.9. 9.تفسير الطبري سورة التوبة
تفسير سورة التوبة
القول في تأويل قوله : بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 1 ) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ( 2 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( براءة من الله ورسوله ) ، هذه براءة من الله ورسوله.
فـ « براءة » ، مرفوعة بمحذوف, وهو « هذه » , كما قوله: سُورَةٌ أَنْـزَلْنَاهَا ، [ سورة النور: 1 ] ، مرفوعة بمحذوف هو « هذه » . ولو قال قائل: « براءة » مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله: ( إلى الذين عاهدتم ) ، وجعلها كالمعرفة ترفع ما بعدها, إذ كانت قد صارت بصلتها وهي قوله: ( من الله ورسوله ) ، كالمعرفة, وصار معنى الكلام: البراءة من الله ورسوله، إلى الذين عاهدتم من المشركين كان مذهبًا غير مدفوعة صحته, وإن كان القول الأول أعجبَ إليّ, لأن من شأن العرب أن يضمروا لكلِّ معاين نكرةً كان أو معرفةً ذلك المعاين, « هذا » و « هذه » , فيقولون عند معاينتهم الشيء الحسنَ: « حسن والله » , والقبيحَ: « قبيح والله » , يريدون: هذا حسن والله, وهذا قبيح والله، فلذلك اخترت القول الأول.
وقال: ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم ) ، والمعنى: إلى الذين عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، لأن العهود بين المسلمين والمشركين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يتولى عقدها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من يعقدها بأمره, ولكنه خاطب المؤمنين بذلك لعلمهم بمعناه, وأن عقودَ النبي صلى الله عليه وسلم على أمته كانت عقودهم, لأنهم كانوا لكل أفعاله فيهم راضين, ولعقوده عليهم مسلِّمين, فصار عقده عليهم كعقودهم على أنفسهم, فلذلك قال: ( إلى الذين عاهدتم من المشركين ) ، لما كان من عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.
وقد اختلف أهل التأويل فيمن بَرِئَ الله ورسوله إليه من العهد الذي كان بينه وبين رسول الله من المشركين، فأذن له في السياحة في الأرض أربعة أشهر.
فقال بعضهم: هم صنفان من المشركين: أحدهما كانت مدة العهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلَّ من أربعة أشهر, وأمْهِل بالسياحة أربعة أشهر والآخر منهما: كانت مدة عهده بغير أجل محدود، فقُصِر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه, ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين، يقتل حيثما أدرك ويؤسَرُ، إلا أن يتوب.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضى الله عنه أميرًا على الحاجّ من سنة تسع، ليقيم للناس حجهم, والناسُ من أهل الشرك على منازلهم من حجهم. فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين, ونـزلت « سورة براءة » في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم: أن لا يُصَدَّ عن البيت أحد جاءه, وأن لا يُخَاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهدًا عامًّا بينه وبين الناس من أهل الشرك. وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائصَ إلى أجل مسمًّى, فنـزلت فيه وفيمن تخلف عنه من المنافقين في تبوك، وفي قول من قال منهم, فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون, منهم من سُمِّي لنا, ومنهم من لم يُسَمَّ لنا, فقال: ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) ، أي: لأهل العهد العام من أهل الشرك من العرب ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ، إلى قوله: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ، أي: بعد هذه الحجة.
وقال آخرون: بل كان إمهالُ الله عز وجل بسياحة أربعة أشهر، مَنْ كان من المشركين بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد, فأما من لم يكن له من رسول الله عهد، فإنما كان أجله خمسين ليلة, وذلك عشرون من ذي الحجة والمحرم كله. قالوا: وإنما كان ذلك كذلك, لأن أجَل الذين لا عهد لهم كان إلى انسلاخ الأشهر الحرم, كما قال الله: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، الآية [ سورة التوبة: 5 ] . قالوا: والنداء ببراءة، كان يوم الحج الأكبر, وذلك يوم النحر في قول قوم، وفي قول آخرين يوم عرفة، وذلك خمسون يوما. قالوا: وأما تأجيل الأشهر الأربعة, فإنما كان لأهل العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم نـزلت « براءة » . قالوا: ونـزلت في أول شوّال, فكان انقضاء مدة أجلهم، انسلاخ الأشهر الحرم. وقد كان بعض من يقول هذه المقالة يقول: ابتداء التأجيل كان للفريقين واحدًا أعني الذي له العهد، والذي لا عهد له غير أن أجل الذي كان له عهد كان أربعة أشهر, والذي لا عهد له انسلاخ الأشهر الحرم, وذلك انقضاء المحرم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس في قوله: ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ، قال: حدّ الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر، يسيحون فيها حيثما شاؤوا, وحدّ أجل من ليس له عهد، انسلاخَ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم, فذلك خمسون ليلة. فإذا انسلخ الأشهر الحرم، أمره بأن يضع السيف فيمن عاهد.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: لما نـزلت ( براءة من الله ) ، إلى: ( وأن الله مخزي الكافرين ) ، يقول: براءة من المشركين الذين كان لهم عهد يوم نـزلت « براءة » ، فجعل مدة من كان له عهد قبل أن تنـزل « براءة » ، أربعة أشهر, وأمرهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر. وجعل مدة المشركين الذين لم يكن لهم عهد قبل أن تنـزل « براءة » ، انسلاخ الأشهر الحرم, وانسلاخ الأشهر الحرم من يوم أذن ببراءة إلى انسلاخ المحرّم، وهي خمسون ليلة: عشرون من ذي الحجة, وثلاثون من المحرم فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ إلى قوله: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ، يقول: لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نـزلت « براءة » وانسلخ الأشهر الحرم, ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنـزل « براءة » ، أربعة أشهر من يوم أذّن ببراءة، إلى عشر من أول ربيع الآخر, فذلك أربعة أشهر.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) . قبل أن تنـزل « براءة » ، عاهد ناسًا من المشركين من أهل مكة وغيرهم, فنـزلت: براءة من الله إلى كل أحد ممن كان عاهدك من المشركين، فإني أنقض العهد الذي بينك وبينهم, فأؤجلهم أربعة أشهر يسيحون حيث شاؤوا من الأرض آمنين. وأجَّل من لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد انسلاخَ الأشهر الحرم، من يوم أذِّن ببراءة، وأذن بها يوم النحر, فكان عشرين من ذي الحجة والمحرم ثلاثين, فذلك خمسون ليلة. فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم عهد، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعةٌ من يوم النحر، أن يضع فيهم السيف أيضًا، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. فكانت مدة من لا عهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة من يوم النحر, ومدة من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، أربعة أشهر: من يوم النحر، إلى عشر يخلُون من شهر ربيع الآخر.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( براءة من الله ورسوله ) ، إلى قوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، قال: ذكر لنا أن عليًّا نادى بالأذان, وأُمِّر على الحاجّ أبو بكر رحمة الله عليهما. وكان العامَ الذي حج فيه المسلمون والمشركون, ولم يحج المشركون بعد ذلك العام قوله: ( الذين عاهدتم من المشركين ) ، إلى قوله: إِلَى مُدَّتِهِمْ ، قال: هم مشركو قريش، الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمنَ الحديبية, وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، وأمر الله نبيه أن يوفِّي بعهدهم إلى مدتهم، ومن لا عهد له انسلاخَ المحرّم, ونبذ إلى كل ذي عهد عهده, وأمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله, ولا يقبل منهم إلا ذلك.
وقال آخرون: كان ابتداء تأخير المشركين أربعة أشهر وانقضاء ذلك لجميعهم، وقتًا واحدًا. قالوا: وكان ابتداؤه يوم الحج الأكبر, وانقضاؤه انقضاء عشر من ربيع الآخر.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) ، قال: لما نـزلت هذه الآية. برئ من عهد كل مشرك, ولم يعاهد بعدها إلا من كان عاهد, وأجرى لكلّ مدتهم ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ، لمن دخل عهده فيها، من عشر ذي الحجة والمحرم, وصفر، وشهر ربيع الأول, وعشر من ربيع الآخر.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر قال، حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرًا على الموسم سنة تسع, وبعث عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنهما، بثلاثين أو أربعين آية من « براءة » , فقرأها على الناس، يؤجِّل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض, فقرأ عليهم « براءة » يوم عرفة، أجَّل المشركين عشرين من ذي الحجة, والمحرم, وصفر, وشهر ربيع الأول, وعشرًا من ربيع الآخر, وقرأها عليهم في منازلهم, وقال: لا يحجنّ بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوفنّ بالبيت عُريان.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ، عشرون من ذي الحجة, والمحرم, وصفر, وربيع الأول, وعشر من ربيع الآخر. كان ذلك عهدَهم الذي بينهم.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( براءة من الله ورسوله ) ، إلى أهل العهد: خزاعة, ومُدْلج, ومن كان له عهد منهم أو غيرهم. أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ, فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجَّ, ثم قال: إنه يحضر المشركون فيطوفون عُرَاةً, فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك. فأرسل أبا بكر وعليًّا رحمة الله عليهما فطافا بالناس بذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالمواسم كلها, فآذنوا أصحابَ العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر, فهي الأشهر المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر, ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلها بالقتال إلا أن يؤمنوا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) ، قال: أهل العهد: مدلج, والعرب الذين عاهدهم, ومن كان له عهد. قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها وأراد الحج, ثم قال: إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك. فأرسل أبا بكر وعليًّا رحمة الله عليهما, فطافا بالناس بذي المجاز, وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالموسم كله, وآذنوا أصحابَ العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر, فهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر, ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا. فآمن الناس أجمعون حينئذ، ولم يَسِحْ أحد. وقال: حين رجع من الطائف، مضى من فوره ذلك, فغزا تبوك، بعد إذ جاء إلى المدينة.
وقال آخرون ممن قال: « ابتداء الأجل لجميع المشركين وانقضاؤه كان واحدًا » . كان ابتداؤه يوم نـزلت « براءة » , وانقضاء الأشهر الحرم, وذلك انقضاء المحرم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ، قال: نـزلت في شوال, فهذه الأربعة الأشهر: شوال, وذو القعدة, وذو الحجة، والمحرم.
وقال آخرون: إنما كان تأجيلُ الله الأشهرَ الأربعة المشركين في السياحة، لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد مدته أقل من أربعة أشهر. أما من كان له عهد مدته أكثر من أربعة أشهر، فإنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يُتمّ له عهده إلى مدته.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال: قال الكلبي: إنما كان الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون الأربعة الأشهر, فأتم له الأربعة. ومن كان له عهد أكثر من أربعة أشهر، فهو الذي أمر أن يتم له عهده, وقال: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ، [ سورة التوبة: 4 ] .
قال أبو جعفر رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: الأجلُ الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ، إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه, فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ، [ سورة التوبة: 4 ]
فإن ظنّ ظانٌّ أن قول الله تعالى ذكره: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، [ سورة التوبة: 5 ] ، يدلُّ على خلاف ما قلنا في ذلك, إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم، قتْلَ كل مشرك, فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن, وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا، وفسادِ ما ظنه من ظنّ أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك، كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يكن له منه عهد, وذلك قوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ، [ سورة التوبة: 7 ] ، فهؤلاء مشركون, وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم، ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم، وترك مظاهرة عدوهم عليهم.
وبعدُ، ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه حين بعث عليًّا رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم: « ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته » ، أوضحُ الدليل على صحة ما قلنا. وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه, وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل، أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود. فأما من كان أجل عهده محدودًا، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورًا. وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس, عن مغيرة, عن الشعبي قال، حدثني محرّر بن أبي هريرة, عن أبي هريرة قال: كنت مع علي رحمة الله عليه، حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي. فكان إذا صَحِل صوته ناديتُ, قلت: بأي شيء كنتم تنادون؟ قال: بأربع: لا يطُفْ بالكعبة عُريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ فعهده إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عفان قال، حدثنا قيس بن الربيع قال، حدثنا الشيباني, عن الشعبي قال: أخبرنا المحرّر بن أبي هريرة, عن أبيه قال: كنت مع علي رضي الله عنه, فذكر نحوه إلا أنه قال: ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ فعهده إلى أجله.
قال أبو جعفر: وقد حدث بهذا الحديث شعبة, فخالف قيسًا في الأجل.
فحدثني يعقوب بن إبراهيم ومحمد بن المثنى قالا حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا شعبة, عن المغيرة, عن الشعبي, عن المحرّر بن أبي هريرة, عن أبيه قال: كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة, فكنت أنادي حتى صَحِل صوتي. فقلت: بأي شيء كنت تنادي؟ قال: أمرنا أن ننادي: أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى أربعة أشهر, فإذا حلّ الأجل فإن الله بريء من المشركين ورسوله, ولا يطُفْ بالبيت عريان, ولا يحج بعد العام مشرك.
قال أبو جعفر : وأخشى أن يكون هذا الخبر وهمًا من ناقله في الأجل, لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه، مع خلاف قيس شعبة في نفس هذا الحديث على ما بينته.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أبي إسحاق, عن الحارث الأعور، عن علي رحمة الله عليه قال: أمرت بأربع: أمرت أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك, ولا يطف رجل بالبيت عريانًا, ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة, وأن يتمّ إلى كل ذي عهد عهده.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن زيد بن يثيع قال: نـزلت « براءة » , فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر, ثم أرسل عليًّا فأخذها منه. فلما رجع أبو بكر قال: هل نـزل فيَّ شيء؟ قال: لا ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي. فانطلق إلى مكة, فقام فيهم بأربع: أن لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا, ولا يطف بالكعبة عريان, ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, ومن كان بينه وبين رسول الله عهدٌ فعهده إلى مدته.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن زكريا, عن أبي إسحاق, عن زيد بن يثيع, عن علي قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم حين أنـزلت: « براءة » بأربع: أن لا يطف بالبيت عريان, ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته, ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عبد الأعلى, عن معمر, عن أبي إسحاق, عن الحارث, عن علي رحمة الله عليه, قال: بعثت إلى أهل مكة بأربع, ثم ذكر الحديث.
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا حسين بن محمد قال، حدثنا سليمان بن قرم, عن الأعمش، عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ببراءة, ثم أتبعه عليًّا, فأخذها منه, فقال أبو بكر: يا رسول الله حدث فيّ شيء؟ قال: « لا أنت صاحبي في الغار وعلى الحوض, ولا يؤدِّي عني إلا أنا أو عليّ » ! وكان الذي بعث به عليًّا أربعا: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, ولا يحجّ بعد العام مشرك, ولا يطف بالبيت عريان, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مُدَّته.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي خالد, عن عامر قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا رحمة الله عليه, فنادى: ألا لا يحجنَّ بعد العام مشرك, ولا يطف بالبيت عريان, ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى مدته, والله بريء من المشركين ورسوله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق, عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف, عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين بن علي قال: لما نـزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد كان بعث أبا بكر الصديق رحمة الله عليه ليقيم الحج للناس; قيل له: يا رسول الله، لو بعثت إلى أبي بكر! فقال: لا يؤدِّي عني إلا رجل من أهل بيتي! ثم دعا علي بن أبي طالب رحمة الله عليه، فقال: اخرج بهذه القصة من صدر « براءة » , وأذِّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنًى: أنه لا يدخل الجنة كافر, ولا يحج بعد العام مشرك, ولا يطف بالبيت عريان, ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته. فخرج علي بن أبي طالب رحمة الله عليه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء, حتى أدرك أبا بكر الصديق بالطريق. فلما رآه أبو بكر قال: أميرٌ أو مأمور؟ قال: مأمور، ثم مضيا رحمة الله عليهما, فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحجّ التي كانوا عليها في الجاهلية. حتى إذا كان يوم النحر, قام علي بن أبي طالب رحمة الله عليه, فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا أيها الناس، لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, ولا يحج بعد العام مشرك, ولا يطف بالبيت عريان, ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته. فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك, ولم يطف بالبيت عريان. ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان هذا من « براءة » ، فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العامّ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: لما نـزلت هذه الآيات إلى رأس أربعين آية, بعث بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وأمَّره على الحج. فلما سار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة، أتبعه بعليّ فأخذها منه. فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أنـزل في شأني شيء؟ قال: لا ولكن لا يبلِّغ عني غيري، أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار, وأنك صاحبي على الحوض؟ قال: بلى، يا رسول الله! فسار أبو بكر على الحاجّ, وعلي يؤذن ببراءة, فقام يوم الأضحى فقال: لا يقربنَّ المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا, ولا يطوفنّ بالبيت عريان, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فله عهده إلى مدته, وإن هذه أيام أكل وشرب, وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما. فقالوا: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب! فرجع المشركون، فلام بعضهم بعضًا وقالوا: ما تصنعون، وقد أسلمت قريش؟ فأسلموا.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر, عن أبي إسحاق, عن زيد بن يثيع, عن علي قال: أمرت بأربع: أن لا يقربَ البيتَ بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان, ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده قال معمر: وقاله قتادة.
قال أبو جعفر: فقد أنبأت هذه الأخبار ونظائرها عن صحة ما قلنا, وأن أجل الأشهر الأربعة إنما كان لمن وصفنا. فأما من كان عهده إلى مدة معلومة، فلم يجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين لنَقْضِه ومظاهرة أعدائهم عليهم سبيلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وَفَى له بعهده إلى مدته، عن أمر الله إياه بذلك. وعلى ذلك دلّ ظاهرُ التنـزيل، وتظاهرت به الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما الأشهر الأربعة، فإنها كانت أجلَ من ذكرنا. وكان ابتداؤها يوم الحج الأكبر، وانقضاؤها انقضاء عشر من ربيع الآخر, فذلك أربعة أشهر متتابعة, جُعِل لأهل العهد الذين وصفنا أمرهم، فيها، السياحةُ في الأرض, يذهبون حيث شاؤوا, لا يعرض لهم فيها من المسلمين أحدٌ بحرب ولا قتل ولا سلب.
فإن قال قائل: فإذا كان الأمر في ذلك كما وصفت, فما وجه قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، [ سورة التوبة: 5 ] . وقد علمت أن انسلاخها انسلاخ المحرّم, وقد زعمت أن تأجيل القوم من الله ومن رسوله كان أربعة أشهر, وإنما بين يوم الحجّ الأكبر وانسلاخ الأشهر الحرم خمسون يومًا أكثرُه, فأين الخمسون يومًا من الأشهر الأربعة؟
قيل: إن انسلاخَ الأشهر الحرم، إنما كان أجل من لا عهد له من المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم, والأشهر الأربعة لمن له عهد، إما إلى أجل غير محدود، وإما إلى أجل محدود قد نقضه, فصار بنقضه إياه بمعنى من خِيف خيانته, فاستحقّ النبذ إليه على سواء، غير أنه جُعل له الاستعداد لنفسه والارتياد لها من الأجل الأربعة الأشهر. ألا ترى الله يقول لأصحاب الأشهر الأربعة, ويصفهم بأنهم أهل عهد: ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله ) ، ووصف المجعول لهم انسلاخ الأشهر الحرم أجلا بأنهم أهل شرك لا أهل عهد فقال: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ الآية إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الآية؟ ثم قال: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، فأمر بقتل المشركين الذين لا عهد لهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم, وبإتمام عهد الذين لهم عهد. إذا لم يكونوا نقضوا عهدهم بالمظاهرة على المؤمنين، وإدخال النقص فيه عليهم.
فإن قال قائل: وما الدليل على أن ابتداء التأجيل كان يوم الحج الأكبر، دون أن يكون كان من شوال على ما قاله قائلو ذلك؟
قيل له: إن قائلي ذلك زعموا أن التأجيل كان من وقت نـزول « براءة » , وذلك غير جائز أن يكون صحيحًا، لأن المجعول له أجلُ السياحة إلى وقت محدود. إذا لم يعلم ما جُعل له, ولا سيما مع عهد له قد تقدم قبل ذلك بخلافه, فكمن لم يجعل له ذلك، لأنه إذا لم يعلم ما له في الأجل الذي جُعل له وما عليه بعد انقضائه، فهو كهيئته قبل الذي جُعل له من الأجل. ومعلوم أن القوم لم يعلموا بما جُعل لهم من ذلك، إلا حين نودي فيهم بالموسم. و إذا كان ذلك كذلك. صحَّ أن ابتداءه ما قلنا، وانقضاءه كان ما وصفنا.
وأما قوله: ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ، فإنه يعني: فسيروا فيها مقبلين ومدبرين, آمنين غير خائفين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه.
يقال منه: « ساح فلان في الأرض يسيح، سياحة. وسُيُوحًا. وسَيَحانًا. »
وأما قوله: ( واعلموا أنكم غير معجزي الله ) ، فإنه يقول لأهل العهد من الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ قبل نـزول هذه الآية: اعلموا، أيها المشركون، أنكم إن سحتم في الأرض، واخترتم ذلك مع كفركم بالله. على الإقرار بتوحيد وتصديق رسوله ( غير معجزي الله ) ، يقول: غير مُفِيتيه بأنفسكم، لأنكم حيث ذهبتم وأين كنتم من الأرض، ففي قبضته وسلطانه, لا يمنعكم منه وزيرٌ، ولا يحول بينكم وبينه إذا أرادكم بعذاب معقلٌ ولا موئل. إلا الإيمان به وبرسوله. والتوبة من معصيته. يقول: فبادروا عقوبته بتوبة, ودعوا السياحة التي لا تنفعكم.
وأما قوله: ( وأن الله مخزي الكافرين ) ، يقول: واعلموا أن الله مُذلُّ الكافرين, ومُورثهم العارَ في الدنيا، والنارَ في الآخرة.
القول في تأويل قوله : وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإعلامٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر.
وقد بينا معنى « الأذان » ، فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده.
وكان سليمان بن موسى يقول في ذلك ما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال: زعم سليمان بن موسى الشاميّ أن قوله: ( وأذان من الله ورسوله ) ، قال: « الأذان » ، القصص, فاتحة « براءة » حتى تختم: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، [ سورة التوبة : 28 ] فذلك ثمان وعشرون آية.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( وأذان من الله ورسوله ) ، قال: إعلام من الله ورسوله.
ورفع قوله: ( وأذان من الله ) ، عطفًا على قوله: ( براءة من الله ) ، كأنه قال: هذه براءة من الله ورسوله, وأذانٌ من الله.
وأما قوله: ( يوم الحج الأكبر ) ، فإنه فيه اختلافًا بين أهل العلم.
فقال بعضهم: هو يوم عرفة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال، أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا أبو صخر: أنه سمع أبا معاوية البجليّ من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن « يوم الحج الأكبر » فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه يقيم للناس الحج, وبعثني معه بأربعين آية من براءة, حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة، فلما قضى خطبته التفت إليّ, فقال: قم، يا علي وأدِّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من « براءة » ، ثم صدرنا، حتى أتينا مِنًى, فرميت الجمرة ونحرتُ البدنة, ثم حلقت رأسي, وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة, فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم. فمن ثَمَّ إخال حسبتم أنه يوم النحر, ألا وهو يوم عرفة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أبي إسحاق قال: سألت أبا جُحَيفة عن « يوم الحج الأكبر » فقال: يوم عرفة. فقلت: أمن عندك، أو من أصحاب محمد؟ قال: كلُّ ذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج, عن عطاء قال: الحج الأكبر، يوم عرفة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن عمر بن الوليد الشنّيّ, عن شهاب بن عبّاد العَصَريّ, عن أبيه قال: قال عمر رحمه الله: يوم الحج الأكبر، يوم عرفة فذكرته لسعيد بن المسيب فقال: أخبرك عن ابن عمر: أن عمر قال: الحج الأكبر يومُ عرفة.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عمر بن الوليد الشني قال، حدثنا شهاب بن عباد العصري, عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رحمة الله عليه يقول: هذا يوم عرفة، يوم الحج الأكبر فلا يصومَنَّه أحد. قال: فحججت بعد أبي فأتيت المدينة, فسألت عن أفضل أهلها, فقالوا: سعيد بن المسيب، فأتيته فقلت: إني سألت عن أفضل أهل المدينة فقالوا: سعيد بن المسيب, فأخبرني عن صوم يوم عرفة؟ فقال: أخبرك عمن هو أفضل مني مئة ضعف، عمر، أو: ابن عمر, كان ينهى عن صومه ويقول: هو يوم الحج الأكبر.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الصمد بن حبيب, عن معقل بن داود قال: سمعت ابن الزبير يقول: يوم عرفة هذا، يوم الحج الأكبر، فلا يصمه أحد.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا غالب بن عبيد الله قال: سألت عطاء عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم عرفة, فأفِضْ منها قبل طلوع الفجر.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال: أخبرني محمد بن قيس بن مخرمة قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة ثم قال: « أما بعد » « وكان لا يخطب إلا قال: أما بعد وكان ذا يوم الحج الأكبر » .
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد الوهاب, عن مجاهد قال: يوم الحج الأكبر، يوم عرفة.
حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا إسحاق بن سليمان, عن سلمة بن بُخْت, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: يوم الحج الأكبر، يوم عرفة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني طاوس, عن أبيه قال: قلنا: ما الحج الأكبر؟ قال: يوم عرفة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال: أخبرنا ابن جريج, عن محمد بن قيس بن مخرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة فقال: هذا يوم الحج الأكبر.
وقال آخرون: هو يوم النحر.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق، عن الحارث, عن علي قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن سلام, عن الأجلح, عن أبي إسحاق, عن الحارث قال: سمعت عليًّا يقول: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة, عن أبي إسحاق, عن الحارث قال: سألت عليًّا عن الحج الأكبر فقال: هو يوم النحر.
حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى عن الحج الأكبر, قال: فقال: يوم النحر.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن عيّاش العامري, عن عبد الله بن أبي أوفى قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
...... قال، حدثنا سفيان, عن عبد الملك بن عمير, عن عبد الله بن أبي أوفى قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن عبد الملك قال: دخلت أنا وأبو سلمة على عبد الله بن أبي أوفى, قال: فسألته عن يوم الحج الأكبر, فقال: يوم النحر, يوم يُهَرَاقُ فيه الدم.
حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق, عن سفيان, عن عبد الملك بن عمير, عن عبد الله قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن الشيباني قال: سألت ابن أبي أوفى عن يوم الحج الأكبر قال: هو يوم النحر.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال: أخبرنا الشيباني, عن عبد الله بن أبي أوفى قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
...... قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير قال، سَمعت عبد الله بن أبي أوفى, وسُئل عن قوله: ( يوم الحج الأكبر ) ، قال: هو اليوم الذي يُرَاق فيه الدم، ويُحلق فيه الشعر.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة, عن الحكم قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدّث، عن علي: أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبّانة, فجاءه رجل فأخذ بلجام بغلته, فسأله عن الحج الأكبر, فقال: هو يومك هذا, خَلِّ سبيلها.
حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، حدثنا إسحاق, عن مالك بن مغول، وشُتَير, عن أبي إسحاق, عن الحارث, عن علي قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن أبي إسحاق, عن الحارث, عن علي قال: سئل عن يوم الحج الأكبر قال: هو يوم النحر.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شعبة, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار, عن علي: أنه لقيه رجل يوم النحر فأخذ بلجامه, فسأله عن يوم الحج الأكبر, قال: هو هذا اليوم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن قيس, عن عبد الملك بن عمير، وعياش العامري, عن عبد الله بن أبي أوفى قال: هو اليوم الذي تُهَراق فيه الدماء.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عبد الملك بن عمير, عن ابن أبي أوفى قال: الحج الأكبر, يوم تُهَرَاق فيه الدماء, ويحلق فيه الشعر, ويَحِلّ فيه الحرام.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال، حدثنا يحيى بن عيسى, عن الأعمش, عن عبد الله بن سنان قال: خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى علي بعير فقال: هذا يوم الأضحى, وهذا يوم النحر, وهذا يوم الحج الأكبر.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن الأعمش, عن عبد الله بن سنان قال: خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير وقال: هذا يوم الأضحى, وهذا يوم النحر, وهذا يوم الحج الأكبر.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن الأعمش, عن عبد الله بن سنان قال: خطبنا المغيرة بن شعبة, فذكر نحوه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن حماد بن سلمة, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي جحيفة قال: الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, قال: اختصم علي بن عبد الله بن عباس ورجل من آل شيبة في « يوم الحج الأكبر » ، قال علي: هو يوم النحر. وقال الذي من آل شيبة: هو يوم عرفة. فأرسل إلى سعيد بن جبير فسألوه, فقال: هو يوم النحر, ألا ترى أن من فاته يوم عرفة لم يفته الحج, فإذا فاته يوم النحر فقد فاته الحج؟
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يونس, عن سعيد بن جبير أنه قال: الحج الأكبر، يوم النحر. قال فقلت له: إن عبد الله بن شيبة، ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس اختلفا في ذلك, فقال محمد بن علي: هو يوم النحر. وقال عبد الله: هو يوم عرفة. فقال سعيد بن جبير: أرأيت لو أن رجلا فاته يوم عرفة، أكان يفوته الحج؟ وإذا فاته يوم النحر فاته الحج!
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن الشيباني, عن سعيد بن جبير قال: الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه قال، حدثني رجل, عن أبيه, عن قيس بن عبادة قال: ذو الحجة العاشر النحرُ, وهو يوم الحج الأكبر.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن شداد قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. والحج الأصغر، العمرة.
حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق, عن شريك, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن مسلم الحجبي قال: سألت نافع بن جبير بن مطعم عن يوم الحج الأكبر, قال: يوم النحر.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن المغيرة, عن إبراهيم قال: كان يقال: الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن عامر قال: يوم الحج الأكبر، يوم يُهَراق فيه الدم, ويحلّ فيه الحرام.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم أنه قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر، الذي يحلّ فيه كل حرام.
...... قال حدثنا هشيم, عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي, عن علي, قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن ابن عون قال: سألت محمدًا عن يوم الحجّ الأكبر فقال: كان يومًا وافق فيه حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحج أهل الوَبر.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمر بن ذر قال: سألت مجاهدًا عن يوم الحج الأكبر فقال: هو يوم النحر.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل, عن أبى إسحاق, عن مجاهد: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن ثور, عن مجاهد: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن عامر قال: يوم الحجّ الأكبر، يوم النحر وقال عكرمة: يوم الحج الأكبر: يوم النحر, يوم تهراق فيه الدماء, ويحلّ فيه الحرام قال وقال مجاهد: يوم يجمع فيه الحج كله, وهو يوم الحج الأكبر.
...... قال حدثنا إسرائيل, عن عبد الأعلى, عن محمد بن علي: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
...... قال، حدثنا إسرائيل, عن عبد الأعلى, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, مثله.
...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حماد بن سلمة, عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس, مثله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أبي إسحاق قال، قال علي: الحج الأكبر، يوم النحر قال: وقال الزهري: يوم النحر، يوم الحج الأكبر.
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني يونس، وعمرو، عن الزهري, عن حميد بن عبد الرحمن, عن أبي هريرة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الحجة التي أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع، في رَهْط يؤذِّنون في الناس يوم النحر: ألا لا يحجّ بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان قال الزهري: فكان حميد يقول: يوم النحر، يوم الحح الأكبر.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الشعبي, عن أبي إسحاق قال: سألت عبد الله بن شداد عن الحج الأكبر، والحج الأصغر, فقال: الحج الأكبر يوم النحر, والحج الأصغر العمرة.
...... قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أبي إسحاق قال، سألت عبد الله بن شداد, فذكر نحوه.
...... قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عبد الملك بن عمير قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: يوم الحج الأكبر، يوم يوضع فيه الشعر, ويُهَراق فيه الدم, ويحلّ فيه الحرام.
...... قال، حدثنا الثوري, عن أبي إسحاق, عن علي قال: الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس, عن عياش العامري, عن عبد الله بن أبي أوفى: أنه سئل عن يوم الحج الأكبر فقال: سبحان الله, هو يوم تهراق فيه الدماء, ويحل فيه الحرام, ويوضع فيه الشعر، وهو يوم النحر.
...... قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي حصين, عن عبد الله بن سنان, قال: خطبنا المغيرة بن شعبة على ناقة له فقال: هذا يوم النحر, وهذا يوم الحج الأكبر.
...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حسن بن صالح, عن مغيرة, عن إبراهيم قال، يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز, عن إبراهيم بن طهمان, عن مغيرة, عن إبراهيم: يوم الحج الأكبر، يوم النحر, يحلّ فيه الحرام.
حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا ابن عون, عن محمد بن سيرين, عن عبد الرحمن بن أبي بكرة, عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم, قعد على بعير له، وأخذ إنسان بخطامه أو: زمامه فقال: أي يوم هذا؟ قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسمِّيه غير اسمه فقال: أليس يوم الحج؟.
حدثنا سهل بن محمد السجستاني قال، حدثنا أبو جابر الحرمي قال، حدثنا هشام بن الغاز الجرشي, عن نافع, عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: هذا يوم الحج الأكبر.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن عمرو بن مرة, عن مرة الهمداني, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة, فقال: أتدرون أيَّ يوم يومكم؟ قالوا: يوم النحر! قال: صدقتم، يوم الحج الأكبر.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني عمرو بن مرة قال، حدثنا مرة قال، حدثنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد, عن أبيه, عن ...... قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا بأربع كلمات حين حج أبو بكر بالناس, فنادى ببراءة: إنه يوم الحج الأكبر, ألا إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, ألا ولا يطوف بالبيت عريان, ألا ولا يحج بعد العام مشرك, ألا ومن كان بينه وبين محمد عهدٌ فأجله إلى مدته, والله بريء من المشركين ورسوله.
حدثني يعقوب قال، حدثني هشيم, عن حجاج بن أرطأة, عن عطاء قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( يوم الحج الأكبر ) ، قال: يوم النحر، يوم يحلّ فيه المحرم, وينحر فيه البُدْن. وكان ابن عمر يقول: هو يوم النحر. وكان أبي يقوله. وكان ابن عباس يقول: هو يوم عرفة. ولم أسمع أحدًا يقول إنه يوم عرفة إلا ابن عباس. قال ابن زيد: والحج يفوت بفوت يوم النحر، ولا يفوت بفوت يوم عرفة, إن فاته اليوم لم يفته الليل, يقف ما بينه وبين طلوع الفجر.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: يوم الأضحى، يوم الحج الأكبر.
حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي, عن شعبة, عن عمرو بن مرة، قال، حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفتي هذه, حسبته قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر على ناقة حمراء مُخَضرَمة فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر.
وقال آخرون: معنى قوله: ( يوم الحج الأكبر ) ، حين الحجّ الأكبر ووقته. قال: وذلك أيام الحج كلها، لا يوم بعينه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( يوم الحج الأكبر ) ، حين الحجّ, أيامه كلها.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن عيينة, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: الحج الأكبر، أيام منى كلها, ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومَجَنَّة, حين نودي فيهم: أن لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ فعهده إلى مدته.
حدثني الحارث قال، حدثنا أبو عبيد قال، كان سفيان يقول: « يوم الحج » , و « يوم الجمل » , و « يوم صفين » ، أي: أيامه كلها.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد في قوله: ( يوم الحج الأكبر ) ، قال: حين الحجّ, أي: أيامه كلها.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة، قولُ من قال: « يوم الحج الأكبر، يوم النحر » ، لتظاهر الأخبار عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليًّا نادى بما أرسله به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرسالة إلى المشركين, وتلا عليهم « براءة » ، يوم النحر. هذا، مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم النحر: أتدرون أيّ يوم هذا؟ هذا يوم الحج الأكبر.
وبعدُ، فإن « اليوم » إنما يضاف إلى المعنى الذي يكون فيه, كقول الناس: « يوم عرفة » , وذلك يوم وقوف الناس بعرفة و « يوم الأضحى » , وذلك يوم يضحون فيه « ويوم الفطر » , وذلك يوم يفطرون فيه. وكذلك « يوم الحج » , يوم يحجون فيه، وإنما يحج الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر, لأن في ليلة نهار يوم النحر الوقوفُ بعرفة غير فائت إلى طلوع الفجر, وفي صبيحتها يعمل أعمال الحج. فأما يوم عرفة، فإنه وإن كان الوقوف بعرفة، فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر, والحج كله يوم النحر.
وأما ما قال مجاهد: من أن « يوم الحج » ، إنما هو أيامه كلها, فإن ذلك وإن كان جائزًا في كلام العرب, فليس بالأشهر الأعرف في كلام العرب من معانيه, بل أغلبُ على معنى « اليوم » عندهم أنه من غروب الشمس إلى مثله من الغد. وإنما محمل تأويل كتاب الله على الأشهر الأعرف من كلام من نـزل الكتابُ بلسانه.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل لهذا اليوم: « يوم الحج الأكبر » .
فقال بعضهم: سمي بذلك، لأن ذلك كان في سنة اجتمع فيها حجّ المسلمين والمشركين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن قال: إنما سمي « الحج الأكبر » ، من أجل أنه حج أبو بكر الحجة التي حجها, واجتمع فيها المسلمون والمشركون, فلذلك سمي « الحج الأكبر » , ووافق أيضًا عيدَ اليهود والنصارى.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حماد بن سلمة, عن علي بن زيد بن جدعان، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: يوم الحج الأكبر، كانت حجة الوداع، اجتمع فيه حج المسلمين والنصارى واليهود، ولم يجتمع قبله ولا بعده.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن الحسن قال: قوله: ( يوم الحج الأكبر ) ، قال: إنما سمي « الحج الأكبر » ، لأنه يوم حج فيه أبو بكر, ونُبذت فيه العهود.
وقال آخرون: « الحج الأكبر » ، القِرآنُ, و « الحج الأصغر » ، الإفراد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو بكر النهشلي, عن حماد, عن مجاهد قال: كان يقول: « الحج الأكبر » و « الحج الأصغر » ، فالحج الأكبر، القِرآن و « الحج الأصغر » ، إفراد الحج.
وقال آخرون: « الحج الأكبر » ، الحج و « الحج الأصغر » ، العمرة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج, عن عطاء, قال: « الحج الأكبر » ، الحج، و « الحج الأصغر » ، العمرة.
...... قال، حدثنا عبد الأعلى, عن داود, عن عامر قال: قلت له: هذا الحج الأكبر, فما « الحج الأصغر » ، قال: العمرة.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي قال: كان يقال: « الحج الأصغر » ، العمرة في رمضان.
...... قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد قال: كان يقال: « الحج الأصغر » ، العمرة.
...... قال، حدثنا عبد الرحمن, عن سفيان, عن أبي أسماء, عن عبد الله بن شداد قال: « يوم الحج الأكبر » ، يوم النحر, و « الحج الأصغر » ، العمرة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: أن أهل الجاهلية كانوا يسمون « الحج الأصغر » ، العمرة.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قول من قال: « الحج الأكبر، الحج » ، لأنه أكبر من العمرة بزيادة عمله على عملها, فقيل له: « الأكبر » ، لذلك. وأما « الأصغر » فالعمرة, لأن عملها أقل من عمل الحج, فلذلك قيل لها: « الأصغر » ، لنقصان عملها عن عمله.
وأما قوله: ( أن الله بريء من المشركين ورسوله ) ، فإن معناه: أن الله بريء من عهد المشركين ورسوله، بعد هذه الحجة.
قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: وإعلام من الله ورسوله إلى الناس في يوم الحج الأكبر: أن الله ورسوله من عهد المشركين بريئان، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( أن الله بريء من المشركين ورسوله ) ، أي: بعد الحجة.
القول في تأويل قوله : فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 3 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( فإن تبتم ) ، من كفركم، أيها المشركون, ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد فالرجوع إلى ذلك ( خير لكم ) ، من الإقامة على الشرك في الدنيا والآخرة ( وإن توليتم ) ، يقول: وإن أدبرتم عن الإيمان بالله وأبيتم إلا الإقامة على شرككم ( فاعلموا أنكم غير معجزي الله ) ، يقول: فأيقنوا أنكم لا تُفِيتون الله بأنفسكم من أن يحلّ بكم عذابه الأليم وعقابه الشديد، على إقامتكم على الكفر, كما فعل بمن قبلكم من أهل الشرك من إنـزال نقمه به، وإحلاله العذاب عاجلا بساحته ( وبشر الذين كفروا ) ، يقول: واعلم، يا محمد، الذين جحدوا نبوتك وخالفوا أمر ربهم ( بعذاب ) ، موجع يحلُّ بهم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قوله: ( فإن تبتم ) ، قال: آمنتم.
القول في تأويل قوله : إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( 4 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ،, إلا من عَهْدِ الذين عاهدتم من المشركين، أيها المؤمنون ( ثم لم ينقصوكم شيئا ) ، من عهدكم الذي عاهدتموهم ( ولم يظاهروا عليكم أحدًا ) ، من عدوكم, فيعينوهم بأنفسهم وأبدانهم, ولا بسلاح ولا خيل ولا رجال ( فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) ، يقول: فَفُوا لهم بعهدهم الذي عاهدتموهم عليه, ولا تنصبوا لهم حربًا إلى انقضاء أجل عهدهم الذي بينكم وبينهم ( إن الله يحب المتقين ) ، يقول: إن الله يحب من اتقاه بطاعته، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) ، يقول: إلى أجلهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ) ، : أي العهد الخاص إلى الأجل المسمى ( ثم لم ينقصوكم شيئا ) ، الآية.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا ) ، الآية, قال: هم مشركو قريش، الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر. فأمر الله نبيه أن يوفي لهم بعهدهم إلى مدتهم, ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم, ونبذ إلى كل ذي عهد عهده, وأمره بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله, وأن لا يقبل منهم إلا ذلك.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: مدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنـزل « براءة » أربعة أشهر، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من شهر ربيع الآخر, وذلك أربعة أشهر. فإن نقضَ المشركون عهدهم، وظاهروا عدوًّا فلا عهد لهم. وإن وفوْا بعهدهم الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يظاهروا عليه عدوًّا, فقد أمر أن يؤدِّي إليهم عهدهم ويفي به.
القول في تأويل قوله : فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 5 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) ، فإذا انقضى ومضى وخرج.
يقال منه: سلخنا شهر كذا نسلَخه سَلْخًا وسُلُوخًا, بمعنى: خرجنا منه. ومنه قولهم: « شاة مسلوخة » , بمعنى: المنـزوعة من جلدها، المخرجة منه.
ويعني بـ « الأشهر الحرم » ، ذا القعدة, وذا الحجة, والمحرم.
وإنما أريد في هذا الموضع انسلاخ المحرم وحده, لأن الأذان كان ببراءة يوم الحج الأكبر. فمعلوم أنهم لم يكونوا أجَّلوا الأشهرَ الحرم كلَّها وقد دللنا على صحة ذلك فيما مضى ولكنه لما كان متصلا بالشهرين الآخرين قبله الحرامين، وكان هو لهما ثالثًا، وهي كلها متصل بعضها ببعض، قيل: « فإذا انسلخ الأشهر الحرم » ، ومعنى الكلام: فإذا انقضت الأشهر الحرم الثلاثة عن الذين لا عهد لهم, أو عن الذين كان لهم عهد فنقضوا عهدهم بمظاهرتهم الأعداءَ على رسول الله وعلى أصحابه, أو كان عهدهم إلى أجل غيره معلوم.
( فاقتلوا المشركين ) ، يقول: فاقتلوهم ( حيث وجدتموهم ) ، يقول: حيث لقيتموهم من الأرض، في الحرم، وغير الحرم في الأشهر الحرم وغير الأشهر الحرم ( وخذوهم ) يقول: وأسروهم ( واحصروهم ) ، يقول: وامنعوهم من التصرف في بلاد الإسلام ودخول مكة ( واقعدوا لهم كل مرصد ) ، يقول: واقعدوا لهم بالطلب لقتلهم أو أسرهم « كل مرصد » ، يعني: كل طريق ومرقَب.
وهو « مفعل » ، من قول القائل: « رصدت فلانًا أرصُده رَصْدًا » , بمعنى: رقبته.
( فإن تابوا ) ، يقول: فإن رجعوا عما نهاهم عليه من الشرك بالله وجحود نبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد, والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ( وأقاموا الصلاة ) ، يقول: وأدّوا ما فرض الله عليهم من الصلاة بحدودها وأعطوا الزكاة التي أوجبها الله عليهم في أموالهم أهلها ( فخلوا سبيلهم ) ، يقول: فدعوهم يتصرفون في أمصاركم، ويدخلون البيت الحرام ( إن الله غفور رحيم ) ، لمن تاب من عباده فأناب إلى طاعته، بعد الذي كان عليه من معصيته, ساتر على ذنبه, رحيم به، أن يعاقبه على ذنوبه السالفة قبل توبته, بعد التوبة.
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في الذين أجِّلوا إلى انسلاخ الأشهر الحرم.
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع, عن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا يشرك له شيئًا, فارقها والله عنه راضٍ قال: وقال أنس: هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هَرْج الأحاديث، واختلاف الأهواء. وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنـزل الله, قال الله: ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) ، قال: توبتهم، خلع الأوثان، وعبادة ربهم, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ، [ سورة التوبة: 11 ] .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، حتى ختم آخر الآية. وكان قتادة يقول: خلوا سبيل من أمركم الله أن تخلوا سبيله, فإنما الناس ثلاثة: رَهْط مسلم عليه الزكاة، ومشرك عليه الجزية، وصاحب حرب يأمن بتجارته في المسلمين إذا أعطى عُشُور ماله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) ، وهي الأربعة التي عددت لك يعني: عشرين من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيعًا الأول، وعشرًا من شهر ربيع الآخر.
وقال قائلو هذه المقالة: قيل لهذه: « الأشهر الحرم » ، لأن الله عز وجل حرّم على المؤمنين فيها دماءَ المشركين، والعَرْضَ لهم إلا بسبيلِ خيرٍ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن إبراهيم بن أبي بكر: أنه أخبره عن مجاهد وعمرو بن شعيب في قوله: ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) ، أنها الأربعة التي قال الله: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ ، قال: هي « الحُرم » ، من أجل أنهم أومنوا فيها حتى يسيحوها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، قال: ضُرِب لهم أجلُ أربعة أشهر, وتبرأ من كل مشرك. ثم أمر إذا انسلخت تلك الأشهر الحرم ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ) ، لا تتركوهم يضربون في البلاد, ولا يخرجوا لتجارة, ضَيِّقوا عليهم بعدها. ثم أمر بالعفو ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ) ،.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) ، يعني: الأربعة التي ضربَ الله لهم أجلا لأهل العهد العامّ من المشركين ( فاقتلوهم حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ) ، الآية.
القول في تأويل قوله : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ( 6 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن استأمنك، يا محمد، من المشركين، الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، أحدٌ ليسمع كلام الله منك وهو القرآن الذي أنـزله الله عليه ( فأجره ) ، يقول: فأمّنه حتى يسمع كلام الله وتتلوه عليه ( ثم أبلغه مأمنه ) ، يقول: ثم رُدَّه بعد سماعه كلام الله إن هو أبَي أن يسلم، ولم يتعظ لما تلوته عليه من كلام الله فيؤمن « إلى مأمنه » , يقول: إلى حيث يأمن منك وممن في طاعتك، حتى يلحق بداره وقومه من المشركين ( ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) ، يقول: تفعل ذلك بهم، من إعطائك إياهم الأمان ليسمعوا القرآن, وردِّك إياهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم, من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة، ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا، وما عليهم من الوِزْر والإثم بتركهم الإيمان بالله.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( وإن أحد من المشركين استجارك ) ، أي: من هؤلاء الذين أمرتك بقتالهم, ( فأجره ) .
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فأجره حتى يسمع كلام الله ) ، أما « كلام الله » ، فالقرآن.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ) ، قال: إنسان يأتيك فيسمع ما تقول، ويسمع ما أنـزل عليك، فهو آمنٌ حتى يأتيك فيسمع كلام الله, وحتى يبلغ مأمنه، حيث جاءه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, بنحوه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد قال: خرج رسوله الله صلى الله عليه وسلم غازيًا, فلقي العدوَّ, وأخرج المسلمون رجلا من المشركين وأشرعوا فيه الأسنّة, فقال الرجل: ارفعوا عني سلاحكم, وأسمعوني كلام الله ! فقالوا: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وتخلع الأنداد، وتتبرأ من اللات والعزى! فقال: فإنّي أشهدكم أني قد فعلت.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ثم أبلغه مأمنه ) ، قال: إن لم يوافقه ما تتلو عليه وتحدثه, فأبلغه. قال: وليس هذا بمنسوخ.
واختلفت في حكم هذه الآية, وهل هو منسوخ أو هو غير منسوخ؟
فقال بعضهم: هو غير منسوخ. وقد ذكرنا قول من قال ذلك.
وقال آخرون: هو منسوخ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن جويبر, عن الضحاك: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، نسختها: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ،. [ سورة محمد: 4 ]
...... قال، حدثنا سفيان, عن السدي, مثله.
وقال آخرون: بل نسخ قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ، قوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان, عن ابن أبي عروبة, عن قتادة: حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ ، [ سورة محمد : 4 ] نسخها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ،
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قولُ من قال: « ليس ذلك بمنسوخ » . وقد دللنا على أن معنى « النسخ » ، هو نفي حكم قد كان ثبت بحكم آخر غيره. ولم تصحّ حجةٌ بوجوب حكم الله في المشركين بالقتل بكل حال، ثم نسخه بترك قتلهم على أخذ الفداء، ولا على وجه المنّ عليهم. فإذ كان ذلك كذلك، وكان الفداء والمنّ والقتل لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم, وذلك من يوم بدر كان معلومًا أن معنى الآية: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم, وخذوهم للقتل أو المنِّ أو الفداء، واحصروهم. وإذا كان ذلك معناه، صحّ ما قلنا في ذلك دون غيره.
القول في تأويل قوله : كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( 7 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أنّى يكون أيها المؤمنون بالله ورسوله, وبأيِّ معنى، يكون للمشركين بربهم عهدٌ وذمة عند الله وعند رسوله, يوفّى لهم به, ويتركوا من أجله آمنين يتصرفون في البلاد؟ وإنما معناه: لا عهد لهم, وأن الواجب على المؤمنين قتلهم حيث وجدوهم، إلا الذين أعطوا العهد عند المسجد الحرام منهم, فإن الله جل ثناؤه أمرَ المؤمنين بالوفاء لهم بعهدهم، والاستقامة لهم عليه, ما داموا عليه للمؤمنين مستقيمين.
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: ( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) .
فقال بعضهم: هم قوم من جذيمة بن الدُّئِل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) ، هم بنو جذيمة بن الدُّئِل.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن محمد بن عباد بن جعفر قوله: ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ) ، قال: هم جذيمة بكر كنانة.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( كيف يكون للمشركين ) ، الذين كانوا هم وأنتم على العهد العام، بأن لا تخيفوهم ولا يخيفوكم في الحرمة ولا في الشهر الحرام ( عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) ، وهي قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدهم يوم الحديبية، إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش, فلم يكن نَقَضَها إلا هذا الحيُّ من قريش، وبنو الدُّئِل من بكر. فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده من بني بكر إلى مدته ( فما استقاموا لكم ) ، الآية.
وقال آخرون: هم قريش.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس قوله: ( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) ، هم قريش.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) ، يعني: أهل مكة.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) ، يقول: هم قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة, ولا ينبغي لمشرك أن يدخل المسجد الحرام ولا يعطي المسلمَ الجزيةَ. ( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) ، يعني: أهل العهد من المشركين.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) ، قال: هؤلاء قريش. وقد نسخ هذا الأشهر التي ضربت لهم, وغدروا بهم فلم يستقيموا, كما قال الله. فضرب لهم بعد الفتح أربعة أشهر، يختارون من أمرهم: إما أن يسلموا, وإما أن يلحقوا بأيِّ بلاد شاؤوا. قال: فأسلموا قبل الأربعة الأشهر, وقبل قَتْلٍ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر، عن قتادة: ( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) ، قال: هو يوم الحديبية، قال: فلم يستقيموا, نقضوا عهدهم، أي أعانوا بني بكرٍ حِلْفِ قريش، على خزاعة حِلْفِ النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: هم قوم من خزاعة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن عيينة, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) ، قال: أهل العهد من خزاعة.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي، قولُ من قال: هم بعضُ بني بكر من كنانة, ممن كان أقام على عهده، ولم يكن دخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد مع قريش، حين نقضوه بمعونتهم حلفاءَهم من بني الدُّئِل، على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة.
وإنما قلتُ: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الله أمر نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام, ما استقاموا على عهدهم. وقد بينَّا أن هذه الآيات إنما نادى بها عليّ في سنة تسع من الهجرة, وذلك بعد فتح مكة بسنة, فلم يكن بمكة من قريش ولا خزاعة كافرٌ يومئذ بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ، فيؤمر بالوفاء له بعهده ما استقام على عهده, لأنّ من كان منهم من ساكني مكة، كان قد نقض العهد وحورب قبل نـزول هذه الآيات.
وأما قوله: ( إن الله يحب المتقين ) ، فإن معناه: إن الله يحب من اتقى الله وراقبه في أداء فرائضه, والوفاء بعهده لمن عاهده, واجتناب معاصيه, وترك الغدر بعهوده لمن عاهده.
القول في تأويل قوله : كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ( 8 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم أو لمن لا عهد له منهم منكم، أيها المؤمنون، عهد وذمة, وهم ( إن يظهروا عليكم ) ، يغلبوكم ( لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) .
واكتفى بـ « كيف » دليلا على معنى الكلام, لتقدم ما يراد من المعني بها قبلها. وكذلك تفعل العرب، إذا أعادت الحرف بعد مضيّ معناه، استجازوا حذف الفعل, كما قال الشاعر:
وَخَبَّرْتُمَـانِي أَنَّمَـا الْمَـوْتُ فِي الْقُرَى فَكَــيْفَ وَهَــذِي هَضْبَـةٌ وَكَـثِيبُ
فحذف الفعل بعد « كيف » ، لتقدم ما يراد بعدها قبلها. ومعنى الكلام: فكيف يكون الموت في القرى، وهذي هضبة وكثيب، لا ينجو فيهما منه أحد.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) .
فقال بعضهم، معناه: لا يرقبوا الله فيكم ولا عهدًا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا ، [ سورة التوبة: 10 ] ، قال: الله.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن سليمان, عن أبي مجلز في قوله: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً ، قال: مثل قوله: « جبرائيل » ، « ميكائيل » ، « إسرافيل » , كأنه يقول: يضيف « جَبْر » و « ميكا » و « إسراف » ، إلى « إيل » , يقول: عبد الله لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا ، كأنه يقول: لا يرقبون الله.
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثني محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إلا ولا ذمة ) ، لا يرقبون الله ولا غيره.
وقال آخرون: « الإلّ » ، القرابة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً ، يقول: قرابةً ولا عهدًا. وقوله: ( وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) ، قال: « الإل » ، يعني: القرابة, و « الذمة » ، العهد.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) ، « الإلّ » ، القرابة, و « الذمة » ، العهد، يعني أهل العهد من المشركين, يقول: ذمتهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية وعبدة، عن جويبر, عن الضحاك، « الإل » ، القرابة.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا محمد بن عبد الله, عن سلمة بن كهيل, عن عكرمة, عن ابن عباس: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً ، قال: « الإلّ » ، القرابة، و « الذمة » ، العهد.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان, قال سمعت، الضحاك يقول في قوله: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً ، « الإل » ، القرابة, و « الذمة » ، الميثاق.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( كيف وإن يظهروا عليكم ) ، المشركون ( لا يرقبوا فيكم ) ، عهدًا ولا قرابة ولا ميثاقًا.
وقال آخرون: معناه: الحلف.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) ، قال: « الإل » ، الحلف, و « الذمة » ، العهد.
وقال آخرون: « الإلّ » ، هو العهد، ولكنه كرِّر لما اختلف اللفظان، وإن كان معناهما واحدًا.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إلا ) ، قال: عهدًا.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) ، قال: لا يرقبوا فيكم عهدًا ولا ذمة. قال: إحداهما من صاحبتها كهيئة « غفور » ، « رحيم » , قال: فالكلمة واحدة، وهي تفترق. قال: والعهد هو « الذمة » .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن خصيف, عن مجاهد ( ولا ذمة ) ، قال: العهد.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس, عن خصيف, عن مجاهد: ( ولا ذمة ) ، قال: « الذمة » ، العهد.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المشركين الذين أمر نبيَّه والمؤمنين بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، وحصرهم والقعود لهم على كل مرصد: أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم « إلا » .
و « الإلّ » : اسم يشتمل على معان ثلاثة: وهي العهد، والعقد, والحلف, والقرابة, وهو أيضا بمعنى « الله » . فإذْ كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة, ولم يكن الله خصّ من ذلك معنى دون معنى, فالصواب أن يُعَمّ ذلك كما عمّ بها جل ثناؤه معانيها الثلاثة, فيقال: لا يرقبون في مؤمنٍ اللهَ, ولا قرابةً, ولا عهدًا, ولا ميثاقًا.
ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى « القرابة » قول ابن مقبل:
أَفْسَــدَ النَّــاسَ خُــلُوفٌ خَــلَفُوا قَطَعُـــوا الإلَّ وَأَعْــرَاقَ الرَّحِــمْ
بمعنى: قطعوا القرابة، وقول حسان بن ثابت:
لَعَمْــرُكَ إِنَّ إِلَّــكَ مِــنْ قُـرَيْشٍ كَــإلِّ السَّــقْبِ مِــنْ رَأْلِ النَّعـامِ
وأما معناه إذا كان بمعنى « العهد » ، فقول القائل:
وَجَدْنَــاهُمُ كَاذِبًـــا إلُّهُـــمْ وَذُو الإلِّ وَالْعَهْــــدِ لا يَكْـــذِبُ
وقد زعم بعض من ينسب إلى معرفة كلام العرب من البصريين: أن « الإلّ » ، و « العهد » ، و « الميثاق » ، و « اليمين » واحد وأن « الذمة » في هذا الموضع، التذمم ممن لا عهد له, والجمع: « ذِمَم » .
وكان ابن إسحاق يقول: عنى بهذه الآية أهل العهد العام.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( كيف وإن يظهروا عليكم ) ، أي: المشركون الذين لا عهد لهم إلى مدة من أهل العهد العام ( لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) .
فأما قوله: ( يرضونكم بأفواههم ) ، فإنه يقول: يعطونكم بألسنتهم من القول، خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء ( وتأبى قلوبهم ) ، أي: تأبَى عليهم قلوبهم أن يذعنوا لكم، بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم. يحذِّر جل ثناؤه أمرَهم المؤمنين، ويشحذهم على قتلهم واجتياحهم حيث وجدوا من أرض الله, وأن لا يقصِّروا في مكروههم بكل ما قدروا عليه ( وأكثرهم فاسقون ) ، يقول: وأكثرهم مخالفون عهدَكم، ناقضون له, كافرون بربهم، خارجون عن طاعته.
القول في تأويل قوله : اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 9 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ابتاع هؤلاء المشركون الذين أمركم الله، أيها المؤمنون، بقتلهم حيث وجدتموهم، بتركهم اتباعَ ما احتج الله به عليهم من حججه، يسيرًا من العوض قليلا من عرض الدنيا.
وذلك أنهم، فيما ذُكر عنهم، كانوا نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكلةٍ أطعمهموها أبو سفيان بن حرب.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلا ) ، قال: أبو سفيان بن حرب أطعم حلفاءه, وترك حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.
وأما قوله: ( فصدوا عن سبيله ) ، فإن معناه: فمنعوا الناس من الدخول في الإسلام, وحاولوا ردَّ المسلمين عن دينهم ( إنهم ساء ما كانوا يعملون ) ، يقول جل ثناؤه: إن هؤلاء المشركين الذين وصفت صفاتهم, ساء عملهم الذي كانوا يعملون، من اشترائهم الكفرَ بالإيمان، والضلالة بالهدى, وصدهم عن سبيل الله من آمن بالله ورسوله، أو من أراد أن يؤمن.
القول في تأويل قوله : لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ( 10 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا يتقي هؤلاء المشركون الذين أمرتكم، أيها المؤمنون، بقتلهم حيث وجدتموهم، في قتل مؤمن لو قدورا عليه ( إلا ولا ذمة ) ، يقول: فلا تبقوا عليهم، أيها المؤمنون, كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم ( وأولئك هم المعتدون ) ، يقول: المتجاوزون فيكم إلى ما ليس لهم بالظلم والاعتداء.
القول في تأويل قوله : فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 11 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: فإن رجع هؤلاء المشركون الذين أمرتكم، أيها المؤمنون، بقتلهم عن كفرهم وشركهم بالله، إلى الإيمان به وبرسوله، وأنابوا إلى طاعته ( وأقاموا الصلاة ) ، المكتوبة، فأدّوها بحدودها ( وآتوا الزكاة ) ، المفروضة أهلَها ( فإخوانكم في الدين ) ، يقول: فهم إخوانكم في الدين الذي أمركم الله به, وهو الإسلام ( ونفصل الآيات ) ، يقول: ونبين حجج الله وأدلته على خلقه ( لقوم يعلمون ) ، ما بُيِّن لهم، فنشرحها لهم مفصلة، دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله بيانه ومحكم آياته.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) ، يقول: إن تركوا اللات والعزّى, وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ( فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون ) .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث, عن ليث, عن رجل, عن ابن عباس: ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) ، قال: حرَّمت هذه الآية دماءَ أهل القِبْلة.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعًا لم يفرَّق بينهما. وقرأ: ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) ، وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال: رحم الله أبا بكر، ما كان أفقهه.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عبد الله قال: أمرتم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة, ومن لم يزك فلا صلاة له.
وقيل: ( فإخوانكم ) ، فرفع بضمير: « فهم إخوانكم » , إذ كان قد جرى ذكرهم قبل, كما قال: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ، [ سورة الأحزاب: 5 ] ، فهم إخوانكم في الدين.
القول في تأويل قوله : وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ( 12 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن نقض هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم من قريش، عهودَهم من بعد ما عاقدوكم أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدًا من أعدائكم ( وطعنوا في دينكم ) ، يقول: وقدَحوا في دينكم الإسلام, فثلبوه وعابوه ( فقاتلوا أئمة الكفر ) ، يقول: فقاتلوا رؤساء الكفر بالله ( إنهم لا أيمان لهم ) ، يقول: إن رؤساء الكفر لا عهد لهم ( لعلهم ينتهون ) ، لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل، على اختلاف بينهم في المعنيِّين بأئمة الكفر.
فقال بعضهم: هم أبو جهل بن هشام, وعتبة بن ربيعة, وأبو سفيان بن حرب ونظراؤهم. وكان حذيفة يقول: لم يأت أهلها بعدُ.
* ذكر من قال: هم من سمَّيتُ:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ) ، إلى: ( لعلهم ينتهون ) ، يعني أهل العهد من المشركين, سماهم « أئمة الكفر » , وهم كذلك. يقول الله لنبيه: وإن نكثوا العهد الذي بينك وبينهم، فقاتلهم، أئمةُ الكفر لا أيمان لهم ( لعلهم ينتهون ) .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ) ، إلى: ( ينتهون ) ، فكان من أئمة الكفر: أبو جهل بن هشام, وأمية بن خلف, وعتبة بن ربيعة, وأبو سفيان, وسهيل بن عمرو, وهم الذين همُّوا بإخراجه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أئمة الكفر ) ، أبو سفيان, وأبو جهل, وأمية بن خلف, وسهيل بن عمرو, وعتبة بن ربيعة.
