فهرس تفسير الطبري للسور
11 - تفسير الطبري سورة هود
تفسير سورة هود تفسير
السورة التي يذكر فيها هود
بسم الله الرحمن الرحيم القول
في تأويل قوله تعالى : الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ
لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ( 1 ) قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله : (
الر ) ، والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده
، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله: ( كتاب أحكمت آياته ) ، يعني: هذا الكتاب الذي
أنـزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن. ورفع قوله: « كتاب » بنيّة: « هذا كتاب » . فأما على قول
من زعم أن قوله: ( الر ) ، مرادٌ به سائر حروف المعجم التي نـزل بها القرآن، وجعلت
هذه الحروف دلالةً على جميعها، وأن معنى الكلام: « هذه الحروف كتاب أحكمت آياته » فإن
الكتاب على قوله ، ينبغي أن يكون مرفوعًا بقوله: ( الر ) . وأما قوله: ( أحكمت آياته ثم فصلت )
، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: تأويله: أحكمت آياته بالأمر
والنهي، ثم فصلت بالثَّواب والعقاب.
ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا
هشيم، قال، أخبرني أبو محمد الثقفي، عن الحسن في قوله: ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت
) ، قال: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالثواب والعقاب. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا عبد الكريم
بن محمد الجرجاني، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن: ( الر كتاب أحكمت آياته ) ، قال:
أحكمت في الأمر والنهى ، وفصلت بالوعيد.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن
الزبير، عن ابن عيينة، عن رجل، عن الحسن: ( الر كتاب أحكمت آياته ) ، قال: بالأمر
والنهي ( ثم فصلت ) ، قال: بالثواب والعقاب. وروي عن الحسن قولٌ خلاف هذا. وذلك ما:- حدثنا القاسم
قال ، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن أبي بكر، عن الحسن، قال وحدثنا
عباد بن العوام، عن رجل، عن الحسن قال: ( أحكمت ) ،
بالثواب والعقاب ( ثم فصلت ) ، بالأمر والنهي. وقال آخرون: معنى ذلك: ( أحكمت آياته )
من الباطل، ثم فصلت، فبين منها الحلال والحرام. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) ،
أحكمها الله من الباطل ، ثم فصلها بعلمه، فبيّن حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته. حدثنا محمد بن
عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( أحكمت آياته ثم فصلت ) ، قال: أحكمها
الله من الباطل، ثم فَصَّلها، بيَّنها.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قولُ من
قال: معناه: أحكم الله آياته من الدَّخَل والخَلَل والباطل، ثم فصَّلها بالأمر
والنهي. وذلك أن « إحكام الشيء » إصلاحه وإتقانه و « إحكام آيات القرآن » إحكامها من
خلل يكون فيها ، أو باطل يقدر ذو زيغ أن يطعن فيها من قِبَله. وأما « تفصيل آياته » فإنه تمييز بعضها
من بعض، بالبيان عما فيها من حلال وحرام ، وأمرٍ ونهي. وكان بعض المفسرين يفسر قوله: ( فصلت )
، بمعنى: فُسِّرت، وذلك نحو الذي قلنا فيه من القول. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى قال ، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ( ثم فصلت
) ، قال: فُسِّرت . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: ( فصلت ) ، قال: فُسّرت. . . . . قال، حدثنا محمد بن بكر، عن
ابن جريج قال، بلغني عن مجاهد: ( ثم فصلت ) ، قال: فسّرت . حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة
قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا
عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقال قتادة: معناه: بُيِّنَتْ، وقد
ذكرنا الرواية بذلك قبلُ، وهو شبيه المعنى بقول مجاهد. وأما قوله: ( من لدن حكيم خبير ) ، فإن
معناه: ( حكيم ) بتدبير الأشياء وتقديرها، خبير بما تؤول إليه عواقبُها. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: ( من لدن حكيم خبير ) ، يقول: من
عند حكيم خبير. القول في تأويل قوله تعالى : أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ
إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ( 2 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ثم
فُصّلت بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له ، وتخلعوا الآلهة والأنداد. ثم قال
تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل ، يا محمد ، للناس ( إنني لكم ) ،
من عند الله ( نذير ) ينذركم عقابه على معاصيه وعبادة الأصنام ( وبشير ) ، يبشركم
بالجزيل من الثواب على طاعته وإخلاص العبادة والألُوهَةِ له. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ( 3 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ثم
فصلت آياته ، بأن لا تعبدوا إلا الله ، وبأن استغفروا ربكم. ويعني بقوله: ( وأن
استغفروا ربكم ) ، وأن اعملوا أيها الناس من الأعمال ما يرضي ربكم عنكم، فيستر
عليكم عظيمَ ذنوبكم التي ركبتموها بعبادتكم الأوثان والأصنام ، وإشراككم الآلهة
والأنداد في عبادته. وقوله: ( ثم توبوا إليه ) ، يقول: ثم ارجعوا إلى ربكم بإخلاص
العبادة له دون ما سواه من سائر ما تعبدون من دونه بعد خلعكم الأنداد وبراءتكم من عبادتها. ولذلك قيل: ( وأن
استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) ، ولم يقل: « وتوبوا إليه » ،
لأن « التوبة » معناها الرجوع إلى العمل بطاعة الله، والاستغفار: استغفار من الشرك
الذي كانوا عليه مقيمين، والعملُ لله لا يكون عملا له إلا بعد ترك الشرك به، فأما
الشرك فإنّ عمله لا يكون إلا للشيطان، فلذلك أمرهم تعالى ذكره بالتوبة إليه بعد
الاستغفار من الشرك، لأن أهل الشرك كانوا يرون أنهم يُطِيعون الله بكثير من
أفعالهم ، وهم على شركهم مقيمون.
وقوله: ( يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى ) ، يقول
تعالى ذكره للمشركين الذين خاطبهم بهذه الآيات: استغفروا ربكم ثم توبوا إليه،
فإنكم إذا فعلتم ذلك بسط عليكم من الدنيا ورزقكم من زينتها، وأنسأ لكم في آجالكم
إلى الوقت الذي قضى فيه عليكم الموت.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى
) ، فأنتم في ذلك المتاع ، فخذوا بطاعة الله ومعرفة حقّه، فإن الله منعم يحبّ
الشاكرين ، وأهل الشكر في مزيدٍ من الله، وذلك قضاؤه الذي قضى. وقوله: ( إلى أجل
مسمى ) ، يعني الموت. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: ( إلى أجل مسمى ) ، قال: الموت. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( إلى أجل مسمى ) ، وهو الموت . حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق
قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: ( إلى أجل مسمى ) ، قال: الموت. وأما قوله: ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) ،
فإنه يعني: يثيب كل من تفضَّل بفضل ماله أو قوته أو معروفه على غيره محتسبًا بذلك
، مريدًا به وجه الله أجزلَ ثوابه وفضله في الآخرة، كما:- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) ،
قال: ما احتسب به من ماله، أو عمل بيده أو رجله، أو كَلِمة، أو ما تطوَّع به من
أمره كله. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد قال . . . . وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد ، بنحوه إلا أنه قال: أو عملٍ بيديه أو رجليه وكلامه، وما تطوَّل
به من أمره كله. حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج،
عن مجاهد بنحوه إلا أنه قال: وما نطق به من أمره كله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة: ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) ، أي : في الآخرة. وقد روي عن ابن
مسعود أنه كان يقول في تأويل ذلك ما:-
حدثت به عن المسيب بن شريك، عن أبي بكر، عن سعيد بن
جبير، عن ابن مسعود، في قوله: ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) ، قال: من عمل سيئة كتبت
عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في
الدنيا بقيت له عشر حسنات. وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة
، وبقيت له تسع حسنات. ثم يقول: هلك من غلب آحادُه أعشارَه !! وقوله: ( وإن تولوا فإني أخاف عليكم
عذاب يوم كبير ) ، يقول تعالى ذكره:
وإن أعرضوا عما دعوتُهم إليه ، من إخلاص العبادة لله ،
وترك عبادة الآلهة ، وامتنعوا من الاستغفار لله والتوبة إليه ، فأدبروا مُوَلِّين
عن ذلك، ( فإني ) ، أيها القوم ، ( أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) شأنُه , عظيمٍ هَوْلُه،
وذلك يوم تجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون. وقال جل ثناؤه: ( وإن تولوا فإني أخاف
عليكم عذاب يوم كبير ) ، ولكنه مما قد تقدّمه قولٌ، والعرب إذا قدَّمت قبل الكلام
قولا خاطبت ، ثم عادت إلى الخبر عن الغائب ، ثم رجعت بعدُ إلى الخطاب، وقد بينا
ذلك في غير موضع ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى : إِلَى
اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 4 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (
إلى الله ) ، أيها القوم ، مآبكم ومصيركم، فاحذروا عقابه إن توليتم عما أدعوكم
إليه من التوبة إليه من عبادتكم الآلهة والأصنام، فإنه مخلدكم نارَ جهنم إن هلكتم
على شرككم قبل التوبة إليه ( وهو على كل شيء قدير ) ، يقول: وهو على إحيائكم بعد مماتكم،
وعقابكم على إشراككم به الأوثانَ وغير ذلك مما أراد بكم وبغيركم قادرٌ. القول في تأويل
قوله تعالى : أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا
حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 5 ) قال أبو جعفر : اختلفت القراء في
قراءة قوله: ( ألا أنهم يثنون صدورهم
) ، فقرأته
عامة الأمصار: ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) ، على تقدير « يفعلون »
من « ثنيت » ، و « الصدور » منصوبة.
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: ذلك كان
من فعل بعض المنافقين ، كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم غطَّى وجهه
وثَنَى ظهره. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن
حصين، عن عبد الله بن شداد في قوله: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين
يستغشون ثيابهم ) ، قال: كان أحدهم إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم قال
بثوبه على وجهه ، وثنى ظهره. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
حصين، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قوله: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ) ، قال: من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: كان
المنافقون إذا مرُّوا به ثنى أحدهم صدره ، ويطأطئ رأسه. فقال الله: ( ألا إنهم
يثنون صدورهم ) ، الآية. حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون
قال ، حدثنا هشيم، عن حصين قال: سمعت عبد الله بن شداد يقول في قوله: ( يثنون
صدورهم ) ، قال: كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثَنَى صدره،
وتغشَّى بثوبه ، كي لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: بل كانوا يفعلون ذلك جهلا
منهم بالله وظنًّا أن الله يخفى عليه ما تضمره صدورهم إذا فعلوا ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن
عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يثنون
صدورهم ) قال: شكًّا وامتراءً في الحق، ليستخفوا من الله إن استطاعوا. حدثني المثنى قال
، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يثنون صدورهم )
، شكًّا وامتراءً في الحق. ( ليستخفوا منه ) ،
قال: من الله إن استطاعوا. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن نجيح،
عن مجاهد: ( يثنون صدورهم ) ، قال: تضيق شكًّا . حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ،
حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يثنون صدورهم ) ، قال:
تضيق شكًّا وامتراءً في الحق. قال: ( ليستخفوا منه ) ، قال: من الله إن استطاعوا حدثنا
القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه. حدثنا محمد بن
بشار قال ، حدثنا هوذة قال ، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه
ألا حين يستغشون ثيابهم ) ، قال: من جهالتهم به، قال الله: ( ألا حين يستغشون
ثيابهم ) ، في ظلمة الليل ، في أجواف بيوتهم ( يعلم ) ، تلك الساعة ( ما يسرون وما
يعلنون إنه عليم بذات الصدور )
. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور،
عن أبي رزين: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم ) ،
قال: كان أحدهم يحني ظهره ، ويستغشي بثوبه. وقال آخرون: إنما كانوا يفعلون ذلك
لئلا يسمعوا كتاب الله . ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة
: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ) الآية، قال: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب
الله، قال تعالى: ( ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ) وذلك أخفى
ما يكون ابن آدم ، إذا حنى صدره واستغشى بثوبه ، وأضمر همَّه في نفسه، فإن الله لا
يخفى ذلك عليه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة: ( يستغشون ثيابهم ) ، قال: أخفى ما يكون الإنسان إذا أسرَّ في نفسه شيئًا وتغطَّى
بثوبه، فذلك أخفى ما يكون، والله يطلع على ما في نفوسهم، والله يعلم ما يسرُّون
وما يعلنون. وقال آخرون: إنما هذا إخبارٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن المنافقين
الذين كانوا يضمرون له العداوة والبغضاء ، ويبدون له المحبة والمودة، أنهم معه
وعلى دينه. يقول جل ثناؤه: ألا إنهم يطوون صدورهم على الكفر ليستخفوا من الله، ثم
أخبر جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرائرهم وعلانيتهم. وقال آخرون: كانوا يفعلون ذلك إذا ناجى
بعضهم بعضًا. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (
ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ) ، قال: هذا حين يناجي بعضهم بعضًا. وقرأ: ( ألا حين
يستغشون ثيابهم ) الآية. وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: ( أَلا إِنَّهُمْ
تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ ) ، على مثال: « تَحْلَولِي الثمرة » ، « تَفْعَوْعِل » . حدثنا . . .
قال ، حدثنا أبو أسامة، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس يقرأ ( أَلا إِنَّهُمْ
تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ ) ، قال:
كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم
، كراهة أن يُفْضُوا بفروجهم إلى السماء. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول، سمعت ابن عباس
يقرؤها: ( أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ ) ، قال: سألته عنها فقال: كان
ناس يستحيون أن يتخلَّوا فيُفْضُوا إلى السماء، وأن يصيبوا فيْفضُوا إلى السماء. وروي عن ابن عباس
في تأويل ذلك قول آخر، وهو ما:-
حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور،
عن معمر قال، أخبرت ، عن عكرمة: أن ابن عباس قرأ ( أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي
صُدُورُهُمْ ) ، وقال ابن عباس: « تثنوني صدورهم » ،
الشكُّ في الله ، وعمل السيئات
( يستغشون ثيابهم ) ، يستكبر، أو يستكنّ من الله ، والله
يراه، يعلم ما يسرُّون وما يعلنون.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال،
أخبرنا معمر، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قرأ: ( أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَونِي
صُدُورُهُمْ ) ، قال عكرمة: « تثنوني صدورهم » ، قال:
الشك في الله ، وعمل السيئات، فيستغشي ثيابه ، ويستكنّ من الله، والله يراه ويعلم
ما يسرُّون وما يعلنون قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه
قراء الأمصار، وهو: ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) ، على مثال « يفعلون »
، و « الصدور » نصب ، بمعنى: يحنون صدورهم ويكنُّونها، كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن
صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( يثنون صدورهم ) ، يقول:
يكنُّون. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن
أبيه، عن ابن عباس قوله: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ) ، يقول: يكتمون ما في قلوبهم ( ألا حين يستغشون
ثيابهم ) ، يعلم ما عملوا بالليل والنهار. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا
معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ألا إنهم يثنون صدورهم )
، يقول: ( تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ
) . قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي تأوّله الضحاك على
مذهب قراءة ابن عباس، إلا أن الذي حدثنا ، هكذا ذكر القراءة في الرواية. فإذا كانت
القراءة التي ذكرنا أولى القراءتين في ذلك بالصواب ، لإجماع الحجة من القراء
عليها. فأولى التأويلات بتأويل ذلك، تأويلُ من قال: إنهم كانوا يفعلون ذلك جهلا
منهم بالله أنه يخفى عليه ما تضمره نفوسهم ، أو تناجوه بينهم. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية،
لأن قوله: ( ليستخفوا منه ) ، بمعنى: ليستخفوا
من الله، وأن الهاء في قوله، ( منه ) ، عائدة على اسم الله، ولم يجر لمحمّدٍ ذكر
قبلُ ، فيجعل من ذكره صلى الله عليه وسلم وهي في سياق الخبر عن الله. فإذا كان ذلك
كذلك ، كانت بأن تكون من ذكر الله أولى.
وإذا صحّ أن ذلك كذلك، كان معلومًا أنهم لم يحدِّثوا
أنفسهم أنهم يستخفون من الله ، إلا بجهلهم به. فأخبرهم جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه
سرُّ أمورهم وعلانيتها على أيّ حالٍ كانوا ، تغشَّوا بالثياب ، أو أظهروا
بالبَرَاز، فقال: ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) ، يعني: يتغشَّون ثيابهم ، يتغطونها ويلبسون. يقال منه: «
استغشى ثوبه وتغشّاه » ، قال الله: وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ [ سورة نوح: 7 ] ،
وقالت الخنساء: أَرْعَـى النُّجُـومَ وَمَـا كُـلِّفْتُ رِعْيَتَهَا وَتَــارَةً
أَتَغَشَّــى فَضْـلَ أَطْمَـارِي (
يعلم ما يسرون ) ، يقول جل ثناؤه: يعلم ما يسرُّ هؤلاء
الجهلة بربهم، الظانُّون أن الله يخفى عليه ما أضمرته صدورهم إذا حنوها على ما
فيها ، وثنوها، وما تناجوه بينهم فأخفوه ( وما يعلنون ) ، سواء عنده سرائرُ عباده وعلانيتهم
( إنه عليم بذات الصدور ) ، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بكل ما أخفته صدور
خلقه ، من إيمان وكفر ، وحق وباطل ، وخير وشر، وما تستجنُّه مما لم تُجنُّه بعدُ،
كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية، عن علي، عن ابن
عباس: ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) ، يقول: يغطون رءوسهم. قال أبو جعفر: فاحذروا أن يطلع عليكم
ربكم وأنتم مضمرون في صُدُوركم الشكّ في شيء من توحيده أو أمره أو نهيه، أو فيما
ألزمكم الإيمان به والتصديق، فتهلكوا باعتقادكم ذلك. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا
مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 6 ) قال أبو جعفر :
يعني تعالى ذكره بقوله: ( وما من دابّة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، وما تدبّ
دابّة في الأرض . و « الدابّة » « الفاعلة » ، من دبّ فهو يدبّ، وهو دابٌّ، وهي
دابّة. ( إلا على الله رزقها ) ، يقول: إلا ومن الله رزقها الذي يصل إليها ، هو به متكفل،
وذلك قوتها وغذاؤها وما به عَيْشُها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال
، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد، في قوله: ( وما من
دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، قال: ما جاءها من رزقٍ فمن الله، وربما لم
يرزقها حتى تموت جوعًا، ولكن ما كان من رزقٍ فمن الله. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال،
حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( وما من دابة في الأرض
إلا على الله رزقها ) ، قال: كل دابة حدثت
عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت
الضحاك يقول في قوله: ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، يعني: كلّ دابة ، والناسُ منهم. وكان بعض أهل
العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن كل مالٍ فهو « دابة » وأن معنى الكلام: وما دابة في الأرض
وأن « من » زائدة. وقوله: ( ويعلم مستقرها ) ، حيث تستقر فيه، وذلك مأواها الذي
تأوي إليه ليلا أو نهارًا ( ومستودعها ) الموضع الذي يودعها، إما بموتها ، فيه ،
أو دفنها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا ابن التيمي، عن ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: (
مستقرها ) حيث تأوي ( ومستودعها ) ، حيث تموت. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن
صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ويعلم مستقرها ) ، يقول: حيث
تأوى ( ومستودعها ) ، يقول: إذا ماتت. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي، عن ليث، عن الحكم، عن
مقسم، عن ابن عباس: ( يعلم مستقرها ومستودعها ) ، قال: « المستقر » ، حيث تأوي و « المستودع » ،
حيث تموت. وقال آخرون: ( مستقرّها ) ، في الرحم ( ومستودعها ) ، في الصلب. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى قال
، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ويعلم مستقرها )
، في الرحم ( ومستودعها ) ، في الصلب، مثل التي في « الأنعام » . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي
قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس، قوله: ( ويعلم مستقرها
ومستودعها ) ، فالمستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب. حدثت عن الحسين
بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (
ويعلم مستقرها ) ، يقول: في الرحم ( ومستودعها ) ،
في الصلب. وقال آخرون: « المستقر » في الرحم و « المستودع » ، حيث تموت. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا أبي ويعلى، وابن فضيل، عن إسماعيل، عن إبراهيم، عن عبد الله: ( ويعلم
مستقرها ومستودعها ) ، قال: « مستقرها » ، الأرحام و « مستودعها » : الأرض التي تموت فيها. . . . . قال،
حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله: ( ويعلم مستقرها ومستودعها ) ، «
المستقر » الرحم، و « المستودع » المكان الذي تموت فيه. وقال آخرون : ( مستقرها ) ، أيام
حياتها ( ومستودعها ) ، حيث تموت فيه.
ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ،
حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس قوله: ( ويعلم
مستقرها ومستودعها ) ، قال: ( مستقرها ) ، أيام حياتها، و ( مستودعها ) : حيث تموت ، ومن حيث
تبعث. قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه، لأن الله جل ثناؤه أخبر
أن ما رزقت الدواب من رزق فمنه، فأولى أن يتبع ذلك أن يعلم مثواها ومستقرها دون
الخبر عن علمه بما تضمنته الأصلاب والأرحام. ويعني بقوله: ( كل في كتاب ) ، [ مبين
] ، عدد كل دابة، ومبلغ أرزاقها ، وقدر قرارها في مستقرها، ومدة لبثها في
مستودعها. كل ذلك في كتاب عند الله مثبت مكتوب ( مبين ) ، يبين لمن قرأه أن ذلك
مثبت مكتوب قبل أن يخلقها ويوجدها.
وهذا إخبارٌ من الله جل ثناؤه الذين كانوا يثنون صدورهم
ليستخفوا منه ، أنه قد علم الأشياء كلها، وأثبتها في كتاب عنده قبل أن يخلقها
ويوجدها ، يقول لهم تعالى ذكره: فمن كان قد علم ذلك منهم قبل أن يوجدهم، فكيف يخفى
عليه ما تنطوي عليه نفوسهم إذا ثنوا به صدورهم ، واستغشوا عليه ثيابهم؟ القول في
تأويل قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ
لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 7 ) قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره: الله الذي إليه مرجعكم أيها الناس جميعًا ، ( وهو الذي خلق
السماوات والأرض في ستة أيام ) ، يقول: أفيعجز من خلق ذلك من غير شيء أن يعيدكم
أحياءً بعد أن يميتكم؟ وقيل: إن الله تعالى ذكره خلق السموات والأرض وما فيهن في
الأيام الستة، فاجتُزِئَ في هذا الموضع بذكر خلق السموات والأرض ، من ذكر خلق ما
فيهنّ. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال،
أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة، عن أبي
هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم
السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه
يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثّ فيها من كل دابة يوم الخميس، وخلق
آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعات الجمعة ، فيما بين العصر
إلى الليل . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( في
ستة أيام ) ، قال: بدأ خلق الأرض في يومين، وقدّر فيها أقواتها في يومين. حدثنا ابن حميد
قال ، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن كعب قال: بدأ الله خلق السموات
والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وفرغ منها يوم الجمعة ،
فخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة . قال : فجعل مكان كل يوم ألف سنة. وحدثت عن المسيب
بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) ،
قال: من أيام الآخرة، كل يوم مقداره ألف سنة . ابتدأ في الخلق يوم الأحد، وختم الخلق
يوم الجمعة ، فسميت « الجمعة » ، وسَبَت يوم السبت
فلم يخلق شيئًا وقوله: ( وكان عرشه على الماء ) ، يقول: وكان عرشه على الماء قبل
أن يخلق السموات والأرض وما فيهن ، كما:-
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( وكان عرشه على الماء ) ، قبل أن
يخلق شيئًا . حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، نحوه. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: (
وكان عرشه على الماء ) ، ينبئكم ربكم تبارك وتعالى كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق
السموات والأرض. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة: ( وكان عرشه على الماء ) ، قال: هذا بدء خلقه قبل أن يخلق السماء والأرض. حدثني المثنى قال
، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد، عن يعلى بن عطاء. عن وكيع بن حُدُس، عن عمه أبي
رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربُّنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟
قال: في عَمَاءٍ ، ما فوقه هواء ، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء. حدثنا ابن وكيع ،
ومحمد بن هارون القطان الرازقي قالا حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن
يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حُدُس، عن عمه أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله ، أين
كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عَماء ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم
خلق عرشه على الماء . حدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل قال، أخبرنا
المسعودي قال، أخبرنا جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن ابن حصين ، وكان من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتى قومٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم،
فدخلوا عليه، فجعل يبشِّرهم ويقولون: أعطنا ! حتى ساء ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ثم خرجوا من عنده. وجاء قوم آخرون فدخلوا عليه، فقالوا: جئنا نسلّم على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، ونتفقه في الدين، ونسأله عن بدء هذا الأمر؟ قال: فاقبلوا البشرى إذ لم
يقبلها أولئك الذين خرجوا ! قالوا: قبلنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان الله
ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر قبل كل شيء، ثم خلق سبع سماوات
. ثم أتاني آت فقال: تلك ناقتك قد ذهبت، فخرجتُ ينقطع دونها السَّراب ، ولوددتُ أنّي
تركتها. حدثنا محمد بن منصور قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان قال ، حدثنا عمرو بن أبي
قيس، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:
( وكان عرشه على الماء ) ، قال: كان عرش الله على الماء ، ثم اتخذ لنفسه جنّةً، ثم
اتخذ دونها أخرى، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة قال: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ، [
سورة الرحمن: 62 ] ، قال: وهي التي ( لا تعلم نفس ) أو قال: وهما التي لا تعلم نفس
مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، [
سورة السجدة: 17 ] . قال: وهي التي لا تعلم الخلائق ما فيها أو : ما فيهما يأتيهم كل يوم
منها أو : منهما تحفة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن
المنهال، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قول الله: ( وكان عرشه على الماء )
، قال: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا
محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير قال: سُئل ابن عباس عن قوله: (
وكان عرشه على الماء ) ، على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. حدثنا القاسم قال
، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد، عن ابن عباس، مثله. . . . . قال،
حدثنا الحسين قال ، حدثنا مبَشّر الحلبي، عن أرطاة بن المنذر قال: سمعت ضمرة يقول:
إن الله كان عرشه على الماء، وخلق السموات والأرض بالحق، وخلق القلم فكتب به ما هو
خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبّح الله ومجّده ألف عام قبل أن يخلق
شيئًا من الخلق. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد
الكريم قال حدثني عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن العرش كان قبل
أن يخلق الله السموات والأرض، ثم قبض من صَفاة الماء [ قبضة ] ، ثم فتح القبضة فارتفع
دخانًا ، ثم قضاهُنّ سبع سماوات في يومين. ثم أخذ طينة من الماء فوضعها مكان
البيت، ثم دحا الأرض منها، ثم خلق الأقوات في يومين والسموات في يومين وخلق الأرض
في يومين، ثم فرغ من آخر الخلق يوم السابع. وقوله: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ،
يقول تعالى ذكره: وهو الذي خلق السموات والأرض أيها الناس، وخلقكم في ستة أيام (
ليبلوكم ) ، يقول: ليختبركم ( أيكم أحسن عملا ) ، يقول: أيكم أحسن له طاعة ، كما:- حدثنا عن داود
بن المحبر قال ، حدثنا عبد الواحد بن زيد، عن كليب بن وائل، عن عبد الله بن عمر،
عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه تلا هذه الآية: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ، قال:
أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله ؟ حدثنا القاسم قال ،
حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ، يعني
الثقلين. وقوله: ( ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا
سحر مبين ) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن قلت لهؤلاء
المشركين من قومك: إنكم مبعوثون أحياء من بعد مماتكم! فتلوت عليهم بذلك تنـزيلي
ووحيي ( ليقولن إن هذا إلا سحر مبين ) ، أي : ما هذا الذي تتلوه علينا مما تقول ،
إلا سحر لسامعه، مبينٌ لسامعه عن حقيقته أنه سحر. وهذا على تأويل من قرأ ذلك: ( إِنْ
هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) ، وأما من قرأ: (
إِنْ هَذَا إِلا سَاحِرٌ مُبِينٌ ) ، فإنه يوجّه الخبر بذلك عنهم إلى أنهم وَصَفوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه فيما أتاهم به من ذلك ساحرٌ مبين. قال أبو جعفر:
وقد بينا الصواب من القراءة في ذلك في نظائره ، فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته
ههنا. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى
أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ
مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 8 ) قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره: ولئن أخرنا عن هؤلاء المشركين من قومك ، يا محمد ، العذابَ فلم
نعجله لهم، وأنسأنا في آجالهم إلى ( أمة معدودة ) ،
ووقت محدود وسنين معلومة. وأصل « الأمة » ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا ، أنها
الجماعة من الناس تجتمع على مذهب ودين، ثم تستعمل في معان كثيرة ترجع إلى معنى
الأصل الذي ذكرت. وإنما قيل للسنين « المعدودة » والحين ، في هذا الموضع ونحوه :
أمة، لأن فيها تكون الأمة. وإنما معنى الكلام: ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى مجيء أمة
وانقراض أخرى قبلها. وبنحو الذي قلنا من أن معنى « الأمة » في هذا الموضع، الأجل
والحين ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن وحدثني
المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم، عن أبي رزين، عن
ابن عباس. وحدثنا الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن
عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس: ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) ، قال: إلى أجل محدود. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس، بمثله. حدثنا محمد بن
عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : ( إلى أمة معدودة ) ، قال: أجل معدود. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: إلى أجل معدود. حدثني محمد بن
عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إلى
أمة معدودة ) ، قال: إلى حين. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. . .
. . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج: ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) ، يقول: أمسكنا عنهم العذاب
( إلى أمة معدودة ) ، قال ابن جريج، قال مجاهد: إلى حين. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال،
حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( ولئن أخرنا عنهم العذاب
إلى أمة معدودة ) ، يقول: إلى أجل معلوم. وقوله: ( ليقولن ما يحبسه ) ، يقول: «
ليقولن » هؤلاء المشركون « ما يحبسه
» ؟ أي شيء
يمنعه من تعجيل العذاب الذي يتوعَّدنا به؟ تكذيبًا منهم به، وظنًّا منهم أن ذلك
إنَّما أخر عنهم لكذب المتوعّد كما:-
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال قوله: ( ليقولن ما يحبسه ) ، قال: للتكذيب به، أو أنه ليس بشيء. وقوله: ( ألا يوم
يأتيهم ليس مصروفًا عنهم ) ، يقول تعالى ذكره تحقيقًا لوعيده وتصحيحًا لخبره: (
ألا يوم يأتيهم ) العذابُ الذي يكذبون به ( ليس مصروفًا عنهم ) ، يقول: ليس يصرفه
عنهم صارف، ولا يدفعه عنهم دافع، ولكنه يحل بهم فيهلكهم ( وحاق بهم ما كانوا به
يستهزئون ) ، يقول: ونـزل بهم وأصابهم الذي كانوا به يسخرون من عذاب الله. وكان
استهزاؤُهم به الذي ذكره الله ، قيلهم قبل نـزوله ( ما يحبسه ) ،و « هلا تأتينا »
؟. وبنحو
الذي قلنا في ذلك كان بعض أهل التأويل يقول. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة
قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) ،
قال: ما جاءت به أنبياؤهم من الحق.
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نـزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ
( 9 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن أذَقنا الإنسان منّا رخاء وسعةً في الرزق
والعيش، فبسطنا عليه من الدنيا وهي « الرحمة » التي ذكرها تعالى ذكره في هذا
الموضع ( ثم نـزعناها منه ) ، يقول: ثم سلبناه ذلك، فأصابته مصائب أجاحته فذهبت به
( إنه ليئوس كفور ) ، يقول: يظل قَنِطًا من رحمة الله ، آيسًا من الخير. وقوله: « يئوس »
، « فعول » ، من قول القائل: « يئس فلان من كذا ، فهو يئوس » ،
إذا كان ذلك صفة له. . وقوله: « كفور » ، يقول: هو كفُور لمن أنعم عليه، قليل الشكر
لربّه المتفضل عليه ، بما كان وَهَب له من نعمته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن
جريج: ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نـزعناها منه إنه ليئوس كفور ) ، قال: يا
ابن آدم ، إذا كانت بك نعمة من الله من السعة والأمن والعافية ، فكفور لما بك منها،
وإذا نـزعت منك نبتغي قَدْعك وعقلك فيئوس من روح الله، قنوطٌ من رحمته، كذلك المرء
المنافق والكافر. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ
بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ
فَخُورٌ ( 10 ) إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 11 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن
نحن بسطنا للإنسان في دنياه، ورزقناه رخاءً في عيشه، ووسعنا عليه في رزقه ، وذلك
هي النّعم التي قال الله جل ثناؤه: ( وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ ) وقوله: (
بعد ضراء مسته ) ، يقول: بعد ضيق من العيش كان فيه ،
وعسرة كان يعالجها ( لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ) ، يقول تعالى
ذكره: ليقولن عند ذلك: ذهب الضيق والعسرة عني، وزالت الشدائد والمكاره ( إنه لفرح
فخور ) ، يقول تعالى ذكره: إن الإنسان لفرح بالنعم التي يعطاها مسرور بها ( فخور ) ، يقول:
ذو فخر بما نال من السعة في الدنيا ، وما بسط له فيها من العيش، وينسى صُرُوفها ،
ونكدَ العَوَائص فيها، ويدع طلب النعيم الذي يبقى ، والسرور الذي يدوم فلا يزول. حدثنا القاسم قال
، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: ( ذهب السيئات عني ) ، غِرَّةً بالله
وجراءة عليه ( إنه لفرح ) ، والله لا يحب الفرحين ( فخور ) ، بعد ما أعطي ، وهو لا
يشكر الله. ثم استثنى جل ثناؤه من الإنسان الذي وصفه بهاتين الصفتين: « الذين صبروا وعملوا
الصالحات » . وإنما جاز استثناؤهم منه لأن « الإنسان » بمعنى الجنس ومعنى الجمع.
