة ونصفًا.
القول في تأويل قوله : وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فرقناهم يعني قوم موسى من بني إسرائيل, فرقهم الله فجعلهم قبائل شتى, اثنتي عشرة قبيلة.
وقد بينا معنى « الأسباط » ، فيما مضى، ومن هم.
واختلف أهل العربية في وجه تأنيث « الاثنتي عشرة » ، و « الأسباط » جمع مذكر. فقال بعض نحويي البصرة: أراد اثنتي عشرة فرقة, ثم أخبر أن الفرق « أسباط » , ولم يجعل العدد على « أسباط » .
وكان بعضهم يستخِلُّ هذا التأويل ويقول لا يخرج العدد على غير التالي, ولكن « الفرق » قبل « الاثنتي عشرة » ، حتى تكون « الاثنتا عشرة » مؤنثة على ما قبلها, ويكون الكلام: وقطعناهم فرقًا اثنتي عشرة أسباطًا فيصحّ التأنيث لما تقدَّم.
وقال بعض نحويي الكوفة: إنما قال « الاثنتي عشرة » بالتأنيث، و « السبط » مذكر, لأن الكلام ذهب إلى « الأمم » ، فغُلّب التأنيث، وإن كان « السبط » ذكرًا, وهو مثل قول الشاعر: وَإِنَّ كِلابًــا هَــذِهِ عَشْــرُ أَبْطُـنٍ وَأَنْـتَ بَـرِيءٌ مِـنْ قَبَائِلِهَـا الْعَشْـرِ
ذهب ب « البطن » إلى القبيلة والفصيلة, فلذلك جمع « البطن » بالتأنيث.
وكان آخرون من نحويي الكوفة يقولون: إنما أنّثت « الاثنتا عشرة » ، و « السبط » ذكر, لذكر « الأمم » .
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنّ « الاثنتي عشرة » أنثت لتأنيث « القطعة » ، ومعنى الكلام: وقطعناهم قِطَعًا اثنتي عشرة ثم ترجم عن « القِطَع » ب « الأسباط » ، وغير جائز أن تكون « الأسباط » مفسرة عن « الاثنتي عشرة » وهي جمع, لأن التفسير فيما فوق « العشر » إلى « العشرين » بالتوحيد لا بالجمع, و « الأسباط » جمع لا واحد, وذلك كقولهم: « عندي اثنتا عشرة امرأة » . ولا يقال: « عندي اثنتا عشرة نسوة » ، فبيَّن ذلك أن « الأسباط » ليست بتفسير للاثنتي عشرة, وأن القول في ذلك على ما قلنا.
وأما « الأمم » ، فالجماعات و « السبط » في بني إسرائيل نحو « القَرْن » .
وقيل: إنما فرّقوا أسباطًا لاختلافهم في دينهم.
القول في تأويل قوله : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 160 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « وأوحينا إلى موسى » ، إذ فرّقنا بني إسرائيل قومه اثنتي عشرة فرقة, وتيَّهناهم في التيه، فاستسقوا موسى من العَطش وغَوْر الماء « أن اضرب بعصَاك الحجر » .
وقد بينا السبب الذي كان قومه استسقوه وبينا معنى الوحي بشواهده.
« فانبجست » ، فانصّبت وانفجرت من الحجر اثنتَا عشرة عينًا من الماء, « قد علم كل أناس » ، يعني: كل أناس من الأسباط الاثنتي عشرة « مشربهم » ، لا يدخل سبط على غيره في شربه « وظللنا عليهم الغمام » ، يكنُّهم من حرّ الشمس وأذاها.
وقد بينا معنى « الغمام » فيما مضى قبل, وكذلك: « المن والسلوى » .
« وأنـزلنا عليهم المن والسلوى » ، طعامًا لهم « كلوا من طيبات ما رزقناكم » ، يقول: وقلنا لهم: كلوا من حَلال ما رَزقْناكم، أيها الناس، وطيّبناه لكم « وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » ، وفي الكلام محذوف، ترك ذكره استغناءً بما ظهَر عما ترك, وهو: « فأجِمُوا ذلك، وقالوا: لن نصبر على طعام واحد, فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير » « وما ظلمونا » ، يقول: وما أدخلوا علينا نقصًا في ملكنا وسلطاننا بمسألتهم ما سألوا, وفعلهم ما فعلوا « ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » ، أي: ينقصونها حظوظَها باستبدالهم الأدنى بالخير، والأرذل بالأفضل.
القول في تأويل قوله : وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَـزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( 161 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيضًا، يا محمد، من خطأ فعل هؤلاء القوم، وخلافهِم على ربهم، وعصيانهم نبيَّهم موسى عليه السلام، وتبديلهم القولَ الذي أمروا أن يقولوه حين قال الله لهم: « اسكنوا هذه القرية » ، وهي قرية بيت المقدس « وكلوا منها » وكلوا : من ثمارها وحبوبها ونباتها « حيث شئتم » ، منها، يقول: أنّى شئتم منها « وقولوا حطة » ، يقول: وقولوا: هذه الفعلة « حِطّةٌ » ، تحطُّ ذنوبنا « نغفر لكم » ، يتغمد لكم ربكم « ذنوبكم » ، التي سلفت منكم, فيعفو لكم عنها, فلا يؤاخذكم بها. « سنـزيد المحسنين » ، منكم, وهم المطيعون لله, على ما وعدتكم من غفران الخطايا.
وقد ذكرنا الروايات في كل ذلك باختلاف المختلفين، والصحيح من القول لدينا فيه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله : فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ( 162 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فغيَّر الذين كفروا بالله منهم ما أمرهم الله به من القول, فقالوا وقد قيل لهم: قولوا: هذه حطة: « حنطة في شعيرة » . وقولهم ذلك كذلك، هو غير القول الذي قيل لهم قولوه. يقول الله تعالى: « فأرسلنا عليهم رجزًا من السماءِ » ، بَعثنا عليهم عذابًا، أهلكناهم بما كانوا يغيِّرون ما يؤمرون به, فيفعلون خلاف ما أمرهم الله بفعله، ويقولون غير الذي أمرهم الله بفعله.
وقد بينا معنى الرجز فيما مضى.
القول في تأويل قوله : وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 163 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واسأل، يا محمد، هؤلاء اليهود، وهم مجاوروك, عن أمر « القرية التي كانت حاضرة البحر » , يقول: كانت بحضرة البحر، أي بقرب البحر وعلى شاطئه.
واختلف أهل التأويل فيها.
فقال بعضهم: هي « أيلة » .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن محمد بن إسحاق, عن داود بن حصين, عن عكرمة, عن ابن عباس: « واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر » ، قال: هي قرية يقال لها « أيلة » , بين مَدْين والطور.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير في قوله: « واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر » قال: سمعنا أنها أيلة.
حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي قال، حدثنا ابن جريج, عن عكرمة قال: دخلتُ على ابن عباس والمصحف في حجره وهو يبكي, فقلت: ما يبكيك، جعلني الله فداك؟ فقال: ويلك, وتعرِف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت: تلك أيلة!
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي بكر الهذلي, عن عكرمة, عن ابن عباس: « واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر » ، قال: هي أيلة.
حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: هي قرية على شاطئ البحر، بين مصر والمدينة، يقال لها: « أيلة » .
حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: هم أهل أيلة, القرية التي كانت حاضرة البحر.
حدثني الحارث قال، حدثنا أبو سعد, عن مجاهد في قوله: « واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر » ، قال: أيلة.
وقال آخرون: معناه: ساحلُ مدين.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر » الآية, ذكر لنا أنها كانت قرية على ساحل البحر، يقال لها أيلة.
وقال آخرون: هي مَقْنا.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر » ، قال: هي قرية يقال لها « مقنا » ، بين مدين وعَيْنُوني.
وقال آخرون: هي مدين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: هي قرية بين أيلة والطور، يقال لها « مَدْين » .
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هي قرية حاضرة البحر وجائز أن تكون أيلة وجائز أن تكون مدين وجائز أن تكون مقنا لأن كل ذلك حاضرة البحر، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع العذر بأيِّ ذلك من أيٍّ, والاختلاف فيه على ما وصفت. ولا يوصل إلى علم ما قد كان فمضى مما لم نعاينه, إلا بخبر يوجب العلم. ولا خبر كذلك في ذلك.
وقوله: « إذ يعدون في السبت » ، يعني به أهله، إذ يعتدون في السبت أمرَ الله, ويتجاوزونه إلى ما حرمه الله عليهم.
يقال منه: « عدا فلان أمري » و « اعتدى » ، إذا تجاوزه.
وكان اعتداؤهم في السبت: أن الله كان حرَّم عليهم السبت, فكانوا يصطادون فيه السمك.
« إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرَّعًا » ، يقول: إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم الذي نهوا فيه العمل « شرَّعًا » , يقول: شارعة ظاهرةً على الماء من كل طريق وناحية، كشوارع الطرق، كالذي: -
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك، عن ابن عباس: « إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعًا » ، يقول: ظاهرة على الماء.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « شرعًا » ، يقول: من كلّ مكان.
وقوله: « ويوم لا يسبتون » ، يقول: ويوم لا يعظمونه تعظيمهم السَّبت, وذلك سائر الأيام غير يوم السبت « لا تأتيهم » ، الحيتان « كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون » ، يقول: كما وصفنا لكم من الاختبار والابتلاء الذي ذكرنا، بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده, وإخفائه عنهم في اليوم المحلل صيده « كذلك نبلوهم » ، ونختبرهم « بما كانوا يفسقون » ، يقول: بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: « ويوم لا يسبتون » .
فقرئ بفتح « الياء » من ( يَسْبِتُونَ ) من قول القائل: « سبت فلان يسبت سَبْتًا وسُبُوتًا » ، إذا عظَّم « السبت » .
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: ( وَيَوْمَ لا يُسْبَتُونَ ) بضم الياء. من « أسبت القوم يسبتون » ، إذا دخلوا في « السبت » , كما يقال: « أجمعنا » ، مرّت بنا جمعة, و « أشهرنا » مرّ بنا شهر, و « أسبتنا » ، مرّ بنا سبت.
ونصب « يوم » من قوله: « ويوم لا يسبتون » ، بقوله: « لا تأتيهم » ، لأن معنى الكلام: لا تأتيهم يوم لا يسبتون.
القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 164 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيضًا، يا محمد « إذ قالت أمة منهم » , جماعة منهم لجماعة كانت تعظ المعتدين في السبت، وتنهاهم عن معصية الله فيه « لم تعظون قومًا الله مهلكهم » ، في الدنيا بمعصيتهم إياه, وخلافهم أمره, واستحلالهم ما حرم عليهم « أو معذبهم عذابًا شديدًا » ، في الآخرة، قال الذين كانوا ينهونهم عن معصية الله مجيبيهم عن قولهم: عظتنا إياهم معذرةٌ إلى ربكم، نؤدِّي فرضه علينا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر « ولعلهم يتقون » ، يقول: ولعلهم أن يتقوا الله فيخافوه, فينيبوا إلى طاعته، ويتوبوا من معصيتهم إياه، وتعدِّيهم على ما حرّم عليهم من اعتدائهم في السبت، كما: -
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة, عن ابن عباس: « قالوا معذرة إلى ربكم » ، لسخطنا أعمالهم.
« ولعلهم يتقون » ، : أي ينـزعون عما هم عليه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « ولعلهم يتقون » قال: يتركون هذا العمل الذي هم عليه.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: « قالوا معذرة » . فقرأ دلك عامة قرأة الحجاز والكوفة والبصرة: ( مَعْذِرَةٌ ) بالرفع، على ما وصفتُ من معناها.
وقرأ ذلك بعض أهل الكوفة: ( مَعْذِرَةً ) نصبًا, بمعنى: إعذارًا وعظناهم وفعلنا ذلك.
واختلف أهل العلم في هذه الفرقة التي قالت: « لم تعظون قوما الله مهلكهم » ، هل كانت من الناجية, أم من الهالكة!
فقال بعضهم: كانت من الناجية, لأنها كانت هي الناهيةَ الفرقةَ الهالكةَ عن الاعتداء في السبت.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا » ، هي قرية على شاطئ البحر بين مكة والمدينة، يقال لها: « أيلة » , فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم, فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعًا في ساحل البحر. فإذا مضى يوم السبت، لم يقدروا عليها. فمكثوا بذلك ما شاء الله، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم, فنهتهم طائفة، وقالوا: تأخذونها، وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم ! فلم يزدادوا إلا غيًّا وعتوًّا, وجعلت طائفة أخرى تنهاهم. فلما طال ذلك عليهم، قالت طائفة من النهاة: تعلَّموا أنّ هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب، لم تعظون قومًا الله مهلكهم، وكانوا أشد غضَبًا لله من الطائفة الأخرى, فقالوا: « معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون » ، وكلّ قد كانوا ينهون، فلما وقع عليهم غضب الله, نجت الطائفتان اللتان قالوا: « لم تعظون قومًا الله مهلكهم » ، والذين قالوا: « معذرة إلى ربكم » ، وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان, فجعلهم قردة وخنازير.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي ، قال حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ، إلى قوله: وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ، وذلك أن أهل قرية كانت حاضرة البحر، كانت تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم. يقول: إذا كانوا يوم يسبتون تأتيهم شرعًا يعني: من كل مكان ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، وأنهم قالوا: لو أنا أخذنا من هذه الحيتان يوم تجيء ما يكفينا فيما سوى ذلك من الأيام! فوعظهم قوم مؤمنون ونهوهم. وقالت طائفة من المؤمنين: إن هؤلاء قوم قد هموا بأمر ليسوا بمنتهين دونه, والله مخزيهم ومعذبهم عذابًا شديدًا. قال المؤمنون بعضهم لبعض: « معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون » ، إن كان هلاك، فلعلنا ننجو، وإما أن ينتهوا فيكون لنا أجرًا. وقد كان الله جعل على بني إسرائيل يومًا يعبدونه ويتفرغون له فيه, وهو يوم الاثنين. فتعدى الخبثاء من الاثنين إلى السبت, وقالوا: هو يوم السبت! فنهاهم موسى, فاختلفوا فيه, فجعل عليهم السبت, ونهاهم أن يعملوا فيه وأن يعتدوا فيه، وأنّ رجلا منهم ذهب ليحتطب, فأخذه موسى عليه السلام فسأله: هل أمرك بهذا أحد؟ فلم يجد أحدًا أمره, فرجمه أصحابه.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال بعض الذين نهوهم لبعض: « لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا » ، يقول: لم تعظونهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: « معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون » .
حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا معاذ بن هانئ قال، حدثنا حماد, عن داود, عن عكرمة, عن ابن عباس: « وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا » ، قال: ما أدري أنجا الذين قالوا: « لم تعظون قوما الله مهلكهم » أم لا! قال: فلم أزل به حتى عرَّفته أنهم قد نجوا, فكساني حلة.
حدثني المثني قال، حدثنا حماد, عن داود, عن عكرمة قال: قرأ ابن عباس هذه الآية, فذكر نحوه إلا أنه قال في حديثه: فما زلت أبصِّره حتى عرَف أنهم قد نجوا.
حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي قال، حدثنا ابن جريج, عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس والمصحف في حجره، وهو يبكي, فقلت: ما يبكيك، جعلني الله فداءك؟ قال: فقرأ: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ، إلى قوله: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ قال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم! فقلت: أما تسمع الله يقول: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ ؟ فسُرِّي عنه، وكساني حُلّة .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني رجل, عن عكرمة قال: جئت ابن عباس يومًا وهو يبكي, وإذا المصحف في حجره, فأعظمت أن أدنو, ثم لم أزل على ذلك حتى تقدَّمت فجلستُ, فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس، جعلني الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات! قال: وإذا هو في « سورة الأعراف » ، قال: تعرف أيلة! قلت: نعم! قال: فإنه كان حيّ من يهود، سيقت الحيتان إليهم يوم السبت، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغُوصوا، بعد كدٍّ ومؤنة شديدة, كانت تأتيهم يوم السبت شرعًا بيضًا سمانًا كأنها الماخض, تنبطحُ ظهورُها لبطونها بأفنيتهم وأبنيتهم. فكانوا كذلك برهة من الدهر, ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت, فخذوها فيه، وكلوها في غيره من الأيام ! فقالت ذلك طائفة منهم, وقالت طائفة منهم: بل نُهيتم عن أكلها وأخذِها وصيدها في يوم السبت. وكانوا كذلك، حتى جاءت الجمعة المقبلة, فعدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها, واعتزلت طائفة ذات اليمين، وتنحَّت, واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت. وقال الأيمنون: ويلكم! اللهَ، اللهَ، ننهاكم أن تتعرّضوا لعقوبة الله! وقال الأيسرون: « لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا » ؟ قال الأيمنون: « معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون » ! أي: ينتهون, فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا, وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم. فمضوا على الخطيئة, فقال الأيمنون: قد فعلتم، يا أعداء الله! والله لا نُبَايتكم الليلة في مدينتكم, والله ما نراكم تصبحون حتى يصيبكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده بالعذاب ! فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا, فلم يجابوا, فوضعوا سلّمًا، وأعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال: أي عبادَ الله، قردةٌ والله تعاوَى لها أذناب! قال: ففتحوا فدخلوا عليهم, فعرفت القردةُ أنسابها من الإنس, ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة, فجعلت القرود تأتي نسيبها من الإنس فتشمّ ثيابه وتبكي, فتقولُ لهم: ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها: نعم! ثم قرأ ابن عباس: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . قال: فأرى اليهود الذين نَهَوْا قد نجوا, ولا أرى الآخرين ذُكروا, ونحن نرى أشياء ننكرها فلا نقول فيها! قال قلت: إنَّ، جعلني الله فداك, ألا ترى أنهم قد كَرِهوا ما هم عليه، وخالفوهم وقالوا: « لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم » ؟ قال: فأمرَ بي فكسيِت بُرْدَين غليظين.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة، وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ، ذُكر لنا أنه إذا كان يوم السبت أقبلت الحيتان، حتى تتبطَّح على سواحلهم وأفنيتهم، لما بلغها من أمر الله في الماء, فإذا كان في غير يوم السبت، بعدت في الماء حتى يطلبها طالبهم. فأتاهم الشيطان فقال: إنما حرم عليكم أكلها يوم السبت, فاصطادوها يوم السبت وكلوها فيما بعد! ..... قوله: « وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون » ، صار القوم ثلاثة أصناف، أما صنف فأمسكوا عن حرمة الله ونهوا عن معصية الله، وأما صنف فأمسك عن حرمة الله هيبةً لله، وأما صنف فانتهك الحرمة ووقع في الخطيئة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس في قول الله: حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ، قال: حرمت عليهم الحيتان يوم السبت, وكانت تأتيهم يوم السبت شُرّعًا, بلاء ابتلوا به, ولا تأتيهم في غيره إلا أن يطلبوها, بلاء أيضًا، بما كانوا يفسقون. فأخذوها يوم السبت استحلالا ومعصية, فقال الله لهم: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ، إلا طائفة منهم لم يعتدوا ونهوهم, فقال بعضهم لبعض: « لم تعظون قومًا » .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم » حتى بلغ « ولعلهم يتقون » ، لعلّهم يتركون ما هم عليه. قال: كانوا قد بُلوا بكفّ الحيتان عنهم, وكانوا يسبتون في يوم السبت ولا يعملون فيه شيئًا, فإذا كان يوم السبت أتتهم الحيتانُ شُرّعًا, وإذا كان غير يوم السبت لم يأت حوتٌ واحد. قال: وكانوا قومًا قد قَرِموا بحب الحيتان ولقوا منه بلاءً, فأخذ رجل منهم حوتًا فربط في ذنبه خيطًا, ثم ربطه إلى خَشَفَةٍ، ثم تركه في الماء, حتى إذا غربت الشمس من يوم الأحد، اجتره بالخيط ثم شواه. فوجد جارٌ له ريح حوت, فقال: يا فلان، إني أجد في بيتك ريح نًونٍ! فقال: لا! قال: فتطلع في تنُّوره فإذا هو فيه، فأخبره حينئذ الخبرَ, فقال: إني أرى الله سيعذِّبك. قال: فلما لم يره عجَّل عذابًا, فلما أتى السبت الآخر أخذ اثنين فربَطَهما, ثم اطلع جارٌ له عليه، فلما رآه لم يعجِّل عذابًا، جعلوا يصيدونه, فاطلع أهل القرية عليهم, فنهاهم الذين ينهون عن المنكر, فكانوا فرقتين: فرقة تنهاهم وتكفّ, وفرقة تنهاهم ولا تكف. فقال الذين نهوا وكفوا، للذين ينهون ولا يكفون: « لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا » ؟ فقال الآخرون: « معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون » . فقال الله: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ . إلى قوله: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ قَالَ اللَّهُ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ . وقال لهم أهل تلك القرية: عملتم بعمل سَوْء, من كان يريد يعتزل ويتطهَّر فليعتزل هؤلاء ! قال: فاعتزل هؤلاء وهؤلاء في مدينتهم, وضربوا بينهم سورًا, فجعلوا في ذلك السور أبوابًا يخرج بعضُهم إلى بعض. قال: فلما كان الليل طرقهم الله بعذابٍ, فأصبح أولئك المؤمنون لا يرون منهم أحدًا, فدخلوا عليهم فإذا هم قردة, الرجل وأزواجه وأولاده، فجعلوا يدخلون على الرجل يعرفونه فيقولون: يا فلان، ألم نحذرك سطوات الله؟ ألم نحذرك نقمات الله؟ ونحذرك ونحذرك؟ قال: فليس إلا بكاء! قال: وإنما عذب الله الذين ظلموا، الذين أقاموا على ذلك. قال: وأما الذين نَهَوْا، فكلهم قد نهى, ولكن بعضهم أفضل من بعض. فقرأ: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن داود, عن عكرمة قال: قرأ ابن عباس هذه الآية: « لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا » ، قال: لا أدري أنجا القوم أو هلكوا؟ فما زلت أبصِّره حتى عرف أنهم نجوا, وكساني حُلَّة.
حدثني يونس قال، أخبرني أشهب بن عبد العزيز, عن مالك قال: زعم ابن رُومان أن قوله: تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ، قال: كانت تأتيهم يوم السبت, فإذا كان المساء ذهبتْ، فلا يرى منها شيء إلى السبت. فاتخذ لذلك رجل منهم خيطًا ووتدًا, فربط حوتًا منها في الماء يوم السبت, حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه فاشتواه, فوجد الناس ريحه, فأتوه فسألوه عن ذلك, فجحدهم, فلم يزالوا به حتى قال لهم: فإنه جلد حوتٍ وجدناه! فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك ولا أدري لعله قال: ربط حوتين فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه, فوجدوا ريحه, فجاءوا فسألوه, فقال لهم: لو شئتم صنعتم كما أصنع! فقالوا له: وما صنعت؟ فأخبرهم, ففعلوا مثل ما فعل, حتى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها رَبض, فغلَّقوها, فأصابهم من المسْخ ما أصابهم. فغدا إليهم جيرانهم ممن كان يكون حولهم, يطلبون منهم ما يطلب الناس, فوجدوا المدينة مغلقة عليهم, فنادوا فلم يجيبوهم, فتسوَّروا عليهم, فإذا هم قردة, فجعل القرد يدنو يتمسَّح بمن كان يعرف قبل ذلك، ويدنو منه ويتمسَّح به.