حدثنا ابن وكيع وابن بشار قال، ابن وكيع، حدثنا غندر وقال ابن بشار، حدثنا محمد بن جعفر, عن شعبة, عن أبي بشر, عن مجاهد: ( فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم ) ، قال: أبو سفيان منهم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن نكثوا أيمانهم ) ، إلى: ( ينتهون ) ، هؤلاء قريش. يقول: إن نكثوا عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام، وطعنوا فيه, فقاتلهم.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( فقاتلوا أئمة الكفر ) ، يعني رؤوسَ المشركين، أهلَ مكة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( فقاتلوا أئمة الكفر ) ، أبو سفيان بن حرب, وأمية بن خلف, وعتبة بن ربيعة, وأبو جهل بن هشام, وسهيل بن عمرو, وهم الذين نكثوا عهد الله، وهمُّوا بإخراج الرسول. وليس والله كما تأوَّله أهل الشبهات والبدع والفِرَى على الله وعلى كتابه.
* ذكر الرواية عن حذيفة بالذي ذكرنا عنه:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن زيد بن وهب, عن حذيفة: ( فقاتلوا أئمة الكفر ) ، قال: ما قوتل أهلُ هذه الآية بعدُ.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا حبيب بن حسان, عن زيد بن وهب قال: كنت عند حذيفة, فقرأ هذه الآية: ( فقاتلوا أئمة الكفر ) ، فقال: ما قوتل أهل هذه الآية بعدُ.
حدثني أبو السائب قال، حدثنا الأعمش, عن زيد بن وهب قال: قرأ حذيفة: ( فقاتلوا أئمة الكفر ) ، قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعدُ.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان، وإسرائيل, عن أبي إسحاق, عن صلة بن زفر: ( إنهم لا أيمان لهم ) ، لا عهد لهم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( وإن نكثوا أيمانهم ) ، قال: عهدهم.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن نكثوا أيمانهم ) ، عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن صلة, عن عمار بن ياسر, في قوله: ( لا أيمان لهم ) ، قال: لا عهد لهم.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص, عن أبي إسحاق, عن صلة بن زفر, عن حذيفة في قوله: ( فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم ) ، قال: لا عهد لهم.
وأما « النكث » فإن أصله النقض, يقال منه: « نكث فلان قُوَى حبله » ، إذا نقضها.
و « الأيمان » : جمع « اليمين » .
واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( إنهم لا أيمان لهم ) .
فقرأه قرأة الحجاز والعراق وغيرهم: ( إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ ) ، بفتح الألف من « أيمان » بمعنى: لا عهود لهم، على ما قد ذكرنا من قول أهل التأويل فيه.
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: ( إِنَّهُمْ لا إِيمَانَ لَهُمْ ) ، بكسر الألف, بمعنى: لا إسلام لهم.
وقد يتوجَّه لقراءته كذلك وجهٌ غير هذا. وذلك أن يكون أراد بقراءته ذلك كذلك: أنهم لا أمان لهم أي: لا تؤمنوهم, ولكن اقتلوهم حيث وجدتموهم كأنه أراد المصدر من قول القائل: « آمنته فأنا أومنه إيمانًا » .
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك، الذي لا أستجيز القراءة بغيره, قراءة من قرأ بفتح « الألف » دون كسرها, لإجماع الحجة من القرأة على القراءة به، ورفض خلافه, ولإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من أن تأويله: لا عهد لهم و « الأيمان » التي هي بمعنى العهد, لا تكون إلا بفتح « الألف » , لأنها جمع « يمين » كانت على عقدٍ كان بين المتوادعين.
القول في تأويل قوله : أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 13 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله، حاضًّا لهم على جهاد أعدائهم من المشركين: ( ألا تقاتلون ) ، أيها المؤمنون، هؤلاء المشركين الذين نقضوا العهد الذي بينكم وبينهم، وطعنوا في دينكم، وظاهروا عليكم أعداءكم، ( وهموا بإخراج الرسول ) ، من بين أظهرهم فاخرجوه ( وهم بدءوكم أول مرة ) ، بالقتال, يعني فعلهم ذلك يوم بدر، وقيل: قتالهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة ( أتخشونهم ) ، يقول: أتخافونهم على أنفسكم فتتركوا قتالهم خوفًا على أنفسكم منهم ( فالله أحق أن تخشوه ) ، يقول: فالله أولى بكم أن تخافوا عقوبته بترككم جهادهم, وتحذروا سخطه عليكم، من هؤلاء المشركين الذين لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا إلا بإذن الله ( إن كنتم مؤمنين ) ، يقول: إن كنتم مقرِّين أن خشية الله لكم أولى من خشية هؤلاء المشركين على أنفسكم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ) ، من بعد عهدهم ( وهموا بإخراج الرسول ) ، يقول: هموا بإخراجه فأخرجوه ( وهم بدءوكم أول مرة ) ، بالقتال.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وهم بدءوكم أول مرة ) ، قال: قتال قريش حلفاءَ محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, بنحوه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: أمر الله رسوله بجهاد أهل الشرك ممن نقض من أهل العهد الخاص، ومن كان من أهل العهد العامّ، بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم أجلا إلا أن يعدُوَ فيها عادٍ منهم، فيقتل بعدائه، ثم قال: ( ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول ) ، إلى قوله: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ .
القول في تأويل قوله : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ( 14 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قاتلوا، أيها المؤمنون بالله ورسوله، هؤلاء المشركين الذين نكثوا أيمانهم، ونقضوا عهودهم بينكم وبينهم, وأخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم ( يعذبهم الله بأيديكم ) ، يقول: يقتلهم الله بأيديكم ( ويخزهم ) ، يقول: ويذلهم بالأسر والقهر ( وينصركم عليهم ) ، فيعطيكم الظفر عليهم والغلبة ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) ، يقول: ويبرئ داء صدور قوم مؤمنين بالله ورسوله، بقتل هؤلاء المشركين بأيديكم، وإذلالكم وقهركم إياهم. وذلك الداء، هو ما كان في قلوبهم عليهم من الموْجِدة بما كانوا ينالونهم به من الأذى والمكروه.
وقيل: إن الله عنى بقوله: ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) ، : صدورَ خزاعة حلفاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن قريشًا نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعونتهم بكرًا عليهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى وابن وكيع قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد في هذه الآية: ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) ، قال: خزاعة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي, عن أسباط, عن السدي: ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) ، قال: خزاعة، يشف صدورهم من بني بكر.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط, عن السدي, مثله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) ، خزاعة حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, عن مجاهد: ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) ، قال: حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.
القول في تأويل قوله : وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 15 )
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: ويذهب وَجْدَ قلوب هؤلاء القوم المؤمنين من خزاعة, على هؤلاء القوم الذين نكثوا أيمانهم من المشركين، وغمَّها وكربَها بما فيها من الوجد عليهم, بمعونتهم بكرًا عليهم، كما:-
حدثني ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي, عن أسباط, عن السدي: ( ويذهب غيظ قلوبهم ) ، حين قتلهم بنو بكر، وأعانتهم قريش.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, مثله إلا أنه قال: وأعانتهم عليهم قريش.
وأما قوله: ( ويتوب الله على من يشاء ) ، فإنه خبر مبتدأ, ولذلك رفع، وجُزِم الأحرفُ الثلاثة قبل ذلك على وجه المجازاة, كأنه قال: قاتلوهم، فإنكم إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم, ويخزهم, وينصركم عليهم ثم ابتدأ فقال: ( ويتوب الله على من يشاء ) ، لأن القتال غير موجب لهم التوبةَ من الله, وهو موجبٌ لهم العذابَ من الله، والخزيَ، وشفاءَ صدور المؤمنين، وذهابَ غيظ قلوبهم, فجزم ذلك شرطًا وجزاءً على القتال, ولم يكن موجبًا القتالُ التوبةَ, فابتُدِئ الخبرُ به ورُفع.
ومعنى الكلام: ويمنّ الله على من يشاء من عباده الكافرين, فيقبل به إلى التوبة بتوفيقه إياه ( والله عليم ) ، بسرائر عباده، ومَنْ هو للتوبة أهلٌ فيتوب عليه, ومَنْ منهم غير أهل لها فيخذله ( حكيم ) ، في تصريف عباده من حال كفر إلى حال إيمان بتوفيقه من وفَّقه لذلك ومن حال إيمان إلى كفر، بخذلانه من خذل منهم عن طاعته وتوحيده, وغير ذلك من أمرهم.
القول في تأويل قوله : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 16 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين الذين أمرهم بقتال هؤلاء المشركين, الذين نقضوا عهدهم الذي بينهم وبينه بقوله: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ، الآية, حاضًّا على جهادهم: ( أم حسبتم ) ، أيها المؤمنون أن يترككم الله بغير محنة يمتحنكم بها، وبغير اختبار يختبركم به, فيعرف الصادقَ منكم في دينه من الكاذب فيه ( ولما يعلم الله الذين جاهدوا ) ، يقول: أحسبتم أن تتركوا بغير اختبار يعرف به أهل ولايته المجاهدين منكم في سبيله, من المضيِّعين أمرَ الله في ذلك المفرِّطين ( ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ) ، يقول: ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم, والذين لم يتخذوا من دون الله ولا من دون رسوله ولا من دون المؤمنين ( وليجة ) .
هو الشيء يدخل في آخر غيره, يقالُ منه: « ولج فلان في كذا يلجِه، فهو وليجة » .
وإنما عنى بها في هذا الموضع: البطانة من المشركين. نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء، يفشون إليهم أسرارهم ( والله خبير بما تعملون ) ، يقول: والله ذو خبرة بما تعملون، من اتخاذكم من دون الله ودون رسوله والمؤمنين به أولياءَ وبطانةً، بعد ما قد نهاكم عنه, لا يخفى ذلك عليه، ولا غيره من أعمالكم, والله مجازيكم على ذلك، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا.
وبنحو الذي قلت في معنى « الوليجة » ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا المؤمنين وليجة ) ، يتولّجها من الولاية للمشركين.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع: ( وليجة ) ، قال: دَخَلا.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: ( أم حسبتم أن تتركوا ) ، إلى قوله: ( وليجة ) ، قال: أبي أن يدعهم دون التمحيص. وقرأ: ( « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ » ، وقرأ: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ) ، [ سورة آل عمران : 142 ] ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ، الآيات كلها, [ سورة البقرة 214 ] أخبرهم أن لا يتركهم حتى يمحِّصهم ويختبرهم. وقرأ: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، لا يختبرون وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ، [ سورة العنكبوت: 1 - 3 ] ، أبى الله إلا أن يمَحِّص.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( وليجة ) ، قال: هو الكفر والنفاق أو قال أحدَهما.
وقيل: ( أم حسبتم ) ، ولم يقل: « أحسبتم » , لأنه من الاستفهام المعترض في وسط الكلام, فأدخلت فيه « أم » ليفرَّق بينه وبين الاستفهام المبتدأ. وقد بينت نظائر ذلك في غير موضع من الكتاب.
القول في تأويل قوله : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( 17 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر. يقول: إن المساجد إنما تعمر لعبادة الله فيها، لا للكفر به, فمن كان بالله كافرًا، فليس من شأنه أن يعمُرَ مساجد الله.
وأما شهادتهم على أنفسهم بالكفر, فإنها كما:-
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) ، يقول: ما ينبغي لهم أن يعمروها. وأما ( شاهدين على أنفسهم بالكفر ) ، فإن النصراني يسأل: ما أنت؟ فيقول: نصراني واليهودي, فيقول: يهودي والصابئ, فيقول: صابئ والمشرك يقول إذا سألته: ما دينك؟ فيقول: مشرك ! لم يكن ليقوله أحدٌ إلا العرب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو العنقزي, عن أسباط, عن السدي: ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) ، قال: يقول: ما كان ينبغي لهم أن يعمروها.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو, عن أسباط, عن السدي: ( شاهدين على أنفسهم بالكفر ) ، قال: النصراني يقال له: ما أنت؟ فيقول: نصراني واليهودي يقال له: ما أنت؟ فيقول: يهودي والصابئ يقال له: ما أنت؟ فيقول: صابئ.
وقوله: ( أولئك حبطت أعمالهم ) ، يقول: بطلت وذهبت أجورها, لأنها لم تكن لله بل كانت للشيطان ( وفي النار هم خالدون ) ، يقول: ماكثون فيها أبدًا, لا أحياءً ولا أمواتًا.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) ، فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: ( مساجد الله ) ، على الجماع.
وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: ( مَسْجِدَ اللهِ ) ، على التوحيد, بمعنى المسجد الحرام.
قال أبو جعفر: وهم جميعًا مجمعون على قراءة قوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ ، على الجماع, لأنه إذا قرئ كذلك، احتمل معنى الواحد والجماع, لأن العرب قد تذهب بالواحد إلى الجماع، وبالجماع إلى الواحد, كقولهم: « عليه ثوب أخلاق » .
القول في تأويل قوله : إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( 18 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( إنما يعمر مساجد الله ) ، المصدِّق بوحدانية الله, المخلص له العبادة ( واليوم الآخر ) , يقول: الذي يصدق ببعث الله الموتى أحياءً من قبورهم يوم القيامة ( وأقام الصلاة ) ، المكتوبة، بحدودها وأدَّى الزكاة الواجبة عليه في ماله إلى من أوجبها الله له ( ولم يخش إلا الله ) ، يقول: ولم يرهب عقوبة شيء على معصيته إياه، سوى الله ( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) ، يقول: فخليق بأولئك الذين هذه صفتهم، أن يكونوا عند الله ممن قد هداه الله للحق وإصابة الصواب.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) ، يقول: من وحَّد الله، وآمن باليوم الآخر. يقول: أقرّ بما أنـزل الله ( وأقام الصلاة ) ، يعني الصلوات الخمس ( ولم يخش إلا الله ) ، يقول: ثم لم يعبد إلا الله قال: ( فعسى أولئك ) ، يقول: إن أولئك هم المفلحون, كقوله لنبيه: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ، [ سورة الإسراء: 79 ] : يقول: إن ربك سيبعثك مقامًا محمودًا، وهي الشفاعة, وكل « عسى » ، في القرآن فهي واجبة.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ثم ذكر قول قريش: إنَّا أهلُ الحرم, وسُقاة الحاج, وعُمَّار هذا البيت, ولا أحد أفضل منا! فقال: ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) ، أي: إن عمارتكم ليست على ذلك, ( إنما يعمر مساجد الله ) ، أي: من عمرها بحقها ( من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ) فأولئك عمارها ( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) ، و « عسى » من الله حق.
القول في تأويل قوله : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 19 )
قال أبو جعفر: وهذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت, فأعلمهم جل ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، لا في الذي افتخروا به من السِّدانة والسقاية.
وبذلك جاءت الآثار وتأويل أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو الوليد الدمشقي أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثني معاوية بن سلام, عن جده أبي سلام الأسود, عن النعمان بن بشير الأنصاري قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه, فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام, إلا أن أسقي الحاج! وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام ! وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم ! فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. قال: ففعل, فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( أجعلتم سقاية الحاج ) إلى قوله: ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) .
حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ) ، قال العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد, لقد كنا نعمر المسجد الحرام, ونسقي الحاج, ونفك العاني ! قال الله: ( أجعلتم سقاية الحاج ) ، إلى قوله: ( الظالمين ) ، يعني أن ذلك كان في الشرك, ولا أقبل ما كان في الشرك.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( أجعلتم سقاية الحاج ) ، إلى قوله: ( الظالمين ) ، وذلك أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون، من أجل أنهم أهله وعُمَّاره. فذكر الله استكبارهم وإعراضهم, فقال لأهل الحرم من المشركين: قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ [ سورة المؤمنون: 66، 67 ] ، يعني أنهم يستكبرون بالحرم. وقال: بِهِ سَامِرًا ، لأنهم كانوا يسمرون، ويهجرون القرآن والنبيَّ صلى الله عليه وسلم. فخيَّر الإيمان بالله والجهاد مع نبي الله صلى الله عليه وسلم، على عمران المشركين البيتَ وقيامهم على السقاية. ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به، أن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه. قال الله: ( لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) ، يعني: الذين زعموا أنهم أهل العمارة, فسماهم الله « ظالمين » ، بشركهم، فلم تغن عنهم العمارة شيئًا.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير, عن النعمان بن بشير, أن رجلا قال: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج ! وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام، إلا أن أعمر المسجد الحرامَ ! وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم! فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صلى الجمعة دخلنا عليه! فنـزلت: ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) ، إلى قوله: ( لا يستوون عند الله ) ،
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عمرو, عن الحسن قال: نـزلت في علي، وعباس، وعثمان، وشيبة, تكلموا في ذلك، فقال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أقيموا على سقايتكم، فإن لكم فيها خيرًا. »
... قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن إسماعيل, عن الشعبي قال: نـزلت في علي، والعباس, تكلما في ذلك.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرت عن أبي صخر قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار, وعباس بن عبد المطلب, وعلي بن أبي طالب، فقال طلحة، أنا صاحب البيت، معي مفتاحه, لو أشاء بِتُّ فيه ! وقال عباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها, ولو أشاء بِتُّ في المسجد ! وقال علي: ما أدري ما تقولان, لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس, وأنا صاحب الجهاد ! فأنـزل الله: ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) ، الآية كلها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن قال: لما نـزلت ( أجعلتم سقاية الحاج ) ، قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم « أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرًا » .
حدثني محمد بن الحسن قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدى: ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله ) ، قال: افتخر علي، وعباس، وشيبة بن عثمان, فقال للعباس: أنا أفضلكم, أنا أسقي حُجَّاج بيت الله ! وقال شيبة: أنا أعمُر مسجد الله ! وقال علي: أنا هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاهد معه في سبيل الله ! فأنـزل الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إلى: نَعِيمٌ مُقِيمٌ .
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( أجعلتم سقاية الحاج ) ، الآية, أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسرُوا يوم بدر يعيِّرونهم بالشرك, فقال العباس: أما والله لقد كنَّا نَعمُر المسجدَ الحرام, ونفُكُّ العاني, ونحجب البيتَ, ونسقي الحاج ! فأنـزل الله: ( أجعلتم سقاية الحاج ) ، الآية.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: أجعلتم، أيها القوم، سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ( لا يستوون ) هؤلاء، وأولئك, ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما، لأن الله تعالى لا يقبل بغير الإيمان به وباليوم الآخر عملا ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) ، يقول: والله لا يوفّق لصالح الأعمال من كان به كافرًا ولتوحيده جاحدا.
ووضع الاسم موضع المصدر في قوله: ( كمن آمن بالله ) ، إذ كان معلومًا معناه, كما قال الشاعر:
لَعَمْـرُكَ مَـا الفِتْيَـانُ أَنْ تَنْبُـتَ اللِّحَى وَلَكِنَّمَــا الفِتْيَـانُ كُـلُّ فَتًـى نَـدِي
فجعل خبر « الفتيان » ، « أن » , وهو كما يقال: « إنما السخاء حاتم، والشعر زهير » .
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( 20 )
قال أبو جعفر: وهذا قضاءٌ من الله بَيْن فِرَق المفتخرين الذين افتخرَ أحدهم بالسقاية, والآخرُ بالسِّدانة, والآخر بالإيمان بالله والجهاد في سبيله. يقول تعالى ذكره: ( الذين أمنوا ) بالله، وصدقوا بتوحيده من المشركين ( وهاجروا ) دورَ قومهم ( وجاهدوا ) المشركين في دين الله ( بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ) ، وأرفع منـزلة عنده، من سُقَاة الحاج وعُمَّار المسجد الحرام، وهم بالله مشركون ( وأولئك ) ، يقول: وهؤلاء الذين وصفنا صفتهم، أنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا ( هم الفائزون ) ، بالجنة، الناجون من النار.
القول في تأويل قوله : يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ( 21 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يبشر هؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ( ربُّهم برحمة منه ) ، لهم، أنه قد رحمهم من أن يعذبهم وبرضوان منه لهم, بأنه قد رضي عنهم بطاعتهم إياه، وأدائهم ما كلَّفهم ( وجنات ) ، يقول: وبساتين ( لهم فيها نعيم مقيم ) ، لا يزول ولا يبيد, ثابت دائمٌ أبدًا لهم.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة, قال الله سبحانه: أُعطيكم أفضل من هذا, فيقولون: ربَّنا، أيُّ شيء أفضل من هذا؟ قال: رِضْواني.
القول في تأويل قوله : خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 22 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره ( خالدين فيها ) ، ماكثين فيها, يعنى في الجنات ( أبدا ) ، لا نهاية لذلك ولا حدَّ ( إن الله عنده أجر عظيم ) ، يقول: إن الله عنده لهؤلاء المؤمنين الذين نعتَهم جل ثناؤه النعتَ الذي ذكر في هذه الآية ( أجر ) ، ثواب على طاعتهم لربّهم، وأدائهم ما كلفهم من الأعمال ( عظيم ) , وذلك النعيم الذي وعدَهم أن يعطيهم في الآخرة.
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 23 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسرارَكم، وتطلعونهم على عورة الإسلام وأهله, وتؤثرون المُكْثَ بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام ( إن استحبُّوا الكفر على الإيمان ) ، يقول: إن اختاروا الكفر بالله، على التصديق به والإقرار بتوحيده ( ومن يتولهم منكم ) ، يقول: ومن يتخذهم منكم بطانة من دون المؤمنين, ويؤثر المقَام معهم على الهجرة إلى رسول الله ودار الإسلام ( فأولئك هم الظالمون ) ، يقول: فالذين يفعلون ذلك منكم، هم الذين خالفوا أمرَ الله, فوضعوا الولاية في غير موضعها، وعصوا الله في أمره.
وقيل: إن ذلك نـزل نهيًا من الله المؤمنين عن موالاة أقربائهم الذين لم يهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، قال: أمروا بالهجرة, فقال العباس بن عبد المطلب: أنا أسقي الحاج! وقال طلحة أخو بني عبد الدار: أنا صاحب الكعبة، فلا نهاجر ! فأنـزلت: ( لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء ) ، إلى قوله: يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ، بالفتح, في أمره إياهم بالهجرة. هذا كله قبل فتح مكة.
القول في تأويل قوله : قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 24 )
قال أبو جعفر: يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) يا محمد، للمتخلفين عن الهجرة إلى دار الإسلام، المقيمين بدار الشرك: إن كان المقام مع آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وكانت ( أموال اقترفتموها ) ، يقول: اكتسبتموها ( وتجارة تخشون كسادها ) ، بفراقكم بلدَكم ( ومساكن ترضونها ) ، فسكنتموها ( أحب إليكم ) ، من الهجرة إلى الله ورسوله، من دار الشرك ومن جهاد في سبيله, يعني: في نصرة دين الله الذي ارتضاه ( فتربصوا ) ، يقول: فتنظّروا ( حتى يأتي الله بأمره ) ، حتى يأتي الله بفتح مكة ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ، يقول: والله لا يوفّق للخير الخارِجين عن طاعته وفي معصيته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( حتى يأتي الله بأمره ) ، بالفتح.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ) ، فتح مكة.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ) ، يقول: تخشون أن تكسد فتبيعوها ( ومساكن ترضونها ) ، قال: هي القصور والمنازل.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وأموال اقترفتموها ) ، يقول: أصبتموها.
القول في تأويل قوله : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ( 25 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( لقد نصركم الله ) ، أيها المؤمنون في أماكن حرب توطِّنون فيها أنفسكم على لقاء عدوّكم، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرة ( ويوم حنين ) ، يقول: وفي يوم حنين أيضًا قد نصركم.
و ( حنين ) وادٍ، فيما ذكر، بين مكة والطائف. وأجرِيَ، لأنه مذكر اسم لمذكر. وقد يترك إجراؤه، ويراد به أن يجعل اسمًا للبلدة التي هو بها, ومنه قول الشاعر:
نَصَـــرُوا نَبِيَّهُــمْ وَشَــدُّوا أَزْرَهُ بِحُــنَيْنَ يَــوْمَ تَــوَاكُلِ الأَبْطَـالِ
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة, عن عروة قال: « حُنَين » ، واد إلى جنب ذي المجاز.
( إذ أعجبتكم كثرتكم ) ، وكانوا ذلك اليوم، فيما ذكر لنا، اثنى عشر ألفًا.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك اليوم: لن نغلب من قِلَّة.
وقيل: قال ذلك رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو قول الله: ( إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا ) ، يقول: فلم تغن عنكم كثرتكم شيئا ( وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ) ، يقول: وضاقت الأرض بسعتها عليكم.
و « الباء » ههنا في معنى « في » , ومعناه: وضاقت عليكم الأرض في رحبها، وبرحبها.
يقال منه: « مكان رحيب » ، أي واسع. وإنما سميت الرِّحاب « رحابًا » لسَعَتَها.
( ثم وليتم مدبرين ) ، عن عدوكم منهزمين « مدبرين » , يقول: وليتموهم، الأدبار, وذلك الهزيمة. يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده, وأنه ليس بكثرة العدد وشدة البطش, وأنه ينصر القليلَ على الكثير إذا شاء، ويخلِّي الكثيرَ والقليلَ، فَيهْزِم الكثيرُ.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين ) ، حتى بلغ: وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ، قال: « حنين » ، ماء بين مكة والطائف، قاتل عليها نبيُّ الله هوازن وثقيفَ, وعلى هوازن: مالك بن عوف أخو بني نصر, وعلى ثقيف: عبد ياليل بن عمرو الثقفيّ. قال: وذُكر لنا أنه خرج يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفًا: عشرة آلافٍ من المهاجرين والأنصار, وألفان من الطُّلقَاء, وذكر لنا أنَّ رجلا قال يومئذٍ: « لن نغلب اليوم بكَثْرة » ! قال: وذكر لنا أن الطُّلقَاء انجفَلوا يومئذ بالناس, وجلَوْا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى نـزل عن بغلته الشهباء. وذكر لنا أن نبيَّ الله قال: « أي رب، آتني ما وعدتني » ! قال: والعباسُ آخذ بلجام بغلةِ رسول الله, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « ناد يا معشر الأنصار، ويا معشر المهاجرين! » ، فجعل ينادي الأنصار فَخِذًا فخِذًا, ثم قال: « نادِ بأصحاب سورة البقرة ! » . قال: فجاء الناس عُنُقًا واحدًا. فالتفت نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم, وإذا عصابة من الأنصار, فقال: هل معكم غيركم؟ فقالوا: يا نبي الله, والله لو عمدت إلى بَرْك الغِمادِ من ذي يَمَنٍ لكنَّا مَعَك، ثم أنـزل الله نصره, وهزَمَ عدوّهم, وتراجع المسلمون. قال: وأخذ رسول الله كفًّا من تراب أو: قبضةً من حَصْباء فرمى بها وجوه الكفار, وقال: « شاهت الوجوه! » ، فانهزموا. فلما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم, وأتى الجعرَّانة, فقسم بها مغانم حنين, وتألَّف أناسًا من الناس، فيهم أبو سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس, فقالت الأنصار: « أمن الرجل وآثر قومه » ! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قُبَّة له من أَدَم, فقال: « يا معشر الأنصار, ما هذا الذي بلغني؟ ألم تكونوا ضُلالا فهداكم الله, وكنتم أذلَّةً فأعزكم الله، وكنتم وكنتم! » قال: فقال سعد بن عبادة رحمه الله: ائذن لي فأتكلم ! قال: تكلم. قال: أما قولك: « كنتم ضلالا فهداكم الله » ، فكنا كذلك « وكنتم أذلة فأعزكم الله » , فقد علمت العربُ ما كان حيٌّ من أحياء العرب أمنعَ لما وراء ظهورهم منَّا! فقال عمر: يا سعد أتدري من تُكلِّم! فقال: نعم أكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو سلكَتِ الأنصارُ واديًا والناس واديًا لسكت وادي الأنصار, ولولا الهجرةُ لكنت امرءًا من الأنصار. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « الأنصار كَرِشي وَعَيْبتي, فاقبلوا من مُحِسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم » . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا معشر الأنصار، أما ترضون أن ينقلب الناس بالإبل والشاء, وتنقلبون برسولِ الله إلى بيوتكم! فقالت الأنصار: رضينا عن الله ورسوله, والله ما قلنا ذلك إلا حرصا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » إن الله ورسوله يصدِّقانكم ويعذِرَانكم « . »
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أن أمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته أو ظِئْره من بني سعد بن بكر، أتته فسألته سَبَايا يوم حنين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أملكهم، وإنما لي منهم نصيبي, ولكن ائتيني غدًا فسلِيني والناس عندي، فإني إذا أعطيتُك نصيبي أعطاك الناس. فجاءت الغد، فبسط لها ثوبًا, فقعدت عليه, ثم سألته, فأعطاها نصيبه. فلما رأى ذلك الناس أعطوْها أنصباءهم.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) ، الآية: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال: يا رسول الله، لن نغلب اليوم من قِلّة ! وأعجبته كثرة الناس, وكانوا اثني عشر ألفًا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوُكِلوا إلى كلمة الرجل, فانهزموا عن رسول الله, غير العباس، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن, قتل يومئذ بين يديه. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الأنصار؟ أين الذين بايعوا تحت الشجرة ؟ فتراجع الناس, فأنـزل الله الملائكة بالنصر, فهزموا المشركين يومئذٍ, وذلك قوله: ثُمَّ أَنْـزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْـزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ، الآية.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري, عن كثير بن عباس بن عبد المطلب, عن أبيه قال: لما كان يوم حنين، التقى المسلمون والمشركون, فولّى المسلمون يومئذٍ. قال: فلقد رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وما معه أحدٌ إلا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب, آخذًا بغَرْزِ النبي صلى الله عليه وسلم, لا يألو ما أسرع نحو المشركين. قال: فأتيت حتى أخذتُ بلجامه، وهو على بغلةٍ له شهباء, فقال: يا عباس. ناد أصحابَ السمرة! وكنت رجلا صَيِّتًا, فأذَّنت بصوتي الأعلى: أين أصحاب السمرة! فالتفتوا كأنها الإبل إذا حُشِرت إلى أولادها, يقولون: « يا لبيك، يا لبَّيك، يا لبيك » ، وأقبل المشركون. فالتقوا هم والمسلمون, وتنادت الأنصار: « يا معشر الأنصار » ، ثم قُصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج, فتنادوا: « يا بني الحارث بن الخزرج » ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاوِل، إلى قتالهم فقال: « هذا حين حَمِي الوَطِيس » ! ثم أخذ بيده من الحصباء فرماهم بها, ثم قال: « انهزموا وربِّ الكعبة ، انهزموا ورب الكعبة! » قال: فوالله ما زال أمرُهم مدبرًا، وحدُّهم كليلا حتى هزمهم الله، قال: فلكأنّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركُضُ خلفهم على بَغْلَتِه.
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب: أنهم أصابوا يومئذٍ ستة آلاف سَبْيٍ, ثم جاء قومهم مسلمين بعد ذلك, فقالوا: يا رسول الله: أنت خيرُ الناس, وأبرُّ الناس, وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالَنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عندي من ترونَ! وإن خير القولِ أصدقُه, اختاروا: إما ذَراريكم ونساءكم، وإمّا أموالكم. قالوا: ما كنا نعدِل بالأحساب شيئًا! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاءوني مسلمين, وإنا خيَّرناهم بين الذَّراريّ والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئًا, فمن كان بيده منهم شيء فطابت نفسُه أن يردَّه فليفعل ذلك, ومن لا فليُعْطِنا, وليكن قَرْضًا علينا حتى نصيب شيئًا، فنعطيه مكانه. فقالوا: يا نبي الله، رضينا وسلَّمنا! فقال: « إني لا أدري لعلَّ منكم من لا يرضَى, فَمُروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا. فرفعتْ إليه العُرَفاء أن قد رضوا وسلموا. »
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا يعلى بن عطاء, عن أبي همام, عن أبي عبد الرحمن يعني الفهريّ قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، فلما رَكَدت الشمس، لبستُ لأمَتي، وركبت فرسي, حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ظِلّ شجرة, فقلت: يا رسول الله، قد حان الرَّواح, فقال: أجل! فنادى: « يا بِلال! يا بلال! » فقام بلال من تحت سمرة, فأقبل كأن ظله ظلُّ طير, فقال: لبيك وسعديك, ونفسي فداؤك، يا رسول الله ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أسرج فرسي! فأخرج سَرْجًا دَفَّتَاه حشْوهما ليفٌ, ليس فيهما أَشَرٌ ولا بَطَرٌ قال: فركب النبي صلى الله عليه وسلم, فصافَفْناهم يومَنا وليلتنا، فلما التقى الخيلان ولَّى المسلمون مدبرين, كما قال الله. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا عباد الله, يا معشر المهاجرين! » . قال: ومال النبي صلى الله عليه وسلم عن فرسه, فأخذ حَفْنَةً من تراب فرمى بها وجوههم, فولوا مدبرين قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: ما بقي مِنَّا أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء وسأله رجل من قيس: فَرَرتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: لكن رسول الله لم يفرَّ, وكانت هَوازن يومئذ رُماةً, وإنَّا لما حملنا عليهم انكشَفُوا فأكبَبْنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسِّهام, ولقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذٌ بلجامها وهو يقول:
أَنَــــا النَّبِــــيُّ لا كَــــذِبْ أَنَـــا ابْـــنُ عبــدِ المُطَّلِــبْ
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن البراء قال: سأله رجل: يا أبا عُمارة, وليتم يوم حنين؟ فقال البراء وأنا أسمع: أشهد أن رسول الله لم يولِّ يومئذ دُبُره, وأبو سفيان يقود بغلته. فلما غشيه المشركون نـزل فجعل يقول:
أَنَــــا النَّبِــــيُّ لا كَــــذِبْ أَنَـــا ابْـــنُ عبــدِ المُطَّلِــبْ
فما رُؤي يومئذ أحد من الناس كان أشدَّ منه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني جعفر بن سليمان, عن عوف الأعرابي, عن عبد الرحمن مولى أم برثن قال، حدثني رجل كان من المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحابَ محمد عليه السلام، لم يقفوا لنا حَلَبَ شاةٍ أن كشفناهم، فبينا نحن نسوقهم, إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء, فتلقانا رجالٌ بيضٌ حسانُ الوجوه, فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا « ! فرجعنا, وركبنا القوم، فكانت إياها. »
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد قال: أمدَّ الله نبيه صلى الله عليه وسلم يوم حنين بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين. قال: ويومئذ سمَّى الله الأنصار « مؤمنين » . قال: ( فأنـزل الله سكينته على رسول الله وعلى المؤمنين وأنـزل جنودا لم يَروها ) .
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ) ، قال: كانوا اثني عشر ألفًا.
حدثنا محمد بن يزيد الأدَميّ قال، حدثنا معن بن عيسى, عن سعيد بن السائب الطائفي, عن أبيه, عن يزيد بن عامر قال: لما كانت انكشافةُ المسلمين حين انكشفوا يوم حنين, ضَرَب النبي صلى الله عليه وسلم يَده إلى الأرض, فأخذ منها قبضة من تراب, فأقبل بها على المشركين وهم يتْبعون المسلمين, فحثَاها في وجوهم وقال: « ارجعوا: شاهت الوجوه! » . قال: فانصرفنا، ما يلقى أحدٌ أحدًا إلا وهو يمسَحُ القَذَى عن عينيه.
وبه، عن يزيد بن عامر السُّوائي قال: قيل له: يا أبا حاجز, الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين، ماذا وجدتم؟ قال: وكان أبو حاجز مع المشركين يوم حنين, فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطَّستِ فيطنُّ, ثم يقول: كان في أجوافِنَا مثل هذا!
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثني المعتمر بن سليمان, عن عوف قال، سمعت عبد الرحمن مولى أم برثن أو: أم برثم قال، حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين, قال: لما التقينا نحن وأصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين, لم يقوموا لنا حَلَب شاة. قال: فلما كشفناهم جعلنا نسُوقهم في أدبارهم, حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء, فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فتلقانا عندَه رجالٌ بيضٌ حسانُ الوجوه فقالوا لنا: « شاهت الوجوه، ارجعوا ! » ، قال: فانهزمنا، وركِبُوا أكتافنا, فكانت إيَّاهَا.
القول في تأويل قوله : ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ( 26 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم من بعد ما ضاقت عليكم الأرض بما رحبت، وتوليتكم الأعداءَ أدباركم, كشف الله نازل البلاء عنكم, بإنـزاله السكينة وهي الأمنة والطمأنينة عليكم.
وقد بينا أنها « فعيلة » ، من « السكون » ، فيما مضى من كتابنا هذا قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
( وأنـزل جنودًا لم تروها ) ، وهي الملائكة التي ذكرتُ في الأخبار التي قد مضى ذكرها ( وعذب الذين كفروا ) ، يقول: وعذب الله الذين جحدوا وحدانيّته ورسالةَ رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بالقتل وسَبْي الأهلين والذراريّ، وسلب الأموال والذلة ( وذلك جزاء الكافرين ) ، يقول: هذا الذي فعلنا بهم من القتل والسبي ( جزاء الكافرين ) , يقول: هو ثواب أهل جحود وحدانيته ورسالة رسوله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وعذب الذين كفروا ) ، يقول: قتلهم بالسيف.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد: ( وعذب الذين كفروا ) ، قال: بالهزيمة والقتل.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ) ، قال: من بَقي منهم.
القول في تأويل قوله : ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 27 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم يتفضل الله بتوفيقه للتوبة والإنابة إليه، من بعد عذابه الذي به عذَّب من هلك منهم قتلا بالسيف ( على من يشاء ) ، أي يتوب الله على من يشاء من الأحياء، يُقْبِل به إلى طاعته ( والله غفور ) ، لذنوب من أناب وتاب إليه منهم ومن غيرهم منها ( رحيم ) ، بهم، فلا يعذبهم بعد توبتهم, ولا يؤاخذهم بها بعد إنابتهم.
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 28 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله وأقرُّوا بوحدانيته: ما المشركون إلا نَجَس.
واختلف أهل التأويل في معنى « النجس » ، وما السبب الذي من أجله سمَّاهم بذلك.
فقال بعضهم: سماهم بذلك، لأنهم يجنبون فلا يغتسلون, فقال: هم نجس, ولا يقربوا المسجد الحرام لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, في قوله: ( إنما المشركون نجس ) ، : لا أعلم قتادة إلا قال: « النجس » ، الجنابة.
وبه، عن معمر قال: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة, وأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيده, فقال حذيفة: يا رسول الله، إني جُنُب ! فقال: إنّ المؤمن لا ينجُس.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, في قوله: ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ) ، أي: أجْنَابٌ.
وقال آخرون: معنى ذلك: ما المشركون إلا رِجْسُ خنـزير أو كلب.
وهذا قولٌ رُوِي عن ابن عباس من وجه غير حميد, فكرهنا ذكرَه.
وقوله: ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، يقول للمؤمنين: فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرَم. وإنما عنى بذلك منعَهم من دخول الحرم, لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم فيه نحو الذي قلناه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال: قال عطاء: الحرمُ كله قبلةٌ ومسجد. قال: ( فلا يقربوا المسجد الحرام ) ، لم يعن المسجدَ وحده, إنما عنى مكة والحرم. قال ذلك غير مرَّةٍ.
وذكر عن عمر بن عبد العزيز في ذلك ما:-
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد بن مسلم قال، حدثنا أبو عمرو: أن عمر بن عبد العزيز كتب: « أنِ امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين » ، وأَتْبَعَ في نهيه قولَ الله: ( إنما المشركون نجس ) .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل, عن أشعث, عن الحسن: ( إنما المشركون نجس ) ، قال: لا تصافحوهم, فمن صافحَهم فليتوضَّأ.
وأما قوله: ( بعد عامهم هذا ) ، فإنه يعني: بعد العام الذي نادَى فيه علي رحمة الله عليه ببراءة, وذلك عام حجَّ بالناس أبو بكر, وهي سنة تسع من الهجرة، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر, ونادى عليّ رحمة الله عليهما بالأذان، وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحجَّ نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل حجّة الوداع، لم يحجَّ قبلها ولا بعدها.
وقوله: ( وإن خفتم عيلة ) ، يقول للمؤمنين: وإن خفتم فاقَةً وفقرًا, بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام ( فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) .
يقال منه: عال يَعِيلُ عَيْلَةً وعُيُولا ومنه قول الشاعر:
وَمَــا يَــدْرِي الفَقِـيرُ مَتَـى غِنَـاه وَمَــا يَــدْرِي الغَنِـيُّ مَتَـى يَعِيـلُ
وقد حكي عن بعضهم أنّ من العرب من يقولُ في الفاقة: « عال يعول » بالواو.
وذكر عن عمرو بن فائد أنه كان تأوّل قوله ( وإن خفتم عيلة ) ، بمعنى: وإذ خفتم. ويقول: كان القوم قد خافُوا, وذلك نحو قول القائل لأبيه: « إن كنت أبي فأكرمني » , بمعنى: إذ كنت أبي.
وإنما قيل ذلك لهم, لأن المؤمنين خافوا بانقطاع المشركين عن دخول الحرم، انقطاع تجاراتهم، ودخول ضرر عليهم بانقطاع ذلك. وأمَّنهم الله من العيلة، وعوَّضهم مما كانوا يكرهون انقطاعه عنهم، ما هو خير لهم منه, وهو الجزية, فقال لهم: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، إلى: صَاغِرُونَ .
وقال قوم: بإدرار المطر عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنى معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، قال: لما نَفَى الله المشركين عن المسجد الحرام، ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحَزَن, قال: من أين تأكلون، وقد نُفِيَ المشركون وانقطعت عنهم العيرُ! فقال الله: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) ، فأمرهم بقتال أهل الكتاب, وأغناهم من فضله.
حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة في قوله: ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت, ويجيئون معهم بالطعام، وَيتَّجرون فيه. فلما نُهُوا أن يأتوا البيت، قال المسلمون: من أين لنا طعام؟ فأنـزل الله: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) ، فأنـزل عليهم المطر, وكثر خيرهم، حتى ذهب عنهم المشركون.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن علي بن صالح, عن سماك, عن عكرمة: ( إنما المشركون نجس ) ، الآية ثم ذكر نحو حديث هنّاد, عن أبي الأحوص.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن واقد, عن سعيد بن جبير قال: لما نـزلت: ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالوا: مَنْ يأتينا بطعامنا, ومن يأتينا بالمتاع؟ فنـزلت: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن واقد مولى زيد بن خليدة, عن سعيد بن جبير, قال: كان المشركون يقدَمون عليهم بالتجارة, فنـزلت هذه الآية: ( إنما المشركون نجس ) ، إلى قوله: ( عيلة ) ، قال: الفقر ( فسوف يغنيكم الله من فضله ) .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية العوفي قال: قال المسلمون: قد كنّا نصيب من تجارتهم وبِياعاتهم, فنـزلت: ( إنما المشركون نجس ) ، إلى قوله: ( من فضله ) .
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي أحسِبه قال: أنبأنا أبو جعفر، عن عطية, قال: لما قيل: ولا يحج بعد العام مشرك ! قالوا: قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم. قال: فنـزلت: ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، يعني: بما فاتهم من بياعاتهم.
حدثنا أبو كريب وابن وكيع, قالا حدثنا ابن يمان, عن أبي سنان, عن ثابت, عن الضحاك: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، قال: الجزية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان وأبو معاوية, عن أبي سنان, عن ثابت, عن الضحاك, قال: أخرج المشركون من مكة, فشقَّ ذلك على المسلمين وقالوا: كنا نُصيب منهم التجارة والميرة. فأنـزل الله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، كان ناس من المسلمين يتألَّفون العير; فلما نـزلت « براءة » بقتال المشركين حيثما ثقفوا, وأن يقعدُوا لهم كل مرصد, قذف الشيطان في قلوب المؤمنين: فمن أين تعيشون وقد أمرتم بقتال أهل العير؟ فعلم الله من ذلك ما علم, فقال: أطيعوني, وامضوا لأمري, وأطيعوا رسولي, فإني سوف أغنيكم من فضلي. فتوكل لهم الله بذلك.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( إنما المشركون نجس ) ، إلى قوله: ( فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) ، قال: قال المؤمنون: كنا نصيب من متاجر المشركين! فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله، عوضًا لهم بأن لا يقربوهم المسجد الحرام. فهذه الآية مع أول « براءة » في القراءة, ومع آخرها في التأويل قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، إلى قوله: عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ، حين أمر محمد وأصحابه بغزْوة تبوك.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, بنحوه.
16609م- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام, شقَّ ذلك على المسلمين, وكانوا يأتون بِبَيْعَات ينتفع بذلك المسلمون. فأنـزل الله تعالى ذكره: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، فأغناهم بهذا الخراج، الجزيةَ الجاريةَ عليهم, يأخذونها شهرًا شهرًا, عامًا عامًا، فليس لأحد من المشركين أن يقرب المسجد الحرام بعد عامهم بحالٍ، إلا صاحب الجزية, أو عبد رجلٍ من المسلمين.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج, قال: أخبرنا أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله: ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، إلا أن يكون عبدًا أو أحدًا من أهل الذمّة.
...... قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، قال: إلا صاحب جزية, أو عبد لرجلٍ من المسلمين.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج, عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في هذه الآية: ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ) ، إلا أن يكون عبدًا، أو أحدًا من أهل الجزية.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، قال: أغناهم الله بالجزية الجارية شهرًا فشهرًا، وعامًا فعامًا.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام, عن الحجاج, عن أبي الزبير, عن جابر: ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، قال: لا يقرب المسجد الحرام بعد عامه هذا مشركٌ ولا ذميٌّ.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة ) ، وذلك أن الناس قالوا: لتقطعنَّ عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة، وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المَرافق! فقال الله عز وجل: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، من وجه غير ذلك ( إن شاء ) ، إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ ، ففي هذا عوَض مما تخوَّفتم من قطع تلك الأسواق، فعوَّضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك، ما أعطَاهم من أعْناق أهلِ الكتاب من الجزية.
وأما قوله: ( إن الله عليم حكيم ) ، فإن معناه: ( إن الله عليم ) ، بما حدثتكم به أنفسكم، أيها المؤمنون، من خوف العيلة عليها بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام, وغير ذلك من مصالح عباده ( حكيم ) ، في تدبيره إياهم، وتدبير جميع خلقه.
القول في تأويل قوله : قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( 29 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم: ( قاتلوا ) ، أيها المؤمنون، القومَ ( الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) ، يقول: ولا يصدّقون بجنة ولا نار ( ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ) ، يقول: ولا يطيعون الله طاعة الحقِّ، يعني: أنهم لا يطيعون طاعةَ أهل الإسلام ( من الذين أوتوا الكتاب ) ، وهم اليهود والنصارَى.
وكل مطيع ملكًا وذا سلطانٍ, فهو دائنٌ له. يقال منه: « دان فلان لفلان فهو يدين له، دينًا » ، قال زهير:
لَئِـنْ حَـلَلْتَ بِجَـوٍّ فِـي بَنِـي أَسَـدٍ فِـي دِيـنِ عَمْـرٍو وَحَـالَتْ بَيْنَنا فَدَكُ
وقوله: ( من الذين أوتوا الكتاب ) ، يعني: الذين أعطوا كتاب الله, وهم أهل التوراة والإنجيل ( حتى يعطوا الجزية ) .
و « الجزية » : الفِعْلة من: « جزى فلان فلانًا ما عليه » ، إذا قضاه, « يجزيه » ، و « الجِزْية » مثل « القِعْدة » و « الجِلْسة » .
ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراجَ عن رقابهم، الذي يبذلونه للمسلمين دَفْعًا عنها.
وأما قوله: ( عن يد ) ، فإنه يعني: من يده إلى يد من يدفعه إليه.
وكذلك تقول العرب لكل معطٍ قاهرًا له، شيئًا طائعًا له أو كارهًا: « أعطاه عن يده، وعن يد » . وذلك نظير قولهم: « كلمته فمًا لفمٍ » ، و « لقيته كَفَّةً لكَفَّةٍ » , وكذلك: « أعطيته عن يدٍ ليد » .
وأما قوله: ( وهم صاغرون ) ، فإن معناه: وهم أذلاء مقهورون.
يقال للذليل الحقير: « صاغر » .
وذكر أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بحرب الروم, فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نـزولها غزوة تبوك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عروة قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) ، حين أمر محمدٌ وأصحابه بغزوة تبوك.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه.
واختلف أهل التأويل في معنى « الصغار » ، الذي عناه الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم: أن يعطيها وهو قائمٌ، والآخذ جالسٌ.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الرحمن بن بشر النيسابوري قال، حدثنا سفيان, عن أبي سعد, عن عكرمة: ( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) ، قال: أي تأخذها وأنت جالس، وهو قائم.
وقال آخرون: معنى قوله: ( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) ، عن أنفسهم، بأيديهم يمشون بها، وهم كارهون, وذلك قولٌ رُوي عن ابن عباس، من وجهٍ فيه نظر.
وقال آخرون: إعطاؤهم إياها، هو الصغار.
القول في تأويل قوله : وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 30 )
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في القائل: ( عزير ابن الله ) .
فقال بعضهم: كان ذلك رجلا واحدًا, هو فِنْحاص.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قوله: ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) ، قال: قالها رجل واحد, قالوا: إن اسمه فنحاص. وقالوا: هو الذي قال: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ، [ سورة آل عمران: 181 ] .
وقال آخرون: بل كان ذلك قول جماعة منهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سَلامُ بن مشكم, ونعمانُ بن أوفى, وشأسُ بن قيس, ومالك بن الصِّيف, فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قِبْلتنا, وأنت لا تزعم أنّ عزيرًا ابن الله؟ فأنـزل في ذلك من قولهم: ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) ، إلى: ( أنى يؤفكون ) .
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) ، وإنما قالوا: هو ابن الله من أجل أن عُزَيرًا كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم، فعملوا بها ما شاء الله أن يعملوا, ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التّابوت فيهم. فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء, رفع الله عنهم التابوت, وأنساهُم التوراة، ونسخها من صدورهم, وأرسل الله عليهم مرضًا, فاستطلقت بطونهم حتى جعل الرجل يمشي كبدُه, حتى نسوا التوراة, ونسخت من صدورهم, وفيهم عزير. فمكثوا ما شاء الله أن يمكثُوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم, وكان عزير قبلُ من علمائهم, فدعا عزيرٌ الله، وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخَ من صدره من التوراة. فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله, نـزل نور من الله فدخل جَوْفه, فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة, فأذّن في قومه فقال: يا قوم، قد آتاني الله التوراةَ وردَّها إليَّ ! فعلقَ بهم يعلمهم, فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم. ثم إنَّ التابوت نـزل بعد ذلك وبعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت عرَضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلِّمهم, فوجدوه مثله, فقالوا: والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) ، إنما قالت ذلك, لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم, وأخذوا التوراة, وذهب علماؤهم الذين بقُوا، وقد دفنوا كتب التوراة في الجبال. وكان عزير غلامًا يتعبَّد في رءوس الجبال، لا ينـزل إلا يوم عيد. فجعل الغلام يبكي ويقول: « ربِّ تركتَ بني إسرائيل بغير عالم » ! فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفارُ عينيه، فنـزل مرة إلى العيد، فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلتْ له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول: يا مطعماه, ويا كاسِياه ! فقال لها: ويحك, من كان يطعمك أو يكسوك أو يسقيك أو ينفعك قبل هذا الرجل؟ قالت: الله! قال: فإن الله حي لم يمت! قالت: يا عزير, فمن كان يعلِّم العلماء قبلَ بني إسرائيل؟ قال: الله! قالت: فلم تبكي عليهم؟ فلما عرف أنه قد خُصِم، ولَّى مدبرًا, فدعته فقالت: يا عزير، إذا أصبحت غدًا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه, ثم اخرج فصلِّ ركعتين, فإنه يأتيك شيخٌ، فما أعطاك فخُذْه. فلما أصبح انطلق عزير إلى ذلك النهر, فاغتسل فيه, ثم خرج فصلى ركعتين. فجاءه الشيخُ فقال: افتح فمك! ففتح فمه, فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة، مجتمع كهيئة القوارير، ثلاث مرار. فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة, فقال: يا بني إسرائيل, إني قد جئتكم بالتوراة! فقالوا: يا عزير، ما كنت كذَّابًا! فعمد فربط على كل إصبع له قلمًا, وكتب بأصابعه كلها, فكتب التوراة كلّها. فلما رجعَ العلماء، أخبروا بشأن عزير, فاستخرج أولئك العلماء كُتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال, وكانت في خوابٍ مدفونة, فعارضوها بتوراة عزير، فوجدوها مثلها, فقالوا: ما أعطاك الله هذا إلا أنك ابنه!
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين: « وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ » ، لا ينونون « عزيرًا » .
وقرأه بعض المكيين والكوفيين: ( عُزَيْرٌ ابْنُ الله ) ، بتنوين « عُزَيْرٌ » قال: هو اسم مجْرًى وإن كان أعجميًّا، لخفته. وهو مع ذلك غير منسوب إلى الله, فيكون بمنـزلة قول القائل: « زيدٌ بن عبد الله » , وأوقع « الابن » موقع الخبر. ولو كان منسوبًا إلى الله لكان الوجه فيه، إذا كان الابن خبرًا، الإجراء، والتنوين, فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه.
وأما من ترك تنوين « عزير » , فإنه لما كانت الباء من « ابن » ساكنة مع التنوين الساكن، والتقى ساكنان، فحذف الأول منهما استثقالا لتحريكه, قال الراجز:
لَتَجــــدَنِّي بِـــالأمِيرِ بَـــرًّا وَبِالقَنَــــاةِ مِدْعَسًـــا مِكَـــرَّا
إذَا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا
فحذف النون للساكن الذي استقبلها.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ: ( عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ) ، بتنوين « عزير » ، لأن العرب لا تنون الأسماء إذا كان « الابن » نعتًا للاسم, [ وتنونه إذا كان خبرًا ] ، كقولهم: « هذا زيدٌ بن عبد الله » , فأرادوا الخبر عن « زيد » بأنه « ابن الله » , ولم يريدوا أن يجعلوا « الابن » له نعتًا و « الابن » في هذا الموضع خبر لـ « عزير » , لأن الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ذلك, إنما أخبروا عن « عزير » ، أنه كذلك, وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على الله مفترين.
( وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يعني قول اليهود: ( عزير ابن الله ) . يقول: يُشْبه قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابنٌ، كذِبَ اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزيرًا إلى أنه لله ابن, ولا ينبغي أن يكون لله ولدٌ سبحانه, بل له ما في السماوات والأرض, كل له قانتون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يقول: يُشبِّهون.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدّي: ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، النصارى يضاهئون قول اليهود في « عزيز » .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج: ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يقول: النصارى، يضاهئون قول اليهود.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يقول: قالوا مثل ما قال أهل الأوثان.
وقد قيل: إن معنى ذلك: يحكون بقولهم قولَ أهل الأوثان، الذين قالوا: اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: ( يُضَاهُونَ ) ، بغير همز.
وقرأه عاصم: ( يُضَاهِئُونَ ) ، بالهمز, وهي لغة لثقيف.
وهما لغتان, يقال: « ضاهيته على كذا أضَاهيه مضاهاة » و « ضاهأته عليه مُضَأهاة » , إذا مالأته عليه وأعنته.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءَة في ذلك ترك الهمز, لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار، واللغة الفصحى.
وأما قوله: ( قاتلهم الله ) ، فإن معناه، فيما ذكر عن ابن عباس, ما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( قاتلهم الله ) ، يقول: لعنهم الله. وكل شيء في القرآن « قتل » ، فهو لعن.
وقال ابن جريج في ذلك ما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( قاتلهم الله ) ، يعني النصارى, كلمةٌ من كلام العرب.
فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون: معناه: قتلهم الله. والعرب تقول: « قاتعك الله » , و « قاتعها الله » ، بمعنى: قاتلك الله. قالوا: و « قاتعك الله » أهون من « قاتله الله » .
وقد ذكروا أنهم يقولون: « شاقاه الله ما تاقاه » , يريدون: أشقاه الله ما أبقاه.
قالوا: ومعنى قوله: ( قاتلهم الله ) ، كقوله: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ، [ سورة الذاريات: 10 ] ، و قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ، [ سورة البروج: 4 ] ، واحدٌ هو بمعنى التعجب.
فإن كان الذي قالوا كما قالوا, فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس, لأنّ « فاعلت » لا تكاد أن تجيء فعلا إلا من اثنين, كقولهم: « خاصمت فلانًا » ، و « قاتلته » , وما أشبه ذلك. وقد زعموا أن قولهم: « عافاك الله » منه, وأن معناه: أعفاك الله, بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يُعْفيه من السوء.
وقوله: ( أنى يؤفكون ) ، يقول: أيَّ وجه يُذْهبُ بهم، ويحيدون؟ وكيف يصدُّون عن الحق؟ وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل.
القول في تأويل قوله : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 31 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: اتخذ اليهود أحبارهم, وهم العلماء.
وقد بينت تأويل ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا قبل. واحدهم « حَبْرٌ » ، و « حِبْرٌ » بكسر الحاء منه وفتحها.
وكان يونس الجرمي، فيما ذكر عنه، يزعم أنه لم يسمع ذلك إلا « حِبر » بكسر الحاء, ويحتج بقول الناس: « هذا مِدَادُ حِبْرٍ » , يراد به: مدادُ عالم.
وذكر الفرَّاء أنه سمعه « حِبْرًا » ، و « حَبْرًا » بكسر الحاء وفتحها.
والنصارى « رهبانهم » ، وهم أصحاب الصوامع وأهل الاجتهاد في دينهم منهم، كما:-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سلمة, عن الضحاك: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم ) ، قال: قُرَّاءهم وعلماءهم.
( أربابا من دون الله ) ، يعني: سادةً لهم من دون الله، يطيعونهم في معاصي الله, فيحلون ما أحلُّوه لهم مما قد حرَّمه الله عليهم، ويحرِّمون ما يحرِّمونه عليهم مما قد أحلَّه الله لهم، كما:-
حدثني الحسين بن يزيد الطحّان قال، حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي, عن غطيف بن أعين, عن مصعب بن سعد, عن عدي بن حاتم قال: انتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في « سورة براءة » : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ، فقال: « أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم, ولكن كانوا يحلّون لهم فيُحلُّون » .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا مالك بن إسماعيل وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد جميعًا، عن عبد السلام بن حرب قال، حدثنا غطيف بن أعين, عن مصعب بن سعد, عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب, فقال: يا عديّ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك ! قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في « سورة براءة » , فقرأ هذه الآية: ( اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله ) ، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه, ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم! واللفظ لحديث أبي كريب.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال: حدثنا بقية، عن قيس بن الربيع, عن عبد السلام بن حرب النهدي, عن غضيف, عن مصعب بن سعد, عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ « سورة براءة » ، فلما قرأ: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، قلت: يا رسول الله, إما إنهم لم يكونوا يصلون لهم! قال: صدقت, ولكن كانوا يُحلُّون لهم ما حرَّم الله فيستحلُّونه, ويحرّمون ما أحلّ الله لهم فيحرِّمونه.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن أبي البختري, عن حذيفة: أنه سئل عن قوله: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلوه, وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن حبيب, عن أبي البختري قال: قيل لأبي حذيفة، فذكر نحوه غير أنه قال: ولكن كانوا يحلُّون لهم الحرام فيستحلُّونه, ويحرِّمون عليهم الحلال فيحرِّمونه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن العوام بن حوشب, عن حبيب عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة: أرأيت قول الله: ( اتخذوا أحبارهم ) ؟ قال: أمَا إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم, ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلُّوه, وإذا حرّموا عليهم شيئًا أحله الله لهم حرَّموه, فتلك كانت رُبوبيَّتهم.
...... قال، حدثنا جرير وابن فضيل, عن عطاء, عن أبي البختري: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، قال: انطلقوا إلى حلال الله فجعلوه حرامًا, وانطلقوا إلى حرام الله فجعلوه حلالا فأطاعوهم في ذلك. فجعل الله طاعتهم عبادتهم. ولو قالوا لهم: « اعبدونا » ، لم يفعلوا.
حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن حبيب بن أبي ثابت, عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة فقال: يا أبا عبد الله، أرأيت قوله: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلُّوه, وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن أبي عديّ, عن أشعث, عن الحسن: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا ) ، قال: في الطاعة.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، يقول: زيَّنُوا لهم طاعتهم.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، قال عبد الله بن عباس: لم يأمروهم أن يسجُدوا لهم, ولكن أمروهم بمعصية الله, فأطاعوهم, فسمَّاهم الله بذلك أربابًا.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا ) ، قال: قلت لأبي العالية: كيف كانت الرُّبوبية التي كانت في بني إسرائيل؟ قال: [ لم يسبوا أحبارنا بشيء مضى ] « ما أمرونا به ائتمرنا, وما نهونا عنه انتهينا لقولهم » ، وهم يجدون في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه, فاستنصحوا الرجالَ, ونبذُوا كتاب الله وراء ظهورهم.
حدثني بشر بن سويد قال، حدثنا سفيان, عن عطاء بن السائب, عن أبي البختري, عن حذيفة: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، قال: لم يعبدوهم, ولكنهم أطاعوهم في المعاصي.
وأما قوله: ( والمسيح ابن مريم ) ، فإن معناه: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيحَ ابن مريم أربابًا من دون الله.
وأما قوله: ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا ) ، فإنه يعني به: وما أمر هؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا الأحبارَ والرهبان والمسيحَ أربابًا، إلا أن يعبدوا معبودًا واحدًا, وأن يطيعوا إلا ربًّا واحدًا دون أرباب شتَّى، وهو الله الذي له عبادة كل شيء، وطاعةُ كل خلق, المستحقُّ على جميع خلقه الدينونة له بالوحدانية والربوبية « لا إله إلا هو » ، يقول تعالى ذكره: لا تنبغي الألوهية إلا للواحد الذي أمر الخلقُ بعبادته, ولزمت جميع العباد طاعته ( سبحانه عما يشركون ) ، يقول: تنـزيهًا وتطهيرًا لله عما يُشرك في طاعته وربوبيته، القائلون: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ , والقائلون: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ , المتخذون أحبارهم أربابًا من دون الله.
القول في تأويل قوله : يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( 32 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يريد هؤلاء المتخذون أحبارَهم ورهبانهم والمسيحَ ابن مريم أربابًا ( أن يطفئوا نور الله بأفواههم ) ، يعني: أنهم يحاولون بتكذيبهم بدين الله الذي ابتعثَ به رسوله، وصدِّهم الناسَ عنه بألسنتهم، أن يبطلوه, وهو النُّور الذي جعله الله لخلقه ضياءً ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ) ، يعلو دينُه، وتظهر كلمته, ويتم الحقّ الذي بعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ( ولو كره ) إتمامَ الله إياه ( الكافرون ) , يعني: جاحديه المكذِّبين به.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ) ، يقول: يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم.
القول في تأويل قوله : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( 33 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي يأبى إلا إتمام دينه ولو كره ذلك جاحدوه ومنكروه ( الذي أرسل رسوله ) ، محمدًا صلى الله عليه وسلم ( بالهدى ) , يعني: ببيان فرائض الله على خلقه, وجميع اللازم لهم وبدين الحق، وهو الإسلام ( ليظهره على الدين كله ) ، يقول: ليعلي الإسلام على الملل كلها ( ولو كره المشركون ) ، بالله ظهورَه عليها.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( ليظهره على الدين كله ) .
فقال بعضهم: ذلك عند خروج عيسى، حين تصير المللُ كلُّها واحدةً.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان قال، حدثنا شقيق قال، حدثني ثابت الحدّاد أبو المقدام, عن شيخ, عن أبي هريرة في قوله: ( ليظهره على الدين كله ) ، قال: حين خروج عيسى ابن مريم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن فضيل بن مرزوق قال، حدثني من سمع أبا جعفر: ( ليظهره على الدين كله ) ، قال: إذا خرج عيسى عليه السلام، اتبعه أهل كل دين.
وقال آخرون: معنى ذلك: ليعلمه شرائعَ الدين كلها، فيطلعه عليها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ليظهره على الدين كله ) ، قال: ليظهر الله نبيّه على أمر الدين كله, فيعطيه إيّاه كله, ولا يخفى عليه منه شيء. وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك.