وهو كقوله: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ ، [ سورة العصر: 1- 3
] ، فقال تعالى
ذكره: ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ) ، فإنهم إن تأتهم شدّة من الدنيا وعسرة
فيها ، لم يثنهم ذلك عن طاعة الله، ولكنهم صبروا لأمره وقضائه. فإن نالوا فيها
رخاء وسعةً ، شكروه وأدَّوا حقوقه بما آتاهم منها. يقول الله: ( أولئك لهم مغفرة )
يغفرها لهم، ولا يفضحهم بها في معادهم ( وأجر كبير ) ، يقول: ولهم من الله مع
مغفرة ذنوبهم ، ثوابٌ على أعمالهم الصالحة التي عملوها في دار الدنيا، جزيلٌ،
وجزاءٌ عظيم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( إلا الذين
صبروا ) ، عند البلاء ، ( وعملوا الصالحات ) ، عند النعمة ( أولئك لهم مغفرة ) ،
لذنوبهم ( وأجر كبير ) ، قال: الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى : فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ
مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنـزلَ
عَلَيْهِ كَنـز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 12 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
فلعلك يا محمد ، تارك بعض ما يوحي إليك ربك أن تبلغه من أمرك بتبليغه ذلك، وضائقٌ بما
يوحى إليك صدرُك فلا تبلغه إياهم ، مخافة ( أن يقولوا لولا أنـزل عليه كنـز أو جاء
معه ملك ) ، له مصدّق بأنه لله رسول ! يقول تعالى ذكره: فبلغهم ما أوحيته إليك،
فإنك إنما أنت نذير تُنْذرهم عقابي ، وتحذرهم بأسي على كفرهم بي، وإنما الآيات
التي يسألونكها عندي وفي سلطاني ، أنـزلها إذا شئت، وليس عليك ، إلا البلاغ والإنذار
( والله على كل شيء وكيل ) ، يقول: والله القيم بكل شيء وبيده تدبيره، فانفذ لما
أمرتك به، ولا تمنعك مسألتهم إياك الآيات، من تبليغهم وحيي والنفوذ لأمري. وبنحو الذي قلنا
في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قال: قال الله لِنبيه: فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك أن تفعل
فيه ما أمرت ، وتدعو إليه كما أرسلت. قالوا: ( لولا أنـزل عليه كنـز ) ، لا نرى
معه مالا أين المال؟ ( أو جاء معه ملك ) ، ينذر معه؟ ( إنما أنت نذير ) ، فبلغ ما أمرت. القول في تأويل
قوله تعالى : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ ( 13 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
: كفاك حجةً على حقيقة ما أتيتهم به، ودلالةً على صحة نبوّتك ، هذا القرآن ، من
سائر الآيات غيره، إذ كانت الآيات إنما تكون لمن أعطيها دلالة على صدقه، لعجز جميع
الخلق عن أن يأتوا بمثلها. وهذا القرآن ، جميع الخلق عَجَزَةٌ عن أن يأتوا بمثله،
فان هم قالوا: « افتريته » ، أي : اختلقته وتكذَّبته. ودلّ على أن معنى الكلام ما ذكرنا ،
قوله: ( أم يقولون افتراه ) إلى آخر الآية. ويعني تعالى ذكره بقوله: ( أم يقولون
افتراه ) ، أي : أيقولون افتراه ؟ وقد دللنا على سبب إدخال العرب « أم » في مثل
هذا الموضع . فقل لهم: يأتوا بعشر سُور مثل هذا القرآن « مفتريات » ، يعني مفتعلات مختلقات،
إن كان ما أتيتكم به من هذا القرآن مفترًى ، وليس بآية معجزةٍ كسائر ما سُئلته من
الآيات، كالكنـز الذي قلتم: هَلا أنـزل عليه ؟ أو الملك الذي قلتم: هلا جاء معه
نذيرًا له مصدقًا ! فإنكم قومي ، وأنتم من أهل لساني، وأنا رجل منكم، ومحال أن
أقدر أخلق وحدي مائة سورة وأربع عشرة سورة، ولا تقدروا بأجمعكم أن تفتروا وتختلقوا
عشر سور مثلها، ولا سيما إذا استعنتم في ذلك بمن شئتم من الخلق. يقول جل ثناؤه:
قل لهم: وادعوا من استطعتم أن تدعوهم من دون الله يعني سوى الله، لا افتراء ذلك
واختلاقه من الآلهة، فإن أنتم لم تقدروا على أن تفتروا عشر سور مثله، فقد تبين لكم
أنكم كذبةٌ في قولكم : ( افتراه ) ، وصحّت عندكم حقيقة ما أتيتكم به أنه من عند
الله. ولم يكن لكم أن تتخيروا الآيات على ربكم، وقد جاءكم من الحجة على حقيقة ما
تكذبون به أنه من عند الله ، مثل الذي تسألون من الحجة وترغبون أنكم تصدِّقون
بمجيئها. وقوله: ( إن كنتم صادقين ) ، لقوله: ( فأتوا بعشر سور مثله ) ، وإنما هو: قل : فأتوا بعشر
سور مثله مفتريات ، إن كنتم صادقين أن هذا القرآن افتراه محمد وادعوا من استطعتم
من دون الله على ذلك ، من الآلهة والأنداد. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين، قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريح: ( أم يقولون افتراه ) ، قد قالوه ، ( قل فأتوا بعشر سور
مثله مفتريات ) . وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ، قال: يشهدون أنها مثله هكذا قال
القاسم في حديثه. القول في تأويل قوله تعالى : فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 14
) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: قل يا محمد
لهؤلاء المشركين: فإن لم يستجب لكمْ من تدعون من دون الله إلى أنْ يأتوا بعشر سور
مثل هذا القرآن مفتريات، ولم تطيقوا أنتم وهم أن تأتوا بذلك، فاعلموا وأيقنوا أنه
إنما أنـزل من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم بعلم الله وإذنه، وأن محمدًا لم
يفتره، ولا يقدر أن يفتريه ( وأن لا إله إلا هو ) ، يقول: وأيقنوا أيضًا أن لا
معبود يستحق الألوهة على الخلق إلا الله الذي له الخلق والأمر، فاخلعوا الأنداد
والآلهة ، وأفردوا له العبادة. وقد قيل: إن قوله: ( فإن لم يستجيبوا لكم ) خطاب من الله
لنبيه، كأنه قال: فإن لم يستجب لك هؤلاء الكفار ، يا محمد، فاعلموا ، أيها
المشركون ، أنما أنـزل بعلم الله وذلك تأويل بعيد من المفهوم. وقوله: ( فهل أنتم مسلمون ) ، يقول:
فهل أنتم مذعنون لله بالطاعة، ومخلصون له العبادة ، بعد ثبوت الحجة عليكم؟ وكان
مجاهد يقول: عني بهذا القول أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فهل أنتم مسلمون ) ، قال:
لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ( وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ) ، قال: لأصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد، مثله. وقيل: ( فإن لم يستجيبوا لكم ) ، والخطاب في أوّل الكلام قد
جرى لواحدٍ، وذلك قوله: قُلْ فَأْتُوا ، ولم يقل: « فإن لم يستجيبوا لك » على نحو
ما قد بينا قبلُ في خطاب رئيس القوم وصاحب أمرهم، أن العرب تخرج خطابه أحيانا مخرج
خطاب الجمع، إذا كانَ خطابه خطابًا لأتباعه وجنده، وأحيانًا مخرج خطاب الواحد ،
إذا كان في نفسه واحدًا. القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا
لا يُبْخَسُونَ ( 15 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: من كان يريد بعمله الحياة
الدنيا، وإيّاها وَزينتها يطلب به ، نوفّ إليهم أجور أعمالهم فيها وثوابها ( وهم
فيها ) يقول: وهم في الدنيا ، ( لا يبخسون ) ، يقول: لا ينقصون أجرها، ولكنهم يوفونه
فيها. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال،
حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( من كان يريد الحياة
الدنيا وزينتها ) الآية، وهي ما يعطيهم الله من الدنيا بحسناتهم ، وذلك أنهم لا
يظلمون نقيرًا. يقول: من عمل صالحًا التماس الدنيا ، صومًا أو صلاةً أو تهجدًا
بالليل، لا يعمله إلا لالتماس الدنيا ، يقول الله: أوفيه الذي التمس في الدنيا من
المثابة، وحبط عمله الذي كان يعملُ التماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير: ( من كان يريد الحياة الدنيا
وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) ، قال: ثوابَ ما عملوا في الدنيا من خير أعطوه
في الدنيا، وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صَنَعوا فيها. حدثنا ابن حميد
قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير قوله: ( من كان يريد الحياة الدنيا
وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها ) ، قال: وَزْنَ ما عملوا من خير أعطوا في
الدنيا، وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها. قال: هي مثل الآية التي
في الروم: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا
يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ، [ سورة الروم: 39 ] حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن
سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير:
( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ) ، قال: من عمل
للدنيا وُفِّيهُ في الدنيا. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ) ، قال: من عمل عملا
مما أمر الله به ، من صلاة أو صدقة ، لا يريد بها وجهَ الله ، أعطاه الله في
الدنيا ثوابَ ذلك مثلَ ما أنفق ، فذلك قوله: ( نوفّ إليهم أعمالهم فيها ) ، في الدنيا،
( وهم فيها لا يبخسون ) ، أجر ما عملوا فيها، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ
فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا ، الآية. حدثنا الحسن بن
يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عيسى يعني ابن ميمون عن مجاهد
في قوله: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ) ،
قال: ممن لا يقبل منه ، جُوزِي به ، يُعطَى ثوابَه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان،
عن سفيان، عن عيسى الجرشي، عن مجاهد:
( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم
فيها ) ، قال: ممن لا يقبل منه ، يعجّل له في الدنيا. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم
أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون
) ، أي: لا
يظلمون. يقول: من كانت الدنيا همَّه وسَدَمه وطَلِبته ونيّته، جازاه الله بحسناته
في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة، وليس له حسنة يعطى بها جزاءً. وأما المؤمن ،
فيجازى بحسناته في الدنيا ، ويثاب عليها في الآخرة ( وهم فيها لا يبخسون ) أي : في الآخرة
لا يظلمون. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور وحدثنا الحسن بن يحيى قال،
أخبرنا عبد الرزاق جميعًا، عن معمر، عن قتادة: ( من كان يريد الحياة الدنيا
وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) ، الآية، قال: من كان إنما هِمّته الدنيا ،
إياها يطلب ، أعطاه الله مالا وأعطاه فيها ما يعيش، وكان ذلك قصاصًا له بعمله. (
وهم فيها لا يبخسون ) ، قال: لا يظلمون.
. . .. قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ليث بن أبي
سلم، عن محمد بن كعب القرظي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحسن من محسن ،
فقد وقع أجره على الله في عاجل الدنيا وآجل الآخرة . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت
أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( من كان
يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) ، الآية، يقول: من عمل عملا
صالحًا في غير تقوى يعني من أهل الشرك أعطي على ذلك أجرًا في الدنيا: يصل رحمًا،
يعطي سائلا يرحم مضطرًّا ، في نحو هذا من أعمال البرّ ، يعجل الله له ثواب عمله في
الدنيا، ويُوسِّع عليه في المعيشة والرزق، ويقرُّ عينه فيما خَوَّله، ويدفع عنه من
مكاره الدنيا ، في نحو هذا، وليس له في الآخرة من نصيب. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا حفص
بن عمر أبو عمر الضرير قال ، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس في قوله: ( نوف إليهم
أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ) ، قال: هي في اليهود والنصارى. . . . . قال،
حدثنا حفص بن عمر قال ، حدثنا يزيد بن زريع، عن أبي رجاء الأزدي، عن الحسن: ( نوف
إليهم أعمالهم فيها ) ، قال: طيباتهم.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن
الحسن، مثله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله. حدثني المثنى قال
، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن وهيب: أنه بلغه أن مجاهدًا كان يقول في
هذه الآية: هم أهل الرياء، هم أهل الرياء. . . . . قال، أخبرنا ابن المبارك، عن
حيوة بن شريح قال ، حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان، أن عقبة بن مسلم حدثه،
أنّ شُفيّ بن ماتع الأصبحي حدثه: أنه دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه
الناس، فقال من هذا؟ فقالوا أبو هريرة! فدنوت منه حتى قعدت بين يديه ، وهو يحدِّث
الناس، فلما سكت وَخَلا قلت: أنشدك بحقِّ ، وبحقِّ، لما حدثتني حديثًا سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقَلته وعلمتَه . قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك
حديثًا حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ثم نَشَغ نشغةً، ثم أفاق فقال:
لأحدثنك حديثًا حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ، ما فيه أحدٌ
غيري وغيره ! ثم نشَغ أبو هريرة نشغةً شديدة، ثم مال خارًّا على وجهه، واشتدّ به
طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى
إذا كان يوم القيامة ، نـزل إلى القيامة ليقضي بينهم ، وكل أمة جاثيةٌ، فأوّل من
يدعى به رجلٌ جمع القرآن، ورجل قُتِل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله
للقارئ: ألم أعلمك ما أنـزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا رب ! قال: فماذا عملت فيما
عُلِّمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار! فيقول الله له: كذبت !
وتقول له الملائكة: كذبت ! ويقول الله له: بل أردت أن يقال: « فلان قارئ » فقد قيل
ذلك ! ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسِّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى
أحد؟ قال: بلى يا رب ! قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم ،
وأتصدَّق. فيقول الله له: كذبت ! وتقول الملائكة: كذبت ! ويقول الله له: بل أردت
أن يقال: « فلان جواد » ، فقد قيل ذلك! ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقال له:
فيماذا قُتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله له:
كذبت ! وتقول له الملائكة: كذبت ! ويقول الله له: بل أردت أن يقال: « فلان جريء »
، وقد قيل ذلك ! ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا
هريرة ، أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة. قال الوليد أبو
عثمان: فأخبرني عقبة أن شفيًّا هو الذي دخل على معاوية، فأخبره بهذا. قال أبو عثمان:
وحدثني العلاء بن أبي حكيم : أنه كان سيَّافًا لمعاوية، قال: فدخل عليه رجل فحدّثه
بهذا عن أبي هريرة، فقال أبو هريرة : وقد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس!
ثم بكى معاوية بكاءً شديدًا حتى ظننا أنه هلك، وقلنا: [ قد جاءنا ] هذا الرجل
بشرٍّ ! ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال: صدق الله ورسوله : ( من كان يريد
الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) ، وقرأ إلى: وَبَاطِلٌ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ . حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن
عيسى بن ميمون، عن مجاهد: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ) الآية، قال: ممن
لا يتقبل منه، يصوم ويصلي يريد به الدنيا، ويدفع عنه هَمّ الآخرة ( وهم فيها لا
يبخسون ) ، لا ينقصون. القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ
لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ( 16 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين ذكرت أنّا نوفيهم
أجور أعمالهم في الدنيا ( ليس لهم في الآخرة إلا النار ) ، يصلونها ( وحبط ما
صنعوا فيها ) ، يقول: وذهب ما عملوا في الدنيا، ( وباطل ما كانوا يعملون ) ، لأنهم كانوا يعملون لغير الله، فأبطله الله وأحبط
عامله أجره. القول في تأويل قوله تعالى : أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ
وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً
أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( أفمن كان على بينة
من ربه ) ، قد بين له دينه فتبينه ( ويتلوه شاهد منه ) . واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: يعني
بقوله: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، محمدًا صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن
خلف قال ، حدثنا حسين بن محمد قال ، حدثنا شيبان، عن قتادة، عن عروة، عن محمد ابن
الحنفية قال: قلت لأبي: يا أبت ، أنت التالي في ( ويتلوه شاهد منه ) ؟ قال: لا والله يا
بنيّ ! وددت أني كنت أنا هو، ولكنه لسانُه حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن
علية، عن أبي رجاء، ، عن الحسن:
( ويتلوه شاهد منه ) قال: لسانه. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي
عدي، عن عوف، عن الحسن، في قوله:
( ويتلوه شاهد منه ) قال: لسانه. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا
الحكم بن عبد الله أبو النعمان العجلي قال ، حدثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن،
مثله. حدثني علي بن الحسن الأزدي قال ، حدثنا المعافى بن عمران، عن قرة بن خالد،
عن الحسن، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:
( أفمن كان على بينة من ربه ) ، وهو محمد ، كان على بيّنة من ربه. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قوله: ( ويتلوه شاهد منه ) قال: لسانه. حدثنا محمد بن
عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: لسانه هو
الشاهد. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا غندر، عن عوف، عن الحسن، مثله. وقال آخرون: يعني بقوله: ( ويتلوه شاهد
منه ) ، محمدًا صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن
أبي عدي، عن عوف، عن سليمان العلاف، عن الحسين بن علي في قوله: ( ويتلوه شاهد منه
) قال: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم
. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا غندر، عن عوف، قال، حدثني
سليمان العلاف قال: بلغني أن الحسن بن علي قال: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: محمد
صلى الله عليه وسلم. . . . . قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن سليمان العلاف، سمع الحَسَن
بن علي: ( ويتلوه شاهد منه ) ، يقول: محمد، هو الشاهد من الله. حدثني يونس بن
عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه
شاهد منه ) ، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان على بينة من ربه، والقرآن
يتلوه شاهدٌ أيضًا من الله ، بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، قال: النبي
صلى الله عليه وسلم. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن نضر بن عربي، عن عكرمة،
مثله. . . .. قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله. حدثنا الحارث قال
، حدثنا أبو خالد، سمعت سفيان يقول: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، قال: محمد صلى
الله عليه وسلم. وقال آخرون: هو علي بن أبي طالب. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال ،
حدثنا رزيق بن مرزوق قال ، حدثنا صباح الفراء، عن جابر، عن عبد الله بن نجيّ قال،
قال علي رضي الله عنه: ما من رجل من قريش إلا وقد نـزلت فيه الآية والآيتان. فقال
له رجُل: فأنتَ فأي شيء نـزل فيك؟ فقال علي: أما تقرأ الآية التي نـزلت في هود : (
ويتلوه شاهد منه ) . وقال آخرون: هو جبريل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( ويتلوه شاهد منه ) ، إنه كان
يقول: جبريل. حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن
إبراهيم: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: جبريل. وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى ، بإسناده
عن إبراهيم فقال: قال : يقولون
: « علي » ، إنما هو جبريل. حدثنا أبو كريب، وابن وكيع قالا حدثنا
ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: هو جبريل، تلا التوراة والإنجيل والقرآن، وهو
الشاهد من الله. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان
وحدثنا محمد بن عبد الله المخرّميّ ، قال ، حدثنا جعفر بن عون قال ، حدثنا سفيان
وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، وحدثني المثنى قال
، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم: ( ويتلوه شاهد منه )
قال: جبريل. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن منصور،
عن إبراهيم، مثله. . . . . قال، حدثنا سهل بن يوسف قال ، حدثنا شعبة، عن منصور، عن
إبراهيم، مثله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، مثله. . . . . قال،
حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قال: جبريل. . . . . قال، حدثنا عبد الله، عن
إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: جبريل. . . . . قال،
حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك: ( ويتلوه شاهد منه ) ،
قال: جبريل . . . . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد
بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، يعني محمدًا هو على بينة من الله ( ويتلوه شاهد
منه ) ، جبريل ، شاهدٌ من الله ، يتلو على محمد ما بُعث به. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن
أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: هو جبريل . . . . قال، حدثنا أبي، عن نضر بن عربي،
عن عكرمة، قال: هو جبريل. . . .
. قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال:
جبريل. . . . . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي قال، حدثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، يعني محمدًا ، على
بينة من ربه ( ويتلوه شاهد منه ) ، فهو جبريل ، شاهد من الله بالذي يتلو من كتاب
الله الذي أنـزل على محمد قال: ويقال: ( ويتلوه شاهد منه ) ،
يقول: يحفظه المَلَك الذي معه. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو النعمان عارم قال ، حدثنا حماد
بن زيد، عن أيوب قال،كان مجاهد يقول في قوله: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، قال: يعني محمدًا، (
ويتلوه شاهد منه ) ، قال: جبريل.
وقال آخرون: هو ملك يحفظه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال:
معه حافظ من الله ، مَلَكٌ. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون، وسويد بن عمرو، عن
حماد بن سلمة، عن أيوب، عن مجاهد: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: ملك يحفظه. . . . . قال،
حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، عمن سمع مجاهدًا: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال:
الملك. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد: ( ويتلوه شاهد منه ) ، يتبعه حافظٌ من الله ، مَلَكٌ. حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن
المنهال قال ، حدثنا حماد، عن أيوب، عن مجاهد: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: الملك
يحفظه: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ، [ سورة البقرة: 121 ] قال: يتّبعونه حقّ
اتباعه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( ويتلوه شاهد
منه ) ، قال: حافظ من الله ، مَلكٌ.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصواب
في تأويل قوله: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قولُ من قال: « هو جبريل » ، لدلالة قوله:
( ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمةً ) ، على صحة ذلك . وذلك أن نبي الله صلى الله
عليه وسلم لم يتلُ قبل القرآن كتاب موسى، فيكون ذلك دليلا على صحة قول من قال: « عنى به لسان
محمد صلى الله عليه وسلم، أو: محمد نفسه، أو : عليّ » على قول من قال: « عني به
علي » . ولا يعلم أنّ أحدًا كان تلا ذلك قبل القرآن ، أو جاء به، ممن ذكر أهل
التأويل أنه عنى بقوله: ( ويتلوه شاهد منه ) ، غير جبريل عليه السلام. فإن قال قائل:
فإن كان ذلك دليلك على أن المعنيَّ به جبريل، فقد يجب أن تكون القراءة في قوله: (
ومن قبله كتاب موسى ) بالنصب ، لأن معنى الكلام على ما تأولتَ يجب أن يكون: ويتلو
القرآنَ شاهدٌ من الله، ومن قبل القرآن كتابَ موسى؟ قيل: إن القراء في الأمصار قد
أجمعت على قراءة ذلك بالرفع فلم يكن لأحد خلافها، ولو كانت القراءة جاءت في ذلك
بالنصب ، كانت قراءة صحيحةً ومعنى صحيحًا. فإن قال: فما وجه رفعهم إذًا « الكتاب
» على ما ادعيت من التأويل؟ قيل: وجه رفعهم هذا أنهم ابتدؤوا الخبر عن مجيء كتاب
موسى قبل كتابنا المنـزل على محمد، فرفعوه ب « من » [ ومنه ] ، والقراءة كذلك،
والمعنى الذي ذكرت من معنى تلاوة جبريل ذلك قبل القرآن، وأن المراد من معناه ذلك ،
وإن كان الخبر مستأنفًا على ما وصفت ، اكتفاءً بدلالة الكلام على معناه. وأما قوله: (
إمامًا ) فإنه نصب على القطع من « كتاب موسى » ، وقوله ( ورحمة ) ، عطف على « الإمام » . كأنه
قيل: ومن قبله كتاب موسى إمامًا لبني إسرائيل يأتمُّون به، ورحمةً من الله تلاه
على موسى، كما:- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن أبيه، عن منصور، عن
إبراهيم، في قوله: ( ومن قبله كتاب موسى ) ، قال: من قبله جاء بالكتاب إلى موسى. وفي الكلام محذوف
قد ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ذكر عليه منه، وهو: ( أفمن كان على بينة من ربه
ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمةً ) ،
« كمن
هو في الضلالة متردد لا يهتدي لرشد، ولا يعرف حقًّا من باطل، ولا يطلب بعمله إلا
الحياة الدنيا وزينتها » . وذلك نظير قوله: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ
اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [ سورة
الزمر: 9 ] والدليل على حقيقة ما قلنا في ذلك أن ذلك عقيب قوله: مَنْ كَانَ
يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، الآية، ثم قيل: أهذا خير ، أمن كان على بينة من
ربه؟ والعرب تفعل ذلك كثيرًا إذا كان فيما ذكرت دلالة على مرادها على ما حذفت،
وذلك كقول الشاعر: وَأُقْسِــمُ لَـوْ شَـيْءٌ أَتَانَـا رَسُـولُه سِـواكَ
وَلَكِـنْ لَـمْ نَجِـدْ لَـكَ مَدْفَعًا وقوله: ( أولئك يؤمنون به ) ، يقول:
هؤلاء الذين ذكرت ، يصدقون ويقرّون به ، إن كفر به هؤلاء المشركون الذين يقولون:
إن محمدًا افتراه. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ( 17 ) قال أبو جعفر :
يقول تعالى ذكره: ومن يكفر بهذا القرآن ، فيجحد أنه من عند الله ( من الأحزاب )
وهم المتحزّبة على مللهم ( فالنار موعده ) ، أنه يصير إليها في الآخرة بتكذيبه.
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( فلا تك في مرية منه ) ، يقول: فلا تك
في شك منه، من أن موعدَ من كفر بالقرآن من الأحزاب النارُ، وأن هذا القرآن الذي
أنـزلناه إليك من عند الله. ثم ابتدأ جل ثناؤه الخبر عن القرآن فقال: إن هذا القرآن الذي
أنـزلناه إليك ، يا محمد ، الحقّ من ربك لا شك فيه، ولكنّ أكثر الناس لا يصدِّقون
بأن ذلك كذلك. فإن قال قائل: أوَ كان النبي صلى الله عليه وسلم في شكٍّ من أن
القرآن من عند الله، وأنه حق، حتى قيل له: « فلا تك في مرية منه » ؟ قيل: هذا نظير
قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ [ سورة يونس: 94 ]
، وقد بينا ذلك هنالك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد
الوهاب قال ، حدثنا أيوب قال: نبئت أن سعيد بن جبير قال: ما بلغني حديثٌ عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، على وَجهه إلا وجدت مصداقَه في كتاب الله تعالى، حتى قال
« لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصرانيّ، ثم لا يؤمن بما أرسلت
به إلا دخل النار » . قال سعيد، فقلت : أين هذا في كتاب الله؟ حتى أتيت على هذه
الآية: ( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ) ، قال: من
أهل الملل كُلّها. حدثنا محمد بن عبد الله المخرّمي ، وابن وكيع قالا حدثنا جعفر
بن عون قال ، حدثنا سفيان، عن أيوب، عن سعيد بن جبير في قوله: ( ومن يكفُر به من الأحزاب
) ، قال: من الملل كلها. حدثني يعقوب ، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال ، حدثنا
أيوب، عن سعيد بن جبير قال: كنت لا أسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
على وَجهه، إلا وجدت مصداقه أو قال تصديقه في القرآن، فبلغني أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: « لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصراني ، ثم
لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار » ، فجعلت أقول: أين مصداقُها؟ حتى أتيت على
هذه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ، إلى قوله: ( فالنار موعده )
، قال: فالأحزاب، الملل كلها. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر
قال، حدثني أيوب، عن سعيد بن جبير قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من
أحد يسمع بي من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصراني ، فلا يؤمن بي إلا دخل النار » ، فجعلت أقول: أين مصداقها في كتاب الله؟ قال:
وقلَّما سمعت حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وجدتُ له تصديقًا في القرآن،
حتى وجدت هذه الآيات: ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) ، الملل كلها. . . .. قال،
حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) ،
قال: الكفارُ أحزابٌ كلهم على الكفر.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ، [ سورة الرعد: 36 ] ، أي :
يكفر ببعضه، وهم اليهود والنصارى. قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان
يقول: « لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصراني ، ثم يموت قبل أن
يؤمن بي، إلا دخل النار » . حدثني المثنى قال ، حدثنا يوسف بن عدي النضري قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن أبي موسى الأشعري: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني، فلم يؤمن بي لم
يدخل الجنة. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ
الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (
18 ) قال
أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأي الناس أشد تعذيبًا ممن اختلق على الله كذبًا فكذب
عليه؟ ( أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ) يعرضون
يوم القيامة على ربهم « ، فيسألهم عما كانوا في دار الدنيا يعملون، كما: » حدثنا القاسم
قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( ومن أظلم ممن افترى على
الله كذبًا ) ، قال: الكافر والمنافق ، ( أولئك يعرضون على ربهم ) ، فيسألهم عن
أعمالهم. وقوله: ( ويقول الأشهاد ) ، يعني الملائكة والأنبياء الذين شهدوهم وحفظوا عليهم
ما كانوا يعملون وهم جمع « شاهد » مثل « الأصحاب » الذي هو جمع « صاحب » ( هؤلاء
الذين كذبوا على ربهم ) ، يقول: شهد هؤلاء الأشهاد في الآخرة على هؤلاء المفترين
على الله في الدنيا، فيقولون: هؤلاء الذين كذبوا في الدنيا على ربهم، يقول الله: (
ألا لعنة الله على الظالمين ) ، يقول:
ألا غضب الله على المعتدين الذين كفروا بربّهم. وبنحو ما قلنا في
قوله ( ويقول الأشهاد ) ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير،
عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ويقول الأشهاد ) ، قال: الملائكة. حدثني محمد بن
عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:
الملائكة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( ويقول الأشهاد ) ، والأشهاد: الملائكة، يشهدون على بني آدم بأعمالهم. حدثني محمد بن
عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( الأشهاد ) ، قال: الخلائق أو قال:
الملائكة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة،
بنحوه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( ويقول الأشهاد
) ، الذين كان يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا ( هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ) ،
حفظوه وشهدوا به عليهم يوم القيامة قال ابن جريج: قال مجاهد: « الأشهاد » ، الملائكة. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، قال: سألت الأعمش عن قوله: ( ويقول الأشهاد ) ، قال: الملائكة. حدثت عن الحسين
بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في
قوله: ( ويقول الأشهاد ) ، يعني الأنبياء والرسل، وهو قوله: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي
كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا
عَلَى هَؤُلاءِ ، [ سورة النحل: 89
] . قال: وقوله: ( ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على
ربهم ) ، يقولون: يا ربنا أتيناهم بالحق فكذبوا، فنحن نشهد عليهم أنهم كذبوا عليك
يا ربنا. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد وهشام، عن قتادة، عن
صفوان بن محرز المازني قال، بينا نحن بالبيت مع عبد الله بن عمر ، وهو يطوف، إذ
عرض له رجل فقال: يا ابن عمر ، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في
النجوى؟ فقال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدنو المؤمن من ربه حتى يضع
عليه كَنَفه فيقرّره بذنوبه، فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: رب أعرف ! مرتين ، حتى
إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها
لك اليوم . قال: فيعطى صحيفة حسناته أو : كتابه بيمينه. وأما الكفار والمنافقون،
فينادى بهم على رءوس الأشهاد: «
ألا هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على
الظالمين » . حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا هشام، عن قتادة، عن صفوان
بن محرز، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة: كنا نحدَّث أنه لا يخزَى يومئذ أحدٌ ، فيخفى خزيُه على أحد
ممن خلق لله أو: الخلائق. القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ( 19 ) قال أبو جعفر :
يقول تعالى ذكره: ألا لعنة الله على الظَّالمين الذين يصدّون الناسَ، عن الإيمان
به، والإقرار له بالعبودة ، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد ، من مشركي
قريش، وهم الذين كانوا يفتنون عن الإسلام من دخل فيه . ( ويبغونها عوجًا ) ، يقول:
ويلتمسون سبيل الله ، وهو الإسلام الذي دعا الناس إليه محمد، يقول: زيغًا وميلا عن
الاستقامة. ( وهم بالآخرة هم كافرون ) ، يقول: وهم بالبعث بعد الممات مع صدهم عن
سبيل الله وبغيهم إياها عوجًا ( كافرون ) يقول: هم جاحدون ذلك منكرون. القول في تأويل
قوله تعالى : أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ
لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا
كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ( 20 ) قال أبو جعفر :
يعني جل ذكره بقوله: ( أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ) ،
هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه أنهم يصدّون عن سبيل الله، يقول جل ثناؤه: إنهم لم
يكونوا بالذي يُعْجِزون ربَّهم بهربهم منه في الأرض إذا أراد عقابهم والانتقام
منهم، ولكنهم في قبضته وملكه، لا يمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه هربًا إذا
طلبهم ( وما كان لهم من دون الله من أولياء ) ، يقول: ولم يكن لهؤلاء المشركين إذا أراد
عقابهم من دون الله أنصارٌ ينصرونهم من الله ، ويحولون بينهم وبينه إذا هو عذبهم،
وقد كانت لهم في الدنيا مَنْعَة يمتنعون بها ممن أرادهم من الناس بسوء وقوله: (
يضاعف لهم العذاب ) ، يقول تعالى ذكره: يزاد في عذابهم، فيجعل لهم مكان الواحد
اثنان. وقوله: ( ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) ، فإنه اختلف في تأويله. فقال بعضهم: ذلك
وصَفَ الله به هؤلاء المشركين أنه قد ختم على سمعهم وأبصارهم، وأنهم لا يسمعون
الحق، ولا يبصرون حجج الله ، سَمَاعَ منتفع ، ولا إبصارَ مهتدٍ. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( ما كانوا يستطيعون السمع وما
كانوا يبصرون ) ، صم عن الحقّ فما يسمعونه، بكم فما ينطقون به، عمي فلا يبصرونه،
ولا ينتفعون به حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: ( ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) ، قال: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا
خيرًا فينتفعوا به، ولا يبصروا خيرًا فيأخذوا به حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد
الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه أنه
حال بين أهل الشرك ، وبين طاعته في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا ، فإنه قال: (
ما كانوا يستطيعون السمع ) ، وهي طاعته ( وما
كانوا يبصرون ) . وأما في الآخرة ، فإنه قال: فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً ، [
سورة القلم: 42، 43 ] . وقال آخرون: إنما عنى بقوله: ( وما كان لهم من دون الله من
أولياء ) ، آلهةَ الذين يصدون عن سبيل الله.
وقالوا: معنى الكلام: أولئك وآلهتهم ، (
لم يكونوا معجزين في الأرض يضاعَفُ لهم العذاب ما كانوا
يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) ، يعني الآلهة ، أنها لم يكن لها سمعٌ ولا بصر.
وهذا قولٌ روي عن ابن عباس من وجه كرهت ذكره لضعْفِ سَنَده. وقال آخرون: معنى ذلك: يُضَاعف لهم
العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه، وبما كانوا يبصرون ولا يتأمَّلون
حجج الله بأعينهم فيعتبروا بها.