وقال آخرون: بل الفرقة التي قالت: « لم تعظون قومًا الله مهلكهم » ، كانت من الفرقة الهالكة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن محمد بن إسحاق, عن داود بن حصين, عن عكرمة, عن ابن عباس: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إلى قوله: شُرَّعًا ، قال: قال ابن عباس: ابتدعوا السبت فابتلُوا فيه, فحرِّمت عليهم فيه الحيتان, فكانوا إذا كان يوم السبت شَرَعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر. فإذا انقضى السبتُ، ذهبتْ فلم تُرَ حتى السبت المقبل، فإذا جاء السبت جاءت شرَّعًا. فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك, ثم إنّ رجلا منهم أخذ حوتًا فخزمه بأنفه, ثم ضرب له وَتِدًا في الساحل، وربطه وتركه في الماء. فلما كان الغد، أخذه فشواه فأكله. ففعل ذلك وهم ينظرُون ولا ينكرون, ولا ينهاه منهم أحد إلا عصبة منهم نَهوه, حتى ظهر ذلك في الأسواق وفُعِل علانيةً. قال: فقالت طائفة للذين يَنهون: « لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم » ، في سخطنا أعمالهم، وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ، إلى قوله: قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ، قال ابن عباس: كانوا أثلاثًا: ثلث نَهوا, وثلث قالوا: « لم تعظون قوما الله مهلكهم » ، وثلث أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهوا, وهلك سائرهم. فأصبح الذين نهوا عن السوء ذات يوم في مجالسهم يتفقَّدون الناس لا يرونهم, فَعَلوْا على دورهم, فجعلوا يقولون: إنّ للناس لشأنًا, فانظروا ما شأنهم ! فاطلعوا في دورهم, فإذا القوم قد مسخوا في ديارهم قردة, يعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد, ويعرفون المرأة بعينها وإنها لقردة، قال الله: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [ سورة البقرة: 66 ] .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي بكر الهذلي, عن عكرمة, عن ابن عباس: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ الآية، قال ابن عباس: نجا الناهون, وهلك الفاعلون, ولا أدري ما صنع بالساكتين!
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, عن ابن عباس: « لم تعظون قومًا الله مهلكهم » ، قال: هم ثلاث فرق: الفرقة التي وَعَظت, والموعوظة التي وُعِظت, والله أعلم ما فعلت الفرقة الثالثة, وهم الذين قالوا: « لم تعظون قوما الله مهلكهم » .
وقال الكلبي: هما فرقتان: الفرقة التي وَعَظت, والتي قالت: « لم تعظون قومًا الله مهلكهم » قال: هي الموعوظة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: لأن أكون علمتُ من هؤلاء الذين قالوا: « لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا » ، أحبُّ إليّ مما عُدِل به!
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عطاء قال، قال ابن عباس: « وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم » ، قال: أسمع، الله يقول: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ، فليت شعري ما فُعِل بهؤلاء الذين قالوا: « لم تعظون قومًا الله مهلكهم » ؟
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن ماهان الحنفي أبي صالح في قوله: تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ، قال: كانوا في المدينة التي على ساحل البحر, وكانت الأيام ستةً, الأحد إلى الجمعة. فوضعت اليهود يوم السبْت, وسبّتوه على أنفسهم, فسبَّته الله عليهم, ولم يكن السبت قبل ذلك, فوكّده الله عليهم, وابتلاهم فيه بالحيتَانِ, فجعلت تشرع يوم السبت, فيتقون أن يصيبُوا منها, حتى قال رجل منهم: والله ما السَّبت بيوم وَكّده الله علينا, ونحن وكّدناه على أنفسنا, فلو تناولت من هذا السمك ! فتناول حوتًا من الحيتان, فسمع بذلك جارُه, فخاف العقوبة، فهرب من منـزله. فلما مكث ما شاء الله ولم تصبه عقوبة، تناول غيرُه أيضًا في يوم السبت. فلما لم تصبهم العقوبة، كثر مَنْ تناول في يوم السبت, واتخذوا يوم السبت، وليلةَ السبت عيدًا يشربون فيه الخمورَ، ويلعبون فيه بالمعازف. فقال لهم خيارهم وصلحاؤهم: ويحكم, انتهوا عما تفعلون, إن الله مهلككم أو معذِّبكم عذابًا شديدًا، أفلا تعقلون؟ ولا تعدوا في السبت! فأبوا, فقال خِيارهم: نضرب بيننا وبينهم حائطًا. ففعلوا، وكان إذا كان ليلة السبت تأذَّوا بما يسمعون من أصواتهم وأصوات المعازف، حتى إذا كانت الليلة التي مُسِخوا فيها, سكنت أصواتهم أوّل الليل, فقال خيارهم: ما شأن قومكم قد سكنت أصواتهم الليلة؟ فقال بعضهم: لعل الخمر غلبَتهم فناموا! فلما أصبحوا، لم يسمعوا لهم حسًّا، فقال بعضهم لبعض: ما لنا لا نسمع من قومكم حسًّا؟ فقالوا لرجل: اصعد الحائط وانظر ما شأنهم. فصعد الحائط، فرآهم يموجُ بعضهم في بعض, قد مُسخوا قردةً, فقال لقومه: تعالوا فانظروا إلى قومكم ما لَقُوا! فصعدوا, فجعلوا ينظرون إلى الرجل فيتوسَّمُون فيه, فيقولون: أي فلان، أنت فلان؟ فيومئ بيده إلى صدره أن نعم، بما كسبت يداي.
حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية, عن أيوب قال، تلا الحسن ذات يوم: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ، فقال: حوتٌ حرمه الله عليهم في يوم، وأحله لهم فيما سوى ذلك, فكان يأتيهم في اليوم الذي حرَّمه الله عليهم كأنه المخاض، لا يمتنع من أحد. وقلَّما رأيت أحدًا يكثر الاهتمامَ بالذنب إلا واقعه، فجعلوا يَهتمُّون ويمْسِكون، حتى أخذوه, فأكلوا أوْخَم أكلة أكلها قوم قطُّ, أبقاه خزيًا في الدنيا، وأشدُّه عقوبة في الآخرة! وايم الله، [ ما حوتُ أخذه قوم فأكلوه، أعظم عند الله من قتل رجل مؤمن ] ! وللمؤمن أعظم حرمة عند الله من حوت, ولكن الله جعل موعدَ قومٍ الساعة وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ، [ سورة القمر: 46 ] .
حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان, عن أبي موسى, عن الحسن قال: جاءتهم الحيتان تشرع في حياضهم كأنها المخاض, فأكلوا والله أوخم أكلة أكلها قوم قط, أسوأه عقوبة في الدنيا، وأشدُّه عذابًا في الآخرة!
وقال الحسن: وقتل المؤمن والله أعظم من أكل الحيتان!
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عطاء قال: كنت جالسًا في المسجد، فإذا شيخ قد جاء وجلس الناسُ إليه, فقالوا: هذا من أصحاب عبد الله بن مسعود! قال: قال ابن مسعود: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ الآية، قال: لما حرم عليهم السبت، كانت الحيتان تأتي يوم السبت, وتأمن فتجيء، فلا يستطيعون أن يمسوها. وكان إذا ذهب السبت ذهبت, فكانوا يتصيّدون كما يتصيد الناس. فلما أرادوا أن يعدوا في السبت, اصطادوا, فنهاهم قوم من صالحيهم, فأبوا, وكَثَرَهم الفجَّار, فأراد الفجار قتالهم, فكان فيهم من لا يشتهون قتاله, أبو أحدهم وأخوه أو قريبه. فلما نهوهم وأبوا، قال الصالحون: إذًا نُتَّهم! وإنا نجعل بيننا وبينهم حائطًا! ففعلوا, فلما فقدوا أصواتهم قالوا: لو نظرتم إلى إخوانكم ما فعلوا ! فنظروا، فإذا هم قد مُسخوا قردةً, يعرفون الكبير بكبره، والصغير بصغره, فجعلوا يبكون إليهم. وكان هذا بعد موسى صلى الله عليه وسلم.
* *
القول في تأويل قوله : فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 165 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما تركت الطائفة التي اعتدت في السبت ما أمرها الله به من ترك الاعتداء فيه، وضيَّعت ما وَعظتْها الطائفة الواعظة وذكَّرتها به، من تحذيرها عقوبةَ الله على معصيتها، فتقدّمت على استحلال ما حرم الله عليها أنجى الله الذين ينهون منهم عن « السوء » يعني عن معصية الله, واسْتحلال حِرْمه « وأخذنا الذين ظلموا » ، يقول: وأخذ الله الذين اعتدوا في السبت، فاستحلوا فيه ما حرَّم الله من صيد السمك وأكله, فأحلَّ بهم بأسَه، وأهلكهم بعذاب شديدٍ بئيس بما كانوا يخالفون أمر الله, فيخرجون من طاعته إلى معصيته, وذلك هو « الفسق » .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج في قوله: « فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء » ، قال: فلما نسُوا موعظة المؤمنين إياهم, الذين قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا .
حدثني محمد بن المثني قال، حدثنا حرمي قال، حدثني شعبة قال، أخبرني عمارة, عن عكرمة, عن ابن عباس: « أنجينا الذين ينهون عن السوء » قال: يا ليت شعري، ما السُّوء الذي نهوا عنه؟
وأما قوله: « بعذاب بَئيس » ، فإنّ القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة: ( بِعَذَابٍ بِيسٍ ) بكسر الباء وتخفيف الياء، بغير همز, على مثال « فِعْل » .
وقرأ ذلك بعضُ قرأة الكوفة والبصرة: ( بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ) على مثل « فعيل » ، من « البؤس » , بنصب الباء وكسر الهمزة ومدِّها.
وقرأ ذلك كذلك بعض المكيين, غير أنه كسر باء: ( بِئِيسٍ ) على مثال « فِعِيل » .
وقرأه بعض الكوفيين: ( بَيْئِسٍ ) بفتح الباء وتسكين الياء, وهمزة بعدها مكسورة، على مثال « فَيْعِل » .
وذلك شاذ عند أهل العربية, لأن « فَيْعِل » إذا لم يكن من ذوات الياء والواو, فالفتح في عينه الفصيحُ في كلام العرب, وذلك مثل قولهم في نظيره من السالم: « صَيْقَل, ونَيْرَب » , وإنما تُكْسر العين من ذلك في ذوات الياء والواو كقولهم: « سَيِّد » و « ميِّت » ، وقد أنشد بعضهم قول امرئ القيس بن عابسٍ الكنديّ:
كِلاهُمَــا كَــانَ رَئيسًــا بَيْئِسَــا يَضْـرِبُ فِـي يَـوْمِ الهِيَـاجِ القَوْنَسَـا
بكسر العين من « فيعِل » , وهي الهمزة من « بيئس » ، فلعلَّ الذي قرأ ذلك كذلك قرأه على هذه.
وذكر عن آخر من الكوفيين أيضًا أنه قرأه: ( بَيْئَسٍ ) ، نحو القراءة التي ذكرناها قبل هذه, وذلك بفتح الباء وتسكين الياء وفتح الهمزة بعد الياء، على مثال « فَيْعَل » مثل « صَيْقَل » .
وروي عن بعض البصريين أنه قرأه: ( بَئِسٍ ) بفتح الباء وكسر الهمزة، على مثال « فَعِل » , كما قال ابن قيس الرقيَّات:
لَيْتَنِـــي أَلْقَـــي رُقَيَّــةَ فِــي خَــلْوَةٍ مِــنْ غَــيْرِ مَــا بَئِـسِ
وروي عن آخر منهم أنه قرأ: ( بِئْسَ ) بكسر الباء وفتح السين، على معنى: بِئْسَ العذاب.
قال أبو جعفر: وأولى هذه القراءات عندي بالصواب، قراءةُ من قرأه: ( بَئِيسٍ ) بفتح الباء، وكسر الهمزة ومدّها، على مثال « فَعِيل » , كما قال ذو الإصبع العَدْوانيّ:
حَنَقًـــا عَـــلَيَّ, وَمَــا تَــرَى لِـــي فِيهِـــمُ أَثَـــرًا بَئيسَــا
لأن أهل التأويل أجمعوا على أن معناه: شديد, فدلّ ذلك على صحة ما اخترنا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني رجل عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: « وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس » ، : أليم وجيع.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « بعذاب بئيس » ، قال: شديد.
حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « بعذاب بئيس » ، أليم شديد.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « بعذاب بئيس » قال: موجع.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « بعذاب بئيس » ، قال: بعذاب شديد.
القول في تأويل قوله : فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( 166 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما تمرَّدوا، فيما نهوا عنه من اعتدائهم في السبت, واستحلالهم ما حرَّم الله عليهم من صيد السمك وأكله، وتمادوا فيه « قلنا لهم كونوا قردة خاسئين » ، أي: بُعَداء من الخير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فلما عتوا عما نهوا عنه » ، يقول: لما مَرَد القوم على المعصية « قلنا لهم كونوا قردة خاسئين » ، فصارُوا قردةً لها أذناب، تعاوى، بعدما كانوا رجالا ونساءً.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: « فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين » ، فجعل الله منهم القردة والخنازير. فزعم أن شباب القوم صارُوا قردةً, وأن المشيخة صاروا خنازيرَ.
حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن السدي, عن أبي مالك أو سعيد بن جبير قال: رأى موسى عليه السلام رجلا يحمل قصَبًا يوم السبت, فضرب عنقه.
القول في تأويل قوله : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وإذ تأذن » ، واذكر، يا محمد، إذ آذن ربك، وأعلم.
وهو « تفعل » من « الإيذان » , كما قال الأعشى، ميمون بن قيس:
أَذِنَ اليَـــوْمَ جِــيرَتِي بِخُــفُوفِ صَرَمُــوا حَــبْلَ آلِــفٍ مَـأْلُوفِ
يعني بقوله: « أذِن » ، أعلم. وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « وإذ تأذن ربك » ، قال: أمرَ ربك.
حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد, عن مجاهد: « وإذ تأذن ربك » ، قال: أمر ربك.
وقوله: « ليبعثن عليهم » ، يعني: أعلم ربك ليبعثن على اليهود من يسومهم سوء العذاب. قيل: إن ذلك، العربُ، بعثهم الله على اليهود، يقاتلون من لم يسلم منهم ولم يعط الجزية, ومن أعطى منهم الجزية كان ذلك له صغارًا وذلة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثني بن إبراهيم وعلي بن داود قالا حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب » ، قال: هي الجزية, والذين يسومونهم: محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته، إلى يوم القيامة.
حدثني محمد بن سعد قال, حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب » ، فهي المسكنة, وأخذ الجزية منهم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: « وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب » ، قال: يهود, وما ضُرب عليهم من الذلة والمسكنة.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب » ، قال: فبعث الله عليهم هذا الحيَّ من العرب, فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم » ، قال: بعث عليهم هذا الحي من العرب, فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة. وقال عبد الكريم الجزريّ: يُستحبُّ أن تُبعث الأنباط في الجزية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد: « وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم » ، قال: العرب « سوء العذاب » ، قال: الخراج. وأوّلُ من وضع الخراج موسى عليه السلام, فجبى الخراجَ سبعَ سنين.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد: « وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم » ، قال: العرب « سوء العذاب » ؟ قال: الخراج. قال: وأول من وضع الخراج موسى, فجبى الخراج سبعَ سنين.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد: « وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب » ، قال: هم أهل الكتاب, بعث الله عليهم العرب يجبُونهم الخراجَ إلى يوم القيامة, فهو سوء العذاب. ولم يجب نبيٌّ الخراجَ قطُّ إلا مُوسى صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنةً، ثم أمسك, وإلا النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب » ، قال: يبعث عليهم هذا الحي من العرب, فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة.
..... قال أخبرنا معمر قال، أخبرني عبد الكريم, عن ابن المسيب قال: يستحبُّ أن تبعث الأنباط في الجزية.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: « وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب » ، يقول: إن ربك يبعث على بني إسرائيل العرب, فيسومونهم سوء العذاب، يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة » ، ليبعثن على يَهُود.
القول في تأويل قوله : إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 167 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربك يا محمد، لسريعٌ عقابه إلى من استوجَب منه العقوبة على كفره به ومعصيته « وإنه لغفور رحيم » ، يقول: وإنه لذو صفح عن ذنوب من تاب من ذنوبه، فأناب وراجع طاعته, يستر عليها بعفوه عنها « رحيم » ، له، أن يعاقبه على جرمه بعد توبته منها, لأنه يقبل التوبة ويُقِيل العَثْرة.
القول في تأويل قوله : وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 168 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وفرّقنا بني إسرائيل في الأرض « أممًا » يعني: جماعات شتى متفرِّقين، كما: -
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « وقطعناهم في الأرض أممًا » ، قال: في كل أرض يدخلها قومٌ من اليهود.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وقطعناهم في الأرض أممًا » ، قال: يهود.
وقوله: « منهم الصالحون » ، يقول: من هؤلاء القوم الذين وصفهم الله من بني إسرائيل « الصالحون » , يعني: من يؤمن بالله ورسله « ومنهم دون ذلك » ، يعني: دون الصالح. وإنما وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم كانوا كذلك قبل ارتدادِهم عن دينهم، وقبل كفرهم بربهم, وذلك قبل أن يبعث فيهم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه.
وقوله: « وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون » ، يقول: واختبرناهم بالرخاء في العيش, والخفض في الدنيا والدعة، والسعة في الرزق, وهي « الحسنات » التي ذكرها جل ثناؤه ويعني ب « السيئات » ، الشدة في العيش, والشظف فيه, والمصائب والرزايا في الأموال « لعلهم يرجعون » ، يقول: ليرجعوا إلى طاعة ربهم وينيبوا إليها, ويتوبوا من معاصيه.
القول في تأويل قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فخلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم « خلف » يعني: خَلف سوء. يقول: حدث بعدهم وخلافَهم, وتبدل منهم، بَدَلُ سَوْءٍ.
يقال منه: « هو خَلَف صِدْقٍ » , « وخَلْفُ سَوْءٍ » , وأكثر ما جاء في المدح بفتح « اللام » ، وفي الذم بتسكينها, وقد تحرَّك في الذم، وتسكّن في المدح, ومن ذلك في تسكينها في المدح قول حسان:
لَنَــا القَـدَمُ الأُولَـى إلَيْـكَ, وَخَلْفُنَـا لأَوَّلِنَــا فِــي طَاعَــةِ اللـهِ تَـابِعُ
وأحسب أنّه إذا وُجّه إلى الفساد، مأخوذ من قولهم: « خَلَف اللبن » ، إذا حمض من طُول تَركه في السقاء حتى يفسد, فكأنَّ الرجل الفاسد مشبَّهٌ به. وقد يجوز أن يكون منه قولهم « خَلَف فم الصائم » ، إذا تغيرت ريحه. وأما في تسكين « اللام » في الذمّ, فقول لبيد:
ذَهَـبَ الَّـذِينَ يُعَـاشُ فِـي أَكْنَـافِهِمْ وَبَقِيـتُ فِـي خَـلْفٍ كَجِـلْدِ الأَجْرَبِ
وقيل: إن الخلف الذي ذكر الله في هذه الآية أنهم خَلَفوا من قبلهم، هم النصارى.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « فخلف من بعدهم خلف » ، قال: النصارى.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره، إنما وصف أنه خَلَف القومَ الذين قصّ قصصهم في الآيات التي مضت، خَلْف سوءِ رديء, ولم يذكر لنا أنهم نصارى في كتابه, وقصتهم بقصص اليهود أشبه منها بقصص النصارى. وبعدُ, فإن ما قبل ذلك خبرٌ عن بني إسرائيل، وما بعده كذلك, فما بينهما بأن يكون خبرًا عنهم أشبه, إذ لم يكن في الآية دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم, ولا جاء بذلك دليل يوجب صحة القول به.
فتأويل الكلام إذًا: فتبدَّل من بعدهم بَدَل سوء, ورثوا كتاب الله فَعُلِّموه, وضيعوا العمل به، فخالفوا حكمه, يُرْشَون في حكم الله, فيأخذون الرشوة فيه من عَرَض هذا العاجل « الأدنى » , يعني ب « الأدنى » : الأقرب من الآجل الأبعد. ويقولون إذا فعلوا ذلك: إن الله سيغفر لنا ذنوبنا، تمنِّيًا على الله الأباطيل, كما قال جل ثناؤه فيهم: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ، [ سورة البقرة: 79 ] « وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه » ، يقول: وإن شرع لهم ذنبٌ حرامٌ مثله من الرشوة بعد ذلك، أخذوه واستحلوه ولم يرتدعوا عنه. يخبر جل ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرار على ذنُوبهم, وليسوا بأهل إنابة ولا تَوْبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت عنه عباراتهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا فضيل بن عياض, عن منصور, عن سعيد بن جبير في قوله: « يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عَرَض مثله يأخذوه » ، قال: يعملون الذنب، ثم يستغفرون الله, فإن عرض ذلك الذنب أخذوه.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن سعيد بن جبير: « وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه » ، قال: من الذنوب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن سعيد بن جبير: « يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا » ، قال: يعملون بالذنوب « وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه » ، : قال: ذنبٌ آخر، يعملون به.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن سعيد بن جبير: « يأخذون عرض هذا الأدنى » ، قال: الذنوب « وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه » ، قال: الذنوب.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( يأخذون عرض هذا الأدنى ) قال: ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلالٌ أو حرام يشتهونه أخذوه, ويبتغون المغفرة, فإن يجدوا الغد مثلَه يأخذوه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, بنحوه إلا أنه قال: يتمنَّون المغفرة.
حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد, عن مجاهد: « يأخذون عرض هذا الأدنى » ، قال: لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه، حلالا كان أو حرامًا, ويتمنون المغفرة, ويقولون: « سيغفر لنا » ، وإن يجدوا عرضًا مثله يأخذوه.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « فخلف من بعدهم خلف » ، إي والله، لَخَلْفُ سَوْء ورِثوا الكتابَ بعد أنبيائهم ورسلهم, ورَّثهم الله وَعهِد إليهم, وقال الله في آية أخرى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ، [ سورة مريم: 59 ] ، قال: « يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا » ، تمنوا على الله أمانيّ، وغِرّةٌ يغتَرُّون بها. « وإن يأتهم عرض مثله » ، لا يشغلهم شيء عن شيء ولا ينهاهم عن ذلك, كلما أشرف لهم شيء من الدنيا أكلوه، لا يبالون حلالا كان أو حرامًا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « يأخذون عرض هذا الأدنى » ، قال: يأخذونه إن كان حلالا وإن كان حرامًا « وإن يأتهم عرض مثله » ، قال: إن جاءهم حلال أو حرامٌ أخذوه.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « فخلف من بعدهم خلف » إلى قوله: وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ، قال: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيًا إلا ارتشى في الحكم، وإن خيارهم اجتمعُوا، فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا, فجعل الرجل منهم إذا استُقْضِي ارتشى, فيقال له: ما شأنك ترتشي في الحكم؟ فيقول: سيغفر لي ! فيطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع. فإذا مات، أو نـزع, وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه، فيرتشي. يقول: وإن يأت الآخرين عرضُ الدنيا يأخذوه. وأما « عرض الأدنى » , فعرض الدنيا من المال.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا » ، يقول: يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام, ويقولون: « سيغفر لنا » .
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يأخذون عرض هذا الأدنى » ، قال: الكتاب الذي كتبوه « ويقولون سيغفر لنا » ، لا نشرك بالله شيئًا « وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه » ، يأتهم المحقّ برشوة فيخرجوا له كتاب الله، ثم يحكموا له بالرشوة. وكان الظالم إذا جاءهم برشوة أخرجوا له « المثنّاة » , وهو الكتاب الذي كتبوه, فحكموا له بما في « المثنّاة » ، بالرشوة, فهو فيها محق, وهو في التوراة ظالم, فقال الله: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن سعيد بن جبير قوله: « فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى » ، قال: يعملون بالذنوب « ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه » ، قال: الذنوب.
القول في تأويل قوله : أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 169 )
وقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « ألم يؤخذ » ، على هؤلاء المرتشين في أحكامهم, القائلين: « سيغفر الله لنا فعلنا هذا » , إذا عوتبوا على ذلك « ميثاقُ الكتاب » , وهو أخذ الله العهود على بني إسرائيل، بإقامة التوراة، والعمل بما فيها. فقال جل ثناؤه لهؤلاء الذين قص قصتهم في هذه الآية، موبخًا على خلافهم أمرَه، ونقضهم عهده وميثاقه: ألم يأخذ الله عليهم ميثاق كتابه، ألا يقولوا على الله إلا الحق، ولا يُضيفوا إليه إلا ما أنـزله على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم في التوراة, وأن لا يكذبوا عليه؟ كما: -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق » ، قال: فيما يوجبون على الله من غُفران ذنوبهم التي لا يَزَالون يعودون فيها ولا يَتُوبون منها.