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقروا بوحدانية ربهم, إن كثيرًا من العلماء والقُرَّاء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى ( ليأكلون أموال الناس بالباطل ) ، يقول: يأخذون الرشى في أحكامهم, ويحرّفون كتاب الله, ويكتبون بأيديهم كتبًا ثم يقولون: « هذه من عند الله » , ويأخذون بها ثمنًا قليلا من سِفلتهم ( ويصدُّون عن سبيل الله ) ، يقول: ويمنعون من أرادَ الدخول في الإسلام الدخولَ فيه، بنهيهم إياهم عنه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ) ، أما « الأحبار » , فمن اليهود. وأما « الرهبان » ، فمن النصارى. وأما « سبيل الله » ، فمحمد صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 34 ) .
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ، ويأكلها أيضًا معهم ( الذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) ، يقول: بشّر الكثيرَ من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل, والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله, بعذابٍ أليم لهم يوم القيامة، مُوجع من الله.
واختلف أهل العلم في معنى « الكنـز » .
فقال بعضهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة، فلم تؤدَّ زكاته. قالوا: وعنى بقوله: ( ولا ينفقونها في سبيل الله ) ، ولا يؤدُّون زكاتها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب, عن نافع, عن ابن عمر قال: كل مال أدَّيت زكاته فليس بكنـز وإن كان مدفونًا. وكل مالٍ لم تؤدَّ زكاته، فهو الكنـز الذي ذكره الله في القرآن، يكوى به صاحبه، وإن لم يكن مدفونًا.
حدثنا الحسن بن الجنيد قال، حدثنا سعيد بن مسلمة قال، حدثنا إسماعيل بن أمية, عن نافع, عن ابن عمر, أنه قال: كل مالٍ أدَّيت منه الزكاة فليس بكنـز وإن كان مدفونًا. وكل مال لم تودَّ منه الزكاة، وإن لم يكن مدفونًا، فهو كنـز.
حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل, عن يحيى بن سعيد, عن نافع, عن ابن عمر قال: أيُّما مالٍ أدّيت زكاته فليس بكنـز وإن كان مدفونًا في الأرض. وأيُّما مالٍ لم تودِّ زكاته، فهو كنـز يكوى به صاحبه, وإن كان على وجه الأرض.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وجرير, عن الأعمش, عن عطية, عن ابن عمر قال: ما أدَّيت زكاته فليس بكنـز.
...... قال، حدثنا أبي, عن العمري, عن نافع, عن ابن عمر قال: ما أدّيت زكاته فليس بكنـز وإن كان تحت سبع أرَضِين. وما لم تؤدِّ زكاته فهو كنـز وإن كان ظاهرًا.
...... قال، حدثنا جرير, عن الشيباني, عن عكرمة قال: ما أدَّيت زكاته فليس بكنـز.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: أما ( الذين يكنـزون الذهب والفضة ) ، فهؤلاء أهل القبلة، و « الكنـز » ، ما لم تؤدِّ زكاته وإن كان على ظهر الأرض، وإن قلّ. وإن كان كثيرًا قد أدّيت زكاته، فليس بكنـز.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل، عن جابر قال: قلت لعامر: مالٌ على رَفٍّ بين السماء والأرض لا تؤدَّى زكاته, أكنـز هو؟ قال: يُكْوَى به يوم القيامة.
وقال آخرون: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنـز أدَّيت منه الزكاة أو لم تؤدِّ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن أبي حصين, عن أبي الضحى, عن جعدة بن هبيرة, عن علي رحمة الله عليه قال: أربعة آلاف درهم فما دونها « نفقة » ، فما كان أكثر من ذلك فهو « كنـز » ،
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان، عن أبي حصين, عن أبي الضحى, عن جعدة بن هبيرة, عن علي مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الشعبي قال، أخبرني أبو حصين, عن أبي الضحى, عن جعدة بن هبيرة, عن علي رحمة الله عليه في قوله: ( والذين يكنـزون الذهب والفضة ) ، قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة, وما فوقها كنـز.
وقال آخرون: « الكنـز » كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الله بن معاذ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة, عن عبد الواحد: أنه سمع أبا مجيب قال: كان نعل سيف أبي هريرة من فضة, فنهاه عنها أبو ذر وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من ترك صَفْرَاء أو بيضاء كُوِي بها » .
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن الأعمش وعمرو بن مرة, عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نـزلت: ( والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « تبًّا للذهب! تبًّا للفضة! يقولها ثلاثًا » ، قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالوا: فأيَّ مال نتخذ؟! فقال عمر: أنا أعلم لكم ذلك! فقال: يا رسول الله، إن أصحابك قد شق عليهم، وقالوا: فأيَّ المال نتخذ؟ فقال: لسانًا ذاكرًا, وقلبًا شاكرًا, وزوجةً تُعين أحدكم على دينه.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا إسرائيل, عن منصور, عن سالم بن أبي الجعد, عن ثوبان, بمثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن منصور, عن عمرو بن مرة, عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نـزلت هذه الآية: ( والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) ، قال المهاجرون: وأيَّ المال نتّخذ؟ فقال عمر: اسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه. قال: فأدركته على بعيرٍ فقلت: يا رسول الله، إن المهاجرين قالوا: فأيَّ المال نتخذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لسانًا ذاكرًا, وقلبًا شاكرًا, وزوجةً مؤمنةً، تعين أحدكم على دينه.
حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, عن شهر بن حوشب, عن أبي أمامة قال: توفي رجل من أهل الصُّفة, فوُجد في مئزرِه دينارٌ, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيَّةٌ ! ثم توفي آخر فوُجد في مئزره ديناران, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيَّتان!
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن شهر بن حوشب, عن صديّ بن عجلان أبي أمامة قال: مات رجل: من أهل الصُّفة, فوجد في مئزره دينارٌ, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيّةٌ! ثم توفيّ آخر, فوجد في مئزره ديناران، فقال نبي الله: كيّتان !
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن سالم, عن ثوبان قال: كنا في سفر، ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال المهاجرون: لوددنا أنَّا علمنا أيُّ المال خيرٌ فنتخذه؟ إذ نـزل في الذهب والفضة ما نـزل! فقال عمر: إن شئتم سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك! فقالوا: أجل! فانطلق، فتبعته أوضع على بعيري, فقال: يا رسول الله إن المهاجرين لما أنـزل الله في الذهب والفضة ما أنـزل قالوا: وددنا أنّا علمنا أيّ المال خير فنتخذه؟ قال: نعم! فيتخذ أحدكم لسانًا ذاكرًا, وقلبًا شاكرًا, وزوجةٌ تعين أحدَكم على إيمانه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، القولُ الذي ذكر عن ابن عمر: من أن كل مالٍ أدّيت زكاته فليس بكنـز يحرُم على صاحبه اكتنازُه وإن كثر وأنّ كل مالٍ لم تُؤَّد زكاته فصاحبه مُعاقب مستحقٌّ وعيدَ الله، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قلّ، إذا كان مما يجبُ فيه الزكاة.
وذلك أن الله أوجب في خمس أواقٍ من الوَرِق على لسان رسوله رُبع عُشْرها, وفي عشرين مثقالا من الذهب مثل ذلك، رُبْع عشرها. فإذ كان ذلك فرضَ الله في الذهب والفضَّة على لسان رسوله, فمعلومٌ أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوفَ ألوفٍ، لو كان وإن أدِّيت زكاته من الكنوز التي أوعدَ الله أهلَها عليها العقاب, لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من رُبْع العُشْر. لأن ما كان فرضًا إخراجُ جميعِه من المال، وحرامٌ اتخاذه، فزكاته الخروجُ من جميعه إلى أهله، لا رُبع عُشره. وذلك مثلُ المال المغصوب الذي هو حرامٌ على الغاصب إمساكُه، وفرضٌ عليه إخراجه من يده إلى يده, التطهّر منه: ردُّه إلى صاحبه. فلو كان ما زادَ من المال على أربعة آلاف درهم, أو ما فضل عن حاجة ربِّه التي لا بد منها، مما يستحق صاحبُه باقتنائه إذا أدَّى إلى أهل السُّهْمان حقوقهم منها من الصدقة وعيدَ الله، لم يكن اللازمُ ربَّه فيه رُبْع عشره, بل كان اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله، وصرفه فيما يجب عليه صرفه, كالذي ذكرنا من أن الواجب على غاصِبِ رجلٍ مالَه، رَدُّه على ربِّه.
وبعدُ, فإن فيما:-
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، قال معمر، أخبرني سهيل بن أبي صالح, عن أبيه, عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل لا يؤدِّي زكاةَ ماله إلا جُعل يوم القيامة صفائحَ من نار يُكْوَى بها جبينه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين الناس، ثم يرى سبيله، وإن كانت إبلا إلا بُطِحَ لها بقاع قرقرٍ، تطؤه بأخفافها حسبته قال: وتعضه بأفواهها يردّ أولاها على أخراها, حتى يقضي بين الناس، ثم يرى سبيله. وإن كانت غنمًا فمثل ذلك, إلا أنها تنطحه بقُرُونها, وتطؤُه بأظلافها.
وفي نظائر ذلك من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها، الدلالةُ الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تُؤَدَّ الوظائفُ المفروضةُ فيها لأهلها من الصدقة, لا على اقتنائها واكتنازها. وفيما بيّنا من ذلك البيانُ الواضح على أن الآية لخاصٍّ، كما قال ابن عباس, وذلك ما:-
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي, قال حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) ، يقول: هم أهل الكتاب. وقال: هي خاصَّة وعامةٌ.
قال أبو جعفر: يعني بقوله: « هي خاصة وعامة » ، هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤدِّ زكاة ماله منهم, وعامة في أهل الكتاب، لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا. يدلُّ على صحة ما قلنا في تأويل قول ابن عباس هذا، ما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها ) ، إلى قوله: هَذَا مَا كَنَـزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ قال: هم الذين لا يؤدُّون زكاة أموالهم. قال: وكل مالٍ لا تؤدَّى زكاته، كان على ظهر الأرض أو في بطنها، فهو كنـز وكل مالٍ تؤدَّى زكاته فليس بكنـز كان على ظهر الأرض أو في بطنها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( والذين يكنـزون الذهب والفضة ) ، قال: « الكنـز » ، ما كنـز عن طاعة الله وفريضته, وذلك « الكنـز » . وقال: افترضت الزكاة والصلاة جميعًا لم يفرَّق بينهما.
قال أبو جعفر: وإنما قلنا: « ذلك على الخصوص » , لأن « الكنـز » في كلام العرب: كل شيء مجموع بعضُه على بعضٍ، في بطن الأرض كان أو على ظهرها, يدلُّ على ذلك قول الشاعر:
لا دَرَّ دَرِّيَ إنْ أَطْعَمْـــتُ نَــازِلَهُمْ قِـرْفَ الْحَـتِيِّ وعِنْـدِي الْـبُرُّ مَكْنُوزُ
يعني بذلك: وعندي البرُّ مجموع بعضه على بعض. وكذلك تقول العرب للبدن المجتمع: « مكتنـز » ، لانضمام بعضه إلى بعض.
وإذا كان ذلك معنى « الكنـز » ، عندهم, وكان قوله: ( والذين يكنـزون الذهب والفضة ) ، معناه: والذين يجمعون الذهب والفضة بعضَها إلى بعض ولا ينفقونها في سبيل الله، وهو عامٌّ في التلاوة, ولم يكن في الآية بيانُ كم ذلك القدر من الذهب والفضّة الذي إذا جمع بعضُه إلى بعض، استحقَّ الوعيدَ كان معلومًا أن خصوص ذلك إنما أدرك، لوقْف الرسول عليه, وذلك كما بينا من أنه المال الذي لم يودَّ حق الله منه من الزكاة دون غيره، لما قد أوضحنا من الدلالة على صحته.
وقد كان بعض الصحابة يقول: هي عامة في كل كنـز غير أنها خاصّة في أهل الكتاب، وإياهم عَنَى الله بها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبَذَة, فلقيت أبا ذَرّ, فقلت: يا أبا ذرّ, ما أنـزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشأم, فقرأت هذه الآية: ( والذين يكنـزون الذهب والفضة ) ، الآية, فقال معاوية: ليست هذه الآية فينَا, إنما هذه الآية في أهل الكتاب! قال: فقلت: إنها لفينا وفيهم! قال: فارتَفَع في ذلك بيني وبينه القولُ, فكتب إلى عثمان يشكُوني, فكتب إليَّ عثمان أنْ أقبل إليّ ! قال: فأقبلت، فلما قدمت المدينة ركِبني الناسُ كأنهم لم يروني قبل يومئذ, فشكوت ذلك إلى عثمان, فقال لي: تَنَحَّ قريبًا. قلت: والله لن أدعَ ما كنت أقول!
حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع قالوا، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حصين, عن زيد بن وهب قال: مررنا بالربذة, ثم ذكر عن أبي ذر نحوه.
حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس, عن أشعث وهشام, عن أبي بشر قال، قال أبو ذر: خرجت إلى الشأم، فقرأت هذه الآية: ( والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) ، فقال معاوية: إنما هي في أهل الكتاب! قال فقلت: إنها لفينا وفيهم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين, عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبَذة، فإذا أنا بأبي ذر قال قلت له: ما أنـزلك منـزلك هذا؟ قال: كنت بالشأم, فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: ( والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) ، قال: فقال: نـزلت في أهل الكتاب. فقلت: نـزلت فينا وفيهم ثم ذكر نحو حديث هشيم، عن حصين.
فإن قال قائل: فكيف قيل: ( ولا ينفقونها في سبيل الله ) ، فأخرجت « الهاء » و « الألف » مخرج الكناية عن أحدِ النوعين.
قيل: يحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أن يكون « الذهب والفضة » مرادًا بها الكنوز, كأنه قيل: والذين يكنـزون الكنوز ولا ينفقونَها في سبيل الله، لأن الذهب والفضة هي « الكنوز » ، في هذا الموضع.
والأخر أن يكون استغنى بالخبر عن إحداهما في عائد ذكرهما، من الخبر عن الأخرى, لدلالة الكلام على الخبر عن الأخرى مثل الخبر عنها، وذلك كثير موجود في كلام العرب وأشعارها, ومنه قول الشاعر:
نَحْــنُ بِمَــا عِنْدَنَــا وأَنْـتَ بِمَـا عِنْــدَكَ رَاض, وَالــرَّأْيُ مُخْـتَلِفُ
فقال: « راض » , ولم يقل: « رضوان » ، وقال الآخر:
إِنَّ شَــرْخَ الشَّــبَابِ والشَّـعَرَ الأسْ وَدَ مَــا لَـمْ يُعَـاصَ كـانَ جُنُونَـا
فقال: « يعاص » , ولم يقل: « يعاصيا » في أشياء كثيرة. ومنه قول الله: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا ، [ سورة الجمعة: 11 ] ، ولم يقل: « إليهما »
القول في تأويل قوله : يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ( 35 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبشر هؤلاء الذين يكنـزون الذهب والفضة, ولا يخرجون حقوق الله منها، يا محمد، بعذاب أليم ( يوم يحمى عليها في نار جهنم ) ، فـ « اليوم » من صلة « العذاب الأليم » , كأنه قيل: يبشرهم بعذاب أليم، يعذبهم الله به في يوم يحمى عليها.
ويعني بقوله: ( يحمى عليها ) ، تدخل النار فيوقد عليها، أي: على الذهب والفضة التي كنـزوها ( في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ) .
وكل شيء أدخل النار فقد أحمي إحماءً, يقال منه: « أحمَيت الحديدة في النار أحميها إحماءً » .
وقوله: ( فتكوى بها جباههم ) ، يعني بالذهب والفضة المكنوزة، يحمى عليها في نار جهنم، يكوي الله بها. يقول: يحرق الله جباهَ كانـزيها وجنوبَهم وظهورهم ( هذا ما كنـزتم ) ، ومعناه: ويقال لهم: هذا ما كنـزتم في الدنيا، أيها الكافرون الذين منعوا كنوزهم من فرائض الله الواجبة فيها لأنفسكم ( فذوقوا ما كنتم تكنـزون ) ، يقول: فيقال لهم: فاطعَمُوا عذاب الله بما كنتم تمنعون من أموالكم حقوقَ الله وتكنـزونها مكاثرةً ومباهاةً.
وحذف من قوله: ( هذا ما كنـزتم ) و « يقال لهم » ، لدلالة الكلام عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, قال: أخبرنا أيوب, عن حميد بن هلال قال: كان أبو ذر يقول: بشّر الكنّازين بكيّ في الجباه، وكيّ في الجنوب، وكيٍّ في الظهور, حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم.
...... قال: حدثنا ابن علية, عن الجريري, عن أبي العلاء بن الشخير, عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة, فبينا أنا في حَلْقَة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب, أخشن الجسد, أخشن الوجه, فقام عليهم فقال: بشِّر الكنازين برضْفٍ يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حَلَمة ثدْي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه, ويوضع على نُغْضِ كتفه، حتى يخرج من حَلَمة ثدييه، يتزلزل، قال: فوضع القوم رءوسهم, فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا. قال: وأدبر، فاتبعته, حتى جلس إلى ساريةٍ, فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قُلْت ! فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم قال، حدثني عمرو بن قيس, عن عمرو بن مرة الجملي, عن أبي نصر، عن الأحنف بن قيس, قال: رأيت في مسجد المدينة رجلا غليظ الثياب، رثَّ الهيئة, يطوف في الحِلَق وهو يقول: بشر أصحاب الكنوز بكيٍّ في جنوبهم, وكي في جباههم, وكيٍّ في ظهورهم ! ثم انطلق وهو يتذمَّر يقول ما عسى تصنعُ بي قريش!!
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: قال أبو ذر: بشر أصحاب الكنوز بكيٍّ في الجباه, وكيٍّ في الجنوب, وكيٍّ في الظهور.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن قابوس, عن أبيه, عن ابن عباس: ( يوم يحمى عليها في نار جهنم ) ، قال: حية تنطوي على جبينه وجبهته تقول: أنا مالُك الذي بخلت به!
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سالم بن أبي الجعد, عن معدان بن أبي طلحة, عن ثوبان: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: من ترك بعدَه كنـزا مثَلَ له يوم القيامة شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان, يتبعه يقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنـزك الذي تركته بعدك! فلا يزال يتبعه حتى يُلْقِمه يده فيقضمها، ثم يتبعه سائر جسده.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: بلغني أن الكنوز تتحوَّل يوم القيامة شجاعًا يتبع صاحبه وهو يفرُّ منه، ويقول: أنا كنـزك ! لا يدرك منه شيئًا إلا أخذه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله قال: والذي لا إله غيره, لا يكوى عبد بكنـز فيمسُّ دينارٌ دينارًا ولا درهم درهمًا, ولكن يوسع جلده، فيوضع كل دينار ودرهم على حِدَته.
...... قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن الأعمش, عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله قال: ما من رجل يكوَى بكنـز فيوضع دينار على دينارٍ ولا درهم على درهم, ولكن يوسَّع جلده.
القول في تأويل قوله : إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( 36 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن عدة شهور السنة اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، الذي كتبَ فيه كل ما هو كائن في قضائه الذي قضى ( يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ) ، يقول: هذه الشهور الاثنا عشر منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن، وتحرِّمهن، وتحرِّم القتال فيهن, حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يَهِجْهُ، وهن: رجب مُضر وثلاثة متواليات، ذو القعدة, وذو الحجة, والمحرم. وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: حدثني صدقة بن يسار, عن ابن عمر قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنًى في أوسط أيام التشريق, فقال: « يا أيها الناس, إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض, وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا, منها أربعة حرم, أوّلهن رجبُ مُضَر بين جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم » .
حدثنا محمد بن معمر قال، حدثنا روح قال، حدثنا أشعث عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض, وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم, ثلاثة متواليات، ورجبُ مُضَر بين جمادى وشعبان » .
حدثنا يعقوب قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال، حدثنا أيوب, عن محمد بن سيرين, عن أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال: « ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض, السنة اثنا عشر شهرًا, منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة, وذو الحجة, والمحرم, ورجبُ مضر الذي بين جمادى وشعبان » .
حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سليمان التيمي قال، حدثني رجل بالبحرين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: « ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض, وإن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا, ثلاثة متواليات: ذو القعدة, وذو الحجة, والمحرم, ورجبُ الذي بين جمادى وشعبان » .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن ابن أبي نجيح قوله: ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: « ثلاثة متواليات: ذو القعدة, وذو الحجة, والمحرم, ورجب الذي بين جمادى وشعبان » .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم منًى: « ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض, وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا, منها أربعة حرم, ثلاثة متواليات: ذو القعدة, وذو الحجة, والمحرم, ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان » .
وهو قول عامة أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ) ، أما ( أربعة حرم ) ، فذو القعدة, وذو الحجة, والمحرم, ورجب. وأما ( كتاب الله ) ، فالذي عنده.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا ) ، قال: يعرف بها شأن النسيء ما نقص من السنة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد في قول الله: ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله ) ، قال: يذكر بها شأن النسيء.
وأما قوله: ( ذلك الدين القيم ) ، فإن معناه: هذا الذي أخبرتكم به, من أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله, وأن منها أربعة حرمًا: هو الدين المستقيم, كما:-
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ذلك الدين القيم ) ، يقول: المستقيم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، ابن زيد في قوله: ( ذلك الدين القيم ) ، قال: الأمر القيم. يقول: قال تعالى: واعلموا، أيها الناس، أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله الذي كتب فيه كل ما هو كائن, وأن من هذه الاثنى عشر شهرًا أربعةُ أشهرٍ حرمًا، ذلك دين الله المستقيم, لا ما يفعله النسيء من تحليله ما يحلل من شهور السنة، وتحريمه ما يحرِّمه منها.
وأما قوله: ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ، فإن معناه: فلا تعصوا الله فيها, ولا تحلُّوا فيهن ما حرَّم الله عليكم, فتكسبوا أنفسكم ما لا قِبَل لها به من سخط الله وعقابه. كما:-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ، قال: الظلم العمل بمعاصي الله، والترك لطاعته.
ثم اختلف أهل التأويل في الذي عادت عليه « الهاء » ، و « النون » في قوله: ( فيهن ) .
فقال بعضهم: عاد ذلك على « الاثنى العشر الشهر » , وقال: معناه: فلا تظلموا في الأشهر كلِّها أنفسكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ، في كلِّهن. ثم خصَّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حُرُمًا، وعظّم حُرُماتهن، وجعل الذنبَ فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو, عن حماد بن سلمة, عن علي بن زيد, عن يوسف بن مهران, عن ابن عباس: ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ، قال: في الشهور كلها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرُم أنفسكم و « الهاء والنون » عائدة على « الأشهر الأربعة » .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: أما قوله: ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ، فإن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووِزْرًا، من الظلم فيما سواها, وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظِّم من أمره ما شاء. وقال: إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسُلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكرَه, واصطفى من الأرض المساجد, واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهر الحرم, واصطفى من الأيام يوم الجمعة, واصطفى من الليالي ليلةَ القدر, فعظِّموا ما عظم الله, فإنما تعظم الأمور بما عظَّمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في تصييركم حرامَ الأشهر الأربعة حلالا وحلالها حرامًا أنفسَكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا ) ، إلى قوله: ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ، : أي: لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حرامًا, كما فعل أهل الشرك، فإنما النسيء، الذي كانوا يصنعون من ذلك، زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ، الآية.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم, عن الحسن: ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ، قال: « ظلم أنفسكم » ، أن لا تحرِّموهن كحرمتهن.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم, عن الحسن بن محمد بن علي: ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ، قال: « ظلم أنفسكم » ، أن لا تحرِّموهن كحرمتهن.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم, عن الحسن بن محمد, بنحوه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب, قولُ من قال: فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسَكم، باستحلال حرامها, فإن الله عظمها وعظَّم حرمتها.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويله، لقوله: ( فلا تظلموا فيهن ) ، فأخرج الكناية عنه مُخْرَج الكناية عن جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة. وذلك أن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة، إذا كَنَتْ عنه: « فعلنا ذلك لثلاث ليال خلون, ولأربعة أيام بقين » وإذا أخبرت عما فوق العشرة إلى العشرين قالت: « فعلنا ذلك لثلاث عشرة خلت, ولأربع عشرة مضت » فكان في قوله جل ثناؤه: ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ، وإخراجِه كناية عدد الشهور التي نهى المؤمنين عن ظلم أنفسهم فيهن مخرج عدد الجمع القليل من الثلاثة إلى العشرة، الدليلُ الواضح على أن « الهاء والنون » ، من ذكر الأشهر الأربعة، دون الاثنى العشر. لأن ذلك لو كان كناية عن « الاثنى عشر شهرًا » ، لكان: فلا تظلموا فيها أنفُسكم.
فإن قال قائل: فما أنكرت أن يكون ذلك كنايةً عن « الاثنى عشر » , وإن كان الذي ذكرت هو المعروف في كلام العرب؟ فقد علمت أن [ من ] المعروف من كلامها، إخراجُ كناية ما بين الثلاث إلى العشر، بالهاء دون النون, وقد قال الشاعر:
أَصْبَحْـنَ فِـي قُـرْحٍ وَفِـي دَارَاتِهـا سَــبْعَ لَيَــالٍ غَــيْرَ مَعْلُوفَاتِهَــا
ولم يقل: « معلوفاتهن » , وذلك كناية عن « السبع » ؟
قيل: إن ذلك وإن كان جائزًا، فليس الأفصحَ الأعرفَ في كلامها. وتوجيهُ كلام الله إلى الأفصح الأعرف، أولى من توجيهه إلى الأنكر.
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت, فقد يجب أن يكون مباحًا لنا ظُلْم أنفسنا في غيرهن من سائر شهور السنة؟
قيل: ليس ذلك كذلك, بل ذلك حرام علينا في كل وقتٍ وزمانٍ, ولكن الله عظَّم حرمة هؤلاء الأشهر وشرَّفهن على سائر شهور السنة, فخصّ الذنب فيهن بالتعظيم، كما خصّهن بالتشريف, وذلك نظير قوله: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [ سورة البقرة: 238 ] ، ولا شك أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ، ولم يبح ترك المحافظة عليهن، بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى, ولكنه تعالى ذكره زادَها تعظيمًا، وعلى المحافظة عليها توكيدًا وفي تضييعها تشديدًا. فكذلك ذلك في قوله: ( منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ،.
وأما قوله: ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) ، فإنه يقول جل ثناؤه: وقاتلوا المشركين بالله، أيها المؤمنون، جميعًا غير مختلفين, مؤتلفين غير مفترقين, كما يقاتلكم المشركون جميعًا، مجتمعين غير متفرقين، كما:-
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) ، أما « كافة » ، فجميع، وأمركم مجتمع.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( وقاتلوا المشركين كافة ) ، يقول: جميعًا.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وقاتلوا المشركين كافة ) ، : أي: جميعا.
و « الكافة » في كل حال على صورة واحدة، لا تذكّر ولا تجمع, لأنها وإن كانت بلفظ « فاعلة » ، فإنها في معنى المصدر، ك « العافية » و « العاقبة » , ولا تدخل العربُ فيها « الألف واللام » ، لكونها آخر الكلام، مع الذي فيها من معنى المصدر, كما لم يدخلوها إذا قاتلوا: « قاموا معًا » ، و « قاموا جميعا » .
وأما قوله: ( واعلموا أن الله مع المتقين ) ، فإن معناه: واعلموا، أيها المؤمنون بالله، أنكم إن قاتلتم المشركين كافة, واتقيتم الله فأطعتموه فيما أمركم ونهاكم، ولم تخالفوا أمره فتعصوه, كان الله معكم على عدوكم وعدوه من المشركين، ومن كان الله معه لم يغلبه شيء, لأن الله مع من اتقاه فخافه وأطاعه فيما كلفه من أمره ونهيه.
القول في تأويل قوله : إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( 37 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما النّسيء إلا زيادة في الكفر.
و « النسيء » مصدر من قول القائل: « نسأت في أيامك، ونسأ الله في أجلك » ، أي: زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك، حتى تبقى فيها حيًّا. وكل زيادة حدثت في شيء, فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه: « نسيء » . ولذلك قيل للبن إذا كُثِّر بالماء: « نسيء » , وقيل للمرأة الحبلى: « نَسُوء » , و « نُسِئت المرأة » , لزيادة الولد فيها، وقيل: « نسأتُ الناقة وأنسأتها » ، إذا زجرتها ليزداد سيرها.
وقد يحتمل أن: « النسيء » ، « فعيل » صرف إليه من « مفعول » , كما قيل: « لعينٌ » و « قتيل » , بمعنى: ملعون ومقتول. ويكون معناه: إنما الشهر المؤخَّر زيادة في الكفر.
وكأنّ القول الأوّل أشبه بمعنى الكلام, وهو أن يكون معناه: إنما التأخير الذي يؤخِّره أهل الشرك بالله من شهور الحرم الأربعة، وتصييرهم الحرام منهن حلالا والحلال منهن حرامًا, زيادة في كفرهم وجحودهم أحكامَ الله وآياته.
وقد كان بعض القرأة يقرأ ذلك: ( إِنَّمَا النَّسْيُ ) بترك الهمز، وترك مدِّه: ( يضل به الذين كفروا ) ،.
واختلف القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة الكوفيين: ( يَضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بمعنى: يضل الله بالنسيء الذي ابتدعوه وأحدثوه، الذين كفروا.
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفُرُوا ) ، بمعنى: يزول عن محجة الله التي جعلها لعباده طريقًا يسلكونه إلى مرضاته، الذين كفروا.
وقد حكي عن الحسن البصري: ( يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفُرُوا ) ، بمعنى: يضل بالنسيء الذي سنه الذين كفروا, الناسَ.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هما قراءتان مشهورتان, قد قرأت بكل واحدةٍ القرأة أهل العلم بالقرآن والمعرفة به, وهما متقاربتا المعنى. لأن من أضله الله فهو « ضال » ، ومن ضل فبإضلال الله إياه وخذلانه له ضلّ. فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب في ذلك مصيبٌ.
وأما الصواب من القراءة في « النسيء » , فالهمزة, وقراءته على تقدير « فعيل » لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا يجوز خلافها فيما أجمعت عليه.
وأما قوله: ( يحلونه عامًا ) ، فإن معناه: يُحلُّ الذين كفروا النسيء و « الهاء » في قوله: ( يحلونه ) ، عائدة عليه.
ومعنى الكلام: يحلُّون الذي أخَّروا تحريمه من الأشهر الأربعة الحرم، عامًا ( ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله ) ، يقول: ليوافقوا بتحليلهم ما حلَّلوا من الشهور، وتحريمهم ما حرموا منها, عدّة ما حرّم الله ( فيحلوا ما حرّم الله زُيِّن لهم سوء أعمالهم ) ، يقول: حُسِّن لهم وحُبِّب إليهم سيئ أعمالهم وقبيحها، وما خولف به أمرُ الله وطاعته ( والله لا يهدي القوم الكافرين ) ، يقول: والله لا يوفق لمحاسن الأفعال وجميلها، وما لله فيه رضًى, القومَ الجاحدين توحيدَه، والمنكرين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, ولكنه يخذّلهم عن الهُدى، كما خذَّل هؤلاء الناس عن الأشهر الحرم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، قال: « النسيء » ، هو أن « جُنَادة بن عوف بن أمية الكناني » ، كان يوافي الموسم كلَّ عام, وكان يُكنى « أبا ثُمَامة » , فينادي: « ألا إنّ أبا ثمامة لا يُحَابُ ولا يُعَابُ, ألا وإن صَفَر العامِ الأوَّلِ العامَ حلالٌ » ، فيحله الناس, فيحرم صَفَر عامًا, ويحرِّم المحرم عامًا, فذلك قوله تعالى: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، إلى قوله: ( الكافرين ) . وقوله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، يقول: يتركون المحرم عامًا, وعامًا يحرِّمونه.
قال أبو جعفر: وهذا التأويلُ من تأويل ابن عباس، يدل على صحة قراءة من قرأ ( النَّسْيُ ) ، بترك الهمزة وترك المدّ, وتوجيهه معنى الكلام إلى أنه « فَعْلٌ » ، من قول القائل: « نسيت الشيء أنساه » , ومن قول الله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ، [ سورة التوبة: 67 ] ، بمعنى: تركوا الله فتركهم.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، قال: فهو المحرَّم، كان يحرَّم عامًا، وصفرُ عامًا, وزيد صفرٌ آخر في الأشهر الحُرُم, وكانوا يحرمون صفرًا مرة، ويحلُّونه مرة, فعاب الله ذلك. وكانت هوازن وغطفان وبنو سُلَيْم تفعله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن أبي وائل: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، قال: كان « النسيء » رجلا من بني كنانة, وكان ذا رأي فيهم, وكان يجعل سنةً المحرمَ صفرًا, فيغزون فيه، فيغنمون فيه، ويصيبون, ويحرِّمه سنة.
...... قال حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن أبي وائل: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، الآية, وكان رجل من بني كنانة يُسَمَّى « النسيء » , فكان يجعل المحرَّم صفرًا، ويستحل فيه الغنائم, فنـزلت هذه الآية.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إدريس قال، سمعت ليثًا, عن مجاهد قال، كان رجل من بني كنانة يأتي كلَّ عام في الموسم على حمار له, فيقول: « أيها الناس، إني لا أعاب ولا أحَابُ, ولا مَرَدَّ لما أقول، إنَّا قد حرمنا المحرَّم, وأخَّرنا صفر » . ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته, ويقول: « إنا قد حرَّمنا صفر وأخَّرنا المحرَّم » ، فهو قوله: ( ليواطئوا عدة ما حرم الله ) ، قال: يعني الأربعة ( فيحلوا ما حرم الله ) ، لتأخير هذا الشهر الحرام.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، « النسيء » ، المحرّم, وكان يحرم المحرَّم عامًا ويحرِّم صفر عامًا, فالزيادة « صفر » , وكانوا يؤخرون الشهور حتى يجعلون صفر المحرم, فيحلوا ما حرم الله. وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يعظمونه, هم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، إلى قوله: ( الكافرين ) ، عمد أناسٌ من أهل الضلالة فزادوا صفرًا في الأشهر الحرم, فكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول: « ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرَّم » ، فيحرمونه ذلك العام. ثم يقول في العام المقبل فيقول: « ألا إن آلهتكم قد حرمت صفر » ، فيحرمونه ذلك العام. وكان يقال لهما « الصفران » . قال: فكان أول من نَسَأ النسيء: بنو مالك بن كنانة, وكانوا ثلاثة: أبو ثمامة صفوان بني أمية أحد بني فقيم بن الحارث, ثم أحد بني كنانة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، قال: فرض الله الحج في ذي الحجة. قال: وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة, والمحرم, وصفر, وربيع, وربيع, وجمادى, وجمادى, ورجب, وشعبان, ورمضان, وشوال, وذو القعدة, وذو الحجة, يحجون فيه مرة، ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه, ثم يعودون فيسمُّون صفر صفر. ثم يسمون رجب جمادى الآخرة, ثم يسمون شعبان ورمضان, ثم يسمون رمضانَ شوالا ثم يسمُّون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة, ثم يسمون المحرم ذا الحجة، فيحجون فيه, واسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا بمثل هذه القصة, فكانوا يحجون في كل شهر عامين, حتى وافق حجةُ أبي بكر رضي الله عنه الآخرَ من العامين في ذي القعدة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجَّته التي حجَّ, فوافق ذا الحجة, فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض » .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، قال: حجوا في ذي الحجة عامين, ثم حجوا في المحرم عامين, ثم حجُّوا في صفر عامين, فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين, حتى وافقت حجة أبي بكر الآخرَ من العامين في ذي القعدة، قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابلٍ في ذي الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض » .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة, عن حصين, عن أبي مالك: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثةَ عشر شهرًا, فيجعلون المحرَّم صفرًا, فيستحلُّون فيه الحرمات. فأنـزل الله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا ) ، الآية. قال: هذا رجل من بني كنانة يقال له: « القَلَمَّس » , كان في الجاهلية. وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام, يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمُدّ إليه يده. فلما كان هو, قال: « اخرجوا بنا » اخرجوا له: « هذا المحرَّم » ! فقال: « ننسئه العام, هما العام صفران, فإذا كان عام قابلٍ قضينا، فجعلناهما محرَّمَين » . قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال: « لا تغزوا في صفر، حرِّموه مع المحرم, هما محرَّمان، المحرَّم أنسأناه عامًا أوَّلُ ونقضيه » . ذلك « الإنساء » ، وقال منافرهم:
وَمِنَّا مُنْسِي الشُّهُورِ القَلَمَّسُ
وأنـزل الله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، إلى آخر الآية.
وأما قوله: ( زيادة في الكفر ) ، فإن معناه زيادة كُفْر بالنسيء، إلى كفرهم بالله قبلَ ابتداعهم النسيء، كما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، يقول: ازدادوا به كفرًا إلى كفرهم.
وأما قوله: ( ليواطئوا ) ، فإنه من قول القائل: « واطأت فلانا على كذا أواطئه مُواطأة » ، إذا وافقته عليه, معينًا له, غير مخالف عليه.
وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ليواطئوا عدة ما حرم الله ) ، يقول: يشبهون.
قال أبو جعفر: وذلك قريب المعنى مما بَيَّنَّا, وذلك أن ما شابه الشيء، فقد وافقه من الوجه الذي شابهه.
وإنما معنى الكلام: أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرِّمونها، عدة الأشهر الأربعة التي حرَّمها الله, لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها, وإن قدَّموا وأخَّروا. فذلك مواطأة عِدتهم عدَّةَ ما حرّم الله.
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ ( 38 )
قال أبو جعفر: وهذه الآية حثٌّ من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الروم, وذلك غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك.
يقول جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ( ما لكم ) ، أيّ شيء أمرُكم ( إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله ) ، يقول: إذا قال لكم رسولُ الله محمدٌ ( انفروا ) ، أي: اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم.
وأصل « النفر » ، مفارقة مكان إلى مكان لأمرٍ هاجه على ذلك. ومنه: « نفورًا الدابة » . غير أنه يقال: من النفر إلى الغزو: « نَفَر فلان إلى ثغر كذا ينْفِر نَفْرًا ونَفِيرًا » , وأحسب أن هذا من الفروق التي يفرِّقون بها بين اختلاف المخبر عنه، وإن اتفقت معاني الخبر.
فمعنى الكلام: ما لكم أيها المؤمنون، إذا قيل لكم: اخرجُوا غزاة « في سبيل الله » ، أي: في جهاد أعداء الله ( اثَّاقلتم إلى الأرض ) ، يقول: تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها.
وقيل: « اثّاقلتم » لإدغام « التاء » في « الثاء » فأحدثتْ لها ألف. ليُتَوصَّل إلى الكلام بها، لأن « التاء » مدغمة في « الثاء » . ولو أسقطت الألف، وابتدئ بها، لم تكن إلا متحركة, فأحدثت الألف لتقع الحركة بها, كما قال جل ثناؤه: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا ، [ سورة الأعراف: 38 ] ، وكما قال الشاعر:
تُـولِي الضَّجِـيعَ إذَا مَا اسْتَافَهَا خَصِرًا عَـذْبَ المَـذَاقِ, إذَا مَـا أتَّـابَعَ القُبَـلُ
[ فهو من « الثقل » ، ومجازه مجاز « افتعلتم » ] ، من « التثاقل » .
وقوله: ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) ، يقول جل ثناؤه, أرضيتم بحظ الدنيا والدّعة فيها، عوضًا من نعيم الآخرة، وما عند الله للمتقين في جنانه ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة ) ، يقول: فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذَّاتها في نعيم الآخرة والكرامة التي أعدَّها الله لأوليائه وأهل طاعته ( إلا قليل ) ، يسير. يقول لهم: فاطلبوا، أيها المؤمنون، نعيم الآخرة، وشرف الكرامة التي عند الله لأوليائه، بطاعتِه والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوِّه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) ، أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وبعد الطائف, وبعد حنين. أمروا بالنَّفير في الصيف، حين خُرِفت النخل, وطابت الثمار, واشتَهُوا الظلال, وشقّ عليهم المخرج.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) الآية, قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين وبعد الطائف. أمرهم بالنَّفير في الصيف, حين اختُرِفت النخل, وطابت الثمار, واشتهوا الظلال, وشقَّ عليهم المخرج. قال: فقالوا: « الثقيل » , ذو الحاجة, والضَّيْعة, والشغل, والمنتشرُ به أمره في ذلك كله. فأنـزل الله: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا ، [ سورة التوبة: 41 ]
القول في تأويل قوله : إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 39 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله, متوعِّدَهم على ترك النَّفْر إلى عدوّهم من الروم: إن لم تنفروا، أيها المؤمنون، إلى من استنفركم رسول الله, يعذّبكم الله عاجلا في الدنيا، بترككم النَّفْر إليهم، عذابًا مُوجعًا ( ويستبدل قومًا غيركم ) ، يقول: يستبدل الله بكم نبيَّه قومًا غيرَكم, ينفرون إذا استنفروا, ويجيبونه إذا دعوا, ويطيعون الله ورسوله ( ولا تضروه شيئا ) ، يقول: ولا تضروا الله، بترككم النّفير ومعصيتكم إياه شيئًا, لأنه لا حاجة به إليكم, بل أنتم أهل الحاجة إليه, وهو الغني عنكم وأنتم الفقراء ( والله على كل شيء قدير ) ، يقول جل ثناؤه: والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم، وعلى كل ما يشاء من الأشياء، قدير.
وقد ذكر أن « العذاب الأليم » في هذا الموضع، كان احتباسَ القَطْر عنهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثني عبد المؤمن بن خالد الحنفي قال، حدثني نجدة الخراساني قال: سمعت ابن عباس, سئل عن قوله: ( إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ) ، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيًّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه, فأمسك عنهم المطر, فكان ذلك عذابَهم, فذلك قوله: ( إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليما ) .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبد المؤمن, عن نجدة قال: سألت ابن عباس, فذكر نحوه إلا أنه قال: فكان عذابهم أنْ أمسك عنهم المطر.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ) ، استنفر الله المؤمنين في لَهَبَان الحرِّ في غزوة تبوك قِبَل الشأم، على ما يعلم الله من الجَهْد.
وقد زعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري قالا قال: ( إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ) ، وقال: مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ، إلى قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، فنسختها الآية التي تلتها: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، إلى قوله: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ، [ سورة التوبة: 120 - 122 ] .
قال أبو جعفر: ولا خبرَ بالذي قال عكرمة والحسن، من نسخ حكم هذه الآية التي ذكَرا، يجب التسليم له, ولا حجةَ نافٍ لصحة ذلك. وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عددٌ من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعدُ، وجائزٌ أن يكون قوله: ( إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ) ، الخاص من الناس, ويكون المراد به من استنفرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفر، على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس.
وإذا كان ذلك كذلك، كان قوله: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، نهيًا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمنٍ مقيم فيها, وإعلامًا من الله لهم أن الواجب النَّفرُ على بعضهم دون بعض, وذلك على من استُنْفِرَ منهم دون من لم يُسْتَنْفَر. وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن في إحدى الآيتين نسخ للأخرى, وكان حكم كل واحدة منهما ماضيًا فيما عُنِيَتْ به.
القول في تأويل قوله : إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا
قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله أصحابَ رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه المتوكّل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم, أعانوه أو لم يعينوه, وتذكيرٌ منه لهم فعلَ ذلك به, وهو من العدد في قلة، والعدوُّ في كثرة, فكيف به وهو من العدد في كثرة، والعدو في قلة؟
يقول لهم جل ثناؤه: إلا تنفروا، أيها المؤمنون، مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه, فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم; كما نصره ( إذ أخرجه الذين كفروا ) ، بالله من قريش من وطنه وداره ( ثاني اثنين ) ، يقول: أخرجوه وهو أحد الاثنين، أي: واحد من الاثنين.
وكذلك تقول العرب: « هو ثاني اثنين » يعني: أحد الاثنين, و « ثالث ثلاثة, ورابع أربعة » , يعني: أحد الثلاثة, وأحد الأربعة. وذلك خلاف قولهم: « هو أخو ستة، وغلام سبعة » , لأن « الأخ » ، و « الغلام » غير الستة والسبعة, « وثالث الثلاثة » ، أحد الثلاثة.
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: ( ثاني اثنين ) ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه, لأنهما كانا اللذين خرجَا هاربين من قريش إذ همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار.
وقوله: ( إذ هما في الغار ) ، يقول: إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رحمة الله عليه، في الغار.
و « الغار » ، النقب العظيم يكون في الجبل.
( إذ يقول لصاحبه ) ، يقول: إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر، ( لا تحزن ) ، وذلك أنه خافَ من الطَّلَب أن يعلموا بمكانهما, فجزع من ذلك, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تحزن » ، لأن الله معنا والله ناصرنا,
فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا.
يقول جل ثناؤه: فقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد, فكيف يخذله ويُحْوِجه إليكم، وقد كثَّر الله أنصاره, وعدد جنودِه؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إلا تنصروه ) ، ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثَه. يقول الله: فأنا فاعلٌ ذلك به وناصره، كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) ، قال: ذكر ما كان في أول شأنه حين بُعثَ, فالله فاعلٌ به كذلك، ناصره كما نصره إذ ذاك ( ثانيَ اثنين إذ هما في الغار ) .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) ، الآية, قال: فكان صاحبَه أبو بكر، وأما « الغار » ، فجبل بمكة يقال له: « ثَوْر » .
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة, عن عروة قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه, وكان لأبي بكر مَنِيحةٌ من غَنَم تروح على أهله, فأرسل أبو بكر عامر بن فهيرة في الغنم إلى ثور. وكان عامر بن فهيرةَ يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في ثور, وهو « الغار » الذي سماه الله في القرآن.
حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي قال، حدثنا عفان وحَبَّان قالا حدثنا همام, عن ثابت، عن أنس, أن أبا بكر رضي الله عنه حدَّثهم قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وأقدامُ المشركين فوق رؤوسنا, فقلت: يا رسول الله, لو أن أحدهم رفع قَدَمَه أبصرنا! فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شريك, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد قال: مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثًا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: ( إذ هما في الغار ) ، قال: في الجبل الذي يسمَّى ثورًا, مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليالٍ.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني عمرو بن الحارث, عن أبيه: أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال: أيُّكم يقرأ « سورة التوبة » ؟ قال رجل: أنا. قال: اقرأ. فلما بلغ: ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن ) ، بكى أبو بكر وقال: أنا والله صاحبُه.
القول في تأويل قوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأنـزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله وقد قيل: على أبي بكر ( وأيده بجنود لم تروها ) ، يقول: وقوّاه بجنودٍ من عنده من الملائكة، لم تروها أنتم ( وجعل كلمة الذين كفروا ) ، وهي كلمة الشرك ( السُّفْلى ) ، لأنها قُهِرَت وأذِلَّت، وأبطلها الله تعالى، ومحق أهلها, وكل مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب، والغالب هو الأعلى ( وكلمة الله هي العليا ) ، يقول: ودين الله وتوحيده وقولُ لا إله إلا الله, وهي كلمتُه ( العليا ) ، على الشرك وأهله, الغالبةُ، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) ، وهي: الشرك بالله ( وكلمة الله هي العليا ) ، وهي: لا إله إلا الله.
وقوله: ( وكلمة الله هي العليا ) ، خبر مبتدأ، غيرُ مردودٍ على قوله: ( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) ، لأن ذلك لو كان معطوفًا على « الكلمة » الأولى، لكان نصبًا.
وأما قوله: ( والله عزيز حكيم ) ، فإنه يعني: ( والله عزيز ) ، في انتقامه من أهل الكفر به, لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، ولا ينصر من عاقبه ناصر ( حكيم ) ، في تدبيره خلقَه، وتصريفه إياهم في مشيئته.
القول في تأويل قوله : انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في معنى « الخفة » و « الثقل » ، اللذين أمر الله من كان به أحدهما بالنفر معه.
فقال بعضهم: معنى « الخفة » ، التي عناها الله في هذا الموضع، الشباب ومعنى « الثقل » ، الشيخوخة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن رجل, عن الحسن في قوله: ( انفروا خفافًا وثقالا ) ، قال: شيبًا وشبّانًا.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص, عن عمرو, عن الحسن قال: شيوخًا وشبانًا.
...... قال، حدثنا ابن عيينة, عن علي بن زيد, عن أنس, عن أبي طلحة: ( انفروا خفافا وثقالا ) ، قال: كهولا وشبانًا, ما أسمع الله عَذَر واحدًا!! فخرج إلى الشأم، فجاهد حتى مات.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن المغيرة بن النعمان قال: كان رجل من النَّخع، وكان شيخًا بادنًا, فأراد الغزوَ، فمنعه سعد بن أبي وقاص فقال: إن الله يقول: ( انفروا خفافًا وثقالا ) ، فأذن له سعد, فقتل الشيخ, فسأل عنه بعدُ عُمَرُ, فقال: ما فعل الشيخ الذي كأنّه من بني هاشم؟ فقالوا: قتل يا أمير المؤمنين!
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن إسماعيل, عن أبي صالح قال: الشابُّ والشيخ.
...... قال، حدثنا أبو أسامة, عن مالك بن مغول, عن إسماعيل, عن عكرمة, قال: الشاب والشيخ.
...... قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: كهولا وشبَّانًا.
...... قال، حدثنا حبويه أبو يزيد, عن يعقوب القمي, عن جعفر بن حميد, عن بشر بن عطية: كهولا وشبانًا
حدثنا الوليد قال، حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم, عن بكير بن معروف, عن مقاتل بن حيان, في قوله: ( انفروا خفافًا وثقالا ) ، قال: شبانًا وكهولا.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( انفروا خفافًا وثقالا ) ، قال: شبابًا وشيوخًا, وأغنياء ومساكين.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، قال الحسن: شيوخًا وشبّانًا.
حدثني سعيد بن عمرو قال، حدثنا بقية قال، حدثنا حَرِيز قال، حدثني حبان بن زيد الشرعبيّ قال: نفرنا مع صَفْوان بن عمرو، وكان واليًا على حمص قِبَلَ الأفْسوس، إلى الجَرَاجمة, فلقيت شيخًا كبيرًا هِمًّا, قد سقط حاجباه على عينيه، من أهل دمشق، على راحلته، فيمن أغار. فأقبلت عليه فقلت: يا عمِّ، لقد أعذر الله إليك! قال: فرفع حاجبيه، فقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافًا وثقالا من يحبَّه الله يبتَليه، ثم يعيده فيبْتليه, إنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسماعيل, عن أبي صالح: ( انفروا خفافًا وثقالا ) ، قال: كل شيخ وشابّ.
وقال آخرون: معنى ذلك: مشاغيل وغير مشاغيل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن الحكم في قوله: ( انفروا خفافًا وثقالا ) ، قال: مشاغيل وغير مشاغيل.
وقال آخرون: معناه: انفروا أغنياء وفقراء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عمن ذكره, عن أبي صالح: ( انفروا خفافًا وثقالا ) ، قال: أغنياء وفقراء.
وقال آخرون: معناه: نِشاطًا وغير نِشاط.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( انفروا خفافًا وثقالا ) ، يقول: انفروا نِشاطًا وغير نِشاط.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر عن قتادة: ( خفافًا وثقالا ) ، قال: نِشاطًا وغير نِشاط.
وقال آخرون: معناه: ركبانًا ومشاةَ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: إذا كان النَّفْر إلى دروب الشأم، نفر الناس إليها « خفافًا » ، ركبانًا. وإذا كان النَّفْر إلى هذه السواحل، نفروا إليها « خفافًا وثقالا » ، ركبانًا ومشاة.
وقال آخرون: معنى ذلك: ذا ضَيْعَة, وغير ذي ضَيْعة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( انفروا خفافًا وثقالا ) ، قال: « الثقيل » ، الذي له الضيعة, فهو ثقيل يكره أن يُضيع ضَيْعته ويخرج و « الخفيف » الذي لا ضيعة له، فقال الله: ( انفروا خفافًا وثقالا ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر, عن أبيه قال: زعم حضرميّ أنه ذُكر له أن ناسًا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا أو كبيرًا فيقول: إن أجتنبْه إباءً، فإني آثم! فأنـزل الله: ( انفروا خفافًا وثقالا ) .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن محمد قال: شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا, ثم لم يتخلف عن غَزاة للمسلمين إلا وهو في أخرى، إلا عامًا واحدًا. وكان أبو أيوب يقول: ( انفروا خفافًا وثقالا ) ، فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلا.
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا حَرِيز بن عثمان, عن راشد بن سعد, عمن رأى المقداد بن الأسود فارسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تابوتٍ من توابيت الصَّيارفة بحمص, وقد فَضَل عنها من عِظَمِه, فقلت له: لقد أعذر الله إليك ! فقال: أبتْ علينا « سورة البعوث » ، ( انفروا خفافًا وثقالا ) .
حدثنا سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد قال: حدثنا حريز قال، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة قال، حدثني أبو راشد الحبراني قال: وافيت المقداد بن الأسود فارسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص, قد فَضَل عنها من عِظَمه, يريد الغزو, فقلت له: لقد أعذر الله إليك ! فقال: أبَتْ علينا « سورة البُحُوث » : ( انفروا خفافًا وثقالا ) .
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنَّفر لجهاد أعدائه في سبيله، خفافًا وثقالا. وقد يدخل في « الخفاف » كل من كان سهلا عليه النفر لقوة بدنه على ذلك، وصحة جسمه وشبابه, ومن كان ذا يُسْرٍ بمالٍ وفراغ من الاشتغال، وقادرًا على الظهر والركاب.
ويدخل في « الثقال » ، كل من كان بخلاف ذلك، من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه, ومن مُعسِرٍ من المال، ومشتغل بضيعة ومعاش, ومن كان لا ظهرَ له ولا ركاب, والشيخ وذو السِّن والعِيَال.
فإذ كان قد يدخل في « الخفاف » و « الثقال » من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا، ولم يكن الله جل ثناؤه خصَّ من ذلك صنفًا دون صنف في الكتاب, ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا نَصَب على خصوصه دليلا وجب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافًا وثقالا مع رسوله صلى الله عليه وسلم، على كل حال من أحوال الخفّة والثقل.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن سعيد بن مسروق, عن مسلم بن صبيح قال: أول ما نـزل من « براءة » : ( انفروا خفافًا وثقالا ) .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبيه, عن أبي الضحى, مثله.
حدثنا الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: إن أول ما نـزل من « براءة » : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ، قال: يعرِّفهم نصره, ويوطِّنهم لغزوة تَبُوك.
القول في تأويل قوله تعالى: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 41 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( جاهدوا ) ، أيها المؤمنون، الكفارَ ( بأموالكم ) , فأنفقوها في مجاهدتهم على دين الله الذي شرعه لكم, حتى ينقادوا لكم فيدخلوا فيه طوعًا أو كرهًا, أو يعطوكم الجزية عن يدٍ صَغَارًا، إن كانوا أهل كتابٍ, أو تقتلوهم ( وأنفسكم ) ، يقول: وبأنفسكم، فقاتلوهم بأيديكم، يخزهم الله وينصركم عليهم ( ذلكم خير لكم ) ، يقول: هذا الذي آمركم به من النفر في سبيل الله تعالى خفافًا وثقالا وجهادِ أعدائه بأموالكم وأنفسكم، خيرٌ لكم من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم، والخلودِ إليها، والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا عِوضًا من الآخرة إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بُيِّن لكم من فضل الجهاد في سبيل الله على القعود عنه.
القول في تأويل قوله : لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 42 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للنبي صلى الله عليه وسلم, وكانت جماعة من أصحابه قد استأذنوه في التخلُّف عنه حين خرج إلى تبوك، فأذن لهم: لو كان ما تدعو إليه المتخلفين عنك والمستأذنيك في ترك الخروج معك إلى مغزاك الذي استنفرتهم إليه ( عرضا قريبا ) ، يقول: غنيمة حاضرة ( وسفرًا قاصدًا ) ، يقول: وموضعًا قريبًا سهلا ( لاتبعوك ) ، ونفروا معك إليهما، ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد, وكلفتهم سفرًا شاقًّا عليهم, لأنك استنهضتهم في وقت الحرّ، وزمان القَيْظ وحين الحاجة إلى الكِنِّ ( وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ) ، يقول تعالى ذكره: وسيحلف لك، يا محمد، هؤلاء المستأذنوك في ترك الخروج معك، اعتذارًا منهم إليك بالباطل, لتقبل منهم عذرهم, وتأذن لهم في التخلُّف عنك، بالله كاذبين « لو استطعنا لخرجنا معكم » ، يقول: لو أطقنا الخروجَ معكم بوجود السَّعة والمراكب والظهور وما لا بُدَّ للمسافر والغازي منه, وصحة البدن والقوى, لخرجنا معكم إلى عدوّكم ( يهلكون أنفسهم ) ،
يقول: يوجبون لأنفسهم، بحلفهم بالله كاذبين، الهلاك والعطب, لأنهم يورثونها سَخَط الله، ويكسبونها أليم عقابه ( والله يعلم إنهم لكاذبون ) ، في حلفهم بالله: ( لو استطعنا لخرجنا معكم ) ، لأنهم كانوا للخروج مطيقين، بوجود السبيل إلى ذلك بالذي كان عندهم من الأموال، مما يحتاج إليه الغازي في غزوه، والمسافر في سفره، وصحة الأبدان وقوَى الأجسام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لو كان عرضًا قريبًا ) ، إلى قوله ( لكاذبون ) ، إنهم يستطيعون الخروج, ولكن كان تَبْطِئَةً من عند أنفسهم والشيطان، وزَهَادة في الخير.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( لو كان عرضًا قريبًا ) ، قال: هي غزوة تبوك.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( والله يعلم إنهم لكاذبون ) ، أي: إنهم يستطيعون.
القول في تأويل قوله : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( 43 )
قال أبو جعفر: وهذا عتاب من الله تعالى ذكره، عاتبَ به نبيَّه صلى الله عليه وسلم في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه، حين شخص إلى تبوك لغزو الروم، من المنافقين.
يقول جل ثناؤه: ( عفا الله عنك ) ، يا محمد، ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك, وفي التخلف عنك، من قبل أن تعلم صدقه من كذبه
( لم أذنت لهم ) ، لأي شيء أذنت لهم؟ ( حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) ، يقول: ما كان ينبغي لك أن تأذن لهم في التخلف عنك إذ قالوا لك: ( لو استطعنا لخرجنا معك ) , حتى تعرف مَن له العذر منهم في تخلفه، ومن لا عذر له منهم, فيكون إذنك لمن أذنتَ له منهم على علم منك بعذره, وتعلمَ مَنِ الكاذبُ منهم المتخلفُ نفاقًا وشكًّا في دين الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) ، قال: ناسٌ قالوا: استأذِنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا ) ، الآية, عاتبه كما تسمعون, ثم أنـزل الله التي في « سورة النور » , فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء, فقال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ، [ سورة النور: 62 ] ، فجعله الله رخصةً في ذلك من ذلك.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عمرو بن ميمون الأودي قال: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين, وأخذه من الأسارى, فأنـزل الله: ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) ، الآية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، قرأت على سعيد بن أبي عروبة, قال: هكذا سمعته من قتادة, قوله: ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) ، الآية, ثم أنـزل الله بعد ذلك في « سورة النور » : فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ، الآية.
حدثنا صالح بن مسمار قال، حدثنا النضر بن شميل قال، أخبرنا موسى بن سَرْوان, قال: سألت مورِّقًا عن قوله: ( عفا الله عنك ) ، قال: عاتبه ربه.
القول في تأويل قوله : لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( 44 )
قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم سِيمَا المنافقين: أن من علاماتهم التي يُعرفون بها تخلُّفهم عن الجهاد في سبيل الله، باستئذانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركهم الخروجَ معه إذا استنفروا بالمعاذير الكاذبة.
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تأذننَّ في التخلُّف عنك إذا خرجت لغزو عدوّك، لمن استأذنك في التخلف من غير عذر, فإنه لا يستأذنك في ذلك إلا منافق لا يؤمن بالله واليوم الآخر. فأمَّا الذي يصدّق بالله، ويقرُّ بوحدانيته وبالبعث والدار الآخرة والثواب والعقاب, فإنه لا يستأذنك في ترك الغزو وجهاد أعداء الله بماله ونفسه ( والله عليم بالمتقين ) ، يقول: والله ذو علم بمن خافه، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، والمسارعة إلى طاعته في غزو عدوّه وجهادهم بماله ونفسه, وغير ذلك من أمره ونهيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله ) ، فهذا تعييرٌ للمنافقين حين استأذنوا في القُعود عن الجهاد من غير عُذْر, وعَذَر الله المؤمنين, فقال: لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ، [ سورة النور: 62 ] .
القول في تأويل قوله : إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( 45 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: إنما يستأذنك، يا محمد، في التخلف خِلافكَ, وترك الجهاد معك، من غير عذر بيِّنٍ، الذين لا يصدّقون بالله, ولا يقرّون بتوحيده ( وارتابت قلوبهم ) ، يقول: وشكت قلوبهم في حقيقة وحدانية الله, وفي ثواب أهل طاعته, وعقابه أهل معاصيه ( فهم في ريبهم يترددون ) ، يقول: في شكهم متحيِّرون, وفي ظلمة الحيرة متردِّدون, لا يعرفون حقًّا من باطل, فيعملون على بصيرة. وهذه صفة المنافقين.
وكان جماعة من أهل العلم يرون أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية التي ذكرت في « سورة النور » .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري قالا قوله: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ، إلى قوله: ( فهم في ريبهم يترددون ) ، نسختهما الآية التي في « النور » : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ، إلى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، [ سورة النور: 62 ] .
وقد بيَّنَّا « الناسخ والمنسوخ » بما أغنى عن إعادته ههنا.
القول في تأويل قوله : وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ( 46 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أراد هؤلاء المستأذنوك، يا محمد، في ترك الخروج معك لجهاد عدوّك، الخروجَ معك ( لأعدوا له عدة ) ، يقول: لأعدوا للخروج عدة, ولتأهّبوا للسفر والعدوِّ أهْبَتهما ( ولكن كره الله انبعاثهم ) ، يعني: خروجهم لذلك ( فثبطهم ) ، يقول: فثقَّل عليهم الخروجَ حتى استخفُّوا القعودَ في منازلهم خِلافك, واستثقلوا السفر والخروج معك, فتركوا لذلك الخروج ( وقيل اقعدوا مع القاعدين ) ، يعني: اقعدوا مع المرضى والضعفاء الذين لا يجدون ما ينفقون، ومع النساء والصبيان, واتركوا الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجاهدين في سبيل الله.
وكان تثبيط الله إياهم عن الخروج مع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به, لعلمه بنفاقهم وغشهم للإسلام وأهله, وأنهم لو خرجوا معهم ضرُّوهم ولم ينفعوا. وذكر أن الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود كانوا: « عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول » , و « الجد بن قيس » , ومن كانا على مثل الذي كانا عليه. كذلك:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: كان الذين استأذنوه فيما بلغني، من ذوي الشرف، منهم: عبد الله بن أبيّ ابن سلول, والجدّ بن قيس, وكانوا أشرافًا في قومهم, فثبطهم الله، لعلمه بهم، أن يخرجوا معهم، فيفسدوا عليه جنده.
القول في تأويل قوله : لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 47 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لو خرج، أيها المؤمنون، فيكم هؤلاء المنافقون ( ما زادوكم إلا خبالا ) ، يقول: لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادًا وضرًّا، ولذلك ثبَّطتُهم عن الخروج معكم.
وقد بينا معنى « الخبال » ، بشواهده فيما مضى قبل.
( ولأوضعوا خلالكم ) ، يقول: ولأسرعوا بركائبهم السَّير بينكم.