قالوا: و « الباء » كان ينبغي لها أن تدخل، لأنه قد قال:
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ، [ سورة البقرة: 10 ] ،
بكذبهم ، في غير موضع من التنـزيل أدخلت فيه « الباء » ، وسقوطها جائز في الكلام
كقولك في الكلام : « لأجزينَّك ما علمت ، وبما علمت » ، وهذا قول قاله بعض أهل العربية. قال أبو جعفر :
والصواب من القول في ذلك عندنا ، ما قاله ابن عباس وقتادة، من أن الله وصفهم تعالى
ذكره بأنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحقّ سماع منتفع، ولا يبصرونه إبصار مهتد،
لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين، عن استعمال جوارحهم في طاعة الله، وقد
كانت لهم أسماعٌ وأبصارٌ. القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 21 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره:
هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله ( وضل عنهم ما
كانوا يفترون ) ، وبطل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله ، بادعائهم له شركاء، فسلك
ما كانوا يدعونه إلهًا من دون الله غير مسلكهم، وأخذ طريقًا غير طريقهم، فضَلّ
عنهم، لأنه سلك بهم إلى جهنم، وصارت آلهتهم عدمًا لا شيء، لأنها كانت في الدنيا
حجارة أو خشبًا أو نحاسًا أو كان لله وليًّا، فسلك به إلى الجنة، وذلك أيضًا غير مسلكهم،
وذلك أيضًا ضلالٌ عنهم. القول في تأويل قوله تعالى : لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي
الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ( 22
) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: حقا أن هؤلاء القوم
الذين هذه صفتهم في الدنيا وفي الآخرة هم الأخسرون الذين قد باعوا منازلهم من
الجنان بمنازل أهل الجنة من النار ; وذلك هو الخسران المبين. وقد بينا فيما مضى أن معنى قولهم: «
جَرمتُ » ، كسبت الذنب و « جرمته
» ، وأن
العرب كثر استعمالها إياه في مواضع الأيمان، وفي مواضع « لا بد » كقولهم: « لا
جرم أنك ذاهب » ، بمعنى: « لا بد » ، حتى استعملوا ذلك في مواضع التحقيق ، فقالوا:
« لا جَرَم لتقومن » ، بمعنى: حَقًّا لتقومن. فمعنى الكلام: لا منع عن أنهم، ولا صدّ
عن أنهم. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ ( 23 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله ،
وعملوا في الدنيا بطاعة الله و « أخبتوا إلى ربهم » . واختلف أهل التأويل في معنى «
الإخبات » . فقال بعضهم: معنى ذلك: وأنابوا إلى ربهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال
حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ) ، قال: « الإخبات »
، الإنابة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وأخبتوا إلى
ربهم ) ، يقول: وأنابوا إلى ربهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: وخافوا. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن
صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: ( وأخبتوا إلى ربهم ) ،
يقول: خافوا. وقال آخرون: معناه: اطمأنوا.
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وأخبتوا إلى ربهم ) ، قال: اطمأنوا. حدثني المثنى قال
، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال
، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: معنى
ذلك: خشعوا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة: ( وأخبتوا إليهم ربهم ) ، « الإخبات » ، التخشُّع والتواضع قال أبو جعفر:
وهذه الأقوال متقاربة المعاني ، وإن اختلفت ألفاظها، لأن الإنابة إلى الله من خوف
الله، ومن الخشوع والتواضع لله بالطاعة، والطمأنينة إليه من الخشوع له، غير أن نفس
« الإخبات » ، عند العرب : الخشوع والتواضع.
وقال: ( إلى ربهم ) ، ومعناه: وأخبتوا لربهم. وذلك أن
العرب تضع « اللام » موضع « إلى » و « إلى » موضع « اللام » كثيًرا، كما قال تعالى:
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ، [ سورة الزلزلة: 5 ] بمعنى: أوحى إليها. وقد يجوز
أن يكون قيل ذلك كذلك، لأنهم وصفوا بأنهم عمدوا بإخباتهم إلى الله. وقوله: ( أولئك
أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم ، هم سكان الجنة
الذين لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها، ولكنهم فيها لابثُون إلى غير نهاية. القول في تأويل
قوله تعالى : مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ
وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 24 ) قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره: مثل فريقي الكفر والإيمان كمثل الأعمى الذي لا يرى بعينه شيئًا ،
والأصم الذي لا يسمع شيئًا ، فكذلك فريق الكفر لا يبصر الحق فيتبعه ويعمل به،
لشغله بكفره بالله ، وغلبة خذلان الله عليه، لا يسمع داعي الله إلى الرشاد، فيجيبه
إلى الهدى فيهتدي به، فهو مقيمٌ في ضلالته، يتردَّد في حيرته. والسميع والبصير
فذلك فريق الإيمان ، أبصر حجج الله، وأقر بما دلت عليه من توحيد الله ، والبراءة
من الآلهة والأنداد ، ونبوة الأنبياء عليهم السلام ، وسمعَ داعي الله فأجابه وعمل
بطاعة الله، كما: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج، عن ابن
جريج قال، قال ابن عباس: ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) ، قال: « الأعمى » و «
الأصم » : الكافر و « البصير » و « السميع » ، المؤمن حدثني المثنى قال ، حدثنا
أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( مثل الفريقين كالأعمى
والأصم والبصير والسميع ) ، الفريقان الكافران، والمؤمنان، فأما الأعمى والأصم
فالكافران، وأما البصير والسميع فهما المؤمنان. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة: ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) ، الآية،
هذا مثلٌ ضربه الله للكافر والمؤمن، فأما الكافر فصم عن الحق، فلا يسمعه، وعمي عنه
فلا يبصره. وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به ، وأبصره فوعاه وحفظه وعمل به. يقول تعالى: ( هل
يستويان مثلا ) ، يقول: هل يستوي هذان الفريقان على اختلاف حالتيهما في أنفسهما
عندكم أيها الناس؟ فإنهما لا يستويان عندكم، فكذلك حال الكافر والمؤمن لا يستويان
عند الله ( أفلا تذكرون ) ، يقول جل ثناؤه: أفلا تعتبرون أيها الناس وتتفكرون، ،
فتعلموا حقيقة اختلاف أمريهما، فتنـزجروا عما أنتم عليه من الضلال إلى الهدى ، ومن
الكفر إلى الإيمان؟ فالأعمى والأصم ، والبصير والسميع ، في اللفظ أربعة، وفي
المعنى اثنان. ولذلك قيل: ( هل يستويان مثلا ) . وقيل: ( كالأعمى والأصم ) ،
والمعنى: كالأعمى الأصمّ، وكذلك قيل ( والبصير والسميع ) ، ، والمعنى: البصير
السميع، كقول القائل: « قام الظريف والعاقل » ،
وهو ينعت بذلك شخصًا واحدًا. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا
إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 25 ) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا
اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ( 26 ) قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه : إني لكم ، أيها القوم ، نذير من
الله، أنذركم بأسَه على كفركم به، فآمنوا به وأطيعوا أمره. ويعني بقوله: ( مبين ) ، يبين لكم عما
أرسل به إليكم من أمر الله ونهيه.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( إني ) . فقرأ ذلك عامة
قرأة الكوفة وبعض المدنيين بكسر « إنّ » على وجه الابتداء إذ كان في « الإرسال »
معنى « القول » . وقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة والكوفة والبصرة بفتح « أن »
على إعمال الإرسال فيها، كأن معنى الكلام عندهم: لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأني
لكم نذير مبين. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن يقال إنهما
قراءتان متفقتا المعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ
كان مصيبًا للصواب في ذلك. وقوله: ( أن لا تعبدوا إلا الله ) فمن كسر الألف في قوله: (
إني ) جعل قوله: ( أرسلنا ) عاملا في « أنْ » التي في قوله: ( أن لا تعبدوا إلا
الله ) ، ويصير المعنى حينئذ: ولقد أرسلنا نوحًا
إلى قومه، أن لا تعبدوا إلا الله، وقل لهم : إني لكم نذير مبين ومن فتحها ردّ «
أنْ » في قوله: ( أن لا تعبدوا ) عليها. فيكون المعنى حينئذ: لقد أرسلنا نوحًا إلى
قومه بأني لكم نذير مبين، بأن لا تعبدوا إلا الله. ويعني بقوله: [ بأن لا تعبدوا إلا الله
أيها الناس ] ، عبادة الآلهة والأوثان ، وإشراكها في عبادته، وأفردوا الله
بالتوحيد ، وأخلصوا له العبادة، فإنه لا شريك له في خلقه. وقوله: ( إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم
) ، يقول: إني أيها القوم ، إن لم تخصُّوا الله بالعبادة، وتفردوه بالتوحيد ،
وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان أخاف عليكم من الله عذابَ يوم مؤلم عقابُه
وعذابُه لمن عُذِّب فيه. وجعل « الأليم » من صفة « اليوم » وهو من صفة « العذاب » ، إذ
كان العذاب فيه ، كما قيل: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ، [ سورة الأنعام: 96 ] ،
وإنما « السكن » من صفة ما سكن فيه دون الليل. القول في تأويل قوله تعالى : فَقَالَ
الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا
وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ
وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ( 27 ) قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره: فقال الكبراء من قوم نوح وأشرافهم وهم ( الملأ ) ، الذين كفروا بالله وجحدوا
نبوة نبيهم نوح عليه السلام ( ما نراك
) ، يا نوح،
( إلا بشرًا مثلنا ) ، يعنون بذلك أنه آدمي مثلهم في الخلق والصُّورة والجنس،
كأنهم كانوا منكرين أن يكون الله يرسل من البشر رسولا إلى خلقه. وقوله: ( وما
نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) ، يقول: وما نراك اتبعك إلا الذين
هم سفلتنا من الناس ، دون الكبراء والأشراف ، فيما نرَى ويظهر لنا. وقوله: ( بادي
الرأي ) ، اختلفت القرأة في قراءته.
فقرأته عامة قرأة المدينة والعراق: ( بَادِيَ الرَّأْيِ
) ، بغير همز « البادي » وبهمز « الرأي » ، بمعنى: ظاهر الرأي، من قولهم: «
بدا الشيء يبدو » ، إذا ظهر، كما قال
الراجز: أَضْحَـى لِخَـالِي شَـبَهِيَ بَـادِي بَدِي وَصَــارَ لِلْفَحْــلِ لِسَــانِي
وَيَـدِي « بادي بدي » بغير همز، وقال آخر:
وقَدْ عَلَتْنِي ذُرْأَةٌ بادِي بَدِي وقرأ ذلك بعض أهل
البصرة: ( بَادِئَ الرَّأْيِ ) ، مهموزًا أيضًا، بمعنى: مبتدأ الرأي، من قولهم: « بدأت بهذا
الأمر » ، إذا ابتدأت به قبل غيره.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا
قراءة من قرأ: ( بَادِيَ الرَّأْيِ ) بغير همز « البادي » ، وبهمز « الرأي » ،
لأن معنى ذلك الكلام: إلا الذين هم أراذلنا ، في ظاهر الرأي ، وفيما يظهر لنا. وقوله: ( وما نرى
لكم علينا من فضل ) ، يقول: وما نتبين لكم علينا من فضل نلتموه بمخالفتكم إيانا في
عبادة الأوثان إلى عبادة الله وإخلاص العبودة له، فنتبعكم طلبَ ذلك الفضل ،
وابتغاءَ ما أصبتموه بخلافكم إيانا ( بل نظنكم كاذبين ) . وهذا خطاب منهم لنوحٍ عليه السلام،
وذلك أنهم إنما كذبوا نوحًا دون أتباعه، لأن أتباعه لم يكونوا رُسلا. وأخرج
الخطابَ وهو واحد مخرج خطاب الجميع، كما قيل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ، [ سورة الطلاق: 1 ] . قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: بل
نظنك ، يا نوح ، في دعواك أن الله ابتعثك إلينا رسولا كاذبًا. وبنحو ما قلنا في تأويل قوله ( بادي
الرأي ) قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: ( وما نراك اتبعك إلا الذين هم
أراذلنا بادي الرأي ) ، قال: فيما ظهر لنا القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا
قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً
مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا
كَارِهُونَ ( 28 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نوح لقومه إذ
كذبوه ، وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة: ( يا قوم أرأيتم إن كنت
على بينة من ربي ) ، على علمٍ ومعرفةٍ وبيان من الله لي ما يلزمني له، ويجب عليّ
من إخلاص العبادة له وترك إشراك الأوثان معه فيها ( وآتاني رحمة من عنده ) ، يقول: ورزقني منه التوفيق والنبوّة والحكمة، فآمنت
به وأطعته فيما أمرني ونهاني ( فعميت عليكم ) . واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة
أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة: ( فَعَمِيَتْ ) بفتح العين وتخفيف الميم، بمعنى:
فعَمِيت الرحمة عليكم فلم تهتدوا لها ، فتقرّوا بها ، وتصدّقوا رسولكم عليها. وقرأ ذلك عامة
قرأة الكوفيين: ( فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) بضم العين وتشديد الميم، اعتبارًا منهم
ذلك بقراءة عبد الله، وذلك أنها فيما ذكر في قراءة عبد الله: ( فَعَمَّاهَا
عَلَيْكُمْ ) . قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من
قرأه: ( فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) بضم العين وتشديد الميم للذي ذكَروا من العلة
لمن قرأ به، ولقربه من قوله: ( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده
) ، فأضَاف « الرحمة » إلى الله، فكذلك « تعميته على الآخرين » ،
بالإضافة إليه أولى. وهذه الكلمة مما حوّلت العرب الفعل عن موضعه. وذلك أن الإنسان
هو الذي يعمى عن إبصار الحق، إذ يعمى عن إبصاره، و « الحق » لا يوصف بالعمى ، إلا
على الاستعمال الذي قد جرى به الكلام. وهو في جوازه لاستعمال العرب إياه نظيرُ قولهم:
« دخل الخاتم في يدي، والخف في رجلي » ، ومعلوم أن الرجل هي التي تدخل في الخفّ،
والإصبع في الخاتم، ولكنهم استعملوا ذلك كذلك ، لما كان معلومًا المرادُ فيه. وقوله: (
أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) ، يقول: أنأخذكم بالدخول في الإسلام ، وقد عماه
الله عليكم ( وأنتم لها كارهون ) ، يقول: وأنتم لإلزامناكُموها « كارهون » ، يقول:
لا نفعل ذلك، ولكن نكل أمركم إلى الله ، حتى يكون هو الذي يقضي في أمركم ما يرى
ويشاء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال نوح:
( يا قوم إن كنت على بينة من ربي ) ، قال: قد عرفتها ،
وعرفت بها أمره ، وأنه لا إله إلا هو ( وآتاني رحمة من عنده ) ، الإسلام والهدى
والإيمان والحكم والنبوّة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:
( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، الآية، أما والله لو استطاع نبيّ الله صلى
الله عليه وسلم لألزمها قومه، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ،
حدثنا سفيان، عن داود، عن أبي العالية قال: في قراءة أبيّ: ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا
مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) . حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال
، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، أخبرنا عمرو بن دينار قال، قرأ ابن
عباس: ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا ) ، قال ، عبد الله: « من
شَطْر أنفسنا » ، من تلقاء أنفسنا.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا ابن
عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس ، مثله. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز
قال ، حدثنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: (
أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ قُلُوبِنَا وأَنْتُمْ لَهَا كارِهُونَ ) . القول في
تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ
إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو
رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( 29 ) قال أبو جعفر : وهذا أيضًا خبرٌ
من الله عن قيل نوح لقومه ، أنه قال لهم: يا قوم لا أسألكم على نصيحتي لكم ،
ودعايتكم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له ، مالا أجرًا على ذلك، فتتهموني في
نصيحتي، وتظنون أن فعلي ذلك طلبُ عرض من أعراض الدنيا ( إن أجري إلا على الله ) ،
يقول: ما ثواب نصيحتي لكم ، ودعايتكم إلى ما أدعوكم إليه، إلا على الله، فإنه هو
الذي يجازيني، ويثيبني عليه ( وما أنا بطارد الذين آمنوا ) ، وما أنا بمقصٍ من آمن
بالله ، وأقرّ بوحدانيته ، وخلع الأوثان وتبرأ منها ، بأن لم يكونوا من عِلْيتكم وأشرافكم
( إنهم ملاقو ربهم ) ، يقول: إن هؤلاء الذين تسألوني طردهم ، صائرون إلى الله،
والله سائلهم عما كانوا في الدنيا يعملون، لا عن شرفهم وحسبهم. وكان قيل نوح ذلك
لقومه، لأن قومه قالوا له، كما:-
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قوله: ( وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ) ، قال: قالوا له:
يا نوح، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء . فقال: ( ما أنا
بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ) ، فيسألهم عن أعمالهم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج، وحدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح جميعا، عن مجاهد قوله: ( إن أجري إلا على الله ) ، قال:
جَزَائي. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، مثله. وقوله: ( ولكني أراكم قومًا تجهلون ) ، يقول: ولكني ، أيها
القوم ، أراكم قومًا تجهلونَ الواجبَ عليكم من حقّ الله ، واللازم لكم من فرائضه.
ولذلك من جهلكم سألتموني أن أطرد الذين آمنوا بالله. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَا
قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 30 ) قال أبو جعفر :
يقول: ( ويا قوم من ينصرني ) ، فيمنعني من الله إن هو عاقبني على طردي المؤمنين
الموحِّدين الله إن طردتهم ؟ ( أفلا تذكرون ) ،
يقول: أفلا تتفكرون فيما تقولون: فتعلمون خطأه ، فتنتهوا عنه؟. القول في تأويل
قوله تعالى : وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ
الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي
أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي
أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( 31 ) قال أبو جعفر : وقوله: ( ولا أقول لكم
عندي خزائن الله ) ، عطف على قوله:
( ويا قوم لا أسألكم عليه أجرًا ) . ومعنى الكلام: ( ويا قوم لا أسألكم
عليه أجرًا ) ، ( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ) ، التي لا يفنيها شيء، فأدعوكم
إلى اتباعي عليها. ولا أعلم أيضًا الغيب يعني : ما خفي من سرائر العباد، فإن ذلك
لا يعلمه إلا الله فأدّعي الربوبية وأدعوكم إلى عبادتي.ولا أقول أيضًا : إني ملك
من الملائكة ، أرسلت إليكم، فأكون كاذبًا في دعواي ذلك، بل أنا بشر مثلكم كما
تقولون، أمرت بدعائكم إلى الله، وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ( ولا أقول للذين تزدري
أعينكم لن يؤتيهم الله خيرًا ) يقول: ولا أقول للذين اتبعوني وآمنوا بالله
ووحَّدوه ، الذين تستحقرهم أعينكم، وقلتم : إنهم أراذلكم ( لن يؤتيهم الله خيرًا )
، وذلك الإيمان بالله ( الله أعلم بما في أنفسهم ) ، يقول: الله أعلم بضمائر صدورهم ، واعتقاد
قلوبهم، وهو وليّ أمرهم في ذلك، وإنما لي منهم ما ظهر وبدا، وقد أظهُروا الإيمان
بالله واتبعوني، فلا أطردهم ولا أستحل ذلك ( إني إذًا لمن الظالمين ) ، يقول: إنّي
إن قلت لهؤلاء الذين أظهروا الإيمان بالله وتصديقي: ( لن يؤتيهم الله خيرًا ) ،
وقضيت على سرائرهم بخلاف ما أبدته ألسنتهم لي على غير علم منّي بما في نفوسهم ، وطردتهم
بفعلي ذلك، لمن الفاعلين ما ليس لهم فعله ، المعتدين ما أمرهم الله به ، وذلك هو «
الظلم » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:
( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ) التي لا يفنيها شيء،
فأكون إنما أدعوكم لتتبعوني عليها لأعطيكم منها ولا أقول إني ملك نـزلت من السماء
برسالة، ما أنا إلا بشر مثلكم. ( ولا أعلم الغيب ) ، ولا أقول اتبعوني على علم
الغيب. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ
جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 32 ) قال أبو جعفر :
يقول تعالى ذكره: قال قوم نوح لنوح عليه السلام: قد خاصمتنا فأكثرت خصومتنا ، فأتنا
بما تعدنا من العذاب ، إن كنت من الصادقين في عِداتك ودَعواك أنك لله رسول. يعني:
بذلك أنه لن يقدر على شيء من ذلك.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( جادلتنا ) ، قال: ماريتنا. حدثني المثنى قال
، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وحدثني المثنى
قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، قال: قال مجاهد: ( قالوا يا نوح قد جادلتنا ) ، قال: ماريتنا ( فأكثرت
جدالنا فأتنا بما تعدنا ) قال ابن جريج: تكذيبًا بالعذاب، وأنه باطلٌ ( فأكثرت
جدالنا فأتنا بما تعدنا ) ، قال ابن جريج: تكذيبًا بالعذاب، وأنه باطلٌ. القول في تأويل
قوله تعالى : قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ ( 33 ) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ
لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ ( 34 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه حين استعجلوه
العذاب: يا قوم ، ليس الذي تستعجلون من العذاب إليّ، إنما ذلك إلى الله لا إلى
غيره، هو الذي يأتيكم به إن شاء ( وما أنتم بمعجزين ) يقول: ولستم إذا أراد
تعذيبكم بمعجزيه، أي بفائتيه هربًا منه ، لأنكم حيث كنتم في ملكه وسلطانه وقدرته ،
حكمهُ عليكم جارٍ ( ولا ينفعكم نصحي ) ، يقول: ولا ينفعكم تحذيري عقوبته ، ونـزولَ
سطوته بكم على كفركم به ( إن أردت أن أنصح لكم ) ، في تحذيري إياكم ذلك ، لأن نصحي
لا ينفعكم ، لأنكم لا تقبلونه. ( إن كان الله يريد أن يغويكم ) ، يقول: إن كان
الله يريد أن يهلككم بعذابه ( هو ربكم وإليه ترجعون ) ، يقول: وإليه تردُّون بعد
الهلاك. حكي عن طيئ أنها تقول: « أصبح فلان غاويًا » : أي مريضًا. وحكي عن غيرهم
سماعًا منهم: « أغويت فلانًا » ، بمعنى أهلكتَه و « غَوِيَ الفصيل » ، إذا فقد
اللبن فمات. وذكر أن قول الله: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ، [ سورة مريم: 59 ] ، أي هلاكًا. القول في تأويل
قوله تعالى : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ
إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ( 35 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره:
أيقول يا محمد هؤلاء المشركون من قومك:
افترى محمد هذا القرآن؟ وهذا الخبر عن نوح ؟ قل لهم: إن
افتريته فتخرصته واختلقته. ( فعليّ إجرامي ) يقول: فعلي إثمي في افترائي ما افتريت على ربّي
دونكم، لا تؤاخذون بذنبي ولا إثمي ، ولا أؤاخذ بذنبكم. ( وأنا بريء مما تجرمون ) ، يقول: وأنا بريء مما تذنبون وتأثَمُون بربكم ، من
افترائكم عليه. ويقال منه: « أجرمت إجرامًا » ، و « جرَمْت أجرِم جَرْمًا » ،
كما قال الشاعر: طَرِيــدُ عَشِــيرَةٍ وَرَهِيــنُ ذَنْـبٍ بِمَـا جَـرَمَتْ
يَـدِي وَجَـنَى لِسَـانِي القول في تأويل قوله تعالى : وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 36 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأوحَى الله إلى نوح ، لمّا
حَقّ على قومه القولُ، وأظلَّهم أمرُ الله، أنه لن يؤمن، يا نوح ، بالله فيوحِّده
، ويتبعك على ما تدعوه إليه ( من قومك إلا من قد آمن ) ، فصدّق بذلك واتبعك. ( فلا تبتئس ) ،
يقول: فلا تستكن ولا تحزن ( بما كانوا يفعلون ) ، فإني مهلكهم ، ومنقذك منهم ومن
اتبعك. وأوحى الله ذلك إليه ، بعد ما دعا عليهم نوحٌ بالهلاك فقال: رَبِّ لا
تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، [ سورة نوح: 26 ] . وهو « تفتعل »
من « البؤس » ، يقال: « ابتأس فلان بالأمر يبتئس ابتئاسًا » : كما قال لبيد بن ربيعة: فِـــي
مَـــأْتَمٍ كَنِعَــاجِ صَــا رَةَ يَبْتَئِسْــــنَ بِمَـــا لَقَيْنـــا وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فلا تبتئس ) ، قال: لا تحزن. حدثني المثنى قال
، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وحدثني المثنى قال
، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد مثله. حدثني محمد بن
سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( فلا
تبتئس بما كانوا يفعلون ) ، يقول: فلا تحزن. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا
محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:
( فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) ، قال: لا تأسَ ولا تحزن. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك
إلا من قد آمن ) ، وذلك حين دعا عليهم قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، [ سورة نوح: 26 ] قوله: ( فلا تبتئس ) ، يقول: فلا تأسَ
ولا تحزن. حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله: ( لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) ،
فحينئذ دعا على قومه ، لما بيَّن الله له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن. القول في تأويل
قوله تعالى : وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي
فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ( 37 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأحي
إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، وأن اصنع الفلك، وهو السفينة ، كما: حدثني المثنى قال
، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الفلك: السفينة . وقوله : (
بأعيننا ) ، يقول: بعين الله ووحيه كما يأمرك، كما:- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي
قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( واصنع الفلك بأعيننا
ووحينا ) ، وذلك أنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها على مثل
جؤجؤ الطائر. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد: ( ووحينا ) ، قال: كما نأمرك.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بأعيننا ووحينا ) ، كما نأمرك. حدثنا القاسم قال
، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: (
واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) ، قال: بعين الله، قال ابن جريج، قال مجاهد: (
ووحينا ) ، قال: كما نأمرك. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة في قوله: ( بأعيننا ووحينا ) ، قال: بعين الله ووحيه. وقوله: ( ولا
تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) ، يقول تعالى ذكره: ولا تسألني في العفو عن
هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم من قومك، فأكسبوها تعدّيًا منهم عليها بكفرهم بالله
الهلاك بالغرق، إنهم مغرقون بالطوفان ، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( ولا تخاطبني ) ، قال: يقول: ولا تراجعني. قال: تقدَّم
أن لا يشفع لهم عنده. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا
مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا
فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ( 38 ) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قال
أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويصنع نوح السفينة، وكلما مرّ عليه جماعة من كبراء
قومه ( سَخِرُوا مِنْهُ ) ، يقول: هزئوا من نوح، ويقولون له: أتحوّلت نجارًا بعد النبوّة ، وتعمل
السفينة في البر ؟ فيقول لهم نوح:
( إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا ) ، إن تهزءوا منا اليوم، فإنا
نهزأ منكم في الآخرة ، كما تهزءون منا في الدنيا ( فسوف تعلمون ) ، إذا عاينتم
عذابَ الله، مَن الذي كان إلى نفسه مُسِيئًا منَّا . وكانت صنعة نوح السفينة ، كما:- حدثني المثنى
وصالح بن مسمار قالا حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا موسى بن يعقوب قال، حدثني
فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع: أنّ إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة،
أخبره : أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: لو رحم الله أحدًا من قوم نوح لرحم أم الصبي ! قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ،
حتى كان آخر زمانه غَرس شجرةً، فعظمت وذهبت كلَّ مذهب، ثم قطعها، ثم جعل يعمل
سفينة، ويمرُّون فيسألونه، فيقول: أعملها سفينة ! فيسخرون منه ويقولون: تعمل
سفينةً في البر فكيف تجري ! فيقول: سوف تعلمون. فلما فرغ منها ، وفارَ التنور ،
وكثر الماء في السكك ، خشيت أمُّ الصبيِّ عليه، وكانت تحبّه حبًّا شديدًا، فخرجت إلى
الجبل حتى بلغت ثُلُثه . فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثي الجبل . فلما بلغها
الماء خرجت ، حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبتها رفعتْه بين يديها ، حتى
ذهب بها الماء . فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أمّ الصبيّ . حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن طول السفينة ثلاث مائة ذراع، وعرضها خمسون
ذراعًا، وطولها في السماء ثلاثون ذراعًا، وبابها في عرضها حدثني الحارث قال ،
حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: كان طول سفينة نوح ألف ذراع ومائتي
ذراع، وعرضها ست مائة ذراع. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن مفضل بن
فضالة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قال
الحواريُّون لعيسى ابن مريم: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدَّثنا عنها ! قال: فانطلق بهم حتى
انتهى بهم إلى كثيب من تراب، فأخذ كفًّا من ذلك التراب بكفه، قال: أتدرون ما هذا؟
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب حام بن نوح. قال: فضرب الكثيب بعصاه، قال:
قم بإذن الله ! فإذا هو قائمٌ ينفُض التراب عن رأسه قد شَابَ ، قال له عيسى: هكذا
هلكت؟ قال: لا ولكن مِتُّ وأنا شابّ، ولكني ظننت أنها الساعة، فمن ثَمَّ شِبتُ.
قال: حدثنا عن سفينة نوح . قال: كان طولها ألف ذرع ومائتي ذراع، وعرضها ست مائة
ذراع، وكانت ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدوابُّ والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة
فيها الطير. فلما كثر أرواث الدوابِّ، أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذَنب الفيل ، فغمزه
فوقع منه خنـزير وخنـزيرة، فأقبلا على الرَّوْث. فلما وقع الفأر بجَرَز السفينة
يقرضه، أوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد ، فخرج من منخره سِنَّور
وسنّورة، فأقبلا على الفأر، فقال له عيسى: كيف علم نوح أنّ البلاد قد غرقت؟ قال:
بعث الغرابَ يأتيه بالخبر، فوجد جيفةً فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا
يألف البيوت قال: ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها، فعلم أن
البلاد قد غرقت قال: فطوَّقَها الخضرة التي في عنقها، ودعا لها أن تكون في أنسٍ
وأمان، فمن ثم تألف البيوت. قال: فقلنا يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا،
فيجلس معنا، ويحدثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له؟ قال: فقال له: عُدْ بإذن
الله، قال: فعاد ترابًا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عمن لا
يتَّهم عن عبيد بن عمير الليثي: أنه كان يحدّث أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون به يعني
قوم نوح فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون
» ، حتى إذا تمادوا في المعصية، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة، وتطاول عليه وعليهم
الشأن، واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر النَّجْل بعد النَّجْل، فلا يأتي قرن إلا
كان أخبث من القرن الذي قبله، حتى إن كان الآخر منهم ليقول: « قد كان هذا مع
آبائنا ومع أجدادنا هكذا مجنونًا » ! لا يقبلون منه شيئًا . حتى شكا ذلك من أمرهم
نوح إلى الله تعالى، كما قص الله علينا في كتابه: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي
لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا ، إلى آخر القصة،
حتى قال : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ
إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا ، إلى
آخر القصة [ سورة نوح: 5 - 27 ] فلما شكا ذلك منهم نوح إلى الله واستنصره عليهم،
أوحى الله إليه أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ....... وَلا
تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ، أي : بعد اليوم، إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ .
فأقبل نوح على عمل الفلك، ولَهِيَ عن قومه، وجعل يقطع الخشب، ويضرب الحديد ، ويهيئ
عدة الفلك من القَار وغيره مما لا يصلحه إلا هو ، وجعل قومه يمرُّون به وهو في ذلك
من عمله، فيسخرون منه ويستهزئون به، فيقول: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا
نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ
عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ، قال: ويقولون فيما بلغني: يا نوح قد صرت
نجَّارًا بعد النبوّة ! قال: وأعقم الله أرحام النساء، فلا يولد لهم ولد. قال:
ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب السّاج، وأن يصنعه أزْوَر،
وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعًا، وأن يجعله ثلاثة
أطباق: سفلا ووسطًا وعلوًا، وأن يجعل فيه كُوًى. ففعل نوح كما أمره الله، حتى إذا
فرغ منه وقد عهد الله إليه إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا
احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ وقد جعل التَّنُّور
آية فيما بينه وبينه ، فقال : ( إذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين
اثنين ) ، واركب. فلما فار التنور، حمل نوح في الفلك من أمره الله، وكانوا قليلا
كما قال الله، وحمل فيها من كل زوجين اثنين مما فيه الروح والشجر ، ذكر وأنثى،
فحمل فيه بنيه الثلاثة: سام وحام ويافث ونساءهم، وستة أناس ممن كان آمن به، فكانوا
عشرة نفر: نوح وبنوه وأزواجهم، ثم أدخل ما أمره به من الدوابّ، وتخلف عنه ابنه
يَام، وكان كافرًا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن
دينار، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: سمعته يقول: كان أوّل
ما حمل نوح في الفلك من الدوابّ الذرّة، وآخر ما حمل الحمار ، فلما أدخل الحمار وأدخَل
صدره ، تعلق إبليس بذنبه، فلم تستقلّ رجلاه، فجعل نوح يقول: ويحك ادخل ! فينهض فلا
يستطيع. حتى قال نوح: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك ! قال: كلمة زلَّت عن لسانه، فلما قالها
نوح خلَّي الشيطان سبيله، فدخل ودخل الشيطانُ معه، فقال له نوح: ما أدخلك عليّ يا
عدوَّ الله؟ فقال: ألم تقل: « ادخل وإن كان الشيطان معك » ؟ قال: اخرج عنّي يا عدوّ الله !