وأما قوله: « ودرسوا ما فيه » ، فإنه معطوف على قوله: وَرِثُوا الْكِتَابَ ، ومعناه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ , « ودرسوا ما فيه » ويعني بقوله: « ودرسوا ما فيه » ، قرأوا ما فيه، يقول: ورثوا الكتاب فعلموا ما فيه ودرسوه, فضيعوه وتركوا العمل به, وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك، كما: -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ودرسوا ما فيه » ، قال: علّموه، علّموا ما في الكتاب الذي ذكر الله، وقرأ: بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ، [ سورة آل عمران: 79 ] .
قال أبو جعفر: « والدار الآخرة خير للذين يتقون » ، يقول جل ثناؤه: وما في الدار الآخرة, وهو ما في المعادِ عند الله، مما أعدّ لأوليائه، والعاملين بما أنـزل في كتابه، المحافظين على حدوده « خير للذين يتقون الله » ، ويخافون عقابه, فيراقبونه في أمره ونهيه, ويطيعونه في ذلك كله في دنياهم « أفلا يعقلون » ، يقول: أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون عرض هذا الأدنى على أحكامهم, ويقولون: سَيُغْفَرُ لَنَا , أنَّ ما عند الله في الدار الآخرة للمتقين العادِلين بين الناس في أحكامهم, خير من هذا العرض القليل الذي يستعجلونه في الدنيا على خلافِ أمر الله، والقضاء بين الناس بالجور؟
القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ( 170 )
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأ بعضهم: ( يُمْسِكُونَ ) بتخفيف الميم وتسكينها, من « أمْسك يمسك » .
وقرأه آخرون: ( يُمَسِّكُونَ ) ، بفتح الميم وتشديد السين, من « مَسَّك يُمَسِّك » .
قال أبو جعفر: ويعني بذلك: والذين يعملون بما في كتاب الله « وأقاموا الصلاة » ، بحدودها, ولم يضيعوا أوقاتها « إنا لا نضيع أجر المصلحين » . يقول تعالى ذكره: فمن فعل ذلك من خلقي, فإني لا أضيع أجر عمله الصالح، كما: -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « والذين يمسكون بالكتاب » ، قال: كتاب الله الذي جاء به موسى عليه السلام.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله: « والذين يمسكون بالكتاب » ، من يهود أو نصارى « إنا لا نضيع أجر المصلحين » .
القول في تأويل قوله : وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 171 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر، يا محمد، إذ اقتلعنا الجبل فرفعناه فوق بني إسرائيل, كأنه ظلة غمام من الظلال وقلنا لهم: « خذوا ما آتيناكم بقوة » ، من فرائضنا, وألزمناكم من أحكام كتابنا, فاقبلوه, اعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توانٍ « واذكروا ما فيه » ، يقول ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذنا عليكم بالعمل بما فيه « لعلكم تتقون » ، يقول: كي تتقوا ربكم, فتخافوا عقابه بترككم العمل به إذا ذكرتم ما أخذ عليكم فيه من المَواثيق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة » ، فقال لهم موسى: « خذوا ما آتيناكم بقوة » ، يقول: من العمل بالكتاب، وإلا خَرَّ عليكم الجبل فأهلككم! فقالوا: بل نأخذ ما آتانا الله بقوّة! ثم نكثُوا بعد ذلك.
حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي عن ابن عباس قوله: « وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة » ، فهو قوله: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ، [ سورة النساء: 154 ] ، فقال: « خذوا ما آتيناكم بقوة » ، وإلا أرسلته عليكم.
حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله, عن داود, عن عامر, عن ابن عباس قال: إنّي لأعلم خَلْقِ الله لأيِّ شيء سجدت اليهود على حَرْفِ وُجوههم: لما رفع الجبل فوقهم سَجَدُوا، وجعلوا ينظرون إلى الجبل مخافةَ أن يقع عليهم. قال: فكانت سجدةً رضيها الله, فاتخذوها سُنَّة.
حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا داود, عن عامر, عن ابن عباس, مثله.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة » ، أي: بجدّ « واذكروا ما فيه لعلكم تتقون » ، جبل نـزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم، فقال: لتأخذُنّ أمري, أو لأرمينَّكم به!
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: « وإذ نتقنا الجبل » ، قال: كما تنتق الزُّبْدَة قال ابن جريج: كانوا أبوا التوراة أن يقبلوها أو يؤمنوا بها « خذوا ما آتيناكم بقوّة » ، قال: يقول: لتؤمنن بالتوراة ولتقبلُنَّها, أو ليقعَنَّ عليكم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي بكر بن عبد الله قال: هذا كتاب الله، أتقبلونه بما فيه, فإن فيه بيانَ ما أحلَّ لكم وما حرَّم عليكم، وما أمركم وما نهاكم! قالوا: انشُرْ علينا ما فيها, فإن كانت فرائضها يسيرةً وحدودها خفيفةً، قبلناها! قال: اقبلوها بما فيها! قالوا: لا حتى نعلم ما فيها، كيف حدودها وفرائضها! فراجعوا موسى مرارًا, فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء، حتى إذا كان بين رؤوسهم وبين السماء قال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربِّي؟ « لئن لم تقبلوا التوراةَ بما فيها لأرمينَّكم بهذا الجبل » . قال: فحدثني الحسن البصريّ، قال: لما نظروا إلى الجبل خرَّ كلُّ رجل ساجدًا على حاجبه الأيسر, ونظر بعينه اليُمْنَى إلى الجبلِ, فَرَقًا من أن يسقط عليه، فلذلك ليس في الأرض يهوديُّ يسجدُ إلا على حاجبه الأيسر, يقولون: هذه السجدة التي رُفِعت عنا بها العقوبة قال أبو بكر: فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتَبَه بيده, لم يبقَ على وجه الأرض جبلٌ ولا شجرٌ ولا حجرٌ إلا اهتزّ, فليس اليوم يهوديّ على وجه الأرضِ صغيرٌ ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتزّ، ونَفضَ لها رأسَه.
قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله: « نتقنا » .
فقال بعض البصريين معنى « نتقنا » ، رفعنا، واستشهد بقول العجاج:
يَنْتُقُ أَقْتَادَ الشَّلِيلِ نَتْقَا
وقال: يعني بقوله: « ينتق » ، يرفعها عن ظهره، وبقول الآخر:
*وَنَتَقُوا أحْلامَنَا الأثَاقِلا*
وقد حكي عن قائل هذه المقالة قول آخر: وهو أن أصل « النتق » و « النُّتُوق » ، كل شيء قلعته من موضعه فرميت به, يقال منه: « نَتَقْتُ نَتْقًا » . قال: ولهذا قيل للمرأة الكثيرة [ الولد ] : « ناتق » ، لأنها ترمي بأولادها رَمْيًا, واستشهد ببيت النابغة:
لـم يحـرموا حسـن الغـذاء وأمهـم دحــقت عليــك بنــاتق مذكـار
وقال آخر: معناه في هذا الموضع: رفعناه. وقال: قالوا: « نَتَقَني السَّيرُ » : حرَّكني. وقال: قالوا: « ما نَتَق برجْلِه لا يركُض » , و « النتق » : نتق الدابة صاحبها حين تعدُو به وتتعبه حتى يربو, فذلك « النَّتق » و « النتوق » , و « نتقتني الدَّابة » , و « نتقت المرأة تنْتُق نُتوقًا » : كثر ولدها.
وقال بعض الكوفيين: « نتقنا الجبل » ، عَلَّقنا الجبل فوقهم فرفعناه، ننتقه نتقًا, و « امرأة مِنْتاق » ، كثيرة الولد: قال: وسمعت « أخذ الجراب، فنتق ما فيه » ، إذا نثر ما فيه.
القول في تأويل قوله : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ( 172 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد ربَّك إذ استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم, فقرَّرهم بتوحيده, وأشهد بعضهم على بعض شهادَتَهم بذلك, وإقرارَهم به. كما:-
حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال: حدثنا الحسين بن محمد قال: حدثنا جرير بن حازم, عن كلثوم بن جبر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنَعْمَان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرّية ذرأها, فنثرهم بين يديه كالذرِّ, ثم كلمهم قَبَلا فقال: » ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا « ، الآية إلى ( ما فعل المبطلون ) ، » .
حدثنا عمران بن موسى قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا كلثوم بن جبر قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) قال: سألت عنها ابن عباس, فقال: مسح ربُّك ظهر آدم, فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنَعْمَان هذه وأشار بيده فأخذ مواثيقهم, وأشهدهم على أنفسهم ( ألست بربكم قالوا بلى )
حدثنا ابن وكيع ويعقوب قالا حدثنا ابن علية قال: حدثنا كلثوم بن جبر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريَّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) قال: مسح ربُّك ظهر آدم, فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنَعْمَان هذا الذي وراء عَرَفة, وأخذ ميثاقهم ( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) ، اللفظ لحديث يعقوب.
وحدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية قال ربيعة بن كلثوم, عن أبيه في هذا الحديث: ( قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين )
حدثنا عمرو قال: حدثنا عمران بن عيينة قال: أخبرنا عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: أول ما أهبط الله آدم, أهبطه بدَهْنَا, أرض بالهند, فمسح الله ظهره, فأخرج منه كل نَسَمة هو بارئها إلى أن تقوم الساعة, ثم أخذ عليهم الميثاق: ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) .
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: أهبط آدم حين أهبط, فمسح الله ظهره, فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة, ثم قال ( ألست بربكم قالوا بلى ) ، , ثم تلا ( وإذ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، فجفَّ القلمُ من يومئذ بما هو كائن إلى يوم القيامة.
حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يحيى بن عيسى, عن الأعمش, عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) قال: لما خلق الله آدم, أخذ ذريّته من ظهره مثل الذرِّ, فقبض قبضَتين, فقال لأصحاب اليمين: « ادخلوا الجنة بسلام » , وقال للآخرين: « ادخلوا النارَ ولا أبالي » .
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن الأعمش, عن حبيب, عن ابن عباس قال: مسح الله ظهر آدم, فأخرج كلَّ طيبٍ في يمينه, وأخرج كل خبيثٍ في الأخرى.
حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن علية, عن شريك, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: مسح الله ظهر آدم, فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام قال: حدثنا عمرو بن أبي قيس, عن عطاء, عن سعيد, عن ابن عباس: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) قال: لما خلق الله آدم مسح ظهره بدَحنا, وأخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة, فقال: ( ألست بربكم قالوا بلى ) قال: فيُرَوْن يومئذٍ جفَّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن المسعودي, عن علي بن بذيمة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: لما خلق الله آدم عليه السلام أخذ ميثاقه, فمسح ظهره, فأخذ ذرّيته كهيئة الذرِّ, فكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم, ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) .
.... قال: حدثنا يزيد بن هارون, عن المسعودي, عن علي بن بذيمة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) قال: لما خلق الله آدم, أخذ ميثاقه أنه ربُّه, وكتب أجله ومصائبَه, واستخرج ذريّته كالذرِّ, وأخذ ميثاقهم, وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبَهم.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن ربيعة بن كلثوم بن جبر, عن أبيه عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ) قال: مسح الله ظهر آدم عليه السلام وهو ببطن نعمان, واد إلى جنب عرفة, وأخرج ذريته من ظهره كهيئة الذرّ, ثم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا.
.... قال: حدثنا أبي, عن أبي هلال, عن أبي جَمْرَة الضُّبَعي, عن ابن عباس قال: أخرج الله ذريّة آدم عليه السلام من ظهره كهيئة الذر, وهو في آذيٍّ من الماء.
حدثني علي بن سهل قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة قال: حدثنا أبو مسعود, عن جويبر قال: مات ابن للضحاك بن مزاحم، ابنَ ستة أيام قال: فقال: يا جابر إذا أنت وضعت ابني في لحده, فأبرزْ وجهه, وحُلّ عنه عقده, فإن ابني مُجْلَسٌ ومسئول! ففعلت به الذي أمرني, فلما فرغت, قلت: يرحمك الله, عمّ يُسألُ ابنك؟ مَنْ يسأله إيّاه؟ قال: يُسْأَل عن الميثاق الذي أقرّ به في صلب آدم عليه السلام. قلت: يا أبا القاسم, وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم؟ قال: ثني ابن عباس أن الله مسح صلب آدم, فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة, وأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه, ولا يشركوا به شيئًا, وتكفّل لهم بالأرزاق، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ, فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفَى به نفعه الميثاق الأوّل, ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يفِ به لم ينفعه الميثاق الأوّل, ومن مات صغيرًا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني السريّ بن يحيى, أن الحسن بن أبي الحسن, حدّثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعَ غزوات قال: فتناول القوم الذرّيّة بعد ما قَتَلوا المقاتلة, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , فاشتدّ عليه, ثم قال: « ما بال أقوام يتناولون الذرية؟ » فقال رجل: يا رسول الله, أليسوا أبناءَ المشركين؟ فقال: « إن خيارَكم أولادُ المشركين! ألا إنها ليست نسمة تُولد إلا ولدت على الفطرة, فما تزال عليها حتى يبين عنها لِسَانها, فأبواها يهوِّدانها أو ينصرانها » قال الحسن: والله لقد قال الله ذلك في كتابه، قال: « وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) . »
حدثنا عبد الرحمن بن الوليد قال: حدثنا أحمد بن أبي طَيبة, عن سفيان بن سعيد بن الأجلح, عن الضحاك وعن منصور, عن مجاهد, عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) قال: « أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس, فقال لهم ( ألست بربكم قالوا بلى ) قالت الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين » .
حدثنا ابن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد, عن عبد الله بن عمرو, في قوله: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم ) قال: أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس.
حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد, عن عبد الله بن عمرو: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم ) قال: أخذهم كما يأخذ المشط عن الرأس. قال ابن حميد: كما يؤخذ بالمشط.
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: حدثنا روح بن عبادة, وسعد بن عبد الحميد بن جعفر، عن مالك بن أنس, عن زيد بن أبي أنيسة, عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب, عن مسلم بن يسار الجهني: أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ) ، فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية, فقال: » خلقت هؤلاء للجنة, وبعمل أهل الجنة يعملون « . ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية, فقال: » خلقت هؤلاء للنار, وبعمل أهل النار يعملون « . فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ قال: » إن الله إذا خلق العبدَ للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من عمل أهل الجنة، فيدخله الجنة; وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من عمل أهل النار، فيدخله النار.
حدثنا إبراهيم قال: حدثنا محمد بن المصفي, عن بقية, عن عمر بن جُعْثم القرشي قال: حدثني زيد بن أبي أنيسة, عن عبد الحميد بن عبد الرحمن, عن مسلم بن يسار, عن نعيم بن ربيعة, عن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم , بنحوه.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن عمارة, عن أبي محمد رجل من المدينة، قال: سألت عمر بن الخطاب عن قوله: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم ) قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنه كما سألتني, فقال: « خلق الله آدم بيده, ونفخ فيه من روحه, ثم أجلسه فمسح ظهره بيده اليمنى, فأخرج ذَرْءًا, فقال: » ذَرْءٌ ذرأتهم للجنة « , ثم مسح ظهره بيده الأخرى, وكلتا يديه يمين, فقال: » ذَرْءٌ ذرأتهم للنار, يعملون فيما شئت من عمل, ثم أختم لهم بأسوإ أعمالهم فأدخلهم النار « . »
حدثني المثني قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) قال: إن الله خلق آدم عليه السلام, ثم أخرج ذريّته من صلبه مثل الذرِّ, فقال لهم: من ربكم؟ قالوا: الله ربُّنا, ثم أعادهم في صلبه, حتى يولد كل من أخذ ميثاقه لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم إلى أن تقوم الساعة.
حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، .. إلى قوله: ( قالوا بلى شهدنا ) قال ابن عباس: إن الله لما خلق آدم مسح ظهره, وأخرج ذريته كلّهم كهيئة الذر, فأنطقهم فتكلموا, وأشهدهم على أنفسهم, وجعل مع بعضهم النّور, وإنه قال لآدم: هؤلاء ذرّيتك آخذ عليهم الميثاق: أنا ربهم, لئلا يشركوا بي شيئًا, وعليَّ رزقهم. قال آدم: فمن هذا الذي معه النُّور؟ قال: هو داود. قال: يا رب كم كتبت له من الأجل؟ قال: ستين سنة. قال: كم كتبت لي؟ قال: ألف سنة, وقد كتبت لكل إنسان منهم كم يعمَّر وكم يلبث. قال: يا رب زده. قال: هذا الكتاب موضوعٌ فأعطه إن شئت من عمرك! قال: نعم. وقد جفَّ القلم عن أجل سائر بني آدم, فكتب له من أجل آدم أربعين سنة, فصار أجله مائة سنة. فلما عمر تسع مائة سنة وستين سنة جاءه ملك الموت; فلما رآه آدم قال: ما لك؟ قال له: قد استوفيت أجلك. قال له آدم: إنما عمرت تسعمئة وستين سنة, وبقي أربعون سنة. قال: فلما قال ذلك للملك، قال الملك: قد أخبرني بها ربي. قال: فارجع إلى ربك فاسأله ! فرجع الملك إلى ربه, فقال: ما لك؟ قال: يا رب رجعت إليك لما كنت أعلم من تكرمتك إياه. قال الله: ارجع فأخبره أنه قد أعطى ابنه داود أربعين سنة.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن الزبير بن موسى, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: إن الله تبارك وتعالى ضرب منكبه الأيمن, فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاءَ نقية, فقال: هؤلاء أهل الجنة. ثم ضرب منكبه الأيسر, فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداءَ, فقال: هؤلاء أهل النار. ثم أخذ عهودهم على الإيمان والمعرفة له ولأمره, والتصديق به وبأمره، بني آدم كلهم, فأشهدهم على أنفسهم, فأمنوا وصدَّقوا وعرَفوا وأقرُّوا. وبلغني أنه أخرجهم على كفه أمثال الخردل قال ابن جريج عن مجاهد قال: إن الله لما أخرجهم قال: يا عباد الله أجيبوا الله - « والإجابة » : الطاعة - فقالوا: أطعنا, اللهم أطعنا, اللهم لبيك ! قال: فأعطاها إبراهيم عليه السلام في المناسك: « لبَّيك اللهم لبَّيك » . قال: ضرب مَتْنَ آدم حين خلقه. قال: وقال ابن عباس: خلق آدم, ثم أخرج ذريته من ظهره مثل الذر, فكلمهم, ثم أعادهم في صلبه, فليس أحدٌ إلا وقد تكلم فقال: « ربي الله » . فقال: وكل خَلْق خَلَق فهو كائن إلى يوم القيامة، وهي الفِطْرة التي فَطَر الناس عليها. قال ابن جريج: قال سعيد بن حبير: أخذ الميثاق عليهم بنَعْمَان - ونعمان من وراء عرفة- « أن يقولوا يوم القيامة ( إنا كنا عن هذا غافلين ) ، عن الميثاق الذي أخذ عليهم. »
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية, عن أبي بن كعب قال: جمعهم يومئذٍ جميعًا، ما هو كائن إلى يوم القيامة, ثم استنطقهم, وأخذ عليهم الميثاق وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ، قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرَضين السبع, وأشهد عليكم أباكم آدم: أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا! اعلموا أنه لا إله غيري, ولا رب غيري, ولا تشركوا بي شيئًا, وأني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي, وسأنـزل عليكم كتبي ! قالوا: شهدنا أنك ربُّنا وإلهنا, لا رب لنا غيرك, ولا إله لنا غيرك. فأقرُّوا له يومئذٍ بالطاعة, ورفع عليهم أباهم آدم, فنظر إليهم, فرأى منهم الغنيّ والفقير, وحسن الصورة, ودون ذلك, فقال: رب لولا ساويت بينهم! قال: فإني أحب أن أشكر. قال: وفيهم الأنبياء عليهم السلام يومئذٍ مثلُ السُّرُج. وخص الأنبياء بميثاق آخر قال الله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ، [ سورة الأحزاب: 7 ] وهو الذي يقول تعالى ذكره: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ، [ سورة الروم: 30 ] وفي ذلك قال: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى ، [ سورة النجم: 56 ] يقول: أخذنا ميثاقه مع النذر الأولى, ومن ذلك قوله: وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ، [ سورة الأعراف: 102 ] ، [ وهو قوله تعالى ] ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ، [ سورة يونس: 74 ] قال: كان في علمه يوم أقروا به، من يصدِّق ومن يكذِّب.
حدثنا ابن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في هذه الآية: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهَدَهم على أنفسهم ألست بربكم ) قال: أخرجهم من ظهر آدم, وجعل لآدم عمر ألف سنة. قال: فعرضوا على آدم, فرأى رجلا من ذرّيته له نور فأعجبه, فسأل عنه, فقال: هو داود, قد جُعِل عمره ستين سنة! فجعل له من عمره أربعين سنة; فلما احتُضِرَ آدمُ, جعل يخاصمهم في الأربعين سنة, فقيل له: إنك أعطيتها داود! قال: فجعل يخاصمهم.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, في قوله: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم ) قال: أخرج ذريته من ظهره كهيئة الذرِّ, فعرضهم على آدم بأسمائهم وأسماء آبائهم وآجالهم! قال: فعرض عليه روح داود في نورٍ ساطع, فقال: من هذا؟ قال: هذا من ذرّيتك، نبيٌّ خليفة. قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة قال: زيدوه من عمري أربعين سنة. قال: والأقلام رطبة تجري. فأثبت لداود الأربعون, وكان عمر آدم عليه السلام ألف سنة; فلما استكملها إلا الأربعين سنة, بُعث إليه ملك الموت, فقال: يا آدم أمرت أن أقبضك قال: ألم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: فرجع ملك الموت إلى ربه, فقال: إن آدم يدَّعي من عمره أربعين سنة! قال: أخبر آدم أنه جعلها لابنه داودَ والأقلام رطبة ! فأُثبتت لداود.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو داود, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد، بنحوه.
.... قال: حدثنا ابن فضيل وابن نمير, عن عبد الملك, عن عطاء: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم ) قال: أخرجهم من ظهر آدم حتى أخذ عليهم الميثاق, ثم ردّهم في صلبه.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا ابن نمير, عن نضر بن عربي: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) قال: أخرجهم من ظهر آدم حتى أخذ عليهم الميثاق, ثم ردَّهم في صلبه.
.... قال: حدثنا محمد بن عبيد, عن أبي بسطام, عن الضحاك قال: حيث ذرأ الله خلقه لآدم عليه السلام قال: خلقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: حدثنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) قال: قال ابن عباس: خلق الله آدم, ثم أخرج ذريته من ظهره, فكلمهم الله وأنطقهم, فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى, ثم أعادهم في صلبه, فليس أحدٌ من الخلق إلا قد تكلم فقال: « ربي الله » , وإن القيامة لن تقوم حتى يولد من كان يومئذ أشهد على نفسه.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمر بن طلحة, عن أسباط, عن السدي: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) ، وذلك حين يقول تعالى ذكره: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ، [ سورة آل عمران: 83 ] وذلك حين يقول: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ، [ سورة الأنعام: 149 ] يعني: يوم أخذ منهم الميثاق, ثم عرضهم على آدم عليه السلام
قال: حدثنا عمر, عن أسباط, عن السدي قال: أخرج الله آدم من الجنة, ولم يهبط من السماء, ثم مسح صفحة ظهره اليمنى, فأخرج منه ذريته كهيئة الذرِّ, أبيض، مثل اللؤلؤ، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي! ومسح صفحة ظهره اليسرى, فأخرج منه كهيئة الذر سودًا, فقال: ادخلوا النار ولا أبالي! فذلك حين يقول: « أصحاب اليمين وأصحاب الشمال » ، ثم أخذ منهم الميثاق, فقال: ( ألست بربكم قالوا بلى ) ، , فأطاعه طائفة طائعين, وطائفة كارهين على وجه التقية.
حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي بنحوه وزاد فيه بعد قوله: « وطائفة على وجه التقية » فقال هو والملائكة: « شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم » . فلذلك ليس في الأرض أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله, ولا مشرك إلا وهو يقول لابنه: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ، والأمة: الدين وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ، [ سورة الزخرف: 23 ] وذلك حين يقول الله: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) ، وذلك حين يقول: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ، [ سورة آل عمران: 83 ] وذلك حين يقول: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ، [ سورة الأنعام: 149 ] يعني يوم أخذ منهم الميثاق.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الكلبي: ( من ظهورهم ذرياتهم ) قال: مسح الله على صلب آدم, فأخرج من صلبه من ذريته ما يكون إلى يوم القيامة, وأخذ ميثاقهم أنه ربهم, فأعطوه ذلك, ولا تسأل أحدًا كافرًا ولا غيره من ربك؟ إلا قال: « الله » . وقال الحسن مثل ذلك أيضًا.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا حفص بن غياث, عن جعفر, عن أبيه, عن علي بن حسين أنه كان يَعْزِلُ, ويتأول هذه الآية: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم ) .
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح قال: حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب القرظي في قوله: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) قال: أقرَّت الأرواح قبلَ أن تُخْلق أجسادها.
حدثنا أحمد بن الفرج الحمصي قال: حدثنا بقية بن الوليد قال: حدثني الزبيدي, عن راشد بن سعد, عن عبد الرحمن بن قتادة النَّصْري, عن أبيه, عن هشام بن حكيم: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: يا رسولَ الله, أتبْدَأ الأعمال أم قد قُضِي القضاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله أخذ ذرية آدم من ظهورهم, ثم أشهدهم على أنفسهم, ثم أفاض بهم في كفيه، ثم قال: » هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار « , فأهل الجنة ميسَّرون لعمل أهل الجنة, وأهل النار ميسَّرون لعمل أهل النار. »
حدثني محمد بن عوف الطائي قال: حدثنا حيوة ويزيد قالا حدثنا بقية, عن الزبيدي, عن راشد بن سعد, عن عبد الرحمن بن قتادة النصْري, عن أبيه, عن هشام بن حكيم, عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
حدثني [ عبد الله بن ] أحمد بن شبويه قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا عمرو بن الحرث قال: حدثنا عبد الله بن مسلم, عن الزبيدي قال: حدثنا راشد بن سعد: أن عبد الرحمن بن قتادة حدّثه: أن أباه حدّثه: أن هشام بن حكيم حدثه: أنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فذكر مثله.
حدثنا محمد بن عوف قال: حدثني أبو صالح قال: حدثنا معاوية, عن راشد بن سعد, عن عبد الرحمن بن قتادة, عن هشام بن حكيم, عن النبي صلى الله عليه وسلم , بنحوه.
قال أبو جعفر: واختلف في قوله: ( شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) ، فقال السدي: هو خبرٌ من الله عن نفسه وملائكته، أنه جل ثناؤه قال هو وملائكته إذ أقرَّ بنو آدم بربوبيته حين قال لهم ألست بربكم؟ فقالوا: « بلى » . فتأويل الكلام على هذا التأويل: « وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم, وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى » . فقال الله وملائكته: شهدنا عليكم بإقراركم بأن الله ربكم، كيلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. وقد ذكرت الرواية عنه بذلك فيما مضى، والخبرَ الآخرَ الذي روي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك.
وقال آخرون: ذلك خبر من الله عن قيل بعض بني آدم لبعض, حين أشهد الله بعضهم على بعض. وقالوا: معنى قوله: ( وأشهدهم على أنفسهم ) ، وأشهد بعضهم على بعضٍ بإقرارهم بذلك, وقد ذكرت الرواية بذلك أيضًا عمن قاله قبلُ.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب, ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان صحيحًا, ولا أعلمه صحيحًا; لأن الثقات الذين يعتمد على حفظهم وإتقانهم حدَّثوا بهذا الحديث عن الثوري, فوقفوه على عبد الله بن عمرو، ولم يرفعوه, ولم يذكروا في الحديث هذا الحرف الذي ذكره أحمد بن أبي طَيبة عنه. وإن لم يكن ذلك عنه صحيحًا, فالظاهر يدلُّ على أنه خبر من الله عن قِيل بني آدم بعضهم لبعض, لأنه جل ثناؤه قال: ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) ، فكأنه قيل: فقال الذين شهدوا على المقرِّين حين أقروا, فقالوا: « بلى » : شهدنا عليكم بما أقررتم به على أنفسكم، كيلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.
القول في تأويل قوله : أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ( 173 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: شهدنا عليكم أيها المقرُّون بأن الله ربكم, كيلا تقولوا يوم القيامة: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ , إنا كنا لا نعلم ذلك، وكنا في غفلة منه أو تقولوا: ( إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ) ، اتبعنا منهاجهم ( أفتهلكنا ) ، بإشراك من أشرك من أبائنا, واتباعنا منهاجَهم على جهل منا بالحق؟ ويعني بقوله: ( بما فعل المبطلون ) ، بما فعل الذين أبطلوا في دَعواهم إلهًا غير الله.
واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأ بعض المكيين والبصريين: « أَنْ يَقُولُوا » بالياء, بمعنى: شهدنا لئلا يقولوا، على وجه الخبر عن الغَيَب.
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: ( أَنْ تَقُولُوا ) ، بالتاء على وجه الخطابِ من الشهود للمشهود عليهم.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان صحيحتا المعنى، متَّفقتَا التأويل، وإن اختلفت ألفاظهما, لأن العرب تفعل ذلك في الحكاية, كما قال الله: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ و ( لَيُبَيِّنُنَّهُ ) [ سورة آل عمران: 187 ] , وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 174 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما فصلنا يا محمد لقومك آيات هذه السورة, وبيّنا فيها ما فعلنا بالأمم السالفة قبلَ قومك, وأحللنا بهم من المَثُلات بكفرهم وإشراكهم في عبادتي غيري, كذلك نفصل الآيات غيرِها ونبيّنها لقومك, لينـزجروا ويرتدعوا, فينيبوا إلى طاعتي ويتوبوا من شركهم وكفرهم, فيرجعوا إلى الإيمان والإقرار بتوحيدي وإفراد الطاعة لي وترك عبادة ما سواي.
القول في تأويل قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ( 175 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « واتل » ، يا محمد، على قومك « نبأ الذي آتيناه آياتنا » , يعني خبره وقصته.
وكانت آيات الله للذي آتاه الله إياها فيما يقال: اسم الله الأعظم وقيل: النبوّة.
واختلف أهل التأويل فيه.
فقال بعضهم: هو رجل من بني إسرائيل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا شعبة, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله في هذه الآية: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال: هو بَلْعَم.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله, مثله.
.... قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله قال: هو بلعم بن أَبَر.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن ابن مسعود, في قوله: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ) قال: رجل من بني إسرائيل يقال له: بَلْعَم بن أَبَر.
حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر وابن مهدي وابن أبي عدي، قالوا: حدثنا شعبة, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله: أنه قال في هذه الآية, فذكر مثله ولم يقل: « بن أبر » .
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن ابن مسعود: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال: رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن أَبَر.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمران بن عيينة, عن حصين, عن عمران بن الحارث, عن ابن عباس قال: هو بلعم بن باعر.
حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن ابن مسعود, في قوله: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ) إلى ( فكان من الغاوين ) ، هو بلعم بن أبَر.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري, عن الأعمش, عن منصور عن أبي الضحى, عن مسروق, عن ابن مسعود, مثله إلا أنه قال ابن أَبُر, بضم « الباء » .
حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال: هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعم.
حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فانسلخ منها ) قال: بلعام بن باعر, من بني إسرائيل.
حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول, فذكر مثله.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج, عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن كثير, أنه سمع مجاهدًا يقول, فذكر مثله.
حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن وابن أبي عدي, عن شعبة, عن حصين, عن عكرمة قال في الذي ( آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال: هو بلعام.
وحدثنا ابن وكيع قال: حدثنا غندر, عن شعبة, عن حصين, عن عكرمة قال: هو بلعم.
.... قال: حدثنا عمران بن عيينة, عن حصين, عن عكرمة قال: هو بلعم.
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر قال: حدثنا شعبة, عن حصين قال: سمعت عكرمة يقول: هو بلعام.
حدثنا الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل, عن حصين, عن مجاهد قال: هو بلعم.
حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل, عن مغيرة, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: هو بلعم.
وقالت ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت.
وقال آخرون: كان بلعم هذا من أهل اليمن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال: هو رجل يدعى بلعم، من أهل اليمن.
وقال آخرون: كان من الكنعانيين.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال: هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعم.
وقال آخرون: هو أمية بن أبي الصلت.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا سعيد بن السائب, عن غطيف بن أبي سفيان, عن يعقوب ونافع بن عاصم, عن عبد الله بن عمرو قال في هذه الآية: ( الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال: هو أمية بن أبي الصلت.
حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا ابن أبي عدي قال: أنبأنا شعبة, عن يعلى بن عطاء, عن نافع بن عاصم قال: قال عبد الله بن عمرو: هو صاحبُكم أمية بن أبي الصلت.
حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن ووهب بن جرير قالا حدثنا شعبة, عن يعلى بن عطاء, عن نافع بن عاصم, عن عبد الله بن عمرو، بمثله.
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن رجل, عن عبد الله بن عمرو: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ قال: هو أمية بن أبي الصلت.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا غندر, عن شعبة, عن يعلى بن عطاء قال: سمعت نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود قال: سمعت عبد الله بن عمرو قال في هذه الآية: ( الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال: هو صاحبكم يعني أمية بن أبي الصلت.
.... قال: حدثنا أبي, عن سفيان عن حبيب, عن رجل، عن عبد الله بن عمرو قال: هو أمية بن أبي الصلت.
.... قال: حدثنا يزيد, عن شريك, عن عبد الملك, عن فضالة أو ابن فضالة عن عبد الله بن عمرو قال: هو أمية.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن عبد الملك بن عمير قال: تذاكروا في جامع دمشق هذه الآية: ( فانسلخ منها ) ، فقال بعضهم: نـزلت في بلعم بن باعوراء, وقال بعضهم: نـزلت في الراهب. فخرج عليهم عبد الله بن عمرو بن العاص, فقالوا: فيمن نـزلت هذه؟ قال: نـزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الكلبي: ( الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال: هو أمية بن أبي الصلت, وقال قتادةُ: يشكّ فيه, يقول بعضهم: بلعم, ويقول بعضهم: أمية بن أبي الصلت.
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في الآيات التي كان أوتيها، التي قال جل ثناؤه: ( آتيناه آياتنا ) .
فقال بعضهم: كانت اسمَ الله الأعظم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي قال: إن الله لما انقضت الأربعون سنة يعني التي قال الله فيها: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، [ سورة المائدة: 26 ] بعث يوشع بن نون نبيًّا, فدعا بني إسرائيل، فأخبرهم أنه نبيٌّ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبَّارين, فبايعوه وصدَّقوه. وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: « بلعم » وكان عالمًا يعلم الاسم الأعظم المكتوم, فكفر، وأتى الجبارين, فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل, فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوةً فيهلكون ! وكان عندهم فيما شاء من الدنيا, غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساءَ من عِظَمهنّ, فكان ينكح أتانًا له, وهو الذي يقول الله: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) ، : أي تبصَّر، فانسلخ منها, إلى قوله: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ .
حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ) قال: هو رجل يقال له: « بلعم » , وكان يعلم اسم الله الأعظم.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال: كان لا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه.
وقال آخرون: بل الآيات التي كان أوتيها كتابٌ من كتب الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا أبو تميلة, عن أبي حمزة, عن جابر, عن مجاهد، وعكرمة, عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل بلعام بن باعر أوتي كتابًا. وقال آخرون: بل كان أوتي النبوّة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد, عن غيره قال: الحارث: قال عبد العزيز: يعني: عن غير نفسه، عن مجاهد قال: هو نبي في بني إسرائيل, يعني بلعم, أوتي النبوّة, فرشاه قومه على أن يسكت, ففعل وتركهم على ما هُمْ عليه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, أنه سُئل عن الآية: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) ، فحدّث عن سَيَّار أنه كان رجلا يقال له « بلعام » , وكان قد أوتي النبوّة, وكان مجابَ الدعوة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على قومه خبرَ رجلٍ كان الله آتاه حُجَجه وأدلته, وهي « الآيات » .
وقد دللنا على أن معنى « الآيات » : الأدلة والأعلام، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
وجائز أن يكونَ الذي كان الله آتاه ذلك « بلعم » وجائز أن يكون أمية. وكذلك « الآيات » إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنـزلها على بعض أنبيائه, فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الآية, وعناه بها; فجائز أن يكون الذي كان أوتيها « بلعم » وجائز أن يكون « أمية » , لأن « أمية » كان، فيما يقال، قد قرأ من كتب أهل الكتاب.
وإن كانت بمعنى كتاب أنـزله الله على مَنْ أمر نبيَّ الله عليه الصلاة والسلام أن يتلوَ على قومه نبأه أو بمعنى اسم الله الأعظم أو بمعنى النبوّة , فغير جائز أن يكون معنيًّا به « أمية » ; لأن « أمية » لا تختلف الأمة في أنه لم يكن أوتي شيئًا من ذلك، ولا خبرَ بأيِّ ذلك المراد، وأيّ الرجلين المعنيّ ، يوجب الحجة، ولا في العقل دلالة على أيِّ ذلك المعنيُّ به من أيٍّ. فالصواب أن يقال فيه ما قال الله, ونُقِرّ بظاهر التنـزيل على ما جاء به الوحي من الله.
وأما قوله: ( فانسلخ منها ) ، فإنه يعني: خرج من الآيات التي كان الله آتاها إياه, فتبرَّأ منها.
وبنحو ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: لما نـزل موسى عليه السلام .... يعني بالجبارين ومن معه، أتاه يعني بلعم أتاه بنُو عمّه وقومُه، فقالوا: إن موسى رجلٌ حديد, ومعه جنودٌ كثيرة, وإنه إنْ يظهر علينا يهلكنا. فادع الله أن يردَّ عنَّا موسى ومن معه. قال: إني إنْ دعوت الله أن يردَّ موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي! فلم يزالوا به حتى دعا عليهم, فسلخه الله مما كان عليه, فذلك قوله: ( فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ) .
حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: كان الله آتاه آياته فتركها.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قال ابن عباس: ( فانسلخ منها ) قال: نـزع منه العلم.
وقوله: ( فأتبعه الشيطان ) ، يقول: فصيَّره لنفسه تابعًا ينتهي إلى أمره في معصية الله, ويخالف أمر ربِّه في معصية الشيطان وطاعةِ الرحمن.
وقوله: ( فكان من الغاوين ) ، يقول: فكان من الهالكين، لضلاله وخلافه أمر ربه، وطاعة الشيطان.
القول في تأويل قوله : وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شئنا لرفعنا هذا الذي آتيناه آياتنا بآياتنا التي آتيناه ( ولكنه أخلد إلى الأرض ) يقول: سكن إلى الحياة الدنيا في الأرض، ومال إليها, وآثر لذتها وشهواتها على الآخرة « واتبع هواه » , ورفض طاعة الله وخالَف أمرَه.
وكانت قصة هذا الذي وصف الله خبرَه في هذه الآية, على اختلاف من أهل العلم في خبره وأمره, ما:-
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر, عن أبيه: أنه سئل عن الآية: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ، فحدّث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام, وكان قد أوتي النبوّة, وكان مجاب الدعوة قال: وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام أو قال الشأم قال: فرُعب الناس منه رعْبًا شديدًا. قال: فأتوا بلعام, فقالوا: ادع الله على هذا الرجل وجيشه ! قال: حتى أُوَامر ربّي أو حتى أؤامر قال: فوامر في الدعاء عليهم, فقيل له: لا تدع عليهم، فإنهم عبادي، وفيهم نبيهم! قال: فقال لقومه: إني قد وَامَرْتُ ربي في الدعاء عليهم, وإني قد نهيت. قال: فأهدوا إليه هدية فقبلها. ثم راجعوه، فقالوا: ادع عليهم! فقال: حتى أوامر! فوامر، فلم يَحُر إليه شيء. قال: فقال: قد وامرت فلم يَحُرْ إليَّ شيء! فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم، لنهاك كما نهاك المرةَ الأولى. قال: فأخذ يدعو عليهم, فإذا دعا عليهم جَرَى على لسانه الدُّعاء على قومه; وإذا أراد أن يدعو أن يُفْتَح لقومه, دعا أن يفتَح لموسى وجيشه أو نحوا من ذلك إن شاء الله. فقال: فقالوا ما نراك تدعو إلا علينا! قال: ما يجري على لساني إلا هكذا, ولو دعوت عليه ما استجيب لي, ولكن سأدلّكم على أمرٍ عَسَى أن يكون فيه هلاكهم: إن الله يُبْغِض الزنا, وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا, ورجوت أن يهلكهم الله, فأخرجوا النساء فليستقبلنهم، وإنهم قوم مسافرون, فعسى أن يزنُوا فيهلكوا. قال: ففعلوا، وأخرجوا النساء يستقبلنهم. قال: وكان للملك ابنة, فذكر من عِظَمها ما الله أعلم به! قال: فقال أبوها، أو بلعام: لا تُمْكِني نفسك إلا من موسى! قال: ووقعوا في الزنا. قال: وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل, فأرادها على نفسه قال: فقالت: ما أنا بممكنةِ نفسِي إلا من موسى! قال: فقال: إنّ من منـزلتي كذا وكذا, وإن من حالي كذا وكذا! قال: فأرسلت إلى أبيها تستأمره، قال: فقال لها: فأمكنيه. قال: ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما قال: وأيَّده الله بقوة فانتظمهما جميعًا, ورفعهما على رمحه. قال: فرآهما الناس أو كما حدَّث. قال: وسلط الله عليهم الطاعون. قال: فمات منهم سبعون ألفا. قال: فقال أبو المعتمر: فحدثني سَيّار أن بلعامًا ركب حمارةً له, حتى إذا أتى الفُلول أو قال: طريقًا بين الفُلول جعل يضربها ولا تُقْدِم. قال: وقامت عليه, فقالت: علامَ تضربني؟ أما ترى هذا الذي بين يديك! قال: فإذا الشيطان بين يديه. قال: فنـزل فسجد له، قال الله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ إلى قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ قال: فحدثني بهذا سيّار, ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره.
حدثنا ابن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر, عن أبيه قال: وبلغني حديث رجلٍ من أهل الكتاب يحدّث: أن موسى سأل الله أن يطبَعه، وأن يجعله من أهل النار. قال: ففعل الله. قال: أنبئت أن موسى قَتَله بعدُ.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن سالم أبي النضر, أنه حدَّث: أن موسى لما نـزل في أرض بني كنعان من أرض الشأم [ وكان بلعم ببالعة، قرية من قرى البلقاء. فلمَّا نـزل موسى ببني إسرائيل ذلك المنـزل ] أتى قومَ بلعم إلى بلعم, فقالوا له: يا بلعم، إن هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل, قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويُحِلُّها بني إسرائيل ويُسْكنها, وإنّا قومك, وليس لنا منـزلٌ, وأنت رجل مجاب الدعوة, فاخرج فادعُ الله عليهم! فقال: ويلكم! نبيُّ الله معه الملائكة والمؤمنون, كيف أذْهبُ أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم!! قالوا: ما لنا من منـزل! فلم يزالوا به يرقِّقُونه، ويتضَرَّعون إليه، حتى فتنوه فافتُتِن. فركب حمارةً له متوجِّهًا إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل. وهو جبل حُسْبَان . فلما سار عليها غير كثير ربضت به, فنـزل عنها, فضربها, حتى إذا أذْلَقها قامت فركبها فلم تسر به كثيرًا حتى ربضت به. ففعل بها مثل ذلك, فقامت فركبها فلم تسر به كثيرًا حتى ربضت به. فضربها حتى إذا أذلقها، أذن الله لها, فكلمته حُجَّةً عليه، فقالت: ويحك يا بلعم! أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردُّني عن وجهي هذا ؟ أتذهب إلى نبيّ الله والمؤمنين تدعو عليهم! فلم ينـزع عنها يضربها، فخلَّى الله سبيلها حين فعل بها ذلك. قال: فانطلقت حتى أشرفت به على رأس جبل حُسْبان على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، فلا يدعو عليهم بشيءٍ إلا صرف به لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صُرِف لسانه إلى بني إسرائيل. قال: فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا ! قال: فهذا ما لا أملك, هذا شيءٌ قد غلب الله عليه. قال: واندلع لسانه فوقع على صدره, فقال لهم: قد ذهبت الآنَ منّي الدنيا والآخرة, فلم يبق إلا المكر والحيلة, فسأمكر لكم وأحتالُ, جمِّلوا النساء وأعطوهنّ السِّلع, ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنَها فيه, ومُرُوهنَّ فلا تمنع امرأة نفسَها من رجل أرادها, فإنهم إن زنى منهم واحدٌ كُفِيتُمُوهم ! ففعلوا; فلما دخل النساءُ العسكر مرّت امرأة من الكنعانيين اسمها « كسبَى ابنة صور » ، رأس أمته، برجل من عظماء بني إسرائيل, وهو زمري بن شلوم، رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم, فقام إليها، فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها, ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى عليه السلام، فقال: إني أظنك ستقولُ هذه حرام عليك؟ فقال: أجل هي حرام عليك لا تقربْها ! قال: فوالله لا نُطِيعك في هذا, فدخل بها قُبَّته فوقع عليها. وأرسل الله الطاعون في بني إسرائيل, وكان فنحاص بن العيزار بن هارون، صاحبَ أمر موسى, وكان رجلا قد أعطي بَسطَةً في الخلق وقوة في البطش, وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع. فجاء والطَّاعون يحوس في بني إسرائيل, فأخبر الخبرَ, فأخذ حَرْبته. وكانت من حديد كلها, ثم دخل عليه القبة وهما متضاجعان, فانتظمهما بحربته, ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء, والحربة قد أخذها بذراعه, واعتمد بمرفقه على خاصِرته, وأسند الحرية إلى لَحْيَيه, وكان بكر العيزار, وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك ! ورُفع الطاعون, فحُسِب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون, فيما بين أنْ أصاب زِمري المرأة إلى أن قتله فنحاص, فوُجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا, والمقلّل يقول: عشرون ألفاً في ساعة من النهار. فمن هنالك تُعطى بنو إسرائيل ولد فنحاص بن العيزار بن هارون من كلِّ ذبيحةٍ ذبحُوها القِبَةَ والذراع واللَّحْي, لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وإسناده إيّاها إلى لحييه والبكرَ من كل أموالهم وأنفسُهم, لأنه كان بكر العيزار. ففي بلعم بن باعور، أنـزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ، يعني بلعم, فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ، .. إلى قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي قال: انطلق رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم, فأتى الجبارين فقال: لا ترهبوا من بني إسرائيل, فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم فيهلكون فخرج يوشع يقاتل الجبارين في الناس. وخرج بلعم مع الجبّارين على أتانه وهو يريد أن يلعَنَ بني إسرائيل, فكلما أراد أن يدعو على بني إسرائيل، دعا على الجبارين, فقال الجبارون: إنك إنّما تدعو علينا ! فيقول: إنما أردت بني إسرائيل. فلما بلغ باب المدينة، أخذ ملك بذنب الأتان, فأمسكها، فجعل يحرِّكها فلا تتحرك, فلما أكثر ضَرْبها، تكلمت فقالت: أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار؟ ويلي منك ! ولو أنِّي أطقتُ الخروج لخرجتُ, ولكن هذا المَلَك يحبسني. وفي بلعم يقول الله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا .. الآية.
حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثني رجل سمع عكرمة, يقول: قالت امرأة منهم: أروني موسى, فأنا أفتنه ! قال: فتطيَّبت, فمرت على رجلٍ يشبه موسى, فواقعها, فأُتي ابنُ هارون فأُخبر, فأخذ سيفا, فطعن به في إحليله حتى أخرجه وأخرجه من قُبُلها ثم رفعهما حتى رآهما الناس, فعلم أنه ليس موسى, ففضل آلُ هارون في الْقُرْبان على آل موسى بالكتد والعضُد والفَخِذ قال: فهو الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها, يعني بلعم.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( ولو شئنا لرفعناه بها ) .
فقال بعضهم: معناه: لرفعناه بعلمه بها.
ذكر من قال ذلك.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ( ولو شئنا لرفعناه بها ) ، لرفعه الله تعالى بعلمه.
وقال آخرون: معناه لرفعنا عنه الحال التي صار إليها من الكفر بالله بآياتنا.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( ولو شئنا لرفعناه بها ) ، : لدفعناه عنه.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ولو شئنا لرفعناه بها ) ، : لدفعناه عنه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عمّ الخبر بقوله: ( ولو شئنا لرفعناه بها ) ، أنه لو شاء رفعه بآياته التي آتاه إياها. والرفع يَعمُّ معاني كثيرة, منها الرفع في المنـزلة عنده, ومنها الرفع في شرف الدنيا ومكارمها. ومنها الرفع في الذكر الجميلِ والثّناء الرفيع. وجائزٌ أن يكون الله عنى كلَّ ذلك: أنه لو شاء لرفعه, فأعطاه كل ذلك، بتوفيقه للعمل بآياته التي كان آتاها إياه. وإذ كان ذلك جائزًا, فالصواب من القول فيه أن لا يخصَّ منه شيء, إذ كان لا دلالة على خصوصه من خبرٍ ولا عقلٍ. وأما قوله: ( بها ) ، فإن ابن زيد قال في ذلك كالذي قلنا.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( ولو شئنا لرفعناه بها ) ، بتلك الآيات. وأما قوله: ( ولكنه أخلد إلى الأرض ) ، فإن أهل التأويل قالوا فيه نحو قولنا فيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن أبي الهيثم, عن سعيد بن جبير: ( ولكنه أخلد إلى الأرض ) ، يعني: ركن إلى الأرض.
.... قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن سالم, عن سعيد بن جبير: ( ولكنه أخلد إلى الأرض ) قال: نـزع إلى الأرض.
حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أخلد » : سكن.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا أبو تميلة, عن أبي حمزة, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة, عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل بلعام بن باعر أوتي كتابا, فأخلد إلى شهوات الأرض ولذتِها وأموالها, لم ينتفع بما جاء به الكتاب.
حدثنا موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ) ، أما ( أخلد إلى الأرض ) : فاتبع الدنيا, وركن إليها. قال أبو جعفر: وأصل « الإخلاد » في كلام العرب: الإبطاء والإقامة, يقال منه: « أخلد فلان بالمكان » ، إذا أقام به وأخلد نفسه إلى المكان « إذا أتاه من مكان آخر, ومنه قول زهير: »
لِمَــنْ الدِّيَــارُ غَشِــيتُهَا بِـالْفَدْفَدِ كَـالْوَحْيِ فِـي حَجَـرِ الْمَسِـيلِ المُخْلِدِ
يعني المقيم, ومنه قول مالك بن نويرة:
بِأَبْنَــاء حَــيٍّ مِـنْ قَبَـائِلِ مَـالِكٍ وَعْمْـرِو بـن يَرْبُـوعٍ أَقَامُوا فَأَخْلَدُوا
وكان بعض البصريين يقول معنى قوله: « أخلد » : لزم وتقاعسَ وأبطأ, و « المخلد » أيضًا: هو الذي يبطئ شيبُه من الرجال وهو من الدواب، الذي تبقى ثناياه حتى تخرج رَباعيتاه.
وأما قوله: ( واتبع هواه ) ، فإن ابن زيد قال في تأويله، ما:
حدثني به يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( واتبع هواه ) قال: كان هَواهُ مع القوم.
القول في تأويل قوله : فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فمثل هذا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها, مثلُ الكلب الذي يلهث, طردْته أو تركته.
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله جَعَل الله مثَله كمثل الكلب.
فقال بعضهم: مثَّله به في اللهث، لتركه العمل بكتابِ الله وآياته التي آتاها إياه، وإعراضِه عن مواعظ الله التي فيها إعراض من لم يؤته الله شيئًا من ذلك. فقال جل ثناؤه فيه: إذْ كان سواء أمرُه، وُعِظَ بآيات الله التي آتاها إياه, أو لم يوعظ، في أنه لا يتَّعظ بها, ولا يترك الكفر به, فمثله مثل الكلب الذي سواءٌ أمره في لهثه, طرد أو لم يطرد, إذ كان لا يتركُ اللهث بحال.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث ) قال: تطرده, هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعملُ به.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج قال: قال ابن جريج قال مجاهد: ( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث ) قال: تطرده بدابتك ورجلك « يلهث » ، قال: مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل بما فيه قال ابن جريج: الكلب منقطِع الفؤاد, لا فؤاد له, إن حملت عليه يلهث, أو تتركه يلهث. قال: مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له, إنما فؤاده منقطع.
حدثني ابن عبد الأعلى قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن بعضهم: ( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) ، فذلك هو الكافر, هو ضالٌّ إن وعظته وإن لم تعظه.
حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( فمثله كمثل الكلب ) إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها, وإن ترك لم يهتد لخير, كالكلب إن كان رابضًا لهث وإن طرد لَهَث.
حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: آتاه الله آياته فتركها, فجعل الله مثله كمثل الكلب: « إن تحمل عليه يلهث, أو تتركه يلهث » .
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ، الآية, هذا مثلٌ ضربه الله لمن عُرِض عليه الهدى, فأبى أن يقبله وتركه قال: وكان الحسن يقول: هو المنافق « ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث » قال: هذا مثل الكافر ميتُ الفؤاد.
وقال آخرون: إنما مثّله جل ثناؤه بالكلب، لأنه كان يلهث كما يلهثُ الكلب.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) ، وكان بلعم يلهث كما يلهث الكلب. وأما « تحمل عليه » : فتشدُّ عليه.
قال: أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويلُ من قال: إنما هو مثلٌ لتركه العمل بآيات الله التي آتاها إياه, وأنّ معناه: سواء وعظ أو لم يوعظ، في أنه لا يترك ما هو عليه من خلافه أمر ربّه, كما سواءٌ حمل على الكلب وطُرِد أو ترك فلم يطرد، في أنه لا يدَع اللهث في كلتا حالتيه.
وإنما قلنا: ذلك أولى القولين بالصواب، لدلالة قوله تعالى: ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ، فجعل ذلك مثلَ المكذِّبين بآياته. وقد علمنا أن اللُّهَاث ليس في خِلقة كل مكذّب كُتب عليه ترك الإنابة من تكذيبه بآيات الله, وأن ذلك إنما هو مثل ضربه الله لهم, فكان معلوما بذلك أنه للذي وصف الله صفته في هذه الآية, كما هو لسائر المكذبين بآيات الله، مثلٌ.
القول في تأويل قوله : ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( 176 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هذا المثل الذي ضربتُه لهذا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها, مثلُ القوم الذين كذبوا بحُججنا وأعلامنا وأدلَّتنا, فسلكوا في ذلك سبيل هذا المنسلِخ من آياتنا الذي آتيناها إياه، في تركه العمل بما آتيناه من ذلك.
وأما قوله: ( فاقصص القصص ) ، فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاقصص، يا محمد، هذا القصص, الذي اقتصصته عليك من نبأ الذي آتيناه آياتنا, وأخبارَ الأمم التي أخبرتك أخبارهم في هذه السورة، واقتصَصْت عليك نبأهم ونبأ أشباههم, وما حلّ بهم من عقوبتنا، ونـزل بهم حين كذبوا رسلَنا من نقمتنا على قومك من قريش، ومَنْ قِبَلَك من يهود بني إسرائيل, ليتفكروا في ذلك، فيعتبروا وينيبوا إلى طاعتنا, لئلا يحلّ بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من النّقم والمثلات, ويتدبَّره اليهود من بني إسرائيل، فيعلموا حقيقةَ أمرك وصحَّة نبوّتك, إذ كان نبأ « الذي آتيناه آياتنا » من خفيّ علومهم، ومكنون أخبارهم، لا يعلمه إلا أحبارُهم، ومن قرأ الكُتب ودرسها منهم. وفي علمك بذلك وأنت أميٌّ لا تكتب، ولا تقرأ، ولا تدرس الكتب، ولم تجالس أهل العلم الحُجَّة البينة لك عليهم بأنك لله رسول, وأنك لم تعلم ما علِمت من ذلك, وحالُك الحال التي أنت بها، إلا بوحي من السماء.
وبنحو ذلك كان أبو النضر يقول.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن محمد, عن سالم أبي النضر: ( فاقصص القصص لعلهم يتفكّرون ) ، يعني: بني إسرائيل, إذ قد جئتهم بخبر ما كان فيهم ممّا يخفُون عليك « لعلهم يتفكرون » , فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عمّا مضى فيهم إلا نبيٌّ يأتيه خبرُ السماء.
القول في تأويل قوله : سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ( 177 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ساءَ مثلا القوم الذين كذبوا بحجج الله وأدلته فجحدوها, وأنفسَهم كانوا ينقصُون حظوظَها, ويبخسونها منافعها، بتكذيبهم بها لا غيرَها.
وقيل: « ساء مثلا » من السوء، بمعنى: بئس مثلا [ مَثَل القوم ] وأقيم « القوم » مقام « المثل » , وحذف « المثل » , إذ كان الكلام مفهومًا معناه, كما قال جل ثناؤه: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ، [ سورة البقرة: 177 ] فإن معناه: ولكن البرَّ، برُّ من آمن بالله وقد بينا نظائر ذلك في مواضع غير هذا، بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله : مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 178 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الهداية والإضلال بيد الله، و « المهتدي » وهو السالك سبيل الحق، الراكبُ قصدَ المحجّة في دينه، مَن هداه الله لذلك, فوفَّقه لإصابته. والضالُّ من خذله الله فلم يوفقه لطاعته, ومن فعل الله ذلك به فهو « الخاسر » : يعني الهالك.
وقد بيّنا معنى « الخسارة » و « الهداية » ، و « الضلالة » في غير موضع من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا لجهنّم كثيرًا من الجن والإنس.
يقال منه: ذرأ الله خلقه يذرؤهم ذَرْءًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن الحسين الأزدي قال: حدثنا يحيى بن يمان, عن مبارك بن فضالة, عن الحسن, في قوله: ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس ) قال: مما خلقنا.
.... حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن أبي زائدة, عن مبارك, عن الحسن, في قوله: ( ولقد ذرأنا لجهنم ) قال: خلقنا.
.... قال: حدثنا زكريا, عن عتاب بن بشير, عن علي بن بذيمة, عن سعيد بن جبير قال: أولاد الزنا ممّا ذرأ الله لجهنم.
قال: حدثنا زكريا بن عدي، وعثمان الأحول, عن مروان بن معاوية, عن الحسن بن عمرو, عن معاوية بن إسحاق, عن جليس له بالطائف, عن عبد الله بن عمرو, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله لما ذرأ لجهنم ما ذرأ, كان ولدُ الزنا ممن ذرأ لجهنم » .
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولقد ذرأنا لجهنم ) ، يقول: خلقنا.
حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( ولقد ذرأنا لجهنم ) قال: لقد خلقنا لجهنم كثيرًا من الجن و الإنس.
حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( ولقد ذرأنا لجهنم ) ، خلقنا.
قال أبو جعفر: وقال جل ثناؤه: ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس ) ، لنفاذ علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربِّهم.
وأما قوله: ( لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ) ، فإن معناه: لهؤلاء الذين ذرأهم الله لجهنم من خلقه قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله, ولا يتدبرون بها أدلته على وحدانيته, ولا يعتبرون بها حُجَجه لرسله, فيعلموا توحيد ربِّهم, ويعرفوا حقيقة نبوّة أنبيائهم. فوصفهم ربُّنا جل ثناؤه بأنهم: « لا يفقهون بها » ، لإعراضهم عن الحق وتركهم تدبُّر صحة [ نبوّة ] الرسل، وبُطُول الكفر. وكذلك قوله: ( ولهم أعين لا يبصرون بها ) ، معناه: ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته, فيتأملوها ويتفكروا فيها, فيعلموا بها صحة ما تدعوهم إليه رسلهم, وفسادِ ما هم عليه مقيمون، من الشرك بالله، وتكذيب رسله; فوصفهم الله بتركهم إعمالها في الحقّ، بأنهم لا يبصرون بها.
وكذلك قوله: ( ولهم آذان لا يسمعون بها ) ، آيات كتاب الله، فيعتبروها ويتفكروا فيها, ولكنهم يعرضون عنها, ويقولون: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ، [ سورة فصلت: 26 ] . وذلك نظير وصف الله إياهم في موضع آخر بقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، [ سورة البقرة: 171 ] .والعرب تقول ذلك للتارك استعمالَ بعض جوارحه فيما يصلح له, ومنه قول مسكين الدارمي:
أَعْمَــى إِذَا مَــا جَـارَتِي خَرَجَـتْ حَــتَّى يُــوَارِيَ جَــارَتِي السِّـتْرُ
وَأَصَــمُّ عَمَّـا كَـــانَ بَيْنَهُمَــا سَــمْعِي وَمَـا بِالسَّـمْعِ مِـنْ وَقْــرِ
فوصف نفسه لتركه النظر والاستماع بالعمى والصمم. ومنه قول الآخر: وَعَــوْرَاءُ اللِّئَــامِ صَمَمْـتُ عَنْهَـا وَإِنِّــي لَــوْ أَشَــاءُ بِهَـا سَـمِيعُ
وَبَـادِرَةٍ وَزَعْـــتُ النَّفْـسَ عَنْهَـا وَقَـدْ تَثِقَـتْ مِـنَ الْغَضَـبِ الضُّلُـوعُ
وذلك كثير في كلام العرب وأشعارها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) قال: لا يفقهون بها شيئًا من أمر الآخرة ( ولهم أعين لا يبصرون بها ) ، الهدى ( ولهم آذان لا يسمعون بها ) الحقَّ، ثم جعلهم كالأنعام سواءً, ثم جعلهم شرًّا من الأنعام, فقال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، ثم أخبر أنهم هم الغافلون.
القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( 179 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( أولئك كالأنعام ) ، هؤلاء الذين ذرأهم لجهنم، هم كالأنعام, وهي البهائم التي لا تفقه ما يقال لها، ولا تفهم ما أبصرته لما يصلح وما لا يَصْلُح، ولا تعقل بقلوبها الخيرَ من الشر، فتميز بينهما. فشبههم الله بها, إذ كانوا لا يتذكَّرون ما يرون بأبصارهم من حُججه, ولا يتفكرون فيما يسمعون من آي كتابه. ثم قال: ( بل هم أضل ) ، يقول: هؤلاء الكفرة الذين ذَرَأهم لجهنم، أشدُّ ذهابًا عن الحق، وألزم لطريق الباطل من البهائم، لأن البهائم لا اختيار لها ولا تمييز، فتختار وتميز, وإنما هي مسَخَّرة، ومع ذلك تهرب من المضارِّ، وتطلب لأنفسها من الغذاء الأصلح. والذين وصفَ الله صفتهم في هذه الآية, مع ما أعطوا من الأفهام والعقول المميِّزة بين المصالح والمضارّ, تترك ما فيه صلاحُ دنياها وآخرتها، وتطلب ما فيه مضارّها, فالبهائم منها أسدُّ، وهي منها أضل، كما وصفها به ربُّنا جل ثناؤه.
وقوله: ( أولئك هم الغافلون ) ، يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفتُ صفتهم, القومُ الذين غفلوا يعني: سهوًا عن آياتي وحُججي, وتركوا تدبُّرها والاعتبارَ بها والاستدلالَ على ما دلّت عليه من توحيد ربّها, لا البهائم التي قد عرّفها ربُّها ما سخَّرها له.
القول في تأويل قوله : وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 180 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره ( ولله الأسماء الحسنى ) ، , وهي كما قال ابن عباس: -
حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي, قال حدثني عمي ، قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) ، ومن أسمائه: « العزيز الجبار » , وكل أسمائه حسن.
حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية, عن هشام بن حسّان, عن ابن سيرين, عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن لله تسعة وتسعين اسمًا, مائة إلا واحدًا, من أحصاها كُلَّها دخل الجنة » .
وأما قوله: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) ، فإنه يعني به المشركين.
وكان إلحادهم في أسماء الله، أنهم عدَلوا بها عمّا هي عليه, فسموا بها آلهتهم وأوثانهم, وزادوا فيها ونقصوا منها, فسموا بعضها « اللات » اشتقاقًا منهم لها من اسم الله الذي هو « الله » , وسموا بعضها « العُزَّى » اشتقاقًا لها من اسم الله الذي هو « العزيز » .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: ثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) ، قال: إلحاد الملحدين: أن دعوا « اللات » في أسماء الله.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) قال: اشتقوا « العزى » من « العزيز » , واشتقوا « اللات » من « الله » .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( يلحدون ) .
فقال بعضهم: يكذّبون.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية, عن ابن عباس, قوله: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) قال: الإلحاد: التكذيب.
وقال آخرون: معنى ذلك: يشركون.
ذكر من قال ذلك.
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا أبو ثور, عن معمر, عن قتادة: ( يلحدون ) قال: يشركون.
وأصل « الإلحاد » في كلام العرب: العدول عن القصد, والجورُ عنه, والإعراض. ثم يستعمل في كل معوَجّ غير مستقيم, ولذلك قيل للحْد القبر: « لحد » , لأنه في ناحية منه، وليس في وسطه. يقال منه: « ألحد فلانٌ يُلْحِد إلحادًا » , و « لَحد يلْحَد لَحْدًا ولُحُودًا » . وقد ذكر عن الكسائي أنه كان يفرّق بين « الإلحاد » و « اللحٍْد » , فيقول في « الإلحاد » : إنه العدول عن القصد, وفي « اللحد » إنه الركون إلى الشيء. وكان يقرأ جميع ما في القرآن: ( يُلْحِدُونَ ) بضم الياء وكسر الحاء, إلا التي في النحل, فإنه كان يقرؤها: « يَلْحَدُون » بفتح الياء والحاء, ويزعم أنه بمعنى الركون.
وأما سائر أهل المعرفة بكلام العرب، فيرون أن معناهما واحدٌ, وأنهما لغتان جاءتا في حرفٍ واحدٍ بمعنى واحد.
واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين: ( يُلْحِدُون ) ، بضم الياء وكسر الحاء من « ألحد يُلْحِد » في جميع القرآن.
وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة: « يَلْحَدُونَ » بفتح الياء والحاء من « لَحَد يَلْحَدُ » .
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنهما لغتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك. غير أنِّي أختار القراءة بضمِّ الياء على لغة من قال: « ألحد » , لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما.
وكان ابن زيد يقول في قوله: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) ، إنه منسوخٌ.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وذَرُوا الذين يلحدون في أسمائه ) قال: هؤلاء أهل الكفر, وقد نُسِخ, نَسَخه القتال.
ولا معنى لما قال ابن زيد في ذلك من أنه منسوخ, لأن قوله: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) ، ليس بأمر من الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم بترك المشركين أن يقولوا ذلك، حتى يأذن له في قِتالهم, وإنما هو تهديدٌ من الله للملحدين في أسمائه، ووعيدٌ منه لهم, كما قال في موضع آخر: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ، [ سورة الحجر: 3 ] الآية, وكقوله: لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ، [ سورة العنكبوت: 66 ] وهو كلام خرج مخرج الأمر بمعنى الوعيد والتهديد, ومعناه: أنْ مَهِّل الذين يلحدون، يا محمد، في أسماء الله إلى أجل هم بالغوه, فسوف يجزون، إذا جاءهم أجل الله الذي أجلهم إليه، جزاءَ أعمالهم التي كانوا يعملونها قبل ذلك من الكفر بالله، والإلحاد في أسمائه، وتكذيب رسوله.
القول في تأويل قوله : وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( 181 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن الخلق الذين خلقنا « أمة » , يعني جماعة « يهدون » , يقول: يهتدون بالحق ( وبه يعدلون ) ، يقول: وبالحق يقضُون ويُنصفون الناس, كما قال ابن جريج: -
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: ( أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) قال ابن جريج: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: هذه أمتي! قال: بالحق يأخُذون ويعطون ويَقْضُون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ...
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ، بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأها: هذه لكم, وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلَها: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ، [ سورة الأعراف: 159 ] .
القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ( 182 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين كذبوا بأدلتنا وأعلامِنا, فجحدوها ولم يتذكروا بها, سنمهله بغِرَّته ونـزين له سوء عمله, حتى يحسب أنه فيما هو عليه من تكذيبه بآيات الله إلى نفسه محسن, وحتى يبلغ الغايةَ التي كُتِبَتْ له من المَهَل, ثم يأخذه بأعماله السيئة, فيجازيه بها من العقوبة ما قد أعدَّ له. وذلك استدراج الله إياه.
وأصل « الاستدراج » اغترارُ المستدرَج بلطف من [ استدرجه ] ، حيث يرى المستدرَج أن المستدرِج إليه محسنٌ، حتى يورِّطه مكروهًا.
وقد بينا وجه فعل الله ذلك بأهل الكفر به فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله : وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( 183 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأُؤخر هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا. [ وأصل « الإملاء » من قولهم: « مضى عليه مليٌّ، ومِلاوَة ومُلاوَة ] ، ومَلاوة » بالكسر والضم والفتح « من الدهر » , وهي الحين, ومنه قيل: انتظرتُك مليًّا.
ليبلغوا بمعصيتهم ربهم، المقدارَ الذي قد كتبه لهم من العقاب والعذاب ثم يقبضهم إليه.
( إن كيدي ) .
والكيد: هو المكر.
وقوله: ( متين ) ، يعني: قويٌّ شديدٌ, ومنه قول الشاعر: [ عدلن عـدول النـاس وأقبـح ] يَبْتَـلِي أَفَــانِينَ مِـنْ أُلْهُـوبِ شَـدٍّ مُمَـاتِنِ
يعني: سيرًا شديدًا باقيًا لا ينقطع.
القول في تأويل قوله : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 184 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو لم يتفكر هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا، فيتدبروا بعقولهم, ويعلموا أن رسولَنا الذي أرسلناه إليهم, لا جنَّة به ولا خَبَل, وأن الذي دعاهم إليه هو [ الرأي ] الصحيح، والدين القويم، والحق المبين؟ وإنما نـزلت هذه الآية فيما قيل, كما: -
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان على الصَّفا, فدعا قريشًا, فجعل يفخِّذُهم فخذًا فخذًا: « يا بني فلان، يا بني فلان! » فحذّرهم بأس الله, ووَقَائع الله, فقال قائلهم: « إن صاحبكم هذا لمجنون! باتَ يصوّت إلى الصباح أو: حتى أصبح! » فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( أوَ لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين ) .
ويعني بقوله: ( إن هو إلا نذير مبين ) ، : ما هو إلا نذيرٌ ينذركم عقاب الله على كفركم به، إن لم تنيبوا إلى الإيمان به .
ويعني بقوله: ( مبين ) ، قد أبان لكم، أيها الناس، إنذارُه ما أنذركم به من بأس الله على كفركم به.
القول في تأويل قوله : أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( 185 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو لم ينظر هؤلاء المكذبون بآيات الله، في ملك الله وسلطانه في السموات وفي الأرض، وفيما خلق جل ثناؤه من شيء فيهما, فيتدبروا ذلك، ويعتبروا به، ويعلموا أن ذلك لمنْ لا نظير له ولا شبيه, ومِنْ فِعْلِ من لا ينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلا له, فيؤمنوا به، ويصدقوا رسوله وينيبوا إلى طاعته، ويخلعوا الأنداد والأوثان، ويحذرُوا أن تكون آجالهم قد اقتربت، فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه.