وأصله من « إيضاع الخيل والركاب » , وهو الإسراع بها في السير, يقال للناقة إذا أسرعت السير: « وضعت الناقة تَضَع وَضعًا ومَوْضوعًا » , و « أوضعها صاحبها » ، إذا جدّ بها وأسرع، « يوضعها إيضاعًا » ، ومنه قول الراجز:
يَـــا لَيْتَنِـــي فِيهَـــا جَــذَعْ أَخُــــبُّ فِيهَــــا وَأَضَـــعْ
وأما أصل « الخلال » ، فهو من « الخَلَل » ، وهي الفُرَج تكون بين القوم، في الصفوف وغيرها. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: « تَرَاصُّوا فِي الصُّفُوفِ لا يَتَخَلَّلكُمْ [ الشَّيَاطين، كأنها ] أَوْلادُ الحذَفِ » .
وأما قوله: ( يبغونكم الفتنة ) ، فإن معنى: « يبغونكم الفتنة » ، يطلبون لكم ما تفتنون به، عن مخرجكم في مغزاكم, بتثبيطهم إياكم عنه.
يقال منه: « بغيتُه الشر » , و « بغيتُه الخير » « أبغيه بُغاء » ، إذا التمسته له, بمعنى: « بغيت له » , وكذلك « عكمتك » و « حلبتك » , بمعنى: « حلبت لك » ، و « عكمت لك » , وإذا أرادوا: أعنتك على التماسه وطلبه, قالوا: « أبْغَيتُك كذا » ، و « أحلبتك » ، و « أعكمتك » ، أي: أعنتك عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ولأوضعوا خلالكم ) ، بينكم ( يبغونكم الفتنة ) ، بذلك.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( ولأوضعوا خلالكم ) ، يقول: [ ولأوضعوا بينكم ] ، خلالكم، بالفتنة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ) ، يبطئونكم قال: رفاعة بن التابوت, وعبد الله بن أبيّ ابن سلول, وأوس بن قيظيّ.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( ولأوضعوا خلالكم ) ، قال: لأسرعوا الأزقة ( خلالكم يبغونكم الفتنة ) ، يبطِّئونكم عبد الله بن نبتل, ورفاعة بن تابوت, وعبد الله بن أبي ابن سلول.
...... قال حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة: ( ولأوضعوا خلالكم ) ، قال: لأسرعوا خلالكم يبغونكم الفتنة بذلك.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) ، قال: هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك. يسلِّي الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فقال: وما يُحزنكم؟ ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) ، ! يقولون: « قد جُمع لكم، وفُعِل وفُعِل, يخذِّلونكم » ( ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ) ، الكفر.
وأما قوله: ( وفيكم سَمَّاعون لهم ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معنى ذلك: وفيكم سماعون لحديثكم لهم، يؤدُّونه إليهم، عيون لهم عليكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وفيكم سماعون لهم ) ، يحدِّثون أحاديثكم, عيونٌ غير منافقين.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( وفيكم سماعون لهم ) ، قال: محدِّثون، عيون، غير المنافقين.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وفيكم سماعون لهم ) ، يسمعون ما يؤدُّونه لعدوِّكم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيكم من يسمع كلامهم ويُطيع لهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وفيكم سماعون لهم ) ، وفيكم من يسمع كلامهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: كان الذين استأذنوا، فيما بلغني من ذوي الشرف، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، والجدُّ بن قيس, وكانوا أشرافًا في قومهم, فثبطهم الله، لعلمه بهم: أن يخرجوا معهم، فيفسدوا عليه جُنده. وكان في جنده قوم أهلُ محبةٍ لهم وطاعةٍ فيما يدعونهم إليه، لشرفهم فيهم, فقال: ( وفيكم سمَّاعون لهم ) .
قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويل: وفيكم أهلُ سمع وطاعة منكم، لو صحبوكم أفسدوهم عليكم، بتثبيطهم إياهم عن السير معكم.
وأما على التأويل الأول, فإن معناه: وفيكم منهم سمَّاعون يسمعون حديثكم لهم, فيبلغونهم ويؤدونه إليهم، عيون لهم عليكم.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندي في ذلك بالصواب، تأويلُ من قال: معناه: « وفيكم سماعون لحديثكم لهم، يبلغونه عنكم، عيون لهم » , لأن الأغلب من كلام العرب في قولهم: « سمَّاع » , وصف من وصف به أنه سماع للكلام, كما قال الله جل ثناؤه في غير موضع من كتابه: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [ سورة المائدة: 41 ] ، واصفًا بذلك قومًا بسماع الكذب من الحديث. وأما إذا وصفوا الرجل بسماع كلام الرجل وأمره ونهيه وقبوله منه وانتهائه إليه فإنما تصفه بأنه: « له سامع ومطيع » , ولا تكاد تقول: « هو له سماع مطيع » .
وأما قوله: ( والله عليم بالظالمين ) ، فإن معناه: والله ذو علم بمن يوجّه أفعاله إلى غير وجوهها، ويضعها في غير مواضعها, ومن يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعذر، ومن يستأذنه شكًّا في الإسلام ونفاقًا, ومن يسمع حديث المؤمنين ليخبر به المنافقين، ومن يسمعه ليسرَّ بما سُرَّ به المؤمنون، ويساء بما ساءهم, لا يخفى عليه شيء من سرائر خلقه وعلانيتهم.
وقد بينا معنى « الظلم » في غير موضع من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله : لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ( 48 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لقد التمس هؤلاء المنافقون الفتنة لأصحابك، يا محمد, التمسوا صدَّهم عن دينهم وحرصوا على ردّهم إلى الكفرِ بالتخذيل عنه، كفعل عبد الله بن أبيّ بك وبأصحابك يوم أحدٍ، حين انصرف عنك بمن تبعه من قومه. وذلك كان ابتغاءهم ما كانوا ابتغوا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتنة من قبل. ويعني بقوله: ( من قبل ) ، من قبل هذا ( وقلبوا لك الأمور ) ، يقول: وأجالوا فيك وفي إبطال الدين الذي بعثك به الله الرأيَ بالتخذيل عنك, وإنكار ما تأتيهم به, وردّه عليك ( حتى جاء الحق ) ، يقول: حتى جاء نصر الله ( وظهر أمر الله ) ، يقول: وظهر دين الله الذي أمرَ به وافترضه على خلقه، وهو الإسلام ( وهم كارهون ) ، يقول: والمنافقون بظهور أمر الله ونصره إياك كارهون. وكذلك الآن، يظهرك الله ويظهر دينه على الذين كفروا من الروم وغيرهم من أهل الكفر به، وهم كارهون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( وقلبوا لك الأمور ) ، أي: ليخذِّلوا عنك أصحابك, ويردُّوا عليك أمرك ( حتى جاء الحق وظهر أمر الله ) .
وذكر أن هذه الآية نـزلت في نفرٍ مسمَّين بأعيانهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن عمرو, عن الحسن قوله: ( وقلبوا لك الأمور ) ، قال: منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول, وعبد الله بن نبتل أخو بني عمرو بن عوف, ورفاعة بن رافع, وزيد بن التابوت القينقاعي.
وكان تخذيل عبد الله بن أبيٍّ أصحابَه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزاة, كالذي:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن الزهري, ويزيد بن رومان, وعبد الله بن أبي بكر, وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم, كلُّ قد حدَّث في غزوة تبوك ما بلغَه عنها, وبعض القوم يحدِّث ما لم يحدِّث بعضٌ, وكلٌّ قد اجتمع حديثه في هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم, وذلك في زمان عُسْرةٍ من الناس، وشدة من الحرّ، وجَدْبٍ من البلاد, وحين طاب الثمار، وأحِبَّتِ الظلال, فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم, ويكرهون الشخوص عنها، على الحال من الزمان الذي هم عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّما يخرج في غزوةٍ إلا كَنَى عنها، وأخبر أنه يريد غير الذي يَصْمِدُ له, إلا ما كان من غزوة تبوك, فإنه بيَّنها للناس، لبعد الشُّقَّة، وشدة الزمان وكثرة العدوّ الذي صَمَد له، ليتأهَّب الناس لذلك أُهْبَتَه. فأمر الناس بالجهاد, وأخبرهم أنه يريد الروم. فتجهز الناسُ على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه، لما فيه, مع ما عظَّموا من ذكر الروم وغزوهم.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جَدَّ في سفره, فأمر الناس بالجهازِ والانكماش, وحضَّ أهل الغنى على النفقة والحُمْلان في سبيل الله.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع, وضرب عبد الله بن أبي ابن سلول عسكره على حِدَةٍ أسفلَ منه بحذاء « ذباب » جبل بالجبانة أسفل من ثنية الوداع وكان فيما يزعمون، ليس بأقل العسكرين. فلما سار رَسول الله صلى الله عليه وسلم، تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلَّف من المنافقين وأهل الريب. وكان عبد الله بن أبي، أخا بني عوف بن الخزرج, وعبد الله بن نبتل، أخا بني عمرو بن عوف, ورفاعة بن زيد بن التابوت، أخا بني قينقاع, وكانوا من عظماء المنافقين, وكانوا ممن يكيد للإسلام وأهله.
قال: وفيهم، فيما حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن عمرو بن عبيد, عن الحسن البصري، أنـزل الله: ( لقد ابتغوا الفتنة من قبل ) ، الآية.
القول في تأويل قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( 49 )
قال أبو جعفر: وذكر أن هذه الآية نـزلت في الجدّ بن قيس.
ويعني جل ثناؤه بقوله: ( ومنهم ) ، ومن المنافقين ( من يقول ائذن لي ) ، أقم فلا أشخَصُ معك ( ولا تفتني ) ، يقول: ولا تبتلني برؤية نساء بني الأصفر وبناتِهم, فإنّي بالنساء مغرمٌ, فأخرج وآثَمُ بذلك.
وبذلك من التأويل تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل.
* ذكر الرواية بذلك عمن قاله:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( ائذن لي ولا تفتني ) ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغزُوا تبوك، تغنموا بنات الأصفر ونساء الروم ! فقال الجدّ: ائذن لنا, ولا تفتنَّا بالنساء.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغزوا تغنَموا بنات الأصفر يعني نساء الروم, ثم ذكر مثله.
...... قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: ( ائذن لي ولا تفتني ) ، قال: هو الجدّ بن قيس قال: قد علمت الأنصار أني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن, ولكن أعينك بمالي.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن الزهري, ويزيد بن رومان, وعبد الله بن أبي بكر, وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه، للجد بن قيس أخي بني سلمة: هل لك يا جدُّ العامَ في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله, أوْ تأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رَجل أشدّ عُجْبًا بالنساء منِّي, وإني أخشى إن رأيت نساءَ بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ! فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك, ففي الجد بن قيس نـزلت هذه الآية: ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) ، الآية, أي: إن كان إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر وليس ذلك به, فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه، أعظم.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) ، قال: هو رجل من المنافقين يقال له جَدُّ بن قيس, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: العامَ نغزو بني الأصفر ونتَّخذ منهم سراريّ ووُصفاءَ فقال: أي رسول الله, ائذن لي ولا تفتني, إن لم تأذن لي افتتنت وقعدت ! وغضب [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] , فقال الله: ( ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) ، وكان من بني سلمة, فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: من سيدكم يا بني سَلِمة؟ فقالوا: جدُّ بن قيس, غير أنه بخيلٌ جبان! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « وأيُّ داءٍ أدْوَى من البخل, ولكن سيِّدكم الفتى الأبيض، الجعد: بشر بن البراء بن مَعْرُور. »
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) ، يقول: ائذن لي ولا تحرجني ( ألا في الفتنة سقطوا ) ، يعني: في الحرج سقطوا.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) ، ولا تؤثمني، ألا في الإثم سقطوا.
وقوله: ( وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) ، يقول: وإن النار لمطيفة بمن كفر بالله وجحد آياته وكذَّب رسله, محدقة بهم، جامعة لهم جميعًا يوم القيامة.
يقول: فكفى للجدّ بن قيس وأشكاله من المنافقين بِصِلِيِّها خزيًا.
القول في تأويل قوله : إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ( 50 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن يصبك سرورٌ بفتح الله عليك أرضَ الروم في غَزاتك هذه، يسؤ الجدَّ بن قيس ونظراءه وأشياعهم من المنافقين, وإن تصبك مصيبة بفلول جيشك فيها، يقول الجد ونظراؤه: ( قد أخذنا أمرنا من قبل ) ، أي: قد أخذنا حذرَنا بتخلّفنا عن محمد، وترك أتباعه إلى عدوّه ( من قبل ) ، يقول: من قبل أن تصيبه هذه المصيبة ( ويتولوا وهم فرحون ) ، يقول: ويرتدُّوا عن محمد وهم فرحون بما أصاب محمدًا وأصحابه من المصيبة، بفلول أصحابه وانهزامهم عنه، وقتل من قُتِل منهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( إن تصبك حسنة تسؤهم ) ، يقول: إن تصبك في سفرك هذه الغزوة تبوك ( حسنة تسؤهم ) ، قال: الجدُّ وأصحابه.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( قد أخذنا أمرنا من قبل ) ، حِذْرنا.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( قد أخذنا أمرنا من قبل ) ، قال: حِذْرنا.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( إن تصبك حسنة تسؤهم ) ، إن كان فتح للمسلمين كبر ذلك عليهم وساءَهم.
القول في تأويل قوله : قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 51 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مؤدِّبًا نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عنك: ( لن يصيبنا ) ، أيها المرتابون في دينهم ( إلا ما كتب الله لنا ) ، في اللوح المحفوظ، وقضاه علينا ( هو مولانا ) ، يقول: هو ناصرنا على أعدائه ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) ، يقول: وعلى الله فليتوكل المؤمنون, فإنهم إن يتوكلوا عليه، ولم يرجُوا النصر من عند غيره، ولم يخافوا شيئًا غيره, يكفهم أمورهم، وينصرهم على من بغاهم وكادهم.
القول في تأويل قوله : قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ( 52 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم وبينت لك أمرهم: هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخَلَّتين اللتين هما أحسن من غيرهما, إما ظفرًا بالعدو وفتحًا لنا بِغَلَبَتِناهم, ففيها الأجر والغنيمة والسلامة وإما قتلا من عدوِّنا لنا, ففيه الشهادة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار. وكلتاهما مما نُحبُّ ولا نكره ( ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده ) ، يقول: ونحن ننتظر بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده عاجلة، تهلككم ( أو بأيدينا ) ، فنقتلكم ( فتربصوا إنا معكم متربصون ) ، يقول: فانتظروا إنا معكم منتظرون ما الله فاعل بنا, وما إليه صائرٌ أمر كلِّ فريقٍ منَّا ومنكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ) ، يقول: فتح أو شهادة وقال مرة أخرى: يقول القتل, فهي الشهادة والحياة والرزق. وإما يخزيكم بأيدينا.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ) ، يقول: قتل فيه الحياة والرزق, وإما أن يغلب فيؤتيه الله أجرًا عظيمًا، وهو مثل قوله: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إلى فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [ سورة النساء: 74 ] .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( إلا إحدى الحسنيين ) ، قال: القتل في سبيل الله، والظهور على أعدائه.
...... قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد قال: القتل في سبيل الله, والظهور.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إحدى الحسنيين ) ، القتل في سبيل الله، والظهور على أعداء الله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, بنحوه قال ابن جريج، قال ابن عباس: ( بعذاب من عنده ) ، بالموت ( أو بأيدينا ) , قال: القتل.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ) ، إلا فتحًا أو قتلا في سبيل الله ( ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ) ، أي: قتل.
القول في تأويل قوله : قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 53 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء المنافقين: أنفقوا كيف شئتم أموالكم في سفركم هذا وغيره, وعلى أي حال شئتم، من حال الطوع والكره, فإنكم إن تنفقوها لن يتقبَّل الله منكم نفقاتكم, وأنتم في شك من دينكم، وجهلٍ منكم بنبوة نبيكم، وسوء معرفة منكم بثواب الله وعقابه ( إنكم كنتم قومًا فاسقين ) ، يقول: خارجين عن الإيمان بربكم.
وخرج قوله: ( أنفقوا طوعا أو كرها ) ، مخرج الأمر، ومعناه الجزاء, والعرب تفعل ذلك في الأماكن التي يحسن فيها « إن » ، التي تأتي بمعنى الجزاء, كما قال جل ثناؤه: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [ سورة التوبة: 80 ] ، فهو في لفظ الأمر، ومعناه الجزاء، ومنه قول الشاعر:
أَسِــيئي بِنَـا أَوْ أَحْسِـنِي لا مَلُومَـةً لَدَيْنَـــا, ولا مَقْلِيَّـــةً إِنْ تَقَلَّــتِ
فكذلك قوله: ( أنفقوا طوعًا أو كرهًا ) ، إنما معناه: إن تنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يُتَقَبَّل منكم.
وقيل: إن هذه الآية نـزلت في الجدّ بن قيس، حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم، لما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الخروج معه لغزو الروم: « هذا مالي أعينك به » .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: قال، الجدّ بن قيس: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن, ولكن أعينك بمالي ! قال: ففيه نـزلت ( أنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يتقبل منكم ) ، قال: لقوله « أعينك بمالي » .
القول في تأويل قوله : وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ ( 54 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما منع هؤلاء المنافقين، يا محمد، أن تقبل منهم نفقاتهم التي ينفقونها في سفرهم معك، وفي غير ذلك من السبل، إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله، فـ « أن » الأولى في موضع نصب, والثانية في موضع رفع, لان معنى الكلام: ما منع قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله ( ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ) ، يقول: لا يأتونها إلا متثاقلين بها. لأنهم لا يرجون بأدائها ثوابًا، ولا يخافون بتركها عقابًا, وإنما يقيمونها مخافةً على أنفسهم بتركها من المؤمنين، فإذا أمنوهم لم يقيموها ( ولا ينفقون ) ، يقول: ولا ينفقون من أموالهم شيئًا ( إلا وهم كارهون ) ، أن ينفقونه في الوجه الذي ينفقونه فيه، مما فيه تقوية للإسلام وأهله.
القول في تأويل قوله : فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( 55 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: فلا تعجبك، يا محمد، أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا, إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقال: معنى ذلك التقديمُ، وهو مؤخر.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ) ، قال: هذه من تقاديم الكلام, يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا, إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا, بما ألزمهم فيها من فرائضه.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن المسيّب بن شريك, عن سلمان الأنصري, عن الحسن: ( إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ) ، قال: بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ) ، بالمصائب فيها, هي لهم عذابٌ، وهي للمؤمنين أجرٌ.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا, التأويلُ الذي ذكرنا عن الحسن. لأن ذلك هو الظاهر من التنـزيل, فصرْفُ تأويله إلى ما دلَّ عليه ظاهره، أولى من صرفه إلى باطنٍ لا دلالةَ على صحته.
وإنما وجَّه من وجَّه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر, لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا، وجهًا يوجِّهه إليه, وقال: كيف يعذِّبهم بذلك في الدنيا, وهي لهم فيها سرور؟ وذهبَ عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه إلزامُه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه, إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيِّب النفس، ولا راجٍ من الله جزاءً، ولا من الآخذ منه حمدًا ولا شكرًا، على ضجرٍ منه وكُرْهٍ.
وأما قوله: ( وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) ، فإنه يعني وتخرج أنفسهم, فيموتوا على كفرهم بالله، وجحودهم نبوّةَ نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم.
يقال منه: « زَهَقَت نفس فلان, وزَهِقَت » , فمن قال: « زَهَقت » قال: « تَزْهَق » , ومن قال: « زَهِقت » , قال: « تزهق » ، « زهوقًا » ، ومنه قيل: « زَهَق فلان بين أيدي القوم يَزْهَق زُهُوقا » إذا سبقهم فتقدمهم. ويقال: « زهق الباطل » ، إذا ذهب ودرس.
القول في تأويل قوله : وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ( 56 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويحلف بالله لكم، أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون كذبًا وباطلا خوفًا منكم: ( إنهم لمنكم ) في الدين والملة. يقول الله تعالى، مكذّبًا لهم: ( وما هم منكم ) ، أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم, بل هم أهل شكٍّ ونفاقٍ ( ولكنهم قوم يفرقون ) ، يقول: ولكنهم قوم يخَافونكم, فهم خوفًا منكم يقولون بألسنتهم: « إنا منكم » , ليأمنوا فيكم فلا يُقْتَلوا.
القول في تأويل قوله : لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ( 57 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لو يجد هؤلاء المنافقون « ملجأ » , يقول: عَصَرًا يعتصِرون به من حِصْن, ومَعْقِلا يعتقِلون فيه منكم ( أو مغارات ) ،
وهي الغيران في الجبال, واحدتها: « مغارة » , وهي « مفعلة » ، من: « غار الرجل في الشيء، يغور فيه » ، إذا دخل, ومنه قيل، « غارت العين » ، إذا دخلت في الحدقة.
( أو مدَّخلا ) ، يقول: سَرَبًا في الأرض يدخلون فيه.
وقال: « أو مدّخلا » ، الآية, لأنه « من ادَّخَل يَدَّخِل » .
وقوله: ( لولَّوا إليه ) ، يقول: لأدبروا إليه، هربًا منكم ( وهم يجمحون ) . يقول: وهم يسرعون في مَشْيِهم.
وقيل: إن « الجماح » مشيٌ بين المشيين، ومنه قول مهلهل:
لَقَـدْ جَمَحْـتُ جِمَاحًـا فِـي دِمَـائِهِمُ حَـتَّى رَأَيْـتُ ذَوِي أَحْسَـابِهِمْ خَـمَدُوا
وإنما وصفهم الله بما وصفهم به من هذه الصفة, لأنهم إنما أقاموا بين أَظْهُرِ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم ولما هم عليه من الإيمان بالله وبرسوله، لأنهم كانوا في قومهم وعشيرتهم وفي دورهم وأموالهم, فلم يقدروا على ترك ذلك وفراقه, فصانعوا القوم بالنفاق، ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بالكفر ودعوى الإيمان, وفي أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به والعداوة لهم. فقال الله واصِفَهم بما في ضمائرهم: ( لو يجدون ملجأ أو مغاراتٍ ) ، الآية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( لو يجدون ملجأ ) ، « الملجأ » الحِرْز في الجبال, « والمغارات » ، الغِيران في الجبال. وقوله: ( أو مدَّخلا ) ، و « المدّخل » ، السَّرَب.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا لولّوا إليه وهم يجمحون ) ، « ملجأ » , يقول: حرزًا ( أو مغارات ) ، يعني الغيران ( أو مدخلا ) ، يقول: ذهابًا في الأرض, وهو النفق في الأرض, وهو السَّرَب.
وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا ) ، قال: حرزًا لهم يفرُّون إليه منكم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا ) ، قال: محرزًا لهم, لفرُّوا إليه منكم وقال ابن عباس: قوله: ( لو يجدون ملجأ ) ، حرزًا ( أو مغارات ) , قال: الغيران ( أو مدّخلا ) ، قال: نفقًا في الأرض.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: ( لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا ) ، يقول: « لو يجدون ملجأ » ، حصونًا ( أو مغارات ) ، غِيرانًا ( أو مدخلا ) ، أسرابًا ( لولوا إليه وهم يجمحون ) .
القول في تأويل قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( 58 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن المنافقين الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم في هذه الآيات ( من يلمزك في الصدقات ) ، يقول: يعيبك في أمرها، ويطعُنُ عليك فيها.
يقال منه: « لمز فلان فلانًا يَلْمِزُه, ويَلْمُزُه » إذا عابه وقرصه, وكذلك « همزه » ، ومنه قيل: « فلان هُمَزَةً لُمَزَة, ومنه قول رؤبة: »
قَــارَبْتُ بَيْــنَ عَنَقِــي وَجَـمْزِي فِـي ظِـلِّ عَصْـرَيْ بَـاطِلي وَلَمْزِي
ومنه قول الآخر:
إِذَا لَقَيْتُــكَ تُبْــدِي لِــي مُكَاشَـرَةً وَإِنْ أُغَيَّـبْ, فَـأَنْتَ العَـائِبُ اللُّمَـزَهْ
( فإن أعطوا منها رضوا ) ، يقول: ليس بهم في عيبهم إياك فيها، وطعنهم عليك بسببها، الدِّينُ, ولكن الغضب لأنفسهم, فإن أنت أعطيتهم منها ما يرضيهم رضوا عنك, وإن أنت لم تعطهم منهم سخطوا عليك وعابوك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( ومنهم من يلمزك في الصدقات ) ، قال: يروزك.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( ومنهم من يلمزك في الصدقات ) ، يروزك ويسألك، قال ابن جريج: وأخبرني داود بن أبي عاصم قال: قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت. قال: ورآه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل؟ فنـزلت هذه الآية.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ومنهم من يلمزك في الصدقات ) ، يقول: ومنهم من يطعُنُ عليك في الصدقات. وذكر لنا أن رجلا من أهل البادية حديثَ عهدٍ بأعرابيّةٍ, أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبًا وفضة, فقال: يا محمد, والله لئن كان الله أمرك أن تعدل، ما عدلت ! فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! فمن ذا يعدل عليك بعدي! ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: احذروا هذا وأشباهه فإن في أمتي أشباه هذا، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم, فإذا خرجوا فاقتلوهم, ثم إذا خرجوا فاقتلوهم, ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه، إنما أنا خازن. »
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ومنهم من يلمزك في الصدقات ) ، قال: يطعن.
...... قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أبي سعيد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قَسْمًا, إذ جاءه ابن ذي الخُوَيْصِرَة التميمي, فقال: اعدل، يا رسول الله ! فقال: ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل ! فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه ! قال: دَعْه, فإن له أصحابًا يحتقر أحدكم صلاته مع صَلاتهم، وصيامه مع صيامهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة, فينظر في قُذَذَه فلا ينظر شيئًا, ثم ينظر في نَصْله، فلا يجد شيئًا, ثم ينظر في رِصَافه فلا يجد شيئًا, قد سبق الفَرْثَ والدم, آيتهم رجل، أسود، إحدى يده أو قال: يديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البَضْعَة تَدَرْدَرُ, يخرجون على حين فترة من الناس. قال: فنـزلت: ( ومنهم من يلمزك في الصدقات ) قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأشهد أن عليًّا رحمة الله عليه حين، قتلهم جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
16817م- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) ، قال: هؤلاء المنافقون, قالوا: والله ما يعطيها محمد إلا من أحبَّ, ولا يؤثر بها إلا هواه ! فأخبر الله نبيه, وأخبرهم أنه إنما جاءت من الله, وإن هذا أمر من الله ليس من محمد: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ، الآية.
القول في تأويل قوله : وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ( 59 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أنّ هؤلاء الذين يلمزونك، يا محمد، في الصدقات، رضَوا ما أعطاهم الله ورسوله من عطاء، وقسم لهم من قسم ( وقالوا حسبنا الله ) ، يقول: وقالوا: كافينا الله, ( سيؤتينا الله من فضله ورسوله ) ، يقول: سيعطينا الله من فضل خزائنه، ورسوله من الصدقة وغيرها ( إنا إلى الله راغبون ) ، يقول: وقالوا: إنا إلى الله نرغب في أن يوسع علينا من فضله, فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم.
القول في تأويل قوله : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 60 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما الصدقات إلا للفقراء والمساكين، ومن سماهم الله جل ثناؤه.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة « الفقير » و « المسكين » .
فقال بعضهم: « الفقير » ، المحتاج المتعفف عن المسألة، و « المسكين » ، المحتاج السائل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن أشعث, عن الحسن: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) ، قال: « الفقير » ، الجالس في بيته « والمسكين » ، الذي يسعى.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) ، قال: « المساكين » ، الطوافون, و « الفقراء » ، فقراء المسلمين.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن جرير بن حازم قال، حدثني رجل, عن جابر بن زيد: أنه سئل عن « الفقراء » , قال: « الفقراء » ، المتعففون, و « المساكين » ، الذين يسألون.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله الجزريّ قال: سألت الزهري عن قوله: ( إنما الصدقات للفقراء ) ، قال: الذين في بيوتهم لا يسألون, و « المساكين » ، الذين يخرجون فيسألون.
حدثنا الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن عبد الوارث بن سعيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « الفقير » الذي لا يسأل, و « المسكين » ، الذي يسأل.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب, قال، قال ابن زيد في قوله: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) ، قال: « الفقراء » ، الذين لا يسألون الناس، أهلُ حاجة و « المساكين » ، الذين يسألون الناس.
حدثنا الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « الفقراء » ، الذين لا يسألون, و « المساكين » الذين يسألون.
وقال آخرون: « الفقير » ، هو ذو الزمانة من أهل الحاجة، و « المسكين » ، هو الصحيح الجسم منهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) ، قال: « الفقير » ، من به زَمانة و « المسكين » ، الصحيح المحتاج.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) ، أما « الفقير » ، فالزَّمِن الذي به زَمانة, وأما « المسكين » ، فهو الذي ليست به زمانة.
وقال آخرون: « الفقراء » ، فقراء المهاجرين، و « المساكين » ، من لم يهاجر من المسلمين، وهو محتاج.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا جرير بن حازم, عن علي بن الحكم, عن الضحاك بن مزاحم: ( إنما الصدقات للفقراء ) ، قال: فقراء المهاجرين و « المساكين » ، الذين لم يهاجروا.
...... قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: ( إنما الصدقات للفقراء ) ، المهاجرين, قال: سفيان: يعني: ولا يعطى الأعراب منها شيئًا.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثني أبي, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم, قال: كان يقال: إنما الصدقة لفقراء المهاجرين.
...... قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم قال: كانت تجعل الصدقة في فقراء المهاجرين, وفي سبيل الله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جبير، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي قالا كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار، والزوجة، والعبد، والناقة يحج عليها ويغزو, فنسبهم الله إلى أنهم فقراء, وجعل لهم سهمًا في الزكاة.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم قال: كان يقال: إنما الصدقات في فقراء المهاجرين, وفي سبيل الله.
وقال آخرون: « المسكين » ، الضعيف الكسب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن عون, عن محمد قال: قال عمر: ليس الفقير بالذي لا مال له, ولكن الفقير الأخلقُ الكسْب قال يعقوب: قال ابن علية: « الأخلق » ، المحارَفُ، عندنا.
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أيوب عن ابن سيرين: أن عمر بن الخطاب رحمه الله قال: ليس المسكين بالذي لا مال له، ولكن المسكين الأخلقُ الكسْبِ.
وقال بعضهم: « الفقير » ، من المسلمين، و « المسكين » من أهل الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عمر بن نافع قال: سمعت عكرمة في قوله: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) ، قال: لا تقولوا لفقراء المسلمين « مساكين » , إنما « المساكين » ، مساكين أهل الكتاب.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب, قول من قال: « الفقير » ، هو ذو الفقر أو الحاجة، ومع حاجته يتعفّف عن مسألة الناس والتذلل لهم، في هذا الموضع و « المسكين » هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم.
وإنما قلنا إن ذلك كذلك، وإن كان الفريقان لم يُعْطَيا إلا بالفقر والحاجة، دون الذلة والمسألة, لإجماع الجميع من أهل العلم أن « المسكين » ، إنما يعطى من الصدقة المفروضة بالفقر, وأن معنى « المسكنة » ، عند العرب، الذلة, كما قال الله جل ثناؤه: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ، [ سورة البقرة: 61 ] ، يعني بذلك: الهون والذلة، لا الفقر. فإذا كان الله جل ثناؤه قد صنَّف من قسم له من الصدقة المفروضة قسمًا بالفقر، فجعلهم صنفين, كان معلومًا أن كل صنف منهم غير الآخر. وإذ كان ذلك كذلك، كان لا شك أن المقسوم له باسم « الفقير » ، غير المقسوم له باسم الفقر و « المسكنة » , والفقير المعطَى ذلك باسم الفقير المطلق، هو الذي لا مسكنة فيه. والمعطى باسم المسكنة والفقر، هو الجامع إلى فقره المسكنة, وهي الذلّ بالطلب والمسألة.
فتأويل الكلام، إذ كان ذلك معناه: إنما الصدقات للفقراء: المتعفِّف منهم الذي لا يسأل, والمتذلل منهم الذي يسأل.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك خبَرٌ.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا إسماعيل بن جعفر, عن شريك بن أبي نمر, عن عطاء بن يسار, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس المسكين بالذي تردّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان, إنما المسكين المتعفف! اقرءوا إن شئتم: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ، [ سورة البقرة: 273 ] . »
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: « إنما المسكين المتعفف » على نحو ما قد جرى به استعمال الناس من تسميتهم أهل الفقر « مساكين » , لا على تفصيل المسكين من الفقير.
ومما ينبئ عن أن ذلك كذلك, انتزاعه صلى الله عليه وسلم بقول الله: اقرءوا إن شئم: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ، وذلك في صفة من ابتدأ الله ذكره ووصفه بالفقر فقال: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ، [ سورة البقرة: 273 ] .
وقوله: ( والعاملين عليها ) ، وهم السعاة في قبضها من أهلها, ووضعها في مستحقِّيها، يعطون ذلك بالسعاية, أغنياء كانوا أو فقراء.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألت الزهري: عن « العاملين عليها » , فقال: السعاة.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( والعاملين عليها ) ، قال: جُباتها الذين يجمعونها ويسعون فيها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( والعاملين عليها ) ، الذي يعمل عليها.
ثُمّ اختلف أهل التأويل في قدر ما يعطى العامل من ذلك.
فقال بعضهم: يعطى منه الثُّمُن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن حسن بن صالح, عن جويبر, عن الضحاك قال: للعاملين عليها الثمن من الصدقة.
حدثت عن مسلم بن خالد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( والعاملين عليها ) ، قال: يأكل العمال من السهم الثامن.
وقال آخرون: بل يعطى على قدر عُمالته.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء, عن الأخضر بن عجلان قال، حدثنا عطاء بن زهير العامري, عن أبيه: أنه لقي عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله عن الصدقة: أيُّ مالٍ هي؟ فقال: مالُ العُرْجان والعُوران والعميان، وكل مُنْقَطَع به. فقال له: إن للعاملين حقًّا والمجاهدين! قال: إن المجاهدين قوم أحل لهم، والعاملين عليها على قدر عُمالتهم. ثم قال: لا تحل الصدقة لغنيّ, ولا لذي مِرَّة سويّ
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: يكون للعامل عليها إن عمل بالحق، ولم يكن عمر رحمه الله تعالى ولا أولئك يعطون العامل الثمن, إنما يفرضون له بقدر عُمالته.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن أشعث, عن الحسن: ( والعاملين عليها ) ، قال: كان يعطى العاملون.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: يعطى العامل عليها على قدر عُمالته وأجر مثله.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب, لأن الله جل ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم، وإنما عرّف خلقه أن الصدقات لن تجاوز هؤلاء الأصناف الثمانية إلى غيرهم، وإذ كان كذلك، بما سنوضح بعدُ، وبما قد أوضحناه في موضع آخر, كان معلومًا أن من أعطي منها حقًّا, فإنما يعطى على قدر اجتهاد المعطى فيه. وإذا كان ذلك كذلك, وكان العامل عليها إنما يعطى على عمله، لا على الحاجة التي تزول بالعطية, كان معلومًا أن الذي أعطاه من ذلك إنما هو عِوَض من سعيه وعمله, وأن ذلك إنما هو قدر يستحقه عوضًا من عمله الذي لا يزول بالعطية، وإنما يزول بالعزل.
وأما « المؤلفة قلوبهم » , فإنهم قوم كانوا يُتَألَّفون على الإسلام، ممن لم تصحّ نصرته، استصلاحًا به نفسَه وعشيرتَه, كأبي سفيان بن حرب، وعيينة بن بدر، والأقرع بن حابس, ونظرائهم من رؤساء القبائل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( والمؤلفة قلوبهم ) ، وهم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضَخ لهم من الصدقات, فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرًا قالوا: هذا دين صالح ! وإن كان غير ذلك, عابوه وتركوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن يحيى بن أبي كثير: أن المؤلفة قلوبهم من بني أمية: أبو سفيان بن حرب ومن بني مخزوم: الحارث بن هشام, وعبد الرحمن بن يربوع ومن بني جُمَح: صفوان بن أمية ومن بني عامر بن لؤي: سهيل بن عمرو, وحويطب بن عبد العزى ومن بني أسد بن عبد العزى: حكيم بن حزام ومن بني هاشم: سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ومن بني فزارة: عيينة بن حصن بن بدر ومن بني تميم: الأقرع بن حابس ومن بني نصر: مالك بن عوف ومن بني سليم: العباس بن مرداس ومن ثقيف: العلاء بن حارثة أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم مئة ناقة, إلا عبد الرحمن بن يربوع، وحويطب بن عبد العزى, فإنه أعطى كلَّ رجل منهم خمسين.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري قال، قال صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لأبغض الناس إليّ, فما بَرِح يعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليّ.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ناس كان يتألفهم بالعطية, عيينة بن بدر ومن كان معه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, عن حماد بن سلمة, عن يونس, عن الحسن: ( والمؤلفة قلوبهم ) ، : الذين يُؤَلَّفون على الإسلام.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: وأما « المؤلفة قلوبهم » , فأناس من الأعراب ومن غيرهم, كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألت الزهري عن قوله: ( والمؤلفة قلوبهم ) ، فقال: من أسلم من يهوديّ أو نصراني. قلت: وإن كان غنيًّا؟ قال: وإن كان غنيًّا.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا معقل بن عبيد الله الجزري, عن الزهري: ( والمؤلفة قلوبهم ) ، قال: من هو يهوديّ أو نصرانيّ.
ثم اختلف أهل العلم في وجود المؤلفة اليوم وعدمها, وهل يعطى اليوم أحدٌ على التألف على الإسلام من الصدقة؟
فقال بعضهم: قد بطلت المؤلفة قلوبهم اليوم, ولا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها، وفي سبيل الله، أو لعامل عليها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن أشعث, عن الحسن: ( والمؤلفة قلوبهم ) ، قال: أما « المؤلفة قلوبهم » فليس اليوم.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن عامر قال: لم يبق في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم, إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى, عن حبان بن أبي جبلة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: وأتاه عيينة بن حصن: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ، [ سورة الكهف: 29 ] ، أي: ليس اليوم مؤلفة.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك, عن الحسن قال: ليس اليوم مؤلفة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن عامر قال: إنما كانت المؤلفة قلوبهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم, فلما ولي أبو بكر رحمة الله تعالى عليه، انقطعت الرشى.
وقال آخرون: « المؤلفة قلوبهم » ، في كل زمان, وحقهم في الصدقات.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق قال حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر قال: في الناس اليوم، المؤلفة قلوبهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر, مثله.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي: أن الله جعل الصدقة في معنيين أحدهما: سدُّ خَلَّة المسلمين، والآخر: معونة الإسلام وتقويته. فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يُعطاه الغني والفقير, لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونةً للدين. وذلك كما يعطى الذي يُعطاه بالجهاد في سبيل الله, فإنه يعطى ذلك غنيًّا كان أو فقيرًا، للغزو، لا لسدّ خلته. وكذلك المؤلفة قلوبهم، يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء, استصلاحًا بإعطائهموه أمرَ الإسلام وطلبَ تقويته وتأييده. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم, بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وفشا الإسلام وعز أهله. فلا حجة لمحتجّ بأن يقول: « لا يتألف اليوم على الإسلام أحد، لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم » ، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت.
وأما قوله: ( وفي الرقاب ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه.
فقال بعضهم, وهم الجمهور الأعظم: هم المكاتبون, يعطون منها في فك رقابهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن الحسن بن دينار, عن الحسين: أن مكاتبًا قام إلى أبي موسى الأشعري رحمه الله تعالى وهو يخطب الناسَ يوم الجمعة, فقال له: أيها الأمير، حُثَّ الناس عليَّ ! فحثَّ عليه أبو موسى, فألقى الناسُ عليه عمامة وملاءة وخاتمًا, حتى ألقوا سَوادًا كثيرًا، فلما رأى أبو موسى ما ألقي عليه قال: اجمعوه ! فجمع، ثم أمر به فبيع. فأعطى المكاتب مكاتبته, ثم أعطى الفضل في الرقاب، ولم يرده على الناس, وقال: إنما أعطي الناسُ في الرقاب.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال، سألت الزهري عن قوله: ( وفي الرقاب ) ، قال: المكاتَبون.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وفي الرقاب ) ، قال: المكاتَب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف, عن عمرو, عن الحسن: ( وفي الرقاب ) ، قال: هم المكاتبون.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس أن تُعْتَقَ الرقبة من الزكاة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قولُ من قال: « عنى بالرقاب، في هذا الموضع، المكاتبون » , لإجماع الحجة على ذلك، فإن الله جعل الزكاة حقًّا واجبًا على من أوجبها عليه في ماله، يخرجها منه, لا يرجع إليه منها نفعٌ من عرض الدنيا، ولا عِوَض. والمعتق رقبةً منها، راجع إليه ولاء من أعتقه, وذلك نفع يعود إليه منها.
وأما « الغارمون » ، فالذين استدانوا في غير معصية الله, ثم لم يجدوا قضاء في عين ولا عَرَض.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد قال: « الغارمون » ، من احترق بيته, أو يصيبه السيل فيذهب متاعه, ويدَّانُ على عياله، فهذا من الغارمين.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد في قوله: ( والغارمين ) ، قال: من احترق بيته, وذهب السيل بماله, وادَّان على عياله.
حدثنا أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر قال: « الغارمين » ، المستدين في غير سَرَف, ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال.
...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألنا الزهري عن « الغارمين » , قال: أصحاب الدين.
...... قال، حدثنا معقل, عن عبد الكريم قال، حدثني خادم لعمر بن عبد العزيز خدمه عشرين سنة قال: كتب عمر بن عبد العزيز: أن يُعْطى الغارمون قال أحمد: أكثر ظني: من الصدقات.
...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن جابر, عن أبي جعفر قال: « الغارمون » ، المستدين في غير سرف.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: أما « الغارمون » ، فقوم غرَّقتهم الديون في غير إملاق، ولا تبذير ولا فساد.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « الغارم » ، الذي يدخل عليه الغُرْم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد: ( والغارمين ) ، قال: هو الذي يذهب السيل والحريق بماله, ويدَّان على عياله.
...... قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن أبي جعفر قال: المستدين في غير فساد.
...... قال، حدثني أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر, قال: « الغارمون » ، الذين يستدينون في غير فساد, ينبغي للإمام أن يقضي عنهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد: هم قوم ركبتهم الديون في غير فساد ولا تبذير, فجعل الله لهم في هذه الآية سهمًا.
وأما قوله: ( وفي سبيل الله ) ، فإنه يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده، بقتال أعدائه, وذلك هو غزو الكفار.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وفي سبيل الله ) ، قال: الغازي في سبيل الله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها, أو رجل اشتراها بماله, أو في سبيل الله, أو ابن السبيل, أو رجل كان له جار تصدَّق عليه فأهداها له. »
...... قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي ليلى, عن عطية, عن أبي سعيد الخدري, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحل الصدقة لغني إلا لثلاثة: في سبيل الله, أو ابن السبيل, أو رجل كان له جار فتصدق عليه، فأهداها له.
وأما قوله: ( وابن السبيل ) ، فالمسافر الذي يجتاز من بلد إلى بلد.
و « السبيل » : الطريق, وقيل للضارب فيه: « ابن السبيل » ، للزومه إياه, كما قال الشاعر:
أنَــا ابــنُ الحَـرْبِ رَبَّتْنِـي وَلِيـدًا إلَــى أنْ شِــبْتُ واكْـتَهَلَتْ لِـدَاتِي
وكذلك تفعل العرب, تسمي اللازم للشيء يعرف به: « ابنه » .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان, عن جابر, عن أبي جعفر قال: « ابن السبيل » ، المجتاز من أرض إلى أرض.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مندل, عن ليث, عن مجاهد: ( وابن السبيل ) ، قال: لابن السبيل حق من الزكاة وإن كان غنيًّا، إذا كان مُنْقَطَعًا به.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألت الزهري عن « ابن السبيل » ، قال: يأتي عليَّ ابن السبيل, وهو محتاج. قلت: فإن كان غنيًّا؟ قال: وإن كان غنيًا.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وابن السبيل ) ، الضيف، جعل له فيها حق.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال [ ابن زيد ] : « ابن السبيل » ، المسافر من كان غنيًّا أو فقيرًا، إذا أصيبت نفقته, أو فقدت, أو أصابها شيء, أو لم يكن معه شيء, فحقه واجب.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, أنه قال: في الغني إذا سافر فاحتاج في سفره. قال: يأخذ من الزكاة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن أبي جعفر قال: « ابن السبيل » ، المجتاز من الأرض إلى الأرض.
وقوله: ( فريضة من الله ) ، يقول جل ثناؤه: قَسْمٌ قسمه الله لهم, فأوجبه في أموال أهل الأموال لهم ( والله عليم ) ، بمصالح خلقه فيما فرض لهم، وفي غير ذلك، لا يخفى عليه شيء. فعلى علم منه فرض ما فرض من الصدقة وبما فيها من المصلحة ( حكيم ) ، في تدبيره خلقه, لا يدخل في تدبيره خلل.
واختلف أهل العلم في كيفية قسم الصدقات التي ذكرها الله في هذه الآية, وهل يجب لكل صنف من الأصناف الثمانية فيها حق، أو ذلك إلى رب المال؟ ومن يتولى قسمها، في أن له أن يعطي جميعَ ذلك من شاء من الأصناف الثمانية.
فقال عامة أهل العلم: للمتولي قسمُها ووضعُها في أيِّ الأصناف الثمانية شاء. وإنما سمَّى الله الأصناف الثمانية في الآية، إعلامًا منه خلقَه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف الثمانية إلى غيرها, لا إيجابًا لقسمها بين الأصناف الثمانية الذين ذكرهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون, عن الحجاج بن أرطاة, عن المنهال بن عمرو, عن زرّ بن حبيش, عن حذيفة في قوله: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ) ، قال: إن شئت جعلته في صنف واحد, أو صنفين, أو لثلاثة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن الحجاج, عن المنهال, عن زر, عن حذيفة قال: إذا وضعتها في صنف واحد أجزأ عنك.
...... قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن عطاء, عن عمر: ( إنما الصدقات للفقراء ) ، قال: أيُّما صنف أعطيته من هذا أجزأك.
...... قال، حدثنا ابن نمير, عن عبد المطلب, عن عطاء: ( إنما الصدقات للفقراء ) ، الآية, قال: لو وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف أجزأك. ولو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعفِّفين فجبرتهم بها، كان أحبَّ إليَّ.
...... قال أخبرنا جرير, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين... وابن السبيل ) ، فأيّ صنف أعطيته من هذه الأصناف أجزأك.
...... قال، حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, مثله.
...... قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ) ، قال: إنما هذا شيء أعلمَهُ, فأيَّ صنف من هذه الأصناف أعطيته أجزأ عنك.
...... قال، حدثنا أبي، عن شعبة, عن الحكم, عن إبراهيم: ( إنما الصدقات للفقراء ) ، قال: في أيّ هذه الأصناف وضعتها أجزأك.
...... قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير قال: إذا وضعتها في صنف واحد مما سمَّى الله أجزأك.
...... قال، حدثنا أبي, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية قال: إذا وضعتها في صنف واحد مما سمَّى الله أجزأك.
...... قال، حدثنا خالد بن حيان أبو يزيد, عن جعفر بن يرقان, عن ميمون بن مهران: ( إنما الصدقات للفقراء ) ، قال: إذا جعلتها في صنف واحد من هؤلاء أجزأ عنك.
...... قال، حدثنا محمد بن بشر, عن مسعود, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) ، الآية, قال: أعلمَ أهلَها مَنْ همْ.
...... قال، حدثنا حفص, عن ليث, عن عطاء, عن عمر: أنه كان يأخذ الفرْض في الصدقة, ويجعلها في صنف واحد.
وكان بعض المتأخرين يقول: إذا تولى رب المال قَسْمها كان عليه وضعها في ستة أصناف، وذلك أن المؤلفة قلوبهم عنده قد ذهبوا, وأنّ سهم العاملين يبطل بقسمه إياها. ويزعم أنه لا يجزيه أن يعطي من كل صنف أقل من ثلاثة أنفس. وكان يقول: إن تولى قَسْمها الإمامُ، كان عليه أن يقسمها على سبعة أصناف, لا يجزي عنده غير ذلك.
القول في تأويل قوله : وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين جماعة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه ( ويقولون هو أذن ) ، سامعةٌ, يسمع من كل أحدٍ ما يقول فيقبله ويصدِّقه.
وهو من قولهم: « رجل أذنة » ، مثل « فعلة » إذا كان يسرع الاستماع والقبول, كما يقال: « هو يَقَن، ويَقِن » إذا كان ذا يقين بكل ما حُدِّث. وأصله من « أذِن له يأذَن » ، إذا استمع له. ومنه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: « ما أذِن الله لشيء كأذَنِه لنبيّ يتغنى بالقرآن » ، ومنه قول عدي بن زيد:
أَيُّهـــا القَلْــبُ تَعَلَّــلْ بِــدَدَنْ إنَّ هَمِّـــي فِـــي سَــمَاعِ وَأَذَنْ
وذكر أن هذه الآية نـزلت في نبتل بن الحارث.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، ذكر الله غشَّهم يعني: المنافقين وأذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( ومنهم الذين يؤذون النبيّ ويقولون هو أذن ) ، الآية. وكان الذي يقول تلك المقالة، فيما بلغني، نبتل بن الحارث، أخو بني عمرو بن عوف, وفيه نـزلت هذه الآية، وذلك أنه قال: « إنما محمد أذُنٌ! من حدّثه شيئًا صدّقه ! » ، يقول الله: ( قل أذن خير لكم ) ، أي: يسمع الخير ويصدِّق به.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( قل أذن خير لكم ) .
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ) ، بإضافة « الأذن » إلى « الخير » , يعني: قل لهم، يا محمد: هو أذن خير، لا أذن شرٍّ.
وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك: ( قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ ) ، بتنوين « أذن » , ويصير « خير » خبرًا له, بمعنى: قل: من يسمع منكم، أيها المنافقون، ما تقولون ويصدقكم، إن كان محمد كما وصفتموه، من أنكم إذا أتيتموه، فأنكرتم ما ذكر له عنكم من أذاكم إياه وعيبكم له، سمع منكم وصدقكم خيرٌ لكم من أن يكذبكم ولا يقبل منكم ما تقولون. ثم كذبهم فقال: بل لا يقبل إلا من المؤمنين ( يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ) .
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك, قراءةُ من قرأ: ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ) ، بإضافة « الأذن » إلى « الخير » , وخفض « الخير » , يعني: قل هو أذن خير لكم, لا أذن شر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ) ، يسمع من كل أحد.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ) ، قال: كانوا يقولون: « إنما محمد أذن، لا يحدَّث عنا شيئًا، إلا هو أذن يسمع ما يقال له » .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ويقولون هو أذن ) ، نقول ما شئنا, ونحلف، فيصدقنا.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( هو أذن ) ، قال: يقولون: « نقول ما شئنا, ثم نحلف له فيصدقنا » .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه.
وأما قوله: ( يؤمن بالله ) ، فإنه يقول: يصدِّق بالله وحده لا شريك له.
وقوله: ( ويؤمن للمؤمنين ) ، يقول: ويصدق المؤمنين، لا الكافرين ولا المنافقين.
وهذا تكذيب من الله للمنافقين الذين قالوا: « محمد أذن! » , يقول جل ثناؤه: إنما محمد صلى الله عليه وسلم مستمعُ خيرٍ, يصدِّق بالله وبما جاءه من عنده, ويصدق المؤمنين، لا أهل النفاق والكفر بالله.
وقيل: ( ويؤمن للمؤمنين ) ، معناه: ويؤمن المؤمنين, لأن العرب تقول فيما ذكر لنا عنها: « آمنتُ له وآمنتُه » , بمعنى: صدّقته, كما قيل: رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ، [ سورة النمل: 72 ] ، ومعناه: ردفكم وكما قال: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [ سورة الأعراف: 154 ] ، ومعناه: للذين هم ربّهم يرهبون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله قال: حدثنى معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ) ، يعني: يؤمن بالله، ويصدق المؤمنين.
وأما قوله: ( ورحمة للذين آمنوا منكم ) ، فإن القرأة اختلفت في قراءته, فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: ( وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) ، بمعنى: قل هو أذن خير لكم, وهو رحمة للذين آمنوا منكم فرفع « الرحمة » ، عطفًا بها على « الأذن » .
وقرأه بعض الكوفيين: ( وَرَحْمَةٍ ) ، عطفا بها على « الخير » , بتأويل: قل أذن خير لكم, وأذن رحمة.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءةُ من قرأه: ( وَرَحْمَةٌ ) ، بالرفع، عطفًا بها على « الأذن » , بمعنى: وهو رحمة للذين آمنوا منكم. وجعله الله رحمة لمن اتبعه واهتدى بهداه، وصدَّق بما جاء به من عند ربه, لأن الله استنقذهم به من الضلالة، وأورثهم باتِّباعه جنّاته.
القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 61 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لهؤلاء المنافقين الذين يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويقولون: « هو أذن » ، وأمثالِهم من مكذِّبيه, والقائلين فيه الهُجْرَ والباطل، عذابٌ من الله موجع لهم في نار جهنم.
القول في تأويل قوله : يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( 62 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: يحلف لكم، أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون بالله، ليرضوكم فيما بلغكم عنهم من أذاهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم, وذكرِهم إياه بالطعن عليه والعيب له, ومطابقتهم سرًّا أهلَ الكفر عليكم بالله والأيمان الفاجرة: أنهم ما فعلوا ذلك، وإنهم لعلى دينكم، ومعكم على من خالفكم, يبتغون بذلك رضاكم. يقول الله جل ثناؤه: ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) ، بالتوبة والإنابة مما قالوا ونطقوا ( إن كانوا مؤمنين ) ، يقول: إن كانوا مصدِّقين بتوحيد الله, مقرِّين بوعده ووعيده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( يحلفون بالله لكم ليرضوكم ) ، الآية, ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا, وإن كان ما يقول محمد حقًّا, لهم شَرٌّ من الحمير! قال: فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد حق, ولأنت شر من الحمار ! فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم, فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال له: ما حملك على الذي قلت؟ فجعل يلتَعنُ، ويحلف بالله ما قال ذلك. قال: وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدِّق الصادق، وكذِّب الكاذب ! فأنـزل الله في ذلك: ( يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ) .
القول في تأويل قوله : أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ( 63 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يحلفون بالله كذبًا للمؤمنين ليرضوهم، وهم مقيمون على النفاق, أنه من يحارب الله ورسوله، ويخالفهما فيناوئهما بالخلاف عليهما ( فأن له نار جهنم ) ، في الآخرة ( خالدًا فيها ) ، يقول: لابثًا فيها, مقيمًا إلى غير نهاية؟ ( ذلك الخزي العظيم ) ، يقول: فلُبْثُه في نار جهنم وخلوده فيها، هو الهوان والذلُّ العظيم.
وقرأت القرأة: ( فَأَنَّ ) ، بفتح الألف من « أن » بمعنى: ألم يعلموا أنَّ لمن حادَّ الله ورسوله نارُ جهنم وإعمال « يعلموا » فيها, كأنهم جعلوا « أن » الثانية مكررة على الأولى, واعتمدوا عليها, إذ كان الخبر معها دون الأولى.
وقد كان بعض نحويي البصرة يختار الكسر في ذلك، على الابتداء، بسبب دخول « الفاء » فيها, وأن دخولها فيها عنده دليلٌ على أنها جواب الجزاء, وأنها إذا كانت للجزاء جوابًا، كان الاختيار فيها الابتداء.
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز غيرها فتح الألف في كلا الحرفين, أعني « أن » الأولى والثانية, لأن ذلك قراءة الأمصار, وللعلة التي ذكرت من جهة العربية.
القول في تأويل قوله : يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَـزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ( 64 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يخشى المنافقون أن تنـزل فيهم ( سورة تنبئهم بما في قلوبهم ) , يقول: تظهر المؤمنين على ما في قلوبهم.
وقيل: إن الله أنـزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأن المنافقين كانوا إذا عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا شيئًا من أمره وأمر المسلمين, قالوا: « لعل الله لا يفشي سِرَّنا! » ، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: ( استهزءوا ) , متهددًا لهم متوعدًا: ( إن الله مخرج ما تحذرون ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( يحذر المنافقون أن تنـزل عليهم سورة ) ، قال: يقولون القول بينهم, ثم يقولون: « عسى الله أن لا يفشي سرنا علينا! » .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد مثله إلا أنه قال: سِرَّنا هذا.
وأما قوله: ( إن الله مخرجٌ ما تحذرون ) ، فإنه يعني به: إن الله مظهر عليكم، أيها المنافقون ما كنتم تحذرون أن تظهروه, فأظهر الله ذلك عليهم وفضحهم, فكانت هذه السورة تدعَى: ( الفَاضِحَةَ ) .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كانت تسمَّى هذه السورة: ( الفَاضِحَةَ ) ، فاضحة المنافقين.
القول في تأويل قوله : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ( 65 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن سألت، يا محمد، هؤلاء المنافقين عما قالوا من الباطل والكذب, ليقولن لك: إنما قلنا ذلك لعبًا, وكنا نخوض في حديثٍ لعبًا وهزؤًا! يقول الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، أبالله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزءون؟
وكان ابن إسحاق يقول: الذي قال هذه المقالة: كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: كان الذي قال هذه المقالة فيما بلغني، وديعة بن ثابت, أخو بني أمية بن زيد، من بني عمرو بن عوف.
حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني هشام بن سعد, عن زيد بن أسلم: أن رجلا من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك: ما لقُرَّائنا هؤلاء أرغبُنا بطونًا وأكذبُنا ألسنةً، وأجبُننا عند اللقاء ! فقال له عوف: كذبت, ولكنك منافق! لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فذهب عوف إلى رسول الله ليخبره, فوجد القرآن قد سبقه قال زيد قال عبد الله بن عمر: فنظرت إليه متعلقًا بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبُهُ الحجارة, يقول: ( إنما كنا نخوض ونلعب ) ! فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ) ؟ ما يزيده.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني هشام بن سعد, عن زيد بن أسلم, عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغبَ بطونًا، ولا أكذبَ ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء! فقال رجل في المجلس: كذبتَ, ولكنك منافق ! لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونـزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقًا بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَنْكُبه الحجارة, وهو يقول: « يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب! » , ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب, عن عكرمة في قوله: ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ) ، إلى قوله: ( بأنهم كانوا مجرمين ) ، قال: فكان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول: « اللهم إني أسمع آية أنا أعْنَى بها, تقشعرُّ منها الجلود, وتَجِبُ منها القلوب, اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك, لا يقول أحدٌ: أنا غسَّلت, أنا كفَّنت, أنا دفنت » ، قال: فأصيب يوم اليمامة, فما من أحدٍ من المسلمين إلا وُجد غيره.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ) ، الآية, قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوته إلى تبوك, وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا: « يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشأم وحصونها! هيهات هيهات » ! فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: « احبسوا عليَّ الرَّكْب ! فأتاهم فقال: قلتم كذا، قلتم كذا. قالوا: » يا نبي الله، إنما كنا نخوض ونلعب « ، فأنـزل الله تبارك وتعالى فيهم ما تسمعون. »
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ) ، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ورَكْب من المنافقين يسيرون بين يديه, فقالوا: يظن هذا أن يفتح قصورَ الروم وحصونها ! فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا, فقال: عليّ بهؤلاء النفر ! فدعاهم فقال: قلتم كذا وكذا! فحلفوا: ما كنا إلا نخوض ونلعب!
حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قُرَّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونًا, وأكذبنا ألسنة, وأجبننا عند اللقاء ! فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته, فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم, إنما كنا نخوض ونلعب ! فقال: ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) ، إلى قوله: ( مجرمين ) ، وإن رجليه لتنسفان الحجارة, وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو متعلق بنِسْعَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إنما كنا نخوض ونلعب ) ، قال: قال رجل من المنافقين: « يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا، في يوم كذا وكذا! وما يدريه ما الغيب؟ » .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, بنحوه.
القول في تأويل قوله : لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ( 66 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الذين وصفت لك صفتهم: ( لا تعتذروا ) ، بالباطل, فتقولوا: ( كنا نخوض ونلعب ) ( قد كفرتم ) ، يقول: قد جحدتم الحق بقولكم ما قلتم في رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ( بعد إيمانكم ) ، يقول: بعد تصديقكم به وإقراركم به ( إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ) .
وذكر أنه عُنِي: بـ « الطائفة » ، في هذا الموضع، رجلٌ واحد.
وكان ابن إسحاق يقول فيما:-
حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: كان الذي عُفِي عنه، فيما بلغني مَخْشِيّ بن حُمَيِّر الأشجعي، حليف بني سلمة, وذلك أنه أنكر منهم بعض ما سمع.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حبان, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب: ( إن نعف عن طائفة منكم ) ، قال: « طائفة » ، رجل.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: ( إن نعف عن طائفة منكم ) ، بإنكاره ما أنكر عليكم من قبل الكفر ( نعذب طائفة ) ، بكفره واستهزائه بآيات الله ورسوله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، قال بعضهم: كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث, يسير مجانبًا لهم, فنـزلت: ( إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ) ، فسُمِّي « طائفةً » وهو واحدٌ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك. إن تتب طائفة منكم فيعفو الله عنه, يعذب الله طائفة منكم بترك التوبة.
وأما قوله: ( إنهم كانوا مجرمين ) ، فإن معناه: نعذب طائفة منهم باكتسابهم الجرم, وهو الكفر بالله, وطعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله : الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 67 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( المنافقون والمنافقات ) ، وهم الذين يظهرون للمؤمنين الإيمانَ بألسنتهم، ويُسِرُّون الكفرَ بالله ورسوله ( بعضهم من بعض ) ، يقول: هم صنف واحد, وأمرهم واحد، في إعلانهم الإيمان، واستبطانهم الكفر ( يأمرون ) مَنْ قبل منهم ( بالمنكر ) , وهو الكفر بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به وتكذيبه ( وينهون عن المعروف ) ، يقول: وينهونهم عن الإيمان بالله ورسوله، وبما جاءهم به من عند الله
وقوله: ( ويقبضون أيديهم ) ، يقول: ويمسكون أيديهم عن النفقة في سبيل الله، ويكفُّونها عن الصدقة, فيمنعون الذين فرضَ الله لهم في أموالهم ما فرَض من الزكاة حقوقَهم، كما:-
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( ويقبضون أيديهم ) ، قال: لا يبسطونها بنفقة في حق.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ويقبضون أيديهم ) ، لا يبسطونها بخير.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ويقبضون أيديهم ) ، قال: يقبضون أيديهم عن كل خير.
وأما قوله: ( نسوا الله فنسيهم ) ، فإن معناه: تركوا الله أن يطيعوه ويتبعوا أمره, فتركهم الله من توفيقه وهدايته ورحمته.
وقد دللنا فيما مضى على أن معنى « النسيان » ، الترك، بشواهده, فأغنى ذلك عن إعادته ههنا.
وكان قتادة يقول في ذلك ما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, قتادة قوله: ( نسوا الله فنسيهم ) ، نُسُوا من الخير, ولم ينسوا من الشرّ.
قوله: ( إن المنافقين هم الفاسقون ) ، يقول: إن الذين يخادعون المؤمنين بإظهارهم لهم بألسنتهم الإيمانَ بالله, وهم للكفر مستبطنون, هم المفارقون طاعةَ الله، الخارجون عن الإيمان به وبرسوله.
القول في تأويل قوله : وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ( 68 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار ) بالله ( نار جهنم ) ، أن يصليهموها جميعًا ( خالدين فيها ) ، يقول: ماكثين فيها أبدًا, لا يحيون فيها ولا يموتون ( هي حسبهم ) ، يقول: هي كافيتهم عقابًا وثوابًا على كفرهم بالله ( ولعنهم الله ) ، يقول: وأبعدهم الله وأسحقهم من رحمته ( ولهم عذاب مقيم ) ، يقول: وللفريقين جميعًا: يعني من أهل النفاق والكفر، عند الله ( عذابٌ مقيم ) ، دائم, لا يزول ولا يبيد.