فقال: ما لك بدٌّ من أن تحملني ! فكان ، فيما يزعمون ، في ظهر الفلك ، فلما اطمأن
نوح في الفلك، وأدخل فيه من آمن به، وكان ذلك في الشهر . . . . من السنة التي دخل
فيها نوح بعد ست مائة سنة من عمره ، لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر ، فلما دخل وحمل
معه من حمل، تحرك ينابيع الغوط الأكبر، وفتح أبواب السماء، كما قال الله لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم: إذا َتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ
وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ، [
سورة القمر: 11- 12 ] . فدخل نوح ومن معه الفلك ، وغطاه عليه وعلى من معه بطَبَقه،
فكان بين أن أرسل الله الماء وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يومًا وأربعون
ليلة، ثم احتمل الماء كما تزعم أهل التوراة، وكثر الماء واشتد وارتفع ، يقول الله
لمحمد: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ، [ سورة القمر: 13 ] ، و « الدسر » ،
المسامير، مسامير الحديد فجعلت الفلك تجري به ، وبمن معه في موج كالجبال ، ونادي
نوح ابنه الذي هلك فيمن هلك، وكان في معزلٍ حين رأى نوحٌ من صدق موعد ربه ما رَأى
، فقال: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ، وكان
شقيًّا قد أضمر كفرًا . قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ،
وكان عَهِد الجبال وهي حِرْزٌ من الأمطار إذا كانت، فظنّ أن ذلك كما كان يعهد. قال
نوح: لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ
بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ، وكثر الماء حتى طغى ، وارتفع
فوق الجبال ، كما تزعم أهل التوراة ، بخمسة عشر ذراعًا، فباد ما على وجه الأرض من
الخلق ، من كل شيء فيه الروح أو شجر، فلم يبق شيء من الخلائق إلا نوح ومن معه في
الفلك، وإلا عُوج بن عُنُق فيما يزعم أهل الكتاب ، فكان بين أن أرسل الله الطوفان
وبين أن غاض الماء ستة أشهر وعشر ليالٍ.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن
الحسن بن دينار، عن علي بن زيد بن جدعان قال ابن حميد، قال سلمة ، وحدثني علي بن
زيد عن يوسف بن مهران، قال: سمعته يقول: لما آذى نوحًا في الفلك عَذِرة الناس، أمر
أن يمسح ذنب الفيل، فمسحه، فخرج منه خنـزيران، وكفي ذلك عنه. وإن الفأر توالدت في الفلك،
فلما آذته، أمر أن يأمر الأسد يعطس، فعطس ، فخرج من منخريه هِرّان يأكلان عنه
الفأر. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد،
عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: لما كان نوح في السفينة، قرض الفأر حبالَ
السفينة، فشكا نوح، فأوحى الله إليه ، فمسح ذنب الأسد ، فخرج سِنَّوران. وكان في
السفينة عذرة، فشكا ذلك إلى ربه، فأوحى الله إليه، فمسح ذنب الفيل، فخرج خنـزيران حدثنا
إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قال ، حدثنا الأسود بن عامر قال، أخبرنا سفيان بن
سعيد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، بنحوه. حدثت عن المسيب بن أبي روق، عن الضحاك،
قال: قال سليمان القراسي: عمل نوح السفينة في أربع مائة سنة، وأنبت الساج أربعين سنة
، حتى كان طوله أربع مائة ذراع، والذراع إلى المنكب. القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ
يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ( 39 ) حَتَّى
إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ
آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ ( 40 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره
مخبرًا عن قيل نوح لقومه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ، أيها القوم ، إذا جاء أمر الله،
من الهالك ، مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ، يقول: الذي يأتيه عذابُ الله منا
ومنكم يهينه ويذله وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ، يقول: وينـزل به في
الآخرة ، مع ذلك ، عذابٌ دائم لا انقطاع له، مقيم عليه أبدًا. وقوله: ( حتى إذا جاء أمرُنا ) ، يقول:
« ويصنع نوح الفلك » ( حتى إذا جاء أمرنا ) الذي وعدناه أن يجيء قومه من الطوفان
الذي يغرقهم. وقوله: ( وفار التنور ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم:
معناه: انبجس الماء من وجه الأرض ( وفار التنور ) ، وهو وجه الأرض. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن
إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن الضحاك، عن ابن عباس
أنه قال في قوله: ( وفار التنور ) ، قال: ( التنور ) ،
وجه الأرض . قال: قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض، فاركب أنت ومن معك . قال:
والعرب تسمى وجه الأرض: « تنور الأرض
» . حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا
هشيم، عن العوام، عن الضحاك، بنحوه.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال،
أخبرنا الشيباني، عن عكرمة، في قوله: ( وفار التنور ) ، قال: وجه الأرض حدثنا
زكريا بن يحيى بن أبي زائدة وسفيان بن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني، عن
عكرمة: ( وفار التنور ) ، قال: وجه الأرض. وقال آخرون: هو تنويرُ الصبح ، من
قولهم: « نوَّرَ الصبح تنويرًا
» . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا
محمد بن فضيل قال ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن عباس مولى أبي جحيفة، عن أبي
جحيفة، عن علي رضى الله عنه قوله: ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، قال: هو
تنوير الصبح. حدثنا ابن وكيع وإسحاق بن إسرائيل قالا حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الرحمن
بن إسحاق، عن زياد مولى أبي جحيفة، عن أبي جحيفة، عن علي في قوله: ( وفار التنور )
، قال: تنوير الصبح. حدثنا حماد بن يعقوب، قال: أخبرنا ابن فضيل، عن عبد الرحمن بن
إسحاق، عن مولى أبي جحيفة أراه قد سماه عن أبي جحيفة ، عن علي: ( وفار التنور )
قال: تنوير
الصبح. حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا هشيم، عن ابن إسحاق، عن رجل من قريش، عن
علي بن أبي طالب رضى الله عنه: ( وفار التنور ) ، قال: طلع الفجر. حدثنا القاسم قال
، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن رجل قد
سمّاه، عن علي بن أبي طالب قوله: ( وفار التنور ) ،
قال: إذا طلع الفجر. وقال آخرون: معنى ذلك: وفار أعلى الأرض وأشرف مكانٍ فيها
بالماء. وقال: « التنور » أشرف الأرض. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، كنا نحدّث أنه
أعلى الأرض وأشرَفُها، وكان عَلَمًا بين نوح وبين ربّه حدثنا محمد بن بشار قال ،
حدثنا سليمان قال ، حدثنا أبو هلال قال، سمعت قتادة قوله: ( وفار التنور ) قال:
أشرف الأرض وأرفعها فار الماء منه.
وقال آخرون: هو التنور الذي يُخْتَبز فيه. *ذكر قال ذلك: حدثني محمد بن
سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، قال: إذا رأيت تنُّور أهلك يخرج منه الماءُ،
فإنه هلاك قومك. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، عن أبي محمد، عن
الحسن قال: كان تنورًا من حجارة كان لحوّاء حتى صار إلى نوح . قال: فقيل له: إذا
رأيت الماء يفورُ من التنور فاركب أنتَ وأصحابك. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة،
عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:
( وفار التنور ) ، قال: حين انبجس الماء ، وأمر نوحٌ أن
يركب هو ومن معه في الفلك. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وفار التنور ) ، قال: انبجس الماء منه ، آيةً، أن يركب بأهله
ومن معه في السفينة. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد نحوه إلا أنه قال: آيةً ، أن يركب أهله ومن معه في السفينة. حدثني المثنى قال
، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه،
إلا أنه قال: آية بأن يركب بأهله ومن معهم في السفينة. حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم قال ،
حدثنا خلف بن خليفة، عن ليث، عن مجاهد قال، نبع الماء في التنور، فعلمت به امرأته
فأخبرته قال، وكان ذلك في ناحية الكُوفة. . . .. قال، حدثنا القاسم قال ، حدثنا علي
بن ثابت، عن السري بن إسماعيل، عن الشعبي: أنه كان يحلف بالله ، ما فار التّنُّور
إلا من ناحية الكوفة. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن النضر أبي
عمر الخزاز، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ( وفار التنور ) ، قال: فار التنُّور بالهند. حدثت عن الحسين
بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في
قوله: ( وفار التنور ) ، كان آيةً لنوح ، إذا خرج منه الماء فقد أتى الناسَ
الهلاكُ والغرق. وكان ابن عباس يقول في معنى « فار » نبع. حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح
قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( وفار التنور ) ، قال: نبع. قال أبو جعفر: و
« فوران الماء » سَوْرَة دفعته، يقال منه: « فار الماء يَفُور فَوْرًا وفَؤُورًا
وفَوَرَانًا » ، وذلك إذا سارت دفعته.
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله: (
التنور ) ، قول من قال: « هو التنور الذي يخبز فيه » ، لأن ذلك هو المعروف من كلام
العرب، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب ، إلا أن تقوم
حجَّة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها. وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم
به ، لإفهامهم معنى مَا خاطبهم به.
( قلنا ) ، لنوح حين جاء عذابنا قومه الذي وعدنا نوحًا
أن نعذبهم به، وفار التنور الذي جعلنا فورَانه بالماء آيةَ مجيء عذابنا بيننا
وبينه لهلاك قومه ( احمل فيها ) ، يعني في الفلك ( من كل زوجين اثنين ) ، يقول: من
كل ذكر وأنثى ، كما:- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: ( من كل زوجين اثنين ) ، قال: ذكر وأنثى من كل صنف. حدثني محمد بن
عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثني قال
، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( من كل زوجين
اثنين ) ، فالواحد « زوج » ، و « الزوجين » ذكر وأنثى من كل صنف. . . . . قال،
حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (
من كل زوجين اثنين ) ، قال: ذكر وأنثى من كل صنف. . . . . قال، حدثنا القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة: ( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ) ، يقول: من كل صنف
اثنين. حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال،
سمعت الضحاك يقول في قوله: ( من كل زوجين اثنين ) ، يعني بالزوجين اثنين: ذكر أو
أنثى. وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين، « الزوجان » ، في كلام العرب: الاثنان. قال،
ويقال : « عليه زوجَا نِعال » ، إذا كانت عليه نعلان، ولا يقال : « عليه زوجُ نعال
» ، وكذلك : « عنده زوجا حمام » ، و « عليه زوجَا قيود » . وقال: ألا تسمع إلى
قوله: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى [ سورة النجم: 45 ] ،
فإنما هما اثنان. وقال بعض البصريين من أهل العربية في قوله: ( قلنا احمل فيها
من كل زوجين اثنين ) ، قال: فجعل « الزوجين » ، « الضربين » ، الذكور والإناث. قال: وزعم يونس أن قول
الشاعر: وَأَنْـتَ امْـرُؤٌ تَغْـدُو عَـلَى كُلِّ غِرَّة فَتُخْــطِئُ فِيهَــا مَــرَّةً
وَتُصِيـبُ يعني به الذئب. قال: فهذا أشذّ من ذلك. وقال آخر منهم: « الزوج » ، اللون .
قال: وكل ضرب يدعى « لونًا » ، واستشهد ببيت الأعشى في ذلك: وَكُــلُّ زَوْجٍ مِــنَ الدِّيبَـاجِ
يَلْبَسُـهُ أَبُــو قُدَامَــةَ مَحْـبُوًّا بِـذَاكَ مَعَـا ويقول لبيد: وَذِي بَهْجَــةٍ
كَـنَّ المقَـانِبُ صَوْتَـهُ وَزَيَّنَـــهُ أَزْوَاجُ نَــوْرٍ مُشَــرَّبِ وذكر
أن الحسن قال في قوله: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [ سورة الذاريات:
49 ] : السماء زوج، والأرض زوج، والشتاء زوج، والصيف زوج، والليل زوج، والنهار
زوج، حتى يصير الأمر إلى الله الفرد الذي لا يشبهه شيء. وقوله: ( وأهلك إلا من سبق عليه القول
) ، يقول: واحمل أهلك أيضًا في الفلك، يعني ب « الأهل » ، ولده ونساءه وأزواجه (
إلا من سبق عليه القول ) ، يقول: إلا من قلت
فيهم إني مهلكه مع مَنْ أُهْلِكُ من قومك. ثم اختلفوا في الذي استثناه الله من
أهله. فقال بعضهم: هو بعض نساء نوح.
ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:
( وأهلك إلا من سبق عليه القول ) ، قال: العذاب، هي
امرأته كانت في الغابرين في العذاب.
وقال آخرون: بل هو ابنه الذي غرق. ذكر من قال ذلك: حدثت عن المسيب، عن أبي روق. عن الضحاك
في قوله: ( وأهلك إلا من سبق عليه القول ) ، قال: ابنه ، غرق فيمن غرق. وقوله: ( ومن آمن
) ، يقول: واحمل معهم من صدقك واتبعك من قومك يقول الله: ( وما آمن معه إلا قليل ) ، يقول: وما
أقرّ بوحدانية الله مع نوح من قومه إلا قليل. واختلفوا في عدد الذين كانوا آمنوا معه
فحملهم معه في الفلك، فقال بعضهم في ذلك: كانوا ثمانية أنفس. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه
إلا قليل ) ، قال: ذكر لنا أنه لم يتمّ في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنيه،
ونساؤهم، فجميعهم ثمانية. حدثنا ابن وكيع والحسن بن عرفة قالا حدثنا يحيى بن عبد الملك
بن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم: ( وما آمن معه إلا قليل ) ، قال: نوح، وثلاثة
بنيه، وأربع كنائنه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن
جريج: حُدّثت أن نوحًا حَمَل معه بنيه الثلاثة ، وثلاث نسوة لبنيه، وامرأة نوح، فهم
ثمانية بأزواجهم. وأسماء بنيه: يافث، وسام، وحام، وأصاب حام زوجته في السفينة،
فدعا نوحٌ أن يغيّر نُطْفته، فجاء بالسُّودان. وقال آخرون: بل كانوا سبعة أنفس. ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث قال
، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش : ( وما آمن معه إلا قليل ) ،
قال: كانوا سبعة: نوح، وثلاث كنائن له، وثلاثة بنين. وقال آخرون: كانوا عشرة سوى نسائهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد
قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما فار التنور، حمل نوح في الفلك من أمره
الله به، وكانوا قليلا كما قال الله، فحمل بنيه الثلاثة: سام، وحام، ويافث،
ونساءهم، وستة أناسي ممن كان آمن، فكانوا عشرة نفر ، بنوح وبنيه وأزواجهم. وقال آخرون: بل
كانوا ثمانين نفسًا. ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال:
قال ابن جريج، قال ابن عباس: حمل نوح معه في السفينة ثمانين إنسانًا. حدثني الحارث قال
، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، كان بعضهم يقول: كانوا ثمانين يعني « القليل » الذي قال
الله: ( وما آمن معه إلا قليل )
. حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا زيد بن
الحباب قال، حدثني حسين بن واقد الخراساني قال، حدثني أبو نهيك قال: سمعت ابن عباس
يقول: كان في سفينة نوح ثمانون رجلا أحدهم جُرْهُم. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك
أن يقال كما قال الله: ( وما آمن معه إلا قليل ) ، يصفهم بأنهم كانوا قليلا ولم
يحُدّ عددهم بمقدار، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح، فلا ينبغي أن
يُتَجاوز في ذلك حدُّ الله، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حدٌّ من كتاب الله ، أو أثر
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا
بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 41 ) قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره: وقال نوح: اركبوا في الفلك ، « بسم الله مجراها ومرساها » . وفي الكلام
محذوف قد استغني بدلالة ما ذكر من الخبر عليه عنه، وهو قوله: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ
آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ فحملهم نوح فيها « وقال » لهم، « اركبوا
فيها » . فاستغني بدلالة قوله: ( وقال اركبوا فيها ) ، عن حمله إياهم فيها، فتُرك
ذكره. واختلفت القراء في قراءة قوله: ( بسم الله مجراها ومرساها ) ، فقرأته عامة
قراء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا
) ، بضم الميم في الحرفين كليهما. وإذا قرئ كذلك كان من « أجرى » و « أرسى » ، وكان فيه وجهان
من الإعراب: أحدهما : الرفع بمعنى: بسم الله إجراؤها وإرساؤها فيكون « المجرى » و « المرسى »
مرفوعين حينئذ بالباء التي في قوله: ( بسم الله ) . والآخر : النصب، بمعنى: بسم الله
عند إجرائها وإرسائها، أو وقت إجرائها وإرسائها فيكون قوله: ( بسم الله ) ، كلامًا
مكتفيًا بنفسه، كقول القائل عند ابتدائه في عمل يعمله: « بسم الله » ، ثم يكون «
المجرى » و « المرسى » منصوبين على ما نصبت العرب قولهم : « الحمد لله سِرارَك و
إهلالك » ، يعنون الهلال أوّله وآخره، كأنهم
قالوا: « الحمد لله أوّل الهلال وآخره
» ، ومسموع منهم
أيضا: « الحمدُ لله ما إهلالك إلى سِرارِك » . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: (
بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) ،
بفتح الميم من « مجراها » ، وضمها من « مرساها » ، فجعلوا « مجراها » مصدرًا من « جري
يجري مَجْرَى » ، و « مرساها » من « أرسَى يُرْسي إرساء » . وإذا قرئ ذلك كذلك ، كانَ في
إعرابهما من الوجهين ، نحو الذي فيهما إذا قرئا: ( مُجراها ومُرساها ) ، بضم الميم
فيهما ، على ما بيَّنتُ. وروي عن أبي رجاء العطاردي أنه كان يقرأ ذلك: ( بِسْمِ اللهِ
مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا ) ، بضم الميم فيهما، ويصيرهما نعتًا لله. وإذا قرئا
كذلك، كان فيهما أيضًا وجهان من الإعراب، غير أن أحدهما الخفضُ، وهو الأغلب عليهما
من وجهي الإعراب ، لأن معنى الكلام على هذه القراءة: بسم الله مُجْرى الفلك
ومرسيها ف « المجرى » نعت لاسم الله. وقد يحتمل أن يكون نصبًا، وهو الوجه الثاني،
لأنه يحسن دخول الألف واللام في « المجري » و « المرسي » ، كقولك: « بسم الله
المجريها والمرسيها » ، وإذا حذفتا نصبتا على الحال، إذ كان فيهما معنى النكرة،
وإن كانا مضافين إلى المعرفة. وقد ذكر عن بعض الكوفيين أنه قرأ ذلك: ( مَجْرَاهَا
ومَرْسَاهَا ) ، بفتح الميم فيهما جميعا، من « جرى » و « رسا » ، كأنه وجهه إلى
أنه في حال جَرْيها وحال رُسُوّها، وجعل كلتا الصفتين للفلك ، كما قال عنترة: فَصَــبَرْتُ
نَفْسًـا عِنْـدَ ذَلِـكَ حُـرَّةً تَرْسُــو إذَا نَفَسُ الجبَــانِ تَطَلّــعُ قال
أبو جعفر: والقراءة التي نختارها في ذلك قراءة من قرأ: ( بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا
) ، بفتح الميم ( وَمُرْسَاهَا ) ، بضم الميم، بمعنى: بسم الله حين تَجْري وحين
تُرْسي. وإنما اخترت الفتح في ميم « مجراها » لقرب ذلك من قوله: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ
فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ، ولم يقل: « تُجْرَى بهم » . ومن قرأ: ( بسم الله
مُجْراها ) ، كان الصواب على قراءته أن يقرأ: « وهي تُجْرى بهم » . وفي إجماعهم
على قراءة تَجْرِي ، بفتح التاء دليل واضع على أن الوجه في ( مجراها ) فتح الميم. وإنما اخترنا
الضم في ( مرساها ) ، لإجماع الحجة من القراء على ضمّها. ومعنى قوله ( مجراها ) ، مسيرها (
ومرساها ) ، وقفها، من وقَفَها الله وأرساها. وكان مجاهد يقرأ ذلك بضم الميم في
الحرفين جميعًا. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد . . .. قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد : ( بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) ، قال: حين يركبون ويجرون
ويرسون. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح
، عن مجاهد : بسم الله حين يركبون ويجرون ويرسون. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير،
عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) ،
قال: بسم الله حين يجرون وحين يرسون.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، حدثنا أبو
روق، عن الضحاك، في قوله: ( اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ) قال: إذا أراد
أن ترسي قال: « بسم الله » فأرست، وإذا أراد أن تجري قال « بسم الله » فجرت. وقوله: ( إن ربي
لغفور رحيم ) ، يقول: إن ربي لساتر ذنوب من تاب وأناب إليه ، رحيم بهم أن يعذبهم
بعدَ التوبة. القول في تأويل قوله تعالى : وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ
وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا
تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ( 42
) قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: ( وهي تجري بهم
) ، والفلك تجري بنوح ومن معه فيها ( في موج كالجبال ونادى نوح ابنه ) ، يام (
وكان في معزل ) ، عنه ، لم يركب معه الفلك: ( يا بني
اركب معنا ) ، الفلك ( ولا تكن مع الكافرين ) . القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ
سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ
( 43 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال ابن نوح لما دعاه نوح إلى أن يركب معه
السفينة خوفًا عليه من الغرق: ( سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) يقول: سأصير إلى جبل
أتحصّن به من الماء ، فيمنعني منه أن يغرقني. ويعني بقوله: ( يعصمني ) يمنعني، مثل «
عصام القربة » ، الذي يشدُّ به رأسها ، فيمنع الماء أن يسيل منها. وقوله: ( لا عاصم
اليوم من أمر الله إلا من رحم ) ، يقول: لا مانع اليوم من أمر الله الذي قد نـزل
بالخلق من الغرق والهلاك ، إلا من رحمنا فأنقذنا منه، فإنه الذي يمنع من شاء من
خلقه ويعصم. ف « من » في موضع رفع، لأن معنى الكلام: لا عاصم يَعصم اليوم من أمر الله إلا
الله. وقد اختلف أهل العربية في موضع « من » في هذا الموضع. فقال بعض نحويي الكوفة: هو في موضع
نصب، لأن المعصوم بخلاف العاصم، والمرحوم معصوم . قال: كأن نصبه بمنـزلة قوله: مَا
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [ سورة النساء : 157 ] ، قال:
ومن استجاز : اتِّبَاعَ الظَّنِّ ، والرفع في قوله: وَبَلْـــــدَةٌ لَيْسَ بِهَـــــا
أَنِيسُ إِلا الْيَعَـــــــــافِيرُ وَإِلا العِيسُ لم يجز له الرفع في « من » ،
لأن الذي قال: « إلا اليعافير » ، جعل أنيس البرِّ ، اليعافير وما أشبهها. وكذلك
قوله: إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ، يقول علمهم ظنٌّ. قال: وأنت لا يجوز لك في وجه أن
تقول: « المعصوم » هو « عاصم » في حال، ولكن لو جعلت « العاصم » في تأويل « معصوم » ، [ كأنك
قلت ] : « لا معصوم اليوم من أمر الله » ، لجاز رفع « من » . قال: ولا ينكر أن يخرج « المفعول » على «
فاعل » ، ألا ترى قوله: مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ، [ سورة الطارق: 6 ] ، معناه ، والله
أعلم : مدفوق وقوله: فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ، معناها: مرضية؟ قال الشاعر: دَعِ
الْمَكَــارِمَ لا تَرْحَــلْ لِبُغْيَتِهَــا وَاقْعُـدْ فَـإِنَّكَ أَنْـتَ
الطَّـاعِمُ الْكَاسِي ومعناه: المكسوُّ. وقال بعض نحويّي البصرة: ( لا عاصم
اليوم من أمر الله إلا من رحم ) ، على:
« لكن من رحم » ، ويجوز أن يكون على: لا ذا عصمة: أي :
معصوم، ويكون ( إلا من رحم ) ، رفعًا بدلا من « العاصم » . قال أبو جعفر: ولا وجه لهذه الأقوال
التي حكيناها عن هؤلاء، لأن كلام الله تعالى إنما يُوَجَّه إلى الأفصح الأشهر من
كلام من نـزل بلسانه ، ما وُجِد إلى ذلك سبيل. ولم يضطرَّنا شيء إلى أن نجعل « عاصمًا
» في معنى « معصوم » ، ولا أن نجعل
« إلا » بمعنى « لكن » ، إذ كنا نجد لذلك في معناها الذي
هو معناه في المشهور من كلام العرب مخرجًا صحيحًا، وهو ما قلنا من أنَّ معنى ذلك:
قال نوح: لا عاصم اليوم من أمر الله ، إلا من رحمَنا فأنجانا من عذابه، كما يقال:
« لا مُنجي اليوم من عذاب الله إلا الله » « ولا مطعم اليومَ من طعام زيد إلا زيد
» . فهذا هو الكلام المعروف والمعنى المفهوم. وقوله: ( وحال بينهما الموج فكان من
المغرقين ) ، يقول: وحال بين نوح وابنه موجُ الماء فغرق، فكان ممن أهلكه بالغرق من
قوم نوح صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله تعالى : وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي
مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ
عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 44 ) قال أبو جعفر:
يقول الله تعالى ذكره: وقال الله للأرض بعد ما تناهَى أمرُه في هلاك قوم نوح بما
أهلكهم به من الغرق: ( يا أرض ابلعي ماءك ) ، أي: تشرَّبي. من قول القائل: « بَلِعَ فلان كذا
يَبْلَعُه، أو بَلَعَه يَبْلَعُه » ، إذا ازدَردَه. ( ويا سماء أقلعي ) ، يقول: أقلعي عن
المطر، أمسكي ( وغيض الماء ) ، ذهبت به الأرض ونَشِفته، ( وقضي الأمر ) ، يقول:
قُضِي أمر الله، فمضى بهلاك قوم نوح ( واستوت على الجوديّ ) ، يعني الفلك « استوت
» : أرست « على الجودي » ، وهو جبل ، فيما
ذكر بناحية الموصل أو الجزيرة، ( وقيل بعدًا للقوم الظالمين ) ، يقول: قال الله:
أبعد الله القوم الظالمين الذين كفروا بالله من قوم نوح. حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال ،
حدثنا المحاربي، عن عثمان بن مطر، عن عبد العزيز بن عبد الغفور ، عن أبيه، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
في أول يوم من رجب ركب نوح السفينة ، فصام هو وجميع من
معه، وجرت بهم السفينة ستةَ أشهر، فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست السفينة على
الجوديّ يوم عاشوراء، فصام نوح ، وأمر جميع من معه من الوحش والدوابّ فصامُوا
شكرًا لله . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كانت السفينة
أعلاها للطير، ووسطها للناس، وفي أسفلها السباع، وكان طولها في السماء ثلاثين
ذراعًا، ودفعت من عَين وردة يوم الجمعة لعشر ليالٍ مضين من رجب، وأرست على الجوديّ
يوم عاشوراء، ومرت بالبيت فطافت به سبعًا، وقد رفعه الله من الغرق، ثم جاءت اليمن،
ثم رجعت. حدثنا القاسم، قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي،
عن قتادة، قال: هبط نوح من السفينة يوم العاشر من المحرم، فقال لمن معه: من كان
منكم اليوم صائما فليتم صومه، ومن كان مفطرًا فليصم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس قال: [ ما ] كان زَمَن نوحٍ شبر من الأرض
، إلا إنسانٌ يَدَّعيه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال:
ذكر لنا أنَّها يعني الفُلك استقلَّت بهم في عشر خلون من وجب، وكانت في الماء
خمسين ومائة يوم، واستقرت على الجودي شهرًا، وأهبط بهم في عشر [ خَلَوْن ] من المحرم
يوم عاشوراء . وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: ( وغيض الماء وقضي الأمر واستوت
على الجودي ) ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وغيض الماء ) ، قال: نقص (
وقضي الأمر ) ، قال: هلاك قوم نوح حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا
شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
- 18194 حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني
حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. قال: قال ابن جريج ( وغيض الماء ) ، نَشِفَتهُ
الأرض. حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس
قوله: ( يا سماء أقلعي ) ، يقول: أمسكي ( وغيض الماء ) ، يقول: ذهب الماء. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( وغيض الماء ) ،
والغُيوض ذهاب الماء ( واستوت على الجودي ) . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن
نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واستوت على الجودي ) ، قال: جبل
بالجزيرة، تشامخت الجبال من الغَرَق، وتواضع هو لله فلم يغرق، فأرسيتْ عليه. حدثني المثني قال
، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واستوت على
الجودي ) ، قال: الجودي جبل بالجزيرة، تشامخت الجبال يومئذ من الغَرَق وتطاولت،
وتواضع هو لله فلم يغرق، وأرسيت سفينة نوح عليه حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين
قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال،
حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( واستوت على الجودي ) ،
يقول: على الجبل ؛ واسمه « الجودي » حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان: (
واستوت على الجودي ) ، قال: جبل بالجزيرة ، شمخت الجبال، وتواضعَ حين أرادت أن
ترفأ عليه سفينة نوح. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( واستوت
على الجودي ) ، أبقاها الله لنا بوادي أرض الجزيرة عبرة وآية. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ
قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: ( واستوت على الجودي ) ، هو جبل
بالموصل. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نوحًا
بعث الغراب لينظر إلى الماء، فوجد جيفة فوقع عليها، فبعث الحمامة فأتته بورق
الزيتون، فأعْطيت الطوقَ الذي في عنقها، وخضابَ رجليها. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق قال: لما أراد الله أن يكفّ ذلك يعني الطوفان أرسل ريحًا على وجه الأرض،
فسكن الماء، واستدَّت ينابيع الأرضِ الغمرَ الأكبر، وَأبوابُ السماء . يقول الله
تعالى: ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ) ، إلى: ( بعدًا للقوم الظالمين
) ، فجعل ينقص ويغيض ويُدبر. وكان استواء الفلك على الجودي ، فيما يزعم أهل
التوراة، في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، في أول يوم من الشهر العاشر،
رئي رءوس الجبال. فلما مضى بعد ذلك أربعون يومًا ، فتح نوح كُوَّة الفلك التي صنع
فيها، ثم أرسلَ الغراب لينظر له ما فعل الماءُ، فلم يرجع إليه. فأرسل الحمامةَ،
فرجعت إليه، ولم يجد لرجليها موضعًا، فبسط يده للحمامة، فأخذها . ثم مكث سبعة
أيام، ثم أرسلها لتنظر له، فرجعت حين أمست ، وفي فيها ورَق زيتونة، فعلم نوح أن
الماء قد قلَّ عن وجه الأرض. ثم مكث سبعة أيام، ثم أرسلها فلم ترجع، فعلم نوح أن
الأرض قد برَزَت، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح
الحمامة ، ودخل يوم واحد من الشهر الأوّل من سنة اثنتين ، برز وجه الأرض، فظهر
اليبس، وكشف نوح غطاء الفلك، ورأى وجه الأرض. وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في
سبع وعشرين ليلة منه قيل لنوح: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ
وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا
عَذَابٌ أَلِيمٌ . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد
بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: تزعُم أناسٌ أن من غرق من الولدان مع آبائهم،
وليس كذلك، إنما الولدان بمنـزلة الطير وسائر من أغرق الله بغير ذنب، ولكن حضرت آجالهم
فماتوا لآجالهم، والمدرِكون من الرجال والنساء كان الغرق عقوبة من الله لهم في
الدنيا ، ثم مصيرهم إلى النار. القول في تأويل قوله تعالى : وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ
رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ
( 45 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ونادى نوح ربه فقال: ربِّ إنك وعدتني أن تنجيني
من الغرق والهلاك وأهلي، وقد هلك ابني، وابني من أهلي ( وإن وعدك الحقُّ ) ، الذي
لا خلف له ( وأنت أحكم الحاكمين ) ، بالحق، فاحكم لي بأن تفي بما وعدتني ، من أنْ
تنجّي لي أهلي ، وترجع إليَّ ابني، كما:-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله: ( وأنت أحكم الحاكمين ) ، قال: أحكم الحاكمين بالحق. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا
نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا
تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ ( 46 ) قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: قال الله يا نوح إن الذي
غرقته فأهلكته الذي تذكر أنه من أهلك ليس من أهلك. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (
ليس من أهلك ) . فقال بعضهم: معناه: ليس من ولدك ، هو من غيرك. وقالوا: كان ذلك
من حِنْثٍ. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن،
في قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، قال: لم يكن ابنه. حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا يحيى
بن يمان، عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: ابن
امرأته. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية، عن أصحاب ابن أبي عروبة فيهم ، [ عن ] الحسن قال: لا
والله ، ما هو بابنه. . . . . قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر: وَنَادَى
نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: هذه بلغة طيّ لم يكن ابنه، كان ابن امرأته. حدثني المثني قال
، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم، عن عوف، ومنصور، عن الحسن في قوله: ( إنه
ليس من أهلك ) ، قال: لم يكن ابنه. وكان يقرؤها: ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) حدثنا الحسن بن
يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كنت عند الحسن
فقال: « نادى نوح ابنه » ، لعمْر الله ما هو ابنه ! قال: قلت : يا أبا سعيد يقول:
وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، وتقول: ليس بابنه؟ قال: أفرأيت قوله: ( إنه ليس من أهلك
) ؟ قال: قلت إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، ولا يختلف أهل الكتاب
أنه ابنه. قال: إن أهل الكتاب يكذبون.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قال: سمعت الحسن يقرأ هذه الآية: ( إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ) ، فقال عند
ذلك: والله
ما كان ابنه . ثم قرأ هذه الآية: فَخَانَتَاهُمَا ، [ سورة التحريم: 10 ] قال سعيد:
فذكرت ذلك لقتادة، قال: ما كان ينبغي له أن يحلف. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : ( فلا تسألن ما ليس لك به علم
) ، قال: تبيّن لنوح أنه ليس بابنه.
حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) ، قال: بين الله لنوح أنه
ليس بابنه. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبى
نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد، مثله. قال ابن جريج في قوله: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: ناداه
وهو يحسبه أنه ابنه وكان وُلد على فراشه حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال
، حدثنا إسرائيل، عن ثوير، عن أبي جعفر: ( إنه ليس من أهلك ) ، قال: لو كان من
أهله لنجا. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع عبيد بن عمير يقول: نرى أن ما قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم « الولد للفراش » ، من أجل ابن نوح. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن قال: لا والله ما هو بابنه. وقال آخرون: معنى
ذلك: ( ليس من أهلك ) الذين وعدتك أن أنجيهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا
ابن يمان، عن سفيان، عن أبي عامر، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وَنَادَى نُوحٌ
ابْنَهُ ، قال: هو ابنه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان قال ، حدثنا
أبو عامر، عن الضحاك قال: قال ابن عباس: هو ابنه، ما بغت امرأة نبيٍّ قطُّ. حدثنا الحسن بن
يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا الثوري، عن أبي عامر الهمدانيّ، عن
الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس قال، ما بغت امرأة نبي قط. قال: وقوله: ( إنه ليس من
أهلك ) ، الذين وعدتك أن أنجيهم معك.
حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر،
عن قتادة وغيره، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: هو ابنه: غير أنه خالفه في العمل
والنية قال عكرمة في بعض الحروف: ( إِنَّهُ عَمِلَ عَمَلا غَيْرَ صَالِحٍ ) ،
والخيانة تكون على غير بابٍ. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال،
كان عكرمة يقول: كان ابنه، ولكن كان مخالفًا له في النية والعمل، فمن ثم قيل له: ( إنه ليس من
أهلك ) . حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري وابن عيينة، عن موسى
بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة قال: سمعت ابن عباس يُسْأل وهو إلى جنب الكعبة عن
قول الله تعالى: فَخَانَتَاهُمَا ، [ سورة التحريم: 10 ] ،
قال: أما إنه لم يكن بالزنا، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون، وكانت هذه تدل ،
على الأضياف. ثم قرأ: ( إنه عملٌ خير صالح ) قال ابن عيينة: وأخبرني عمار الدُّهني : أنه سأل سعيد
بن جبير عن ذلك فقال: كانَ ابن نوح، إن الله لا يكذب! قال: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ
، قال: وقال بعض العلماء: ما فجرت امرَأة نبيٍّ قط. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة،
عن عمار الدهني، عن سعيد بن جبير قال: قال الله ، وهو الصادق، وهو ابنه: وَنَادَى
نُوحٌ ابْنَهُ . حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبن يمان، عن سعيد، عن موسى بن أبي
عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: ما بَغَت امرأة نبي قط. حدثنا يعقوب بن
إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، قال: سألت أبا بشر عن قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، قال: ليس من أهل
دينك، وليس ممن وعدتك أن أنجيهم قال يعقوب: قال هشيم: كان عامة ما كان يحدِّثنا
أبو بشر عن سعيد بن جبير. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن عبيد، عن يعقوب بن قيس
قال: أتى سعيد بن جبير رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله، الذي ذكر الله في كتابه « ابن
نوح » أبنُه هو؟ قال: نعم، والله إن نبيَّ الله أمره أن يركب معه في السفينة فعصى،
فقال: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ، قال: ( يا نوح إنه ليس من
أهلك إنه عمل غير صالح ) ، لمعصية نبي الله. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال،
أخبرني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير : أنه جاء إليه رجل فسأله
. فقال: أرأيتك ابن نُوح أبنه؟ فسبَّحَ طويلا ثم قال: لا إله إلا الله، يحدِّث
الله محمدًا: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وتقول ليس منه ؟ ولكن خالفه في العمل، فليس منه من
لم يؤمن. حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن أبي هارون الغنوي، عن
عكرمة في قوله: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: أشهد أنه ابنه، قال الله: وَنَادَى نُوحٌ
ابْنَهُ . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة قالا
هو ابنه. حدثني فضالة بن الفضل الكوفي قال، قال بزيع: سأل رجل الضحاك عن ابن نوح ، فقال:
ألا تعجبون إلى هذا الأحمق ! يسألني عن ابن نوح، وهو ابن نوح كما قال الله: قال
نوح لابنه. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد، عن الضحاك أنه
قرأ: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، وقوله: ( ليس من أهلك ) ، قال: يقول: ليس هو من
أهلك. قال: يقول: ليس هو من أهل ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجى من أهلك ( إنه عمل غير صالح
) ، قال: يقول كان عمله في شرك.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن
الضحاك قال، هو والله ابنه لصُلْبه.
حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم،
عن جويبر، عن الضحاك في قوله: ( ليس من أهلك ) ، قال: ليس من أهل دينك، ولا ممن
وعدتك أن أنجيه، وكان ابنه لصلبه.
حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( قال يا نوح إنه ليس من أهلك ) ، يقول: ليس
ممن وعدناه النجاة. حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد
بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، يقول: ليس من أهل
ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجي من أهلك ( إنه عمل غير صالح ) ، يقول: كان عمله في
شرك. حدثنا
ابن وكيع قال ، حدثنا خالد بن حيان، عن جعفر بن برقان، عن ميمون، وثابت بن الحجاج
قالا هو ابنه ، ولد على فراشه. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: تأويل
ذلك: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، لأنه كان لدينك مخالفًا ، وبي كافرًا
وكان ابنه لأن الله تعالى ذكره قد أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه
فقال: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، وغير جائز أن يخبر أنه ابنه فيكون بخلاف ما أخبر.
وليس في قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، دلالةٌ على أنه ليس بابنه، إذ كان قوله: (
ليس من أهلك ) ، محتملا من المعنى ما ذكرنا، ومحتملا أنه ليس من أهل دينك، ثم يحذف
« الدين » فيقال: ( إنه ليس من أهلك ) ، كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي
كُنَّا فِيهَا ، [ سورة يوسف: 82
] . وأما قوله: ( إنه عمل غير صالح ) ، فإن القراء
اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قراء الأمصار: ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )
بتنوين « عمل » ورفع « غير
» . واختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في تأويله. فقال بعضهم:
معناه: إن مسألتك إياي هذه عمل غير صالح. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن
مغيرة، عن إبراهيم: ( إنه عمل غير صالح ) ، قال: إن مسألتك إياي هذه عملٌ غير صالح. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( إنه عمل غير صالح ) ، أي سوء ( فلا
تسألن ما ليس لك به علم ) . حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس قوله: ( إنه عمل غير صالح ) ، يقول: سؤالك عما ليس لك به علم. حدثنا القاسم قال
، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن حمزة الزيات، عن الأعمش، عن مجاهد قوله: ( إنه
عمل غير صالح ) ، قال: سؤالك إياي، عمل غير صالح ( فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ ) . وقال آخرون:
بل معناه: إن الذي ذكرت أنّه ابنك فسألتني أن أنجيه ، عملٌ غير صالح، أي : أنه
لغير رشدة . وقالوا: « الهاء » ، في قوله: « إنه » عائدة على « الابن » . ذكر من قال
ذلك: حدثنا
ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن أنه قرأ: (
عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) ، قال: ما هو والله بابنه. وروي عن جماعة من السلف أنهم قرءوا
ذلك: ( إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ
) ، على وجه
الخبر عن الفعل الماضي، وغير منصوبة. وممن روي عنه أنه قرأ ذلك كذلك ، ابنُ عباس. حدثنا ابن وكيع قال
، حدثنا ابن عينة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة، عن ابن عباس أنه قرأ:
( عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ ) . ووجَّهوا تأويل ذلك إلى ما:- حدثنا به ابن وكيع قال ، حدثنا غندر،
عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ
صَالِحٍ ) ، قال: كان مخالفًا في النية والعمل. قال أبو جعفر: ولا نعلم هذه القراءة
قرأ بها أحد من قراء الأمصار ، إلا بعض المتأخرين، واعتلَّ في ذلك بخبر روي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ذلك كذلك ، غيرِ صحيح السند. وذلك حديث روي
عن شهر بن حوشب، فمرة يقول : « عن أم سلمة » ، ومرة يقول :
« عن أسماء بنت يزيد » ، ولا نعلم أبنت يزيد [ يريد ] ؟ ولا نعلم لشهر سماعًا يصح عن
أمّ سلمة. قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار، وذلك
رفع ( عَمَلٌ ) بالتنوين، ورفع ( غَيْرُ ) ، يعني: إن سؤالك إياي ما تسألنيه في
أبنك المخالفِ دينَك ، الموالي أهل الشرك بي من النجاة من الهلاك، وقد مضت إجابتي
إياك في دعائك: لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، ما قد
مضى من غير استثناء أحد منهم عملٌ غير صالح، لأنَّه مسألة منك إليّ أن لا أفعل ما
قد تقدّم مني القول بأني أفعله ، في إجابتي مسألتك إياي فعله. فذلك هو العمل غير
الصالح. وقوله: ( لا تسألن ما ليس لك به علم ) ، نهيٌ من الله تعالى ذكرهُ نبيه نوحًا
أن يسأله أسباب أفعاله التي قد طوى علمها عنه وعن غيره من البشر. يقول له تعالى
ذكره: إني يا نوح قد أخبرتك عن سؤالك سبب إهلاكي ابنك الذي أهلكته، فلا تسألن
بعدها عما قد طويتُ علمه عنك من أسباب أفعالي، وليس لك به علم « إني أعظك أن تكون
من الجاهلين » في مسألتك إياي عن ذلك.
وكان ابن زيد يقول في قوله: ( إني أعظك أن تكون من
الجاهلين ) ، ما:- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:
( إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) ، أنْ تبلغ الجهالة بك أن لا أفي لك بوعد وعدتك
، حتى تسألني ما ليس لك به علم وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ
الْخَاسِرِينَ . واختلفت القراء في قراءة قوله: ( فلا تسألن ما ليس لك به علم )
، فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار ( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ) ،
بكسر النون وتخفيفها ونحْوًا بكسرها إلى الدلالة على « الياء » التي هي كناية اسم
الله [ في ] : فلا تسألني. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض أهل الشام: ( فَلا تَسْأَلَنَّ ) ،
بتشديد النون وفتحها بمعنى: فلا تسألنَّ يا نوح ما ليس لك به علم. قال أبو جعفر :
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، تخفيفُ النون وكسرها، لأن ذلك هو الفصيح من
كلام العرب المستعمل بينهم. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ
أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ
مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 47 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا نبيَّه محمدًا صلى الله
عليه وسلم ، عن إنابة نوح عليه السلام بالتوبة إليه من زلَّته ، في مسألته التي
سألَها ربَّه في ابنه : ( قال ربّ إني أعوذ بك ) ، أي : أستجير بك أن أتكلف مسألتك
ما ليس لي به علم، مما قد استأثرت بعلمه ، وطويت علمه عن خلقك، فاغفر لي زلتي في
مسألتي إياك ما سألتك في ابني، وإن أنت لم تغفرها لي وترحمني فتنقذني من غضبك (
أكن من الخاسرين ) ، يقول: من الذين غبنوا أنفسهم حظوظَها وهلكوا. القول في تأويل
قوله تعالى : قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ
وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا
عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 48 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: يا نوح، اهبط من الفلك إلى
الأرض ( بسلام منا ) ، يقول: بأمن منا أنت ومن معك من إهلاكنا ( وبركات عليك ) ، يقول: وببركات عليك ( وعلى أمم ممن معك ) ، يقول:
وعلى قرون تجيء من ذرية من معك من ولدك. فهؤلاء المؤمنون من ذرية نوح الذين سبقت
لهم من الله السعادة ، وبارك عليهم قبل أن يخلقهم في بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم.
ثم أخبر تعالى ذكره نوحًا عما هو فاعل بأهل الشقاء من ذريته، فقال له: ( وأمم ) ، يقول: وقرون وجماعة ( سنمتعهم ) في الحياة في
الدنيا ، يقول: نرزقهم فيها ما يتمتعون به إلى أن يبلغوا آجالهم ( ثم يمسهم منا
عذاب أليم ) ، يقول: ثم نذيقهم إذا وردوا علينا
عذابًا مؤلمًا موجعًا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن
موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي:
( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن
معك ) ، إلى آخر الآية، قال: دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ،
ودخل في ذلك العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو داود
الحفري، عن سفيان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي: ( قيل يا نوح اهبط
بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) ، قال: دخل في الإسلام كل مؤمن ومؤمنة،
وفي الشرك كل كافر وكافرة. حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك ،
قراءةً عن ابن جريج: ( وعلى أمم ممن معك ) ، يعني : ممن لم يولد. قد قضى البركات
لمن سبق له في علم الله وقضائه السعادة ( وأمم سنمتعهم ) ، من سبق له في علم الله وقضائه
الشِّقوة. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج بنحوه إلا أنه
قال: ( وأمم سنمتعهم ) ، متاع الحياة الدنيا، ممن قد سبق له في علم الله وقضائه
الشقوة. قال: ولم يهلك الوَلَد يوم غرق قوم نُوح بذنب آبائهم ، كالطير والسباع،
ولكن جاء أجلهم مع الغرق. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (
اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ) ، قال: هبطوا والله
عنهم راض، هبطوا بسلام من الله. كانوا أهل رحمة من أهل ذلك الدهر، ثم أخرج منهم نسلا
بعد ذلك أممًا، منهم من رحم، ومنهم من عذب. وقرأ: ( وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم
) ، وذلك إنما افترقت الأمم من تلك العصابة التي خرجت من ذلك الماء وسلمت. حدثت عن الحسين
بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في
قوله: ( يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) ، الآية، يقول:
بركات عليك وعلى أمم ممن معك لم يولدوا، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم
الله من السعادة ( وأمم سنمتعهم
) ، يعني:
متاع الحياة الدنيا ( ثم يمسهم منا عذاب أليم ) ، لما سبق لهم في علم الله من
الشقاوة. حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن حميد،
عن الحسن: أنه كان إذا قرأ « سورة هود » ، فأتى على: ( يا نوح اهبط بسلام منا وبركات
عليك ) ، حتى ختم الآية، قال الحسن: فأنجى الله نوحًا والذين آمنوا، وهلك
المتمتعون ! حتى ذكر الأنبياء كل ذلك يقول: أنجاه الله وهلك المتمتعون. حدثني يونس قال،
أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) ،
قال: بعد الرحمة. حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، اخبرنا عبد الله
بن شوذب قال، سمعت داود بن أبي هند يحدث ، عن الحسن : أنه أتى على هذه الآية: (
اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم
) ، قال: فكان ذلك حين بعث الله عادًا، فأرسل إليهم هودًا، فصدقه مصدقون ، وكذبه
مكذبون ، حتى جاء أمر الله . فلما جاء أمر الله نجّى الله هودًا والذين آمنوا معه،
وأهلك الله المتمتعين، ثم بعث الله ثمود، فبعث إليهم صالحًا، فصدقه مصدقون وكذبه
مكذبون، حتى جاء أمر الله . فلما جاء أمر الله نجى الله صالحًا والذين آمنوا معه
وأهلك الله المتمتعين. ثم استقرأ الأنبياء نبيًّا نبيًّا ، على نحو من هذا. القول في تأويل
قوله تعالى : تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ
تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ
لِلْمُتَّقِينَ ( 49 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمّد صلى الله عليه
وسلم: هذه القصة التي أنبأتك بها من قصة نوح وخبره وخبر قومه ( من أنباء الغيب ) ،
يقول: هي من أخبار الغيب التي لم تشهدها فتعلمها ( نوحيها إليك ) ، يقول: نوحيها
إليك نحن ، فنعرفكها ( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) ، الوحي الذي
نوحيه إليك، ( فاصبر ) ، على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته ، وما تلقى من مشركي
قومك، كما صبر نوح ( إن العاقبة للمتقين ) ، يقول: إن الخير من عواقب الأمور لمن
اتقى الله ، فأدَّى فرائضه، واجتنب معاصيه ، فهم الفائزون بما يؤمِّلون من النعيم
في الآخرة ، والظفر في الدنيا بالطلبة، كما كانت عاقبة نوح إذ صبر لأمر الله ، أنْ
نجَّاه من الهلكة مع من آمن به ، وأعطاه في الآخرة ما أعطاه من الكرامة، وغرَّق
المكذبين به فأهلكهم جميعهم. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما
كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا
) ، القرآن،
وما كان عَلم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وقومه ما صنع نوحٌ وقومه، لولا ما بيَّن
الله في كتابه. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا
قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ
أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ ( 50
) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى قوم عاد
أخاهم هودًا، فقال لهم: « يا قوم اعبدوا الله » وحده لا شريك له ، دون ما تعبدون من دونه
من الآلهة والأوثان. ( ما لكم إله غيره ) ، يقول: ليس لكم معبود يستحق العبادة عليكم
غيره، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالألوهة ( إن أنتم إلا مفترون ) ، يقول: ما أنتم في إشراككم معه الآلهة والأوثان إلا
أهل فرية مكذبون، تختلقون الباطل، لأنه لا إله سواه. القول في تأويل قوله تعالى : يَا
قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي
فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 51
) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود
لقومه: يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وخلع الأوثان
والبراءة منها، جزاءً وثوابًا ( إن أجري إلا على الذي فطرني ) ، يقول: إن ثوابي
وجزائي على نصيحتي لكم، ودعائكم إلى الله، إلا على الذي خلقني ( أفلا تعقلون ) ، يقول: أفلا تعقلون أني لو كنت ابتغي بدعايتكم إلى
الله غير النصيحة لكم ، وطلب الحظ لكم في الدنيا والآخرة ، لالتمست منكم على ذلك
بعض أعراض الدنيا ، وطلبت منكم الأجر والثواب؟ حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( إن أجري إلا على الذي فطرني ) ، أي خلقني القول في
تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى
قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ( 52 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا
عن قيل هود لقومه: ( ويا قوم استغفروا ربكم ) ، يقول: آمنوا به حتى يغفر لكم
ذنوبكم. والاستغفار: هو الإيمان بالله في هذا الموضع، لأن هودًا صلى الله عليه
وسلم إنما دعا قومه إلى توحيد الله ليغفر لهم ذنوبهم، كما قال نوح لقومه: اعْبُدُوا
اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [ سورة نوح : 3 : 4 ] وقوله: ( ثم توبوا إليه ) ، يقول: ثم
توبوا إلى الله من سالف ذنوبكم وعبادتكم غيره بعد الإيمان به ( يرسل السماء عليكم
مدرارا ) ، يقول: فإنكم إن آمنتم بالله وتبتم من كفركم به، أرسل قَطْر السماء
عليكم يدرَّ لكم الغيثَ في وقت حاجتكم إليه، وتحَيَا بلادكم من الجدب والقَحط. وبنحو الذي قلنا
في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( مدرارا ) ، يقول: يتبع بعضها بعضا. حدثني يونس قال،
أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( يرسل السماء عليكم مدرارًا ) قال: يدر
ذلك عليهم قطرًا ومطرًا. وأما قوله: ( ويزدكم قوة إلى قوتكم ) ، فإن مجاهدًا كان يقول
في ذلك ما:- حدثني به محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( ويزدكم قوة إلى قوتكم ) ، قال: شدة إلى شدتكم حدثني
المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وإسحاق
قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد حدثنا القاسم قال ،
حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد، فذكر مثله. حدثني يونس قال،
أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ويزدكم قوة إلى قوّتكم ) ، قال: جعل
لهم قوة، فلو أنهم أطاعوه زادهم قوة إلى قوتهم. وذكر لنا أنه إنما قيل لهم: ( ويزدكم
قوة إلى قوتكم ) ، قال: إنه قد كان انقطع النسل عنهم سنين، فقال هود لهم: إن آمنتم
بالله أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد، لأن ذلك من القوة. وقوله: ( ولا
تتولوا مجرمين ) ، يقول: ولا تدبروا عما أدعوكم إليه من توحيد الله، والبراءة من
الأوثان والأصنام ( مجرمين ) ، يعني : كافرين بالله. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا
يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ
قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ( 53 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال
قوم هود لهود، يا هود ما أتيتنا ببيان ولا برهان على ما تقول، فنسلم لك، ونقر بأنك
صادق فيما تدعونا إليه من توحيد الله والإقرار بنبوتك ( وما نحن بتاركي آلهتنا ) ،
يقول: وما نحن بتاركي آلهتنا ، يعني : لقولك: أو من أجل قولك. ( ما نحن لك بمؤمنين ) ، يقول: قالوا: وما نحن لك بما تدعي من النبوة
والرسالة من الله إلينا بمصدِّقين.
القول في تأويل قوله تعالى : إِنْ نَقُولُ إِلا
اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا
أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 54 ) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ
لا تُنْظِرُونِ ( 55 ) قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره، عن قول قوم هود :
أنهم قالوا له، إذ نصح لهم ودعاهم إلى توحيد الله وتصديقه، وخلع الأوثان والبراءة منها:
لا نترك عبادة آلهتنا، وما نقول إلا أن الذي حملك على ذمِّها والنهي عن عبادتها ،
أنه أصابك منها خبَلٌ من جنونٌ . فقال هود لهم: إني أشهد الله على نفسي وأشهدكم
أيضًا أيها القوم ، أني بريء مما تشركون في عبادة الله من آلهتكم وأوثانكم من دونه
( فكيدوني جميعا ) ، يقول: فاحتالوا أنتم جميعًا وآلهتكم في ضري ومكروهي ( ثم لا
تنظرون ) ، يقول: ثم لا تؤخرون ذلك، فانظروا هل تنالونني أنتم وهم بما زعمتم أن
آلهتكم نالتني به من السوء؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( اعْتَرَاكَ بَعْضُ
آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، قال: أصابتك الأوثان بجنون. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : ( اعْتَرَاكَ بَعْضُ
آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، قال: أصابك الأوثان بجنون. حدثني المثني قال ، حدثنا ابن دكين قال
، حدثنا سفيان، عن عيسى، عن مجاهد:
( اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، قال: سببتَ
آلهتنا وعبتها ، فأجنَّتك. . .
. . قال، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن نجيح،
عن مجاهد: ( اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، أصابك بعض آلهتنا بسوء ، يعنون الأوثان. . . . . قال،
حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إِنْ
نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) قال: أصابك الأوثان بجنون. حدثنا محمد بن
سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (
إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، قال: تصيبك آلهتنا
بالجنون. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( إِلا
اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، قال: ما يحملك على ذمّ آلهتنا، إلا أنه
أصابك منها سوء. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:
( إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، قال: إنما تصنع هذا
بآلهتنا أنها أصابتك بسوء. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج
قال، قال عبد الله بن كثير: أصابتك آلهتنا بشر. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ
قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إِنْ نَقُولُ إِلا
اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، يقولون: نخشى أن يصيبك من آلهتنا سوء،
ولا نحب أن تعتريك ، يقولون: يصيبك منها سوء. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال،
قال ابن زيد في قوله: ( إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ )
، يقولون: اختلَط عقلك فأصابك هذا مما صنعت بك آلهتنا. وقوله: ( اعْتَرَاكَ ) ، ا « فتعل » ،
من « عراني الشيء يعروني » :، إذا أصابك، كما قال الشاعر: مِنَ القَوْمِ يَعْرُوهُ اجْتِرَاءٌ
وَمَأْثَمُ القول في تأويل قوله تعالى : إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ
مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ ( 56 ) قال أبو جعفر: يقول: إني على الله الذي هو مالكي ومالككم ،
والقيِّم على جميع خلقه ، توكلت من أن تصيبوني ، أنتم وغيركم من الخلق بسوء، فإنه
ليس من شيء يدب على الأرض ، إلا والله مالكه، وهو في قبضته وسلطانه. ذليلٌ له خاضعٌ. فإن قال قائل:
وكيف قيل: ( هو آخذ بناصيتها ) ، فخص بالأخذ « الناصية » دون سائر أماكن الجسد. قيل: لأن العرب
كانت تستعمل ذلك في وصفها من وصفته بالذلة والخضوع، فتقول: « ما ناصية فلان إلا بيد فلان » ، أي :
أنه له مطيع يصرفه كيف شاء . وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمنّ عليه
، جزُّوا ناصيته ، ليعتدّوا بذلك عليه فخرًا عند المفاخرة. فخاطبهم الله بما
يعرفون في كلامهم، والمعنى ما ذكرت.
وقوله: ( إن ربي على صراط مستقيم ) ، يقول: إن ربي على
طريق الحق، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته، لا يظلم أحدًا منهم
شيئًا ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان به، كما:- حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة
قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إن ربي على صراط مستقيم ) ، الحقّ . حدثني المثني
قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،
مثله. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا
غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (
57 ) قال
أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: ( فإن تولوا ) ، يقول: فإن أدبروا معرضين عما أدعوهم إليه من توحيد
الله وترك عبادة الأوثان ( فقد أبلغتكم ) أيها القوم ( ما أرسلت به إليكم ) ، وما على
الرسول إلا البلاغ ( ويستخلف ربي قوما غيركم ) ، يهلككم ربي، ثم يستبدل ربي منكم
قومًا غيركم ، يوحِّدونه ويخلصون له العبادة ( ولا تضرونه شيئًا ) ، يقول: ولا تقدرون
له على ضرّ إذا أراد إهلاككم أو أهلككم.
وقد قيل: لا يضره هلاككُم إذا أهلككم ، لا تنقصونه شيئًا
، لأنه سواء عنده كُنتم أو لم تكونوا.
( إن ربي على كل شيء حفيظ ) ، يقول: إن ربي على جميع
خلقه ذو حفظ وعلم . يقول: هو الذي يحفظني من أن تنالوني بسوء. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمَّا
جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا
وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ( 58 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما
جاء قوم هود عذابُنا ، نجينا منه هودًا والذين آمنوا بالله معه ( برحمة منا ) ،
يعني : بفضل منه عليهم ونعمة ( ونجيناهم من عذاب غليظ ) ، يقول: نجيناهم أيضًا من عذاب غليظ
يوم القيامة، كما نجيناهم في الدنيا من السخطة التي أنـزلتها بعادٍ. القول في تأويل
قوله تعالى : وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ
وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ( 59 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره:
وهؤلاء الذين أحللنا بهم نقمتنا وعذابنا ، عادٌ، جحدوا بأدلة الله وحججه، وعصوا
رسله الذين أرسلهم إليهم للدعاء إلى توحيده واتباع أمره ( واتبعوا أمر كل جبار
عنيد ) ، يعني : كلّ مستكبر على الله، حائد عن الحق ، لا يُذعن له ولا يقبله. يقال منه: «
عَنَد عن الحق ، فهو يعنِد عُنُودًا » ، و « الرجل عَاند وعَنُود » . ومن ذلك قيل
للعرق الذي ينفجر فلا يرقأ: « عِرْق عاند » : أي ضَارٍ، ومنه قول الراجز: إِنِّي كَبِيرٌ
لا أَطِيقُ العُنَّدَا حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: ( واتبعوا أمر كل جبار عنيد ) ، المشرك. القول في تأويل قوله تعالى :
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ
عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ( 60 ) قال أبو جعفر :
يقول تعالى ذكره: وأتبع عاد قوم هود في هذه الدنيا غضبًا من الله وسخطةً يوم
القيامة، مثلها ، لعنةً إلى اللعنة التي سلفت لهم من الله في الدنيا ( ألا إن
عادًا كفروا ربهم ألا بعدًا لعاد قوم هود ) ، يقولُ: أبعدهم الله من الخير. يقال: « كفر فلان
ربه وكفر بربه » ، « وشكرت لك ، وشكرتك
» . وقيل إن معنى: ( كفروا ربهم ) ، كفروا نعمةَ ربهم. القول في تأويل
قوله تعالى : وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ
وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي
قَرِيبٌ مُجِيبٌ ( 61 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم
صالحًا، فقال لهم: يا قوم ، اعبدوا الله وحده لا شريك له، وأخلصوا له العبادة دون
ما سواه من الآلهة، فما لكم من إله غيره يستوجب عليكم العبادة، ولا تجوز الألوهة
إلا له ( هو أنشأكم من الأرض ) ، يقول: هو ابتدأ خلقكم من الأرض. وإنما قال ذلك
لأنه خلق آدم من الأرض، فخرج الخطاب لهم ، إذ كان ذلك فعله بمن هم منه. ( واستعمركم فيها
) ، يقول: وجعلكم عُمَّارًا فيها، فكان المعنى فيه: أسكنكم فيها أيام حياتكم. من قولهم: «
أعْمر فلانٌ فلانًا دارَه » ، و « هي له عُمْرَى » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ( واستعمركم فيها ) ، قال: أعمركم فيها حدثني
المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (
واستعمركم فيها ) ، يقول: أعمركم وقوله: ( فاستغفروه ) ، يقول: اعملوا عملا يكون
سببًا لستر الله عليكم ذنوبكم، وذلك الإيمان به، وإخلاص العبادة له دون ما سواه ،
واتباعُ رسوله صالح ( ثم توبوا إليه ) ، يقول: ثم اتركوا من الأعمال ما يكرهه ربكم
، إلى ما يرضاه ويحبه ( إن ربي قريب مجيب ) ، يقول: إن ربي قريب ممن أخلص له العبادة
ورغب إليه في التوبة، مجيبٌ له إذا دعاه. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا
يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ
نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا
إِلَيْهِ مُرِيبٍ ( 62 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: قالت ثمود لصالح نبيِّهم: (
يا صالح قد كنت فينا مرجوًّا ) ، أي كنا نرجُو أن تكون فينا سيدًا قبل هذا القول
الذي قلته لنا ، من أنه مالنا من إله غير الله ( أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ) ، يقول: أتنهانا أن نعبد الآلهة التي كانت آباؤنا
تعبدها ( وإننا لفي شك مما تدعونَا إليه مريب ) ، يعنون أنهم لا يعلمون صحَّة ما
يدعوهم إليه من توحيد الله، وأن الألوهة لا تكون إلا لهُ خالصًا. وقوله : ( مريب )
، أي يوجب التهمة ، من « أربته فأنا أريبه إرابة » ، إذا فعلت به فعلا يوجب له
الريبة، ومنه قول الهذلي: كُــنْتُ إِذَا أَتَوْتُــه مِــنْ غَيْــبِ يَشَـــمُّ
عِطْفِــي وَيــبُزُّ ثَــوْبِي *كَأَنَّمَا أَرَبْتُهُ بِرَيْبِ* القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا
قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ
رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي
غَيْرَ تَخْسِيرٍ ( 63 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال صالح لقومه من ثمود: ( يا
قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، يقول : إن كنت على برهان وبيان من الله قد علمته
وأيقنته ( وآتاني منه رحمة ) ، يقول: وآتاني منه النبوة والحكمة والإسلام ( فمن ينصرني من
الله إن عصيته ) ، يقول: فمن الذي يدفع عنِّي عقابه إذا عاقبني إن أنا عصيته،
فيخلصني منه ( فما تزيدونني ) ، بعذركم الذي تعتذرون به ، من أنكم تعبدون ما كان
يعبدُ آباؤكم، ( غير تخسير ) ، لكم يخسركم حظوظكم من رحمة الله، كما:- حدثني المثنى
قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فما
تزيدونني غير تخسير ) ، يقول: ما تزدادون أنتم إلا خسارًا. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَا
قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ
اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ( 64 ) قال أبو جعفر :
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه من ثمود ، إذ قالوا له : وَإِنَّنَا
لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ، وسألوه الآية على ما دعاهم
إليه: ( يا قوم هذه ناقة الله لكم آية ) ، يقول: حجة وعلامة، ودلالة على حقيقة ما
أدعوكم إليه ( فذروها تأكل في أرض الله
) ، فليس
عليكم رزقها ولا مئونتها ( ولا تمسوها بسوء ) ، يقول: لا تقتلوها ولا تنالوها
بعَقْر ( فيأخذكم عذاب قريب ) ، يقول: فإنكم إن تمسوها بسوء يأخذكم عذاب من الله
غير بعيد فيهلككم. القول في تأويل قوله تعالى : فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا
فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ( 65 ) قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمود ناقة الله وفي الكلام محذوفٌ قد ترك ذكرُه ، استغناءً
بدلالة الظاهر عليه، وهو: « فكذبوه » « فعقروها » فقال لهم صالح: ( تمتعوا في داركم
ثلاثة أيام ) ، يقول: استمتعوا في دار الدنيا بحياتكم ثلاثة أيام ( ذلك وعد غير
مكذوب ) ، يقول: هذا الأجل الذي أجَّلتكم ، وَعْدٌ من الله، وعدكم بانقضائه
الهلاكَ ونـزولَ العذاب بكم ( غير مكذوب ) ، يقول: لم يكذبكم فيه من أعلمكم ذلك. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( فعقروها فقال تمتعوا في داركم
ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) ، وذكر لنا أن صالحًا حين أخبرهم أن العذاب أتاهم
لبسُوا الأنطاع والأكسية، وقيل لهم: إن آية ذلك أن تصفرَّ ألوانكم أوَّل يوم، ثم
تحمرَّ في اليوم الثاني، ثم تسودَّ في اليوم الثالث . وذكر لنا أنهم لما عقرُوا
الناقة ندموا ، وقالوا: « عليكم الفَصيلَ » ؟ فصعد الفصيل القارَة و « القارة »
الجبل حتى إذا كان اليوم الثالث، استقبل القبلة ، وقال: « يا رب أمي ، يا رب أمي »
، ثلاثا. قال: فأرسلت الصيحة عند ذلك. وكان ابن عباس يقول: لو صعدتم القارة
لرأيتم عظام الفصيل. وكانت منازل ثمود بحجْر بين الشام والمدينة. حدثنا محمد بن
عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ) ، قال:
بقية آجالهم. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة
أن ابن عباس قال: لو صعدتم على القارة لرأيتم عظَام الفصيل. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا
جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ
مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ( 66 ) قال أبو جعفر :
يقول تعالى ذكره: فلما جاء ثمود عذابُنا « نجينا صالحًا والذين آمنوا به معه برحمة
منا » ، يقول: بنعمة وفضل من الله ( ومن خزي يومئذ ) ، يقول: ونجيناهم من هوان ذلك
اليوم ، وذلِّه بذلك العذاب ( إن ربك هو القوي ) ، في بطشه إذا بطش بشيء أهلكه،
كما أهلك ثمود حين بطَش بها « العزيز » ، فلا يغلبه غالب ، ولا يقهره قاهر، بل يغلب كل شيء
ويقهره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا
محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:
( برحمة منا ومن خزي يومئذ ) ، قال: نجاه الله برحمة
منه، ونجاه من خزي يومئذ. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر
بن عبد الله، عن شهر بن حوشب ، عن عمرو بن خارجة قال: قلنا له: حدّثنا حديثَ ثمود . قال: أحدثكم عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمود: كانت ثمودُ قومَ صالح، أعمرهم الله في
الدنيا فأطال أعْمَارهم ، حتى جعل أحدهم يبني المسكنَ من المدر، فينهدم ،
والرَّجلُ منهم حيٌّ. فلما رأوا ذلك ، اتخذوا من الجبال بيوتًا فَرِهين، فنحتوها
وجَابُوها وجوَّفوها . وكانوا في سعةٍ من معايشهم. فقالوا: يا صالح ادع لنا ربك
يخرج لنا آية نعلم أنك رسول الله ، فدعا صالح ربَّه، فأخرج لهم الناقة، فكان
شِرْبُها يومًا ، وشِرْبهم يومًا معلومًا. فإذا كان يوم شربها خَلَّوا عنها وعن
الماء وحلبوها لبنًا، ملئوا كل إناء ووعاء وسقاء، حتى إذا كان يوم شربهم صرفوها عن
الماء، فلم تشرب منه شيئًا ، فملئوا كل إناء ووعاء وسقاء. فأوحى الله إلى صالح: إن
قومك سيعقرون ناقتك ! فقال لهم، فقالوا: ما كنا لنفعل ! فقال: إلا تعقروها أنتم ، يوشكُ
أن يولد فيكم مولود [ يعقرها ] . قالوا: ما علامة ذلك المولود؟ فوالله لا نجده إلا
قتلناه ! قال: فإنه غلام أشقَر أزرَق أصهَبُ، أحمر. قال: وكان في المدينة شيخان عزيزان
منيعان، لأحدهما ابن يرغب به عن المناكح، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤًا، فجمع
بينهما مجلس، فقال أحدهما لصاحبه: ما يمنعك أن تزوج ابنك؟ قال: لا أجد له كفؤًا.
قال: فإن ابنتي كفؤ له، وأنا أزوجك. . فزوّجه، فولد بينهما ذلك المولود. وكان في
المدينة ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فلما قال لهم صالح: « إنما يعقرها
مولود فيكم » ، اختاروا ثماني نسوة قوابل من القرية، وجعلوا معهن شُرَطًا كانوا
يطوفون في القرية، فإذا وجدُوا المرأة تمخَضُ، نظروا ما ولدُها إن كان غلامًا
قلَّبنه فنظرن ما هو وإن كانت جارية أعرضن عنها. فلما وجدوا ذلك المولود صرخ
النسوة وقلن: « هذا الذي يريد رسول الله صالح » ، فأراد الشرط أن يأخذوه، فحال
جدّاه بينهم وبينه ، وقالا لو أن صالحًا أراد هذا قتلناه ! فكان شرَّ مولود، وكان يشبُّ في اليوم
شباب غيره في الجمعة، ويشبّ في الجمعة شباب غيره في الشهر، ويشب في الشهر شباب
غيره في السنة. فاجتمع الثمانية الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، وفيهم
الشيخان، فقالوا : « استعمل علينا هذا الغلام » لمنـزلته وشرَف جديه، فكانوا تسعة.
وكان صالح لا ينام معهم في القرية، كان في مسجد يقال له : « مسجد صالح » ، فيه
يبيت بالليل، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم، وإذا أمسى خرج إلى مسجده فبات فيه. قال حجاج: وقال
ابن جريج: لما قال لهم صالح: « إنه سيولد غلام يكون هلاككم على يديه » ، قالوا :
فكيف تأمرنا؟ قال: آمركم بقتلهم ! فقتلوهم إلا واحدًا. قال: فلما بلغ ذلك المولود
، قالوا: لو كنا لم نقتل أولادَنا، لكان لكل رجل منا مثل هذا، هذا عملُ صالح !