وقوله: ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) ، يقول: فبأيّ تخويفٍ وتحذير ترهيب بعد تحذير محمد صلى الله عليه وسلم وترهيبِه الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه، يصدِّقون, إن لم يصدقوا بهذا الكتاب الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى؟
القول في تأويل قوله : مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 186 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن إعراض هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا, التاركي النظر في حجج الله والفكر فيها, لإضلال الله إياهم, ولو هداهم الله لاعتبرُوا وتدبَّروا فأبصروا رُشْدهم; ولكن الله أضلَّهم، فلا يبصرون رشدًا ولا يهتدون سبيلا ومن أضلَّه عن الرشاد فلا هادي له إليه، ولكن الله يدعهم في تَمَاديهم في كفرهم، وتمرُّدهم في شركهم، يترددون, ليستوجبوا الغايةَ التي كتبها الله لهم من عُقوبته وأليم نَكاله.
القول في تأويل قوله : يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: ( يسألونك عن الساعة ) . فقال بعضهم: عني بذلك قومُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش, وكانوا سألوا عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنّ بيننا وبينك قرابة, فأسِرَّ إلينا متى الساعة! فقال الله: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا .
وقال آخرون: بل عُني به قوم من اليهود.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال جَبَل بن أبي قشير، وشمول بن زيد، لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد، أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيًّا كما تقول, فإنا نعلم متى هي؟ فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي ) ، إلى قوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ .
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن طارق بن شهاب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكُر من شأن الساعة حتى نـزلت: ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) .
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قومًا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة, فأنـزل الله هذه الآية وجائز أن يكون كانوا من قريش وجائز أن يكونوا كانوا من اليهود; ولا خبر بذلك عندنا يجوِّز قَطْعَ القول على أيّ ذلك كان.
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذاً: يسألك القومُ الذين يسألونك عن الساعة ( أيان مرساها ) ؟ يقول: متى قيامها؟
ومعنى « أيان » : متى، في كلام العرب, ومنه قول الراجز: أَيَّــانَ تَقْضِــي حَــاجَتِي أَيَّانَــا أَمَـــا تَــرَى لِنُجْحِهَــا إِبَّانَــا
ومعنى قوله: ( مرساها ) ، قيامها, من قول القائل: « أرساها الله فهي مُرْسَاة » , و « أرساها القوم » ، إذا حبسوها, و « رسَت هي، ترسُو رُسُوًّا » .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) ، : يقول متى قيامها.
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) ، : متى قيامها؟
وقال آخرون: معنى ذلك: مُنتهاها وذلك قريب المعنى من معنى مَن قال: معناه: « قيامها » , لأن انتهاءها، بلوغها وقتها. وقد بينا أن أصل ذلك: الحبس والوقوف.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) ، يعني: منتهاها.
وأما قوله: ( قل إنما علمها عند ربي لا يجلِّيها لوقتها إلا هو ) ، فإنه أمرٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يجيب سائليه عن الساعة بأنه لا يعلم وقت قيامها إلا الله الذي يعلم الغيب, وأنه لا يظهرها لوقتها ولا يعلمها غيرُه جل ذكره، كما: -
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ) ، يقول: علمها عند الله, هو يجليها لوقتها, لا يعلم ذلك إلا الله.
حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( لا يجليها ) ، : يأتي بها.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال مجاهد: ( لا يجليها ) ، قال: لا يأتي بها إلا هو.
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( لا يجليها لوقتها إلا هو ) ، يقول: لا يرسلها لوقتها إلا هو.
القول في تأويل قوله : ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: ثقلت الساعة على أهل السموات والأرض أن يعرفوا وقتها ومجيئها، لخفائها عنهم، واستئثار الله بعلمها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي, قوله: ( ثقلت في السموات والأرض ) ، يقول: خفيت في السموات والأرض, فلم يعلم قيامها متى تقوم مَلَك مقرَّب، ولا نبيٌّ مرسل.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعًا, عن معمر, عن بعض أهل التأويل: ( ثقلت في السموات والأرض ) ، قال: ثقل علمها على أهل السموات وأهل الأرض، إنهم لا يعلمون.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنها كَبُرت عند مجيئها على أهل السموات والأرض.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعًا, عن معمر قال: قال الحسن, في قوله: ( ثقلت في السموات والأرض ) ، يعني: إذا جاءت ثقلت على أهل السماء وأهل الأرض. يقول: كبرت عليهم.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: ( ثقلت في السموات والأرض ) قال: إذا جاءت انشقت السماء, وانتثرت النجوم, وكوِّرت الشمس, وسُيِّرت الجبال, وكان ما قال الله; فذلك ثقلها.
حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال بعض الناس في « ثقلت » : عظمت.
وقال آخرون: معنى قوله: ( في السموات والأرض ) ، : على السموات والأرض.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ثقلت في السموات والأرض ) ، أي: على السموات والأرض.
قال أبو جعفر: وأولى ذلك عندي بالصواب, قول من قال: معنى ذلك: ثقلت الساعة في السموات والأرض على أهلها، أن يعرفوا وقتها وقيامها; لأن الله أخفى ذلك عن خلقه, فلم يطلع عليه منهم أحدًا. وذلك أن الله أخبرَ بذلك بعد قوله: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ، وأخبر بعده أنها لا تأتي إلا بغتة, فالذي هو أولى: أن يكون ما بين ذلك أيضًا خبرًا عن خفاء علمها عن الخلق, إذ كان ما قبله وما بعده كذلك.
وأما قوله: ( لا تأتيكم إلا بغتة ) ، فإنه يقول: لا تجيء الساعة إلا فجأة, لا تشعرون بمجيئها، كما: -
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( لا تأتيكم إلا بغتة ) ، يقول: يبغتهم قيامها, تأتيهم على غفلة.
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( لا تأتيكم إلا بغتة ) ، قضى الله أنها لا تأتيكم إلا بغتة. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إن الساعة تهيج بالناس والرجل يُصْلِح حوضه، والرجلُ يسقي ماشيته، والرجل يقيم سلعته في السوق، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه.
القول في تأويل قوله : يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 187 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يسألك هؤلاء القوم عن الساعة, كأنك حَفِيٌّ عنها.
[ واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( حفي عنها ) ] .
فقال بعضهم: يسألونك عنها كأنك حفي بهم. وقالوا: معنى قوله: « عنها » التقديم، وإن كان مؤخرًا.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( يسألونك كأنك حفيّ عنها ) ، يقول: كأن بينك وبينهم مودة, كأنك صديق لهم. قال ابن عباس: لما سأل الناسُ محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الساعة، سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدًا حفي بهم, فأوحى الله إليه: إنما علمها عنده, استأثر بعلمها, فلم يطلع عليها ملكًا ولا رسولا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال: قال قتادة: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبينك قرابة, فأسِرَّ إلينا متى الساعة ! فقال الله: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) .
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) ، : أي حفي بهم. قال: قالت قريش: يا محمد، أسرّ إلينا علم الساعة، لما بيننا وبينك من القرابة لقرابتنا منك.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، وهانئ بن سعيد, عن حجاج, عن خصيف, عن مجاهد وعكرمة: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) قال: حفي بهم حين يسألونك.
حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) قال: قريب منهم, وتحفَّى عليهم قال: وقال أبو مالك: كأنك حفي بهم. قال: قريب منهم, وتحفَّى عليهم قال: وقال أبو مالك: كأنك حفي بهم، فتحدثهم.
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) ، كأنك صديق لهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كأنك قد استحفيت المسألة عنها فعلمتها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( كأنك حفي عنها ) ، استحفيت عنها السؤال حتى علمتَها.
حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد, عن مجاهد في قوله: ( كأنك حفي عنها ) قال: استحفيت عنها السؤال حتى علمت وقتها.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) قال: كأنك عالم بها.
... قال: حدثنا حامد بن نوح, عن أبي روق, عن الضحاك: ( يسألونك كأنك حفيّ عنها ) قال: كأنك تعلمها.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: ثني عبيد بن سليمان, عن الضحاك, قوله: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) ، يقول: يسألونك عن الساعة, كأنك عندك علمًا منها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن بعضهم: ( كأنك حفي عنها ) ، : كأنك عالم بها.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( كأنك حفي عنها ) قال: كأنك عالم بها. وقال: أخفى علمها على خلقه. وقرأ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، [ سورة لقمان: 34 ] حتى ختم السورة.
حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: ثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) ، يقول: كأنك يعجبك سؤالهم إياك ( قل إنما علمها عند الله ) .
وقوله: ( كأنك حفي عنها ) ، يقول: لطيف بها.
فوجَّه هؤلاء تأويل قوله: ( كأنك حفي عنها ) ، إلى حفيّ بها, وقالوا: تقول العرب: « تحفّيت له في المسألة » , و « تحفيت عنه » . قالوا: ولذلك قيل: « أتينا فلانًا نسأل به » , بمعنى نسأل عنه.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: كأنك حفي بالمسألة عنها فتعلمها.
فإن قال قائل: وكيف قيل: ( حفي عنها ) ، ولم يُقَل: « حفي بها » , إن كان ذلك تأويل الكلام؟
قيل: إن ذلك قيل كذلك, لأن الحفاوة إنما تكون في المسألة, وهي البشاشة للمسئول عند المسألة, والإكثار من السؤال عنه, والسؤال يوصل ب « عن » مرة، وب « الباء » مرة. فيقال: « سألت عنه » , و « سألت به » . فلما وضع قوله: « حفي » موضع السؤال, وصل بأغلب الحرفين اللذين يوصل بهما « السؤال » , وهو « عن » , كما قال الشاعر: سُــؤَالَ حَــفِيٍّ عَـنْ أَخِيـهِ كَأَنَّـهُ بِذِكْرَتِـــهِ وَسْــنَانُ أَوْ مُتَوَاسِــنُ
وأما قوله: ( قل إنما علمها عند الله ) ، فإن معناه: قل، يا محمد، لسائليك عن وقت الساعة وحين مجيئها: لا علم لي بذلك, ولا علم به إلا [ عند ] الله الذي يعلم غيب السموات والأرض ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ، يقول: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك لا يعلمه إلا الله, بل يحسبون أن علم ذلك يوجد عند بعض خلقه.
القول في تأويل قوله : قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 188 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لسائليك عن الساعة: أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا ) ، يقول: لا أقدر على اجتلاب نفع إلى نفسي, ولا دفع ضر يحلّ بها عنها إلا ما شاء الله أن أملكه من ذلك، بأن يقوّيني عليه ويعينني ( ولو كنت أعلم الغيب ) ، يقول: لو كنت أعلم ما هو كائن مما لم يكن بعد ( لاستكثرت من الخير ) ، يقول: لأعددت الكثير من الخير.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى « الخير » الذي عناه الله بقوله: ( لاستكثرت من الخير ) . فقال بعضهم: معنى ذلك: لاستكثرت من العمل الصالح.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قوله: ( قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا ) قال: الهدى والضلالة ( لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ) قال: « أعلم الغيب » ، متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح.
حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبى نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) ، : قال: لاجتنبت ما يكون من الشرّ واتَّقيته.
وقال آخرون: معنى ذلك: « ولو كنت أعلم الغيب » لأعددت للسَّنة المجدبة من المخصبة, ولعرفت الغلاء من الرُّخْص, واستعددت له في الرُّخْص.
وقوله: ( وما مسني السوء ) ، يقول: وما مسني الضر ( إن أنا إلا نذير وبشير ) ، يقول: ما أنا إلا رسولٌ لله أرسلني إليكم, أنذر عقابه مَن عصاه منكم وخالف أمره, وأبشّرَ بثوابه وكرامته من آمن به وأطاعه منكم.
وقوله: ( لقوم يؤمنون ) ، يقول: يصدقون بأني لله رسول, ويقرون بحقية ما جئتهم به من عنده.
القول في تأويل قوله : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 189 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) ، يعني بالنفس الواحدة: آدم، كما: -
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: ( خلقكم من نفس واحدة ) قال: آدم عليه السلام.
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) ، من آدم.
ويعني بقوله: ( وجعل منها زوجها ) ، : وجعل من النفس الواحدة, وهو آدم, زوجها حواء، كما: -
حدثني بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة. ( وحمل منها زوجها ) ، : حواء, فجعلت من ضلع من أضلاعه، ليسكن إليها.
ويعني بقوله: ( ليسكن إليها ) ، : ليأوي إليها لقضاء حاجته ولذته.
ويعني بقوله: ( فلما تغشاها ) ، فلما تدثَّرها لقضاء حاجته منها، فقضى حاجته منها ( حملت حملا خفيفًا ) ، وفي الكلام محذوف، ترك ذكرُه استغناءً بما ظهر عما حذف, وذلك قوله: ( فلما تغشاها حملت ) ، وإنما الكلام: فلما تغشاها فقضى حاجته منها حملت.
وقوله: ( حملت حملا خفيفًا ) ، يعني ب « خفة الحمل » : الماء الذي حملته حواء في رَحِمها من آدم، أنه كان حملا خفيفًا, وكذلك هو حملُ المرأة ماءَ الرجل خفيفٌ عليها.
وأما قوله: ( فمرت به ) ، فإنه يعني: استمرَّت بالماء: قامت به وقعدت, وأتمت الحمل، كما: -
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو أسامة, عن أبي عمير, عن أيوب قال: سألت الحسن عن قوله: ( حملت حملا خفيفًا فمرت به ) قال: لو كنت امرءًا عربيًّا لعرفت ما هي؟ إنما هي: فاستمرَّت به.
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( فلما تغشاها حملت حملا خفيفًا فمرت به ) ، استبان حملها.
حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فمرت به ) قال: استمرّ حملها.
حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي, قوله: ( حملت حملا خفيفًا ) قال: هي النطفة وقوله: ( فمرّت به ) ، يقول: استمرّت به.
وقال آخرون: معنى ذلك: فشكَّت فيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: ( فمرت به ) قال: فشكت، أحملت أم لا؟
ويعني بقوله: ( فلما أثقلت ) ، فلما صار ما في بطنها من الحمل الذي كان خفيفًا، ثقيلا ودنت ولادتها.
يقال منه: « أثقلت فلانة » إذا صارت ذات ثقل بحملها، كما يقال: « أَتْمَرَ فلان » : إذا صار ذا تَمْر. كما: -
حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( فلما أثقلت ) ، : كبر الولد في بطنها.
قال أبو جعفر: ( دعوا الله ربهما ) ، يقول: نادى آدم وحواء ربهما وقالا يا ربنا، « لئن آتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين » .
واختلف أهل التأويل في معنى « الصلاح » الذي أقسم آدم وحواء عليهما السلام أنه إن آتاهما صالحًا في حمل حواء: لنكونن من الشاكرين.
فقال بعضهم: ذلك هو أن يكون الحمل غلامًا.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال: قال الحسن, في قوله: ( لئن آتيتنا صالحًا ) قال: غلامًا.
وقال آخرون: بل هو أن يكون المولود بشرًا سويًّا مثلهما, ولا يكون بهيمة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن زيد بن جبير الجُشَمي, عن أبي البختري, في قوله: ( لئن آتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين ) قال: أشفقا أن يكون شيئًا دون الإنسان.
... قال: حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن زيد بن جبير, عن أبي البختري قال: أشفقا أن لا يكون إنسانًا.
... قال: حدثنا محمد بن عبيد, عن إسماعيل, عن أبي صالح قال: لما حملت امرأة آدم فأثقلت, كانا يشفقان أن يكون بهيمة, فدعوا ربهما: ( لئن آتيتنا صالحًا ) ، الآية.
... قال: حدثنا جابر بن نوح, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: أشفقا أن يكون بهيمة.
حدثني القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال سعيد بن جبير: لما هبط آدم وحواء, ألقيت الشهوة في نفسه فأصابها, فليس إلا أن أصابها حملت, فليس إلا أن حملت تحرك في بطنها ولدها، قالت: ما هذا؟ فجاءها إبليس, فقال [ لها: إنك حملت فتلدين! قالت: ما ألد؟ قال ] : أترين في الأرض إلا ناقةً أو بقرة أو ضائنة أو ماعزة، أو بعض ذلك! [ ويخرج من أنفك، أو من أذنك، أو من عينك ] . قالت: والله ما مني شيء إلا وهو يضيق عن ذلك! قال: فأطيعيني وسميه « عبد الحارث » [ وكان اسمه في الملائكة الحارث ] تلدي شبهكما مثلكما ! قال: فذكرت ذلك لآدم عليه السلام , فقال: هو صاحبنا الذي قد علمت! فمات, ثم حملت بآخر, فجاءها فقال: أطيعيني وسميه عبد الحارث - وكان اسمه في الملائكة الحارث وإلا ولدت ناقة أو بقرة أو ضائنة أو ماعزة, أو قتلته, فإني أنا قتلت الأول! قال: فذكرت ذلك لآدم, فكأنه لم يكرهه, فسمته « عبد الحارث » , فذلك قوله: ( لئن آتيتنا صالحًا ) ، يقول: شبهنا مثلنا فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا قال: شبههما مثلهما.
حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( فلما أثقلت ) ، كبر الولد في بطنها، جاءها إبليس, فخوَّفها وقال لها: ما يدريك ما في بطنك؟ لعله كلب، أو خنـزير، أو حمار! وما يدريك من أين يخرج؟ أمن دبرك فيقتلك, أو من قُبُلك, أو ينشق بطنك فيقتلك؟ فذلك حين ( دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحًا ) ، يقول: مثلنا ( لنكونن من الشاكرين ) .
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن آدم وحواء أنهما دعَوا الله ربهما بحمل حواء, وأقسما لئن أعطاهما ما في بطن حواء، صالحًا ليكونان لله من الشاكرين.
و « الصلاح » قد يشمل معاني كثيرة: منها « الصلاح » في استواء الخلق، ومنها « الصلاح » في الدين, و « الصلاح » في العقل والتدبير.
وإذ كان ذلك كذلك, ولا خبر عن الرسول يوجب الحجة بأن ذلك على بعض معاني « الصلاح » دون بعض, ولا فيه من العقل دليل، وجب أن يُعَمَّ كما عمَّه الله, فيقال: إنهما قالا ( لئن آتيتنا صالحًا ) بجميع معاني « الصلاح » .
وأما معنى قوله: ( لنكونن من الشاكرين ) ، فإنه: لنكونن ممن يشكرك على ما وهبت له من الولد صالحًا.
القول في تأويل قوله : فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 190 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما رزقهما الله ولدًا صالحًا كما سألا جعلا له شركاء فيما آتاهما ورزقهما.
ثم اختلف أهل التأويل في « الشركاء » التي جعلاها فيما أوتيا من المولود.
فقال بعضهم: جعلا له شركاء في الاسم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا عمر بن إبراهيم, عن قتادة, عن الحسن, عن سمرة بن جندب, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كانت حوّاء لا يعيش لها ولد, فنذرت لئن عاش لها ولد لتسمينه « عبد الحارث » , فعاش لها ولد, فسمته « عبد الحارث » , وإنما كان ذلك عن وحي الشيطان.
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا معتمر, عن أبيه قال: حدثنا أبو العلاء, عن سمرة بن جندب: أنه حدث أن آدم عليه السلام سمى ابنه « عبد الحارث » .
.... قال: حدثنا المعتمر, عن أبيه قال: حدثنا ابن علية, عن سليمان التيمي, عن أبي العلاء بن الشخّير, عن سمرة بن جندب قال: سمى آدمُ ابنه: « عبد الحارث » .
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: كانت حوّاء تلد لآدم, فتعبِّدهم لله, وتسميه « عبيد الله » و « عبد الله » ونحو ذلك, فيصيبهم الموت, فأتاها إبليسُ وآدمَ, فقال: إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه لعاش ! فولدت له رجلا فسماه « عبد الحارث » , ففيه أنـزل الله تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، إلى قوله: ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) ، إلى آخر الآية.
حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله في آدم: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، إلى قوله: فَمَرَّتْ بِهِ ، فشكّت: أحبلت أم لا فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا الآية, فأتاهما الشيطان فقال: هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون؟ أبهيمة يكون أم لا؟ وزيَّن لهما الباطل، إنه غويٌّ مبين. وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا, فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي، لم يخرج سويًّا، ومات كما مات الأولان! فسميا ولدهما « عبد الحارث » ; فذلك قوله: ( فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما ) ، الآية.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: لما ولد له أول ولد, أتاه إبليس فقال: إني سأنصح لك في شأن ولدك هذا، تسميه « عبد الحارث » ! فقال آدم: أعوذ بالله من طاعتك ! قال ابن عباس: وكان اسمه في السماء « الحارث » قال آدم: أعوذ بالله من طاعتك، إني أطعتك في أكل الشجرة, فأخرجتني من الجنة, فلن أطيعك. فمات ولده, ثم ولد له بعد ذلك ولد آخر, فقال: أطعني وإلا مات كما مات الأول ! فعصاه, فمات, فقال: لا أزال أقتلهم حتى تسميه « عبد الحارث » . فلم يزل به حتى سماه « عبد الحارث » , فذلك قوله: ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) ، أشركه في طاعته في غير عبادة, ولم يشرك بالله, ولكن أطاعه.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سَلَمَة, عن هارون قال: أخبرنا الزبير بن الخِرِّيت, عن عكرمة قال: ما أشرك آدم ولا حواء, وكان لا يعيش لهما ولد, فأتاهما الشيطان فقال: إن سرَّكما أن يعيش لكما ولد فسمياه « عبد الحارث » ! فهو قوله: ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا قال: كان آدم عليه السلام لا يولد له ولد إلا مات, فجاءه الشيطان, فقال: إن سرَّك أن يعيش ولدك هذا, فسمِّه « عبد الحارث » ! ففعل قال: فأشركا في الاسم، ولم يشركا في العبادة.
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ) ، ذكر لنا أنه كان لا يعيش لهما ولد, فأتاهما الشيطان, فقال لهما: سمياه « عبد الحارث » ! وكان من وحي الشيطان وأمره, وكان شركًا في طاعةٍ, ولم يكن شركًا في عبادةٍ.
حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ) قال: كان لا يعيش لآدم وامرأته ولد. فقال لهما الشيطان: إذا ولد لكما ولد, فسمياه « عبد الحارث » ! ففعلا وأطاعاه, فذلك قول الله: ( فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء ) ، الآية.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا ابن فضيل, عن سالم بن أبي حفصة, عن سعيد بن جبير, قوله: أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا ، .. إلى قوله تعالى: ( فتعالى الله عما يشركون ) قال: لما حملت حوّاء في أوّل ولد ولدته حين أثقلت, أتاها إبليس قبل أن تلد, فقال: يا حوّاء، ما هذا الذي في بطنك؟ فقالت: ما أدري. فقال: من أين يخرج؟ من أنفك, أو من عينك, أو من أذنك؟ قالت: لا أدري. قال: أرأيت إن خرج سليمًا أمطيعتي أنت فيما آمرك به؟ قالت: نعم. قال: سميه « عبد الحارث » ! وقد كان يسمى إبليس الحارث فقالت: نعم. ثم قالت بعد ذلك لآدم: أتاني آت في النوم فقال لي كذا وكذا, فقال: إن ذلك الشيطان فاحذريه, فإنه عدوُّنا الذي أخرجنا من الجنة ! ثم أتاها إبليس, فأعاد عليها, فقالت: نعم. فلما وضعته أخرجه الله سليمًا, فسمته « عبد الحارث » فهو قوله: ( جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ) .
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا جرير وابن فضيل, عن عبد الملك, عن سعيد بن جبير قال: قيل له: أشرك آدم؟ قال: أعوذ بالله أن أزعم أن آدم أشرك، ولكن حواء لما أثقلت, أتاها إبليس فقال لها: من أين يخرج هذا, من أنفك، أو من عينك، أو من فيك؟ فقنَّطها, ثم قال: أرأيت إن خرج سويًّا زاد ابن فضيل: لم يضرك ولم يقتلك أتطيعيني؟ قالت: نعم. قال: فسميه « عبد الحارث » ! ففعلت زاد جرير: فإنما كان شركه في الاسم.
حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي قال: فولدت غلامًا يعني حوّاء فأتاهما إبليس فقال: سموه عبدي وإلا قتلته ! قال له آدم عليه السلام: قد أطعتك وأخرجتني من الجنة! فأبى أن يطيعه, فسماه « عبد الرحمن » , فسلط الله عليه إبليس فقتله. فحملت بآخر; فلما ولدته قال لها: سميه عبدي وإلا قتلته ! قال له آدم: قد أطعتك فأخرجتني من الجنة! فأبى, فسماه « صالحًا » فقتله. فلما أن كان الثالث قال لهما: فإذ غلبتموني فسموه « عبد الحارث » ، وكان اسم إبليس; وإنما سمي « إبليس » حين أبلس فَعَنَوَا, فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى: ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) ، يعني في التسمية.
وقال آخرون: بل المعنيّ بذلك رجل وامرأة من أهل الكفر من بني آدم، جعلا لله شركاء من الآلهة والأوثان حين رزقهما ما رزقهما من الولد. وقالوا: معنى الكلام: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا : أي هذا الرجل الكافر, ( حملت حملا خفيفًا فلما أثقلت ) دعوتما الله ربكما. قالوا: وهذا مما ابتدئ به الكلام على وجه الخطاب, ثم رُدَّ إلى الخبر عن الغائب, كما قيل: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ، [ سورة يونس: 22 ] وقد بينا نظائر ذلك بشواهده فيما مضى قبل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا سهل بن يوسف, عن عمرو, عن الحسن: ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) قال: كان هذا في بعض أهل الملل, ولم يكن بآدم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال. قال الحسن: عني بهذا ذرية آدم, من أشرك منهم بعده يعني بقوله: ( فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما ) .
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى, رزقهم الله أولادًا فهوَّدوا ونصَّروا.
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب، قول من قال: عنى بقوله: ( فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء ) في الاسم لا في العبادة وأن المعنيَّ بذلك آدم وحواء، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.
فإن قال قائل: فما أنت قائل إذ كان الأمر على ما وصفت في تأويل هذه الآية, وأن المعنيّ بها آدم وحواء في قوله: ( فتعالى الله عما يشركون ) ؟ أهو استنكاف من الله أن يكون له في الأسماء شريك، أو في العبادة؟ فإن قلت: « في الأسماء » دلّ على فساده قوله: أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ؟ فإن قلت: « في العبادة » , قيل لك: أفكان آدم أشرك في عباد الله غيره؟
قيل له: إن القول في تأويل قوله: ( فتعالى عما يشركون ) ، ليس بالذي ظننت, وإنما القول فيه: فتعالى الله عما يشرك به مشركو العرب من عبدة الأوثان. فأما الخبر عن آدم وحواء، فقد انقضى عند قوله: ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) ، ثم استؤنف قوله: ( فتعالى الله عما يشركون ) ، كما:-
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي, قوله: ( فتعالى الله عما يشركون ) ، يقول: هذه فصْلٌ من آية آدم، خاصة في آلهة العرب.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( شركاء ) ،
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين: « جَعَلا لَهُ شِرْكًا » بكسر الشين, بمعنى الشَّرِكَة.
وقرأه بعض المكيين وعامة قرأة الكوفيين وبعض البصريين: ( جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ ) ، بضم الشين, بمعنى جمع « شريك » .
قال أبو جعفر: وهذه القراءة أولى القراءتين بالصواب, لأن القراءة لو صحت بكسر الشين، لوجب أن يكون الكلام: فلما أتاهما صالحًا جعلا لغيره فيه شركًا لأن آدم وحواء لم يدينا بأن ولدهما من عطية إبليس، ثم يجعلا لله فيه شركًا لتسميتهما إياه ب « عبد الله » , وإنما كانا يدينان لا شك بأن ولدهما من رزق الله وعطيته, ثم سمياه « عبد الحارث » , فجعلا لإبليس فيه شركًا بالاسم.
فلو كانت قراءة من قرأ: « شِرْكًا » ، صحيحة، وجب ما قلنا، أن يكون الكلام: جعلا لغيره فيه شركًا. وفي نـزول وحي الله بقوله: ( جعلا له ) ، ما يوضح عن أن الصحيح من القراءة: ( شُرَكَاء ) ، بضم الشين على ما بينت قبل.
فإن قال قائل: فإن آدم وحواء إنما سميا ابنهما « عبد الحارث » , و « الحارث » واحد, وقوله: ( شركاء ) ، جماعة, فكيف وصفهما جل ثناؤه بأنهما « جعلا له شركاء » , وإنما أشركا واحدًا!
قيل: قد دللنا فيما مضى على أن العرب تخرج الخبر عن الواحد مخرج الخبر عن الجماعة، إذا لم تقصد واحدًا بعينه ولم تسمِّه, كقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ، [ سورة آل عمران: 173 ] وإنما كان القائل ذلك واحدًا, فأخرج الخبر مخرج الخبر عن الجماعة, إذ لم يقصد قصده, وذلك مستفيض في كلام العرب وأشعارها.
وأما قوله: ( فتعالى الله عما يشركون ) ، فتنـزيه من الله تبارك وتعالى نفسَه, وتعظيم لها عما يقول فيه المبطلون، ويدَّعون معه من الآلهة والأوثان، كما: -
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( فتعالى الله عما يشركون ) قال: هو الإنكاف, أنكف نفسه جل وعز يقول: عظَّم نفسه وأنكفته الملائكة وما سبَّح له.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة قال: سمعت صدقة يحدِّث عن السدي قال: هذا من الموصول والمفصول، قوله: ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) ، في شأن آدم وحواء, ثم قال الله تبارك وتعالى: ( فتعالى الله عما يشركون ) قال: عما يشرك المشركون, ولم يعنهما.
القول في تأويل قوله : أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ( 191 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيشركون في عبادة الله, فيعبدون معه « ما لا يخلق شيئًا » ، والله يخلقها وينشئها؟ وإنما العبادة الخالصة للخالق لا للمخلوق.
وكان ابن زيد يقول في ذلك بما: -
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد قال: ولد لآدم وحواء ولد, فسمياه « عبد الله » , فأتاهما إبليس فقال: ما سميتما يا آدم ويا حواء ابنكما؟ قال: وكان وُلد لهما قبل ذلك ولد, فسمياه « عبد الله » , فمات. فقالا سميناه « عبد الله » . فقال إبليس: أتظنان أن الله تارك عبده عندكما؟ لا والله، ليذهبن به كما ذهبَ بالآخر! ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما، فسمياه « عبد شمس » ! قال: فذلك قول الله تبارك وتعالى: ( أيشركون ما لا يخلق شيئًا وهم يخلقون ) ، آلشمس تخلق شيئًا حتى يكون لها عبد؟ إنما هي مخلوقة! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خدعهما مرتين، خدعهما في الجنة, وخدعهما في الأرض. »
وقيل: ( وهم يخلقون ) ، , فأخرج مكنيَّهم مخرج مكنيّ بني آدم, ( أيشركون ما ) ، فأخرج ذكرهم ب « ما » لا ب « من » مخرج الخبر عن غير بني آدم, لأن الذي كانوا يعبدونه إنما كان حجرًا أو خشبًا أو نحاسًا, أو بعض الأشياء التي يخبر عنها ب « ما » لا ب « من » , فقيل لذلك: « ما » ، ثم قيل: « وهم » , فأخرجت كنايتهم مُخْرَج كناية بني آدم, لأن الخبر عنها بتعظيم المشركين إياها، نظير الخبر عن تعظيم الناس بعضهم بعضًا.
القول في تأويل قوله : وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ( 192 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله ما لا يخلق شيئًا من خلق الله, ولا يستطيع أن ينصرهم إن أراد الله بهم سوءًا، أو أحلّ بهم عقوبة, ولا هو قادر إن أراد به سوءًا نصر نفسه ولا دفع ضر عنها؟ وإنما العابد يعبد ما يعبده لاجتلاب نفع منه أو لدفع ضر منه عن نفسه، وآلهتهم التي يعبدونها ويشركونها في عبادة الله لا تنفعهم ولا تضرهم, بل لا تجتلب إلى نفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضرًّا, فهي من نفع غير أنفسها أو دفع الضر عنها أبعدُ؟ يعجِّب تبارك وتعالى خلقه من عظيم خطأ هؤلاء الذين يشركون في عبادتهم اللهَ غيرَه.
القول في تأويل قوله : وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ( 193 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره في وصفه وعيبه ما يشرك هؤلاء المشركون في عبادتهم ربَّهم إياه: ومن صفته أنكم، أيها الناس، إن تدعوهم إلى الطريق المستقيم, والأمر الصحيح السديد لا يتبعوكم، لأنها ليست تعقل شيئًا, فتترك من الطرق ما كان عن القصد منعدلا جائرًا, وتركب ما كان مستقيمًا سديدًا.
وإنما أراد الله جل ثناؤه بوصف آلهتهم بذلك من صفتها، تنبيهَهم على عظيم خطئهم, وقبح اختيارهم. يقول جل ثناؤه: فكيف يهديكم إلى الرشاد مَنْ إن دُعي إلى الرشاد وعُرِّفه لم يعرفه, ولم يفهم رشادًا من ضلال, وكان سواءً دعاءُ داعيه إلى الرشاد وسكوته, لأنه لا يفهم دعاءه, ولا يسمع صوته, ولا يعقل ما يقال له. يقول: فكيف يُعبد من كانت هذه صفته، أم كيف يُشْكِل عظيمُ جهل من اتخذ ما هذه صفته إلهًا؟ وإنما الرب المعبود هو النافع من يعبده, الضارّ من يعصيه, الناصرُ وليَّه, الخاذل عدوه, الهادي إلى الرشاد من أطاعه, السامع دعاء من دعاه.
وقيل: ( سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ) ، فعطف بقوله: « صامتون » , وهو اسم على قوله: « أدعوتموهم » , وهو فعل ماض, ولم يقل: أم صمتم, كما قال الشاعر: سَــوَاءٌ عَلَيْـكَ النَّفْـرُ أَمْ بِـتَّ لَيْلَـةً بِـأَهْلِ الْقِبَـابِ مِـنْ نُمَـيْرِ بنِ عَامِرِ
وقد ينشد: « أم أنْتَ بَائِتٌ » .
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 194 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان، موبِّخهم على عبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الأصنام: ( إن الذين تدعون ) أيها المشركون، آلهةً ( من دون الله ) , وتعبدونها، شركًا منكم وكفرًا بالله ( عباد أمثالكم ) ، يقول: هم أملاك لربكم, كما أنتم له مماليك. فإن كنتم صادقين أنها تضر وتنفع، وأنها تستوجب منكم العبادة لنفعها إياكم, فليستجيبوا لدعائكم إذا دعوتموهم, فإن لم يستجيبوا لكم، لأنها لا تسمع دعاءكم, فأيقنوا بأنها لا تنفع ولا تضر; لأن الضر والنفع إنما يكونان ممن إذا سُئل سمع مسألة سائله وأعطى وأفضل، ومن إذا شكي إليه من شيء سمع، فضرّ من استحق العقوبة، ونفع من لا يستوجب الضرّ.
القول في تأويل قوله : أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ( 195 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين عبدوا الأصنام من دونه، معرِّفَهم جهل ما هم عليه مقيمون: ألأصنامكم هذه ، أيها القوم ( أرجل يمشون بها ) ، فيسعون معكم ولكم في حوائجكم، ويتصرفون بها في منافعكم ( أم لهم أيد يبطشون بها ) ، فيدفعون عنكم وينصرونكم بها عند قصد من يقصدكم بشرّ ومكروهٍ ( أم لهم أعين يبصرون بها ) ، فيعرفونكم ما عاينوا وأبصروا مما تغيبون عنه فلا ترونه ( أم لهم آذان يسمعون بها ) ، فيخبروكم بما سمعوا دونكم مما لم تسمعوه؟
يقول جل ثناؤه: فإن كانت آلهتكم التي تعبدونها ليس فيها شيء من هذه الآلات التي ذكرتُها, والمعظَّم من الأشياء إنما يعظَّم لما يرجى منه من المنافع التي توصل إليه بعض هذه المعاني عندكم, فما وجه عبادتكم أصنامكم التي تعبدونها, وهي خالية من كل هذه الأشياء التي بها يوصل إلى اجتلاب النفع ودفع الضر؟
وقوله: ( قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون ) ، [ قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان: ادعوا شركاءكم الذين جعلتموهم لله شركاء في العبادة ( ثم كيدون ) ، ] أنتم وهي ( فلا تنظرون ) ، يقول: فلا تؤخرون بالكيد والمكر, ولكن عجِّلوا بذلك. يُعْلِمه جل ثناؤه بذلك أنهم لن يضروه, وأنه قد عصمه منهم, ويُعَرِّف الكفرة به عجز أوثانهم عن نصرة من بغى أولياءهم بسوء.
القول في تأويل قوله : إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَـزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( 196 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للمشركين من عبدة الأوثان « إن وليي » ، نصيري ومعيني وظهيري عليكم ( الله الذي نـزل الكتاب ) عليّ بالحق, وهو الذي يتولى من صلح عمله بطاعته من خلقه.
القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ( 197 )
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا أمر من الله جل ثناؤه لنبيه أن يقوله للمشركين. يقول له تعالى ذكره : قل لهم, إن الله نصيري وظهيري, والذين تدعون أنتم أيها المشركون من دون الله من الآلهة, لا يستطيعون نصركم, ولا هم مع عجزهم عن نصرتكم يقدرون على نصرة أنفسهم, فأي هذين أولى بالعبادة وأحق بالألوهة؟ أمن ينصر وليه ويمنع نفسه ممن أراده, أم من لا يستطيع نصر وليه ويعجز عن منع نفسه ممن أراده وبَغاه بمكروه؟
القول في تأويل قوله : وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ( 198 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للمشركين: وإن تدعوا، أيها المشركون، آلهتكم إلى الهدى وهو الاستقامة إلى السداد ( لا يسمعوا ) ، يقول: لا يسمعوا دعاءكم ( وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) .
وهذا خطاب من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم. يقول: وترى، يا محمد، آلهتهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ولذلك وحَّد. ولو كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب المشركين، لقال: « وترونهم ينظرون إليكم » .
وقد روى عن السدي في ذلك ما: -
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) قال: هؤلاء المشركين.
وقد يحتمل قول السدي هذا أن يكون أراد بقوله: « هؤلاء المشركون » ، قول الله: ( وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ) . وقد كان مجاهد يقول في ذلك، ما: -
حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: ( وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) ، ما تدعوهم إلى الهدى. وكأنّ مجاهدًا وجّه معنى الكلام إلى أن معناه: وترى المشركين ينظرون إليك وهم لا يبصرون فهو وجهٌ, ولكن الكلام في سياق الخبر عن الآلهة، فهو بوصفها أشبه.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما معنى قوله: ( وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) ؟ وهل يجوز أن يكون شيء ينظر إلى شيء ولا يراه؟
قيل: إن العرب تقول للشيء إذا قابل شيئًا أو حاذاه: « هو ينظر إلى كذا » , ويقال: « منـزل فلان ينظر إلى منـزلي » إذا قابله. وحكي عنها: « إذا أتيتَ موضع كذا وكذا, فنظر إليك الجبل, فخذ يمينًا أو شمالا » . وحدثت عن أبي عبيد قال: قال الكسائي: « الحائط ينظر إليك » إذا كان قريبًا منك حيث تراه, ومنه قول الشاعر: إِذَا نَظَــرْتَ بِــلادَ بَنِــي تَمِيــمٍ بِعَيْــنٍ أَوْ بِــلادَ بَنِــي صُبَــاحِ
يريد: تقابل نبتُها وعُشْبها وتحاذَى.
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام: وترى، يا محمد، آلهة هؤلاء المشركين من عبدة الأوثان، يقابلونك ويحاذونك, وهم لا يبصرونك, لأنه لا أبصار لهم. وقيل: « وتراهم » , ولم يقل: « وتراها » , لأنها صور مصوَّرة على صور بني آدم عليه السلام.
القول في تأويل قوله : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ( 199 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: تأويله: ( خذ العفو ) من أخلاق الناس, وهو الفضل وما لا يجهدهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم, عن مجاهد, في قوله: ( خذ العفو ) قال: من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس.
حدثنا يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية, عن ليث, عن مجاهد في قوله: ( خذ العفو ) قال: عفو أخلاق الناس, وعفوَ أمورهم.
حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: حدثني ابن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه في قوله: ( خذ العفو ) ، .. الآية. قال عروة: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن ابن الزبير قال: ما أنـزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس: ( خذ العفو وأمر بالعرف ) ، الآية.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد: ( خذ العفو ) ، من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس.
.... قال: حدثنا أبو معاوية, عن هشام بن عروة, عن وهب بن كيسان, عن ابن الزبير: ( خذ العفو ) قال: من أخلاق الناس, والله لآخذنَّه منهم ما صحبتم.
.... قال: حدثنا عبدة بن سليمان, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن ابن الزبير قال: إنما أنـزل الله: ( خذ العفو ) ، من أخلاق الناس.
حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( خذ العفو ) قال: من أخلاق الناس وأعمالهم، من غير تحسس أو تجسس, شك أبو عاصم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: خذ العفو من أموال الناس, وهو الفضل. قالوا: وأمر بذلك قبل نـزول الزكاة, فلما نـزلت الزكاة نُسِخ.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله ( خذ العفو ) ، يعني: خذ ما عفا لك من أموالهم, وما أتوك به من شيء فخذه. فكان هذا قبل أن تنـزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت الصدقات إليه.
حدثني محمد بن الحسين. قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( خذ العفو ) ، أما « العفو » : فالفضل من المال, نسختها الزكاة.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك, يقول في قوله: ( خذ العفو ) ، يقول: خذ ما عفا من أموالهم. وهذا قبل أن تنـزل الصدقة المفروضة.
وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المشركين، وترك الغلظة عليهم قبل أن يفرض قتالهم عليه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( خذ العفو ) قال: أمره فأعرض عنهم عشر سنين بمكة. قال: ثم أمره بالغلظة عليهم، وأن يقعد لهم كل مَرْصَد ، وأن يحصرهم, ثم قال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ، [ سورة التوبة: 5 ] الآية، كلها. وقرأ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ، [ سورة التوبة: 73 / : ] قال وأمر المؤمنين بالغلظة عليهم, فقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ، [ سورة التوبة: 123 ] بعدما كان أمرهم بالعفو. وقرأ قول الله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ، [ سورة الجاثية: 14 ] ثم لم يقبل منهم بعد ذلك إلا الإسلام أو القتل, فنسخت هذه الآية العفو.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: خذ العفو من أخلاق الناس, واترك الغلظة عليهم وقال: أُمر بذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في المشركين.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك تعليمَه نبيَّه صلى الله عليه وسلم محاجَّته المشركين في الكلام, وذلك قوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ، وعقَّبه بقوله: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ * وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ، فما بين ذلك بأن يكون من تأديبه نبيَّه صلى الله عليه وسلم في عشرتهم به، أشبهُ وأولى من الاعتراض بأمره بأخذ الصدقة من المسلمين.
فإن قال قائل: أفمنسوخ ذلك؟
قيل: لا دلالة عندنا على أنه منسوخ, إذ كان جائزًا أن يكون وإن كان الله أنـزله على نبيه صلى الله عليه وسلم في تعريفه عشرةَ من لم يُؤْمَر بقتاله من المشركين مرادًا به تأديبُ نبيّ الله والمسلمين جميعًا في عشرة الناس، وأمرهم بأخذ عفو أخلاقهم, فيكون وإن كان من أجلهم نـزل تعليمًا من الله خلقه صفةَ عشرة بعضهم بعضًا, [ إذا ] لم يجب استعمال الغلظة والشدة في بعضهم, فإذا وجب استعمال ذلك فيهم، استعمل الواجب, فيكون قوله: ( خذ العفو ) ، أمرًا بأخذه ما لم يجب غيرُ العفو, فإذا وجب غيره أخذ الواجب وغير الواجب إذا أمكن ذلك. فلا يحكم على الآية بأنها منسوخة، لما قد بينا ذلك في نظائره في غير موضع من كتبنا.
وأما قوله: ( وأمر بالعرف ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم بما: -
حدثني الحسن بن الزبرقان النخعي قال: حدثني حسين الجعفي, عن سفيان بن عيينة, عن رجل قد سماه قال: لما نـزلت هذه الآية: ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، ما هذا؟ قال: ما أدري حتى أسأل العالِم! قال: ثم قال جبريل: يا محمد، إن الله يأمرك أن تَصِل مَن قطعك, وتعطي من حرمك, وتعفو عمن ظلمك.
حدثني يونس قال: أخبرنا سفيان, عن أمَيّ قال: لما أنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله يأمرك أن تعفوَ عمن ظلمك, وتعطيَ من حرمك, وتصل من قطعك.
وقال آخرون بما:-
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن هشام بن عروة, عن أبيه: { وأمر بالعرف } ، يقول: بالمعروف.
حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: { وأمر بالعرف } قال: أما العرف: فالمعروف.
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: { وأمر بالعرف } ، أي: بالمعروف.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بالعرف وهو المعروف في كلام العرب, مصدر في معنى: « المعروف » .
يقال: « أوليته عُرْفًا، وعارفًا، وعارفةً » كل ذلك بمعنى: « المعروف » .
فإذا كان معنى العرف ذلك, فمن « المعروف » صلة رحم من قطع, وإعطاء من حرم, والعفو عمن ظلم. وكل ما أمر الله به من الأعمال أو ندب إليه، فهو من العرف. ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى; فالحق فيه أن يقال: قد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف كله، لا ببعض معانيه دون بعض.
وأما قوله: ( وأعرض عن الجاهلين ) ، فإنه أمر من الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يعرض عمن جهل. وذلك وإن كان أمرًا من الله نبيَّه, فإنه تأديب منه عز ذكره لخلقه باحتمال من ظلمهم أو اعتدى عليهم, لا بالإعراض عمن جهل الواجبَ عليه من حق الله، ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته, وهو للمسلمين حَرْبٌ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) قال: أخلاقٌ أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم, ودلَّه عليها.
القول في تأويل قوله : وَإِمَّا يَنْـزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَـزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 200 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ ) ، وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدُّك عن الإعراض عن الجاهلين، ويحملك على مجازاتهم. ( فاستعذ بالله ) ، يقول: فاستجر بالله من نـزغه ( إنه سميع عليم ) ، يقول: إن الله الذي تستعيذ به من نـزع الشيطان ( سميع ) لجهل الجاهل عليك، ولاستعاذتك به من نـزغه، ولغير ذلك من كلام خلقه, لا يخفى عليه منه شيء ( عليم ) بما يذهب عنك نـزغ الشيطان، وغير ذلك من أمور خلقه، كما:
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف بالغضب يا رب؟ قال: ( وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ) .
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ) قال: علم الله أن هذا العدوَّ مَنِيع ومَريد.
وأصل « النـزغ » : الفساد, يقال: « نـزغ الشيطان بين القوم » ، إذا أفسد بينهم وحمّل بعضهم على بعض. ويقال منه: « نـزغ ينـزغ » , و « نغز ينغز » .
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ( 201 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( إن الذين اتقوا ) ، اللهَ من خلقه, فخافوا عقابه، بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه ( إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ) ، يقول: إذا ألمَّ بهم لَمَمٌ من الشيطان، من غضب أو غيره مما يصدّ عن واجب حق الله عليهم, تذكروا عقاب الله وثوابه، ووعده ووعيده, وأبصروا الحق فعملوا به, وانتهوا إلى طاعة الله فيما فرض عليهم، وتركوا فيه طاعة الشيطان.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: « طيف » .
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: ( طَائِفٌ ) ، على مثال « فاعل » .
وقرأه بعض المكيين والبصريين والكوفيين: « طَيْفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ » .
واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين « الطائف » و « الطيف » .
فقال بعض البصريين: « الطائف » و « الطيف » سواء, وهو ما كان كالخيال والشيء يلم بك. قال: ويجوز أن يكون « الطيف » مخففًا عن « طَيِّف » مثل « مَيْت » و « مَيِّت » .
وقال بعض الكوفيين: « الطائف » : ما طاف بك من وسوسة الشيطان. وأما « الطيف » : فإنما هو من اللّمم والمسِّ.
وقال أخر منهم: « الطيف » : اللّمم, و « الطائف » : كل شيء طاف بالإنسان.
وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: « الطيف » : الوسوسة.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ: ( طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ) ، لأن أهل التأويل تأولوا ذلك بمعنى الغضب والزلة تكون من المطيف به. وإذا كان ذلك معناه، كان معلومًا إذ كان « الطيف » إنما هو مصدر من قول القائل: « طاف يطيف » أن ذلك خبر من الله عما يمس الذين اتقوا من الشيطان, وإنما يمسهم ما طاف بهم من أسبابه, وذلك كالغضب والوسوسة. وإنما يطوف الشيطان بابن آدم ليستزلَّه عن طاعة ربه، أو ليوسوس له. والوسوسة والاستزلال هو « الطائف من الشيطان » .
وأما « الطيف » فإنما هو الخيال, وهو مصدر من « طاف يطيف » , ويقول: لم أسمع في ذلك « طاف يطيف » ويتأوله بأنه بمعنى « الميت » وهو من الواو.
وحكى البصريون وبعض الكوفيين سماعًا من العرب: « طاف يطيف » , و « طِفْتُ أطِيف » , وأنشدوا في ذلك:
أنَّــى أَلَــمَّ بِـكَ الخَيَـالُ يَطِيـفُ وَمَطَافُــهُ لَــكَ ذِكْــرَةٌ وَشُـعُوفُ
وأما التأويل, فإنهم اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: ذلك « الطائف » هو الغضب.
ذكر من قال ذلك.
حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد: ( إذا مسهم طائف ) قال: و « الطيف » : الغضب.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد, في قوله: « إذا مسهم طيف من الشيطان » قال: هو الغضب.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عبد الله بن رجاء, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, عن مجاهد قال: الغضب.
حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( إذا مسهم طَيْف من الشيطان تذكروا ) قال: هو الغضب.
حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( طائف من الشيطان ) قال: الغضب.
وقال آخرون: هو اللَّمَّة والزَّلة من الشيطان.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ) ، و « الطائف » : اللَّمَّة من الشيطان ( فإذا هم مبصرون ) .
حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان ) ، يقول: نـزغٌ من الشيطان ( تذكروا ) .
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ) ، يقول: إذا زلُّوا تابوا.
قال أبو جعفر: وهذان التأويلان متقاربا المعنى, لأن « الغضب » من استزلال الشيطان، و « اللّمة » من الخطيئة أيضًا منه, وكل ذلك من طائف الشيطان. وإذ كان ذلك كذلك, فلا وجه لخصوص معنى منه دون معنى, بل الصواب أن يعم كما عمه جل ثناؤه, فيقال: إن الذين اتقوا إذا عرض لهم عارض من أسباب الشيطان، ما كان ذلك العارض, تذكروا أمر الله وانتهوا إلى أمره.
وأما قوله: ( فإذا هم مبصرون ) ، فإنه يعني: فإذا هم مبصرون هدى الله وبيانه وطاعته فيه, فمنتهون عما دعاهم إليه طائف الشيطان. كما: -
حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: ثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( فإذا هم مبصرون ) ، يقول: إذا هم منتهون عن المعصية, آخذون بأمر الله, عاصون للشيطان.
القول في تأويل قوله : وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ( 202 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي. يعني بقوله: ( يمدونهم ) ، يزيدونهم، ثم لا ينقصون عما نقص عنه الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان.
وإنما هذا خبرٌ من الله عن فريقي الإيمان والكفر, بأن فريق الإيمان وأهل تقوى الله إذا استزلهم الشيطان تذكروا عظمة الله وعقابه, فكفَّتهم رهبته عن معاصيه، وردّتهم إلى التوبة والإنابة إلى الله مما كان منهم زلَّةً وأن فريق الكافرين يزيدهم الشيطان غيًّا إلى غيهم إذا ركبوا معصية من معاصي الله, ولا يحجزهم تقوى الله، ولا خوف المعاد إليه عن التمادي فيها والزيادة منها, فهو أبدًا في زيادة من ركوب الإثم, والشيطان يزيده أبدًا, لا يقصر الإنسي عن شيء من ركوب الفواحش، ولا الشيطان من مدِّه منه، كما: -
حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( وإخوانهم يمدونهم في الغيّ ثم لا يقصرون ) قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات, ولا الشياطين تُمْسك عنهم.
حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ) ، يقول: هم الجن، يوحون إلى أوليائهم من الإنس ( ثم لا يقصرون ) , يقول: لا يسأمون.
حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإخوانهم يمدونهم في الغيّ ) ، إخوان الشياطين من المشركين, يمدهم الشيطان في الغيّ ( ثم لا يقصرون ) ،
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج قال: قال ابن جريج قال عبد الله بن كثير: وإخوانهم من الجن, يمدون إخوانهم من الإنس ( ثم لا يقصرون ) ، يقول لا يقصر الإنسان. قال: و « المد » الزيادة, يعني: أهل الشرك, يقول: لا يُقصر أهل الشرك, كما يقصر الذين اتقوا، لا يرعَوُون، لا يحجزهم الإيمان قال ابن جريج قال مجاهد ( وإخوانهم ) ، من الشياطين ( يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ) ، استجهالا يمدون أهل الشرك قال ابن جريج: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ ، [ سورة الأعراف: 179 ] . قال: فهؤلاء الإنس. يقول الله: ( وإخوانهم يمدونهم في الغي ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: ثني محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ) قال: إخوان الشياطين، يمدهم الشياطين في الغيّ ( ثمّ لا يقصرون ) .
حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( وإخوانهم ) ، من الشياطين. ( يمدونهم في الغي ) ، استجهالا.
وكان بعضهم يتأول قوله: ( ثم لا يقصرون ) ، بمعنى: ولا الشياطين يقصرون في مدِّهم إخوانَهم من الغيّ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ) ، عنهم, ولا يرحمونهم.
قال أبو جعفر: وقد بينا أولى التأويلين عندنا بالصواب. وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك على ما بيناه; لأن الله وصفَ في الآية قبلها أهل الإيمان به، وارتداعَهم عن معصيته وما يكرهه إلى محبته عند تذكرهم عظمته, ثم أتبع ذلك الخبرَ عن إخوان الشياطين وركوبهم معاصيه, فكان الأولى وصفهم بتماديهم فيها, إذ كان عَقِيب الخبر عن تقصير المؤمنين عنها.
وأما قوله: ( يمدونهم ) ، فإنَّ القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأه بعض المدنيين: « يُمِدُّونَهُمْ » بضم الياء من « أمددت » .
وقرأته عامة قرأة الكوفيين والبصريين: ( يَمُدُّونَهُمْ ) ، بفتح الياء من « مددت » .
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: ( يَمُدُّونَهُمْ ) ، بفتح الياء, لأن الذي يمد الشياطينُ إخوانَهم من المشركين، إنما هو زيادة من جنس الممدود, وإذا كان الذي مد من جنس الممدود، كان كلام العرب « مددت » لا « أمددت » .
وأما قوله: ( يقصرون ) ، فإن القرأة على لغة من قال: « أقصَرْت أقْصِر » . وللعرب فيه لغتان: « قَصَرت عن الشيء » و « أقصرت عنه » .
القول في تأويل قوله : وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا لم تأت، يا محمد، هؤلاء المشركين بآية من الله ( قالوا لولا اجتبَيتَها ) ، يقول: قالوا: هلا اخترتها واصطفيتها. من قول الله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ، [ سورة آل عمران: 179 ] يعني: يختار ويصطفي. وقد بينا ذلك في مواضعه بشواهده.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: هلا افتعلتها من قِبَل نفسك واختلقتها؟ بمعنى: هلا اجتبيتها اختلاقًا؟ كما تقول العرب: « لقد اختار فلان هذا الأمر وتخيره اختلاقًا » .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها ) أي: لولا أتيتنا بها من قِبَل نفسك؟ هذا قول كفار قريش.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, عن مجاهد, قوله: ( وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها ) قالوا: لولا اقتضبتها! قالوا: تخرجها من نفسك.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها ) قالوا: لولا تقوَّلتها, جئتَ بها من عندك؟.
حدثني المثنى قال: حدثني عبد الله قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( لولا اجتبيتها ) ، يقول: لولا تلقَّيتها وقال مرة أخرى: لولا أحدَثتها فأنشأتها.
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( قالوا لولا اجتبيتها ) ، يقول: لولا أحدثتها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قوله: ( لولا اجتبيتها ) قال: لولا جئت بها من نفسك!
وقال آخرون: معنى ذلك: هلا أخذتها من ربك وتقبَّلتها منه؟
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( لولا اجتبيتها ) ، يقول: لولا تقبَّلتها من الله!
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( لولا اجتبيتها ) ، يقول: لولا تلقَّيتَها من ربك!
حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( لولا اجتبيتها ) ، يقول: لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك, تأويلُ من قال تأويله: هلا أحدثتها من نفسك! لدلالة قول الله: قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ، فبيَّن ذلك أن الله إنما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، بأن يجيبهم بالخبر عن نفسه أنه إنما يتبع ما ينـزل عليه ربه ويوحيه إليه, لا أنه يحدث من قبل نفسه قولا وينشئه فيدعو الناس إليه.
وحكي عن الفراء أنه كان يقول: « اجتبيت الكلام » و « اختلقته » ، و « ارتجلته » : إذا افتعلته من قِبَل نفسك.
حدثني بذلك الحارث قال: حدثنا القاسم عنه.
قال أبو عبيدة: وكان أبو زيد يقول: إنما تقول العرب ذلك للكلام يبتدئه الرجل، لم يكن أعدَّه قبل ذلك في نفسه. قال أبو عبيد: و « اخترعته » مثل ذلك.
القول في تأويل قوله : إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 203 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للقائلين لك إذا لم تأتهم بآية: « هلا أحدثتها من قبل نفسك! » : إن ذلك ليس لي، ولا يجوز لي فعله; لأن الله إنما أمرني باتباع ما يوحى إليّ من عنده, فإنما أتبع ما يوحى إليّ من ربي، لأني عبده، وإلى أمره أنتهي، وإياه أطيع. ( هذا بصائر من ربكم ) ، يقول: هذا القرآن والوحي الذي أتلوه عليكم « بصائر من ربكم » , يقول: حجج عليكم, وبيان لكم من ربكم.
واحدتها « بصيرة » , كما قال جل ثناؤه: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ، [ سورة الجاثية: 20 ] . .
وإنما ذكر « هذا » ووحّد في قوله: ( هذا بصائر من ربكم ) ، لما وصفت من أنه مرادٌ به القرآن والوحي.
وقوله: ( وهدى ) ، يقول: وبيان يهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم ( ورحمة ) ، رحم الله به عباده المؤمنين, فأنقذهم به من الضلالة والهلكة ( لقوم يؤمنون ) ، يقول: هو بصائر من الله وهدى ورحمة لمن آمن, يقول: لمن صدَّق بالقرآن أنه تنـزيل الله ووحيه, وعمل بما فيه، دون من كذب به وجحده وكفر به, بل هو على الذين لا يؤمنون به عمًى وخزي.
القول في تأويل قوله : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 204 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به، المصدقين بكتابه، الذين القرآنُ لهم هدى ورحمة: ( إذا قرئ ) ، عليكم، أيها المؤمنون, ( القرآن فاستمعوا له ) ، يقول: أصغوا له سمعكم، لتتفهموا آياته، وتعتبروا بمواعظه ( وأنصتوا ) ، إليه لتعقلوه وتتدبروه, ولا تلغوا فيه فلا تعقلوه ( لعلكم ترحمون ) ، يقول: ليرحمكم ربكم باتعاظكم بمواعظه, واعتباركم بعبره, واستعمالكم ما بينه لكم ربكم من فرائضه في آيه.
ثم اختلف أهل التأويل في الحال التي أمر الله بالاستماع لقارئ القرآن إذا قرأ والإنصات له.
فقال بعضهم: ذلك حال كون المصلي في الصلاة خلف إمام يأتمّ به, وهو يسمع قراءة الإمام، عليه أن يسمع لقراءته. وقالوا: في ذلك أنـزلت هذه الآية.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن عاصم, عن المسيب بن رافع قال: كان عبد الله يقول: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة: « سلام على فلان, وسلام على فلان » . قال: فجاء القرآن: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) .
.... قال: حدثنا حفص بن غياث, عن إبراهيم الهجري, عن أبي عياض, عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة, فلما نـزلت هذه الآية: ( وإذا قرئ القرآن ) ، والآية الأخرى, أمروا بالإنصات.
حدثني أبو السائب قال: حدثنا حفص, عن أشعث, عن الزهري قال: نـزلت هذه الآية في فتى من الأنصار، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئًا قرأه, فنـزلت: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) .
حدثنا أبو كريب قال: حدثنا المحاربي, عن داود بن أبي هند, عن بشير بن جابر قال: صلى ابن مسعود, فسمع ناسًا يقرأون مع الإمام, فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا! أما آن لكم أن تعقلوا؟ ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) ، كما أمركم الله.
حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا الجريري, عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقاصّ يقص, فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود؟ قال: فنظرا إلي، ثم أقبلا على حديثهما. قال: فأعدت، فنظرا إلي, ثم أقبلا على حديثهما. قال: فأعدت الثالثة قال: فنظرا إلي فقالا إنما ذلك في الصلاة: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) .
حدثني العباس بن الوليد قال: أخبرني أبي قال: سمعت الأوزاعي قال: حدثنا عبد الله بن عامر قال: ثني زيد بن أسلم, عن أبيه, عن أبي هريرة, عن هذه الآية: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: نـزلت في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الصلاة.
حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان, عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير, عن مجاهد في قوله: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: في الصلاة.
حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن رجل, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: في الصلاة.
حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن إدريس قال: حدثنا ليث, عن مجاهد: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: في الصلاة.
حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة قال: سمعت حميدًا الأعرج قال: سمعت مجاهدًا يقول في هذه الآية: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: في الصلاة.
.... قال: حدثني عبد الصمد قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا حميد, عن مجاهد، بمثله.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا جرير وابن إدريس, عن ليث, عن مجاهد: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: في الصلاة المكتوبة.
.... قال: حدثنا المحاربي, عن ليث, عن مجاهد, وعن حجاج, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد وعن ابن أبي ليلى, عن الحكم عن سعيد بن جبير: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: في الصلاة المكتوبة.
.... قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي هاشم, عن مجاهد: في الصلاة المكتوبة.
.... قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد, مثله.
.... قال: حدثنا المحاربي وأبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك قال: في الصلاة المكتوبة.
.... قال: حدثنا جرير وابن فضيل, عن مغيرة, عن إبراهيم قال: في الصلاة المكتوبة.
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: كانوا يتكلمون في صلاتهم بحوائجهم أوَّلَ ما فرضت عليهم, فأنـزل الله ما تسمعون: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم: كم صليتم؟ كم بقي؟ فأنـزل الله: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) ، وقال غيره: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار, فأنـزل الله: ( وإذا قرئ القرآن ) .
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو خالد والمحاربي, عن أشعث, عن الزهري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ورجل يقرأ, فنـزلت: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) .
.... قال: حدثنا أبو خالد الأحمر, عن الهجري, عن أبي عياض, عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة, فلما نـزلت: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: هذا في الصلاة.
.... قال: حدثنا أبي, عن حريث, عن عامر قال: في الصلاة المكتوبة.
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: إذا قرئ في الصلاة.
حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثنا معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له ) ، يعني: في الصلاة المفروضة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري, عن أبي هاشم, عن مجاهد قال: هذا في الصلاة في قوله: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له ) قال: أخبرنا الثوري, عن ليث, عن مجاهد: أنه كره إذا مرّ الإمام بآية خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد ممن خلفَه شيئًا. قال: السكوت قال: أخبرنا الثوري, عن ليث, عن مجاهد: قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) قال: هذا إذا قام الإمام للصلاة ( فاستمعوا له وأنصتوا ) .
حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك, عن يونس, عن الزهري قال: لا يقرأ مَن وراء الإمام فيما يجهر به من القراءة, تكفيهم قراءة الإمام وإن لم يُسْمِعهم صوته, ولكنهم يقرءون فيما لم يجهر به سرًّا في أنفسهم. ولا يصلح لأحد خلفه أن يقرأ معه فيما يجهر به سرًّا ولا علانية. قال الله: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) .
حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك, عن ابن لهيعة, عن ابن هبيرة, عن ابن عباس أنه كان يقول في هذه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ، هذا في المكتوبة. وأما ما كان من قصص أو قراءة بعد ذلك, فإنما هي نافلة. إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة مكتوبة, وقرأ وراءه أصحابه, فخلَّطوا عليه قال: فنـزل القرآن: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) ، فهذا في المكتوبة.
وقال آخرون: بل عُني بهذه الآية الأمر بالإنصات للإمام في الخطبة إذا قرئ القرآن في خطبة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا تميم بن المنتصر قال: حدثنا إسحاق الأزرق, عن شريك, عن سعيد بن مسروق, عن مجاهد, في قوله: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: الإنصات للإمام يوم الجمعة.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو خالد وابن أبي عتبة, عن العوام, عن مجاهد قال: في خطبة يوم الجمعة.
وقال آخرون: عني بذلك: الإنصات في الصلاة، وفي الخطبة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن منصور قال: سمعت إبراهيم بن أبي حمزة, يحدث أنه سمع مجاهدًا يقول في هذه الآية: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: في الصلاة, والخطبة يوم الجمعة.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا هارون, عن عنبسة, عن جابر, عن عطاء قال: وجب الصُّمُوت في اثنتين، عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلي, وعند الإمام وهو يخطب.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن مجاهد: ( وإذا قرئ القرآن ) ، وجب الإنصات في اثنتين، في الصلاة والإمام يقرأ, والجمعة والإمام يخطب.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال حدثنا هشيم, أخبرنا من سمع الحسن يقول: في الصلاة المكتوبة, وعند الذكر.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري, عن جابر, عن مجاهد قال: وجب الإنصات في اثنتين: في الصلاة, ويوم الجمعة.
حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك, عن بقية بن الوليد قال: سمعت ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) قال: الإنصات: يوم الأضحى, ويوم الفطر, ويوم الجمعة, وفيما يجهر به الإمام من الصلاة.
حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو بن [ عون ] قال: أخبرنا هشيم, عن الربيع بن صبيح, عن الحسن قال: في الصلاة, وعند الذكر.
حدثنا ابن البرقي قال: حدثنا ابن أبي مريم قال: حدثنا يحيى بن أيوب قال: ثني ابن جريج, عن عطاء بن أبي رباح قال: أوجب الإنصات يوم الجمعة, قول الله تعالى ذكره: ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) ، وفي الصلاة مثل ذلك.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: أمروا باستماع القرآن في الصلاة إذا قرأ الإمام، وكان من خلفه ممن يأتمّ به يسمعه, وفي الخطبة.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال: « إذا قرأ الإمام فأنصتوا » ، وإجماع الجميع على أن [ على ] من سمع خطبة الإمام ممن عليه الجمعة, الاستماعَ والإنصاتَ لها, مع تتابع الأخبار بالأمر بذلك, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنه لا وقت يجب على أحد استماع القرآن والإنصات لسامعه، من قارئه، إلا في هاتين الحالتين، على اختلاف في إحداهما, وهي حالة أن يكون خلف إمام مؤتم به. وقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا من قوله: « إذا قرأ الإمام فانصتوا » فالإنصات خلفه لقراءته واجب على من كان به مؤتمًّا سامعًا قراءته، بعموم ظاهر القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
القول في تأويل قوله : وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ( 205 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( واذكر ) أيُّها المستمع المنصت للقرآن، إذا قرئ في صلاة أو خطبة ، ( ربك في نفسك ) ، يقول: اتعظ بما في آي القرآن, واعتبر به, وتذكر معادك إليه عند سماعكه ( تضرعًا ) ، يقول: افعل ذلك تخشعًا لله وتواضعًا له. ( وخيفة ) ، يقول: وخوفًا من الله أن يعاقبك على تقصير يكون منك في الاتعاظ به والاعتبار, وغفلة عما بين الله فيه من حدوده. ( ودون الجهر من القول ) ، يقول: ودعاء باللسان لله في خفاء لا جهار. يقول: ليكن ذكر الله عند استماعك القرآن في دعاء إن دعوت غير جهار، ولكن في خفاء من القول، كما:-
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول ) ، لا يجهر بذلك.
حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول ) ، الآية قال: أمروا أن يذكروه في الصدور تضرعًا وخيفة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن التيمي, عن أبيه, عن حيان بن عمير, عن عبيد بن عمير, في قوله: ( واذكر ربك في نفسك ) قال: « يقول الله إذا ذكرني عبدي في نفسه, ذكرته في نفسي, وإذا ذكرني عبدي وحده ذكرته وحدي, وإذا ذكرني في ملإ ذكرته في أحسنَ منهم وأكرم » .
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: ( واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة ) قال: يؤمر بالتضرع في الدعاء والاستكانة, ويكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء.
وأما قوله: ( بالغدو والآصال ) ، فإنه يعني بالبُكَر والعشِيَّات.
وأما « الآصال » فجمع، واختلف أهل العربية فيها.
فقال بعضهم: هي جمع « أصيل » , كما « الأيمان » جمع « يمين » , و « الأسرار » جمع « سرير » .
وقال آخرون منهم: هي جمع « أصُل » , و « الأصُل » جمع « أصيل » .
وقال آخرون منهم: هي جمع « أصل » و « أصيل » . قال: وإن شئت جعلت « الأصُل » جمعًا ل « لأصيل » , وإن شئت جعلته واحدًا. قال: والعرب تقول: « قد دنا الأصُل » فيجعلونه واحدًا.
قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب في ذلك, وهو أنه جائز أن يكون جمع « أصيل » و « أصُل » , لأنهما قد يجمعان على أفعال. وأما « الآصال » ، فهي فيما يقال في كلام العرب: ما بين العصر إلى المغرب.
وأما قوله: ( ولا تكن من الغافلين ) ، فإنه يقول: ولا تكن من اللاهين إذا قرئ القرآن عن عظاته وعبره, وما فيه من عجائبه, ولكن تدبر ذلك وتفهمه, وأشعره قلبك بذكر الله، وخضوعٍ له، وخوفٍ من قدرة الله عليك, إن أنت غفلت عن ذلك.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( بالغدو والآصال ) قال: بالبكر والعشي ( ولا تكن من الغافلين ) .
حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا معرّف بن واصل السعدي, قال: سمعت أبا وائل يقول لغلامه عند مغيب الشمس: آصَلْنا بعدُ؟
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج قال: قال ابن جريج قال مجاهد, قوله: ( بالغدو والآصال ) قال: « الغدو » ، آخر الفجر، صلاة الصبح ( والآصال ) ، آخر العشي، صلاة العصر. قال: وكل ذلك لها وقت، أول الفجر وآخره. وذلك مثل قوله في « سورة آل عمران » : وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ، [ سورة آل عمران: 41 ] . وقيل: « العشي » : مَيْل الشمس إلى أن تغيب, و « الإبكار » : أول الفجر.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن محمد بن شريك, عن ابن أبي مليكة, عن ابن عباس, سئل عن [ صلاة الفجر, فقال: إنها لفي كتاب الله, ولا يقوم عليها ] ..... ثم قرأ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ، الآية [ سورة النور: 36 ] .
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة ) ، إلى قوله: ( بالغدو والآصال ) ، أمر الله بذكره, ونهى عن الغفلة. أما « بالغدو » : فصلاة الصبح « والآصال » : بالعشي.
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ( 206 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا تستكبر، أيها المستمع المنصت للقرآن، عن عبادة ربك, واذكره إذا قرئ القرآن تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول, فإن الذين عند ربك من ملائكته لا يستكبرون عن التواضع له والتخشع, وذلك هو « العبادة » . ( ويسبحونه ) ، يقول: ويعظمون ربهم بتواضعهم له وعبادتهم ( وله يسجدون ) ، يقول: ولله يصلون وهو سجودهم فصلوا أنتم أيضًا له, وعظموه بالعبادة، كما يفعله من عنده من ملائكته.
آخر تفسير سورة الأعراف