القول في تأويل قوله : كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 69 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المنافقين الذين قالوا: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ : أبالله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزئون؟ ( كالذين من قبلكم ) ، من الأمم الذين فعلوا فعلكم، فأهلكهم الله, وعجل لهم في الدنيا الخزي، مع ما أعدَّ لهم من العقوبة والنكال في الآخرة. يقول لهم جل ثناؤه: واحذروا أن يحل بكم من عقوبة الله مثل الذي حلّ بهم, فإنهم كانوا أشد منكم قوةً وبطشًا, وأكثر منكم أموالا وأولادًا ( فاستمتعوا بخلاقهم ) ، يقول: فتمتعوا بنصيبهم وحظهم من دنياهم ودينهم, ورضوا بذلك من نصيبهم في الدنيا عوضًا من نصيبهم في الآخرة، وقد سلكتم، أيها المنافقون، سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم. يقول: فعلتم بدينكم ودنياكم، كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم، الذين أهلكتهم بخِلافهم أمري ( بخلاقهم ) , يقول: كما فعل الذين من قبلكم بنصيبهم من دنياهم ودينهم ( وخضتم ) ، في الكذب والباطل على الله ( كالذي خاضوا ) , يقول: وخضتم أنتم أيضًا، أيها المنافقون، كخوض تلك الأمم قبلكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني أبو معشر, عن سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتأخذُنَّ كما أخذ الأمم من قبلكم, ذراعًا بذراع, وشبرًا بشبر, وباعًا بباع، حتى لو أن أحدًا من أولئك دخل جُحر ضبٍّ لدخلتموه! قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم القرآن: ( كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا ) قالوا: يا رسول الله, كما صنعت فارس والروم؟ قال: فهل الناس إلا هم؟
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج، عن عمر بن عطاء, عن عكرمة، عن ابن عباس قوله: ( كالذين من قبلكم ) ، الآية قال، قال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة! ( كالذين من قبلكم ) ، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم, لا أعلم إلا أنه قال: والذي نفسي بيده لتَتَّبِعُنَّهم حتى لو دخل الرجل منهم جُحْر ضبٍّ لدخلتموه.
...... قال ابن جريج: وأخبرنا زياد بن سعد, عن محمد بن زيد بن مهاجر, عن سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لتتبعُن سَننَ الذين من قبلكم، شبرًا بشبر, وذراعًا بذراع, وباعًا بباع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه! قالوا: ومن هم، يا رسول الله؟ أهلُ الكتاب! قال: فَمَهْ!
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال أبو سعيد الخدري أنه قال: فمن.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( فاستمتعوا بخلاقهم ) ، قال: بدينهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « حَذَّركم أن تحدثوا في الإسلام حَدَثًا، وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوامٌ من هذه الأمة, فقال الله في ذلك: ( فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا ) ، وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم, وإن الفتنة عائدة كما بدأت. »
وأما قوله: ( أولئك حبطت أعمالهم ) ، فإن معناه: هؤلاء الذين قالوا: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ وفعلوا في ذلك فعل الهالكين من الأمم قبلهم ( حبطت أعمالهم ) ، يقول: ذهبت أعمالهم باطلا. فلا ثوابَ لها إلا النار, لأنها كانت فيما يسخط الله ويكرهه ( وأولئك هم الخاسرون ) ، يقول: وأولئك هم المغبونون صفقتهم، ببيعهم نعيم الآخرة بخلاقهم من الدنيا اليسيرِ الزهيدِ
القول في تأويل قوله : أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 70 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألم يأت هؤلاء المنافقين الذين يُسِرُّون الكفرَ بالله, وينهون عن الإيمان به وبرسوله ( نبأ الذين من قبلهم ) ، يقول: خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم، حين عصوا رسلنا وخالفوا أمرنا، ماذا حلّ بهم من عقوبتنا؟
ثم بين جل ثناؤه مَنْ أولئك الأمم التي قال لهؤلاء المنافقين ألم يأتهم نَبَأهُم, فقال: ( قوم نوح ) ، ولذلك خفض « القوم » ، لأنه ترجم بهن عن « الذين » , و « الذين » في موضع خفض.
ومعنى الكلام: ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر قوم نوح وصنيعي بهم, إذ كذبوا رسولي نوحًا، وخالفوا أمري؟ ألم أغرقهم بالطوفان؟
( وعاد ) ، يقول: وخبر عاد، إذ عصوا رسولي هودًا, ألم أهلكهم بريح صرصر عاتية ؟ وخبر ثمود، إذ عصوا رسولي صالحًا, ألم أهلكهم بالرجفة, فأتركهم بأفنيتهم خمودًا؟ وخبر قوم إبراهيم، إذ عصوه وردُّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من الحق, ألم أسلبهم النعمة، وأهلك ملكهم نمرود؟ وخبر أصحابِ مَدْين بن إبراهيم, ألم أهلكهم بعذاب يوم الظلة إذ كذبوا رسولي شعيبًا؟ وخبر المنقلبة بهم أرضُهم, فصار أعلاها أسفلها, إذ عصوا رسولي لوطًا، وكذبوا ما جاءهم به من عندي من الحق؟ يقول تعالى ذكره: أفأمن هؤلاء المنافقون الذين يستهزءون بالله وبآياته ورسوله, أن يُسْلك بهم في الانتقام منهم، وتعجيل الخزي والنكال لهم في الدنيا، سبيلُ أسلافهم من الأمم, ويحلّ بهم بتكذيبهم رسولي محمدًا صلى الله عليه وسلم ما حلّ بهم في تكذيبهم رُسلنا, إذ أتتهم بالبينات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( والمؤتفكات ) ، قال: قوم لوط، انقلبت بهم أرضهم, فجعل عاليها سافلها.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( والمؤتفكات ) ، قال: هم قوم لوط.
فإن قال قائل: فإن كان عني بـ « المؤتفكات » قوم لوط, فكيف قيل: « المؤتفكات » , فجمعت ولم توحّد؟
قيل: إنها كانت قريات ثلاثًا, فجمعت لذلك, ولذلك جمعت بالتاء، على قول الله: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ، [ سورة النجم: 53 ] .
فإن قال: وكيف قيل: أتتهم رسلهم بالبينات, وإنما كان المرسل إليهم واحدًا؟
قيل: معنى ذلك: أتى كل قرية من المؤتفكات رسولٌ يدعوهم إلى الله, فتكون رُسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم إليهم للدعاء إلى الله عن رسالته، رسلا إليهم, كما قالت العرب لقوم نسبوا إلى أبي فديك الخارجي: « الفُدَيْكات » ، و « أبو فديك » ، واحدٌ, ولكن أصحابه لما نسبوا إليه وهو رئيسهم، دعوا بذلك، ونسبوا إلى رئيسهم. فكذلك قوله: ( أتتهم رسلهم بالبينات ) .
وقد يحتمل أن يقال معنى ذلك: أتت قوم نوح وعاد وثمود وسائر الأمم الذين ذكرهم الله في هذه الآية، رسلهم من الله بالبينات.
وقوله: ( فما كان الله ليظلمهم ) ، يقول جل ثناؤه: فما أهلك الله هذه الأمم التي ذكر أنه أهلكها إلا بإجرامها وظلمها أنفسها، واستحقاقها من الله عظيم العقاب, لا ظلمًا من الله لهم، ولا وضعًا منه جل ثناؤه عقوبةً في غير من هو لها أهلٌ، لأن الله حكيم لا خلل في تدبيره، ولا خطأ في تقديره, ولكن القوم الذين أهلكهم ظلموا أنفسهم بمعصية الله وتكذيبهم رسله، حتى أسخطوا عليهم ربهم، فحقت عليهم كلمة العذاب فعذِّبوا.
القول في تأويل قوله : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 71 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأما « المؤمنون والمؤمنات » , وهم المصدقون بالله ورسوله وآيات كتابه, فإن صفتهم: أن بعضهم أنصارُ بعض وأعوانهم ( يأمرون بالمعروف ) ، يقول: يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله, وبما جاء به من عند الله، [ ( وينهون عن المنكر ) ... ] ( ويقيمون الصلاة ) ، يقول: ويؤدُّون الصلاة المفروضة ( ويؤتون الزكاة ) ، يقول: ويعطون الزكاة المفروضةَ أهلَها ( ويطيعون الله ورسوله ) ، فيأتمرون لأمر الله ورسوله، وينتهون عما نهياهم عنه ( أولئك سيرحمهم الله ) ، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم، الذين سيرحمهم الله, فينقذهم من عذابه، ويدخلهم جنته, لا أهل النفاق والتكذيب بالله ورسوله, الناهون عن المعروف, الآمرون بالمنكر, القابضون أيديهم عن أداء حقّ الله من أموالهم ( إن الله عزيز حكيم ) ، يقول: إن الله ذو عزة في انتقامه ممن انتقم من خلقه على معصيته وكفره به, لا يمنعه من الانتقام منه مانع، ولا ينصره منه ناصر ( حكيم ) ، في انتقامه منهم، وفي جميع أفعاله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية قال: كل ما ذكره الله في القرآن من « الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » , فـ « الأمر بالمعروف » ، دعاء من الشرك إلى الإسلام و « النهي عن المنكر » ، النهي عن عبادة الأوثان والشياطين.
...... قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( يقيمون الصلاة ) ، قال: الصلوات الخمس.
القول في تأويل قوله : وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 72 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعد الله الذين صدقوا الله ورسوله، وأقرُّوا به وبما جاء به من عند الله، من الرجال والنساء ( جنات تجري من تحتها الأنهار ) ، يقول: بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار ( خالدين فيها ) ، يقول: لابثين فيها أبدًا، مقيمين لا يزول عنهم نعيمها ولا يبيد ( ومساكن طيبة ) ، يقول: ومنازل يسكنونها طيبةً.
و « طيبها » أنها، فيما ذكر لنا، كما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان, عن جَسْر، عن الحسن قال: سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن آية في كتاب الله تبارك وتعالى: ( ومساكن طيبة في جنات عدن ) ، فقالا على الخبير سقطت! سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قصرٌ في الجنة من لؤلؤ, فيه سبعون دارًا من ياقوتة حمراء, في كل دار سبعون بيتًا من زمردة خضراء, في كل بيت سبعون سريرًا.
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا قرة بن حبيب, عن جَسْر بن فرقد, عن الحسن, عن عمران بن حصين وأبي هريرة قالا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ( ومساكن طيبة في جنات عدن ) ، قال: قصر من لؤلؤة, في ذلك القصر سبعون دارًا من ياقوتة حمراء, في كل دار سبعون بيتًا من زبرجدة خضراء, في كل بيت سبعون سريرًا, على كل سرير فراشًا من كل لون, على كل فراش زوجة من الحور العين, في كل بيت سبعون مائدة, على كل مائدة سبعون لونًا من طعام, في كل بيت سبعون وصيفة، ويعطى المؤمن من القوة في غَداةٍ واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع.
وأما قوله: ( في جنات عدن ) ، فإنه يعني: وهذه المساكن الطيبة التي وصفها جل ثناؤه، ( في جنات عدن ) .
و « في » من صلة « مساكن » .
وقيل: « جنات عدن » , لأنها بساتين خلد وإقامة، لا يظعَنُ منها أحدٌ.
وقيل: إنما قيل لها ( جنات عدن ) , لأنها دارُ الله التي استخلصها لنفسه، ولمن شاء من خلقه من قول العرب: « عَدَن فلان بأرض كذا » , إذا أقام بها وخلد بها, ومنه « المَعْدِن » , ويقال: « هو في معدِن صدق » , يعني به: أنه في أصلٍ ثابت. وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى:
وَإنْ يَسْـــتَضِيفُوا إلَـــى حِلْمِــه يُضَــافُوا إلَـى رَاجِـحٍ قَـدْ عَـدَن
وينشد: « قد وَزَن » .
وكالذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وجماعة معه فيما ذكر، يتأوّلونه.
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير, عن خصيف, عن عكرمة, عن ابن عباس: ( جنات عدن ) ، قال: « معدن الرجل » ، الذي يكون فيه.
حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا الليث بن سعد، عن زيادة بن محمد, عن محمد بن كعب القرظي, عن فضالة بن عبيد, عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يفتح الذكرَ في ثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأولى منهن ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت. ثم ينـزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن, وهي في داره التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر, وهي مسكنه, ولا يسكن معه من بني آدم غير ثلاثة: النبيين، والصديقين، والشهداء, ثم يقول: طوبى لمن دخلك ، وذكر في الساعة الثالثة.
حدثني موسى بن سهل قال، حدثنا آدم قال، حدثنا الليث بن سعد قال، حدثنا زيادة بن محمد, عن محمد بن كعب القرظي, عن فضالة بن عبيد, عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عدن دارُه يعني دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر, وهي مسكنه, ولا يسكنها معه من بني آدم غير ثلاثة: النبيين, والصديقين, والشهداء. يقول الله تبارك وتعالى: طوبى لمن دخلك.
وقال آخرون: معنى ( جنات عدن ) ، جنات أعناب وكروم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن أبي سريج الرازي قال، حدثنا زكريا بن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو, عن زيد بن أبي أنيسة, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث: أن ابن عباس سأل كعبًا عن جنات عدن، فقال: هي الكروم والأعناب، بالسريانية.
وقال آخرون: هي اسم لبُطْنان الجنة ووَسطها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا شعبة, عن سليمان الأعمش, عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله قال: « عدن » ، بُطْنان الجنة.
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان وشعبة, عن الأعمش, عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله في قوله: ( جنات عدن ) ، قال: بُطْنان الجنة قال ابن بشار في حديثه، فقلت: ما بطنانها؟ وقال ابن المثنى في حديثه، فقلت للأعمش: ما بطنان الجنة؟ قال: وَسطها.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن عبد الله بن مرة، وأبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله: ( جنات عدن ) ، قال: بطنان الجنة.
...... قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله, بمثله.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن سليمان, عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله, مثله.
حدثنا أحمد بن أبي سريج قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي الضحى، وعبد الله بن مرة، عنهما جميعًا, أو عن أحدهما, عن مسروق, عن عبد الله: ( جنات عدن ) ، قال: بطنان الجنة.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله بن مسعود في قول الله: ( جنات عدن ) ، قال: بُطْنان الجنة.
وقال آخرون: « عدن » ، اسم لقصر.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبدة أبو غسان, عن عون بن موسى الكناني, عن الحسن قال: « جنات عدن » , وما أدراك ما جنات عدن؟ قصرٌ من ذهَب، لا يدخله إلا نبي، أو صدّيق، أو شهيد، أو حكم عدل، ورفع به صوته.
حدثنا أحمد بن أبي سريج قال، حدثنا عبد الله بن عاصم قال، حدثنا عون بن موسى قال: سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول: جنات عدن, وما أدراك ما جنات عدن؟ قصر من ذهب, لا يدخله إلا نبيّ، أو صدّيق, أو شهيد, أو حكم عدل رفع الحسن به صوته.
حدثنا أحمد قال، حدثنا يزيد قال: أخبرنا حماد بن سلمة, عن يعلى بن عطاء, عن نافع بن عاصم, عن عبد الله بن عمرو قال: إن في الجنة قصرًا يقال له « عدن » , حوله البروج والرُّوح, له خمسون ألف باب، على كل باب حِبَرة, لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق.
حدثنا الحسن بن ناصح قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة, عن يعلى بن عطاء قال: سمعت يعقوب بن عاصم يحدث, عن عبد الله بن عمرو: إن في الجنة قصرًا يقال له « عدن » , له خمسة آلاف باب, على كل باب خمسة آلاف حِبَرة, لا يدخله إلا نبي أو صدّيق أو شهيد.
وقيل: هي مدينة الجنة.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن عبد الرحمن المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: في ( جنات عدن ) ، قال: هي مدينة الجنة, فيها الرُّسُل والأنبياء والشهداء، وأئمة الهدى, والناس حولهم بعدُ, والجنات حولها.
وقيل: إنه اسم نهر.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن المحاربي, عن واصل بن السائب الرقاشي, عن عطاء قال: « عدن » ، نهر في الجنة, جنّاته على حافتيه.
وأما قوله: ( ورضوان من الله أكبر ) ، فإن معناه: ورضَى الله عنهم أكبر من ذلك كله, وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك, عن مالك بن أنس, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة ! فيقولون: لبّيك ربَّنَا وسعْدَيك ! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضلَ من ذلك. قالوا: يا ربّ، وأيُّ شيء أفضل من ذلك! قال: أحِلّ عليكم رضوَاني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا.
حدثنا ابن حميد قال، حدثني يعقوب, عن حفص, عن شمر قال: يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب، إلى الرجل حين ينشقُّ عنه قبره, فيقول: أبشر بكرامة الله! أبشر برضوان الله ! فيقول مثلك من يبشِّر بالخير؟ ومن أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي كُنْت أسهِر ليلك, وأُظمئ نهارك! فيحمله على رقبته حتى يُوافي به ربَّه, فيمثُلُ بين يديه فيقول: يا رب، عبدك هذا، اجزه عني خيرًا, فقد كنت أسهر ليله, وأظمئ نهاره, وآمره فيطيعني, وأنهاه فيطيعني. فيقول الرب تبارك وتعالى: فله حُلَّة الكرامة. فيقول: أي ربّ، زدْهُ, فإنه أهلُ ذلك ! فيقول: فله رِضْواني قال: ( ورضوان من الله أكبر ) .
وابتُدِئ الخبر عن « رضوان الله » للمؤمنين والمؤمنات أنه أكبر من كلّ ما ذكر جل ثناؤه, فرفع, وإن كان « الرضوان » فيما قد وعدهم. ولم يعطف به في الإعراب على « الجنات » و « المساكن الطيبة » , ليعلم بذلك تفضيلُ الله رضوانَه عن المؤمنين، على سائر ما قسم لهم من فضله، وأعطاهم من كرامته, نظير قول القائل في الكلام لآخر: « أعطيتك ووصلتك بكذا, وأكرمتك, ورضاي بعدُ عنك أفضل لك » .
( ذلك هو الفوز العظيم ) ، هذه الأشياء التي وعدت المؤمنين والمؤمنات ( هو الفوز العظيم ) , يقول: هو الظفر العظيم، والنجاء الجسيم, لأنهم ظفروا بكرامة الأبد, ونَجوْا من الهوان في سَقَر، فهو الفوز العظيم الذي لا شيء أعظم منه.
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 73 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( يا أيها النبي جاهد الكفار ) ، بالسيف والسلاح ( والمنافقين ) .
واختلف أهل التأويل في صفة « الجهاد » الذي أمر الله نبيه به في المنافقين. فقال بعضهم: أمره بجهادهم باليد واللسان, وبكل ما أطاق جهادَهم به.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، ويحيى بن آدم, عن حسن بن صالح, عن علي بن الأقمر, عن عمرو بن جندب, عن ابن مسعود في قوله: ( جاهد الكفار والمنافقين ) ، قال: بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, فإن لم يستطع فليكفهرَّ في وجهه.
وقال آخرون: بل أمره بجهادهم باللسان.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله تعالى: ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) ، فأمره الله بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان, وأذهبَ الرفق عنهم.
حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( جاهد الكفار والمنافقين ) ، قال: « الكفار » ، بالقتال, و « المنافقين » ، أن يغلُظ عليهم بالكلام.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) ، يقول: جاهد الكفار بالسيف, وأغلظ على المنافقين بالكلام، وهو مجاهدتهم.
وقال آخرون: بل أمره بإقامة الحدود عليهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( جاهد الكفار والمنافقين ) ، قال: جاهد الكفار بالسيف, والمنافقين بالحدود, أقم عليهم حدودَ الله.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) ، قال: أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يجاهد الكفار بالسيف, ويغلظ على المنافقين في الحدود.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب، ما قال ابن مسعود: من أنّ الله أمر نبيَه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين, بنحو الذي أمرَه به من جهاد المشركين.
فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظُهرِ أصحابه، مع علمه بهم؟
قيل: إن الله تعالى ذكره إنما أمر بقتال من أظهرَ منهم كلمةَ الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك. وأمّا مَنْ إذا اطُّلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأُخِذ بها, أنكرها ورجع عنها وقال: « إني مسلم » , فإن حكم الله في كلّ من أظهر الإسلام بلسانه, أن يحقِنَ بذلك له دمه وماله، وإن كان معتقدًا غير ذلك, وتوكَّل هو جلّ ثناؤه بسرائرهم, ولم يجعل للخلق البحثَ عن السرائر. فلذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع علمه بهم وإطْلاع الله إياه على ضمائرهم واعتقاد صُدورهم, كان يُقِرّهم بين أظهر الصحابة, ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبَه الحرب على الشرك بالله، لأن أحدهم كان إذا اطُّلِع عليه أنه قد قال قولا كفر فيه بالله، ثم أخذ به أنكره وأظهر الإسلام بلسانه. فلم يكن صلى الله عليه وسلم يأخذه إلا بما أظهر له من قوله، عند حضوره إياه وعزمه على إمضاء الحكم فيه, دون ما سلف من قولٍ كان نطقَ به قبل ذلك, ودون اعتقاد ضميرِه الذي لم يبح الله لأحَدٍ الأخذ به في الحكم، وتولَّى الأخذَ به هو دون خلقه.
وقوله: ( واغلظ عليهم ) ، يقول تعالى ذكره: واشدد عليهم بالجهاد والقتال والإرْهاب.
وقوله: ( ومأواهم جهنم ) ، يقول: ومساكنهم جهنم، وهي مثواهم ومأواهم ( وبئس المصير ) ، يقول: وبئس المكان الذي يُصَار إليه جهنَّمُ.
القول في تأويل قوله : يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 74 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي نـزلت فيه هذه الآية, والقول الذي كان قاله, الذي أخبر الله عنه أنه يحلف بالله ما قاله.
فقال بعضهم: الذي نـزلت فيه هذه الآية: الجُلاس بن سويد بن الصامت.
وكان القولُ الذي قاله، ما:-
حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن هشام بن عروة, عن أبيه: ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ) ، قال: نـزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت, قال: « إن كان ما جاء به محمد حقًّا, لنحن أشرُّ من الحُمُر! » ، فقال له ابن امرأته: والله، يا عدو الله, لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت, فإني إن لا أفعل أخاف أن تصيبني قارعةٌ، وأؤاخذ بخطيئتك ! فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس, فقال: « يا جُلاس، أقلت كذا وكذا؟ فحلف ما قال, فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمُّوا بما لم ينالوا وما نَقَموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) . »
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية الضرير, عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: نـزلت هذه الآية: ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) ، في الجلاس بن سويد بن الصامت, أقبل هو وابن امرأته مُصْعَب من قُباء, فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقًّا لنحن أشرُّ من حُمُرنا هذه التي نحن عليها ! فقال مصعب: أما والله، يا عدو الله، لأخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلتَ ! فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم, وخشيت أن ينـزل فيَّ القرآن، أو تصيبني قارعة، أو أن أخْلَط [ بخطيئته ] , قلت: يا رسول الله، أقبلت أنا والجلاس من قباء, فقال كذا وكذا, ولولا مخافة أن أُخْلَط بخطيئته، أو تصيبني قارعة، ما أخبرتك. قال: فدعا الجلاس فقال له: يا جلاس، أقلت الذي قال مصعب؟ قال: فحلف, فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) ، الآية.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: كان الذي قال تلك المقالة، فيما بلغني، الجلاس بن سويد بن الصامت, فرفعها عنه رجلٌ كان في حجره، يقال له « عمير بن سعيد » , فأنكرها, فحلف بالله ما قالها. فلما نـزل فيه القرآن، تاب ونـزع وحسنت، توبته فيما بلغني.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( كلمة الكفر ) ، قال أحدهم: « لئن كان ما يقول محمد حقًّا لنحن شر من الحمير » ! فقال له رجل من المؤمنين: إن ما قال لحقٌّ، ولأنت شر من حمار! قال: فهمَّ المنافقون بقتله, فذلك قوله: ( وهموا بما لم ينالوا ) .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن رجاء قال، حدثنا إسرائيل, عن سماك, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في ظلّ شجرة, فقال: إنه سيأتيكم إنسانٌ فينظر إليكم بعيني شيطان, فإذا جاء فلا تكلموه. فلم يلبث أن طلَع رجل أزرقُ, فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: علامَ تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه, فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا، حتى تجاوَز عنهم, فأنـزل الله: ( يحلفون بالله ما قالوا ) ، ثم نعتهم جميعًا, إلى آخر الآية.
وقال آخرون: بل نـزلت في عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول: قالوا: والكلمة التي قالها ما:-
حدثنا به بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( يحلفون بالله ما قالوا ) ، إلى قوله: ( من وليّ ولا نصير ) ، قال: ذكر لنا أنّ رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة، والآخر من غِفار, وكانت جهينة حلفاء، الأنصار، وظهر الغفاريّ على الجهنيّ, فقال عبد الله بن أبيّ للأوس: انصروا أخاكم, فوالله ما مثلنا ومَثَلُ محمد إلا كما قال القائل: « سمِّن كلبك يأكلك » ، وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [ سورة المنافقون: 8 ] ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فسأله, فجعل يحلف بالله ما قاله, فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ) .
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ) ، قال: نـزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى أخبر عن المنافقين أنّهم يحلفون بالله كذبًا على كلمة كُفْر تكلموا بها أنهم لم يقولوها. وجائز أن يكون ذلك القول ما روي عن عروة: أن الجلاس قاله وجائز أن يكون قائله عبد الله بن أبي ابن سلول، والقول ما ذكر قتادة عنه أنه قال. ولا علم لنا بأيّ ذلك من أيٍّ, إذ كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة، ويُتوصَّل به إلى يقين العلم به, وليس مما يدرك علمه بفطرة العقل, فالصواب أن يقال فيه كما قال الله جل ثناؤه: ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) .
وأما قوله: ( وهموا بما لم ينالوا ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في الذي كان همَّ بذلك، وما الشيء الذي كان هم به.
[ فقال بعضهم: هو رجل من المنافقين, وكان الذي همَّ به ] ، قتلَ ابن امرأته الذي سمع منه ما قال، وخشي أن يفشيه عليه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: همَّ المنافق بقتله يعني قتل المؤمن الذي قال له: « أنت شر من الحمار » ! فذلك قوله: ( وهموا بما لم ينالوا ) .
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون: كان الذي همَّ، رجلا من قريش والذي همّ به، قتلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شبل, عن جابر, عن مجاهد في قوله: ( وهموا بما لم ينالوا ) ، قال: رجل من قريش، همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال له: « الأسود » .
وقال آخرون: الذي همّ، عبد الله بن أبي ابن سلول, وكان همُّه الذي لم ينله، قوله: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ، [ سورة المنافقون: 8 ] ، من قول قتادة وقد ذكرناه.
وقوله: ( وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) ، ذكر لنا أن المنافق الذي ذكر الله عنه أنه قال كلمة الكفر، كان فقيرًا فأغناه الله بأن قُتِل له مولًى, فأعطاه رسول الله ديتَه. فلما قال ما قال, قال الله تعالى: ( وما نقموا ) ، يقول: ما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا, ( إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن هشام بن عروة, عن أبيه: ( وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) ، وكان الجلاس قُتِل له مولًى، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته, فاستغنى, فذلك قوله: ( وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) .
...... قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عكرمة قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثنى عشر ألفًا في مولى لبني عديّ بن كعب, وفيه أنـزلت هذه الآية: ( وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) ، قال: كانت لعبد الله بن أبيٍّ ديةٌ, فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم له.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن سفيان قال، حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة: أن مولى لبني عدي بن كعب قتل رجلا من الأنصار, فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية اثنى عشر ألفا, وفيه أنـزلت: ( وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) ، قال عمرو: لم أسمع هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من عكرمة يعني: الدية اثني عشر ألفًا.
حدثنا صالح بن مسمار قال، حدثنا محمد بن سنان العَوَقيّ قال، حدثنا محمد بن مسلم الطائفي, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, مولى ابن عباس, عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل الدية اثني عشر ألفًا. فذلك قوله: ( وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) ، قال: بأخذ الديِّة.
وأما قوله: ( فإن يتوبوا يك خيرًا لهم ) ، يقول تعالى ذكره: فإن يتب هؤلاء القائلون كلمة الكفر من قِيلهم الذي قالوه فرجعوا عنه, يك رجوعهم وتوبتهم من ذلك، خيرًا لهم من النفاق ( وإن يتولوا ) ، يقول: وإن يدبروا عن التوبة، فيأتوها ويصرُّوا على كفرهم، ( يعذبهم الله عذابًا أليمًا ) ، يقول: يعذبهم عذابًا موجعًا في الدنيا, إما بالقتل, وإما بعاجل خزي لهم فيها, ويعذبهم في الآخرة بالنار.
وقوله: ( وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) ، يقول: وما لهؤلاء المنافقين إن عذبهم الله عاجل الدنيا ( من ولي ) ، يواليه على منعه من عقاب الله ( ولا نصير ) ينصره من الله فينقذه من عقابه. وقد كانوا أهل عز ومنعة بعشائرهم وقومهم، يمتنعون بهم من أرادهم بسوء, فأخبر جل ثناؤه أن الذين كانوا يمنعونهم ممن أرادهم بسوء من عشائرهم وحلفائهم, لا يمنعونهم من الله ولا ينصرونهم منه، إن احتاجوا إلى نصرهم.
وذكر أن الذي نـزلت فيه هذه الآية تاب مما كان عليه من النفاق.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن هشام بن عروة, عن أبيه: ( فإن يتوبوا يك خيرًا لهم ) ، قال: قال الجلاس: قد استثنى الله لي التوبة, فأنا أتوب. فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية, عن هشام بن عروة عن أبيه: ( فإن يتوبوا يك خيرًا لهم ) ، الآية, فقال الجلاس: يا رسول الله، إني أرى الله قد استثنى لي التوبة, فأنا أتوب! فتابَ, فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
القول في تأويل قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 75 ) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ( 76 ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 77 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم « مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ » ، يقول: أعطى الله عهدًا « لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ » ، يقول: لئن أعطانا الله من فضله, ورزقنا مالا ووسَّع علينا من عنده « لَنَصَّدَّقَنَّ » ، يقول: لنخرجن الصدقة من ذلك المال الذي رزقنا ربُّنا « وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ » ، يقول: ولنعملنّ فيها بعَمَل أهل الصلاح بأموالهم، من صلة الرحم به، وإنفاقه في سبيل الله. يقول الله تبارك وتعالى: فرزقهم الله وأتاهم من فضله « فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ » ، بفضل الله الذي آتاهم, فلم يصدّقوا منه، ولم يصلوا منه قرابةً، ولم ينفقوا منه في حق الله « وَتَوَلَّوْا » ، يقول: وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه الله « وَهُمْ مُعْرِضُونَ » ، عنه ( فأعقبهم ) الله ( نفاقا في قلوبهم ) ، ببخلهم بحق الله الذي فرضه عليهم فيما آتاهم من فضله, وإخلافهم الوعد الذي وعدُوا الله, ونقضهم عهدَه في قلوبهم ( إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه ) ، من الصدقة والنفقة في سبيله ( وبما كانوا يكذبون ) ، في قيلهم, وحَرَمهم التوبة منه، لأنه جل ثناؤه اشترط في نفاقهم أنَّه أعقبهموه إلى يوم يلقونه، وذلك يوم مماتهم وخروجهم من الدنيا.
واختلف أهل التأويل في المعني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عُني بها رجل يقال له: « ثعلبة بن حاطب » ، من الأنصار.
ذكر من قال ذلك:
محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ » ، الآية, وذلك أن رجلا يقال له: « ثعلبة بن حاطب » ، من الأنصار, أتى مجلسًا فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله, آتيت منه كل ذي حقٍّ حقه, وتصدّقت منه, ووصلت منه القرابة! فابتلاه الله فآتاه من فضله, فأخلف الله ما وعدَه, وأغضبَ الله بما أخلفَ ما وعده. فقصّ الله شأنه في القرآن: « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ » ، الآية, إلى قوله: ( يكذبون ) .
حدثني المثنى قال، حدثنا هشام بن عمار قال، حدثنا محمد بن شعيب قال، حدثنا معان بن رفاعة السلمي, عن أبي عبد الملك علي بن يزيد الإلهاني: أنه أخبره عن القاسم بن عبد الرحمن: أنه أخبره عن أبي أمامة الباهلي, عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري, أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرزقني مالا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك يا ثعلبة, قليل تؤدِّي شكره, خير من كثير لا تطيقه! قال: ثم قال مرة أخرى, فقال: أما ترضى أن تكون مثل نبيِّ الله، فوالذي نفسي بيده، لو شئتُ أن تسيرَ معي الجبال ذهبًا وفضة لسارت! قال: والذي بعثك بالحق لئن دعوتَ الله فرزقني مالا لأعطينّ كلّ ذي حق حقه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالا! قال: فاتَّخذ غنمًا, فنمت كما ينمو الدُّود, فضاقت عليه المدينة، فتنحَّى عنها, فنـزل واديًا من أوديتها, حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة, ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت, فتنحّى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة, وهي تنمو كما ينمو الدود, حتى ترك الجمعة. فطفق يتلقَّى الركبان يوم الجمعة، يسألهم عن الأخبار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل ثعلبة؟ فقالوا: يا رسول الله، اتخذ غنمًا فضاقت عليه المدينة! فأخبروه بأمره، فقال: يا ويْحَ ثعلبة ! يا ويح ثعلبة ! يا ويح ثعلبة! قال: وأنـزل الله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [ سورة التوبة: 103 ] الآية، ونـزلت عليه فرائض الصدقة, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة, رجلا من جهينة, ورجلا من سليم, وكتب لهما كيفَ يأخذان الصدقة من المسلمين, وقال لهما: مرَّا بثعلبة, وبفلان، رجل من بني سليم، فخذا صدقاتهما ! فخرجا حتى أتيا ثعلبة, فسألاه الصدقة, وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: ما هذه إلا جزية! ما هذه إلا أخت الجزية! ما أدري ما هذا ! انطلقا حتى تفرُغا ثم عودا إليّ. فانطلقا, وسمع بهما السُّلمي, فنظر إلى خِيار أسنان إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهم بها. فلما رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا, وما نريد أن نأخذ هذا منك. قال: بلى، فخذوه, فإنّ نفسي بذلك طيّبة, وإنما هي لي! فأخذوها منه. فلما فرغا من صدقاتهما رجعا, حتى مرَّا بثعلبة, فقال: أروني كتابكما ! فنظر فيه، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية! انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم, فلما رآهما قال: يا ويح ثعلبة ! قبل أن يكلِّمهما, ودعا للسلميّ بالبركة, فأخبراه بالذي صنع ثعلبة, والذي صنع السلميّ, فأنـزل الله تبارك وتعالى فيه: « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ » ، إلى قوله: ( وبما كانوا يكذبون ) ، وعند رسول الله رجلٌ من أقارب ثعلبة, فسمع ذلك, فخرج حتى أتاه, فقال: ويحك يا ثعلبة! قد أنـزل الله فيك كذا وكذا ! فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فسأله أن يقبل منه صدقته. فقال: إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك ! فجعل يَحْثِي على رأسه التراب, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك, قد أمرتك فلم تطعني! فلما أبَى أن يقبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم, رجع إلى منـزله, وقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئًا. ثم أتى أبا بكر حين اسْتخلِف, فقال: قد علمت منـزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضعي من الأنصار, فاقبل صدقتي ! فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقبلها! فقُبِض أبو بكر، ولم يقبضها. فلما ولي عمر، أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، اقبل صدقتي ! فقال: لم يقبلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر, وأنا أقبلها منك ! فقُبِض ولم يقبلها، ثم ولي عثمان رحمة الله عليه, فأتاه فسأله أن يقبل صدقته فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر رضوان الله عليهما وأنا أقبلها منك ! فلم يقبلها منه. وهلك ثَعْلبة في خلافة عثمان رحمة الله عليه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ » ، الآية: ذكر لنا أن رجلا من الأنصار أتى على مجلس من الأنصار, فقال: لئن آتاه الله مالا ليؤدِّين إلى كل ذي حقّ حقه ! فآتاه الله مالا فصنع فيه ما تسمعون، قال: « فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ » إلى قوله: ( وبما كانوا يكذبون ) . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حدَّث أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاء بالتوراة إلى بني إسرائيل، قالت بنو إسرائيل: إن التوراة كثيرة, وإنا لا نفرُغ لها, فسل لنا ربَّك جِماعًا من الأمر نحافظ عليه، ونتفرغ فيه لمعاشنا! قال: يا قوم، مهلا مهلا! هذا كتاب الله, ونور الله, وعِصْمة الله! قال: فأعادوا عليه, فأعاد عليهم, قالها ثلاثًا. قال: فأوحى الله إلى موسى: ما يقول عبادي ؟ قال: يا رب، يقولون: كيت وكيت. قال: فإني آمرهم بثلاثٍ إن حافظوا عليهن دخلوا بهن الجنة، أن ينتهوا إلى قسمة الميراثِ فلا يظلموا فيها, ولا يدخلوا أبصارَهم البيوت حتى يؤذن لهم, وأن لا يطعموا طعامًا حتى يتوضأوا وضوء الصلاة. قال: فرجع بهن نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه, ففرحوا، ورأوا أنهم سيقومون بهن. قال: فوالله ما لبث القومُ إلا قليلا حتى جَنَحُوا وانْقُطِع بهم. فلما حدّث نبيُّ الله بهذا الحديث عن بني إسرائيل, قال: تكفَّلوا لي بستٍّ، أتكفل لكم بالجنة! قالوا: ما هنّ، يا رسول الله؟ قال: إذا حدثتم فلا تكذبوا, وإذا وعدتم فلا تُخْلفوا, وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا, وكُفُّوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم: أبصارَكم عن الخيانة، وأيديكم عن السرقة، وفروجكم عن الزِّنا.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ثلاثٌ من كن فيه صار منافقًا وإن صامَ وصلى وزعم أنه مُسلم: إذا حدث كذب, وإذا اؤتمن خان, وإذا وعد أخلف.
وقال آخرون: بل المعنيُّ بذلك: رجلان: أحدهما ثعلبة, والآخر معتب بن قشير.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن عمرو بن عبيد, عن الحسن: « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ » الآية, وكان الذي عاهد الله منهم: ثعلبة بن حاطب, ومعتب بن قشير, وهما من بني عمرو بن عوف.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ » ، قال رجلان خرجا على ملأ قُعُود فقالا والله لئن رزقنا الله لنصدقن ! فلما رزقهم بخلوا به.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبى نجيح, عن مجاهد: « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ » ، رجلان خرجا على ملأ قُعُود فقالا والله لئن رزقنا الله لنصدقن ! فلما رزقهم بخلوا به, ( فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه ) ، حين قالوا: « لَنَصَّدَّقَنَّ » ، فلم يفعلوا.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، نحوه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ » الآية, قال: هؤلاء صنف من المنافقين, فلما آتاهم ذلك بخلوا به، فلما بخلوا بذلك أعقبهم بذلك نفاقًا إلى يوم يلقونه, ليس لهم منه توبة ولا مغفرة ولا عفو, كما أصاب إبليس حين منعه التوبة.
وقال أبو جعفر: في هذه الآية، الإبانةُ من الله جل ثناؤه عن علامةِ أهل النفاق, أعني في قوله: ( فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) .
وبنحو هذا القول كان يقول جماعة من الصحابة والتابعين, ورُوِيت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن عمارة, عن عبد الرحمن بن يزيد قال، قال عبد الله: اعتبروا المنافق بثلاثٍ: إذا حدَّث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا عاهد غدَر، وأنـزل الله تصديقَ ذلك في كتابه: « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ » ، إلى قوله: ( يكذبون ) .
حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن سماك, عن صبيح بن عبد الله بن عميرة, عن عبد الله بن عمرو قال: ثلاث من كن فيه كان منافقًا: إذا حدَّث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا أؤتمن خان. قال: وتلا هذه الآية: « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ » ، إلى آخر الآية.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة, عن سماك قال: سمعت صبيح بن عبد الله العبسيّ يقول: سألت عبد الله بن عمرو عن المنافق, فذكر نحوه.
حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو هشام المخزومي قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا عثمان بن حكيم قال، سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: كنت أسمع أن المنافق يعرف بثلاث: بالكذب, والإخلاف, والخيانة، فالتمستُها في كتاب الله زمانًا لا أجدُها، ثم وجدتها في اثنتين من كتاب الله, قوله: « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ » حتى بلغ: ( وبما كانوا يكذبون ) ، وقوله: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ سورة الأحزاب: 72 ] ، هذه الآية.
حدثني القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا محمد المحرم قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدَّث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا أؤتمن خان، فقلت للحسن: يا أبا سعيد، لئن كان لرجل عليّ دين فلقيني فتقاضاني، وليس عندي, وخفت أن يحبسني ويهلكني, فوعدته أن أقضيه رأسَ الهلال، فلم أفعل, أمنافق أنا؟ قال: هكذا جاء الحديث! ثم حدّث عن عبد الله بن عمرو: أن أباه لما حضره الموت قال: زوِّجوا فلانًا، فإني وعدته أن أزوجه, لا ألقى الله بثُلُثِ النفاق ! قال قلت: يا أبا سعيد، ويكون ثُلُث الرجل منافقًا، وثلثاه مؤمن؟ قال: هكذا جاء الحديث. قال: فحججت فلقيت عطاء بن أبي رباح, فأخبرته الحديثَ الذي سمعته من الحسن, وبالذي قلت له وقال لي، فقال لي: أعجزت أن تقول له: أخبرني عن إخوة يوسف عليه السلام, ألم يعدوا أباهم فأخلفوه، وحدَّثوه فكذبوه، واتمنهم فخانوه, أفمنافقين كانوا؟ ألم يكونوا أنبياء؟ أبوهم نبيٌّ، وجدُّهم نبي؟ قال: فقلت لعطاء: يا أبا محمد، حدِّثني بأصل النفاق, وبأصل هذا الحديث. فقال: حدثني جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصَّة، الذين حدَّثوا النبي فكذبوه, واتمنهم على سرّه فخانوه, ووعدوه أن يخرجوه معه في الغزو فأخلفوه. قال: وخرج أبو سفيان من مكة, فأتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا, فاخرجوا إليه، واكتموا. قال: فكتب رجل من المنافقين إليه : « إن محمدًا يريدكم, فخذوا حذرَكم » . فأنـزل الله: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، [ سورة الأنفال: 27 ] ، وأنـزل في المنافقين: « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ » ، إلى: ( فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) ، فإذا لقيت الحسن فأقرئه السلام, وأخبره بأصل هذا الحديث، وبما قلت لك. قال: فقدمت على الحسن فقلت: يا أبا سعيد, إن أخاك عطاءً يقرئك السلام، فأخبرته بالحديث الذي حدث، وما قال لي، فأخذ الحسن بيدي فأشالها، وقال: يا أهل العراق، أعجزتم أن تكونوا مثلَ هذا؟ سمع مني حديثًا فلم يقبله حتى استنبط أصله, صدق عطاء، هكذا الحديث, وهذا في المنافقين خاصة.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا يعقوب, عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فهو منافق. فقيل له: ما هي يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا أؤتمن خان.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثنا مبشّر, عن الأوزاعي عن هارون بن رباب, عن عبد الله بن عمرو بن وائل: أنه لما حضرته الوفاة قال: إنّ فلانًا خطب إليّ ابنتي, وإني كنت قلت له فيها قولا شبيهًا بالعِدَة, والله لا ألقى الله بثُلُث النفاق, وأشهدكم أني قد زوَّجته.
وقال قوم: كان العهد الذي عاهد الله هؤلاء المنافقون، شيئًا نووه في أنفسهم، ولم يتكلموا به.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: سمعت معتمر بن سليمان التيمي يقول: ركبت البحرَ، فأصابنا ريحٌ شديدة, فنذر قوم منا نذورًا, ونويت أنا، لم أتكلم به. فلما قدمت البصرة سألت أبي سليمانَ فقال لي: يا بُنَيّ، فِ به.
قال معتمر: وحدثنا كهمس، عن سعيد بن ثابت قال قوله: « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ » ، الآية, قال: إنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به, ألم تسمع إلى قوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ ؟
القول في تأويل قوله : أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 78 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يكفرون بالله ورسوله سرًّا, ويظهرون الإيمان بهما لأهل الإيمان بهما جهرًا ( أن الله يعلم سرهم ) ، الذي يسرُّونه في أنفسهم، من الكفر به وبرسوله ( ونجواهم ) ، يقول: « ونجواهم » ، إذا تناجوا بينهم بالطعن في الإسلام وأهله، وذكرِهم بغير ما ينبغي أن يُذكروا به, فيحذروا من الله عقوبته أن يحلَّها بهم، وسطوته أن يوقعها بهم، على كفرهم بالله وبرسوله، وعيبهم للإسلام وأهله, فينـزعوا عن ذلك ويتوبوا منه ( وأن الله علام الغيوب ) ، يقول: ألم يعلموا أن الله علام ما غاب عن أسماع خلقه وأبصارهم وحواسّهم، مما أكنّته نفوسهم, فلم يظهرْ على جوارحهم الظاهرة، فينهاهم ذلك عن خداع أوليائه بالنفاق والكذب, ويزجرهم عن إضمار غير ما يبدونه، وإظهار خلاف ما يعتقدونه؟
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 79 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين يلمزون المطوّعين في الصدقة على أهل المسكنة والحاجة, بما لم يوجبه الله عليهم في أموالهم, ويطعنون فيها عليهم بقولهم: « إنما تصدقوا به رياءً وسُمْعة, ولم يريدوا وجه الله » ويلمزون الذين لا يجدون ما يتصدَّقون به إلا جهدهم, وذلك طاقتهم, فينتقصونهم ويقولون: « لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنيًّا! » سخريةً منهم بهم ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ) .
وقد بينا صفة « سخرية الله » ، بمن يسخر به من خلقه، في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته ههنا.
( ولهم عذاب أليم ) ، يقول: ولهم من عند الله يوم القيامة عذابٌ موجع مؤلم.
وذكر أن المعنيّ بقوله: ( المطوعين من المؤمنين ) ، عبد الرحمن بن عوف, وعاصم بن عدي الأنصاري وأن المعنيّ بقوله: ( والذين لا يجدون إلا جهدهم ) ، أبو عقيل الأراشيّ، أخو بني أنيف.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) ، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام, فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً! وقالوا: إن كان الله ورسولُه لَغنِيّيْنِ عن هذا الصاع!
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس يومًا فنادى فيهم: أن أجمعوا صدقاتكم! فجمع الناس صدقاتهم. ثم جاء رجل من آخرهم بِمَنٍّ من تمر, فقال: يا رسول الله، هذا صاع من تمرٍ, بِتُّ ليلتي أجرُّ بالجرير الماءَ، حتى نلت صاعين من تمرٍ, فأمسكت أحدَهما، وأتيتك بالآخر. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات. فسخر منه رجال وقالوا: والله إن الله ورسوله لغنيَّان عن هذا! وما يصنعان بصاعك من شيء « ! ثم إن عبد الرحمن بن عوف، رجل من قريش من بني زهرة، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بقي من أحد من أهل هذه الصدقات؟ فقال: لا! فقال عبد الرحمن بن عوف: إن عندي مئة أوقية من ذهب في الصدقات. فقال له عمر بن الخطاب: أمجنون أنت؟ فقال: ليس بي جنون! فقال: فعلِّمنا ما قلت؟ قال: نعم! مالي ثمانية آلاف، أما أربعة آلافٍ فأقرضها ربيّ, وأما أربعة آلاف فلي! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت ! وكره المنافقون فقالوا: » والله ما أعطى عبد الرحمن عطيَّته إلا رياءً « ! وهم كاذبون, إنما كان به متطوِّعًا. فأنـزل الله عذرَه وعذرَ صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر, فقال الله في كتابه: ( الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات ) ، الآية. »
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين ) ، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بصدقة ماله أربعة آلاف, فلمزه المنافقون وقالوا: « راءَى » ( والذين لا يجدون إلا جهدهم ) ، قال: رجل من الأنصار آجرَ نفسه بصاع من تمر، لم يكن له غيره, فجاء به فلمزوه, وقالوا: كان الله غنيًّا عن صاع هذا!
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: قوله: ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين ) ، الآية, قال: أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله, فتقرَّب به إلى الله, فلمزه المنافقون فقالوا: ما أعطى ذلك إلا رياء وسمعة ! فأقبل رجل من فقراء المسلمين يقال له « حبحاب، أبو عقيل » فقال: يا نبي الله, بتُّ أجرُّ الجرير على صاعين من تمر، أما صاع فأمسكته لأهلي, وأما صاع فها هو ذا! فقال المنافقون: « والله إن الله ورسوله لغنيَّان عن هذا » . فأنـزل الله في ذلك القرآن: ( الذين يلمزون ) ، الآية.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) ، قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله, وكان ماله ثمانية آلاف دينار, فتصدق بأربعة آلاف دينار, فقال ناس من المنافقين: إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء ! فقال الله: ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) وكان لرجل صاعان من تمر, فجاء بأحدهما, فقال ناس من المنافقين: إن كان الله عن صاع هذا لغنيًّا ! فكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون بهم, فقال الله: ( والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) .
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي قال، حدثنا أبو عوانة, عن [ عمر بن ] أبي سلمة, عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تصدقوا، فإني أريد أن أبعث بعثًا. قال: فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله, إن عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما الله, وألفين لعيالي. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت, وبارك لك فيما أمسكت ! فقال رجل من الأنصار: وإن عندي صاعين من تمرٍ, صاعًا لربي, وصاعًا لعيالي ! قال: فلمز المنافقون وقالوا: ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياءً ! وقالوا: أو لم يكن الله غنيًّا عن صاع هذا ! فأنـزل الله: ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين ) ، إلى آخر الآية.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر, عن الربيع بن أنس في قوله: ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) ، قال: أصاب الناس جَهْدٌ شديد, فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدَّقوا, فجاء عبد الرحمن بأربعمائة أوقية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك له فيما أمسك. فقال المنافقون: ما فعل عبد الرحمن هذا إلا رياء وسمعة ! قال: وجاء رجل بصاع من تمر, فقال: يا رسول الله آجرت نفسي بصاعين, فانطلقت بصاع منهما إلى أهلي، وجئت بصاع من تمر. فقال المنافقون: إن الله غنىٌّ عن صاع هذا ! فأنـزل الله هذه الآية: ( والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) ، الآية, وكان المطوعون من المؤمنين في الصدقات، عبد الرحمن بن عوف, تصدق بأربعة آلاف دينار، وعاصم بن عدي أخا بني العَجلان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغَّب في الصدقة، وحضَّ عليها, فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف درهم, وقام عاصم بن عدي فتصدق بمئة وَسْقٍ من تمر، فلمزوهما وقالوا: ما هذا إلا رياء ! وكان الذي تصدّق بجهده: أبو عقيل, أخو بني أنيف، الأراشي، حليف بني عمرو بن عوف, أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة, فتضاحكوا به وقالوا: إن الله لغنيٌّ عن صاع أبي عقيل!!
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله قال، حدثنا شعبة, عن سليمان, عن أبي وائل, عن أبي مسعود قال: لما نـزلت آية الصدقة كنا نحامل قال أبو النعمان: كنا نعمل قال: فجاء رجل فتصدق بشيء كثير. قال: وجاء رجل فتصدق بصاع تمر, فقالوا: إن الله لغنيٌّ عن صاع هذا ! فنـزلت: ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ) .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب, عن موسى بن عبيدة قال، حدثني خالد بن يسار, عن ابن أبي عقيل, عن أبيه قال: بتُّ أجرُّ الجرير على ظهري على صاعين من تمر فانقلبتُ بأحدهما إلى أهلي يتبلَّغون به, وجئت بالآخر أتقرَّب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته, فقال: انثره في الصدقة. فسخر المنافقون منه. وقالوا: لقد كان الله غنيًّا عن صدقة هذا المسكين! فأنـزل الله: ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) ، الآيتين.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا الجريري، عن أبي السليل قال: وقف على الحيّ رجل, فقال: حدثني أبي أو عمي فقال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من يتصدق اليوم بصدقة أشهدُ له بها عند الله يوم القيامة؟ قال: وعليّ عمامة لي. قال: فنـزعت لَوْثًا أو لوثيْن لأتصدق بهما، قال: ثم أدركني ما يدرك ابن آدم, فعصبت بها رأسي. قال: فجاء رجل لا أرى بالبقيع رجلا أقصرَ قِمَّة، ولا أشدَّ سوادًا، ولا أدَمَّ بعينٍ منه, يقود ناقة لا أرى بالبقيع أحسن منها ولا أجمل منها. قال: أصدقةٌ هي، يا رسول الله؟ قال: نعم! قال: فدُونَكها ! فألقى بخطامها أو بزمامها قال: فلمزه رجل جالسٌ فقال: والله إنه ليتصدّق بها، ولهي خيرٌ منه ! فنظر إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل هو خير منك ومنها! يقول ذلك ثلاثًا صلى الله عليه وسلم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس, عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك يقول: الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون: « أبو خيثمة الأنصاري » .
حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن رجاء أبو سهل العباداني قال، حدثنا عامر بن يساف اليمامي, عن يحيى بن أبي كثير اليمامي قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف, جئتك بأربعة آلاف، فاجعلها في سبيل الله, وأمسكت أربعة آلاف لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت! وجاء رجل آخر فقال: يا رسول الله, بتُّ الليلة أجرُّ الماء على صاعين, فأما أحدهما فتركت لعيالي وأما الآخر فجئتك به, أجعله في سبيل الله، فقال: بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت! فقال ناس من المنافقين: والله ما أعطى عبد الرحمن إلا رياءً وسمعة, ولقد كان الله ورسوله غنيَّين عن صاع فلان! فأنـزل الله: ( الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات ) ، يعني عبد الرحمن بن عوف: ( والذين لا يجدون إلا جهدهم ) ، يعني صاحب الصاع ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال، قال ابن عباس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يجمعوا صدَقاتهم, وإذا عبد الرحمن بن عوف قد جاء بأربعة آلاف, فقال: هذا مالي أقرِضُه الله، وقد بقي لي مثله. فقال له: بورك لك فيما أعطيت وفيما أمسكت ! فقال المنافقون: ما أعطى إلا رياءً, وما أعطى صاحبُ الصّاع إلا رياءً, إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا ! وما يصنع الله بصاع من شيء!
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) ، إلى قوله: ( ولهم عذاب أليم ) ، قال: أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يتصدّقوا, فقام عمر بن الخطاب: فألفَى ذلك مالي وافرًا, فآخذ نصفه.
قال: فجئت أحمل مالا كثيرًا. فقال له رجل من المنافقين: ترائِي يا عمر! فقال: نعم، أرائي الله ورسوله, وأما غيرهما فلا! قال: ورجلٌ من الأنصار لم يكن عنده شيء, فواجَرَ نفسه ليجرّ الجرير على رقبته بصاعين ليلته, فترك صاعًا لعياله، وجاء بصاع يحمله, فقال له بعض المنافقين: إن الله ورسوله عن صاعك لغنيَّان ! فذلك قول الله تبارك وتعالى: ( الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ) ، هذا الأنصاري ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) .
وقد بينا معنى « اللمز » في كلام العرب بشواهده وما فيه من اللغة والقراءة فيما مضى.
وأما قوله: ( المطوّعين ) ، فإن معناه: المتطوعين, أدغمت التاء في الطاء, فصارت طاء مشددة, كما قيل: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا [ سورة البقرة: 158 ] ، يعني: يتطوّع.
وأما « الجهد » ، فإن للعرب فيه لغتين. يقال: « أعطاني من جُهْده » ، بضم الجيم, وذلك فيما ذكر، لغة أهل الحجاز ومن « جَهْدِه » بفتح الجيم, وذلك لغة نجد.
وعلى الضم قراءة الأمصار, وذلك هو الاختيار عندنا، لإجماع الحجة من القرأة عليه.
وأما أهل العلم بكلام العرب من رواة الشعر وأهل العربية, فإنهم يزعمون أنها مفتوحة ومضمومة بمعنى واحد، وإنما اختلاف ذلك لاختلاف اللغة فيه، كما اختلفت لغاتهم في « الوَجْد » ، « والوُجْد » بالضم والفتح، من: « وجدت » .
وروي عن الشعبي في ذلك ما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح, عن عيسى بن المغيرة, عن الشعبي قال: « الجَهْدُ » ، و « الجُهْد » ، الجَهْدُ في العمل, والجُهْدُ في القوت.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص, عن عيسى بن المغيرة, عن الشعبي, مثله.
...... قال، حدثنا ابن إدريس, عن عيسى بن المغيرة, عن الشعبي قال: الجَهْد في العمل, والجُهد في القِيتَة.
القول في تأويل قوله : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 80 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ادع الله لهؤلاء المنافقين، الذين وصفت صفاتهم في هذه الآيات بالمغفرة, أو لا تدع لهم بها.
وهذا كلام خرج مخرج الأمر, وتأويله الخبر, ومعناه: إن استغفرت لهم، يا محمد، أو لم تستغفر لهم, فلن يغفر الله لهم.
وقوله: ( إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) ، يقول: إن تسأل لهم أن تُسْتر عليهم ذنوبهم بالعفو منه لهم عنها، وترك فضيحتهم بها, فلن يستر الله عليهم, ولن يعفو لهم عنها، ولكنه يفضحهم بها على رءوس الأشهاد يوم القيامة ( ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله ) ، يقول جل ثناؤه: هذا الفعل من الله بهم, وهو ترك عفوه لهم عن ذنوبهم, من أجل أنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ، يقول: والله لا يوفق للإيمان به وبرسوله، من آثر الكفر به والخروج عن طاعته، على الإيمان به وبرسوله.
ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حين نـزلت هذه الآية قال: « لأزيدنّ في الاستغفار لهم على سبعين مرة » ، رجاءً منه أن يغفر الله لهم, فنـزلت: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [ سورة المنافقون: 6 ] .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان, عن هشام بن عروة, عن أبيه: أن عبد الله بن أبي ابن سلول قال لأصحابه: لولا أنكم تُنْفقون على محمد وأصحابه لانفَضُّوا من حوله! وهو القائل: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [ سورة المنافقون: 8 ] ، فأنـزل الله: ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدنّ على السبعين! فأنـزل الله: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، فأبى الله تبارك وتعالى أن يغفر لهم .
حدثنا ابن حميد وابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن شباك, عن الشعبي قال: دعا عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى جنازة أبيه, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ قال: حُباب بن عبد الله بن أبيّ. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول, إن « الحُبَاب » هو الشيطان.
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنه قد قيل لي: ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) , فأنا استغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين، وألبسه النبي صلى الله عليه وسلم قميصَه وهو عَرِقٌ.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إن تستغفر لهم سبعين مرة ) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأزيد على سبعين استغفارة! فأنـزل الله في السورة التي يذكر فيها المنافقون: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ، عزمًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه.
...... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة, عن الشعبي قال: لما ثَقُل عبد الله بن أبيّ, انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أبي قد احْتُضِر, فأحبُّ أن تشهده وتصليّ عليه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: الحُباب بن عبد الله. قال: بل أنت عبد الله بن عبد الله بن أبي, إن « الحباب » اسم شيطان. قال: فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عَرِق, وصلى عليه, فقيل له: أتصلي عليه وهو منافق؟ فقال: إن الله قال: ( إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) ، ولأستغفرن له سبعين وسبعين! قال هشيم: وأشكُّ في الثالثة.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) إلى قوله: ( القوم الفاسقين ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نـزلت هذه الآية: أسمعُ ربّي قد رَخّص لي فيهم, فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة, فلعل الله أن يغفر لهم ! فقال الله، من شدة غضبه عليهم: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [ سورة المنافقون: 6 ] .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) ، فقال نبي الله: قد خيَّرني ربي، فلأزيدنهم على سبعين! فأنـزل الله سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ ، الآية.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: لما نـزلت: ( إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدنّ على سبعين! فقال الله: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ .
القول في تأويل قوله : فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ( 81 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فرح الذين خلَّفهم الله عن الغزو مع رسوله والمؤمنين به وجهاد أعدائه ( بمقعدهم خلاف رسول الله ) ، يقول: بجلوسهم في منازلهم ( خلاف رسول الله ) ، يقول: على الخلاف لرسول الله في جلوسه ومقعده. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنَّفْر إلى جهاد أعداء الله, فخالفوا أمْرَه وجلسوا في منازلهم.
وقوله: ( خِلاف ) ، مصدر من قول القائل: « خالف فلان فلانًا فهو يخالفه خِلافًا » ، فلذلك جاء مصدره على تقدير « فِعال » , كما يقال: « قاتله فهو يقاتله قتالا » , ولو كان مصدرًا من « خَلَفه » لكانت القراءة: « بمقعدهم خَلْفَ رسول الله » , لأن مصدر: « خلفه » ، « خلفٌ » لا « خِلاف » , ولكنه على ما بينت من أنه مصدر: « خالف » ، فقرئ: ( خلاف رسول الله ) ، وهي القراءة التي عليها قرأة الأمصار, وهي الصواب عندنا.
وقد تأول بعضهم ذلك بمعنى: « بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم » , واستشهد على ذلك بقول الشاعر:
عَقَــبَ الــرَّبِيعُ خِــلافَهُمْ فَكَأَنَّمَـا بَسَــطَ الشَّـوَاطِبُ بَيْنَهُـنَّ حَـصِيرَا
وذلك قريبٌ لمعنى ما قلنا, لأنهم قعدوا بعده على الخلافِ له.
وقوله: ( وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) ، يقول تعالى ذكره: وكره هؤلاء المخلفون أن يغزُوا الكفار بأموالهم وأنفسهم ( في سبيل الله ) ، يعني: في دين الله الذي شرعه لعباده لينصروه, ميلا إلى الدعة والخفض, وإيثارًا للراحة على التعب والمشقة, وشحًّا بالمال أن ينفقوه في طاعة الله.
( وقالوا لا تنفروا في الحر ) ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفرهم إلى هذه الغزوة, وهي غزوة تبوك، في حرّ شديدٍ, فقال المنافقون بعضهم لبعض: « لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ » ، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) لهم، يا محمد ( نار جهنم ) ، التي أعدّها الله لمن خالف أمره وعصى رسوله ( أشد حرًّا ) ، من هذا الحرّ الذي تتواصون بينكم أن لا تنفروا فيه. يقول: الذي هو أشد حرًا، أحرى أن يُحذر ويُتَّقى من الذي هو أقلهما أذًى ( لو كانوا يفقهون ) ، يقول: لو كان هؤلاء المنافقون يفقهون عن الله وعظَه، ويتدبَّرون آي كتابه, ولكنهم لا يفقهون عن الله, فهم يحذرون من الحرّ أقله مكروهًا وأخفَّه أذًى, ويواقعون أشدَّه مكروهًا وأعظمه على من يصلاه بلاءً.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ) ، إلى قوله: ( يفقهون ) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ الناس أن ينبعثوا معه, وذلك في الصيف, فقال رجال: يا رسول الله, الحرُّ شديدٌ، ولا نستطيع الخروجَ, فلا تنفر في الحرّ ! فقال الله: ( قل نار جهنم أشد حرًّا لو كانوا يفقهون ) ، فأمره الله بالخروج.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتاده في قوله: ( بمقعدهم خلاف رسول الله ) ، قال: هي غزوة تبوك.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديدٍ إلى تبوك, فقال رجل من بني سَلِمة: لا تنفروا في الحرّ ! فأنـزل الله: ( قل نار جهنم ) ، الآية.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: [ ثم ] ذكر قول بعضهم لبعض, حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد, وأجمع السير إلى تبوك، على شدّة الحرّ وجدب البلاد. يقول الله جل ثناؤه: ( وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرًّا ) .