فأتمروا بينهم بقتله، وقالوا: نخرج مسافرين والناس يروننا علانيةً، ثم نرجع من
ليلة كذا من شهر كذا وكذا ، فنرصده عند مصلاه فنقتله، فلا يحسب الناس إلا أنَّا
مسافرون ، كما نحن ! فأقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصُدُونه، فأرسل الله عليهم
الصخرة فرضَخَتهم، فأصبحوا رَضْخًا. فانطلق رجال ممَّن قد اطلع على ذلك منهم، فإذا
هم رضْخٌ، فرجعوا يصيحون في القرية: أي عباد الله، أما رضي صالح أن أمرهم أن
يقتلوا أولادَهم حتى قتلهم؟ ! فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة أجمعون، وأحجموا عنها
إلا ذلك الابن العاشر. ثم رجع الحديث إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
وأرادوا أن يمكروا بصالح، فمشوا حتى أتوا على سَرَبٍ على طريق صالح، فاختبأ فيه ثمانية،
وقالوا: إذا خرج علينا قتلناه وأتينا أهله ، فبيَّتْناهُمْ ! فأمر الله الأرض
فاستوت عنهم . قال: فاجتمعوا ومشَوْا إلى الناقة وهي على حَوْضها قائمة، فقال
الشقيُّ لأحدهم: ائتها فاعقرها ! فأتاها ، فتعاظَمَه ذلك، فأضرب عن ذلك، فبعث آخر
فأعظم ذلك. فجعل لا يبعث رجلا إلا تعاظمه أمرُها ، حتى مشوا إليها، وتطاول فضرب
عرقوبيها، فوقعت تركُضُ، وأتى رجلٌ منهم صالحًا فقال: « أدرك الناقةَ فقد عقرت » !
فأقبل، وخرجوا يتَلقَّونه ويعتذرون إليه: « يا نبيّ الله، إنما عقرها فلان، إنه لا
ذنب لنا » ! قال: فانظروا هل تدركون فصيلها؟ ، فإن أدركتموه، فعسَى الله أن
يرفعَ عنكم العذابَ ! فخرجوا يطلبونه، ولما رأى الفصيل أمَّه تضطرب ، أتى جبلا
يقال له « القارَة » قصيرًا، فصعد وذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله إلى الجبل، فطالَ في السماء
حتى ما تَناله الطير. قال: ودخل صالح القرية، فلما رآه الفصيل بكى حتى سألت دموعه،
ثم استقبل صالحًا فرغًا رَغْوةً، ثم رغَا أخرى، ثم رغا أخرى، فقال صالح لقومه: لكل
رغوة أجلُ يوم ، تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ
غَيْرُ مَكْذُوبٍ ، ألا إن أية العذاب أنّ اليوم الأوّل تصبح وجوهكم مصفرّة،
واليوم الثاني محمرّة، واليوم الثالث مسودّة ! فلما أصبحوا فإذا وجوههم كأنها طليت
بالخلوق، صغيرُهم وكبيرُهم، ذكرهم وأنثَاهم. فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: « ألا قد
مضى يوم من الأجل ، وحضركم العذاب » ! فلما أصبحوا اليوم. الثاني إذا وجوههم محمرة
، كأنها خُضِبت بالدماء، فصاحوا وضجُّوا وبكوا وعرفوا آية العذاب، فلما أمسوا صاحُوا
بأجمعهم: « ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب » ! فلما أصبحوا اليوم الثالث
، فإذا وجوههم مسودّة كأنها طُليت بالقار، فصاحوا جميعا: « ألا قد حضركم العذاب »
! فتكفَّنُوا وتحنَّطوا، وكان حنوطهم الصَّبر والمقر، وكانت أكفانهم الأنطاع، ثم
ألقوا أنفسهم إلى الأرض، فجعلوا يقلبون أبصارهم، فينظرون إلى السماء مرة وإلى
الأرض مرة، فلا يدرون من حيث يأتيهم العذاب من فوقهم من السماء أو من تحت أرجلهم
من الأرض ، خَشَعًا وفَرَقًا. فلما أصبحوا اليومَ الرابع أتتهم صيحةٌ من السماء
فيها صوتُ كل صاعقة، وصوت كلّ شيء له صوتٌ في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدُورهم،
فأصبحوا في دارهم جاثمين. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج
قال: حُدِّثت
أنَّه لما أخذتهم الصيحة ، أهلك الله مَنْ بَين المشارق والمغارب منهم إلا رجلا
واحدًا كان في حرم الله، منعه حرم الله من عذاب الله. قيل: ومن هو يا رسول الله؟ قال: أبو رِغال.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أتى على قرية ثمود ، لأصحابه: لا يدخلنَّ
أحدٌ منكم القرية ، ولا تشربوا من مائهم . وأراهم مُرْتقَى الفصيل حين ارتقَى في
القارَة. قال ابن جريج، وأخبرني موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر:
أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى على قرية ثمود قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين
إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ، أنْ يُصيبكم ما
أصابهم. قال ابن جريج، قال جابر بن عبد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى
على الحِجْر، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فلا تسألوا رسُولكم الآيات،
هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية، فبعث لهم الناقة، فكانت تَرِدُ من هذا الفَجّ
، وتصدر من هذا الفَجّ، فتشرب ماءَهم يوم ورودها. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما مرّ بوادي
ثمود، وهو عامد إلى تبوك قال: فأمر أصحابه أن يسرعوا السير، وأن لا ينـزلوا به، ولا يشربوا
من مائه، وأخبرهم أنه وادٍ ملعون. قال: وذكر لنا أن الرجل المُوسِر من قوم صالح
كان يعطي المعسر منهم ما يتكَفّنون به، وكان الرجل منهم يَلْحَد لنفسه ولأهل بيته،
لميعاد نبي الله صالح الذي وعدهم . وحدَّث من رآهم بالطرق والأفنية والبيوت، فيهم
شبان وشيوخ ، أبقاهم الله عبرة وآية.
حدثنا إسماعيل بن المتوكل الأشجعي من أهل حمص قال ،
حدثنا محمد بن كثير قال ، حدثنا عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم
قال ، حدثنا أبو الطفيل، قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم َغَزاة تبُوك،
نـزل الحجر فقال: يا أيها الناس لا تسألوا نبيَّكم الآيات ، هؤلاء قوم صالح سألوا
نبيَّهم أن يبعث لهم آية، فبعث الله لهم الناقة آيةً، فكانت تَلج عليهم يوم [
ورودها من هذا الفجّ، فتشربُ ماءهم ، ويوم وردهم كانوا يتزودون منه ] ، ثم
يحلبونها مثل ما كانوا يتزَوّدون من مائهم قبل ذلك لبنًا، ثم تخرج من ذلك الفجّ.
فعتوا عن أمر ربهم وعقروها، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام، وكان وعدًا من
الله غير مكذوب، فأهلك الله من كان منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا واحدًا
، كان في حرم الله، فمنعه حَرَمُ الله من عذاب الله . قالوا: ومن ذلك الرجل يا
رسول الله؟ قال: أبو رِغال. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 67 ) كَأَنْ لَمْ
يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ (
68 ) قال
أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأصاب الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله من عقر ناقة
الله وكفرهم به ( الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) ، قد جثمتهم المنايا، وتركتهم
خمودًا بأفنيتهم، كما:- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: (
فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) ، يقول: أصبحوا قد هلكوا. ( كأن لم يغنوا فيها ) ، يقول: كأن لم يعيشوا فيها، ولم يعمروا بها، كما:- حدثني المثنى
قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( كأن
لم يغنوا فيها ) ، كأن لم يعيشوا فيها.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة،
مثله. وقد بينا ذلك فيما مضى بشواهده فأغنى ذلك عن إعادته. وقوله: ( ألا إن ثمود كفروا ربهم ) ،
يقول: ألا إن ثمود كفروا بآيات ربهم فجحدوها ( ألا بعدًا لثمود ) ، يقول: ألا أبعد
الله ثمود ! لنـزول العذاب بهم.
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا
إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ
حَنِيذٍ ( 69 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ( ولقد جاءت رسلنا ) ، من الملائكة
وهم فيما ذكر ، كانوا جبريل وملكين آخرين. وقيل : إن الملكين الآخرين كان ميكائيل
وإسرافيل معه ( إبراهيم ) ، يعني: إبراهيم خليل الله ( بالبشرى ) ، يعني: بالبشارة. واختلفوا في تلك البشارة التي أتوه بها. فقال بعضهم: هي
البشارة بإسحاق. وقال بعضهم: هي البشارة بهلاك قوم لوط. ( قالوا سلاما ) ، يقول: فسلموا عليه
سلامًا. ونصب « سلامًا » بإعمال « قالوا » فيه، كأنه قيل: قالوا قولا وسلَّموا تسليمًا. ( قال سلام ) ،
يقول: قال إبراهيم لهم: سلام فرفع « سلامٌ » ، بمعنى : عليكم السلام أو بمعنى : سلام منكم . وقد ذكر عن العرب
أنها تقول: « سِلْمٌ » بمعنى السلام ، كما قالوا: « حِلٌّ وحلالٌ » ، « وحِرْم
وحرام » . وذكر الفرَّاء أن بعض العرب أنشده: مَرَرْنَــا فَقُلْنَـا إِيـهِ سِـلْمٌ
فَسَـلَّمَتْ كَمَـا اكْتَـلَّ بِـالَبْرقِ الغَمَـامُ الَّلـوَائِحُ بمعنى سلام.
وقد روي « كما انكلّ » . وقد زعم بعضهم أن معناه إذا قرئ كذلك: نحن سِلْمٌ لكم من «
المسالمة » التي هي خلاف المحاربة.
وهذه قراءة عامَّة قراء الكوفيين. وقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والبصرة ، (
قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ )
، على أن
الجواب من إبراهيم صلى الله عليه وسلم لهم، بنحو تسليمهم: عليكم السلام. والصواب من القول
في ذلك عندي: أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأن « السلم » قد يكون بمعنى « السلام » على ما وصفت،
و « السلام » بمعنى « السلم » ، لأن التسليم لا
يكاد يكون إلا بين أهل السّلم دون الأعداء، فإذا ذكر تسليم من قوم على قوم ،
ورَدُّ الآخرين عليهم، دلّ ذلك على مسالمة بعضهم بعضًا. وهما مع ذلك قراءتان قد قرأ بكل واحدة
منهما أهل قدوة في القراءة، فبأيَّتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ. وقوله: ( فما لبث
أن جاء بعجل حنيذ ) . وأصله « محنوذ » ، صرف من « مفعول » إلى « فعيل » . وقد اختلف أهل
العربية في معناه، فقال بعض أهل البصرة منهم معنى « المحنوذ » : المشويّ، قال: ويقال منه: «
حَنَذْتُ فرسي » ، بمعنى سخَّنته وعرَّقته. واستشهد لقوله ذلك ببيت الراجز: *ورَهِبَا مِنْ
حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا* وقال آخر منهم: « حنذ فرسه » : أي أضمره، وقال: قالوا حَنَذه
يحنِذُه حَنْذًا: أي: عرَّقه. وقال بعض أهل الكوفة: كل ما انشوَى في الأرض ، إذا خَدَدت له
فيه ، فدفنته وغممته ، فهو « الحنيذ » و « المحنوذ » . قال: والخيل تُحْنَذ ، إذا
القيت عليها الجِلال بعضُها على بعض لتعرق. قال: ويقال: « إذا سَقَيْتَ فَأحْنِذْ » ، يعني : أخْفِسْ، يريد: أقلَّ الماء، وأكثر النبيذ. وأما [ أهل ]
التأويل، فإنهم قالوا في معناه ما أنا ذاكره، وذلك ما:- حدثني به المثنى قال ، حدثنا عبد الله
بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( بعجل حنيذ ) ، يقول: نضيج
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:
( بعجل حنيذ ) قال: « بعجل » ، حَسِيل البقر، و « الحنيذ » : المشوي النضيج. حدثنا القاسم قال
، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( ولقد جاءت رسلنا
إبراهيم بالبشرى ) إلى ( بعجل حنيذ ) ، قال: نضيج ، سُخِّن ، أنضج بالحجارة. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) ، و «
الحنيذ » : النضيج. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة: ( بعجل حنيذ ) ، قال: نضيج. قال: [ وقال الكلبي ] : و « الحنيذ » : الذي يُحْنَذُ
في الأرض. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر في قوله: ( فجاء بعجل حنيذ
) ، قال: « الحنيذ » : الذي يقطر ماء ، وقد شوى وقال حفص: « الحنيذ » : مثل حِنَاذ الخيل. حدثني موسى بن
هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال: ذبحه ثم شواه
في الرَّضْف ، فهو « الحنيذ » حين شواه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو يزيد، عن يعقوب، عن حفص
بن حميد، عن شمر بن عطية: ( فجاء بعجل حنيذ ) ، قال: المشويّ الذي يقطر. حدثني المثنى قال
، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام قال ، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن
عطية، قال: « الحنيذ » الذي يقطر ماؤه وقد شُوِي. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي،
عن جويبر، عن الضحاك: ( بعجل حنيذ
) ، قال:
نضيج. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال،
سمعت الضحاك يقول في قوله: ( بعجل حنيذ ) ، الذي أنضج بالحجارة. حدثني الحارث قال
، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان: ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) ، قال: مشويّ. حدثني المثنى قال
، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع
وهب بن منبه يقول: « حينذ » ، يعني: شُوِي. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق قال، « الحِناذ » : الإنضاج. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل
التفسير متقارباتُ المعاني بعضها من بعض. وموضع « أن » في قوله: ( أن جاء بعجل
حنيذ ) نصبٌ بقوله: ( فما لبث أن جاء
) . القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا رَأَى
أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا
لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ( 70 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فلما
رأى إبراهيم أيديَهم لا تصل إلى العجل الذي أتاهم به، والطعام الذي قدّم إليهم ،
نكرهم، وذلك أنه لما قدم طعامه صلى الله عليه وسلم إليهم ، فيما ذكر، كفّوا عن
أكله، لأنهم لم يكونوا ممن يأكله. وكان إمساكهم عن أكله ، عند إبراهيم ، وهم
ضِيَفانه مستنكرًا. ولم تكن بينهم معرفةٌ، وراعه أمرهم، وأوجس في نفسه منهم خيفة. وكان قتادة يقول:
كان إنكاره ذلك من أمرهم ، كما:-
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة:
( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ) ، وكانت العرب إذا نـزل
بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ بخير، وأنه يحدِّث نفسه بشرّ. حدثنا الحسن بن
يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( فلما رأى
أيديهم لا تصل إليه نكرَهم ) ، قال : كانوا إذا نـزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم،
ظنوا أنه لم يأت بخير، وأنه يحدّث نفسه بشرّ، ثم حدَّثوه عند ذلك بما جاؤوا. *وقال غيره في
ذلك ما:- حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل، عن الأسود بن قيس،
عن جندب بن سفيان قال: لما دخل ضيف إبراهيم عليه السلام ، قرّب إليهم العجل،
فجعلوا ينكتُون بقِداح في أيديهم من نبْل، ولا تصل أيديهم إليه، نكرهم عند ذلك. يقال منه: « نكرت
الشيء أنكره » ، و « أنكرته أنكره » ، بمعنى واحد، ومن « نكرت » و « أنكرت » ، قول الأعشى: وَأَنْكَـرَتْنِي
وَمَـا كَـانَ الَّـذِي نَكِـرَتْ مِـنَ الحَـوَادِثِ , إلا الشَّـيْبَ وَالصَّلَعَا فجمع
اللغتين جميعا في البيت. وقال أبو ذؤيب:
فَنَكِرْنَــهُ , فَنَفَـرْنَ, وامْتَرَسَـتْ بِـهِ
هَوْجَــاءُ هَادِيَــةٌ وَهَــادٍ جُرْشُـعُ وقوله: ( وأوجس منهم خيفة ) ، يقول:
أحسَّ في نَفسه منهم خيفة وأضمرها.
( قالوا لا تخف ) ، يقول: قالت الملائكة ، لما رأت ما
بإبراهيم من الخوف منهم: لا تخف منا وكن آمنًا، فإنا ملائكة ربّك ( أرسلنا إلى قوم
لوط ) . القول في تأويل قوله تعالى : وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ قال أبو
جعفر: يقول تعالى ذكره: ( وامرأته ) ، سارَة بنت هاران بن ناحور بن ساروج بن راعو
بن فالغ، وهي ابنة عم إبراهيم ( قائمة ) ، قيل: كانت قائمة من وراء الستر تسمع
كلام الرسل وكلام إبراهيم عليه السلام. وقيل: كانت قائمة تخدُم الرسل ، وإبراهيم
جالسٌ مع الرسل. وقوله: ( فضحكت ) ، اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( فضحكت )
، وفي السبب الذي من أجله ضحكت.
فقال بعضهم: ضحكت الضحك المعروف ، تعجبًا من أنَّها
وزوجها إبراهيم يخدمان ضِيفانهم بأنفسهما ، تكرمةً لهم، وهم عن طعامهم ممسكون لا
يأكلون. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا
أسباط، عن السدي قال، بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط ، أقبلت تمشي في صورة رجال
شباب، حتى نـزلوا على إبراهيم فتضيَّفوه، فلما رآهم إبراهيم أجلّهم، فراغ إلى أهله،
فجاء بعجل سمين، فذبحه ثم شواه في الرَّضْف، فهو « الحنيذ » حين شواه. وأتاهم فقعد
معهم، وقامت سارَة تخدمُهم. فذلك حين يقول: ( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ ) وَهُوَ
جَالِسٌ في قراءة ابن مسعود. فلما قرّبه إليهم قال ألا تأكلون؟ قالوا: يا إبراهيم
، إنا لا نأكل طعامًا إلا بثمن
. قال: فإن لهذا ثمنًا! قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون
اسم الله على أوّله ، وتحمدونه على آخره. فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حُقَّ لهذا
أن يتخذه ربه خليلا! فلما رأى أيديهم لا تصل إليه يقول: لا يأكلون فزع منهم وأوجس
منهم خيفة ، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم، ضحكت وقالت: عجبًا لأضيافنا
هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمةً لهم، وهم لا يأكلون طعامنا ! وقال آخرون: بل ضحكت من أن قوم لوط في
غَفْلة وقد جاءت رُسُل الله لهلاكهم.
ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه حدثوه عند ذلك بما
جاؤوا فيه، فضحكت امرأته وعجبت من أن قومًا أتاهم العذاب ، وهم في غفلة. فضحكت من
ذلك وعجبت فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة أنه قال: ضحكت
تعجبًا مما فيه قوم لوط من الغفلة ، ومما أتاهم من العذاب. وقال آخرون: بل ضحكت ظنًّا منها بهم
أنهم يريدون عَمَل قوم لوط. ذكر من قال ذلك
: حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو
معشر، عن محمد بن قيس، في قوله: ( وامرأته قائمة فضحكت ) ، قال: لما جاءت الملائكة
ظنَّت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط. وقال آخرون: بل ضحكت لما رأت بزوجها
إبراهيم من الرَّوع. ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن الكلبي: ( فضحكت ) ، قال: ضحكت حين راعُوا إبراهيم مما رأت من الروع،
بإبراهيم. وقال آخرون: بل ضحكت حين بشرت بإسحاق تعجبًا من أن يكون لها ولد على كبر سنها
وسن زوجها. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم
قال، حدثني عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما أتى الملائكة إبراهيم عليه
السلام فرآهم، راعه هيئتهم وجمالهم، فسلموا عليه، وجلسوا إليه، فقام فأمر بعجل سمين،
فحُنِذَ له، فقرّب إليهم الطعام فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ
نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ، وسارة وراء البيت تسمع ، قالوا: لا
تَخَفْ إنَّا نبشرك بغلام حليم مبارك ! وبشّر به امرأته سارة، فضحكت وعجبت: كيف
يكون لي ولد وأنا عجوز ، وهو شيخ كبير!
فقالوا: أتعجبين من أمر الله؟ فإنه قادر على ما يشاء!
فقد وهبه الله لكم ، فأبشروا به
. وقد قال بعض من كان يتأول هذا التأويل: إن هذا من
المقدَّم الذي معناه التأخير، كأنّ معنى الكلام عنده: وامرأته قائمة، فبشرناها
بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فضحكت وقالت: يا ويلتا أألد وأنا عجوز؟ وقال آخرون:
بل معنى قوله: « فضحكت » في هذا الموضع: فحاضت. ذكر من قال ذلك: حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ،
حدثنا بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن عمرو بن الأزهر، عن ليث، عن مجاهد في
قوله: ( فضحكت ) ، قال: حاضت، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة. قال: وكان إبراهيم ابن
مائة سنة. وقال آخرون: بل ضحكت سرورًا بالأمن منهم، لما قالوا لإبراهيم: لا تخف،
وذلك أنه قد كان خافهم وخافتهم أيضًا كما خافهم إبراهيم . فلما أمِنَت ضحكت، فأتبعوها
البشارة بإسحاق. وقد كان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أنه لم يسمع « ضحكت
» ، بمعنى : حاضت ، من ثقة. وذكر بعض أهل العربية من البصريين أن بعض أهل الحجاز أخبره عن
بعضهم أن العرب تقول « ضحكت المرأة » ، حاضت . قال: وقد قال: « الضحك » ، الحيض،
وقد قال بعضهم: « الضحك » : الثَّغْرُ ، وذكر بيت أبي ذؤيب: فَجَـاءَ بِمِـزْجٍ لَـمْ يَـرَ
النَّـاسُ مِثْلَهُ هُـوَ الضَّحْـكُ إلا أَنَّـهُ عَمـلُ النَّحْلِ وذكر أنَّ بعض
أصحابه أنشده في الضحك بمعنى الحيض:
وَضِحْــكُ الأرَانِــبِ فَـوْقَ الصَّفَـا كَمِثْــل
دَمِ الجَــوْفِ يَــوْمَ اللِّقَـا قال: وذكر له بعض أصحابه أنه سمع للكميت: فَـأضْحَكَتِ
الضِّبَـاعُ سُـيُوفُ سَـعْدٍ بِقَتْــلَى مَــا دُفِــنَّ وَلا وُدِينَــا وقال:
يريد الحيض. قال: وبلحرث بن كعب يقولون: « ضحكت النخلة » ، إذا أخرجت الطَّلع أو
البُسْر. وقالوا: « الضَّحك » الطلع. قال: وسمعنا من يحكي: « أضحكت حوضًا » أي ملأته حتى فاض.
قال: وكأن المعنى قريبٌ بعضه من بعض كله، لأنه كأنه شيءٌ يمتلئُ فيفيض. قال أبو جعفر :
وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بالصواب قولُ من قال: معنى قوله: « فضحكت » فعجبت
من غفلة قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلتهم عنه. وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب ،
لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ .
فإذ كان ذلك كذلك، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم: ( لا تخف ) ، كان
الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط.
القول في تأويل قوله تعالى : فَبَشَّرْنَاهَا
بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ( 71 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:
فبشَّرنا سارَة امرأة إبراهيم ثوابًا منا لها على نَكيرها وعجبها من فعل قوم لوط (
بإسحاق ) ، ولدًا لها ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، يقول: ومن خلف إسحاق يعقوب ، من
ابنها إسحاق. و « الوراء » في كلام العرب، ولد الولد، وكذلك تأوَّله أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا حميد بن
مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود، عن عامر قال: ( ومن وراء إسحاق
يعقوب ) ، قال: الوراء: ولد الولد.
حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى، قال كلّ واحد منهما،
حدثني أبو اليسع إسماعيل بن حماد بن أبي المغيرة مولى الأشعري، قال: كنت إلى جنب
جدي أبي المغيرة بن مهران ، في مسجد عليّ بن زيد، فمر بنا الحسنُ بن أبي الحسن فقال:
يا أبا المغيرة من هذا الفتى؟ قال: ابني من ورائي، فقال الحسن: ( فبشرناها
بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب )
. حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن
أبي عدي قال ، حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله: ( فبشرناها بإسحاق ومن
وراء إسحاق يعقوب ) ، قال: ولد الولد هو « الوراء » . حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا
خالد، عن داود، عن عامر في قوله: ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، قال: « الوراء » ،
ولد الولد. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، مثله. حدثني الحارث قال
، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو عمرو الأزدي قال: سمعت الشعبي يقول: ولد الولد: هم الولد
من الوَراء. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت
قال: جاء رجل إلى ابن عباس ومعه ابن ابنه فقال: من هذا معك؟ قال: هذا ابن ابني.
قال: هذا ولدُك من الوراء! قال: فكأنه شقَّ على ذلك الرجل، فقال ابن عباس: إن الله
يقول: ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، فولد الولد هم الوراء. حدثني موسى بن
هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما ضحكت سارَة
. وقالت: « عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون
طعامنا » ! قال لها جبريل: أبشري بولد اسمُه إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب.
فَضربتْ وَجْهَهَا عجبًا، فذلك قوله:
فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ، [ سورة الذاريات : 29 ] . وقالت:
أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ
قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ
أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، قالت سارة: ما آية ذلك؟ قال: فأخذ
بيده عودًا يابسا فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر، فقال إبراهيم: هُو لله إذا ذبيحًا. حدثنا ابن حميد
قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فَضَحِكَتْ يعني سارَة لما عرفت من أمر الله
جل ثناؤه ولمَا تعلم من قوم لوط فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب بابن وبابن
ابن. فقالت وصكت وجهها يقال: ضربت على جبينها : يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا
عَجُوزٌ ، إلى قوله: إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته
عامة قراء العراق والحجاز: ( وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ ) ، برفع « يعقوب
» ، ويعيد ابتداء الكلام بقوله. ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، وذلك وإن كان خبرًا
مبتدأ، ففيه دلالة على معنى التبشير.
وقرأه بعض قراء أهل الكوفة والشأم، ( وَمِنْ وَرَاءِ
إِسْحَاقَ يَعْقُوب ) نصبًا . فأما الشامي منهما ، فذكر أنه كان ينحو ب « يعقوب » نحو النصب
بإضمار فعل آخر مشاكل للبشارة، كأنه قال: ووهبنا له من وراء إسحاق يعقوب. فلما لم
يظهر « وهبنا » عمل فيه « التبشير » وعطف به على موضع « إسحاق » ، إذ كان « إسحاق » وإن كان
مخفوضًا ، فإنه بمعنى المنصوب بعمل « بشرنا » ، فيه، كما قال الشاعر: جِــئْنِي
بِمِثْـلِ بَنِـي بَـدْرٍ لِقَـوْمِهِمِ أَوْ مِثْـلِ أُسَْـرِة مَنْظُـورِ بـنِ
سَـيَّارِ أَوْ عَـامِرَ بْـنَ طُفَيْـلٍ فِـي مُرَكَّبِـهِ أَوْ حَارِثًـا ,
يَـوْمَ نَادَى القَوْمُ: يَا حَارِ وأما الكوفي منهما فإنه قرأه بتأويل الخفض
فيما ذكر عنه، غير أنه نصبه لأنه لا يجرى. وقد أنكر ذلك أهل العلم بالعربية من أجل
دخول الصفة بين حرف العطف والاسم . وقالوا: خطأ أن يقال: « مررت بعمرٍو في الدَّار
وفي الدار زيد » وأنت عاطف ب « زيد » على « عمرو » ، إلا بتكرير الباء وإعادتها،
فإن لم تعد كان وجه الكلام عندهم الرفع، وجاز النصب، فإن قُدم الاسم على الصفة جاز
حينئذ الخفض، وذلك إذا قلت: « مررت بعمرو في الدار وزيد في البيت » . وقد أجاز
الخفضَ والصفةُ معترضةٌ بين حرف العطف والاسم ، بعضُ نحويي البصرة. قال أبو جعفر :
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه رفعًا، لأن ذلك هو الكلام
المعروف من كلام العرب، والذي لا يتناكره أهل العلم بالعربية، وما عليه قراءة
الأمصار. فأما النَّصب فيه فإن له وجهًا، غير أنِّي لا أحبُّ القراءة به، لأن كتاب
الله نـزلَ بأفصح ألسُن العرب، والذي هو أولى بالعلم بالذي نـزل به من الفصاحة. القول في تأويل
قوله تعالى : قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي
شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ( 72 ) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ
حَمِيدٌ مَجِيدٌ ( 73 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: قالت سَارة لما بُشِّرت
بإسحاق أنَّها تلد تعجبًا مما قيل لها من ذلك، إذ كانت قد بلغت السن التي لا يلد
من كان قد بلغها من الرجال والنساء وقيل: إنها كانت يومئذ ابنة تسع وتسعين سنة،
وإبراهيم ابن مائة سنة. وقد ذكرت الرواية فيما روي في ذلك عن مجاهد قبلُ. وأما ابن إسحاق،
فإنه قال في ذلك ما:- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كانت
سارَة يوم بُشِّرت بإسحاق ، فيما ذكر لي بعض أهل العلم ، ابنة تسعين سنة، وإبراهيم
ابن عشرين ومائة سنة. ( يَا وَيْلَتَا ) وهي كلمة تقولها العرب عند التعجب من الشيء
والاستنكار للشيء، فيقولون عند التعجب: « ويلُ أمِّه رجلا ما أرْجَله » ! وقد اختلف أهل
العربية في هذه الألف التي في: ( يا ويلتا ) . فقال بعض نحويي البصرة: هذه ألف
حقيقة، إذا وقفت قلت: « يا ويلتاه » ، وهي مثل ألف الندبة، فلطفت من أن تكون في
السكت، وجعلت بعدها الهاء لتكون أبين لها ، وأبعد في الصوت . ذلك لأن الألف إذا
كانت بين حرفين كان لها صدًى كنحو الصوت يكون في جوف الشيء فيتردد فيه، فتكون أكثر
وأبين. وقال غيره: هذه ألف الندبة، فإذا وقفت عليها فجائز، وإن وقفت على الهاء فجائز
، وقال: ألا ترى أنهم قد وقفوا على قوله: وَيَدْعُ الإِنْسَانُ ، [ سورة الإسراء: 11
] ، فحذفوا الواو وأثبتوها، وكذلك: مَا كُنَّا نَبْغِ ، [ سورة الكهف: 64 ] ، بالياء، وغير
الياء؟ قال: وهذا أقوى من ألف الندبة وهائها. قال أبو جعفر : والصواب من القول في
ذلك عندي أن هذه الألف ألف الندبة، والوقف عليها بالهاء وغير الهاء جائز في الكلام
لاستعمال العرب ذلك في كلامهم. وقوله: ( أألد وأنا عجوز ) ، تقول: أنى يكون لي ولد ( وأنا
عجوز وهذا بعلي شيْخًا ) ، والبعل في هذا الموضع: الزوج ، وسمي بذلك لأنه قيم
أمرها، كما سموا مالك الشيء « بعله » ، وكما قالوا للنخل التي تستغني بماء السماء
عن سقي ماء الأنهار والعيون « البعل » ، لأن مالك الشيء القيم به، والنخل البعل ،
بماء السمَاء حياتُه. وقوله ( إن هذا لشيء عجيب ) ، يقول: إن كون الولد من مثلي ومثل
بعلي على السن التي بها نحن لشيء عجيب ( قالوا أتعجبين من أمر الله ) ، يقول الله تعالى
ذكره: قالت الرسل لها: أتعجبين من أمرٍ أمر الله به أن يكون ، وقضاء قضاه الله فيك
وفي بعلك. وقوله: ( رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ) ، يقول: رحمة الله وسعادته لكم
أهل بيت إبراهيم وجعلت الألف واللام خلفًا من الإضافة وقوله: ( إنه حَميدٌ مجيد )
، يقول: إن الله محمود في تفضله عليكم بما تفضل به من النعم عليكم وعلى سائر خلقه
( مجيد ) ، يقول: ذو مجد ومَدْح وَثَناء كريم. يقال في « فعل » منه: « مجد الرجل يمجد
مجادة » إذا صار كذلك، وإذا أردت أنك مدحته قلت: « مجّدته تمجيدًا » . القول في
تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ
الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ( 74 ) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ
أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ( 75 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ
الذي أوجسه في نفسه من رسلنا، حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه، وأمن أن يكون
قُصِد في نفسه وأهله بسوء ( وجاءته البشرى ) ، بإسحاق، ظلّ ( يجادلنا في قوم لوط ) . وبنحو الذي
قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) يقول: ذهب عنه الخوف، ( وجاءته البشرى ) ،
بإسحاق. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع
وجاءته البشرى ) ، بإسحاق، ويعقوب ولد من صلب إسحاق، وأمن مما كان يخاف ، قال:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ، [ سورة إبراهيم: 39 ] . وقد قيل معنى ذلك: وجاءته البشرى
أنهم ليسوا إياه يريدون. ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن قتادة: ( وجاءته البشرى ) ، قال: حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط،
وأنهم ليسوا إياه يريدون. وقال آخرون: بشّر بإسحاق. وأما « الروع » : فهو الخوف، يقال منه:
« راعني كذا يَرُوعني روعًا » إذا خافه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل:
« كيف لَكَ بَرَوْعَة المؤمن » ؟ ومنه قول عنترة: مَــا رَاعَنــي إلا حَمُوَلُــة
أَهْلِهَـا وَسْـطَ الدِّيـارِ تَسَـفُّ حَـبَّ الخِمْخِمِ بمعمى: ما أفزعني. وبنحو الذي قلنا
في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « الروع » ، الفَرَق. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة
قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد . . . . قال وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا
عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( فلما ذهب عن إبراهيم
الروع ) ، قال: الفَرَق. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال: الفَرَق. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال: ذهب
عنه الخوف. وقوله: ( يجادلنا في قوم لوط ) ، يقول: يخاصمنا. كما:- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يجادلنا ) ، يخاصمنا. حدثني المثني قال
، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وزعم بعض أهل
العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: ( يجادلنا ) يكلمنا. وقال: لأن إبراهيم لا يجادل الله ،
إنما يسأله ويطلب إليه. قال أبو جعفر: وهذا من الكلام جهلٌ، لأن الله تعالى ذكره
أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم لوط ، فقول القائل: « إبراهيم لا يجادل » ،
موهمًا بذلك أن قول من قال في تأويل قوله: ( يجادلنا ) ، يخاصمنا، أن إبراهيم كان
يخاصم ربَّه ، جهلٌ من الكلام، وإنما كان جدالُه الرسلَ على وجه المحاجَّة لهم. ومعنى ذلك: «
وجاءته البشرى يجادل رسلنا » ، ولكنه لما عرف المراد من الكلام حذف « الرسل » . وكان جدالُه
إيَّاهُم ، كما:- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي قال ، حدثنا جعفر، عن
سعيد: ( يجادلنا في قوم لوط ) ، قال: لما جاء جبريل ومن معه قالوا لإبراهيم: إنَّا
مهلكو أهل هذه القرية إنَّ أهلها كانوا ظالمين: قال لهم إبراهيم: أتهلكون قريةً
فيها أربع مائة مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها ثلاث مائة مؤمن؟ قالوا:
لا! قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا؟
قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنًا؟ قالوا: لا! وكان إبراهيم
يعدهم أربعة عشر بامرأة لوط، فسكتَ عنهم واطمأنت نفسه . حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الحماني،
عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، قال الملك لإبراهيم: إن
كان فيها خمسة يصلون رُفع عنهم العذاب.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة،
قوله: ( يجادلنا في قوم لوط ) ، ذكر لنا أن مجادلته إياهم أنه قال لهم: أرأيتم إن
كان فيها خمسون من المؤمنين أمعذبوها أنتم؟ قالوا: لا! حتى صار ذلك إلى عشرة قال، أرأيتم
إن كان فيها عشرة أمعذبوهم أنتم؟ قالوا: لا! وهي ثلاث قرى فيها ما شاء الله من
الكثرة والعدد. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة: ( يجادلنا في قوم لوط ) ، قال: بلغنا أنه قال لهم يومئذ: أرأيتم إن كان فيها
خمسون من المسلمين؟ قالوا: إن كان فيها خمسون لم نعذبهم. قال: أربعون؟ قالوا:
وأربعون! قال: ثلاثون؟ قالوا: ثلاثون! حتى بلغ عشرة. قالوا: وإن كان فيهم عشرة!