القول في تأويل قوله : فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 82 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فرح هؤلاء المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله, فليضحكوا فرحين قليلا في هذه الدنيا الفانية بمقعدهم خلاف رسول الله ولَهْوهم عن طاعة ربهم, فإنهم سيبكون طويلا في جهنم مكانَ ضحكهم القليل في الدنيا ( جزاء ) ، يقول: ثوابًا منا لهم على معصيتهم، بتركهم النفر إذ استنفروا إلى عدوّهم، وقعودهم في منازلهم خلافَ رسول الله ( بما كانوا يكسبون ) ، يقول: بما كانوا يجترحون من الذنوب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل, عن أبي رزين: ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا ) ، قال يقول الله تبارك وتعالى: الدنيا قليل, فليضحكوا فيها ما شاءوا, فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا بكاءً لا ينقطع. فذلك الكثير.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن منصور, عن أبي رزين, عن الربيع بن خثيم: ( فليضحكوا قليلا ) ، قال: في الدنيا ( وليبكوا كثيرًا ) ، قال: في الآخرة.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن ويحيى قالا حدثنا سفيان, عن إسماعيل بن سميع, عن أبي رزين في قوله: ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا ) ، قال: في الآخرة.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن منصور, عن أبي رزين أنه قال في هذه الآية: ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا ) ، قال: ليضحكوا في الدنيا قليلا وليبكوا في النار كثيرًا. وقال في هذه الآية: وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا ، [ سورة الأحزاب: 16 ] ، قال: إلى آجالهم أحد هذين الحديثين رفعه إلى ربيع بن خثيم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( فليضحكوا قليلا ) ، قال: ليضحكوا قليلا في الدنيا ( وليبكوا كثيرًا ) ، في الآخرة، في نار جهنم ( جزاء بما كانوا يكسبون ) .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( فليضحكوا قليلا ) ، : أي في الدنيا ( وليبكوا كثيرًا ) ، : أي في النار. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا. ذكر لنا أنه نودي عند ذلك, أو قيل له: لا تُقَنِّط عبادي.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن أبي رزين, عن الربيع بن خثيم، ( فليضحكوا قليلا ) ، قال: في الدنيا ( وليبكوا كثيرًا ) ، قال: في الآخرة.
...... قال، حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل بن سميع, عن أبي رزين: ( فليضحكوا قليلا ) ، قال: في الدنيا، فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا بكاءً لا ينقطع, فذلك الكثير.
حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا ) ، قال: هم المنافقون والكفار، الذين اتخذوا دينهم هُزُوًا ولعبًا. يقول الله تبارك وتعالى: ( فليضحكوا قليلا ) ، في الدنيا ( وليبكوا كثيرًا ) ، في النار.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فليضحكوا ) ، في الدنيا، ( قليلا ) ( وليبكوا ) ، يوم القيامة، ( كثيرًا ) . وقال: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ، حتى بلغ: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ، [ سورة المطففين: 36 ] .
القول في تأويل قوله : فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ( 83 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن ردّك الله، يا محمد، إلى طائفة من هؤلاء المنافقين من غزوتك هذه ( فاستأذنوك للخروج ) ، معك في أخرى غيرها ( فقل ) لهم ( لن تخرجوا معي أبدًا ولن تقاتلوا معي عدوًّا إنكم رضيتم بالقعود أوّل مرة ) ، وذلك عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ( فاقعدوا مع الخالفين ) ، يقول: فاقعدوا مع الذين قعدوا من المنافقين خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأنكم منهم, فاقتدوا بهديهم، واعملوا مثل الذي عملوا من معصية الله, فإن الله قد سخط عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله, الحر شديد، ولا نستطيع الخروج, فلا تنفر في الحرّ ! وذلك في غزوة تبوك فقال الله: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ، فأمره الله بالخروج. فتخلف عنه رجال, فأدركتهم نفوسهم فقالوا: والله ما صنعنا شيئًا ! فانطلق منهم ثلاثة, فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتوه تابوا، ثم رجعوا إلى المدينة, فأنـزل الله: ( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ) ، إلى قوله: وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلك الذين تخلَّفوا، فأنـزل الله عُذْرَهم لما تابوا, فقال: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ، إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، [ سورة التوبة: 117، 118 ] .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ) ، إلى قوله: ( فاقعدوا مع الخالفين ) ، أي: مع النساء. ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلا من المنافقين, قيل فيهم ما قيل.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( فاقعدوا مع الخالفين ) ، و « الخالفون » ، الرجال.
قال أبو جعفر: والصواب من التأويل في قوله: ( الخالفين ) ، ما قال ابن عباس.
فأما ما قال قتادة من أن ذلك النساء, فقولٌ لا معنى له. لأن العرب لا تجمع النساء إذا لم يكن معهن رجال، بالياء والنون, ولا بالواو والنون. ولو كان معنيًّا بذلك النساء لقيل: « فاقعدوا مع الخوالف » , أو « مع الخالفات » . ولكن معناه ما قلنا، من أنه أريد به: فاقعدوا مع مرضى الرِّجال وأهل زَمانتهم، والضعفاء منهم، والنساء. وإذا اجتمع الرجال والنساء في الخبر, فإن العرب تغلب الذكور على الإناث, ولذلك قيل: ( فاقعدوا مع الخالفين ) ، والمعنى ما ذكرنا.
ولو وُجِّه معنى ذلك إلى: فاقعدوا مع أهل الفساد, من قولهم: « خَلَف الرجال عن أهله يخْلُف خُلُوفًا » , إذا فسد, ومن قولهم: « هو خَلْف سَوْءٍ » كان مذهبًا. وأصله إذا أريد به هذا المعنى، من قولهم: « خَلَف اللبن يَخْلُفُ خُلُوفا » ، إذا خبث من طول وضعه في السِّقاء حتى يفسد, ومن قولهم: « خَلَف فم الصائم » ، إذا تغيرت ريحه.
القول في تأويل قوله : وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ( 84 )
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تصلِّ، يا محمد، على أحد مات من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك أبدًا ( ولا تقم على قبره ) ، يقول: ولا تتولَّ دفنه وتقبيره.
من قول القائل: « قام فلان بأمر فلان » ، إذا كفاه أمرَه.
( إنهم كفروا بالله ) ، يقول: إنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله وماتوا وهم خارجون من الإسلام، مفارقون أمرَ الله ونهيه.
وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، وسفيان بن وكيع, وسوار بن عبد الله قالوا: حدثنا يحيى بن سعيد, عن عبيد الله قال، أخبرني نافع, عن ابن عمر قال: جاء ابن عبد الله بن أبيّ ابن سلول إلى رسول الله حين مات أبوه فقال: أعطني قميصَك حتى أكفّنه فيه, وصلّ عليه، واستغفر له . فأعطاه قميصه وإذا فرغتم فآذنوني. فلما أراد أن يصلي عليه, [ جذبه ] عمر، وقال: أليس قد نهاك الله أن تُصَلّي على المنافقين؟ فقال: بل خيّرني وقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، قال: فصلي عليه. قال: فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( ولا تُصَلِّ على أحَدٍ منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره ) ، قال: فترك الصلاة عليهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عبيد الله, عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه. ثم سأله أن يصلي عليه، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخذ بثوب النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: ابنَ سلول ! أتصلي عليه، وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما خيَّرني ربّي, فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ، وسأزيد على سبعين. فقال: إنه منافق ! فصلى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم, فأنـزل الله: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره ) .
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن مجاهد قال، حدثني عامر, عن جابر بن عبد الله: أن رأسَ المنافقين مات بالمدينة, فأوصى أن يصلي عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأن يكفَّن في قميصه، فكفنه في قميصه, وصلى عليه وقام على قبره, فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره ) .
حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سلمة, عن يزيد الرقاشي, عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول، فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره ) .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن جابر قال: جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن أبيّ وقد أدخل حُفْرته, فأخرجه فوضعه على ركبتيه، وألبسه قميصه، وتَفَل عليه من ريقه, والله أعلم .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن الزهري, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود, عن عبد الله بن عباس قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما توفي عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول، دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه, فقام إليه. فلما وقف عليه يريد الصلاة, تحوَّلتُ حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله, أتصلي على عدوّ الله عبد الله بن أبي، القائل يوم كذا كذا وكذا!! أعدِّد أيّامه, ورسول الله عليه السلام يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: أخِّر عنّي يا عمر، إني خُيِّرت فاخترت, وقد قيل لي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ، فلو أنّي أعلم أنّي إن زدت على السبعين غفر له، لزدت ! قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، فقام على قبره حتى فرغ منه. قال: فعجبتُ لي وجُرْأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم. فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نـزلت هاتان الآيتان: ( ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبدًا ) ، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَه على منافق, ولا قام على قبره، حتى قبضه الله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: لما مات عبد الله بن أبي, أتى ابنه عبد الله بن عبد الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم, فسأله قميصه, فأعطاه, فكفَّن فيه أباه.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل, عن ابن شهاب قال، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن عبد الله بن عباس, عن عمر بن الخطاب قال: لما مات عبد الله بن أبيّ فذكر مثل حديث ابن حميد, عن سلمة.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره ) ، الآية, قال: بعث عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض ليأتيه, فنهاه عن ذلك عمر. فأتاه نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: أهلكك حبُّ اليهود! قال فقال: يا نبي الله، إني لم أبعث إليك لتؤنّبني, ولكن بعثت إليك لتستغفر لي! وسأله قميصه أن يكفن فيه, فأعطاه إياه, فاستغفر له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فمات فكفن في قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم, ونفث في جلده، ودلاه في قبره، فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ) ، الآية. قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كُلّم في ذلك فقال: وما يغني عنه قميصي من الله أو: ربي وصلى عليه وإني لأرجو أن يسلم به ألفٌ من قومه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: أرسل عبد الله بن أبي بن سلول وهو مريض إلى النبي صلى الله عليه وسلم; فلما دخل عليه, قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أهلكك حبُّ يهود! قال: يا رسول الله, إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتؤنبني! ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه أن يكفّن فيه, فأعطاه إياه، وصلى عليه, وقام على قبره, فأنـزل الله تعالى ذكره: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره ) .
القول في تأويل قوله : وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( 85 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تعجبك، يا محمد، أموالُ هؤلاء المنافقين وأولادهم، فتصلي على أحدهم إذا مات وتقوم على قبره، من أجل كثرة ماله وولده, فإني إنما أعطيته ما أعطيته من ذلك لأعذبه بها في الدنيا بالغموم والهموم, بما ألزمه فيها من المؤن والنفقات والزكوات، وبما ينوبه فيها من الرزايا والمصيبات، ( وتزهق أنفسهم ) ، يقول: وليموت فتخرج نفسه من جسده, فيفارق ما أعطيته من المال والولد, فيكون ذلك حسرة عليه عند موته، ووبالا عليه حينئذٍ، ووبالا عليه في الآخرة، بموته جاحدًا توحيدَ الله، ونبوةَ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن السدي: ( وتزهق أنفسهم ) ، في الحياة الدنيا.
القول في تأويل قوله : وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( 86 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أنـزل عليك، يا محمد، سورة من القرآن, بأن يقال لهؤلاء المنافقين: ( آمنوا بالله ) ، يقول: صدِّقوا بالله ( وجاهدوا مع رسوله ) ، يقول: اغزوا المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ( استأذنك أولو الطول منهم ) ، يقول: استأذنك ذوو الغنى والمال منهم في التخلف عنك، والقعود في أهله ( وقالوا ذرنا ) ، يقول: وقالوا لك: دعنا، نكن ممن يقعد في منـزله مع ضعفاء الناس ومرضاهم، ومن لا يقدر على الخروج معك في السفر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( استأذنك أولو الطول ) ، قال: يعني أهل الغنى.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( أولو الطول منهم ) ، يعني: الأغنياء.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( وإذا أنـزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم ) ، كان منهم عبد الله بن أبيّ، والجدُّ بن قيس. فنعى الله ذلك عليهم.
القول في تأويل قوله : رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ( 87 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: رضي هؤلاء المنافقون الذين إذا قيل لهم: آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله, استأذنك أهل الغنى منهم في التخلف عن الغزو والخروج معك لقتال أعداء الله من المشركين أن يكونوا في منازلهم، كالنساء اللواتي ليس عليهن فرض الجهاد, فهن قعود في منازلهنّ وبيوتهنّ ( وطبع على قلوبهم ) ، يقول: وختم الله على قلوب هؤلاء المنافقين ( فهم لا يفقهون ) ، عن الله مواعظه، فيتعظون بها.
وقد بينا معنى « الطبع » ، وكيف الختم على القلوب، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في معنى « الخوالف » قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) ، قال: « الخوالف » هنّ النساء.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) ، يعني: النساء.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبوية أبو يزيد, عن يعقوب القمي, عن حفص بن حميد, عن شمر بن عطية: ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) ، قال: النساء.
...... قال: حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: ( مع الخوالف ) ، قال: مع النساء.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) ، أي: مع النساء.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة والحسن: ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) ، قالا النساء.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) ، قال: مع النساء.
القول في تأويل قوله : لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 88 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لم يجاهد هؤلاء المنافقون الذين اقتصصت قصصهم المشركين, لكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والذين صدقوا الله ورسوله معه، هم الذين جاهدوا المشركين بأموالهم وأنفسهم, فأنفقوا في جهادهم أموالهم وأتعبوا في قتالهم أنفسهم وبذلوها ( وأولئك ) ، يقول: وللرسول وللذين آمنوا معه الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ( الخيرات ) , وهي خيرات الآخرة, وذلك: نساؤها، وجناتها، ونعيمها.
واحدتها « خَيْرَة » , كما قال الشاعر:
وَلَقَــدْ طَعَنْــتُ مَجَـامِعَ الـرَّبَلاتِ رَبَــلاتِ هِنْــدٍ خَــيْرَةِ المَلِكـاتِ
و « الخيرة » ، من كل شيء، الفاضلة.
( وأولئك هم المفلحون ) ، يقول: وأولئك هم المخلدون في الجنات، الباقون فيها، الفائزون بها.
القول في تأويل قوله : أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 89 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أعد الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وللذين آمنوا معه ( جنات ) , وهي البساتين، تجري من تحت أشجارها الأنهار ( خالدين فيها ) ، يقول: لابثين فيها, لا يموتون فيها, ولا يظعنون عنها ( ذلك الفوز العظيم ) ، يقول: ذلك النجاء العظيم، والحظّ الجزيل.
القول في تأويل قوله : وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 90 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( وجاء ) ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ( المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم ) ، في التخلف ( وقعد ) ، عن المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه ( الذين كذبوا الله ورسوله ) ، وقالوا الكذب, واعتذرُوا بالباطل منهم. يقول تعالى ذكره: سيُصيب الذين جحدوا توحيد الله ونبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم منهم، عذابٌ أليم.
فإن قال قائل: ( وجاء المعذّرون ) ، وقد علمت أن « المعذِّر » ، في كلام العرب، إنما هو: الذي يُعَذِّر في الأمر فلا يبالغ فيه ولا يُحكمه؟ وليست هذه صفة هؤلاء, وإنما صفتهم أنهم كانوا قد اجتهدوا في طلب ما ينهضون به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدوّهم, وحرصوا على ذلك, فلم يجدوا إليه السبيل, فهم بأن يوصفوا بأنهم: « قد أعذروا » ، أولى وأحق منهم بأن يوصفوا بأنهم « عذَّروا » . وإذا وصفوا بذلك، فالصَّواب في ذلك من القراءة، ما قرأه ابن عباس, وذلك ما:-
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق، عن الضحاك قال: كان ابن عباس يقرأ: ( وَجَاءَ الْمُعْذِرُونَ ) ، مخففةً, ويقول: هم أهل العذر.
مع موافقة مجاهد إياه وغيره عليه؟
قيل: إن معنى ذلك على غير ما ذهبتَ إليه, وإن معناه: وجاء المعتذِرون من الأعراب ولكن « التاء » لما جاورت « الذال » أدغمت فيها, فصُيِّرتا ذالا مشدَّدة، لتقارب مخرج إحداهما من الأخرى, كما قيل: « يذَّكَّرون » في « يتذكرون » , و « يذكّر » في « يتذكر » وخرجت العين من « المعذّرين » إلى الفتح, لأن حركة التاء من « المعتذرين » ، وهي الفتحة، نقلت إليها، فحركت بما كانت به محركة. والعرب قد توجِّه في معنى « الاعتذار » ، إلى « الإعذار » , فيقول: « قد اعتذر فلان في كذا » , يعني: أعذر, ومن ذلك قول لبيد:
إِلَـى الحَـوْلِ ثُـمَّ اسْـمُ السَّلامِ عَلَيْكُمَا ومَـنْ يَبْـكِ حَـوْلا كَـامِلا فَقَدِ اعتَذَرْ
فقال: فقد اعتذر, بمعنى: فقد أعْذَر.
على أن أهل التأويل قد اختلفوا في صفة هؤلاء القوم الذين وصفهم الله بأنهم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم « معذِّرين » .
فقال بعضهم: كانوا كاذبين في اعتذارهم, فلم يعذرهم الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو عبيدة عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي, عن الحسين قال: كان قتادة يقرأ: ( وجاء المعذرون من الأعراب ) ، قال: اعتذروا بالكذب.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( وجاء المعذرون من الأعراب ) ، قال: نفر من بني غفار، جاءوا فاعتذروا, فلم يعذرهم الله.
فقد أخبر من ذكرنا من هؤلاء: أن هؤلاء القوم إنما كانوا أهل اعتذار بالباطل لا بالحق، فغير جائز أن يوصفوا بالإعذار، إلا أن يوصفوا بأنهم أعْذَرُوا في الاعتذار بالباطل. فأمّا بالحق على ما قاله من حكينا قوله من هؤلاء فغير جائز أن يوصَفوا به.
وقد كان بعضهم يقول: إنما جاءوا معذّرين غير جادِّين, يعرضون ما لا يريدون فعله. فمن وجَّهه إلى هذا التأويل فلا كلفة في ذلك, غير أني لا أعلم أحدًا من أهل العلم بتأويل القرآن وجَّه تأويله إلى ذلك, فأستحبُّ القول به.
وبعدُ, فإن الذي عليه من القراءة قرأة الأمصار، التشديد في « الذال » , أعني من قوله: ( المُعَذّرُونَ ) ، ففي ذلك دليلٌ على صحة تأويل من تأوله بمعنى الاعتذار، لأن القوم الذين وُصفوا بذلك لم يكلفوا أمرًا عَذَّرُوا فيه, وانما كانوا فرقتين: إما مجتهد طائع، وإما منافق فاسقٌ، لأمر الله مخالف. فليس في الفريقين موصوفٌ بالتعذير في الشخوص مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنما هو معذّر مبالغٌ, أو معتَذِر.
فإذا كان ذلك كذلك, وكانت الحجة من القرأة مجمعة على تشديد « الذال » من « المعذرين » , عُلم أن معناه ما وصفناه من التأويل.
وقد ذكر عن مجاهد في ذلك موافقة ابن عباس.
حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن حميد قال: قرأ مجاهد: ( وَجاءَ المُعذَرُونَ ) ، مخففةً, وقال: هم أهل العذر.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: كان المعذرون، [ فيما بلغني، نفرًا من بني غِفارٍ، منهم: خفاف بن أيماء بن رَحَضة، ثم كانت القصة لأهل العذر، حتى انتهى إلى قوله: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ، [ الآية ] .
القول في تأويل قوله : لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 91 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ليس على أهل الزمانة وأهل العجز عن السفر والغزو, ولا على المرضى, ولا على من لا يجد نفقة يتبلَّغ بها إلى مغزاه « حرج » , وهو الإثم، يقول: ليس عليهم إثم، إذا نصحوا لله ولرسوله في مغيبهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما على المحسنين من سبيل ) ، يقول: ليس على من أحسن فنصح لله ولرسوله في تخلّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد معه، لعذر يعذر به، طريقٌ يتطرَّق عليه فيعاقب من قبله ( والله غفور رحيم ) ، يقول: والله ساتر على ذنوب المحسنين, يتغمدها بعفوه لهم عنها ( رحيم ) ، بهم، أن يعاقبهم عليها.
وذكر أن هذه الآية نـزلت في « عائذ بن عمرو المزني » .
وقال بعضهم في « عبد الله بن مغفل » .
* ذكر من قال: نـزلت في « عائذ بن عمرو » .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ) ، نـزلت في عائذ بن عمرو.
* ذكر من قال: نـزلت في « ابن مغفل » .
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ) ، إلى قوله: حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه, فجاءته عصابة من أصحابه، فيهم « عبد الله بن مغفل المزني » , فقالوا: يا رسول الله، احملنا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أجد ما أحملكم عليه! فتولوا ولهم بكاءٌ, وعزيزٌ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقةً ولا محملا. فلما رأى الله حرصَهم على محبته ومحبة رسوله, أنـزل عذرهم في كتابه فقال: ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) ، إلى قوله: فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .
القول في تأويل قوله : وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ( 92 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا سبيل أيضًا على النفر الذين إذا ما جاءوك، لتحملهم، يسألونك الحُمْلان، ليبلغوا إلى مغزاهم لجهاد أعداءِ الله معك، يا محمد, قلت لهم: لا أجد حَمُولةً أحملكم عليها ( تولوا ) ، يقول: أدبروا عنك, ( وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ) ، وهم يبكون من حزن على أنهم لا يجدون ما ينفقون، ويتحمَّلون به للجهادِ في سبيل الله.
وذكر بعضهم: أن هذه الآية نـزلت في نفر من مزينة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه ) ، قال: هم من مزينة.
حدثني المثنى قال: أخبرنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) ، قال: هم بنو مُقَرِّنٍ، من مزينة.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءةً، عن مجاهد في قوله: ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) ، إلى قوله: ( حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون ) ، قال: هم بنو مقرِّن. من مزينة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) ، قال: هم بنو مقرِّن من مزينة.
...... قال، حدثنا أبي, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, عن عروة, عن ابن مغفل المزني, وكان أحد النفر الذين أنـزلت فيهم: ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) ، الآية.
حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: ( تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ) ، قال: منهم ابن مقرِّن وقال سفيان: قال الناس: منهم عرباض بن سارية.
وقال آخرون: بل نـزلت في عِرْباض بن سارية.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو عاصم, عن ثور بن يزيد, عن خالد بن معدان, عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر الكلاعي قالا دخلنا على عرباض بن سارية, وهو الذي أنـزل فيه: ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) ، الآية.
حدثني المثنى قال، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن قال، حدثنا الوليد قال، حدثنا ثور, عن خالد, عن عبد الرحمن بن عمرو, وحجر بن حجر بنحوه.
وقال آخرون: بل نـزلت في نفر سبعة، من قبائل شتى.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب وغيره قال: جاء ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحملونه, فقال: ( لا أجد ما أحملكم عليه ) ! فأنـزل الله: ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) ، الآية. قال: هم سبعة نفر: من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير ومن بني واقف: هرمي بن عمرو ومن بني مازن بن النجار: عبد الرحمن بن كعب, يكنى أبا ليلى ومن بني المعلى: سلمان بن صخر ومن بني حارثة: عبد الرحمن بن يزيد، أبو عبلة, وهو الذي تصدق بعرضِه فقبله الله منه ومن بني سَلِمة: عمرو بن غنمة, وعبد الله بن عمرو المزني.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قوله: ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) ، إلى قوله: ( حزنًا ) ، وهم البكاؤون، كانوا سبعة.
القول في تأويل قوله : إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 93 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما السبيل بالعقوبة على أهل العذر، يا محمد, ولكنها على الذين يستأذنونك في التخلف خِلافَك، وترك الجهاد معك، وهم أهل غنى وقوّةٍ وطاقةٍ للجهاد والغزو, نفاقًا وشكًّا في وعد الله ووعيده ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) ، يقول: رضوا بأن يجلسوا بعدك مع النساء وهن « الخوالف » ، خلف الرجال في البيوت, ويتركوا الغزو معك، ( وطبع الله على قلوبهم ) ، يقول: وختم الله على قلوبهم بما كسبوا من الذنوب ( فهم لا يعلمون ) ، سوء عاقبتهم، بتخلفهم عنك، وتركهم الجهاد معك، وما عليهم من قبيح الثناء في الدنيا، وعظيم البلاء في الآخرة.
القول في تأويل قوله : يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 94 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يعتذر إليكم، أيها المؤمنون بالله، هؤلاء المتخلفون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم, التاركون جهاد المشركين معكم من المنافقين، بالأباطيل والكذب، إذا رجعتم إليهم من سفركم وجهادكم « قل » ، لهم، يا محمد، ( لا تعتذروا لن نؤمن لكم ) ، يقول: لن نصدِّقكم على ما تقولون ( قد نبأنا الله من أخباركم ) ، يقول: قد أخبرنا الله من أخباركم, وأعلمنا من أمركم ما قد علمنا به كذبَكم ( وسيرى الله عملكم ورسوله ) ، يقول: وسيرى الله ورسوله فيما بعدُ عملكم, أتتوبون من نفاقكم، أم تقيمون عليه؟ ( ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة ) ، يقول: ثم ترجعون بعد مماتكم ( إلى عالم الغيب والشهادة ) ، يعني: الذي يعلم السرَّ والعلانية، الذي لا يخفى عليه بواطن أموركم وظواهرها ( فينبئكم بما كنتم تعملون ) ، فيخبركم بأعمالكم كلها سيِّئها وحسنها, فيجازيكم بها: الحسنَ منها بالحسن، والسيئَ منها بالسيئ.
القول في تأويل قوله : سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 95 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: سيحلف، أيها المؤمنون بالله، لكم هؤلاء المنافقون الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ( إذا انقلبتم إليهم ) ، يعني: إذا انصرفتم إليهم من غزوكم ( لتعرضوا عنهم ) ، فلا تؤنبوهم ( فأعرضوا عنهم ) ، يقول جل ثناؤه للمؤمنين: فدعوا تأنيبهم، وخلوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق ( إنهم رجس ومأواهم جهنم ) ، يقول: إنهم نجس ( ومأواهم جهنم ) , يقول: ومصيرهم إلى جهنم، وهي مسكنهم الذي يأوُونه في الآخرة ( جزاء بما كانوا يكسبون ) ، يقول: ثوابًا بأعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من معاصي الله.
وذكر أن هذه الآية نـزلت في رجلين من المنافقين، قالا ما:-
حدثنا به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا ) ، إلى: ( بما كانوا يكسبون ) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألا تغزو بني الأصفر، لعلك أن تصيب بنت عظيم الرُّوم, فإنهنّ حِسان ! فقال رجلان: قد علمت، يا رسول الله، أن النساء فتنة, فلا تفتنَّا بهنَّ! فأذن لنا ! فأذن لهما. فلما انطلقا, قال أحدهما: إن هو إلا شَحْمةٌ لأوّل آكلٍ! فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم ينـزل عليه في ذلك شيء, فلما كان ببعض الطريق، نـزل عليه وهو على بعض المياه: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [ سورة التوبة: 42 ] ، ونـزل عليه: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [ سورة التوبة: 43 ] ، ونـزل عليه: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [ سورة التوبة: 44 ] ، ونـزل عليه: ( إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ) . فسمع ذلك رجل ممن غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم, فأتاهم وهم خلفهم, فقال: تعلمون أنْ قَد نـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَكم قرآن؟ قالوا: ما الذي سمعت؟ قال: ما أدري, غير أني سمعت أنه يقول: « إنهم رجس » ! فقال رجل يدعى « مخشيًّا » ، والله لوددت أني أجلد مئة جلدة، وأني لست معكم! فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما جاء بك؟ فقال: وجْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تسفَعه الريح، وأنا في الكِنّ!! فأنـزل الله عليه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [ سورة التوبة: 49 ] ، وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [ سورة التوبة: 81 ] ، ونـزل عليه في الرجل الذي قال: « لوددت أني أجْلد مئة جلدة » قولُ الله: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَـزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ [ سورة التوبة: 64 ] ، فقال رجل مع رسول الله: لئن كان هؤلاء كما يقولون، ما فينا خير! فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم, فقال له: أنت صاحب الكلمة التي سمعتُ؟ فقال: لا والذي أنـزل عليك الكتاب ! فأنـزل الله فيه: وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [ سورة التوبة: 74 ] ، وأنـزل فيه: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ، [ سورة التوبة: 47 ] .
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس, عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعبَ بن مالك يقول: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك, جلس للناس. فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له, وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيَتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وصَدَقته حديثي. فقال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطُّ، بعد أن هداني للإسلام، أعظمَ في نفسي من صدْق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبتُه فأهلك كما هلك الذين كذبوا, إن الله قال للذين كذبوا حين أنـزل الوحي, شرَّ ما قال لأحد: ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ) ، إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ .
القول في تأويل قوله : يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( 96 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحلف لكم، أيها المؤمنون بالله، هؤلاء المنافقون، اعتذارًا بالباطل والكذب ( لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) ، يقول: فإن أنتم، أيها المؤمنون، رضيتم عنهم وقبلتم معذرتهم, إذ كنتم لا تعلمون صِدْقهم من كذبهم, فإن رضاكم عنهم غيرُ نافعهم عند الله، لأن الله يعلم من سرائر أمرهم ما لا تعلمون, ومن خفيّ اعتقادهم ما تجهلون, وأنهم على الكفر بالله......... يعني أنهم الخارجون من الإيمان إلى الكفر بالله، ومن الطاعة إلى المعصية.
القول في تأويل قوله : الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 97 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الأعراب أشدُّ جحودًا لتوحيد الله، وأشدّ نفاقًا، من أهل الحضر في القرى والأمصار. وإنما وصفهم جل ثناؤه بذلك، لجفائهم، وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير, فهم لذلك أقسى قلوبًا، وأقلُّ علمًا بحقوق الله.
وقوله: ( وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله ) ، يقول: وأخلق أن لا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله، وذلك فيما قال قتادة: السُّنن.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله ) ، قال: هم أقل علمًا بالسُّنن.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن الأعمش, عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صُوحان وهو يحدث أصحابه, وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوَنْد, فقال: والله إنّ حديثك ليعجبني, وإن يدك لَتُرِيبُني ! فقال زيد: وما يُريبك من يدي؟ إنها الشمال! فقال الأعرابي: والله ما أدري، اليمينَ يقطعون أم الشمالَ؟ فقال زيد بن صوحان: صدق الله: ( الأعرابُ أشدُّ كفرًا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزلَ الله على رسوله ) .
وقوله: ( والله عليم حكيم ) ، يقول: ( والله عليم ) ، بمن يعلم حدودَ ما أنـزل على رسوله, والمنافق من خلقه، والكافرِ منهم, لا يخفى عليه منهم أحد ( حكيم ) ، في تدبيره إياهم, وفي حلمه عن عقابهم، مع علمه بسرائرهم وخِداعهم أولياءَه.
القول في تأويل قوله : وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 98 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن الأعراب من يَعُدُّ نفقته التي ينفقها في جهاد مشرك، أو في معونة مسلم، أو في بعض ما ندب الله إليه عباده ( مغرما ) ، يعني: غرمًا لزمه، لا يرجو له ثوابًا، ولا يدفع به عن نفسه عقابًا ( ويتربص بكم الدوائر ) ، يقول: وينتظرون بكم الدوائر، أن تدور بها الأيام والليالي إلى مكروهٍ ومجيء محبوب, وغلبة عدوٍّ لكم. يقول الله تعالى ذكره: ( عليهم دائرة السوء ) ، يقول: جعل الله دائرة السوء عليهم, ونـزول المكروه بهم لا عليكم أيها المؤمنون, ولا بكم ( والله سميع ) ، لدعاء الداعين ( عليم ) بتدبيرهم، وما هو بهم نازلٌ من عقاب الله، وما هم إليه صائرون من أليم عقابه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: ( ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر ) ، قال: هؤلاء المنافقون من الأعراب الذين إنما ينفقون رياءً اتِّقاءَ أن يُغْزَوْا أو يُحارَبوا أو يقاتلوا, ويرون نفقتهم مغرمًا. ألا تراه يقول: ( ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء ) ؟
واختلفت القرأة في قراءه ذلك.
فقرأ عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: ( عَلَيهِم دَائِرَةُ السَّوْءِ ) بفتح السين, بمعنى النعت لـ « الدائرة » , وإن كانت « الدائرة » مضافة إليه, كقولهم: « هو رجل السَّوْء » , « وامرؤ الصدق » , من كأنه إذا فُتح مصدرٌ من قولهم: سؤته أسوُءه سَوْءًا ومَساءَةً ومَسَائِيَةً.
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض البصريين: ( عَلَيهِم دَائِرَةُ السُّوْءِ ) ، بضم السين، كأنه جعله اسمًا, كما يقال: عليه دائرة البلاء والعذاب. ومن قال: « عليهم دائرة السُّوء » فضم, لم يقل: « هذا رجل السُّوء » بالضم, و « الرجل السُّوء » , وقال الشاعر:
وكُـنْتُ كَـذِئْبِ السَّـوْءِ لَمَّـا رَأَى دَمًا بِصَاحِبِـه يَوْمًـا أحَـالَ عَـلَى الـدَّمِ
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا بفتح السين, بمعنى: عليهم الدائرة التي تَسُوءهم سوءًا. كما يقال: « هو رجل صِدْق » ، على وجه النعت.
القول في تأويل قوله : وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 99 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن الأعراب من يصدِّق الله ويقرّ بوحدانيته، وبالبعث بعد الموت، والثواب والعقاب, وينوي بما ينفق من نفقة في جهاد المشركين، وفي سفره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قربات عند الله ) ، و « القربات » جمع « قربة » , وهو ما قرَّبه من رضى الله ومحبته ( وصلوات الرسول ) ، يعني بذلك: ويبتغي بنفقة ما ينفق، مع طلب قربته من الله، دعاءَ الرسول واستغفارَه له.
وقد دللنا، فيما مضى من كتابنا، على أن من معاني « الصلاة » ، الدعاء، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله ( وصلوات الرسول ) ، يعني: استغفار النبيّ عليه الصلاة والسلام.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ) ، قال: دعاء الرسول: قال: هذه ثَنِيَّةُ الله من الأعراب.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، قال: هم بنو مقرِّن، من مزينة, وهم الذين قال الله فيهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا ، [ سورة التوبة: 92 ] . قال: هم بنو مقرّن، من مزينة قال: حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ، ثم استثنى فقال: ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، الآية.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا جعفر, عن البختريّ بن المختار العبدي قال، سمعت عبد الرحمن بن معْقل قال: كنا عشرة ولد مقرّن, فنـزلت فينا: ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، إلى آخر الآية.
قال أبو جعفر: قال الله: ( ألا إنها قُرْبة لهم ) ، يقول تعالى ذكره: ألا إنّ صلوات الرسول قربة لهم من الله.
وقد يحتمل أن يكون معناه: ألا إنّ نفقته التي ينفقها كذلك، قربةٌ لهم عند الله ( سيدخلهم الله في رحمته ) ، يقول: سيدخلهم الله فيمن رحمه فأدخله برحمته الجنة ( إن الله غفورٌ ) ، لما اجترموا ( رحيم ) ، بهم مع توبتهم وإصلاحهم أن يعذبهم.
القول في تأويل قوله : وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 100 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين سبقوا الناس أولا إلى الإيمان بالله ورسوله ( من المهاجرين ) ، الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم، وفارقوا منازلهم وأوطانهم ( والأنصار ) ، الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله ( والذين اتبعوهم بإحسان ) ، يقول: والذين سَلَكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام, طلبَ رضا الله ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) .
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: ( والسابقون الأوّلون ) .
فقال بعضهم: هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، أو أدْركوا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر, عن إسماعيل, عن عامر: ( والسابقون الأوّلون ) ، قال: من أدرك بيعة الرضوان.
...... قال، حدثنا ابن فضيل, عن مطرف, عن عامر قال: ( المهاجرون الأوّلون ) ، من أدرك البيعة تحت الشجرة.
حدثنا ابن بشار قال, حدثنا يحيى قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد, عن الشعبي قال: ( المهاجرون الأولون ) ، الذين شهدوا بيعة الرضوان.
حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان عن مطرف, عن الشعبي قال: « المهاجرون الأولون » ، من كان قبل البيعة إلى البيعة، فهم المهاجرون الأوّلون, ومن كان بعد البيعة، فليس من المهاجرين الأولين.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل ومطرف، عن الشعبي قال: ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) ، هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم, عن داود, عن عامر قال: فَصْل ما بين الهجرتين بيعة الرضوان, وهي بيعة الحديبية.
حدثني المثني قال، أخبرنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ومطرف, عن الشعبي قال: هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبثر أبو زبيد, عن مطرف, عن الشعبي قال: المهاجرون الأولون، من أدرك بيعة الرضوان.
وقال آخرون: بل هم الذين صلوا القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن قيس, عن عثمان الثقفي, عن مولى لأبي موسى, عن أبي موسى قال: المهاجرون الأولون، من صلى القبلتين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس بن الربيع, عن عثمان بن المغيرة, عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير, عن مولى لأبي موسى قال: سألت أبا موسى الأشعري عن قوله: ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) ، قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعًا.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي هلال, عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: لم سُمُّوا « المهاجرين الأولين » ؟ قال: من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعًا, فهو من المهاجرين الأولين.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن أبي عروبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب قال: المهاجرون الأولون، الذين صلوا القبلتين.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب قوله: ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) ، قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعًا.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عباس بن الوليد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم, عن بعض أصحابه, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب وعن أشعث, عن ابن سيرين في قوله: ( والسابقون الأولون ) ، قال: هم الذين صلوا القبلتين.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن معاذ قال، حدثنا ابن عون, عن محمد, قال: المهاجرون الأولون: الذين صلوا القبلتين.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) ، قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعًا.
وأما الذين اتبعوا المهاجرين الأولين والأنصار بإحسان, فهم الذين أسلموا لله إسلامَهم، وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير. كما: -
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب قال: مرّ عمر برجل وهو يقرأ هذه الآية: ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ) ، قال: من أقرأك هذه الآية؟ قال: أقرأنيها أبيّ بن كعب. قال: لا تفارقْني حتى أذهب بك إليه ! فأتاه فقال: أنت أقرأت هذا هذه الآية؟ قال: نعم! قال: وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: [ نعم! ] . لقد كنتُ أرانا رُفِعنا رَفْعَةً لا يبلُغها أحدٌ بعدنا! فقال أبيّ: تصديق ذلك في أول الآية التي في أول الجمعة, وأوسط الحشر, وآخر الأنفال. أما أول الجمعة: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ،, [ سورة الجمعة: 3 ] ، وأوسط الحشر: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ، [ سورة الحشر: 10 ] ، وأما آخر الأنفال: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ، [ سورة الأنفال: 75 ] .
حدثنا أبو كريب قال, حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي قال: مرّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ: ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) ، حتى بلغ: ( ورضوا عنه ) ، قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبي بن كعب ! فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه ! فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم! قال: أنت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! قال: لقد كنت أظن أنّا رُفِعنا رَفْعة لا يبلغها أحدٌ بعدنا! فقال أبيّ: بلى، تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ، إلى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وفي سورة الحشر: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ، وفي الأنفال: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ، إلى آخر الآية.
وروي عن عمر في ذلك ما:
حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج, عن هارون, عن حبيب بن الشهيد, وعن ابن عامر الأنصاري: أن عمر بن الخطاب قرأ: ( وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ) ، فرفع « الأنصار » ولم يلحق الواو في « الذين » , فقال له زيد بن ثابت « والذين اتبعوهم بإحسان » , فقال عمر: « الذين اتبعوهم بإحسان » ، فقال زيد: أمير المؤمنين أعلم! فقال عمر: ائتوني بأبيّ بن كعب. فأتاه، فسأله عن ذلك, فقال أبي: ( والذين اتبعوهم بإحسان ) ، فقال عمر: إذًا نتابع أبَيًّا.
قال أبو جعفر: والقراءة على خفض « الأنصار » ، عطفًا بهم على « المهاجرين » .
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ: ( الأنْصَارُ ) ، بالرفع، عطفًا بهم على « السابقين » .
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز غيرها، الخفضُ في ( الأنْصَارِ ) , لإجماع الحجة من القرأة عليه, وأن السابق كان من الفريقين جميعًا، من المهاجرين والأنصار، وإنما قصد الخبر عن السابق من الفريقين، دون الخبر عن الجميع وإلحاق « الواو » في « الذين اتبعوهم بإحسان » , لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين جميعًا, على أن « التابعين بإحسان » ، غير « المهاجرين والأنصار » ، وأما « السابقون » ، فإنهم مرفوعون بالعائد من ذكرهم في قوله: ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) .
ومعنى الكلام: رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيّه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه ورضي عنه السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار, والذين اتبعوهم بإحسان، لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام ( وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار ) ، يدخلونها ( خالدين فيها ) ، لابثين فيها ( أبدًا ) ، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها ( ذلك الفوز العظيم ) .
القول في تأويل قوله : وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ( 101 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب منافقون, ومن أهل مدينتكم أيضًا أمثالهم أقوامٌ منافقون.
وقوله: ( مردوا على النفاق ) ، يقول: مرَنُوا عليه ودَرِبوا به.
ومنه: « شيطانٌ مارد، ومَرِيد » ، وهو الخبيث العاتي. ومنه قيل: « تمرَّد فلان على ربه » ، أي: عتَا، ومرنَ على معصيته واعتادها.
وقال ابن زيد في ذلك ما: -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ) ، قال: أقاموا عليه، لم يتوبوا كما تابَ الآخرون.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ) ، أي لجُّوا فيه، وأبوْا غيرَه.
( لا تعلمهم ) ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تعلم، يا محمد، أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة, ولكنا نحن نعلمهم، كما: -
حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ) ، إلى قوله: ( نحن نعلمهم ) ، قال: فما بال أقوام يتكلَّفون علم الناس؟ فلانٌ في الجنة وفلان في النار! فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري ! لعمري أنتَ بنفسك أعلم منك بأعمال الناس, ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته الأنبياء قبلك ! قال نبي الله نوح عليه السلام: وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ،, [ سورة الشعراء: 112 ] ، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [ سورة هود: 86 ] ، وقال الله لنبيه عليه السلام: ( لا تعلمهم نحن نعلمهم ) .
وقوله: ( سنعذبهم مرتين ) ، يقول: سنعذب هؤلاء المنافقين مرتين، إحداهما في الدنيا, والأخرى في القبر.
ثم اختلف أهل التأويل في التي في الدنيا، ما هي؟
فقال بعضهم: هي فضيحتهم، فضحهم الله بكشف أمورهم، وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسين بن عمرو العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن أبي مالك, عن ابن عباس في قول الله: ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ) ، إلى قوله: ( عذاب عظيم ) ، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا يوم الجمعة, فقال: اخرج يا فلان، فإنك منافق. اخرج، يا فلان، فإنك منافق. فأخرج من المسجد ناسًا منهم، فضحهم. فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد، فاختبأ منهم حياءً أنه لم يشهد الجمعة, وظنّ أن الناس قد انصرفوا، واختبئوا هم من عمر, ظنّوا أنه قد علم بأمرهم. فجاء عمر فدخل المسجد, فإذا الناس لم يصلُّوا, فقال له رجل من المسلمين: أبشر، يا عمر, فقد فضح الله المنافقين اليوم ! فهذا العذاب الأول، حين أخرجهم من المسجد. والعذاب الثاني، عذاب القبر.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: ( سنعذبهم مرتين ) ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فيذكر المنافقين، فيعذبهم بلسانه, قال: وعذاب القبر.
[ وقال آخرون: ما يصيبهم من السبي والقتل والجوع والخوف في الدنيا. ]
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( سنعذبهم مرتين ) ، قال: القتل والسِّبَاء.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( سنعذبهم مرتين ) ، بالجوع, وعذاب القبر. قال: ( ثم يردون إلى عذاب عظيم ) ، يوم القيامة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جعفر بن عون، والقاسم، ويحيى بن آدم, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( سنعذبهم مرتين ) ، قال: بالجوع والقتل وقال يحيى: الخوف والقتل.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: بالجوع والقتل.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: ( سنعذبهم مرتين ) ، قال: بالجوع, وعذاب القبر.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( سنعذبهم مرتين ) ، قال: الجوع والقتل.
وقال آخرون: معنى ذلك: سنعذبهم عذابًا في الدنيا، وعذابًا في الآخرة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( سنعذبهم مرتين ) ، عذاب الدنيا، وعذاب القبر، ( ثم يردون إلى عذاب عظيم ) ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين, فقال: « ستة منهم تكفيكَهم الدُّبيلة, سِراج من نار جهنم، يأخذ في كتف أحدهم حتى تُفضي إلى صدره, وستة يموتون موتًا » . ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رحمه الله، كان إذا مات رجل يرى أنه منهم، نظر إلى حذيفة, فإن صلى عليه، وإلا تركه. وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة: أنشُدُك الله، أمنهم أنا؟ قال: لا والله, ولا أومِن منها أحدًا بعدك !
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( سنعذبهم مرتين ) ، قال: عذاب الدنيا وعذاب القبر.
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن العلاء قالا حدثنا بدل بن المحبر قال، حدثنا شعبة, عن قتادة: ( سنعذبهم مرتين ) ، قال: عذابًا في الدنيا، وعذابًا في القبر.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: عذاب الدنيا، وعذاب القبر، ثم يردّون إلى عذاب النار.
وقال آخرون: كان عذابهم إحدى المرتين، مصائبَهم في أموالهم وأولادهم, والمرة الأخرى في جهنم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( سنعذبهم مرتين ) ، قال: أما عذابٌ في الدنيا، فالأموال والأولاد, وقرأ قول الله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، [ سورة التوبة: 55 ] ، بالمصائب فيهم, هي لهم عذاب، وهي للمؤمنين أجر. قال: وعذاب في الآخرة، في النار ( ثم يردون إلى عذاب عظيم ) ، قال: النار.
وقال آخرون: بل إحدى المرتين، الحدود, والأخرى: عذابُ القبر.
ذكر ذلك عن ابن عباس من وجه غير مرتضًى.
وقال آخرون: بل إحدى المرتين، أخذ الزكاة من أموالهم, والأخرى عذابُ القبر. ذكر ذلك عن سليمان بن أرقم, عن الحسن.
وقال آخرون: بل إحدى المرتين، عذابُهم بما يدخل عليهم من الغَيْظِ في أمر الإسلام.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( سنعذبهم مرتين ) ، قال: العذاب الذي وعدَهم مرتين، فيما بلغني، غَمُّهم بما هم فيه من أمر الإسلام، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حِسْبة, ثم عذابهم في القبر إذا صاروا إليه, ثم العذاب العظيم الذي يردُّون إليه، عذابُ الآخرة، والخُلْد فيه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر أنه يعذِّب هؤلاء الذين مرَدوا على النفاق مرتين, ولم يضع لنا دليلا يوصِّل به إلى علم صفة ذينك العذابين وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم. وليس عندنا علم بأيِّ ذلك من أيٍّ. غير أن في قوله جل ثناؤه: ( ثم يردّون إلى عذاب عظيم ) ، دلالة على أن العذاب في المرَّتين كلتيهما قبل دخولهم النار. والأغلب من إحدى المرتين أنها في القبر.
وقوله: ( ثم يردون إلى عذاب عظيم ) ، يقول: ثم يردُّ هؤلاء المنافقون، بعد تعذيب الله إياهم مرتين، إلى عذاب عظيم, وذلك عذاب جهنم.
القول في تأويل قوله : وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 102 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق, ومنهم « آخرون اعترفوا بذنوبهم » , يقول: أقرُّوا بذنوبهم ( خلطوا عملا صالحًا ) ، يعني جل ثناؤه بالعمل الصالح الذي خلطوه بالعمل السيئ: اعترافهم بذنوبهم، وتوبتهم منها, والآخر السيئ: هو تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خرج غازيًا, وتركهم الجهادَ مع المسلمين.
فإن قال قائل: وكيف قيل: ( خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا ) , وإنما الكلام: خلطوا عملا صالحًا بآخر سيئ؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك.
فكان بعض نحويي البصرة يقول: قيل ذلك كذلك, وجائز في العربية أن يكون « بآخر » ، كما تقول « استوى الماء والخشبة » ، أي: بالخشبة, « وخلطت الماء واللبن » .
وأنكر [ آخر ] أن يكون نظير قولهم « استوى الماء والخشبة » . واعتلَّ في ذلك بأن الفعل في « الخلط » عامل في الأول والثاني, وجائز تقديم كل واحد منهما على صاحبه, وأن تقديم « الخشبة » على « الماء » غير جائز في قولهم: « استوى الماء والخشبة » , وكان ذلك عندهم دليلا على مخالفة ذلك « الخلطَ » .
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي: أنه بمعنى قولهم: « خلطت الماء واللبن » , بمعنى: خلطته باللبن.
« عسى الله أن يتوب عليهم » ، يقول:لعل الله أن يتوب عليهم « وعسى » من الله واجب، وإنما معناه:سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب على ما وصفت « إن الله غفور رحيم » ، يقول: إن الله ذو صفح وعفو لمن تاب عن ذنوبه، وساترٌ له عليها « رحيم » ، به أن يعذبه بها.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الآية، والسبب الذي من أجله أنـزلت فيه.
فقال بعضهم: نـزلت في عشرة أنفس كانوا تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, منهم أبو لبابة, فربط سبعةٌ منهم أنفسهم إلى السّواري عند مَقْدم النبي صلى الله عليه وسلم، توبةً منهم من ذنبهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا ) ، قال: كانوا عشرة رَهْطٍ تخلّفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فلما حضرَ رُجوع النبي صلى الله عليه وسلم، أوثق سبعةٌ منهم أنفسهم بسواري المسجد, فكان ممرّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم.
فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثِقُون أنفسهم بالسواري؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحابٌ له تخلفوا عنك، يا رسول الله، [ وحلفوا لا يطلقهم أحد ] ، حتى تطلقهم، وتعذرهم. فقال النبي عليه السلام: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين! فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا ! فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم ) و « عسى » من الله واجب. فلما نـزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعَذَرَهُم .
وقال آخرون: بل كانوا ستة, أحدهم أبو لبابة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله ) ، إلى قوله: ( إن الله غفور رحيم ) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة تبوك, فتخلف أبو لبابة وخمسة معه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكّروا وندموا، وأيقنوا بالهلكة, وقالوا: « نكون في الكِنِّ والطمأنينة مع النساء, ورسول الله والمؤمنون معه في الجهاد! والله لنوثقنّ أنفسنا بالسّواري، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يطلقنا ويعذرُنا » ، فانطلق أبو لبابة وأوثق نفسه ورجلان معه بسواري المسجد, وبقي ثلاثةُ نفرٍ لم يوثقوا أنفسهم. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته, وكان طريقه في المسجد, فمرَّ عليهم فقال: من هؤلاء الموثقو أنفسهِم بالسواري؟ فقالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم, وقد اعترفوا بذنوبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم, ولا أعذرهم حتى يكون الله هو يعذرهم, وقد تخلفوا عني ورغبوا بأنفسهم عن غزو المسلمين وجهادهم ! فأنـزل الله برحمته: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ) و « عسى » من الله واجب فلما نـزلت الآية أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعذرَهم, وتجاوز عنهم.
وقال آخرون: الذين ربطوا أنفسهم بالسواري كانوا ثمانية.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب, عن زيد بن أسلم: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ) ، قال: هم الثمانية الذين ربطوا أنفسهم بالسواري, منهم كرْدَم، ومرداس، وأبو لبابة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد قال: الذين ربطوا أنفسهم بالسواري: هلال, وأبو لبابة, وكردم, ومرداس, وأبو قيس.
وقال آخرون: كانوا سبعة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم ) ، ذكر لنا أنهم كانوا سبعة رَهْطٍ تخلفوا عن غزوة تبوك, فأما أربعة فخلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا: جدُّ بن قيس, وأبو لبابة, وحرام, وأوس, وكلهم من الأنصار, وهم الذين قيل فيهم: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ، الآية.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا ) ، قال: هم نفر ممن تخلف عن تبوك، منهم أبو لبابة, ومنهم جد بن قيس، تِيبَ عليهم قال قتادة: وليسوا بثلاثة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) ، قال: هم سبعة, منهم أبو لبابة، كانوا تخلفوا عن غزوة تبوك, وليسوا بالثلاثة.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا ) ، نـزلت في أبي لبابة وأصحابه، تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما قَفَل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته, وكان قريبًا من المدينة, ندموا على تخلفهم عن رسول الله وقالوا: « نكون في الظلال والأطعمة والنساء, ونبي الله في الجهاد واللأواء! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله صلى الله عليه وسلم يطلقنا ويعذرنا ! » وأوثقوا أنفسهم, وبقي ثلاثة، لم يوثقوا أنفسهم بالسواري. فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته, فمرّ في المسجد، وكان طريقه, فأبصرهم, فسأل عنهم, فقيل له: أبو لبابة وأصحابه، تخلفوا عنك، يا نبي الله, فصنعوا بأنفسهم ما ترى, وعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم! فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم, ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله, قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين ! فأنـزل الله: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) ، إلى: ( عسى الله أن يتوب عليهم ) و « عسى » من الله واجب فأطلقهم نبيُّ الله وعذرهم.
وقال آخرون: بل عني بهذه الآية أبو لبابة خاصة، وذنبه الذي اعترف به فتيب عليه فيه، ما كان من أمره في بني قريظة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) ، قال: نـزلت في أبي لبابة، قال لبني قريظة ما قال.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) ، قال: أبو لبابة، إذ قال لقريظة ما قال, أشار إلى حلقه: إن محمدًا ذابحكم إن نـزلتم على حُكْم الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) ، فذكر نحوه إلا أنه قال: إن نـزلتم على حكمه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد: ربط أبو لبابة نفسه إلى سارية, فقال: لا أحلُّ نفسي حتى يحلني الله ورسوله ! قال: فحلَّه النبي صلى الله عليه وسلم: وفيه أنـزلت هذه الآية: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا ) ، الآية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن ليث, عن مجاهد: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) ، قال: نـزلت في أبي لبابة.
وقال آخرون: بل نـزلت في أبي لبابة، بسبب تخلفه عن تبوك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, قال: قال الزهري: كان أبو لبابة ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فربط نفسه بسارية, فقال: والله لا أحلّ نفسي منها، ولا أذوق طعامًا ولا شرابًا، حتى أموت أو يتوب الله عليّ ! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا، حتى خرّ مغشيا عليه، قال: ثم تاب الله عليه, ثم قيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة! فقال: والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يحلني ! قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده. ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله، إنّ من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب, وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله! قال: يجزيك يا أبا لبابة الثلث.
وقال بعضهم: عني بهذه الآية الأعراب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا ) ، قال: فقال إنهم من الأعراب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن حجاج بن أبي زينب قال: سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) ، إلى: ( إن الله غفور رحيم ) .
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من قال: نـزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركهم الجهادَ معه، والخروجَ لغزو الروم، حين شخص إلى تبوك وأن الذين نـزل ذلك فيهم جماعة، أحدهم أبو لبابة.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في ذلك, لأن الله جل ثناؤه قال: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) ، فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم, ولم يكن المعترفُ بذنبه، الموثقُ نفسه بالسارية في حصار قريظة، غير أبي لبابة وحده. فإذ كان ذلك [ كذلك ] , وكان الله تبارك وتعالى قد وصف في قوله: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) ، بالاعتراف بذنوبهم جماعةً, عُلِم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك ليست الواحد، فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذا لم تكن إلا لجماعة, وكان لا جماعةَ فعلت ذلك، فيما نقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل، إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك، صحَّ ما قلنا في ذلك. وقلنا: « كان منهم أبو لبابة » ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.
القول في تأويل قوله : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 103 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها ( صدقة تطهرهم ) ، من دنس ذنوبهم ( وتزكيهم بها ) ، يقول: وتنمِّيهم وترفعهم عن خسيس منازل أهل النفاق بها, إلى منازل أهل الإخلاص ( وصل عليهم ) ، يقول: وادع لهم بالمغفرة لذنوبهم, واستغفر لهم منها ( إن صلاتك سكن لهم ) ، يقول: إن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم، بأن الله قد عفا عنهم وقبل توبتهم ( والله سميع عليم ) ، يقول: والله سميع لدعائك إذا دعوت لهم، ولغير ذلك من كلام خلقه ( عليم ) ، بما تطلب بهم بدعائك ربّك لهم، وبغير ذلك من أمور عباده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: جاءوا بأموالهم يعني أبا لبابة وأصحابه حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدّق بها عنا، واستغفر لنا ! قال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا! فأنـزل الله: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) ، يعني بالزكاة: طاعة الله والإخلاص ( وصل عليهم ) ، يقول: استغفر لهم.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قال: لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وصاحبيه، انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم, فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: خذ من أموالنا فتصدَّق بها عنا, وصلِّ علينا يقولون: استغفر لنا وطهرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا آخذ منها شيئًا حتى أومر. فأنـزل الله: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) ، يقول: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا. فلما نـزلت هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جزءًا من أموالهم, فتصدَّق بها عنهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب, عن زيد بن أسلم قال: لما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة والذين ربطوا أنفسهم بالسَّواري, قالوا: يا رسول الله، خذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها ! فأنـزل الله: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ) ، الآية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جبير قال: قال الذين ربطوا أنفسهم بالسواري حين عفا عنهم: يا نبيّ الله؛ طهِّر أموالنا ! فأنـزل الله: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) ، وكان الثلاثة إذا اشتكى أحدهم اشتكى الآخران مثله, وكان عَمي منهم اثنان, فلم يزل الآخر يدعو حتى عَمِي.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: الأربعة: جدُّ بن قيس, وأبو لبابة, وحرام, وأوس, هم الذين قيل فيهم: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) ، أي وقارٌ لهم، وكانوا وعدوا من أنفسهم أن ينفقوا ويجاهدوا ويتصدَّقوا.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك, قال: لما أطلق نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وأصحابه, أتوا نبيّ الله بأموالهم فقالوا: يا نبي الله، خذ من أموالنا فتصدَّق به عنا, وطهَّرنا، وصلِّ علينا ! يقولون: استغفر لنا فقال نبي الله: لا آخذ من أموالكم شيئًا حتى أومر فيها فأنـزل الله عز وجل: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ) ، من ذنوبهم التي أصابوا ( وصل عليهم ) ، يقول: استغفر لهم. ففعل نبي الله عليه السلام ما أمره الله به.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: ( خذ من أموالهم صدقة ) ، أبو لبابة وأصحابه ( وصل عليهم ) ، يقول: استغفر لهم، لذنوبهم التي كانوا أصابوا.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) ، قال: هؤلاء ناسٌ من المنافقين ممن كان تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, اعترفوا بالنفاق، وقالوا: يا رسول الله، قد ارتبنا ونافقنا وشككنا, ولكن توبةٌ جديدة، وصدقةٌ نخرجها من أموالنا ! فقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) ، بعد ما قال: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ، [ سورة التوبة: 84 ] .
واختلف أهل العربية في وجه رفع « تزكيهم » .
فقال بعض نحويي البصرة: رفع « تزكيهم بها » ، في الابتداء، وإن شئت جعلته من صفة « الصدقة » , ثم جئت بها توكيدًا, وكذلك « تطهرهم » .
وقال بعض نحويي الكوفة: إن كان قوله: ( تطهرهم ) ، للنبي عليه السلام فالاختيار أن تجزم، لأنه لم يعد على « الصدقة » عائد, ( وتزكيهم ) ، مستأنَفٌ. وإن كانت الصدقة تطهرهم وأنت تزكيهم بها، جاز أن تجزم الفعلين وترفعهما.
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول، أن قوله: ( تطهرهم ) ، من صلة « الصدقة » , لأن القرأة مجمعة على رفعها, وذلك دليل على أنه من صلة « الصدقة » . وأما قوله: ( وتزكيهم بها ) ، فخبر مستأنَفٌ, بمعنى: وأنت تزكيهم بها, فلذلك رفع.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( إن صلاتك سكن لهم ) .
فقال بعضهم: رحمة لهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس، ( إن صلاتك سكن لهم ) ، يقول: رحمة لهم.
وقال آخرون: بل معناه: إن صلاتك وقارٌ لهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( إن صلاتك سكن لهم ) ، أي: وقارٌ لهم.
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة المدينة: ( إِنَّ صَلوَاتِكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) بمعنى دعواتك.
وقرأ قرأة العراق وبعض المكيين: ( إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) ، بمعنى: إن دعاءك.
قال أبو جعفر: وكأنَّ الذين قرءوا ذلك على التوحيد، رأوا أن قراءته بالتوحيد أصحُّ، لأن في التوحيد من معنى الجمع وكثرة العدد ما ليس في قوله: ( إن صلواتك سكن لهم ) ، إذ كانت « الصلوات » ، هي جمع لما بين الثلاث إلى العشر من العدد، دون ما هو أكثر من ذلك. والذي قالوا من ذلك، عندنا كما قالوا، وبالتوحيد عندنا القراءةُ لا العلة، لأن ذلك في العدد أكثر من « الصلوات » , ولكن المقصود منه الخبر عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصلواته أنه سكن لهؤلاء القوم، لا الخبر عن العدد. وإذا كان ذلك كذلك، كان التوحيد في « الصلاة » أولى.
القول في تأويل قوله : أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 104 )
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره، أخبر به المؤمنين به: أن قبول توبة من تاب من المنافقين، وأخذ الصدقة من أموالهم إذا أعطوها، ليسا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأن نبيَّ الله حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزو معه، وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق الله عنهم حين أذن له في ذلك، إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه صلى الله عليه وسلم, وأن ذلك إلى الله تعالى ذكره دون محمد, وأن محمدًا إنما يفعل ما يفعل من تركٍ وإطلاقٍ وأخذِ صدقةٍ وغير ذلك من أفعاله بأمر الله. فقال جل ثناؤه: ألم يعلم هؤلاء المتخلفون عن الجهاد مع المؤمنين، الموثقو أنفسهم بالسواري, القائلون: « لا نُطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا » , السَّائلو رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أخذَ صدقة أموالهم، أنَّ ذلك ليس إلى محمد, وأن ذلك إلى الله, وأن الله هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده أو يردُّها, ويأخذ صدقة من تصدَّق منهم أو يردُّها عليه دون محمد, فيوجِّهوا توبتهم وصدقتهم إلى الله, ويقصدوا بذلك قصدَ وجهه دون محمد وغيره, ويخلصوا التوبة له، ويريدوه بصدقتهم, ويعلموا أن الله هو التواب الرحيم؟ يقول: المراجع لعبيده إلى العفو عنه إذا رجعوا إلى طاعته, الرحيم بهم إذا هم أنابوا إلى رضاه من عقابه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما: -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال الآخرون يعني الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء، يعني الذين تابوا، كانوا بالأمس معنا لا يكلَّمون ولا يجالَسون, فما لهم؟ فقال الله: ( إن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم ) .
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني رجل كان يأتي حمادًا ولم يجلس إليه قال شعبة: قال العوام بن حوشب: هو قتادة, أو ابن قتادة, رجل من محارب قال: سمعت عبد الله بن السائب وكان جاره قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ما من عبدٍ تصدق بصدقة إلا وقعت في يد الله, فيكون هو الذي يضعُها في يد السائل. وتلا هذه الآية: ( هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن عبد الله بن السائب, عن عبد الله بن أبي قتادة المحاربي, عن عبد الله بن مسعود قال: ما تصدَّق رجلٌ بصدقة إلا وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، وهو يضعها في يد السائل. ثم قرأ: ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) .