قال: ما قومٌ لا يكون فيهم عشرة فيهم خير قال ابن عبد الأعلى، قال محمد بن ثور،
قال معمر: بلغنا أنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان، أو ما شاء الله من ذلك. حدثني موسى بن
هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي، ( فلما ذهب عن
إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ، قال : ما خطبُكم أيها المرسلون ؟ قالوا: إنا
أرسلنا إلى قوم لوط ، فجادلهم في قوم لوط قال، أرأيتم إن كان فيها مائة من
المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا! فلم يزل يحُطَّ حتى بلغ عشرة من المسلمين، فقالوا:
لا نعذبهم ، إن كان فيهم عشرة من المسلمين، ثم قالوا: « يا إبراهيم أعرض عن هذا
إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين » هو لوط وأهل بيته، وهو قول الله تعالى
ذكره: ( يجادلنا في قوم لوط ) . فقالت الملائكة: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ
هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ
مَرْدُودٍ . حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ( فلما ذهب عن
إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ، يعني: إبراهيم جادل عن قوم لوط ليردّ عنهم العذاب
قال: فيزعم أهل التوراة أن مجادلة إبراهيم إياهم حين جادلهم في قوم لوط ليردّ عنهم
العذاب، إنما قال للرسل فيما يكلمهم به: أرأيتم إن كان فيهم مائة مؤمن أتهلكونهم؟
قالوا:، لا! قال: أفرأيتم إن كانوا تسعين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا ثمانين؟ قالوا:
لا! قال: أفرأيتم إن كانوا سبعين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا ستين؟ قالوا
لا! قال: أفرأيتم إن كانوا خمسين؟ قالوا لا! قال: أفرأيتم إن كان رجلا واحدًا
مسلمًا؟ قالوا: لا! قال: فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنًا واحدًا ، قَالَ إِنَّ
فِيهَا لُوطًا ، يدفع به عنهم العذاب قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ
وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [ سورة العنكبوت: 32 ] ، قالوا يَا
إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ
آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ
. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،
قال ابن جريج، قال إبراهيم: أتهلكونهم إن وجدتم فيها مائة مؤمن ثم تسعين؟ حتى هبَط
إلى خمسة. قال: وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف. حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا أبو
المغيرة قال ، حدثنا صفوان قال ، حدثنا أبو المثني ومسلم أبو الحبيل الأشجعي قالا
( لما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، إلى آخر الآية
قال إبراهيم: أتعذب عالمًا من عالمك كثيرًا، فيهم مائة رجل؟ قال: لا وعزتي ، ولا
خمسين ! قال: فأربعين؟ فثلاثين؟ حتى انتهى إلى خمسة. قال: لا ! وعزتي لا أعذبهم ولو كان
فيهم خمسة يعبدونني ! قال الله عز وجل:
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ [ سورة الذاريات:36 ] ، أي لوطًا وابنتيه ، قال: فحلّ بهم من
العذاب، قال الله عز وجل: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ
الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ سورة الذاريات:37 ] ، وقال: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع
وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط
) . والعرب لا تكاد تَتَلقَّى « لمَّا » إذا وليها فعل
ماض إلا بماض، يقولون: « لما قام قمت » ، ولا يكادون يقولون: « لما قام أقوم » . وقد
يجوز فيما كان من الفعل له تَطَاول مثل « الجدال » « والخصومة » والقتال، فيقولون
في ذلك: « لما لقيته أقاتله » ، بمعنى: جعلت أقاتله. وقوله: ( إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب
) ، يقول تعالى ذكره: إن إبراهيم لبطيء الغضب ، متذلل لربه خاشع له، منقاد لأمره (
منيب ) ، رَجَّاع إلى طاعته، كما:-
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا
إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: ( أوّاه منيب ) ، قال: القانت: الرَّجاع. وقد بينا معنى «
الأوّاه » فيما مضى ، باختلاف المختلفين ، والشواهد على الصحيح منه عندنا من القول
، بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى : يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ
هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ
مَرْدُودٍ ( 76 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قول رسله لإبراهيم:
( يا إبراهيم أعرض عن هذا ) ، وذلك قيلهم له حين جَادلهم في قوم لوط، فقالوا: دع
عنك الجدالَ في أمرهم والخصومة فيه فإنه ( قد جاء أمر ربكَ ) يقول : قد جاء أمر ربك
بعذابهم. وحقَّ عليهم كلمة العذاب، ومضى فيهم بهلاكهم القضاء ( وإنهم آتيهم عذاب
غير مردود ) ، يقول: وإن قوم لوط ، نازلٌ بهم عذابٌ من الله غير مدفُوع. وقد [ مضى ] ذكر
الرواية بما ذكرنا فيه عمن ذكر ذلك عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا
لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ( 77 ) قال أبو جعفر :
يقول تعالى ذكره: ولما جاءت ملائكتنا لوطًا، ساءَه مَجيئهم وهو « فعل » من « السوء
» ( وضاق بهم ) ، بمجيئهم ( ذَرْعًا ) ، يقول: وضاقت نفسه غما بمجيئهم . وذلك أنه لم
يكن يعلم أنهم رسلُ الله في حال ما ساءه مجيئهم، وعلم من قومه ما هم عليه من
إتيانهم الفاحشة، وخاف عليهم، فضاق من أجل ذلك بمجيئهم ذرعًا، وعلم أنه سيحتاج إلى
المدافعة عن أضيافه، ولذلك قال: ( هذا يوم عصيب ) . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل ذكر من قال ذلك : حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا ) ،
يقول: ساء ظنًا بقومه وضاق ذرعًا بأضيافه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حذيفة أنه قال: لما جاءت الرسل لوطًا أتوه وهو في أرض
له يعمل فيها، وقد قيل لهم ، والله أعلم: لا تهلكوهم حتى يشهدَ لوط . قال: فأتوه
فقالوا: إنا مُتَضيِّفوك الليلة، فانطلق بهم، فلما مضى ساعةً التفت فقال: أما
تعلمون ما يعمَل أهل هذه القرية؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض أناسًا أخبث منهم !
قال: فمضى معهم. ثم قال الثانية مثل ما قال، فانطلق بهم. فلما بصرت بهم عجوزُ السَّوْء
امرأته، انطلقَت فأنذرتهم. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة قال، قال حذيفة، فذكر نحوه.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير قال ، حدثنا
عمرو بن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: أتت الملائكة لوطًا وهو في
مزرعة له، وقال الله للملائكة: إن شهد لوط عليهم أربعَ شهادات فقد أذنت لكم في هَلكتهم.
فقالوا: يا لوط ، إنا نريد أن نُضيِّفك الليلة. فقال: وما بلغكم من أمرهم؟ قالوا:
وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشرُّ قرية في الأرض عملا ! يقول ذلك أربع مرات،
فشهد عليهم لوط أربع شهادات، فدخلوا معه منـزله. حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو
بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال، خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية
لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا نهر سَدُوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء
لأهلها، وكانت له ابنتان، اسم الكبرى « ريثا » ، والصغرى « زغرتا » ، فقالوا لها:
يا جارية، هل من منـزل؟ قالت: نعم، فَمكانَكم لا تدخُلوا حتى آتيكم ! فَرِقَتْ
عليهم من قَوْمها . فأتت أباها فقالت: يا أبتاه أرادك فتيان على باب المدينة ما
رأيت وجوه قوم أحسنَ منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم ! وقد كان قومه نهوه أن يُضيف
رجلا فقالوا: خَلّ عنَّا فلنضِف الرجال ! فجاء بهم، فلم يعلم أحدٌ إلا أهل بيت
لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، قالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم
قَطّ ! فجاءه قومه يُهْرَعون إليه.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
خرجت الرسل فيما يزعم أهل التوراة من عند إبراهيم إلى لوط بالمؤتفكة، فلما جاءت
الرسل لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا، وذلك من تخوف قومه عليهم أن يفضحُوه في ضيفه،
فقال: ( هذا يوم عصيبٌ ) . وأما قوله: ( وقال هذا يوم عصيب ) ، فإنه يقول: وقال لوط: هذا اليوم
يوم شديد شره، عظيم بلاؤه، يقال منه: عصب يومنا هذا يعصب عصبًا، ومنه قول عدي بن
زيد: وَكُـنْتُ
لِـزَازَ خَـصْمِكَ لـمْ أُعَـرِّدْ وَقَــدْ سَـلَكُوكَ فِـي يَـوْمٍ عَصِيـب وقول
الراجز: يَــوْمٌ عَصِيــبٌ يَعْصِـبُ الأَبْطَـالا عَصْــبَ القَــوِيِّ السَّـلَمَ
الطِّـوَالا وقول الآخر: وَإنَّـكَ إنْ لا تُـرْضِ بَكْـرَ بـنَ وَائِلٍ يَكُـنْ لَـكَ
يَـوْمٌ بـالعِرَاقِ عَصِيـبِ وقال كعب بن جعيل: ومُلَبُّـــونَ بِـــالحَضِيضِ
فِئــامٌ عَارِفــاتٌ مِنْــهُ بِيَــوْمٍ عَصِيـبِ ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:
( عصيب ) ، : شديد حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ( هذا يوم عصيب ) ، يقول شديد. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق قال: ( هذا يوم عصيب ) ، أي يوم بلاء وشدة. حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد
بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( يوم عصيب ) ، شديد. حدثني علي قال ، حدثنا عبد الله قال،
حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( وقال هذا يوم عصيب ) ، أي : يوم شديد. القول في تأويل
قوله تعالى : وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ
لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ
رَشِيدٌ ( 78 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وجاء لوطًا قومه يستحثون إليه
، يُرْعَدون مع سرعة المشي ، مما بهم من طلب الفاحشة. يقال: « أهْرِعَ الرجل » ، من برد أو
غضب أو حمَّى، إذا أرعد، « وهو مُهْرَع » ، إذا كان مُعْجلا حريصًا، كما قال
الراجز: * بِمُعْجَلاتٍ نَحْوَهُ مَهَارِع * ومنه قول مهلهل: فجــاؤوا يُهْرَعُـونَ وهـمْ أُسـارَى
تَقُــودُهُمُ عــلى رَغــمِ الأُنُـوفِ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن
عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول
الله: ( يُهْرَعون إليه ) ، قال: يهرولون، وهو الإسراع في المشي. حدثني المثني قال
، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال
، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا أبو خالد والمحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، قال:
يسعون إليه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : قال : فأتوه يهرعون
إليه، يقول: سراعًا إليه. حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: ( يهرعون إليه ) ، قال: يسرعون إليه. حدثنا موسى قال ، حدثنا عمرو قال ،
حدثنا أسباط، عن السدي: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، يقول: يسرعون المشي إليه. حدثني الحارث قال
، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( وجاءه
قومه يهرعون إليه ) ، قال: يهرولون في المشي قال سفيان: ( يهرعون إليه ) ، يسرعون
إليه. حدثنا سوار بن عبد الله قال، قال سفيان بن عيينة في قوله: ( يهرعون إليه ) ، قال: كأنهم يدفعون. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب قال
، حدثنا حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال، أقبلوا يسرعون مشيًا بين الهرولة والجمز. حدثني علي بن
داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس، قوله:
( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، يقول: مسرعين. وقوله: ( ومن قبل كانوا يعملون السيئات
) ، يقول: من قبل مجيئهم إلى لوط ، كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، كما:- حدثنا القاسم
قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( ومن قبل كانوا يعملون
السيئات ) ، قال: يأتون الرجال.
وقوله: ( قال يا قوم هؤلاء بناتي ) ، يقول تعالى ذكره:
قال لوط لقومه لما جاؤوه يراودونه عن ضيفه: هؤلاء يا قوم بناتي يعني نساء أمته
فانكحوهن فهنّ أطهر لكم، كما:- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، قال: أمرهم لوط بتزويج النساء وقال: ( هن
أطهر لكم ) . حدثنا محمد قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: وبلغني هذا أيضًا عن مجاهد. حدثنا ابن وكيع،
عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ،
قال: لم تكن بناته، ولكن كنَّ من أمّته، وكل نبي أبُو أمَّته. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:
( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، قال: أمرهم أن يتزوجوا
النساء، لم يعرضْ عليهم سفاحًا.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا أبو بشر، سمعت ابن أبي نجيح
يقول في قوله: ( هن أطهر لكم ) ، قال: ما عرض عليهم نكاحًا ولا سفاحًا. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) قال:
أمرهم أن يتزوجوا النساء، وأراد نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يَقي أضيافه
ببناته. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال،
أخبرنا أبو جعفر عن الربيع، في قوله: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، يعني التزويج حدثني
أبو جعفر، عن الربيع في قوله: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، يعني التزويج. حدثني المثنى قال
، حدثنا أبو النعمان عارم قال ، حدثنا حماد بن زيد قال ، حدثنا محمد بن شبيب
الزهراني ، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قول لوط: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، يعني:
نساءهم ، هنّ بَنَاته ، هو نبيّهم وقال في بعض القراءة: ( النَّبِيُّ أَوْلَى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ
لَهُمْ ) [ سورة الأحزاب: 6 ] .
حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا
أسباط، عن السدي: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، قالوا: أو لم ننهك أن تضيف العالمين؟
قال: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، إن كنتم فاعلين ، أليس منكم رجل رشيد؟ حدثنا
ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما جاءت الرسل لوطًا أقبل قومه
إليهم حين أخبروا بهم يهرَعون إليه. فيزعمون ، والله أعلم ، أن امرأة لوط هي التي
أخبرتهم بمكانهم، وقالت: إن عند لوط لضيفانًا ما رأيت أحسنَ ولا أجمل قطُّ منهم !
وكانوا يأتون الرجالَ شهوة من دون النساء، فاحشةٌ ، لم يسبقهم بها أحد من
العالمين. فلما جاؤوه قالوا: أو لم ننهك عن العالمين؟ أي : ألم نقل لك: لا
يقربنَّك أحدٌ، فإنا لن نجد عندك أحدًا إلا فعلنا به الفاحشة؟ قال : « يا قوم
هؤلاء بناتي هن أطهر لكم » ، فأنا أفدي ضيفي منكم بهنّ، ولم يدعهم إلا إلى الحلال
من النكاح. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:
( هؤلاء بناتي ، قال: النساء. واختلفت القراء في قراءة قوله: ( هن أطهر لكم ) . فقرأته عامة
القراء برفع : ( أَطْهَرُ ) ، على أن جعلوا « هن » اسمًا، « وأطهر » خبره، كأنه قيل: بناتي أطهرُ
لكم مما تريدون من الفاحشة من الرجال.
وذكر عن عيسى بن عمر البصري أنه كان يقرأ ذلك: ( هُنَّ
أَطْهَرَ لَكُمْ ) ، بنصب « أطهر » . وكان بعض نحويي
البصرة يقول: هذا لا يكون، إنما ينصب خبر الفعل الذي لا يستغني عن الخبر إذا كان
بين الاسم والخبر هذه الأسماء المضمرة.
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: من نصبه جعله نكرةً خارجة
من المعرفة، ويكون قوله: « هن » عمادًا للفعل فلا يُعْمِله. وقال آخر منهم: مسموع من العرب: « هذا
زيد إيَّاه بعينه » ، قال: فقد جعله خبرًا لـ « هذا » مثل قولك: « كان عبد الله
إياه بعينه » . قال: وإنما لم يجز أن يقع الفعل ههنا ، لأن التقريب ردُّ كلام ،
فلم يجتمعا ، لأنه يتناقض، لأنَّ ذلك إخبار عن معهود، وهذا إخبار عن ابتداء ما هو
فيه: « ها أنا ذا حاضر » ، أو : « زيد هو العالم » ، فتناقض أن يدخل المعهودُ على الحاضر،
فلذلك لم يجُزْ. قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز خلافها في ذلك، الرفع
: ( هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) ، لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليه ، مع صحته في العربية،
وبعد النصب فيه من الصحة. وقوله: ( فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ) ، يقول: فاخشوا الله
، أيها الناس، واحذروا عقابه ، في إتيانكم الفاحشة التي تأتونها وتطلبونها ( ولا تخزون
في ضيفي ) ، يقول: ولا تذلوني بأن تركبوا مني في ضيفي ما يكرهون أن تركبُوه منهم. و « الضيف » ، في
لفظ واحدٍ في هذا الموضع بمعنى جمع. والعرب تسمي الواحد والجمع « ضيفًا » بلفظ
واحدٍ. كما قالوا: « رجل عَدْل، وقوم عَدْل » . وقوله: ( أليس منكم رجل رشيد ) ،
يقول: أليس منكم رجل ذو رُشد ، ينهى من أراد ركوبَ الفاحشة من ضيفي، فيحول بينهم
وبين ذلك؟ كما:- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ( فاتقوا الله
ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ) ، أي رجل يعرف الحقَّ وينهى عن المنكر؟ القول
في تأويل قوله تعالى : قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ
حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ( 79 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: قال
قوم لوط للوط: ( لقد علمت ) ، يا لوط
( ما لنا في بناتك من حق ) ، لأنهن لَسْنَ لنا أزواجًا،
كما:- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ( قالوا لقد علمت ما لنا
في بناتك من حق ) ، أي من أزواج ( وإنك لتعلم ما نريد ) . وقوله: ( وإنك لتعلم ما نريد ) ،
يقول: قالوا: وإنك يا لوط لتعلم أنَّ حاجتنا في غير بناتك، وأن الذي نُريد هو ما
تنهانَا عنه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ،
حدثنا أسباط، عن السدي : ( وإنك لتعلم ما نريد ) ، إنا نريد الرجال. حدثنا ابن حميد
قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ( وإنك لتعلم ما نريد ) ،
أي : إن بغيتنا لغير ذلك. فلما لم يتناهوا، ولم يردَّهم قوله، ولم يقبلوا منه
شيئًا مما عرض عليهم من أمور بناته، قال : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ
آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ . القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ
قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ( 80 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: قال
لوط لقومه حين أبوا إلا المضي لما قد جاؤوا له من طلب الفاحشة ، وأيس من أن يستجيبوا
له إلى شيء مما عرض عليهم: ( لو أن لي بكم قوة ) ، بأنصار تنصرني عليكم وأعوان تعينني ( أو
آوي إلى ركن شديد ) ، يقول: أو أنضم إلى عشيرة مانعة تمنعني منكم، لحلت بينكم وبين
ما جئتم تريدونه منِّي في أضيافي وحذف جواب « لو » لدلالة الكلام عليه، وأن معناه
مفهوم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ،
حدثنا أسباط، عن السدي: قال لوط: ( قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ،
يقول: إلى جُنْد شديد ، لقاتلتكم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة: ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، قال: العشيرة. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ،
حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: ( إلى ركن شديد ) ، قال: العشيرة. حدثني الحارث قال
، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن: ( أو آوي إلى ركن شديد
) ، قال: إلى ركن من الناس. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، قال قوله: ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، قال: بلغنا أنه لم يبعث نبيٌّ بعد لوط
إلا في ثَرْوَة من قومه ، حتى النبي صلى الله عليه وسلم. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق قال: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، أي : عشيرة تمنعني أو
شيعة تنصرني، لحلت بينكم وبين هذا.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) قال: يعني به العشيرة. حدثنا محمد بن بشار
قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن: أن هذه الآية لما نـزلت: ( لو أن لي
بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم
الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ! حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن
نوح، عن مبارك، عن الحسن قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله أخي
لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، فلأيّ شيء استكان ! حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبدة وعبد
الرحيم، عن محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: رحمة الله على لوط ، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال
لقومه: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، ما بعث الله بعدَه من نبيّ إلا
في ثَرْوة من قومه قال محمد: و « الثروة » ، الكثرة والمنعة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن
كثير قال ، حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى
الله عليه وسلم، بمثله. حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني
سليمان بن بلال، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم، بمثله. حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال ، حدثنا سعيد بن تليد
قال ، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال، حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن
يونس بن يزيد، عن ابن شهاب الزهري قال، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب،
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي
إلى ركن شديد. حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني
يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة : أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال، فذكر مثله. حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن
المنهال قال ، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله: ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، قد كان يأوي
إلى ركن شديد يعني الله تبارك وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما
بَعثَ الله بعده من نبيّ إلا في ثَرْوة من قومه. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ،
حدثنا محمد بن حرب قال ، حدثنا بن لهيعة، عن أبي يونس، سمع أبا هريرة يحدث عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد . . . . . قال،
حدثنا ابن أبي مريم سعيد بن عبد الحكم قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن
أبيه، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، بنحوه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، ذكر لنا أنَّ
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية أو : أتى على هذه الآية قال:
رحم الله لوطًا، إن كان ليأوي إلى ركن شديد! وذكر لنا أن الله تعالى لم يبعث
نبيًّا بعد لوط عليه السلام إلا في ثَرْوة من قومه، حتى بعث الله نبيكم في ثروة من
قومه. يقال: من ( آوي إلى ركن شديد ) ، « أويت إليك » ، فأنا آوي إليك أوْيًا « ، بمعنى : صرت إليك وانضممت، كما قال الراجز: » يَــأْوِي
إِلَـى رُكْـنٍ مِـنَ الأَرْكَـانِ فِــي عَــدَدَ طَيْسٍ وَمجْــدٍ بَـانِ وقيل:
إن لوطًا لما قال هذه المقالة ، وَجَدَت الرسلُ عليه لذلك. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ،
حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول: قال
لوط: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، فوجد عليه الرسلُ وقالوا: إنَّ
ركنَك لشديد! القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ
لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ
مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ( 81 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:
قالت الملائكة للوط، لما قال لوط لقومه لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي
إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ، ورأوا ما لقي من الكرب بسببهم منهم: ( يا لوط إنا رسل ربك
) ، أرسلنا لإهلاكهم، وإنهم لن يصلوا إليك وإلى ضيفك بمكروه، فهوّن عليك الأمر (
فأسر بأهلك بقطع من الليل ) ، يقول: فاخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل. يقال منه: « أسرى
» و « سرى » ، وذلك إذا سار بليل ( ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ) . واختلفت
القراءة في قراءة قوله: ( فأسر
) . فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين: « فَاسْرِ »
، وصلٌ بغير همز الألف ، من « سرى » . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة
والبصرة: ( فَأَسْرِ ) بهمز الألف ، من « أسرى » . قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك
أنهما قراءتان، قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة، وهما لغتان مشهورتان
في العرب ، معناهما واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك. وأما قوله: ( إلا
امرأتك ) ، فإن عامَّة القراء من الحجاز والكوفة، وبعض أهل البصرة، قرأوا بالنصب (
إلا امْرَأَتَكَ ) ، بتأويل: فأسر بأهلك إلا امرأتك، وعلى أن لوطًا أمر أن يسري
بأهله سوى زوجته، فإنه نهي أن يسري بها، وأمر بتخليفها مع قومها. وقرأ ذلك بعض البصريين:
( إلا امْرَأَتُكَ ) ، رفعًا بمعنى: ولا يلتفت منكم أحد ، إلا امرأتك فإن لوطًا قد
أخرجها معه، وإنه نهي لوط ومن معه ممن أسرى معه أن يلتفت سوى زوجته، وأنها التفتت
فهلكت لذلك. وقوله: ( إنه مصيبها ما أصابهم ) ، يقول: إنه مصيب امرأتك ما أصاب قومك من
العذاب ( إن موعدهم الصبح ) ، يقول: إن موعد قومك الهلاك الصبح. فاستبطأ ذلك منهم
لوط وقال لهم: بلى عجِّلوا لهم الهلاك ! فقالوا: ( أليس الصبح بقريب ) أي عند
الصبح نـزولُ العذاب بهم، كما:-
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ( أليس
الصبح بقريب ) ، أي : إنما ينـزل بهم من صبح ليلتك هذه، فامض لما تؤمر. وبنحو الذي قلنا
في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك
:- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد،
قال: فمضت الرُّسُل من عند إبراهيم إلى لوط، فلما أتوا لوطًا، وكان من أمرهم ما
ذكر الله، قال جبريل للوط: يا لوط ، إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا
ظالمين ، فقال لهم لوط: أهلكوهم الساعة ! فقال له جبريل عليه السلام: ( إن موعدهم الصبح
أليس الصبح بقريب ) ؟ فأنـزلت على لوط: ( أليس الصبح بقريب ) ، قال: فأمره أن يسري
بأهله بقطع من الليل، ولا يلتفت منهم أحد إلا امرأته، قال: فسار، فلما كانت الساعة التي أهلكوا
فيها ، أدخل جبريل جناحَه فرفعها ، حتى سمع أهلُ السماء صياح الديكة ونباحَ
الكلاب، فجعل عاليها سافلَها، وأمطر عليها حجارة من سجِّيل. قال: وسمعت امرأة لوط
الهَدَّة، فقالت: واقوماه ! فأدركها حَجَرٌ فقتَلها. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن
حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال:
كان لوط أخذ على امرأته أن لا تذيع شيئًا من سرّ أضيافه.
قال: فلما دخل عليه جبريل ومن معه، رأتهم في صورة لم تر مثلها قطُّ ، فانطلقت تسعى
إلى قومها، فأتت النادي فقالتْ بيدها هكذا، وأقبلوا يهرعون مشيا بين الهرولة والجمز،
فلما انتهوا إلى لوط ، قال لهم لوطٌ ما قال الله في كتابه. قال جبريل: ( يا لوط
إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ) ، قال: فقال بيده، فطمس أعينهم، فجعلوا يطلبونهم،
يلمسون الحيطان وهم لا يبصرون. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن
حذيفة قال: لما بَصُرت بهم يعني بالرسل عجوزُ السَّوء امرأتُه، انطلقت فأنذرتهم،
فقالت: قد تضيَّف لوطًا قوم، ما رأيت قومًا أحسن وجوهًا ! قال: ولا أعلمه إلا قالت:
ولا أشد بياضًا وأطيبَ ريحًا ! قال: فأتوه يُهْرعون إليه، كما قال الله، فأصْفق
لوط البابَ. قال: فجعلوا يعالجونه. قال: فاستأذن جبريل ربَّه في عقوبتهم، فأذن له،
فصفقهم بجناحه، فتركهم عميانًا يتردَّدون في أخبث ليلة أتت عليهم قطُّ . فأخبروه : ( إنا
رسل ربك فأسر بأهلك بقطع من الليل ) ، قال: ولقد ذكر لنا أنه كانت مع لوط حين خرج
من القرية امرأته، ثم سمعت الصوت، فالتفتت، وأرسل الله عليها حجرًا فأهلكها.
وقوله: ( إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ) ،
فأراد نبيُّ الله ما هو أعجل من ذلك، فقالوا : ( أليس الصبح بقريب ) ؟ حدثنا ابن
حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير قال ، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن سعيد بن
بشير، عن قتادة قال: انطلقت امرأته يعني امرأة لوط حين رأتهم يعني حين رأت الرسل
إلى قومها فقالت: إنه قد ضافه الليلة قوم ما رأيت مثلَهم قط، أحسنَ وجوهًا ولا
أطيبَ ريحًا ! فجاؤوا يُهرعون إليه، فبادرهم لوط إلى أن يزحمهم على الباب، فقال:
هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ، فقالوا: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ
الْعَالَمِينَ ، فدخلوا على الملائكة، فتناولتهم الملائكة وطمست أعينهم، فقالوا:
يا لوط جئتنا بقوم سحرة سحرونا، كما أنت حتى تصبح ! قال: واحتمل جبريل قَرْيات لوط
الأربع، في كل قرية مائة ألف، فرفعهم على جناحه بين السماء والأرض، حتى سمع أهل
السماء الدنيا أصواتَ ديكتهم، ثم قلبَهم، فجعل الله عاليها سافَلها. حدثنا محمد بن
عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قال حذيفة: لما دخلوا عليه، ذهبت
عَجُوزه عجوزُ السوء، فأتت قومها فقالت:
لقد تضيَّف لوطًا الليلة قومٌ ما رأيت قومًا قطُّ أحسنَ
وجوهًا منهم ! قال: فجاؤوا يسرعون، فعاجلَهم إلى لوط، فقام ملك فلزَّ الباب يقول:
فسدّه واستأذن جبريل في عقوبتهم، فأذن له، فضربهم جبريل بجناحه، فتركهم عميانًا، فباتوا
بشرّ ليلة، ثم قالوا ( إنا رسل ربك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد
إلا امرأتك ) ، قال: فبلغنا أنها سمعت صوتًا، فالتفتت فأصابها حجر، وهى شاذَّة من
القوم معلومٌ مكانها. حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر،
عن قتادة، عن حذيفة بنحوه، إلا أنه قال: فعاجلهم لوط. حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو
بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال، لما قال لوط: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ
قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ، بسط حينئذ جبريل عليه السلام جناحيه،
ففقأ أعينهم، وخرجوا يدوس بعضُهم في أدبار بعض عميانًا يقولون: « النَّجَاءَ
النجاء! فإن في بيت لوط أسحرَ قوم في الأرض » ! فذلك قوله: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ
عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ، [ سورة القمر: 37 ] . وقالوا للوط: (
إنا رسل ربِّك لن يصلوا إليك فأسرْ بأهْلكَ بقطع منَ اللَّيْل ولا يلتفت منكم أحد إلا
امرأتك إنه مصيبها ) ، وَاتبع أدبارَ أهلك يقول: سرْ بهم وَامْضُوا حَيْثُ
تُؤْمَرُونَ فأخرجهم الله إلى الشام. وقال لوط: أهلكوهم الساعة! فقالوا: إنا لم
نؤمر إلا بالصُّبح، أليس الصبح بقريب؟ فلما أن كان السَّحَر ، خرج لوط وأهله معه
امرأته، فذلك قوله: إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ، [ سورة القمر: 34 ] . حدثني المثني
قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، عن عبد الصمد : أنه سمع وهب
بن منبه يقول: كانَ أهل سدوم الذين فيهم لوط ، قومًا قد استغنوا عن النساء بالرجال
، فلما رأى الله ذلك [ منهم ] ، بعث الملائكة ليعذبوهم، فأتوا إبراهيم، وكان من
أمره وأمرهم ما ذكر الله في كتابه. فلما بشروا سارَة بالولد، قاموا وقام معهم
إبراهيم يمشي، قال: أخبروني لم بعثتم ؟ وما خطبكم؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى أهل سدوم
لندمرها، وإنهم قوم سَوء قد استغنوا بالرجال عن النساء. قال إبراهيم: [ أرأيتم ]
إن كان فيهم خمسون رجلا صالحًا؟ قالوا: إذًا لا نعذبهم! فجعل ينقص حتى قال أهل
بَيْت ؟ قالوا: فإن كان فيها بيت صالح! قال: فلوط وأهل بيته؟ قالوا: إن امرأته
هَوَاها معهم! فلما يَئس إبراهيم انصرف . ومضوا إلى أهل سدوم، فدخلوا على لوط ، فلما
رأتهم امرأته أعجبها حسنهم وجمالهم، فأرسلت إلى أهل القرية إنه قد نـزل بنا قومٌ
لم يُرَ قومٌ قطُّ أحسن منهم ولا أجمل ! فتسامعوا بذلك، فغشُوا دار لُوط من كل
ناحية وتسوَّروا عليهم الجدران. فلقيهم لوط فقال: يا قوم لا تفضحون في ضيفي، وأنا
أزوّجكم بناتي ، فهن أطهر لكم ! فقالوا: لو كنَّا نُريد بناتك ، لقد عرفنا مكانهن!