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن عبد الله بن السائب, عن عبد الله بن أبي قتادة, عن ابن مسعود, بنحوه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن عبد الله بن السائب, عن عبد الله بن أبي قتادة قال، قال عبد الله: إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل. ثم قرأ هذه الآية: ( هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات )
حدثنا أبو كريب [ قال، حدثنا وكيع ] قال، حدثنا عباد بن منصور، عن القاسم: أنه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه, فيربِّيها لأحدكم كما يربِّي أحدكم مُهْرَه, حتى إن اللقمة لتصيرُ مثل أُحُدٍ. وتصديق ذلك في كتاب الله: ( هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) ، و يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ، [ سورة البقرة: 276 ]
حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع الرَّقي قال، حدثنا ابن المبارك, عن سفيان, عن عباد بن منصور, عن القاسم, عن أبي هريرة, ولا أراه إلا قد رفعه قال: إن الله يقبل الصدقة ثم ذكر نحوه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أيوب, عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة قال: إن الله يقبل الصدقة إذا كانت من طيِّب, ويأخذها بيمينه, وإن الرّجل يتصدق بمثل اللقمة, فيربِّيها الله له كما يربِّي أحدكم فصيله أو مُهْره, فتربو في كف الله أو قال: في يد الله حتى تكون مثل الجبل.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « والذي نفس محمد بيده, لا يتصدق رجلٌ بصدقة فتقع في يد السائل، حتى تقع في يد الله! »
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( وأن الله هو التواب الرحيم ) ، يعني: إن استقاموا.
القول في تأويل قوله : وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 105 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( وقل ) ، يا محمد، لهؤلاء الذين اعترفوا لك بذنوبهم من المتخلفين عن الجهاد معك ( اعملوا ) ، لله بما يرضيه، من طاعته، وأداء فرائضه ( فسيرى الله عملكم ورسوله ) ، يقول: فسيرى الله إن عملتم عملكم, ويراه رسوله والمؤمنون، في الدنيا ( وستردون ) ، يوم القيامة، إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم, فلا يخفى عليه شيء من باطن أموركم وظواهرها ( فينبئكم بما كنتم تعملون ) ، يقول: فيخبركم بما كنتم تعملون, وما منه خالصًا، وما منه رياءً، وما منه طاعةً، وما منه لله معصية, فيجازيكم على ذلك كله جزاءكم, المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) ، قال: هذا وعيدٌ.
القول في تأويل قوله : وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 106 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المتخلفين عنكم حين شخصتم لعدوّكم، أيها المؤمنون، آخرون.
ورفع قوله: « آخرون » ، عطفًا على قوله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا .
( وآخرون مرجون ) ، يعني: مُرْجئون لأمر الله وَقضائه.
يقال منه: « أرجأته أرجئه إرجاء وهو مرجَأ » ، بالهمز وترك الهمز, وهما لغتان معناهما واحد. وقد قرأت القرأة بهما جميعا.
وقيل: عُني بهؤلاء الآخرين، نفرٌ ممن كان تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فندموا على ما فعلوا، ولم يعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مقدمه, ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري, فأرجأ الله أمرهم إلى أن صحَّت توبتهم, فتاب عليهم وعفا عنهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح, حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: وكان ثلاثة منهم يعني: من المتخلفين عن غزوه تبوك لم يوثقوا أنفسهم بالسواري، أرجئوا سَبْتَةً، لا يدرون أيعذبون أو يتاب عليهم، فأنـزل الله: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ ، إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، [ سورة التوبة: 117، 118 ] .
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: لما نـزلت هذه الآية يعني قوله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموالهم يعني من أموال أبي لبابة وصاحبيه فتصدَّق بها عنهم, وبقي الثلاثة الذين خالفوا أبا لبابة, ولم يوثقوا, ولم يذكروا بشيء, ولم ينـزل عذرهم, وضاقت عليهم الأرض بما رحُبت. وهم الذين قال الله: ( وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم ) . فجعل الناس يقولون: هلكوا! إذ لم ينـزل لهم عذر، وجعل آخرون يقولون: عسى الله أن يغفرَ لهم ! فصاروا مرجئين لأمر الله, حتى نـزلت: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ، الذين خرجوا معه إلى الشام مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ، ثم قال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ، يعني المرجئين لأمر الله، نـزلت عليهم التوبة، فعُمُّوا بها, فقال: حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ، إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن عكرمة: ( وآخرون مرجون لأمر الله ) ، قال: هم الثلاثة الذين خُلِّفُوا.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وآخرون مرجون لأمر الله ) ، قال: هلال بن أمية، ومرارة بن ربعيّ، وكعب بن مالك، من الأوس والخزرج.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وآخرون مرجون لأمر الله ) ، هلال بن أمية، ومرارة بن ربعيّ، وكعب بن مالك، من الأوس والخزرج.
...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.
...... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك, مثله.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وآخرون مرجون لأمر الله ) ، هم الثلاثة الذين خلفوا عن التوبة يريد: غير أبي لبابة وأصحابه ولم ينـزل الله عذرهم, فضاقت عليهم الأرض بما رحبت. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: « هلكوا » ، حين لم ينـزل الله فيهم ما أنـزل في أبي لبابة وأصحابه.
وتقول فرقة أخرى: « عسى الله أن يعفو عنهم ! » ، وكانوا مرجئين لأمر الله. ثم أنـزل الله رحمته ومغفرته فقال: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ الآية, وأنـزل: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ، الآية.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وآخرون مرجون لأمر الله ) ، قال: كنا نُحدَّث أنهم الثلاثة الذين خُلّفوا: كعب بن مالك, وهلال بن أمية, ومرارة بن ربيعة, رهط من الأنصار.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وآخرون مرجون لأمر الله ) ، قال: هم الثلاثة الذين خُلّفوا.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ) ، وهم الثلاثة الذين خلفوا, وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم، حتى أتتهم توبتهم من الله.
وأما قوله: ( إما يعذبهم ) ، فإنه يعني: إما أن يحجزهم الله عن التوبة بخذلانه، فيعذبهم بذنوبهم التي ماتوا عليها في الآخرة ( وإما يتوب عليهم ) ، يقول: وإما يوفقهم للتوبة فيتوبوا من ذنوبهم, فيغفر لهم ( والله عليم حكيم ) ، يقول: والله ذو علم بأمرهم وما هم صائرون إليه من التوبة والمقام على الذنب ( حكيم ) ، في تدبيرهم وتدبير من سواهم من خلقه, لا يدخل حكمه خَلَلٌ.
القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 107 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين ابتنوا مسجدًا ضرارًا, وهم، فيما ذكر، اثنا عشر نفسًا من الأنصار.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن الزهريّ، ويزيد بن رومان, وعبد الله بن أبي بكر, وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: من تبوك حتى نـزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار. وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهّز إلى تبوك, فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلّة والحاجة والليلة المطِيرة والليلة الشاتية, وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ! فقال: إني على جناح سفر وحال شُغْلٍ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قَدْ قَدمنا أتيناكم إن شاء الله، فصلَّينا لكم فيه. فلما نـزل بذي أوان، أتاه خبرُ المسجد, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم، أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي أو أخاه: عاصم بن عدي أخا بني العجلان فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه ! فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف, وهم رهط مالك بن الدخشم, فقال مالك لمعن: أنْظِرني حتى أخرج إليك بنارٍ من أهلي ! فدخل [ إلى ] أهله، فأخذ سَعفًا من النخل, فأشعل فيه نارًا, ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله, فحرّقاه وهدماه, وتفرقوا عنه. ونـزل فيهم من القرآن ما نـزل: ( والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا ) ، إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا خِذَام بن خالد، من بني عبيد بن زيد، أحد بني عمرو بن عوف، ومن داره أخرج مسجد الشقاق وثعلبة بن حاطب، من بني عبيد، وهو إلى بني أمية بن زيد ومعتب بن قشير، من بني ضبيعة بن زيد وأبو حبيبة بن الأزعر، من بني ضبيعة بن زيد وعباد بن حنيف، أخو سهل بن حنيف، من بني عمرو بن عوف وجارية بن عامر، وابناه: مجمع بن جارية, وزيد بن جارية, ونبتل بن الحارث، وهم من بني ضبيعة وبَحْزَج، وهو إلى بني ضبيعة وبجاد بن عثمان، وهو من بني ضبيعة ووديعة بن ثابت، وهو إلى بني أمية، رهط أبي لبابة بن عبد المنذر.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: والذين ابتنوا مسجدًا ضرارًا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرًا بالله لمحادّتهم بذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ويفرِّقوا به المؤمنين، ليصلي فيه بعضهم دون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا ( وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل ) ، يقول: وإعدادًا له, لأبي عامر الكافر الذي خالف الله ورسوله, وكفر بهما، وقاتل رسول الله ( من قبل ) ، يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد. وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حزَّب الأحزاب يعني: حزّب الأحزاب لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما خذله الله, لحق بالروم يطلب النَّصْر من ملكهم على نبي الله, وكتب إلى أهل مسجد الضِّرار يأمرهم ببناء المسجد الذي كانوا بنوه، فيما ذكر عنه، ليصلي فيه، فيما يزعم، إذا رجع إليهم. ففعلوا ذلك. وهذا معنى قول الله جل ثناؤه: ( وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل ) .
( وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ) ، يقول جل ثناؤه: وليحلفن بانوه: « إن أردنا إلا الحسنى » ، ببنائناه، إلا الرفق بالمسلمين، والمنفعة والتوسعة على أهل الضعف والعلة ومن عجز عن المصير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، وتلك هي الفعلة الحسنة ( والله يشهد إنهم لكاذبون ) ، في حلفهم ذلك, وقيلهم: « ما بنيناه إلا ونحن نريد الحسنى! » ، ولكنهم بنوه يريدون ببنائه السُّوآى، ضرارًا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرًا بالله، وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لأبي عامر الفاسق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن ابن عباس قوله: ( والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا ) ، وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدًا, فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم, واستعدُّوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح, فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدًا وأصحابه ! فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا, فنحبُّ أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة! فأنـزل الله فيه: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ، إلى قوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين ) ، قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قُباء, خرج رجالٌ من الأنصار، منهم: بحزج، جدُّ عبد الله بن حنيف, ووديعة بن حزام, ومجمع بن جارية الأنصاري, فبَنوا مسجد النفاق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبحزج ويلك! ما أردت إلى ما أرى! فقال: يا رسول الله, والله ما أردت إلا الحسنى ! وهو كاذب، فصدَّقه رسول الله وأراد أن يعذِره, فأنـزل الله: ( والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله ) ، يعني رجلا منهم يقال له « أبو عامر » كان محاربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان قد انطلق إلى هرقل, فكانوا يرصدون [ إذا قدم ] أبو عامر أن يصلي فيه, وكان قد خرج من المدينة محاربًا لله ولرسوله ( وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ) .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل ) ، قال: أبو عامر الراهب، انطلق إلى قيصر, فقالوا: « إذا جاء يصلي فيه » ، كانوا يرون أنه سيظهر على محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا ) ، قال المنافقون ( لمن حارب الله ورسوله ) ، لأبي عامر الراهب.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
...... قال، حدثنا أبو إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين ) ، قال: نـزلت في المنافقين وقوله: ( وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل ) ، قال: هو أبو عامر الراهب.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن سعيد بن جبير: ( والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا ) ، قال: هم بنو غنم بن عوف.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أيوب, عن سعيد بن جبير: ( والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا ) ، قال: هم حيّ يقال لهم: « بنو غنم » .
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أيوب، عن سعيد بن جبير في قوله: ( والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا ) ، قال: هم حي يقال لهم: « بنو غنم » قال أخبرنا معمر, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة قالت: ( وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله ) ، أبو عامر الراهب انطلق إلى الشأم, فقال الذين بنوا مسجد الضرار: إنما بنيناه ليصلي فيه أبو عامر.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا ) ، الآية, عمد ناسٌ من أهل النفاق, فابتنوا مسجدًا بقباء، ليضاهوا به مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم بعثوا إلى رسول الله ليصلِّي فيه. ذكر لنا أنه دعا بقميصه ليأتيهم، حتى أطلعه الله على ذلك وأما قوله: ( وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله ) ، فإنه كان رجلا يقال له: « أبو عامر » , فرّ من المسلمين فلحق بالمشركين، فقتلوه بإسلامه. قال: إذا جاء صلى فيه, فأنـزل الله: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى ، الآية.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا ) ، هم ناس من المنافقين، بنوا مسجدًا بقباء يُضارُّون به نبيّ الله والمسلمين ( وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله ) ، كانوا يقولون: إذا رجع أبو عامر من عند قيصر من الروم صلى فيه! وكانوا يقولون: إذا قدم ظهر على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل ) ، قال: مسجد قباء, كانوا يصلون فيه كلهم. وكان رجل من رؤساء المنافقين يقال له: « أبو عامر » ، أبو: « حنظلة غسيل الملائكة » ، و « صيفي » , [ واحق ] . وكان هؤلاء الثلاثة من خيار المسلمين، فخرج أبو عامر هاربًا هو وابن عبد ياليل، من ثقيف، وعلقمة بن علاثة، من قيس، من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بصاحب الروم. فأما علقمة وابن عبد ياليل، فرجعا فبايعا النبي صلى الله عليه وسلم وأسلما. وأما أبو عامر، فتنصر وأقام. قال: وبنى ناسٌ من المنافقين مسجد الضرار لأبي عامر, قالوا: « حتى يأتي أبو عامر يصلي فيه » ، وتفريقًا بين المؤمنين، يفرقون به جماعتهم، لأنهم كانوا يصلون جميعًا في مسجد قباء. وجاءوا يخدعون النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ربما جاء السيلُ، فيقطع بيننا وبين الوادي، ويحول بيننا وبين القوم، ونصلي في مسجدنا، فإذا ذهب السيل صلينا معهم ! قال: وبنوه على النفاق. قال: وانهار مسجدهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وألقى الناس عليه التِّبن والقُمامة، فأنـزل الله: ( والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين ) ، لئلا يصلي في مسجد قباء جميعُ المؤمنين ( وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل ) ، أبي عامر ( وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ) .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون, عن أبي جعفر, عن ليث: أن شقيقًا لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر, فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلُّوا بعدُ ! فقال: لا أحب أن أصلي فيه، فإنه بُني على ضرار, وكل مسجد بُنِيَ ضرارًا أو رياءً أو سمعة، فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني على ضرار.
القول في تأويل قوله : لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تقم، يا محمد، في المسجد الذي بناه هؤلاء المنافقون، ضرارًا وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله. ثم أقسم جل ثناؤه فقال: ( لمسجد أسِّس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم ) ، أنت ( فيه ) .
يعني بقوله: ( أسس على التقوى ) ، ابتدئ أساسه وأصله على تقوى الله وطاعته ( من أول يوم ) ، ابتدئ في بنائه ( أحق أن تقوم فيه ) ، يقول: أولى أن تقوم فيه مصلِّيًا.
وقيل: معنى قوله: ( من أول يوم ) ، مبدأ أول يوم كما تقول العرب: « لم أره من يوم كذا » , بمعنى: مبدؤه و « من أول يوم » ، يراد به: من أول الأيام, كقول القائل: « لقيت كلَّ رجل » , بمعنى كل الرجال.
واختلف أهل التأويل في المسجد الذي عناه بقوله: ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم ) .
فقال بعضهم: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه منبره وقبره اليوم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن إبراهيم بن طهمان, عن عثمان بن عبيد الله قال: أرسلني محمد بن أبي هريرة إلى ابن عمر، أسأله عن المسجد الذي أسس على التقوى، أيّ مسجد هو؟ مسجد المدينة, أو مسجد قباء؟ قال: لا مسجد المدينة.
...... قال، حدثنا القاسم بن عمرو العنقزي, عن الدراوردي, عن عثمان بن عبيد الله, عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي سعيد قالوا: المسجد الذي أسس على التقوى، مسجد الرسول.
...... قال، حدثنا أبي, عن ربيعة بن عثمان, عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع قال: سألت ابن عمر عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: هو مسجد الرسول.
...... قال، حدثنا ابن عيينة, عن أبي الزناد, عن خارجة بن زيد, عن زيد قال: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
...... قال، حدثنا أبي, عن عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان, عن أبيه, عن خارجة بن زيد, عن زيد قال: هو مسجد الرسول.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا حميد الخراط المدني قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد فقلت: كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال لي: [ قال أبي ] أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليه في بيت بعض نسائه, فقلت: يا رسول الله, أيُّ مسجدٍ الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفًّا من حصباء فضرب به الأرض, ثم قال: هو مسجدكم هذا! [ فقلت ] : هكذا سمعت أباك يذكره.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أسامة بن زيد, عن عبد الرحمن بن أبي سعيد, عن أبيه قال: المسجد الذي أسس على التقوى، هو مسجدُ النبيِّ الأعظمُ.
حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود, عن سعيد بن المسيب قال: إن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم, هو مسجد المدينة الأكبر.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن داود قال، قال سعيد بن المسيب, فذكر مثله إلا أنه قال: الأعظم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان, عن ابن حرملة, عن سعيد بن المسيب قال: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن أبي الزناد, عن خارجة بن زيد قال: أحسبه عن أبيه قال: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أسس على التقوى.
وقال آخرون: بل عني بذلك مسجد قُباء.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم ) ، يعني مسجد قُباء.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, نحوه.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق, عن عطية: ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم ) ، هو مسجد قباء.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن صالح بن حيان, عن ابن بريدة قال: مسجد قُباء، الذي أسس على التقوى, بناه نبي الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: المسجد الذي أسس على التقوى، مسجد قباء.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري, عن عروة بن الزبير: الذين بُني فيهم المسجدُ الذي أسس على التقوى, بنو عمرو بن عوف.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، لصحة الخبَر بذلك عن رسول الله.
* ذكر الرواية بذلك.
حدثنا أبو كريب وابن وكيع قال أبو كريب: حدثنا وكيع وقال ابن وكيع: حدثنا أبي عن ربيعة بن عثمان التيمي, عن عمران بن أبي أنس، رجل من الأنصار, عن سهل بن سعد قال، اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى, فقال أحدهما: هو مسجد النبيّ! وقال الآخر: هو مسجد قباء! فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه, فقال: هو مسجدي هذا اللفظ لحديث أبي كريب, وحديث سفيان نحوه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم, عن عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عمران بن أبي أنس, عن سهل بن سعد, عن أبيّ بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: مسجدي هذا.
حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، حدثني الليث, عن عمران بن أبي أنس, عن ابن أبي سعيد, عن أبيه, قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم, فقال رجل: هو مسجد قباء! وقال آخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله: هو مسجدي هذا.
حدثني بحر بن نصر الخولاني قال، قرئ على شعيب بن الليث, عن أبيه, عن عمران بن أبي أنس, عن سعيد بن أبي سعيد الخدري قال: تمارى رجلان, فذكر مثله.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني سَحْبَل بن محمد بن أبي يحيى قال، سمعت عمي أنيس بن أبي يحيى يحدث, عن أبيه, عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسجد الذي أسس على التقوى، مسجدي هذا, وفي كلٍّ خيرٌ.
حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثنا عبد العزيز, عن أنيس, عن أبيه, عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا صفوان بن عيسى قال، أخبرنا أنيس بن أبي يحيى, عن أبيه, عن أبي سعيد: أن رجلا من بني خُدْرة ورجلا من بني عمرو بن عوف، امتريا في المسجد الذي أسس على التقوى, فقال الخدريُّ: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال العوفي: هو مسجد قباء. فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم وسألاه فقال: هو مسجدي هذا, وفي كلٍّ خيرٌ.
القول في تأويل قوله : فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ( 108 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: في حاضري المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، رجال يحبُّون أن ينظفوا مقاعدَهم بالماء إذا أتوا الغائط، والله يحبّ المتطهّرين بالماء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا همام بن يحيى, عن قتادة, عن شهر بن حوشب قال: لما نـزل: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الطُّهور الذي أثنى الله عليكم؟ قالوا: يا رسول الله، نغسل أثر الغائط.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قُباء: « إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطُّهور, فما تصنعون؟ » قالوا: إنا نغسل عنَّا أثر الغائط والبوْل.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: لما نـزلت: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، ما هذا الطُّهور الذي أثنى الله عليكم فيه؟ قالوا: إنا نَسْتطيب بالماء إذا جئنا من الغائط.
حدثني جابر بن الكردي قال، حدثنا محمد سابق قال، حدثنا مالك بن مغول, عن سيَّارٍ أبي الحكم, عن شهر بن حوشب, عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: قام علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أخبروني, فإن الله قد أثنى عليكم بالطُّهور خيرًا؟ فقالوا: يا رسول الله، إنا نجد عندنا مكتوبًا في التوراة، الاستنجاءُ بالماء.
حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا [ يحيى بن رافع ] , عن مالك بن مغول قال، سمعت سيارًا أبا الحكم غير مرة, يحدث، عن شهر بن حوشب, عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قُباء قال: إن الله قد أثنى عليكم بالطهور خيرا يعني قوله: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) ، قالوا: إنا نجده مكتوبًا عندنا في التوراة، الاستنجاءُ بالماء.
حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا [ يحيى بن رافع ] ، قال، حدثنا مالك بن مغول, عن سيار, عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال يحيى: ولا أعلمه إلا عن أبيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا! قالوا: إنا نجده مكتوبًا علينا في التوراة، الاستنجاءُ بالماء. وفيه نـزلت: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) .
حدثني عبد الأعلى بن واصل قال، حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري قال، حدثنا أبو أويس المدني, عن شرحبيل بن سعد, عن عويم بن ساعدة، وكان من أهل بدر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: إني أسمع الله قد أثنى عليكم الثَّناء في الطهور, فما هذا الطهور؟ قالوا: يا رسول الله، ما نعلم شيئًا، إلا أن جيرانًا لنا من اليهود رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط, فغسلنا كما غسلوا.
حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا محمد بن سعيد قال، حدثنا إبراهيم بن محمد, عن شرحبيل بن سعد قال: سمعت خزيمة بن ثابت يقول: نـزلت هذه الآية: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) ، قال: كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي ليلى, عن عامر قال: كان ناس من أهل قُباء يستنجون بالماء, فنـزلت: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) .
حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا شبابة بن سوار, عن شعبة, عن مسلم القُرِّيّ قال: قلت لابن عباس: أصبُّ على رأسي؟ وهو محرم قال: ألم تسمع الله يقول: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ؟
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص, عن داود، وابن أبي ليلى, عن الشعبي, قال، لما نـزلت: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: ما هذا الذي أثنى الله عليكم؟ قالوا: ما منَّا من أحدٍ إلا وهو يستنجي من الخلاء.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن عبد الحميد المدني, عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعويم بن ساعدة: ما هذا الذي أثنى الله عليكم: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) ؟ قال: نوشك أن نغسل الأدبار بالماء!
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر, عن حصين, عن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار من أهل قباء: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) ، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم, قالوا: نستنجي بالماء.
حدثني المثنى قال، حدثنا أصبغ بن الفرج قال، أخبرني ابن وهب قال، أخبرني يونس, عن أبي الزناد قال: أخبرني عروة بن الزبير, عن عويم بن ساعدة، من بني عمرو بن عوف, ومعن بن عدي، من بني العجلان, وأبي الدحداح فأما عويم بن ساعدة، فهو الذي بلغنا أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنِ الذين قال الله فيهم: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجال، منهم عويم بن ساعدة لم يبلغنا أنه سمّى منهم رجلا غير عويم.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن هشام بن حسان قال، حدثنا الحسن قال: لما نـزلت هذه الآية: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذي ذكركم الله به في أمر الطهور, فأثنى به عليكم؟ قالوا: نغسل أثر الغائِطِ والبول.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن مالك بن مغول قال، سمعت سيارًا أبا الحكم يحدّث، عن شهر بن حوشب, عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أو قال: قدم علينا رسول الله فقال: إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا أفلا تخبروني؟ « قالوا: يا رسول الله, إنا نجد علينا مكتوبًا في التوراة، الاستنجاءُ بالماء قال مالك: يعني قوله: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) . »
حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق, عن عطية قال: لما نـزلت هذه الآية: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) ، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما طهوركم هذا الذي ذكرَ الله؟ قالوا: يا رسول الله، كنا نستنجي بالماء في الجاهلية, فلما جاء الإسلام لم ندعْه. قال: فلا تدَعوه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان في مسجد قُباء رجال من الأنصار يوضِّئون سَفِلَتهم بالماء، يدخلون النخل والماء يجري فيتوضئون، فأثنى الله بذلك عليهم فقال: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) ، الآية.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا طلحة بن عمرو, عن عطاء قال: أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء, فنـزلت فيهم: ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) .
وقيل: ( والله يحب المطهرين ) ، وإنما هو: « المتطهِّرين » , ولكن أدغمت التاء في الطاء, فجعلت طاء مشددة، لقرب مخرج إحداهما من الأخرى.
القول في تأويل قوله : أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 109 )
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: ( أفمن أسس بنيانه ) .
فقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة: ( أَفَمَنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمَّنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ ) ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله في الحرفين كليهما.
وقرأت ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: « أَفَمَنْ أُسِّس بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أُسِّس بُنْيَانَهُ » ، على وصف « من » بأنه الفاعل الذي أسس بنيانه.
قال أبو جعفر: وهما قراءتان متفقتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ. غير أن قراءته بتوجيه الفعل إلى « من » ، إذ كان هو المؤسس، أعجبُ إليّ.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: أيُّ هؤلاء الذين بنوا المساجد خير، أيها الناس، عندكم: الذين ابتدءوا بناء مسجدهم على اتقاء الله، بطاعتهم في بنائه، وأداء فرائضه ورضًى من الله لبنائهم ما بنوه من ذلك، وفعلهم ما فعلوه خيرٌ, أم الذين ابتدءوا بناءَ مسجدهم على شفا جُرفٍ هارٍ؟
يعني بقوله: ( على شفا جرف ) ، على حرف جُرُف.
و « الجرف » ، من الركايا، ما لم يُبْنَ له جُولٌ
( هار ) ، يعني متهوِّر. وإنما هو « هائر » ، ولكنه قلب, فأخرت ياؤها فقيل: « هارٍ » ، كما قيل: « هو شاكي السلاح » ، و « شائك » , وأصله من « هار يهور فهو هائر » ، وقيل: « هو من هارَ يهار » ، إذا انهدم. ومن جعله من هذه اللغة قال: « هِرْت يا جرف » ، ومن جعله « من هار يهور » ، قال: « هُرْت يا جرف » .
قال أبو جعفر: وإنما هذا مَثَلٌ. يقول تعالى ذكره: أيّ هذين الفريقين خير؟ وأيّ هذين البناءين أثبت؟ أمَن ابتدأ أساس بنائه على طاعة الله، وعلمٍ منه بأن بناءه لله طاعة، والله به راضٍ, أم من ابتدأه بنفاق وضلال، وعلى غير بصيرة منه بصواب فعله من خطئه, فهو لا يدري متى يتبين له خطأ فعله وعظيم ذنبه، فيهدمه, كما يأتي البناءُ على جرف ركيَّةٍ لا حابس لماء السيول عنها ولغيره من المياه، ثَرِيّةِ التراب متناثرة، لا تُلْبِثه السيول أن تهدمه وتنثره؟
يقول الله جل ثناؤه: ( فانهار به في نار جهنم ) ، يعني فانتثر الجرف الهاري ببنائه في نار جهنم. كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( فانهار به ) ، يعني قواعده ( في نار جهنم ) .
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( فانهار به ) ، يقول: فخرَّ به.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ) ، إلى قوله: ( فانهار به في نار جهنم ) ، قال: والله ما تناهَى أنْ وقع في النار. ذكر لنا أنه تحفَّرت بقعة منها، فرُؤي منها الدخان.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: بنو عمرو بن عوف. استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في بنيانه, فأذن لهم، ففرغوا منه يوم الجمعة، فصلوا فيه الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد. قال: وانهار يوم الاثنين. قال: وكان قد استنظرهم ثلاثًا، السبت والأحد والاثنين ( فانهار به في نار جهنم ) , مسجد المنافقين، انهار فلم يتناهَ دون أن وقع في النار قال ابن جريج: ذكر لنا أن رجالا حفروا فيه, فأبصروا الدخان يخرج منه.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار, عن عبد الله الداناج, عن طلق بن حبيب, عن جابر قوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا ، قال: رأيت المسجد الذي بني ضرارًا يخرج منه الدخان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا محمد بن مرزوق البصري قال، حدثنا أبو سلمة قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار, عن عبد الله الداناج قال، حدثني طلق العنـزي, عن جابر بن عبد الله قال: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار.
حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا خلف بن ياسين الكوفي قال: حججت مع أبي في ذلك الزمان يعني: زمان بني أمية فمررنا بالمدينة, فرأيت مسجد القبلتين يعني مسجد الرسول وفيه قبلة بيت المقدس، فلما كان زمان أبي جعفر, قالوا: يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة! فهذا البناءُ الذي ترون، جرى على يَدِ عبد الصمد بن علي. ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله في القرآن, وفيه حجر يخرج منه الدخان, وهو اليوم مَزْبَلة.
قوله: ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) ، يقول: والله لا يوفق للرشاد في أفعاله، من كان بانيًا بناءه في غير حقه وموضعه, ومن كان منافقًا مخالفًا بفعله أمرَ الله وأمرَ رسوله.
القول في تأويل قوله : لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 110 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا يزال بنيان هؤلاء الذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا ( ريبة ) ، يقول: لا يزال مسجدهم الذي بنوه ( ريبة في قلوبهم ) , يعني: شكًّا ونفاقًا في قلوبهم, يحسبون أنهم كانوا في بنائه مُحْسنين ( إلا أن تقطع قلوبهم ) ، يعني: إلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا ( والله عليم ) ، بما عليه هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار، من شكهم في دينهم، وما قصدوا في بنائهموه وأرادوه، وما إليه صائرٌ أمرهم في الآخرة، وفي الحياة ما عاشوا, وبغير ذلك من أمرهم وأمر غيرهم ( حكيم ) ، في تدبيره إياهم، وتدبير جميع خلقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ) ، يعني شكًّا ( إلا أن تقطع قلوبهم ) ، يعني الموت.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ريبة في قلوبهم ) ، قال: شكًّا في قلوبهم ( إلا أن تقطع قلوبهم ) ، إلا أن يموتوا.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم ) ، يقول: حتى يموتوا.
حدثني مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد في قوله: ( إلا أن تقطع قلوبهم ) ، قال: إلا أن يموتوا.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إلا أن تقطع قلوبهم ) ، قال: يموتوا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إلا أن تقطع قلوبهم ) ، قال: يموتوا.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
...... قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك, عن معمر, عن قتادة والحسن: ( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ) ، قالا شكًّا في قلوبهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق الرازي قال، حدثنا أبو سنان, عن حبيب: ( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ) ، قال: غيظًا في قلوبهم.
...... قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إلا أن تقطع قلوبهم ) ، قال: يموتوا.
...... قال، حدثنا إسحاق الرازي, عن أبي سنان, عن حبيب: ( إلا أن تقطع قلوبهم ) ، : إلا أن يموتوا.
...... قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن السدي: ( ريبة في قلوبهم ) ، قال: كفر. قلت: أكفر مجمّع بن جارية؟ قال: لا ولكنها حَزَازة.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن السدي: ( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ) ، قال: حزازة في قلوبهم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ) ، لا يزال ريبة في قلوبهم راضين بما صنعوا, كما حُبِّب العجل في قلوب أصحاب موسى. وقرأ: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ، [ سورة البقرة: 93 ] قال: حبَّه ( إلا أن تقطع قلوبهم ) ، قال: لا يزال ذلك في قلوبهم حتى يموتوا يعني المنافقين.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس, عن السدي, عن إبراهيم: ( ريبة في قلوبهم ) ، قال شكًّا. قال قلت: يا أبا عمران، تقول هذا وقد قرأت القرآن؟ قال: إنما هي حَزَازة.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( إلا أن تقطع قلوبهم ) .
فقرأ ذلك بعض قرأة الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة: ( إِلا أَنْ تُقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ) ، بضم التاء من « تقطع » , على أنه لم يسمَّ فاعله, وبمعنى: إلا أن يُقَطِّع الله قلوبهم.
وقرأ ذلك بعض قرأة المدينة والكوفة: ( إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ) ، بفتح التاء من « تقطع » ، على أن الفعل للقلوب. بمعنى: إلا أن تتقطّع قلوبهم, ثم حذفت إحدى التاءين.
وذكر أن الحسن كان يقرأ: « إِلَى أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ » ، بمعنى: حتى تتقطع قلوبهم.
وذكر أنها في قراءة عبد الله: ( وَلَوْ قُطِّعَتْ قُلُوبُهُمْ ) ، وعلى الاعتبار بذلك قرأ من قرأ ذلك: ( إلا أَنْ تُقَطَّع ) ، بضم التاء.
قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أن الفتح في التاء والضم متقاربا المعنى, لأن القلوب لا تتقطع إذا تقطعت، إلا بتقطيع الله إياها, ولا يقطعها الله إلا وهي متقطعة. وهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرأة, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته.
وأما قراءة ذلك: ( إلَى أَنْ تَقَطَّعَ ) , فقراءةٌ لمصاحف المسلمين مخالفةٌ, ولا أرى القراءة بخلاف ما في مصاحفهم جائزةً.
القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 111 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله ابتاعَ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة ( وعدًا عليه حقًّا ) يقول: وعدهم الجنة جل ثناؤه, وعدًا عليه حقًّا أن يوفِّي لهم به، في كتبه المنـزلة: التوراة والإنجيل والقرآن, إذا هم وَفَوا بما عاهدوا الله، فقاتلوا في سبيله ونصرةِ دينه أعداءَه، فقَتَلوا وقُتِلوا ( ومن أوفى بعهده من الله ) ، يقول جل ثناؤه: ومن أحسن وفاءً بما ضمن وشرط من الله ( فاستبشروا ) ، يقول ذلك للمؤمنين: فاستبشروا، أيها المؤمنون، الذين صَدَقوا الله فيما عاهدوا، ببيعكم أنفسكم وأموالكم بالذي بعتموها من ربكم به, فإن ذلك هو الفوز العظيم، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب, عن حفص بن حميد, عن شمر بن عطية قال: ما من مسلم إلا ولله في عنقه بَيْعة، وَفى بها أو مات عليها، في قول الله: ( إن الله اشترى من المؤمنين ) ، إلى قوله: ( وذلك هو الفوز العظيم ) ، ثم حَلاهم فقال: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ، إلى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ .
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ) ، يعني بالجنة.
...... قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن محمد بن يسار, عن قتادة: أنه تلا هذه الآية: ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) ، قال: ثامَنَهُم الله، فأغلى لهم الثمن.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: أنه تلا هذه الآية: ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ) ، قال: بايعهم فأغلى لهم الثمن.
حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترط لربِّك ولنفسك ما شئت ! قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا, وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسَكم وأموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك، فماذا لنا؟ قال: الجنة! قالوا: ربح البيعُ، لا نُقيل ولا نستقيل ! فنـزلت: ( إن الله اشترى من المؤمنين ) ، الآية.
...... قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبيد بن طفيل العبسي قال، سمعت الضحاك بن مزاحم, وسأله رجل عن قوله: ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ) ، الآية, قال الرجل: ألا أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل؟ قال: ويلك! أين الشرط؟ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ .
القول في تأويل قوله : التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 112 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله اشترى من المؤمنين التائبين العابدين أنفسهم وأموالهم ولكنه رفع, إذ كان مبتدأ به بعد تمام أخرى مثلها. والعرب تفعل ذلك, وقد تقدَّم بياننا ذلك في قوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [ سورة البقرة: 18 ] ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
ومعنى: « التائبون » ، الراجعون مما كرهه الله وسخطه إلى ما يحبُّه ويرضاه، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم, عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن في قول الله: ( التائبون ) ، قال: تابوا إلى الله من الذنوب كلها.
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثني أبي, عن أبي الأشهب, عن الحسن: أنه قرأ ( التائبون العابدون ) ، قال: تابوا من الشرك، وبرئوا من النفاق.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن أبي الأشهب قال: قرأ الحسن: ( التائبون العابدون ) ، قال: تابوا من الشرك، وبرئوا من النفاق.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء، عن الحسن قال: التائبون من الشرك.
حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: ( التائبون العابدون ) ، قال الحسن: تابوا والله من الشرك, وبرئوا من النفاق.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( التائبون ) ، قال: تابوا من الشرك، ثم لم ينافقوا في الإسلام.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج: ( التائبون ) ، قال: الذين تابوا من الذنوب، ثم لم يعودوا فيها.
وأما قوله: ( العابدون ) ، فهم الذين ذلُّوا خشيةً لله وتواضعًا له, فجدُّوا في خدمته، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( العابدون ) ، قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن في قول الله ( العابدون ) ، قال: عبدوا الله على أحايينهم كلها، في السراء والضراء.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( العابدون ) ، قال: العابدون لربهم.
وأما قوله: ( الحامدون ) ، فإنهم الذين يحمدون الله على كل ما امتحنهم به من خير وشر، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( الحامدون ) ، قوم حمدوا الله على كل حال.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن ثعلبة قال، قال الحسن: ( الحامدون ) ، الذين حمدوا الله على أحايينهم كلها، في السرّاء والضرّاء.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( الحامدون ) ، قال: الحامدون على الإسلام.
وأما قوله: ( السائحون ) ، فإنهم الصائمون، كما:-
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني وابن وكيع قالا حدثنا سفيان, عن عمرو, عن عبيد بن عمير
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث, عن عمرو, عن عبيد بن عمير قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن « السائحين » فقال: هم الصائمون.
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا حكيم بن حزام قال، حدثنا سليمان, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « السائحون » هم الصائمون.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال: ( السائحون ) ، الصائمون.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله قال: ( السائحون ) ، الصائمون.
...... قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثني عاصم, عن زر, عن عبد الله, بمثله.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله قال، أخبرنا شيبان, عن أبي إسحاق, عن أبي عبد الرحمن قال: السياحةُ: الصيام.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل, عن أشعث, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ( السائحون ) ، : الصائمون.
حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبيه وإسرائيل، عن أشعث عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ( السائحون ) ، الصائمون.
حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا إسرائيل, عن أشعث, عن سعيد بن جبير قال: ( السائحون ) ، الصائمون.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن أشعث بن أبي الشعثاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن عاصم، عن زر, عن عبد الله, مثله.
...... قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن إسحاق, عن عبد الرحمن قال: ( السائحون ) ، هم الصائمون.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( السائحون ) ، قال: يعني بالسائحين، الصائمين.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ( السائحون ) ، هم الصائمون.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( السائحون ) ، الصائمون.
...... قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: كل ما ذكر الله في القرآن ذكر السياحة، هم الصائمون.
...... قال، حدثنا أبي، عن المسعودي, عن أبي سنان, عن ابن أبي الهذيل, عن أبي عمرو العبدي قال: ( السائحون ) ، الذين يُديمون الصيام من المؤمنين.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن: ( السائحون ) ، الصائمون.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن قال: ( السائحون ) ، الصائمون شهر رمضان.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك قال: ( السائحون ) ، الصائمون.
...... قال، حدثنا أبو أسامة, عن جويبر, عن الضحاك قال: كل شيء في القرآن ( السائحون ) ، فإنه الصائمون.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك: ( السائحون ) ، الصائمون.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( السائحون ) ، يعني الصائمين.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، ويعلى، وأبو أسامة, عن عبد الملك, عن عطاء قال: ( السائحون ) ، الصائمون.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن عبد الملك, عن عطاء, مثله.
...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو: أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانت السياحة في بني إسرائيل, وكان الرجل إذا ساح أربعين سنةً، رأى ما كان يرى السائحون قبله. فساح وَلَدُ بغيٍّ أربعين سنة، فلم ير شيئًا, فقال: أي ربِّ، أرأيت إن أساء أبواي وأحسنت أنا؟ قال: فَأرِي ما رَأى السائحون قبله قال ابن عيينة: إذا ترك الطعام والشراب والنساء، فهو السائح.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة ( السائحون ) ، قوم أخذوا من أبدانهم، صومًا لله.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إبراهيم بن يزيد, عن الوليد بن عبد الله, عن عائشة قالت: سياحةُ هذه الأمة الصيام.
وقوله: ( الراكعون الساجدون ) ، يعني المصلين، الراكعين في صلاتهم، الساجدين فيها، كما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( الراكعون الساجدون ) ، قال: الصلاة المفروضة.
وأما قوله: ( الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ) ، فإنه يعني أنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم, واتباع الرشد والهدى، والعمل وينهونهم عن المنكر، وذلك نهيهم الناسَ عن كل فعل وقول نهى الله عباده عنه.
وقد روي عن الحسن في ذلك ما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( الآمرون بالمعروف ) ، لا إله إلا الله ( والناهون عن المنكر ) ، عن الشرك.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن ثعلبة بن سهيل قال, قال الحسن في قوله: ( الآمرون بالمعروف ) ، قال: أمَا إنهم لم يأمروا الناس حتى كانوا من أهلها ( والناهون عن المنكر ) ، قال: أمَا إنهم لم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية, قال: كل ما ذكر في القرآن « الأمر بالمعروف » ، و « النهي عن المنكر » , فالأمر بالمعروف، دعاءٌ من الشرك إلى الإسلام والنهي عن المنكر، نهيٌ عن عبادة الأوثان والشياطين.
قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى قبل على صحة ما قلنا: من أن « الأمر بالمعروف » هو كل ما أمر الله به عباده أو رسوله صلى الله عليه وسلم, و « النهي عن المنكر » ، هو كل ما نهى الله عنه عبادَه أو رسولُه. وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أنها عُني بها خصوصٌ دون عموم، ولا خبر عن الرسول، ولا في فطرة عقلٍ, فالعموم بها أولى، لما قد بينا في غير موضع من كُتُبنا.
وأما قوله: ( والحافظون لحدود الله ) ، فإنه يعني: المؤدّون فرائض الله, المنتهون إلى أمره ونهيه, الذين لا يضيعون شيئًا ألزمهم العملَ به، ولا يرتكبون شيئًا نهاهم عن ارتكابه، كالذي:-
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( والحافظون لحدود الله ) ، يعني: القائمين على طاعة الله. وهو شرطٌ اشترطه على أهل الجهاد، إذا وَفَوا الله بشرطه، وفى لهم بشرطهم.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( والحافظون لحدود الله ) ، قال: القائمون على طاعة الله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن في قوله: ( والحافظون لحدود الله ) ، قال: القائمون على أمر الله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( والحافظون لحدود الله ) ، قال: لفرائض الله.
وأما قوله: ( وبشر المؤمنين ) ، فإنه يعني: وبشّر المصدِّقين بما وعدهم الله إذا هم وفَّوا الله بعهده، أنه مُوفٍّ لهم بما وعدهم من إدخالهم الجنة، كما:-
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هوذة بن خليفة قال، حدثنا عوف, عن الحسن: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ، حتى ختم الآية, قال الذين وفوا ببيعتهم ( التائبون العابدون الحامدون ) ، حتى ختم الآية, فقال: هذا عملهم وسيرهم في الرخاء, ثم لقوا العدوّ فصدَقوا ما عاهدوا الله عليه.
وقال بعضهم: معنى ذلك: وبشر من فعل هذه الأفعال يعني قوله: ( التائبون العابدون ) ، إلى آخر الآية وإن لم يغزوا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( وبشر المؤمنين ) ، قال: الذين لم يغزوا.
القول في تأويل قوله : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 113 ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به « أن يستغفروا » , يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين, ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم « أولي قربى » , ذوي قرابة لهم « من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » ، يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعبادة الأوثان، وتبين لهم أنهم من أهل النار، لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله. فإن قالوا: فإن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك؟ فلم يكن استغفارُ إبراهيم لأبيه إلا لموعدة وعدها إياه. فلما تبين له وعلم أنه لله عدوٌّ، خلاه وتركه ، وترك الاستغفار له, وآثر الله وأمرَه عليه, فتبرأ منه حين تبين له أمره.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي نـزلت هذه الآية فيه.
فقال بعضهم: نـزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته, فنهاه الله عن ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية, فقال: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله! فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك! فنـزلت: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » , ونـزلت: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، [ القصص: 56 ] .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال، حدثني يونس, عن الزهري قال، أخبرني سعيد بن المسيب, عن أبيه, قال: لما حضرت أبا طالب الوفاةُ، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لك بها عند الله! قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن مِلَّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدُ له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخرَ ما كلَّمهم: « هو على ملة عبد المطلب » , وأبى أن يقول: « لا إله إلا الله » , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنْهَ عنك! فأنـزل الله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » ، وأنـزل الله في أبي طالب, فقال لرسول الله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، الآية.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » ، قال: يقول المؤمنون: ألا نستغفر لآبائنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه كافرًا؟ فأنـزل الله: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه » ، الآية.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن عمرو بن دينار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك, فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربّي! فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه! فأنـزل الله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » إلى قوله: « تبرأ منه » .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن سفيان بن عيينة, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب قال: لما حضر أبا طالب الوفاةُ، أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل بن هشام, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيْ عم، إنك أعظم الناس عليَّ حقًّا، وأحسنهم عندي يدًا, ولأنت أعظم عليَّ حقًّا من والدي, فقل كلمة تجب لي بها الشفاعة يوم القيامة, قل: لا إله إلا الله ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى, عن محمد بن ثور.
وقال آخرون: بل نـزلت في سبب أمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك أنه أراد أن يستغفر لها، فمنع من ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل, عن عطية قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقف على قبر أمّه حتى سخِنت عليه الشمس, رجاءَ أن يؤذن له فيستغفر لها, حتى نـزلت: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى » ، إلى قوله: « تبرأ منه » .
..... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس, عن علقمة بن مرثد, عن سليمان بن بريدة, عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى رَسْمَ قال: وأكثر ظني أنه قال : قَبْرٍ فجلس إليه, فجعل يخاطبُ, ثم قام مُسْتَعْبِرًا, فقلت: يا رسول الله, إنّا رأينا ما صنعت! قال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمّي، فأذن لي, واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي. فما رئي باكيًا أكثر من يومئذٍ.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا » ، إلى: « أنهم أصحاب الجحيم » ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمّه, فنهاه الله عن ذلك, فقال: وإن إبراهيم خليل الله قد استغفر لأبيه! فأنـزل الله: « وما كان استغفار إبراهيم » ، إلى لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ .
وقال آخرون: بل نـزلت من أجل أن قومًا من أهل الإيمان كانوا يستغفرون لموتاهم من المشركين, فنهوا عن ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » ، الآية, فكانوا يستغفرون لهم، حتى نـزلت هذه الآية. فلما نـزلت، أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم, ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنـزل الله: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه » ، الآية.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » ، الآية, ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله, إن من آبائنا من كان يُحْسِن الجوار، ويصل الأرحام، ويفك العاني، ويوفي بالذمم, أفلا نستغفر لهم؟ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى! والله لأستغفرنّ لأبي، كما استغفر إبراهيم لأبيه! قال: فأنـزل الله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » حتى بلغ: « الجحيم » ، ثم عذر الله إبراهيم فقال: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ،. قال: وذكر لنا أن نبيَّ الله قال: أوحي إليّ كلمات فدخلن في أذني، ووَقَرْنَ في قلبي: أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركًا, ومن أعطى فَضْلَ ماله فهو خيرٌ له, ومن أمسك فهو شرٌّ له, ولا يلوم اللهُ على كَفافٍ .
واختلف أهل العربية في معنى قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » .
فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما كان لهم الاستغفار وكذلك معنى قوله: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ ، وما كان لنفس الإيمان إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ، [ يونس: 100 ] .
وقال بعض نحويي الكوفة: معناه: ما كان ينبغي لهم أن يستغفروا لهم. قال: وكذلك إذا جاءت « أن » مع « كان » , فكلها بتأويل: ينبغي، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [ آل عمران: 161 ] ما كان ينبغي له، ليس هذا من أخلاقه. قال: فلذلك إذا دخلت « أن » لتدل على الاستقبال, لأن « يَنْبَغِي » تطلب الاستقبال.
وأما قوله: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه » ، فإن أهل العلم اختلفوا في السبب الذي أنـزل فيه.
فقال بعضهم: أنـزل من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يستغفرون لموتاهم المشركين، ظنًّا منهم أنّ إبراهيم خليل الرحمن قد فعل ذلك، حين أنـزل الله قوله خبرًا عن إبراهيم: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [ مريم: 47 ] .
وقد ذكرنا الرواية عن بعض من حضرنا ذكره, وسنذكر عمن لم نذكره.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الخليل, عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان, فقلت: أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان؟ فقال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له, فأنـزل الله: « وما كان استغفار إبراهيم » إلى « تبرأ منه » .
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الخليل, عن علي: أن النبي صلى كان يستغفر لأبويه وهما مشركان, حتى نـزلت: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه » ، إلى قوله: « تبرأ منه » .
وقيل: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة » , ومعناه: إلا من بعد موعدة, كما يقال: « ما كان هذا الأمر إلا عن سبب كذا » , بمعنى: من بعد ذلك السبب، أو من أجله. فكذلك قوله: « إلا عن موعدة » ، من أجل موعدة وبعدها.
وقد تأوّل قوم قولَ الله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى » ، الآية, أنّ النهي من الله عن الاستغفار للمشركين بعد مماتهم, لقوله: « من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » . وقالوا: ذلك لا يتبينه أحدٌ إلا بأن يموت على كفره, وأما وهو حيٌّ فلا سبيل إلى علم ذلك, فللمؤمنين أن يستغفروا لهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سليمان بن عمر الرقي, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن سفيان الثوري, عن الشيباني, عن سعيد بن جبير قال: مات رجل يهودي وله ابنٌ مسلم, فلم يخرج معه, فذكر ذلك لابن عباس فقال: كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًّا, فإذا مات، وكله إلى شانه! ثم قال: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، لم يدعُ.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا فضيل, عن ضرار بن مرة, عن سعيد بن جبير قال: مات رجل نصراني, فوكله ابنه إلى أهل دينه, فأتيت ابن عباس فذكرت ذلك له فقال: ما كان عليه لو مشى معه وأجنَّه واستغفر له؟ ثم تلا « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه » ، الآية.
وتأوّل آخرون « الاستغفارَ » ، في هذا الموضع، بمعنى الصلاة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، ثني إسحاق قال، حدثنا كثير بن هشام, عن جعفر بن برقان قال، حدثنا حبيب بن أبي مرزوق, عن عطاء بن أبي رباح قال: ما كنت أدع الصلاةَ على أحدٍ من أهل هذه القبلة، ولو كانت حبشيةً حُبْلى من الزنا, لأني لم أسمع الله يَحْجُب الصلاة إلا عن المشركين, يقول الله: « ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » .
وتأوّله آخرون، بمعنى الاستغفار الذي هو دعاء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن عصمة بن زامل, عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمّه، قلت: ولأبيه؟ قال: لا إن أبي مات وهو مشرك.
قال أبو جعفر: وقد دللنا على أن معنى « الاستغفار » : مسألة العبد ربَّه غفرَ الذنوب. وإذ كان ذلك كذلك, وكانت مسألة العبد ربَّه ذلك قد تكون في الصلاة وفي غير الصلاة, لم يكن أحد القولين اللذين ذكرنا فاسدًا, لأن الله عمَّ بالنهي عن الاستغفار للمشرك، بعد ما تبين له أنه من أصحاب الجحيم, ولم يخصص عن ذلك حالا أباح فيها الاستغفار له.
وأما قوله: « من بعد ما تبيَّن لهم أنهم أصحاب الجحيم » ، فإن معناه: ما قد بيَّنتُ، من أنه: من بعد ما يعلمون بموته كافرًا أنه من أهل النار.
وقيل: « أصحاب الجحيم » ، لأنهم سكانها وأهلها الكائنون فيها, كما يقال لسكان الدار: « هؤلاء أصحاب هذه الدار » , بمعنى: سكانها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرازق, قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » ، قال: تبيّن للنبي صلى الله عليه وسلم أن أبا طالب حين ماتَ أن التوبة قد انقطعت عنه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: « تبيَّن له » حين مات, وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه يعني في قوله: « من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » .
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » الآية, يقول: إذا ماتوا مشركين, يقول الله: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، الآية، [ المائدة: 72 ] .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » .
قال بعضهم: معناه: فلما تبين له بموته مشركًا بالله، تبرأ منه، وترك الاستغفار له.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن حبيب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات « فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرّأ منه » .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن حبيب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات تبين له أنه عدوّ لله.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات, فلما مات لم يستغفر له.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، يعني: استغفر له ما كان حيًا, فلما مات أمسك عن الاستغفار له.
حدثني مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو عاصم وأبو قتيبة مسلم بن قتيبة, قالا حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد, في قوله: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، قال: لما مات.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد, مثله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فلما تبين له أنه عدو لله » ، قال: موته وهو كافر.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي, عن شعبة. عن الحكم, عن مجاهد, مثله.
...... قال، حدثنا ابن أبي غنية, عن أبيه, عن الحكم: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، قال: حين مات ولم يؤمن.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن عمرو بن دينار: « فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه » ، : موته وهو كافر.
..... قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، قال: لما مات.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، لما مات على شركه « تبرأ منه » .
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه » ، كان إبراهيم صلوات الله عليه يرجو أن يؤمن أبوه ما دام حيًّا، فلما مات على شركه تبرّأ منه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، قال: موته وهو كافر.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات, فلما مات تبين له أنه عدوّ لله، فلم يستغفر له.
...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، أبو إسرائيل, عن علي بن بذيمة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « فلما تبين له أنه عدو لله » ، قال: فلما مات.
وقال آخرون: معناه : فلما تبين له في الآخرة. وذلك أن أباه يتعلَّق به إذا أرادَ أن يجوز الصراط فيمرّ به عليه, حتى إذا كاد أن يجاوزه، حانت من إبراهيم التفاتةٌ، فإذا هو بأبيه في صورة قِرْد أو ضَبُع, فيخلِّي عنه ويتبرأ منه حينئذ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا عبد الله بن سليمان قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: إن إبراهيم يقولُ يوم القيامة: « ربِّ والدي، رَبِّ والدي » ! فإذا كان الثالثة، أخذ بيده, فيلتفت إليه وهو ضِبْعانٌ، فيتبرأ منه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن عبيد بن عمير, قال: إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيدٍ واحد، يسمعكم الداعي، وينفُذُكم البصر. قال: فتزفِرُ جهنم زفرةً لا يبْقى مَلك مُقَرَّب ولا نبيٌّ مرسل إلا وقع لركبتيه تُرْعَد فرائصُه! قال: فحسبته يقول: نَفْسي نفسي! ويضربُ الصِّراط على جهنم كحدِّ السيف, دحْضِ مَزِلَّةٍ، وفي جانبيه ملائكة معهم خطاطيف كشوك السَّعْدان. قال: فيمضون كالبرق، وكالريح، وكالطير, وكأجاويد الركاب, وكأجاويد الرجال, والملائكة يقولون: « ربّ سلِّمْ سلِّم » ، فناجٍ سالمٌ ومخدوش ناجٍ, ومكدوسٌ في النار، يقول إبراهيم لأبيه: إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني، ولست تاركك اليوم, فخُذْ بحقْوي! فيأخذ بِضَبْعَيْه, فيمسخ ضَبُعًا, فإذا رأه قد مُسِخَ تبرَّأ منه.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ الله, وهو خبره عن إبراهيم أنه لما تبين له أن أباه لله عدوٌّ، يبرأ منه, وذلك حال علمه ويقينه أنه لله عدوٌّ، وهو به مشرك, وهو حالُ موته على شركه.
القول في تأويل قوله : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ( 114 )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في « الأوّاه » .
فقال بعضهم: هو الدعَّاء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن عاصم, عن زرّ, عن عبد الله قال: « الأوّاه » ، الدعّاء.
حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا أبو بكر, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله قال: « الأوّاه » ، الدعّاء.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني جرير بن حازم, عن عاصم بن بهدلة, عن زرّ بن حبيش قال: سألت عبد الله عن « الأواه » , فقال: هو الدعّاء.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر, عن ابن أبي عروبة, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله، مثله.
..... قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن عبد الكريم عن أبي عبيدة, عن عبد الله قال: « الأوّاه » : الدعّاء.
..... قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله, مثله.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، وإسرائيل, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله، مثله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع, قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند, قال: نُبِّئتُ عن عبيد بن عمير, قال: « الأوّاه » : الدعاء.
حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا داود, عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي, عن أبيه قال: « الأوّاه » : الدعّاء.
وقال آخرون: بل هو الرحيم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن سلمة, عن مسلم البطين, عن أبي العُبَيْدَيْنِ, قال: سئل عبد الله عن « الأوّاه » , فقال: الرحيم.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن الحكم قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدث، عن أبي العبيدين، رجلٍ ضرير البصر: أنه سأل عبد الله عن « الأواه » ، فقال: الرحيم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا المحاربي وحدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل جميعًا, عن المسعوديّ, عن سلمة بن كهيل, عن أبي العبيدين: أنه سأل ابن مسعود, فقال: ما « الأواه » ؟ قال: الرحيم.
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن إدريس, عن الأعمش, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار, عن أبي العبيدين: أنه جاء إلى عبد الله وكان ضرير البصر فقال: يا أبا عبد الرحمن, من نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رقَّ له, قال: أخبرني عن « الأوّاه » , قال: الرحيم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن سفيان, عن سلمة بن كهيل, عن مسلم البطين, عن أبي العبيدين, قال: سألت عبد الله عن « الأواه » , فقال: هو الرحيم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار قال جاء أبو العبيدين إلى عبد الله فقال له: ما حاجتك؟ قال: ما « الأواه » ؟ قال: الرحيم.
..... قال، حدثنا ابن إدريس, عن الأعمش, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار, عن أبي العبيدين، رجل من بني سَوَاءَة, قال: جاء رجل إلى عبد الله فسأله عن « الأوّاه » , فقال له عبد الله: الرحيم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، وهانئ بن سعيد, عن حجاج, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار, عن أبي العبيدين, عن عبد الله قال: « الأواه » ، الرحيم.
حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية, عن شعبة, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار: أن أبا العبيدين، رجل من بني نمير قال يعقوب: كان ضريرَ البصر، وقال ابن وكيع: كان مكفوفَ البصر سأل ابن مسعود فقال: ما « الأواه » ؟ قال: الرحيم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن زكريا, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, قال: « الأواه » : الرحيم.
..... قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, مثله.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر, عن سعيد, عن قتادة, عن الحسن, قال: هو الرحيم.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كنا نحدَّث أن « الأواه » الرحيم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « إن إبراهيم لأواه » ، قال: رحيم.
قال عبد الكريم الجزري, عن أبي عبيدة, عن ابن مسعود مثل ذلك.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن عبد الكريم, عن أبي عبيدة, عن عبد الله قال: « الأواه » : الرحيم.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن سلمة, عن مسلم البطين, عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله عن « الأواه » , فقال الرحيم.
...... قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن عمرو بن شرحبيل قال: « الأواه » : الرحيم.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك, عن الحسن, قال: « الأواه » : الرحيم بعباد الله.
..... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو خيثمة زهير قال، حدثنا أبو إسحاق الهمداني, عن أبي ميسرة, عن عمرو بن شرحبيل, قال: « الأواه » : الرحيم بلحن الحبشة.
وقال آخرون: بل هو الموقن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن سفيان, عن قابوس, عن أبيه، عن ابن عباس قال: « الأواه » : الموقن.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن ابن مبارك, عن خالد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: « الأواه » ، الموقن، بلسان الحبشة.
..... قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن حسن, عن مسلم, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال، « الأواه » ، الموقن، بلسانه الحبشة.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز, قال: سمعت سفيان يقول: « الأواه » ، الموقن وقال بعضهم: الفقيه الموقن.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان, عن جابر, عن عطاء, قال: « الأواه » ، الموقن، بلسان الحبشة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن رجل, عن عكرمة, قال: هو الموقن، بلسان الحبشة.
..... قال، حدثنا ابن نمير, عن الثوري, عن مجالد, عن أبي هاشم, عن مجاهد, قال: « الأواه » ، الموقن.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن مسلم, عن مجاهد قال: « الأواه » ، الموقن.
.... قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قابوس, عن أبي ظبيان, عن ابن عباس قال: « الأواه » ، الموقن.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أواه » ، موقن.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أواه » , قال: مؤتمن موقن.
حدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « إن إبراهيم لأواه حليم » ، قال: « الأواه » : الموقن.
وقال آخرون: هي كلمة بالحبشة، معناها: المؤمن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « لأواه حليم » ، قال: « الأواه » ، هو المؤمن بالحبشية.
حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « إن إبراهيم لأواه » ، يعني: المؤمن التواب.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حسن بن صالح, عن مسلم, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: « الأواه » : المؤمن.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « الأواه » ، المؤمن بالحبشية.
وقال آخرون: هو المسبِّح، الكثير الذكر لله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد, قال: « الأواه » : المسبِّح.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن حجاج, عن الحكم, عن الحسن بن مسلم بن يناق: أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبِّح, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إنه أوَّاه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن حيان, عن ابن لهيعة, عن الحارث بن يزيد, عن علي بن رباح, عن عقبة بن عامر قال: « الأواه » ، الكثير الذكر لله.
وقال آخرون: هو الذي يكثر تلاوة القرآن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا المنهال بن خليفة, عن حجاج بن أرطأة, عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دفن ميتًا, فقال: يرحمك الله، إن كنت لأواهًا! يعني: تلاءً للقرآن.
وقال آخرون: هو من التأوُّه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي يونس القشيري, عن قاصّ كان بمكة: أن رجلا كان في الطواف, فجعل يقول: أوّه! قال: فشكاه أبو ذر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعه إنه أوَّاه !
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن شعبة, عن أبي يونس الباهلي قال: سمعت رجلا بمكة كان أصله روميًّا، يحدّث عن أبي ذر, قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: « أوَّه! أوّه » ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه أوَّاه! زاد أبو كريب في حديثه, قال: فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب, عن جعفر بن سليمان قال، حدثنا عمران, عن عبيد الله بن رباح, عن كعب, قال: « الأواه » : إذا ذكر النار قال: أوّه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّي, عن أبي عمران الجوني, عن عبد الله بن رباح, عن كعب قال: كان إذا ذكر النار قال: أوّه.
حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق, عن جعفر بن سليمان قال، أخبرنا أبو عمران قال، سمعت عبد الله بن رباح الأنصاري يقول، سمعت كعبًا يقول: « إن إبراهيم لأواه » ، قال: إذا ذكر النار قال: « أوّهْ من النار » .
وقال آخرون: معناه أنه فقيهٌ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « إن إبراهيم لأوّاه » ، قال: فقيه.
وقال آخرون: هو المتضرع الخاشع.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا شهر بن حوشب, عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، قال رجل: يا رسول الله، ما « الأوَّاه » ، قال: المتضرع، قال: « إن إبراهيم لأوّاه حليم » .
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء, عن عبد الحميد, عن شهر, عن عبد الله بن شداد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الأوّاه » : الخاشعُ المتضرِّع .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القولُ الذي قاله عبد الله بن مسعود، الذي رواه عنه زرٌّ : أنه الدعَّاء.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن الله ذكر ذلك، ووصف به إبراهيم خليله صلوات الله عليه، بعد وصفه إياه بالدعاء والاستغفار لأبيه, فقال: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرأ منه » ، وترك الدعاء والاستغفار له. ثم قال: إن إبراهيم لدعَّاء لربه، شاكٍ له، حليمٌ عمن سبَّه وناله بالمكروه. وذلك أنه صلوات الله عليه وعد أباه بالاستغفار له, ودعاءَ الله له بالمغفرة، عند وعيد أبيه إياه, وتهدُّده له بالشتم، بعد ما ردَّ عليه نصيحته في الله وقوله: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ، فقال له صلوات الله عليه، سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ، [ مريم: 46 - 48 ] . فوفى لأبيه بالاستغفار له، حتى تبيَّن له أنه عدو لله, فوصفه الله بأنه دَعّاء لربه، حليم عمن سَفِه عليه.
وأصله من « التأوّه » ، وهو التضرع والمسألة بالحزن والإشفاق, كما روى عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم وكما روى عقبة بن عامر، الخبَرَ الذي حدَّثنيه :-
يحيى بن عثمان بن صالح السهمي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن لهيعة قال، حدثني الحارث بن يزيد, عن علي بن رباح, عن عقبة بن عامر: أنه قال لرجل يقال له « ذو البجادين » : « إنه أواه » ! وذلك أنه رجل كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء، ويرفَعُ صوته.
ولذلك قيل للمتوجع من ألم أو مرض: « لا تتأوه » ، كما قال المُثَقِّب العَبْدي:
إذَا مــا قُمْــتُ أَرْحَلُهــا بِلَيْــلٍ تَــأَوَّهُ آهَــةَ الرَّجُــلِ الحَــزِينِ
ومنه قول الجَعْديَ:
ضَـرُوحٍ مَـرُوحٍ تُتْبِـعُ الْوُرْقَ بَعْدَما يُعَرِّسْــنَ شَــكْوَى, آهَـةً وَتَنَمَّـرَا
ولا تكاد العرب تنطق منه : بـ « فعل يفعل » , وإنما تقول فيه: « تَفَعَّلَ يَتَفَعَّل » , مثل: « تأوّه يتأوه » , « وأوّه يؤوِّه » .
كما قال الراجز:
فَأَوَّهَ الرّاعِي وَضَوْضَى أكْلُبُه
وقالوا أيضًا: « أوْهِ منك! » ، ذكر الفراء أن أبا الجرّاح أنشده:
فَـأَوْهِ مِـنَ الذِّكْـرَى إذَا مَـا ذَكَرْتُهـا وَمِــنْ بُعْــدِ أَرْضٍ بَيْنَنَـا وَسَـمَاءِ
قال: وربما أنشدنا: ( فَأَوٍّ مِنَ الذِّكْرَى ) ، بغيرها. ولو جاء « فعل » منه على الأصل لكان: « آه ، يَئوهُ أوْهًا » .
ولأن معنى ذلك: « توجَّع، وتحزّن، وتضرع » ، اختلف أهل التأويل فيه الاختلافَ الذي ذكرتُ. فقال من قال: معناه « الرحمة » : أن ذلك كان من إبراهيم على وجه الرِّقة على أبيه، والرحمة له، ولغيره من الناس.
وقال آخرون: إنما كان ذلك منه لصحة يقينه، وحسن معرفته بعظمة الله، وتواضعه له.
وقال آخرون: كان لصحة إيمانه بربِّه.
وقال آخرون: كان ذلك منه عند تلاوته تنـزيل الله الذي أنـزله عليه.
وقال آخرون: كان ذلك منه عند ذكر رَبِّه.
وكلُّ ذلك عائد إلى ما قلتُ, وتَقَارَبَ معنى بعض ذلك من بعض، لأن الحزين المتضرِّع إلى ربه، الخاشع له بقلبه, ينوبه ذلك عند مسألته ربَّه، ودعائه إياه في حاجاته, وتعتوره هذه الخلال التي وجَّه المفسرون إليها تأويل قول الله: « إن إبراهيم لأوّاه حليمٌ » .
القول في تأويل قوله : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 115 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان الله ليقضي عليكم، في استغفاركم لموتاكم المشركين، بالضلال، بعد إذ رزقكم الهداية، ووفقكم للإيمان به وبرسوله, حتى يتقدَّم إليكم بالنهي عنه، فتتركوا الانتهاء عنه. فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه, فإنه لا يحكم عليكم بالضلال, لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهيّ, فأما من لم يؤمر ولم ينه، فغير كائنٍ مطيعًا أو عاصيًا فيما لم يؤمَرْ به ولم ينه عنه « إن الله بكل شيء عليم » ، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما خالط أنفسكم عند نهي الله إياكم من الاستغفار لموتاكم المشركين، من الجزع على ما سلف منكم من الاستغفار لهم قبل تقدمه إليكم بالنهي عنه، وبغير ذلك من سرائر أموركم وأمور عباده وظواهرها, فبيَّن لكم حلمه في ذلك عليكم، ليضع عنكم ثِقَل الوَجْد بذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون » ، قال: بيانُ الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة, وفي بيانه طاعتُه ومعصيته, فافعلوا أو ذَرُوا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون » ، قال: بيانُ الله للمؤمنين: أن لا يستغفروا للمشركين خاصة, وفي بيانه طاعتُه ومعصيته عامة, فافعلوا أو ذَرُوا.
..... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: « وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون » ، قال: يبين الله للمؤمنين في أن لا يستغفروا للمشركين في بيانه في طاعته وفي معصيته, فافعلوا أو ذروا.
القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 116 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله، أيها الناس له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكل من دونه من الملوك فعبيده ومماليكه, بيده حياتهم وموتهم, يحيي من يشاء منهم، ويميت من يشاء منهم, فلا تجزعوا، أيها المؤمنون، من قتال من كفر بي من الملوك, ملوك الروم كانوا أو ملوك فارس والحبشة، أو غيرهم, واغزوهم وجاهدوهم في طاعتي, فإني المعزُّ من أشاء منهم ومنكم، والمذلُّ من أشاء.
وهذا حضٌّ من الله جل ثناؤه المؤمنين على قتال كلّ من كفر به من المماليك, وإغراءٌ منه لهم بحربهم.
وقوله: ( وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير ) ، يقول: وما لكم من أحد هو لكم حليفٌ من دون الله يظاهركم عليه، إن أنتم خالفتم أمرَ الله فعاقبكم على خلافكم أمرَه، يستنقذكم من عقابه ( ولا نصير ) ، ينصركم منه إن أراد بكم سوءًا. يقول: فبالله فثقوا, وإياه فارهبوا, وجاهدوا في سبيله من كفر به, فإنه قد اشترى منكم أنفسكم وأموالكم بأن لكم الجنة, تقاتلون في سبيله فتَقْتُلُون وتُقْتَلُون.
القول في تأويل قوله : لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 117 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته، نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم, والمهاجرين ديارَهم وعشيرتَهم إلى دار الإسلام, وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رَسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء ( من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ) ، يقول: من بعد ما كاد يميل قلوب بعضهم عن الحق، ويشك في دينه ويرتاب، بالذي ناله من المشقة والشدّة في سفره وغزوه ( ثم تاب عليهم ) ، يقول: ثم رزقهم جلّ ثناؤه الإنابة والرجوع إلى الثبات على دينه، وإبصار الحق الذي كان قد كاد يلتبس عليهم ( إنه بهم رءوف رحيم ) ، يقول: إن ربكم بالذين خالط قلوبَهم ذلك لما نالهم في سفرهم من الشدة والمشقة رءوف بهم ( رحيم ) ، أن يهلكهم, فينـزع منهم الإيمان بعد ما قد أبلَوْا في الله ما أبلوا مع رسوله، وصبروا عليه من البأساء والضراء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( في ساعة العسرة ) ، في غزوة تبوك.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عبد الله بن محمد بن عقيل: ( في ساعة العسرة ) ، قال: خرجوا في غزوةٍ، الرجلان والثلاثة على بعير. وخرجوا في حرٍّ شديد, وأصابهم يومئذ عطش شديد, فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها، ويشربون ماءه, وكان ذلك عسرة من الماء، وعسرة من الظهر، وعسرة من النفقة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ساعة العسرة ) ، قال: غزوة تبوك, قال: « العسرة » ، أصابهم جَهْدٌ شديد، حتى إن الرجلين ليشقَّان التمرة بينهما، وأنهم ليمصُّون التمرة الواحدة، ويشربون عليها الماء.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) ، قال: غزوة تبوك.
...... قال، حدثنا زكريا بن عدي, عن ابن مبارك, عن معمر, عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن جابر: ( الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) ، قال: عسرة الظهر, وعسرة الزاد, وعسرة الماء.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) ، الآية, الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قِبَل الشأم في لهَبَانِ الحرّ على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهدٌ شديد, حتى لقد ذُكر لنا أن الرجلين كانا يشقّان التمرة بينهما, وكان النفر يتناولون التمرة بينهم، يمصُّها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصُّها هذا ثم يشرب عليها, فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوهم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث, عن سعيد بن أبي هلال, عن عتبة بن أبي عتبة, عن نافع بن جبير بن مطعم, عن عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه في شأن العسرة, فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد, فنـزلنا منـزلا أصابنا فيه عطش, حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع, حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمسُ الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع, حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فَرْثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عوّدك في الدعاء خيرًا, فادع لنا! قال: تحب ذلك؟ قال: نعم! فرفع يديه، فلم يَرْجِعهما حتى قالت السماء, فأظلّت، ثم سكبت, فملئوا ما معهم, ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها، جاوزت العسكر.
حدثني إسحاق بن زيادة العطار قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثنا عبد الله بن وهب قال، حدثنا عمرو بن الحارث, عن سعيد بن أبي هلال, عن نافع بن جبير, عن ابن عباس قال: قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه: حدِّثنا عن شأن جيش العسرة! فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر نحوه.
القول في تأويل قوله : التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 112 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله اشترى من المؤمنين التائبين العابدين أنفسهم وأموالهم ولكنه رفع, إذ كان مبتدأ به بعد تمام أخرى مثلها. والعرب تفعل ذلك, وقد تقدَّم بياننا ذلك في قوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [ سورة البقرة: 18 ] ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
ومعنى: « التائبون » ، الراجعون مما كرهه الله وسخطه إلى ما يحبُّه ويرضاه، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم, عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن في قول الله: ( التائبون ) ، قال: تابوا إلى الله من الذنوب كلها.
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثني أبي, عن أبي الأشهب, عن الحسن: أنه قرأ ( التائبون العابدون ) ، قال: تابوا من الشرك، وبرئوا من النفاق.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن أبي الأشهب قال: قرأ الحسن: ( التائبون العابدون ) ، قال: تابوا من الشرك، وبرئوا من النفاق.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء، عن الحسن قال: التائبون من الشرك.
حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: ( التائبون العابدون ) ، قال الحسن: تابوا والله من الشرك, وبرئوا من النفاق.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( التائبون ) ، قال: تابوا من الشرك، ثم لم ينافقوا في الإسلام.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج: ( التائبون ) ، قال: الذين تابوا من الذنوب، ثم لم يعودوا فيها.
وأما قوله: ( العابدون ) ، فهم الذين ذلُّوا خشيةً لله وتواضعًا له, فجدُّوا في خدمته، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( العابدون ) ، قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن في قول الله ( العابدون ) ، قال: عبدوا الله على أحايينهم كلها، في السراء والضراء.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( العابدون ) ، قال: العابدون لربهم.
وأما قوله: ( الحامدون ) ، فإنهم الذين يحمدون الله على كل ما امتحنهم به من خير وشر، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( الحامدون ) ، قوم حمدوا الله على كل حال.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن ثعلبة قال، قال الحسن: ( الحامدون ) ، الذين حمدوا الله على أحايينهم كلها، في السرّاء والضرّاء.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( الحامدون ) ، قال: الحامدون على الإسلام.
وأما قوله: ( السائحون ) ، فإنهم الصائمون، كما:-
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني وابن وكيع قالا حدثنا سفيان, عن عمرو, عن عبيد بن عمير
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث, عن عمرو, عن عبيد بن عمير قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن « السائحين » فقال: هم الصائمون.
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا حكيم بن حزام قال، حدثنا سليمان, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « السائحون » هم الصائمون.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال: ( السائحون ) ، الصائمون.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله قال: ( السائحون ) ، الصائمون.
...... قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثني عاصم, عن زر, عن عبد الله, بمثله.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله قال، أخبرنا شيبان, عن أبي إسحاق, عن أبي عبد الرحمن قال: السياحةُ: الصيام.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل, عن أشعث, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ( السائحون ) ، : الصائمون.
حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبيه وإسرائيل، عن أشعث عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ( السائحون ) ، الصائمون.
حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا إسرائيل, عن أشعث, عن سعيد بن جبير قال: ( السائحون ) ، الصائمون.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن أشعث بن أبي الشعثاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن عاصم، عن زر, عن عبد الله, مثله.
...... قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن إسحاق, عن عبد الرحمن قال: ( السائحون ) ، هم الصائمون.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( السائحون ) ، قال: يعني بالسائحين، الصائمين.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ( السائحون ) ، هم الصائمون.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( السائحون ) ، الصائمون.
...... قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: كل ما ذكر الله في القرآن ذكر السياحة، هم الصائمون.
...... قال، حدثنا أبي، عن المسعودي, عن أبي سنان, عن ابن أبي الهذيل, عن أبي عمرو العبدي قال: ( السائحون ) ، الذين يُديمون الصيام من المؤمنين.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن: ( السائحون ) ، الصائمون.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن قال: ( السائحون ) ، الصائمون شهر رمضان.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك قال: ( السائحون ) ، الصائمون.
...... قال، حدثنا أبو أسامة, عن جويبر, عن الضحاك قال: كل شيء في القرآن ( السائحون ) ، فإنه الصائمون.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك: ( السائحون ) ، الصائمون.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( السائحون ) ، يعني الصائمين.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، ويعلى، وأبو أسامة, عن عبد الملك, عن عطاء قال: ( السائحون ) ، الصائمون.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن عبد الملك, عن عطاء, مثله.
...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو: أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانت السياحة في بني إسرائيل, وكان الرجل إذا ساح أربعين سنةً، رأى ما كان يرى السائحون قبله. فساح وَلَدُ بغيٍّ أربعين سنة، فلم ير شيئًا, فقال: أي ربِّ، أرأيت إن أساء أبواي وأحسنت أنا؟ قال: فَأرِي ما رَأى السائحون قبله قال ابن عيينة: إذا ترك الطعام والشراب والنساء، فهو السائح.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة ( السائحون ) ، قوم أخذوا من أبدانهم، صومًا لله.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إبراهيم بن يزيد, عن الوليد بن عبد الله, عن عائشة قالت: سياحةُ هذه الأمة الصيام.
وقوله: ( الراكعون الساجدون ) ، يعني المصلين، الراكعين في صلاتهم، الساجدين فيها، كما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( الراكعون الساجدون ) ، قال: الصلاة المفروضة.
وأما قوله: ( الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ) ، فإنه يعني أنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم, واتباع الرشد والهدى، والعمل وينهونهم عن المنكر، وذلك نهيهم الناسَ عن كل فعل وقول نهى الله عباده عنه.
وقد روي عن الحسن في ذلك ما:-
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( الآمرون بالمعروف ) ، لا إله إلا الله ( والناهون عن المنكر ) ، عن الشرك.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن ثعلبة بن سهيل قال, قال الحسن في قوله: ( الآمرون بالمعروف ) ، قال: أمَا إنهم لم يأمروا الناس حتى كانوا من أهلها ( والناهون عن المنكر ) ، قال: أمَا إنهم لم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية, قال: كل ما ذكر في القرآن « الأمر بالمعروف » ، و « النهي عن المنكر » , فالأمر بالمعروف، دعاءٌ من الشرك إلى الإسلام والنهي عن المنكر، نهيٌ عن عبادة الأوثان والشياطين.
قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى قبل على صحة ما قلنا: من أن « الأمر بالمعروف » هو كل ما أمر الله به عباده أو رسوله صلى الله عليه وسلم, و « النهي عن المنكر » ، هو كل ما نهى الله عنه عبادَه أو رسولُه. وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أنها عُني بها خصوصٌ دون عموم، ولا خبر عن الرسول، ولا في فطرة عقلٍ, فالعموم بها أولى، لما قد بينا في غير موضع من كُتُبنا.
وأما قوله: ( والحافظون لحدود الله ) ، فإنه يعني: المؤدّون فرائض الله, المنتهون إلى أمره ونهيه, الذين لا يضيعون شيئًا ألزمهم العملَ به، ولا يرتكبون شيئًا نهاهم عن ارتكابه، كالذي:-
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( والحافظون لحدود الله ) ، يعني: القائمين على طاعة الله. وهو شرطٌ اشترطه على أهل الجهاد، إذا وَفَوا الله بشرطه، وفى لهم بشرطهم.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( والحافظون لحدود الله ) ، قال: القائمون على طاعة الله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن في قوله: ( والحافظون لحدود الله ) ، قال: القائمون على أمر الله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( والحافظون لحدود الله ) ، قال: لفرائض الله.
وأما قوله: ( وبشر المؤمنين ) ، فإنه يعني: وبشّر المصدِّقين بما وعدهم الله إذا هم وفَّوا الله بعهده، أنه مُوفٍّ لهم بما وعدهم من إدخالهم الجنة، كما:-
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هوذة بن خليفة قال، حدثنا عوف, عن الحسن: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ، حتى ختم الآية, قال الذين وفوا ببيعتهم ( التائبون العابدون الحامدون ) ، حتى ختم الآية, فقال: هذا عملهم وسيرهم في الرخاء, ثم لقوا العدوّ فصدَقوا ما عاهدوا الله عليه.
وقال بعضهم: معنى ذلك: وبشر من فعل هذه الأفعال يعني قوله: ( التائبون العابدون ) ، إلى آخر الآية وإن لم يغزوا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( وبشر المؤمنين ) ، قال: الذين لم يغزوا.
القول في تأويل قوله : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 113 ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به « أن يستغفروا » , يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين, ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم « أولي قربى » , ذوي قرابة لهم « من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » ، يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعبادة الأوثان، وتبين لهم أنهم من أهل النار، لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله. فإن قالوا: فإن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك؟ فلم يكن استغفارُ إبراهيم لأبيه إلا لموعدة وعدها إياه. فلما تبين له وعلم أنه لله عدوٌّ، خلاه وتركه ، وترك الاستغفار له, وآثر الله وأمرَه عليه, فتبرأ منه حين تبين له أمره.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي نـزلت هذه الآية فيه.
فقال بعضهم: نـزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته, فنهاه الله عن ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية, فقال: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله! فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك! فنـزلت: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » , ونـزلت: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، [ القصص: 56 ] .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال، حدثني يونس, عن الزهري قال، أخبرني سعيد بن المسيب, عن أبيه, قال: لما حضرت أبا طالب الوفاةُ، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لك بها عند الله! قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن مِلَّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدُ له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخرَ ما كلَّمهم: « هو على ملة عبد المطلب » , وأبى أن يقول: « لا إله إلا الله » , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنْهَ عنك! فأنـزل الله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » ، وأنـزل الله في أبي طالب, فقال لرسول الله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، الآية.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » ، قال: يقول المؤمنون: ألا نستغفر لآبائنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه كافرًا؟ فأنـزل الله: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه » ، الآية.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن عمرو بن دينار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك, فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربّي! فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه! فأنـزل الله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » إلى قوله: « تبرأ منه » .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن سفيان بن عيينة, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب قال: لما حضر أبا طالب الوفاةُ، أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل بن هشام, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيْ عم، إنك أعظم الناس عليَّ حقًّا، وأحسنهم عندي يدًا, ولأنت أعظم عليَّ حقًّا من والدي, فقل كلمة تجب لي بها الشفاعة يوم القيامة, قل: لا إله إلا الله ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى, عن محمد بن ثور.
وقال آخرون: بل نـزلت في سبب أمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك أنه أراد أن يستغفر لها، فمنع من ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل, عن عطية قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقف على قبر أمّه حتى سخِنت عليه الشمس, رجاءَ أن يؤذن له فيستغفر لها, حتى نـزلت: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى » ، إلى قوله: « تبرأ منه » .
..... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس, عن علقمة بن مرثد, عن سليمان بن بريدة, عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى رَسْمَ قال: وأكثر ظني أنه قال : قَبْرٍ فجلس إليه, فجعل يخاطبُ, ثم قام مُسْتَعْبِرًا, فقلت: يا رسول الله, إنّا رأينا ما صنعت! قال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمّي، فأذن لي, واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي. فما رئي باكيًا أكثر من يومئذٍ.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا » ، إلى: « أنهم أصحاب الجحيم » ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمّه, فنهاه الله عن ذلك, فقال: وإن إبراهيم خليل الله قد استغفر لأبيه! فأنـزل الله: « وما كان استغفار إبراهيم » ، إلى لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ .
وقال آخرون: بل نـزلت من أجل أن قومًا من أهل الإيمان كانوا يستغفرون لموتاهم من المشركين, فنهوا عن ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » ، الآية, فكانوا يستغفرون لهم، حتى نـزلت هذه الآية. فلما نـزلت، أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم, ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنـزل الله: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه » ، الآية.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » ، الآية, ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله, إن من آبائنا من كان يُحْسِن الجوار، ويصل الأرحام، ويفك العاني، ويوفي بالذمم, أفلا نستغفر لهم؟ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى! والله لأستغفرنّ لأبي، كما استغفر إبراهيم لأبيه! قال: فأنـزل الله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » حتى بلغ: « الجحيم » ، ثم عذر الله إبراهيم فقال: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ،. قال: وذكر لنا أن نبيَّ الله قال: أوحي إليّ كلمات فدخلن في أذني، ووَقَرْنَ في قلبي: أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركًا, ومن أعطى فَضْلَ ماله فهو خيرٌ له, ومن أمسك فهو شرٌّ له, ولا يلوم اللهُ على كَفافٍ .
واختلف أهل العربية في معنى قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » .
فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما كان لهم الاستغفار وكذلك معنى قوله: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ ، وما كان لنفس الإيمان إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ، [ يونس: 100 ] .
وقال بعض نحويي الكوفة: معناه: ما كان ينبغي لهم أن يستغفروا لهم. قال: وكذلك إذا جاءت « أن » مع « كان » , فكلها بتأويل: ينبغي، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [ آل عمران: 161 ] ما كان ينبغي له، ليس هذا من أخلاقه. قال: فلذلك إذا دخلت « أن » لتدل على الاستقبال, لأن « يَنْبَغِي » تطلب الاستقبال.
وأما قوله: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه » ، فإن أهل العلم اختلفوا في السبب الذي أنـزل فيه.
فقال بعضهم: أنـزل من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يستغفرون لموتاهم المشركين، ظنًّا منهم أنّ إبراهيم خليل الرحمن قد فعل ذلك، حين أنـزل الله قوله خبرًا عن إبراهيم: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [ مريم: 47 ] .
وقد ذكرنا الرواية عن بعض من حضرنا ذكره, وسنذكر عمن لم نذكره.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الخليل, عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان, فقلت: أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان؟ فقال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له, فأنـزل الله: « وما كان استغفار إبراهيم » إلى « تبرأ منه » .
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الخليل, عن علي: أن النبي صلى كان يستغفر لأبويه وهما مشركان, حتى نـزلت: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه » ، إلى قوله: « تبرأ منه » .
وقيل: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة » , ومعناه: إلا من بعد موعدة, كما يقال: « ما كان هذا الأمر إلا عن سبب كذا » , بمعنى: من بعد ذلك السبب، أو من أجله. فكذلك قوله: « إلا عن موعدة » ، من أجل موعدة وبعدها.
وقد تأوّل قوم قولَ الله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى » ، الآية, أنّ النهي من الله عن الاستغفار للمشركين بعد مماتهم, لقوله: « من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » . وقالوا: ذلك لا يتبينه أحدٌ إلا بأن يموت على كفره, وأما وهو حيٌّ فلا سبيل إلى علم ذلك, فللمؤمنين أن يستغفروا لهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سليمان بن عمر الرقي, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن سفيان الثوري, عن الشيباني, عن سعيد بن جبير قال: مات رجل يهودي وله ابنٌ مسلم, فلم يخرج معه, فذكر ذلك لابن عباس فقال: كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًّا, فإذا مات، وكله إلى شانه! ثم قال: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، لم يدعُ.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا فضيل, عن ضرار بن مرة, عن سعيد بن جبير قال: مات رجل نصراني, فوكله ابنه إلى أهل دينه, فأتيت ابن عباس فذكرت ذلك له فقال: ما كان عليه لو مشى معه وأجنَّه واستغفر له؟ ثم تلا « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه » ، الآية.
وتأوّل آخرون « الاستغفارَ » ، في هذا الموضع، بمعنى الصلاة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، ثني إسحاق قال، حدثنا كثير بن هشام, عن جعفر بن برقان قال، حدثنا حبيب بن أبي مرزوق, عن عطاء بن أبي رباح قال: ما كنت أدع الصلاةَ على أحدٍ من أهل هذه القبلة، ولو كانت حبشيةً حُبْلى من الزنا, لأني لم أسمع الله يَحْجُب الصلاة إلا عن المشركين, يقول الله: « ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » .
وتأوّله آخرون، بمعنى الاستغفار الذي هو دعاء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن عصمة بن زامل, عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمّه، قلت: ولأبيه؟ قال: لا إن أبي مات وهو مشرك.
قال أبو جعفر: وقد دللنا على أن معنى « الاستغفار » : مسألة العبد ربَّه غفرَ الذنوب. وإذ كان ذلك كذلك, وكانت مسألة العبد ربَّه ذلك قد تكون في الصلاة وفي غير الصلاة, لم يكن أحد القولين اللذين ذكرنا فاسدًا, لأن الله عمَّ بالنهي عن الاستغفار للمشرك، بعد ما تبين له أنه من أصحاب الجحيم, ولم يخصص عن ذلك حالا أباح فيها الاستغفار له.
وأما قوله: « من بعد ما تبيَّن لهم أنهم أصحاب الجحيم » ، فإن معناه: ما قد بيَّنتُ، من أنه: من بعد ما يعلمون بموته كافرًا أنه من أهل النار.
وقيل: « أصحاب الجحيم » ، لأنهم سكانها وأهلها الكائنون فيها, كما يقال لسكان الدار: « هؤلاء أصحاب هذه الدار » , بمعنى: سكانها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرازق, قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » ، قال: تبيّن للنبي صلى الله عليه وسلم أن أبا طالب حين ماتَ أن التوبة قد انقطعت عنه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: « تبيَّن له » حين مات, وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه يعني في قوله: « من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » .
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » الآية, يقول: إذا ماتوا مشركين, يقول الله: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، الآية، [ المائدة: 72 ] .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » .
قال بعضهم: معناه: فلما تبين له بموته مشركًا بالله، تبرأ منه، وترك الاستغفار له.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن حبيب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات « فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرّأ منه » .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن حبيب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات تبين له أنه عدوّ لله.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات, فلما مات لم يستغفر له.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، يعني: استغفر له ما كان حيًا, فلما مات أمسك عن الاستغفار له.
حدثني مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو عاصم وأبو قتيبة مسلم بن قتيبة, قالا حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد, في قوله: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، قال: لما مات.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد, مثله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فلما تبين له أنه عدو لله » ، قال: موته وهو كافر.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي, عن شعبة. عن الحكم, عن مجاهد, مثله.
...... قال، حدثنا ابن أبي غنية, عن أبيه, عن الحكم: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، قال: حين مات ولم يؤمن.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن عمرو بن دينار: « فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه » ، : موته وهو كافر.
..... قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، قال: لما مات.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، لما مات على شركه « تبرأ منه » .
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه » ، كان إبراهيم صلوات الله عليه يرجو أن يؤمن أبوه ما دام حيًّا، فلما مات على شركه تبرّأ منه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، قال: موته وهو كافر.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات, فلما مات تبين له أنه عدوّ لله، فلم يستغفر له.
...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، أبو إسرائيل, عن علي بن بذيمة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « فلما تبين له أنه عدو لله » ، قال: فلما مات.
وقال آخرون: معناه : فلما تبين له في الآخرة. وذلك أن أباه يتعلَّق به إذا أرادَ أن يجوز الصراط فيمرّ به عليه, حتى إذا كاد أن يجاوزه، حانت من إبراهيم التفاتةٌ، فإذا هو بأبيه في صورة قِرْد أو ضَبُع, فيخلِّي عنه ويتبرأ منه حينئذ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا عبد الله بن سليمان قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: إن إبراهيم يقولُ يوم القيامة: « ربِّ والدي، رَبِّ والدي » ! فإذا كان الثالثة، أخذ بيده, فيلتفت إليه وهو ضِبْعانٌ، فيتبرأ منه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن عبيد بن عمير, قال: إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيدٍ واحد، يسمعكم الداعي، وينفُذُكم البصر. قال: فتزفِرُ جهنم زفرةً لا يبْقى مَلك مُقَرَّب ولا نبيٌّ مرسل إلا وقع لركبتيه تُرْعَد فرائصُه! قال: فحسبته يقول: نَفْسي نفسي! ويضربُ الصِّراط على جهنم كحدِّ السيف, دحْضِ مَزِلَّةٍ، وفي جانبيه ملائكة معهم خطاطيف كشوك السَّعْدان. قال: فيمضون كالبرق، وكالريح، وكالطير, وكأجاويد الركاب, وكأجاويد الرجال, والملائكة يقولون: « ربّ سلِّمْ سلِّم » ، فناجٍ سالمٌ ومخدوش ناجٍ, ومكدوسٌ في النار، يقول إبراهيم لأبيه: إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني، ولست تاركك اليوم, فخُذْ بحقْوي! فيأخذ بِضَبْعَيْه, فيمسخ ضَبُعًا, فإذا رأه قد مُسِخَ تبرَّأ منه.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ الله, وهو خبره عن إبراهيم أنه لما تبين له أن أباه لله عدوٌّ، يبرأ منه, وذلك حال علمه ويقينه أنه لله عدوٌّ، وهو به مشرك, وهو حالُ موته على شركه.
القول في تأويل قوله : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ( 114 )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في « الأوّاه » .
فقال بعضهم: هو الدعَّاء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن عاصم, عن زرّ, عن عبد الله قال: « الأوّاه » ، الدعّاء.
حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا أبو بكر, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله قال: « الأوّاه » ، الدعّاء.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني جرير بن حازم, عن عاصم بن بهدلة, عن زرّ بن حبيش قال: سألت عبد الله عن « الأواه » , فقال: هو الدعّاء.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر, عن ابن أبي عروبة, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله، مثله.
..... قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن عبد الكريم عن أبي عبيدة, عن عبد الله قال: « الأوّاه » : الدعّاء.
..... قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله, مثله.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، وإسرائيل, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله، مثله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع, قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند, قال: نُبِّئتُ عن عبيد بن عمير, قال: « الأوّاه » : الدعاء.
حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا داود, عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي, عن أبيه قال: « الأوّاه » : الدعّاء.
وقال آخرون: بل هو الرحيم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن سلمة, عن مسلم البطين, عن أبي العُبَيْدَيْنِ, قال: سئل عبد الله عن « الأوّاه » , فقال: الرحيم.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن الحكم قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدث، عن أبي العبيدين، رجلٍ ضرير البصر: أنه سأل عبد الله عن « الأواه » ، فقال: الرحيم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا المحاربي وحدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل جميعًا, عن المسعوديّ, عن سلمة بن كهيل, عن أبي العبيدين: أنه سأل ابن مسعود, فقال: ما « الأواه » ؟ قال: الرحيم.
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن إدريس, عن الأعمش, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار, عن أبي العبيدين: أنه جاء إلى عبد الله وكان ضرير البصر فقال: يا أبا عبد الرحمن, من نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رقَّ له, قال: أخبرني عن « الأوّاه » , قال: الرحيم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن سفيان, عن سلمة بن كهيل, عن مسلم البطين, عن أبي العبيدين, قال: سألت عبد الله عن « الأواه » , فقال: هو الرحيم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار قال جاء أبو العبيدين إلى عبد الله فقال له: ما حاجتك؟ قال: ما « الأواه » ؟ قال: الرحيم.
..... قال، حدثنا ابن إدريس, عن الأعمش, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار, عن أبي العبيدين، رجل من بني سَوَاءَة, قال: جاء رجل إلى عبد الله فسأله عن « الأوّاه » , فقال له عبد الله: الرحيم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، وهانئ بن سعيد, عن حجاج, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار, عن أبي العبيدين, عن عبد الله قال: « الأواه » ، الرحيم.
حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية, عن شعبة, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار: أن أبا العبيدين، رجل من بني نمير قال يعقوب: كان ضريرَ البصر، وقال ابن وكيع: كان مكفوفَ البصر سأل ابن مسعود فقال: ما « الأواه » ؟ قال: الرحيم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن زكريا, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, قال: « الأواه » : الرحيم.
..... قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, مثله.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر, عن سعيد, عن قتادة, عن الحسن, قال: هو الرحيم.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كنا نحدَّث أن « الأواه » الرحيم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « إن إبراهيم لأواه » ، قال: رحيم.
قال عبد الكريم الجزري, عن أبي عبيدة, عن ابن مسعود مثل ذلك.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن عبد الكريم, عن أبي عبيدة, عن عبد الله قال: « الأواه » : الرحيم.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن سلمة, عن مسلم البطين, عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله عن « الأواه » , فقال الرحيم.
...... قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن عمرو بن شرحبيل قال: « الأواه » : الرحيم.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك, عن الحسن, قال: « الأواه » : الرحيم بعباد الله.
..... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو خيثمة زهير قال، حدثنا أبو إسحاق الهمداني, عن أبي ميسرة, عن عمرو بن شرحبيل, قال: « الأواه » : الرحيم بلحن الحبشة.
وقال آخرون: بل هو الموقن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن سفيان, عن قابوس, عن أبيه، عن ابن عباس قال: « الأواه » : الموقن.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن ابن مبارك, عن خالد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: « الأواه » ، الموقن، بلسان الحبشة.
..... قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن حسن, عن مسلم, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال، « الأواه » ، الموقن، بلسانه الحبشة.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز, قال: سمعت سفيان يقول: « الأواه » ، الموقن وقال بعضهم: الفقيه الموقن.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان, عن جابر, عن عطاء, قال: « الأواه » ، الموقن، بلسان الحبشة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن رجل, عن عكرمة, قال: هو الموقن، بلسان الحبشة.
..... قال، حدثنا ابن نمير, عن الثوري, عن مجالد, عن أبي هاشم, عن مجاهد, قال: « الأواه » ، الموقن.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن مسلم, عن مجاهد قال: « الأواه » ، الموقن.
.... قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قابوس, عن أبي ظبيان, عن ابن عباس قال: « الأواه » ، الموقن.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أواه » ، موقن.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أواه » , قال: مؤتمن موقن.
حدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « إن إبراهيم لأواه حليم » ، قال: « الأواه » : الموقن.
وقال آخرون: هي كلمة بالحبشة، معناها: المؤمن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « لأواه حليم » ، قال: « الأواه » ، هو المؤمن بالحبشية.
حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « إن إبراهيم لأواه » ، يعني: المؤمن التواب.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حسن بن صالح, عن مسلم, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: « الأواه » : المؤمن.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « الأواه » ، المؤمن بالحبشية.
وقال آخرون: هو المسبِّح، الكثير الذكر لله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد, قال: « الأواه » : المسبِّح.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن حجاج, عن الحكم, عن الحسن بن مسلم بن يناق: أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبِّح, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إنه أوَّاه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن حيان, عن ابن لهيعة, عن الحارث بن يزيد, عن علي بن رباح, عن عقبة بن عامر قال: « الأواه » ، الكثير الذكر لله.
وقال آخرون: هو الذي يكثر تلاوة القرآن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا المنهال بن خليفة, عن حجاج بن أرطأة, عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دفن ميتًا, فقال: يرحمك الله، إن كنت لأواهًا! يعني: تلاءً للقرآن.
وقال آخرون: هو من التأوُّه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي يونس القشيري, عن قاصّ كان بمكة: أن رجلا كان في الطواف, فجعل يقول: أوّه! قال: فشكاه أبو ذر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعه إنه أوَّاه !
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن شعبة, عن أبي يونس الباهلي قال: سمعت رجلا بمكة كان أصله روميًّا، يحدّث عن أبي ذر, قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: « أوَّه! أوّه » ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه أوَّاه! زاد أبو كريب في حديثه, قال: فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب, عن جعفر بن سليمان قال، حدثنا عمران, عن عبيد الله بن رباح, عن كعب, قال: « الأواه » : إذا ذكر النار قال: أوّه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّي, عن أبي عمران الجوني, عن عبد الله بن رباح, عن كعب قال: كان إذا ذكر النار قال: أوّه.
حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق, عن جعفر بن سليمان قال، أخبرنا أبو عمران قال، سمعت عبد الله بن رباح الأنصاري يقول، سمعت كعبًا يقول: « إن إبراهيم لأواه » ، قال: إذا ذكر النار قال: « أوّهْ من النار » .
وقال آخرون: معناه أنه فقيهٌ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « إن إبراهيم لأوّاه » ، قال: فقيه.
وقال آخرون: هو المتضرع الخاشع.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا شهر بن حوشب, عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، قال رجل: يا رسول الله، ما « الأوَّاه » ، قال: المتضرع، قال: « إن إبراهيم لأوّاه حليم » .
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء, عن عبد الحميد, عن شهر, عن عبد الله بن شداد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الأوّاه » : الخاشعُ المتضرِّع .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القولُ الذي قاله عبد الله بن مسعود، الذي رواه عنه زرٌّ : أنه الدعَّاء.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن الله ذكر ذلك، ووصف به إبراهيم خليله صلوات الله عليه، بعد وصفه إياه بالدعاء والاستغفار لأبيه, فقال: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرأ منه » ، وترك الدعاء والاستغفار له. ثم قال: إن إبراهيم لدعَّاء لربه، شاكٍ له، حليمٌ عمن سبَّه وناله بالمكروه. وذلك أنه صلوات الله عليه وعد أباه بالاستغفار له, ودعاءَ الله له بالمغفرة، عند وعيد أبيه إياه, وتهدُّده له بالشتم، بعد ما ردَّ عليه نصيحته في الله وقوله: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ، فقال له صلوات الله عليه، سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ، [ مريم: 46 - 48 ] . فوفى لأبيه بالاستغفار له، حتى تبيَّن له أنه عدو لله, فوصفه الله بأنه دَعّاء لربه، حليم عمن سَفِه عليه.
وأصله من « التأوّه » ، وهو التضرع والمسألة بالحزن والإشفاق, كما روى عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم وكما روى عقبة بن عامر، الخبَرَ الذي حدَّثنيه :-
يحيى بن عثمان بن صالح السهمي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن لهيعة قال، حدثني الحارث بن يزيد, عن علي بن رباح, عن عقبة بن عامر: أنه قال لرجل يقال له « ذو البجادين » : « إنه أواه » ! وذلك أنه رجل كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء، ويرفَعُ صوته.
ولذلك قيل للمتوجع من ألم أو مرض: « لا تتأوه » ، كما قال المُثَقِّب العَبْدي:
إذَا مــا قُمْــتُ أَرْحَلُهــا بِلَيْــلٍ تَــأَوَّهُ آهَــةَ الرَّجُــلِ الحَــزِينِ
ومنه قول الجَعْديَ:
ضَـرُوحٍ مَـرُوحٍ تُتْبِـعُ الْوُرْقَ بَعْدَما يُعَرِّسْــنَ شَــكْوَى, آهَـةً وَتَنَمَّـرَا
ولا تكاد العرب تنطق منه : بـ « فعل يفعل » , وإنما تقول فيه: « تَفَعَّلَ يَتَفَعَّل » , مثل: « تأوّه يتأوه » , « وأوّه يؤوِّه » .
كما قال الراجز:
فَأَوَّهَ الرّاعِي وَضَوْضَى أكْلُبُه
وقالوا أيضًا: « أوْهِ منك! » ، ذكر الفراء أن أبا الجرّاح أنشده:
فَـأَوْهِ مِـنَ الذِّكْـرَى إذَا مَـا ذَكَرْتُهـا وَمِــنْ بُعْــدِ أَرْضٍ بَيْنَنَـا وَسَـمَاءِ
قال: وربما أنشدنا: ( فَأَوٍّ مِنَ الذِّكْرَى ) ، بغيرها. ولو جاء « فعل » منه على الأصل لكان: « آه ، يَئوهُ أوْهًا » .
ولأن معنى ذلك: « توجَّع، وتحزّن، وتضرع » ، اختلف أهل التأويل فيه الاختلافَ الذي ذكرتُ. فقال من قال: معناه « الرحمة » : أن ذلك كان من إبراهيم على وجه الرِّقة على أبيه، والرحمة له، ولغيره من الناس.
وقال آخرون: إنما كان ذلك منه لصحة يقينه، وحسن معرفته بعظمة الله، وتواضعه له.
وقال آخرون: كان لصحة إيمانه بربِّه.
وقال آخرون: كان ذلك منه عند تلاوته تنـزيل الله الذي أنـزله عليه.
وقال آخرون: كان ذلك منه عند ذكر رَبِّه.
وكلُّ ذلك عائد إلى ما قلتُ, وتَقَارَبَ معنى بعض ذلك من بعض، لأن الحزين المتضرِّع إلى ربه، الخاشع له بقلبه, ينوبه ذلك عند مسألته ربَّه، ودعائه إياه في حاجاته, وتعتوره هذه الخلال التي وجَّه المفسرون إليها تأويل قول الله: « إن إبراهيم لأوّاه حليمٌ » .
القول في تأويل قوله : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 115 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان الله ليقضي عليكم، في استغفاركم لموتاكم المشركين، بالضلال، بعد إذ رزقكم الهداية، ووفقكم للإيمان به وبرسوله, حتى يتقدَّم إليكم بالنهي عنه، فتتركوا الانتهاء عنه. فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه, فإنه لا يحكم عليكم بالضلال, لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهيّ, فأما من لم يؤمر ولم ينه، فغير كائنٍ مطيعًا أو عاصيًا فيما لم يؤمَرْ به ولم ينه عنه « إن الله بكل شيء عليم » ، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما خالط أنفسكم عند نهي الله إياكم من الاستغفار لموتاكم المشركين، من الجزع على ما سلف منكم من الاستغفار لهم قبل تقدمه إليكم بالنهي عنه، وبغير ذلك من سرائر أموركم وأمور عباده وظواهرها, فبيَّن لكم حلمه في ذلك عليكم، ليضع عنكم ثِقَل الوَجْد بذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون » ، قال: بيانُ الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة, وفي بيانه طاعتُه ومعصيته, فافعلوا أو ذَرُوا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون » ، قال: بيانُ الله للمؤمنين: أن لا يستغفروا للمشركين خاصة, وفي بيانه طاعتُه ومعصيته عامة, فافعلوا أو ذَرُوا.
..... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: « وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون » ، قال: يبين الله للمؤمنين في أن لا يستغفروا للمشركين في بيانه في طاعته وفي معصيته, فافعلوا أو ذروا.
القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 116 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله، أيها الناس له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكل من دونه من الملوك فعبيده ومماليكه, بيده حياتهم وموتهم, يحيي من يشاء منهم، ويميت من يشاء منهم, فلا تجزعوا، أيها المؤمنون، من قتال من كفر بي من الملوك, ملوك الروم كانوا أو ملوك فارس والحبشة، أو غيرهم, واغزوهم وجاهدوهم في طاعتي, فإني المعزُّ من أشاء منهم ومنكم، والمذلُّ من أشاء.
وهذا حضٌّ من الله جل ثناؤه المؤمنين على قتال كلّ من كفر به من المماليك, وإغراءٌ منه لهم بحربهم.
وقوله: ( وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير ) ، يقول: وما لكم من أحد هو لكم حليفٌ من دون الله يظاهركم عليه، إن أنتم خالفتم أمرَ الله فعاقبكم على خلافكم أمرَه، يستنقذكم من عقابه ( ولا نصير ) ، ينصركم منه إن أراد بكم سوءًا. يقول: فبالله فثقوا, وإياه فارهبوا, وجاهدوا في سبيله من كفر به, فإنه قد اشترى منكم أنفسكم وأموالكم بأن لكم الجنة, تقاتلون في سبيله فتَقْتُلُون وتُقْتَلُون.
القول في تأويل قوله : لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 117 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته، نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم, والمهاجرين ديارَهم وعشيرتَهم إلى دار الإسلام, وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رَسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء ( من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ) ، يقول: من بعد ما كاد يميل قلوب بعضهم عن الحق، ويشك في دينه ويرتاب، بالذي ناله من المشقة والشدّة في سفره وغزوه ( ثم تاب عليهم ) ، يقول: ثم رزقهم جلّ ثناؤه الإنابة والرجوع إلى الثبات على دينه، وإبصار الحق الذي كان قد كاد يلتبس عليهم ( إنه بهم رءوف رحيم ) ، يقول: إن ربكم بالذين خالط قلوبَهم ذلك لما نالهم في سفرهم من الشدة والمشقة رءوف بهم ( رحيم ) ، أن يهلكهم, فينـزع منهم الإيمان بعد ما قد أبلَوْا في الله ما أبلوا مع رسوله، وصبروا عليه من البأساء والضراء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( في ساعة العسرة ) ، في غزوة تبوك.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عبد الله بن محمد بن عقيل: ( في ساعة العسرة ) ، قال: خرجوا في غزوةٍ، الرجلان والثلاثة على بعير. وخرجوا في حرٍّ شديد, وأصابهم يومئذ عطش شديد, فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها، ويشربون ماءه, وكان ذلك عسرة من الماء، وعسرة من الظهر، وعسرة من النفقة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ساعة العسرة ) ، قال: غزوة تبوك, قال: « العسرة » ، أصابهم جَهْدٌ شديد، حتى إن الرجلين ليشقَّان التمرة بينهما، وأنهم ليمصُّون التمرة الواحدة، ويشربون عليها الماء.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) ، قال: غزوة تبوك.
...... قال، حدثنا زكريا بن عدي, عن ابن مبارك, عن معمر, عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن جابر: ( الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) ، قال: عسرة الظهر, وعسرة الزاد, وعسرة الماء.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) ، الآية, الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قِبَل الشأم في لهَبَانِ الحرّ على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهدٌ شديد, حتى لقد ذُكر لنا أن الرجلين كانا يشقّان التمرة بينهما, وكان النفر يتناولون التمرة بينهم، يمصُّها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصُّها هذا ثم يشرب عليها, فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوهم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث, عن سعيد بن أبي هلال, عن عتبة بن أبي عتبة, عن نافع بن جبير بن مطعم, عن عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه في شأن العسرة, فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد, فنـزلنا منـزلا أصابنا فيه عطش, حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع, حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمسُ الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع, حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فَرْثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عوّدك في الدعاء خيرًا, فادع لنا! قال: تحب ذلك؟ قال: نعم! فرفع يديه، فلم يَرْجِعهما حتى قالت السماء, فأظلّت، ثم سكبت, فملئوا ما معهم, ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها، جاوزت العسكر.
حدثني إسحاق بن زيادة العطار قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثنا عبد الله بن وهب قال، حدثنا عمرو بن الحارث, عن سعيد بن أبي هلال, عن نافع بن جبير, عن ابن عباس قال: قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه: حدِّثنا عن شأن جيش العسرة! فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر نحوه.
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( 123 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: « يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، قاتلوا من وليكم من الكفار دون من بَعُد منهم. يقول لهم: ابدأوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارًا، دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ، الروم, لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ, والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد, فإن الفرض على أهل كل ناحية، قتالُ من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم، ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام, فإن اضطروا إليهم، لزمهم عونهم ونصرهم, لأن المسلمين يدٌ على من سواهم. »
ولصحة كون ذلك كذلك, تأوّل كلُّ من تأوّل هذه الآية، أنّ معناها إيجاب الفرض على أهل كل ناحية قتالَ من وليهم من الأعداء.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن شبيب بن غرقدة البارقي, عن رجل من بني تميم قال، سألت ابن عمر عن قتال الديلم قال: عليك بالروم!
حدثنا ابن بشار، وأحمد بن إسحاق، وسفيان بن وكيع قالوا، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن يونس، عن الحسن: ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) ، قال: الديلم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن الربيع, عن الحسن: أنه كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم، تلا هذه الآية: ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب قال، حدثنا عمران أخي قال: سألت جعفر بن محمد بن علي بن الحسين فقلت: ما ترى في قتال الديلم؟ فقال: قاتلوهم ورابطوهم, فإنهم من الذين قال الله: ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن الربيع, عن الحسن: أنه سئل عن الشأم والديلم, فقال: ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) ، الديلم.
حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، سمعت أبا عمرو، وسعيد بن عبد العزيز يقولان: يرابط كل قوم ما يليهم من مَسَالحهم وحصونهم، ويتأوَّلان قول الله: ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) .
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) ، قال: كان الذين يلونهم من الكفار العربُ, فقاتلهم حتى فرغ منهم. فلما فرغ قال الله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، حتى بلغ، وَهُمْ صَاغِرُونَ ، [ سورة التوبة: 29 ] . قال: فلما فرغ من قتال من يليه من العرب، أمره بجهاد أهل الكتاب. قال: وجهادهم أفضل الجهاد عند الله .
وأما قوله: ( وليجدوا فيكم غلظة ) ، فإن معناه: وليجد هؤلاء الكفار الذين تقاتلونهم ( فيكم ) ، أي: منكم شدةً عليهم ( واعلموا أن الله مع المتقين ) ، يقول: وأيقنوا، عند قتالكم إياهم، أن الله معكم، وهو ناصركم عليهم, فإن اتقيتم الله وخفتموه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه, فإن الله ناصر من اتقاه ومعينه.
القول في تأويل قوله : وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( 124 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أنـزل الله سورة من سور القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, فمن هؤلاء المنافقين الذين ذكرهم الله في هذه السورة من يقول: أيها الناس، أيكم زادته هذه السورة إيمانًا؟ يقول: تصديقًا بالله وبآياته. يقول الله: ( فأما الذين آمنوا ) ، من الذين قيل لهم ذلك ( فزادتهم ) ، السورة التي أنـزلت ( إيمانا ) ، وهم يفرحون بما أعطاهم الله من الإيمان واليقين.
فإن قال قائل: أو ليس « الإيمان » ، في كلام العرب، التصديق والإقرارُ؟ قيل: بلى!
فإن قيل: فكيف زادتهم السورة تصديقًا وإقرارًا؟
قيل: زادتهم إيمانًا حين نـزلت, لأنهم قبل أن تنـزل السورة لم يكن لزمهم فرضُ الإقرار بها والعمل بها بعينها، إلا في جملة إيمانهم بأن كل ما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله فحقٌّ. فلما أنـزل الله السورة، لزمهم فرض الإقرار بأنها بعينها من عند الله, ووجب عليهم فرض الإيمان بما فيها من أحكام الله وحدوده وفرائضه, فكان ذلك هو الزيادة التي زادتهم نـزول السورة حين نـزلت من الإيمان والتصديق بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وإذا ما أنـزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ) ، قال: كان إذا نـزلت سورة آمنوا بها, فزادهم الله إيمانًا وتصديقًا, وكانوا يستبشرون.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( فزادتهم إيمانًا ) ، قال: خشيةً.
القول في تأويل قوله : وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ( 125 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( وأما الذين في قلوبهم مرض ) , نفاق وشك في دين الله, فإن السورة التي أنـزلت ( زادتهم رجسًا إلى رجسهم ) ، وذلك أنهم شكوا في أنها من عند الله, فلم يؤمنوا بها ولم يصدّقوا, فكان ذلك زيادة شكٍّ حادثةً في تنـزيل الله، لزمهم الإيمان به عليهم، بل ارتابوا بذلك, فكان ذلك زيادة نَتْنٍ من أفعالهم، إلى ما سلف منهم نظيره من النتن والنفاق. وذلك معنى قوله: ( فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) ( وماتوا ) ، يعني: هؤلاء المنافقين أنهم هلكوا ( وهم كافرون ) ، يعني: وهم كافرون بالله وآياته.
القول في تأويل قوله : أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ( 126 )
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءه قوله: ( أولا يرون ) .
فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( أو لا يرون ) ، بالياء, بمعنى: أو لا يرى هؤلاء الذين في قلوبهم مرضُ النفاق؟
وقرأ ذلك حمزة: ( أَوَ لا تَرَوْنَ ) ، بالتاء, بمعنى: أو لا ترون أنتم، أيها المؤمنون، أنهم يفتنون؟
قال أبو جعفر: والصواب عندنا من القراءة في ذلك، الياءُ, على وجه التوبيخ من الله لهم, لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليه، وصحة معناه.
فتأويل الكلام إذًا: أو لا يرى هؤلاء المنافقون أنَّ الله يختبرهم في كل عام مرة أو مرتين, بمعنى أنه يختبرهم في بعض الأعوام مرة, وفي بعضها مرتين ( ثم لا يتوبون ) ، يقول: ثم هم مع البلاء الذي يحلّ بهم من الله، والاختبار الذي يعرض لهم، لا ينيبون من نفاقهم, ولا يتوبون من كفرهم, ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج الله ويعاينون من آياته, فيتعظوا بها، ولكنهم مصرُّون على نفاقهم؟
واختلف أهل التأويل في معنى « الفتنة » التي ذكر الله في هذا الموضع أن هؤلاء المنافقين يفتنون بها.
فقال بعضهم: ذلك اختبارُ الله إياهم بالقحط والشدة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع, حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ) ، قال: بالسَّنة والجوع.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( يفتنون ) ، قال: يبتلون ( في كل عام مرة أو مرتين ) ، قال: بالسنة والجوع.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ) ، قال: يبتلون بالعذاب في كل عام مرة أو مرتين.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ) ، قال: بالسنة والجوع.
وقال آخرون: بل معناه: أنهم يختبرون بالغزو والجهاد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( أوَلا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ) ، قال: يبتلون بالغزو في سبيل الله في كل عام مرة أو مرتين.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن, مثله.
وقال آخرون: بل معناه: أنهم يختبرون بما يُشيع المشركون من الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فيفتتن بذلك الذين في قلوبهم مرض.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن جابر, عن أبي الضحى, عن حذيفة: ( أوَلا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ) ، قال: كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين، فيضل بها فئامٌ من الناس كثير.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شريك, عن جابر, عن أبي الضحى, عن حذيفة, قال: كان لهم في كل عام كذبة أو كذبتان.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الله عجَّب عبادَه المؤمنين من هؤلاء المنافقين, ووبَّخ المنافقين في أنفسهم بقلّة تذكرهم، وسوء تنبههم لمواعظ الله التي يعظهم بها. وجائزٌ أن تكون تلك المواعظُ الشدائدَ التي ينـزلها بهم من الجوع والقحط وجائزٌ أن تكون ما يريهم من نُصرة رسوله على أهل الكفر به، ويرزقه من إظهار كلمته على كلمتهم وجائزٌ أن تكون ما يظهر للمسلمين من نفاقهم وخبث سرائرهم، بركونهم إلى ما يسمعون من أراجيف المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا خبر يوجب صحةَ بعض ذلك دون بعض، من الوجه الذي يجب التسليم له. ولا قول في ذلك أولى بالصواب من التسليم لظاهر قول الله وهو: أو لا يرون أنهم يختبرون في كل عام مرة أو مرتين، بما يكون زاجرًا لهم، ثم لا ينـزجرون ولا يتعظون؟
القول في تأويل قوله : وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ( 127 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( وإذا ما أنـزلت سورة ) ، من القرآن، فيها عيبُ هؤلاء المنافقين الذين وصفَ جل ثناؤه صفتهم في هذه السورة, وهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نظر بعضهم إلى بعض ) , فتناظروا ( هل يراكم من أحد ) ، إن تكلمتم أو تناجيتم بمعايب القوم يخبرهم به, ثم قاموا فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستمعوا قراءة السورة التي فيها معايبهم. ثم ابتدأ جل ثناؤه قوله: ( صرف الله قلوبهم ) ، فقال: صرف الله عن الخير والتوفيق والإيمان بالله ورسوله قلوبَ هؤلاء المنافقين ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ، يقول: فعل الله بهم هذا الخذلان, وصرف قلوبهم عن الخيرات، من أجل أنهم قوم لا يفقهون عن الله مواعظه, استكبارًا، ونفاقا.
واختلف أهل العربية في الجالب حرفَ الاستفهام.
فقال بعض نحويي البصرة, قال: ( نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ) ، كأنه قال: « قال بعضهم لبعض » ، لأن نظرهم في هذا المكان كان إيماءً وشبيهًا به, والله أعلم.
وقال بعض نحويي الكوفة: إنما هو: وإذا ما أنـزلت سورة قال بعضهم لبعض: هل يراكم من أحد؟
وقال آخر منهم: هذا « النظر » ليس معناه « القول » , ولكنه النظر الذي يجلب الاستفهام، كقول العرب: « تناظروا أيهم أعلم » , و « اجتمعوا أيهم أفقه » ، أي: اجتمعوا لينظروا فهذا الذي يجلب الاستفهام.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شعبة, عن أبي حمزة, عن ابن عباس قال: لا تقولوا: « انصرفنا من الصلاة » , فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم, ولكن قولوا: « قد قضينا الصلاة » .
...... قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن عمير بن تميم الثعلبي, عن ابن عباس قال: لا تقولوا: « انصرفنا من الصلاة » , فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم.
...... قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن ابن عباس قال: لا تقولوا: « انصرفنا من الصلاة » , فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم, ولكن قولوا: « قد قضينا الصلاة » .
...... حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وإذا ما أنـزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض ) ، الآية, قال: هم المنافقون.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإذا ما أنـزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ) ، ممن سمع خبرَكم، رآكم أحدٌ أخبره؟ إذا نـزل شيء يخبر عن كلامهم. قال: وهم المنافقون. قال: وقرأ: وَإِذَا مَا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا ، حتى بلغ: ( نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ) أخبره بهذا؟ أكان معكم أحد؟ سمع كلامكم أحد يخبره بهذا؟
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق الهمداني, عمن حدثه, عن ابن عباس قال: لا تقل: « انصرفنا من الصلاة » , فإن الله عيَّر قومًا فقال: ( انصرفوا صرف الله قلوبهم ) ، ولكن قل: « قد صلَّينا » .
القول في تأويل قوله : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 128 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للعرب: ( لقد جاءكم ) ، أيها القوم، رسول الله إليكم ( من أنفسكم ) ، تعرفونه، لا من غيركم, فتتهموه على أنفسكم في النصيحة لكم ( عزيز عليه ما عنتم ) ، أي: عزيز عليه عنتكم, وهو دخول المشقة عليهم والمكروه والأذى ( حريص عليكم ) ، يقول: حريص على هُدَى ضُلالكم وتوبتهم ورجوعهم إلى الحق ( بالمؤمنين رءوف ) ، : أي رفيق ( رحيم ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن جعفر بن محمد, عن أبيه في قوله: ( لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ) ، قال: لم يصبه شيء من شركٍ في ولادته.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن جعفر بن محمد في قوله: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) ، قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني خرجت من نكاحٍ، ولم أخرج من سفاح.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن ابن عيينة, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, بنحوه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ) ، قال: جعله الله من أنفسهم, فلا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة.
وأما قوله: ( عزيز عليه ما عنتم ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: ما ضللتم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي, عن ابن عباس في قوله: ( عزيز عليه ما عنتم ) ، قال: ما ضللتم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: عزيز عليه عَنت مؤمنكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( عزيز عليه ما عنتم ) ، عزيزٌ عليه عَنَت مؤمنهم.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس. وذلك أن الله عمَّ بالخبر عن نبيّ الله أنه عزيز عليه ما عنتَ قومَه, ولم يخصص أهل الإيمان به. فكان صلى الله عليه وسلم [ كما جاء الخبرُ من ] الله به، عزيزٌ عليه عَنَتُ جمعهم.
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان عزيزًا عليه عنتُ جميعهم، وهو يقتل كفارَهم، ويسبي ذراريَّهم، ويسلبهم أموالهم؟
قيل: إن إسلامهم، لو كانوا أسلموا، كان أحبَّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه، حتى يستحقوا ذلك من الله. وإنما وصفه الله جل ثناؤه بأنه عزيزٌ عليه عنتهم, لأنه كان عزيزًا عليه أن يأتوا ما يُعنتهم، وذلك أن يضلُّوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي.
وأما « ما » التي في قوله: ( ما عنتم ) ، فإنه رفع بقوله: ( عزيز عليه ) ، لأن معنى الكلام ما ذكرت: عزيز عليه عنتكم.
وأما قوله: ( حريص عليكم ) ، فإن معناه: ما قد بيَّنت, وهو قول أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( حريص عليكم ) ، حريص على ضالهم أن يهديه الله.
17510م- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة في قوله: ( حريص عليكم ) ، قال: حريص على من لم يسلم أن يسلم.
القول في تأويل قوله : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( 129 )
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن تولى، يا محمد، هؤلاء الذين جئتهم بالحق من عند ربك من قومك, فأدبروا عنك ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله، وما دعوتهم إليه من النور والهدى ( فقل حسبي الله ) , يكفيني ربي ( لا إله إلا هو ) ، لا معبود سواه ( عليه توكلت ) ، وبه وثقت, وعلى عونه اتكلت, وإليه وإلى نصره استندت, فإنه ناصري ومعيني على من خالفني وتولى عني منكم ومن غيركم من الناس ( وهو رب العرش العظيم ) ، الذي يملك كلَّ ما دونه, والملوك كلهم مماليكه وعبيده.
وإنما عنى بوصفه جل ثناؤه نفسه بأنه رب العرش العظيم, الخبرَ عن جميع ما دونه أنهم عبيده، وفي ملكه وسلطانه، لأن « العرش العظيم » ، إنما يكون للملوك, فوصف نفسه بأنه « ذو العرش » دون سائر خلقه، وأنه الملك العظيم دون غيره، وأن من دونه في سلطانه وملكه، جارٍ عليه حكمه وقضاؤه.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( فإن تولوا فقل حسبي الله ) ، يعني الكفار، تولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه في المؤمنين.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عبيد بن عمير قال: كان عمر رحمة الله عليه لا يُثْبت آيةً في المصحف حتى يَشْهَدَ رجلان, فجاء رجل من الأنصار بهاتين الآيتين: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ، فقال عمر: لا أسألك عليهما بيّنةً أبدًا, كذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم!
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس, عن زهير, عن الأعمش, عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله رحيم يحبّ كل رحيم, يضع رحمته على كل رحيم. قالوا: يا رسول الله، إنا لنرحم أنفسنا وأموالنا قال: وأراه قال: وأزواجنا ؟ قال: ليس كذلك, ولكن كونوا كما قال الله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . أراهُ قرأ هذه الآية كلها.
حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة, عن علي بن زيد, عن يوسف, عن ابن عباس, عن أبيّ بن كعب قال: آخر آية نـزلت من القرآن: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ، إلى آخر الآية.
حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا شعبة, عن علي بن زيد, عن يوسف بن مهران, عن ابن عباس, عن أبيّ قال: آخر آية نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، الآية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن علي بن زيد, عن يوسف بن مهران, عن أبيّ قال: أحدثُ القرآن عهدًا بالله هاتان الآيتان: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ، إلى آخر الآيتين.
حدثني أبو كريب قال، حدثنا يونس بن محمد قال، حدثنا أبان بن يزيد العطار, عن قتادة, عن أبي بن كعب قال: أحدث القرآن عهدًا بالله، الآيتان: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، إلى آخر السورة.
آخر تفسير سورة التوبة
تم الجزء الرابع عشر من تفسير الطبري
ويليه الجزء الخامس عشر وأوله :
تفسير السورة التي يذكر فيها يونس
المصحف الإلكتروني www.e-quran.com. جميع الحقوق محفوظة.