فقال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ! فوجد عليه
الرسل وقالوا: إن ركنك لشديد، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ! فمسح أحدهم أعينهم
بجناحيه، فطمس أبصارَهم فقالوا: سُحِرْنا، انصرفوا بنا حتى نرجع إليه ! فكان من
أمرهم ما قد قصَّ الله تعالى في القرآن. فأدخل ميكائيل وهو صاحبُ العذاب جناحه حتى
بلغ أسفل الأرض، فقلبها، ونـزلت حجارة من السماء، فتتبعت من لم يكن منهم في القرية
حيث كانُوا، فأهلكهم الله، ونجّى لوطًا وأهله، إلا امرأته. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج، وعن أبي بكر بن عبد الله وأبو سفيان، عن معمر عن قتادة،
عن حذيفة، دخل حديث بعضهم في بعض قال: كان إبراهيم عليه السلام يأتيهم فيقول:
ويحكم أنهاكم عن الله أن تعرَّضوا لعقوبته! فلم يطيعوا ، حتى إذا بلغ الكتاب أجلَه
، لمحل عذابهم وسطوات الرّبّ بهم. قال: فانتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض
له، فدعاهم إلى الضيافة، فقالوا: إنَّا مُضيِّفوك الليلة ! وكان الله تعالى عهد إلى
جبريل عليه السلام أن لا يُعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شهادات . فلما توجه بهم
لوط إلى الضيافة، ذكر ما يعمل قومه من الشَّرّ والدواهي العظام، فمشى معهم ساعةً،
ثم التفت إليهم، فقال: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرضِ
شرًّا منهم! أين أذهب بكم ؟ إلى قومي وهم شرُّ من خَلَقَ الله ! فالتفت جبريل إلى
الملائكة فقال: احفظوا هذه واحدة ! ثم مشى ساعةً ، فلما توسَّط القرية وأشفق عليهم
واستحيا منهم، قال: أما تعلمون ما يعملُ أهل هذه القرية؟ وما أعلم على وجه الأرض
شرًّا منهم، إن قومي شر خلق الله ! فالتفت جبريل إلى الملائكة، فقال: احفظوا ،
هاتان ثنتان ! فلما انتهى إلى باب الدار بكَى حياءً منهم وشفقة عليهم ، وقال: إن قومي
شرُّ خلق الله، أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل
قرية شرا منهم ! فقال جبريل للملائكة: احفظوا هذه ثلاثٌ، قد حُقَّ العذاب! فلما
دخلوا ذهبت عجوزُه، عجُوز السَّوء، فصعدت فلوحت بثوبها، فأتاها الفساق يهرعون
سراعًا، قالوا: ما عندك؟ قالت: ضيَّف لوطًا الليلة قومٌ ما رأيت أحسنَ وجوهًا منهم
ولا أطيب ريحًا منهم ! فهُرِعوا يسارعون إلى الباب، فعاجلهم لوط على الباب،
فدافعوه طويلا هو داخل وهم خارج، يناشدهم الله ويقول: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ
أَطْهَرُ لَكُمْ ، فقام الملك فلزَّ الباب يقول: فسَدّه واستأذن جبريل في عقوبتهم،
فأذن الله له، فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء، فنشر جناحه، ولجبريل
جناحان، وعليه وشاح من درّ منظوم، وهو براق الثنايا أجلَى الجبين، ورأسه حُبُك،
مثل المرجان ، وهو اللؤلؤ، كأنه الثلج، وقدماه إلى الخضرة فقال: يا لوط ، ( إنَّا رسل ربك لن
يصلوا إليك ) ، أمِطْ ، يا لوط ، من الباب ودعني وإياهم . فتنحى لوط عن الباب، فخرج عليهم ،
فنشر جناحه، فضرب به وجوههم ضربةً شَدَخ أعينهم ، فصاروا عميًا لا يعرفون الطريق
ولا يهتدون إلى بيوتهم. ثم أمر لوطًا فاحتمل بأهله من ليلته، قال: ( فأسر بأهلك
بقطع من الليل ) . حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما قال
لوط لقومه: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ، والرسل تسمع
ما يقول وما يُقال له ، ويرون ما هو فيه من كرْب ذلك. فلما رأوا ما بلغه قالوا : (
يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ) ، أي : بشيء تكرهه ( فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت
منكم أحدٌ إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ) ،
أي إنما ينـزل بهم العذاب من صبح ليلتك هذه، فامض لما تؤمر. . . . . قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن
إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدَّث. أن الرسل عند ذلك سَفَعُوا في وجوه الذين
جاؤوا لوطًا من قومه يراودونه عن ضيفه، فرجعوا عميانًا. قال: يقول الله: وَلَقَدْ
رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ [ سورة القمر: 37 ] . حدثني المثني
قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (
بقطع من الليل ) ، قال: بطائفة من الليل. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا
محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:
( بقطع من الليل ) ، بطائفة من الليل. حدثنا القاسم قال
، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس قوله: ( بِقِطْعٍ
مِنَ اللَّيْلِ ) ، قال: جوف الليل وقوله: وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ ، يقول:
واتبع أدبار أهلك ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) [ سورة الحجر: 65 ] . وكان مجاهد
يقول في ذلك ما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد: ( ولا يلتفت منكم أحد ) ، قال: لا ينظر وراءَه أحد ( إلا امرأتك ) . وروي عن عبد
الله بن مسعود أنه كان يقرأ: ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلَ إلا
امْرَأَتَكَ ) . حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ،
حدثنا حجاج، عن هارون، قال في حرف ابن مسعود: ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ
اللَّيْلَ إلا امْرَأَتَكَ ) . قال أبو جعفر: وهذا يدل على صحة القراءة بالنصب. القول في تأويل
قوله تعالى : فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ( 82 ) مُسَوَّمَةً
عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ( 83 ) قال أبو جعفر :
يقول تعالى ذكره: ولما جاء أمرنا بالعذاب وقضاؤنا فيهم بالهلاك، جَعَلْنَا
عَالِيَهَا يعني عالي قريتهم سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا ، يقول: وأرسلنا عليها
حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ . واختلف أهل التأويل في معنى سِجِّيلٍ . فقال بعضهم: هو بالفارسية : سنك ، وكل. ذكر من قال ذلك. حدثني محمد بن
عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:
مِنْ سِجِّيلٍ ، بالفارسية، أوَّلها حَجَر، وآخرها طين. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة
قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ،
حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن
جعفر، عن سعيد بن جبير: حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، قال: فارسية أعربت سنك وكل. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: « السجيل » ،
الطين. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة:
مِنْ سِجِّيلٍ قالا من طين. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم
قال، حدثني عبد الصمد، عن وهب قال: سجيل بالفارسية: سنك وكل حدثني موسى بن هارون
قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، أما السجيل
فقال ابن عباس: هو بالفارسية: سنك وجل « سنك » ، هو الحجر، و « جل » ، هو الطين.
يقول: أرسلنا عليهم حجارة من طين.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران، عن سفيان، عن السدي،
عن عكرمة، عن ابن عباس: حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، قال: طين في حجارة. وقال ابن زيد في
ذلك ما:- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: حِجَارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ ، قال: السماء الدنيا. قال: والسماء الدنيا اسمها سجيل، وهي التي أنـزل
الله على قوم لوط. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يقول: « السجيل »
، هو من الحجارة الصلب الشديد ، ومن الضرب، ويستشهد على ذلك بقول الشاعر: *ضَرْبًا
تَوَاصَى بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّيلا*
وقال: بعضُهُم يُحوِّل اللام نونًا. وقال آخر منهم: هو « فِعّيل » ، من قول
القائل: « أسجلته » ، أرسلته فكأنه من ذلك ، أي مرسلةٌ عليهم. وقال آخر منهم: بل هو من « سجلت له
سجلا » من العطاء، فكأنه قيل: مُتِحوا ذلك البلاء فأعطوه، وقالوا أسجله: أهمله. وقال بعضهم: هو
من « السِّجِلّ » ، لأنه كان فيها عَلَمٌ كالكتاب. وقال آخر منهم: بل هو طين يطبخ كما
يطبخ الآجرّ، وينشد بيت الفضل بن عباس:
مَــنْ يُسَــاجِلْنِي يُسَــاجِلْ مَـاجِدًا يَمْــلأُ
الدَّلْــوَ إلَـى عَقْـدِ الكـرَب فهذا من « سجلت له سَجْلا » ، أعطيته. قال أبو جعفر:
والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله المفسرون، وهو أنها حجارة من طين، وبذلك
وصفها الله في كتابه في موضع، وذلك قوله: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ
طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [ سورة الذاريات: 33، 34 ] وقد روي عن سعيد
بن جبير أنه كان يقول: هي فارسية ونبطية. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن
عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال:
فارسية ونبطية « سج » ، « إيل » . فذهب سعيد بن جبير في ذلك إلى أن
اسم الطين بالفارسية « جل » لا « إيل
» ، وأن ذلك
لو كان بالفارسية لكان « سِجْل » لا « سجيل » ، لأن الحجر بالفارسية يدعى « سج »
والطين « جل » ، فلا وجه لكون الياء فيها وهي فارسية. قال أبو جعفر : وقد بينا الصواب من
القول عندنا في أوّل الكتاب ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد ذكر عن الحسن
البصري أنه قال: كان أصل الحجارة طينًا فشُدِّدت. وأما قوله: مَنْضُودٍ ، فإن قتادة
وعكرمة يقولان فيه ما:- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة وعكرمة: مَنْضُودٍ يقول: مصفوفة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة مَنْضُودٍ يقول:
مصفوفة.
وقال الربيع بن أنس فيه ما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ،
حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله مَنْضُودٍ ، قال: نضد
بعضه على بعض. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر
الهذلي بن عبد الله: أما قوله: مَنْضُودٍ ، فإنها في السماء منضودة: معدَّة، وهي
من عُدَّة الله التي أعَدَّ للظلمة.
وقال بعضهم: مَنْضُودٍ ، يتبع بعضه بعضًا عليهم. قال:
فذلك نَضَدُه. قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله الربيع بن
أنس، وذلك أن قوله: مَنْضُودٍ من نعت سِجِّيلٍ ، لا من نعت « الحجارة » ، وإنما
أمطر القوم حجارة من طين، صفة ذلك الطين أنه نُضِد بعضه إلى بعض، فصُيِّر حجارة، ولم
يُمْطَرُوا الطين ، فيكونَ موصوفًا بأنه تتابع على القوم بمجيئه. قال أبو جعفر:
وإنما كان جائزًا أن يكون على ما تأوّله هذا المتأوّل لو كان التنـزيل بالنصب «
منضودةً » ، فيكون من نعت « الحجارة » حينئذ. وأما قوله: ( مسوَّمة عند ربك ) ، فإنه
يقول: معلمة عند الله، أعلمها الله، و « المسوّمة » من نعت « الحجارة » ، ولذلك
نصبت على النعت. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( مسوّمة ) ، قال: معلمة. حدثني المثنى قال
، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. . . . . قال،
حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد،
مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد،
مثله قال ابن جريج: ( مسوّمة ) ، لا تشاكل حجارة الأرض. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا
محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: ( مسومة ) قالا مطوَّقة بها نَضْحٌ من
حمرة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( مسومة ) عليها سيما
معلومة . حدّث بعضُ من رآها ، أنها حجارة مطوَّقة عليها أو بها نضحٌ من حمرة ،
ليست كحجارتكم. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: ( مسوّمة ) ، قال: عليها سيما خطوط. حدثني موسى بن
هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: ( مسومة ) قال: « المسومة » ،
المختَّمة. وأما قوله: ( وما هي من الظالمين ببعيد ) ، فإنه يقول تعالى ذكره متهددًا مشركي
قريش: وما هذه الحجارة التي أمطرتها على قوم لوط ، من مشركي قومك ، يا محمد ،
ببعيد أن يمطروها ، إن لم يتوبوا من شركهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا أبو عتاب الدلال سهل بن حماد
قال ، حدثنا شعبة قال ، حدثنا أبان بن تغلب، عن مجاهد، في قوله: ( وما هي من
الظالمين ببعيد ) ، قال: أن يصيبهم ما أصاب القوم. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وما هي من الظالمين ببعيد )
، قال: يُرْهِب بها من يشاء. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال ،
حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة: ( وما هي من الظالمين ببعيد ) ، يقول: ما أجار الله منها
ظالمًا بعد قوم لوط. حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة وعكرمة: ( وما هي من الظالمين ببعيد ) ، يقول: لم يترك منها ظالمًا بعدهم. حدثنا علي بن سهل
قال ، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب ، عن قتادة في قوله: ( وما هي من الظالمين
ببعيد ) ، قال: يعني ظالمي هذه الأمة . قال: والله ما أجارَ منها ظالمًا بعدُ! حدثنا موسى بن
هارون قال ، حدثنا حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وما هي من الظالمين ببعيد
) ، يقول: من ظَلَمة العرب ، إن لم يتوبوا فيعذّبوا بها. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن أبي بكر الهذلي بن عبد الله قال : يقول: ( وما هي من الظالمين
ببعيد ) ، من ظلمة أمتك ببعيد، فلا يأمنها منهم ظالم . وكان قلب الملائكة عَالي أرض سدوم
سافلها، كما:- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، حدثنا الأعمش،
عن مجاهد قال: أخذ جبريل عليه السلام قوم لوط من سَرْحهم ودورهم، حملهم
بمواشيهم وأمتعتهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم. حدثنا به أبو كريب مرة أخرى عن مجاهد
قال: أدخل جبريل جناحه تحت الأرض السفلى من قوم لوط، ثم أخذهم بالجناح الأيمن،
فأخذهم من سرحهم ومواشيهم ، ثم رفعها حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ،
حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، كان يقول: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا
جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ، قال: لما أصبحوا غدا جبريل على قريتهم، ففتقها
من أركانها، ثم أدخل جناحه، ثم حملها على خَوافي جناحه. . . . . قال، حدثنا شبل قال ، فحدثني
هذا ابن أبي نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر قال: ولم يسمعه ابن أبي نجيح عن مجاهد
قال، فحملها على خوافي جناحه بما فيها، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء
نباح كلابهم ، ثم قلبها. فكان أوّل ما سقط منها شِرَافها. فذلك قول الله: جَعَلْنَا
عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، قال
مجاهد: فلم يصب قومًا ما أصابهم ، إن الله طمس على أعينهم، ثم قلب قريتهم، وأمطر عليهم
حجارة من سجيل. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة قال، بلغنا أن جبريل عليه السلام أخذَ بعُرْوة القرية الوُسْطى، ثم ألوَى
بها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء ضَواغِي كلابهم، ثم دمَّر بعضها على بعض فجعل
عاليها سافلها ، ثم أتبعهم الحجارة قال قتادة: وبلغنا أنهم كانوا أربعة آلاف ألف. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن جبريل عليه السلام أخذ
بعروتها الوسطى، ثم ألوى بها إلى جَوّ السماء حتى سمعت الملائكة ضَواغي كلابهم، ثم
دمر بعضها على بعض ثم اتبع شُذَّان القوم صخرًا . قال: وهي ثلاث قرًى يقال لها «
سدوم » ، وهي بين المدينة والشأم.
قال: وذكر لنا أنه كان فيها أربعة آلاف ألف. وذكر لنا أن
إبراهيم عليه السلام كان يشرف [ ثم ] يقول سدوم ، يومٌ مَا لكِ! حدثني موسى قال ،
حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال، لما أصبحوا يعني قوم لوط نـزل جبريل،
فاقتلع الأرض من سبع أرضين، فحملها حتى بلغ السماء الدنيا ، [ حتى سمع أهل السماء
نباح كلابهم ، وأصوات ديوكهم، ثم قلبها فقتلهم ] ، فذلك حين يقول:
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [ سورة النجم: 53 ] ، المنقلبة حين أهوى بها جبريل الأرض فاقتلعها بجناحه، فمن لم يمت
حين أسقط الأرض أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذًّا في الأرض
. وهو قول الله: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا
حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، ثم تتبعهم في القرى، فكان الرجل [ يتحدث ] ، فيأتيه الحجر فيقتله، وذلك
قول الله تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ . حدثنا القاسم
قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر وأبو سفيان، عن معمر ، عن قتادة
قال، بلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح نشرَ جناحه، فانتسف به أرضهم بما فيها
من قُصورها ودوابها وحجارتها وشجرها ، وجميع ما فيها، فضمها في جناحه، فحواها
وطواها في جوف جناحه، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا، حتى سمع سُكان السماء أصواتَ
الناس والكلاب، وكانوا أربعة آلاف ألف، ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسةً،
دمْدَمَ بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها حجارة من سجيل حدثنا ابن
حميد قال ، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن كعب القرظي قال:
حدثت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: « بعث الله جبريل عليه السلام إلى
المؤتفكة قرية لوط عليه السلام التي كان لوط فيهم، فاحتملها بجناحه، ثم صعد بها
حتى إن أهل السماء الدنيا ليسمعون نُباح كلابها وأصوات دجاجها، ثم كفأها على
وجهها، ثم أتبعها الله بالحجارة، يقول الله: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، فأهلكها الله وما حولها من
المؤتفكات، وكنّ خمس قريات، » صنعة « و » صعوة « » وعثرة « ، و » دوما « و » سدوم « وسدوم هي
القرية العظمى ونجى الله لوطًا ومن معه من أهله، إلا امرأته كانت فيمن هلك. » القول في تأويل
قوله تعالى : وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ
وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ مُحِيطٍ ( 84 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى وَلَد مدين أخاهم شعيبًا،
فلما أتاهم قال : ( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) ، يقول: أطيعوه، وتذللوا
له بالطاعة لما أمركم به ونهاكم عنه ( ما لكم من إله غيره ) ،
يقول: ما لكم من معبود سواه يستحقّ عليكم العبادة غيره ( ولا تنقصوا المكيال
والميزان ) ، يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالكم وميزانكم ( إني أراكم بخير ) . واختلف أهل
التأويل في « الخير » الذي أخبر الله عن شعيب أنه قال لمدين إنه يراهم به. فقال بعضهم: كان
ذلك رُخْص السعر وَحذرهم غلاءه.
ذكر من قال ذلك : حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال
، حدثنا عبد الله بن داود الواسطي قال ، حدثنا محمد بن موسى، عن الذيال بن عمرو،
عن ابن عباس: ( إني أراكم بخير ) ، قال: رُخْص السعر ( وإني أخاف عليكم عذاب يوم
محيط ) ، قال: غلاء سعر. حدثني أحمد بن عمرو البَصري قال، حدثني عبد الصمد بن عبد
الوارث قال ، حدثنا صالح بن رستم، عن الحسن، وذكر قوم شعيب قال: ( إني أراكم بخير ) ، قال: رُخْص السعر. حدثني محمد بن عمرو بن علي قال ، حدثنا
عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبي عامر الخراز، عن الحسن في قوله: ( إني أراكم بخير
) قال: الغنى ورُخْص السعر. وقال آخرون: عنى بذلك: إنّي أرى لكم مالا وزينة من زين الدنيا. ذكر من قال ذلك:- حدثنا الحسن بن
يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( إني أراكم
بخير ) ، قال: يعني خير الدنيا وزينتها
. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله : ( إني أراكم بخير ) ، أبصر عليهم قِشْرًا من قشر الدنيا وزينتها. حدثني يونس قال،
أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إني أراكم بخير ) ، قال: في دنياكم،
كما قال الله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ، سماه « خيرًا » لأن الناس يسمون المال «
خيرًا » . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما أخبر الله عن شعيب أنه قال
لقومه، وذلك قوله: ( إني أراكم بخير ) ، يعني بخير الدنيا. وقد يدخل في خير الدنيا
، المال وزينة الحياة الدنيا ، ورخص السعر ولا دلالة على أنه عنى بقيله ذلك بعض
خيرات الدنيا دون بعض، فذلك على كل معاني خيرات الدنيا التي ذكر أهل العلم أنهم
كانوا أوتوها. وإنما قال ذلك شعيب، لأن قومه كانوا في سعة من عيشهم ورخص من
أسعارهم ، كثيرة أموالهم، فقال لهم: لا تنقصوا الناس حقوقهم في مكاييلكم
وموازينكم، فقد وَسَّع الله عليكم رزقكم، ( وإني أخاف عليكم ) ، بمخالفتكم أمر
الله ، وبَخْسكم الناس أموالهم في مكاييلكم وموازينكم ( عذاب يوم محيط ) ، يقول: أن ينـزل بكم
عذاب يوم محيط بكم عذابه. فجعل « المحيط » نعتًا لليوم، وهو من نعت « العذاب » ،
إذ كان مفهومًا معناه، وكان العذاب في اليوم، فصار كقولهم : « بعْض جُبَّتك محترقة » . القول في تأويل
قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 85 ) قال أبو جعفر :
يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: أوفوا الناس الكيل والميزان « بالقسط
» ، يقول: بالعدل، وذلك بأن توفوا أهل الحقوق التي هي مما يكال أو يوزن حقوقهم ،
على ما وجب لهم من التمام ، بغير بَخس ولا نقص. وقوله: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) ،
يقول : ولا تنقصوا الناس حقوقهم التي يجب عليكم أن توفوهم كيلا أو وزنًا أو غير
ذلك، كما:- حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا علي بن صالح بن حي قال: بلغني في قوله: (
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) قال، : لا تنقصوهم. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) ، يقول: لا تظلموا الناس
أشياءهم. وقوله: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، يقول: ولا تسيروا في الأرض تعملون
فيها بمعاصي الله، كما:- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر،
عن قتادة في قوله: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، قال: لا تسيروا في الأرض. وحدثت عن المسيب،
عن أبي روق، عن الضحاك في قوله : ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، يقول: لا تسعوا
في الأرض مفسدين يعني: نقصان الكيل والميزان. القول في تأويل قوله تعالى : بَقِيَّةُ
اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ
بِحَفِيظٍ ( 86 ) قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: ( بقية الله خير لكم )
، ما أبقاه الله لكم ، بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان بالقسط،
فأحلّه لكم، خير لكم من الذي يبقى لكم ببخسكم الناس من حقوقهم بالمكيال والميزان ( إن كنتم مؤمنين
) ، يقول: إن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده ، وحلاله وحرامه. وهذا قولٌ روي عن ابن عباس بإسنادٍ غير
مرتضى عند أهل النقل. وقد اختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم معناه : طاعة الله خيرٌ لكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب
قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:
( بقية الله خير لكم ) ، قال: طاعة الله خير لكم. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن
عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ( بقية الله )
قال: طاعة الله ( خير لكم ) . حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بقية الله ) ، قال: طاعة الله. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد: ( بقية الله خير لكم ) ، قال: طاعة
الله خير لكم. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد: ( بقية الله خير لكم ) ، قال: طاعة الله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. وقال آخرون: معنى ذلك: حظكم من ربكم
خير لكم. ذكر من قال ذلك :- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:
( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ) ، حظكم من ربكم خير لكم. حدثنا الحسن بن
يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( بقية الله
خير لكم ) ، قال: حظكم من الله خير لكم
. وقال آخرون: معناه: رزق الله خير لكم. ذكر من قال ذلك : حدثني الحارث
قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عمن ذكره، عن ابن عباس: ( بقية الله )
قال رزق الله. وقال ابن زيد في قوله ما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال،
قال ابن زيد في قوله: ( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ) ، قال: « الهلاك » ،
في العذاب، و « البقية » في الرحمة.
قال أبو جعفر: وإنما اخترت في تأويل ذلك القولَ الذي
اخترته، لأن الله تعالى ذكره إنما تقدم إليهم بالنهي عن بَخس الناس أشياءهم في
المكيال والميزان، وإلى ترك التطفيف في الكيل والبخس في الميزان دعاهم شعيب،
فتعقيب ذلك بالخبر عما لهم من الحظّ في الوفاء في الدنيا والآخرة ، أولى مع أن قوله:
( بقية ) ، إنما هي مصدر من قول القائل « بقيت بقية من كذا » ، فلا وجه لتوجيه
معنى ذلك إلا إلى: بقية الله التي أبقاها لكم مما لكم بعد وفائكم الناس حقوقهم خير
لكم من بقيتكم من الحرام الذي يبقى لكم من ظلمكم الناس ببخسهم إياهم في الكيل والوزن. وقوله: ( وما أنا
عليكم بحفيظ ) ، يقول: وما أنا عليكم ، أيها الناس ، برقيب أرقبكم عند كيلكم
ووزنكم ، هل توفون الناس حقوقهم أم تظلمونهم؟ وإنما عليّ أن أبلغكم رسالة ربّي،
فقد أبلغتكموها. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي
أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ( 87 ) قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره: قال قوم شعيب: يا شعيب ، أصَلواتك تأمرك أن نترك عبادة ما يعبد
آباؤنا من الأوثان والأصنام ( أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ، من كسر الدراهم
وقطعها ، وبخس الناس في الكيل والوزن ( إنك لأنت الحليم ) ، وهو الذي لا يحمله
الغضب أن يفعل ما لم يكن ليفعله في حال الرّضى، ( الرشيد ) ، يعني: رشيد الأمر في
أمره إياهم أن يتركوا عبادة الأوثان، كما:- حدثنا محمود بن خداش قال ، حدثنا حماد
بن خالد الخياط قال ، حدثنا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم في قول الله: ( أصلاتك
تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم
الرشيد ) قال: كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم أو قال: قطع الدراهم، الشك من حمّاد. حدثنا سهل بن
موسى الرازي قال ، حدثنا ابن أبي فديك، عن أبي مودود قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: بلغني
أن قوم شعيب عُذِّبوا في قطع الدراهم، وجدت ذلك في القرآن: ( أصلواتك تأمرك أن
نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن
حباب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: عُذّب قوم شعيب في قطعهم
الدراهم فقالوا: ( يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في
أموالنا ما نشاء ) . . . . . قال، حدثنا حماد بن خالد الخياط، عن داود بن قيس، عن زيد بن
أسلم في قوله: ( أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ، قال: كان مما نهاهم عنه حَذْفُ
الدراهم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( قالوا يا
شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ، قال: نهاهم عن قطع الدنانير والدراهم فقالوا: إنما
هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء، إن شئنا قطعناها، وإن شئنا صرفناها، وإن شئنا
طرَحناها! . . . . قال وأخبرنا ابن وهب قال، وأخبرني داود بن قيس المرّي : أنه
سمع زيد بن أسلم يقول في قول الله: ( قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد
آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ، قال زيدٌ: كان من ذلك قطع الدراهم. وقوله: ( أصلواتك
) ، كان الأعمش يقول في تأويلها ما:-
حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري
عن الأعمش في قوله: ( أصلواتك ) قال: قراءتك . فإن قال قائل: وكيف قيل: ( أصلواتك
تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ، وإنما كان شعيب
نهاهم أن يفعلوا في أموالهم ما قد ذكرتَ أنه نهاهم عنه فيها؟ قيل: إن معنى ذلك
بخلاف ما توهَّمت. وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك. فقال بعض البصريين: معنى ذلك: أصلواتك
تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء وليس معناه:
تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، لأنه ليس بذا أمرهم. وقال بعض الكوفيين نحو هذا القول قال.
وفيها وجه آخر يجعل الأمر كالنهي، كأنه قال: أصلواتك تأمرك بذا ، وتنهانا عن ذا؟
فهي حينئذ مردودة على أن الأولى منصوبة بقوله « تأمرك » ، وأن الثانية منصوبة
عطفًا بها على « ما » التي في قوله: ( ما يعبد ) . وإذا كان ذلك كذلك، كان معنى
الكلام: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما
نشاء. وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأه ( مَا تَشَاء ) . قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك كذلك ،
فلا مئونة فيه، وكانت « أن » الثانية حينئذ معطوفة على « أن » الأولى. وأما قوله لشعيب:
( إنك لأنت الحليم الرشيد ) فإنهم أعداء الله ، قالوا ذلك له استهزاءً به ، وإنما
سفَّهوه وجهَّلوه بهذا الكلام. وبما قلنا من ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) ، قال: يستهزئون. حدثني يونس قال،
أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) ،
المستهزئون ، يستهزئون : بأنك لأنت الحليم الرشيد ! القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ
يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي
مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ
عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا
بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ( 88 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال
شعيب لقومه: يا قوم أرأيتم إن كنت على بيان وبرهان من ربي فيما أدعوكم إليه من
عبادة الله، والبراءة من عبادة الأوثان والأصنام، وفيما أنهاكم عنه من إفساد المال
( ورزقني منه رزقًا حسنًا ) ، يعني حلالا طيّبًا. ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم
عنه ) ، يقول: وما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعلُ خلافه، بل لا أفعل إلا ما آمركم
به، ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه. كما:-
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة:
( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) ، يقول: لم أكن لأنهاكم عن أمر أركبه
أو آتيه. ( إن أريد إلا الإصلاح ) ، يقول: ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه، إلا إصلاحكم
وإصلاح أمركم ( ما استطعت ) ، يقول: ما قدرت على إصلاحه ، لئلا ينالكم من الله
عقوبة منكِّلة، بخلافكم أمره ، ومعصيتكم رسوله ( وما توفيقي إلا بالله ) يقول: وما
إصابتي الحق في محاولتي إصلاحكم وإصلاح أمركم إلا بالله، فإنه هو المعين على ذلك،
إلا يعنّي عليه لم أصب الحق فيه.
وقوله: ( عليه توكلت ) ، يقول: إلى الله أفوض أمري، فإنه
ثقتي ، وعليه اعتمادي في أموري.
وقوله: ( وإليه أنيب ) ، وإليه أقبل بالطاعة ،وأرجع
بالتوبة، كما:- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: ( وإليه أنيب ) ، قال: أرجع. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة
قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، قال . . . . وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد
الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ( وإليه أنيب ) ، قال: أرجع. حدثنا القاسم قال
، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( وإليه أنيب ) ،
قال: أرجع. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ
يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ
صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره
مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: ( ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي ) ، يقول: لا يحملنكم
عداوتي وبغضي ، وفراق الدين الذي أنا عليه، على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر
بالله ، وعبادة الأوثان ، وبخس الناس في المكيال والميزان ، وترك الإنابة والتوبة،
فيصيبكم ( مثلُ ما أصاب قوم نوح ) ، من الغرق ( أو قوم هود ) ، من العذاب ( أو قوم
صالح ) ، من الرّجفة ( وما قوم لوط ) الذين
ائتفكت بهم الأرض ( منكم ببعيد
) ، هلاكهم،
أفلا تتعظون به ، وتعتبرون؟ يقول: فاعتبروا بهؤلاء، واحذروا أن يصيبكم بشقاقي مثلُ
الذي أصابهم. كما:- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله: ( لا يجرمنكم شقاقي ) ، يقول: لا يحملنكم فراقي ، ( أن يصيبكم مثل ما
أصاب قوم نوح ) ، الآية. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر،
عن قتادة، في قوله: ( لا يجرمنكم شقاقي ) ، يقول: لا يحملنكم شقاقي. حدثنا القاسم قال
، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( لا يجرمنكم شقاقي ) ، قال :
عداوتي وبغضائي وفراقي. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة: ( وما قوم لوط منكم ببعيد ) ، قال: إنما كانوا حديثًا منهم قريبًا يعني قوم نوح
وعاد وثمود وصالح. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله: ( وما قوم لوط منكم ببعيد ) ، قال: إنما كانوا حديثي عهد
قريب ، بعد نوح وثمود. قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يقال: معناه: وما دارُ قوم لوط
منكم ببعيد. القول في تأويل قوله تعالى : وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ( 90
) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل شعيب
لقومه: ( استغفروا ربكم ) ، أيها القوم من ذنوبكم بينكم وبين ربكم التي أنتم عليها
مقيمون ، من عبادة الآلهة والأصنام ، وبَخْس الناس حقوقهم في المكاييل والموازين ( ثم توبوا إليه )
، يقول: ثم ارجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه ( إن ربي رحيم ) ، يقول: هو رحيم بمن
تاب وأناب إليه أن يعذبه بعد التوبة.
( ودود ) ، يقول: ذو محبة لمن أناب وتاب إليه ، يودُّه
ويحبُّه. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا
تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ
وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ( 91
) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم شعيب لشعيب: (
يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول ) ، أي : ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به
( وإنا لنراك فينا ضعيفًا ) . ذُكِر أنه كان ضريرًا، فلذلك قالوا له: ( إنا لنراك فينا
ضعيفًا ) . ذكر من قال ذلك : حدثني عبد الأعلى بن واصل قال ، حدثنا أسد بن زيد الجصاص قال،
أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله: ( وإنا لنراك فينا ضعيفًا ) ،
قال: كان أعمى. حدثنا عباس بن أبي طالب قال، حدثني إبراهيم بن مهدي المصيصي
قال ، حدثنا خلف بن خليفة، عن سفيان، عن سعيد، مثله. حدثنا أحمد بن الوليد الرملي قال ،
حدثنا إبراهيم بن زياد وإسحاق بن المنذر، وعبد الملك بن زيد قالوا، حدثنا شريك، عن
سالم، عن سعيد، مثله. . . . . قال، حدثنا عمرو بن عون ومحمد بن الصباح قالا سمعنا شريكًا
يقول في قوله: ( وإنا لنراك فينا ضعيفًا ) ، قال: أعمى. حدثنا سعدويه قال ، حدثنا عباد، عن
شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، مثله.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان
قوله: ( وإنا لنراك فينا ضعيفًا ) ، قال: كان ضعيف البصر قال سفيان: وكان يقال له
: « خطيب الأنبياء » . . . . قال، حدثنا الحماني قال ، حدثنا عباد، عن شريك، عن سالم، عن
سعيد: ( وإنا لنراك فينا ضعيفًا ) ، قال: كان ضرير البصر. وقوله: ( ولولا رهطك لرجمناك ) ، يقول:
يقولون: ولولا أنك في عشيرتك وقومك
( لرجمناك ) ، يعنون: لسببناك. وقال بعضهم: معناه لقتلناك. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال،
أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولولا رهطك لرجمناك ) ، قال: قالوا:
لولا أن نتقي قومك ورهطك لرجمناك.
وقوله : ( وما أنت علينا بعزيز ) ، يعنون: ما أنت ممن
يكرَّم علينا، فيعظمُ علينا إذلاله وهوانه، بل ذلك علينا هيّن. القول في تأويل
قوله تعالى : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ
وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
( 92 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال شعيب لقومه: يا قوم ، أعزّزتم قومكم، فكانوا
أعزّ عليكم من الله، واستخففتم بربكم، فجعلتموه خلف ظهوركم، لا تأتمرون لأمره ولا
تخافون عقابه، ولا تعظِّمونه حق عظَمته؟ يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل: «
نَبَذ حاجته وراء ظهره » ، أي : تركها لا يلتفت إليها. و إذا قضاها قيل: « جعلها
أمامه ، ونُصْب عينيه » ، ويقال: « ظَهَرتَ
بحاجتي » و « جعلتها ظِهْرِيَّة » ، أي : خلف ظهرك، كما قال الشاعر: *وَجَدْنَا بَنِي
البَرْصَاءِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ*
بمعنى: أنهم يَظْهَرون بحوائجِ النّاس فلا يلتفتون إليها. وبنحو الذي قلنا
في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك
: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه
وراءكم ظهريًّا ) ، وذلك أن قوم شعيب ورهطه كانوا أعز عليهم من الله، وصَغُر شأن الله
عندهم ، عزَّ ربُّنا وجلَّ. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس: ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، قال: قَفًا. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله
واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، يقول: عززتم قومكم، وأظهرْتم بربكم. حدثنا محمد بن
عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( واتخذتموه وراءكم ظهريا ) ، قال: لم
تراقبوه في شيء إنما تراقبون قومي
( واتخذتموه وراءكم ظهريا ) ، يقول: عززتم قومكم وأظهرتم
بربكم. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( واتخذتموه
وراءكم ظهريًّا ) ، قال: لم تراقبوه في شيء، إنما تراقبون قومي ( واتخذتموه
وراءكم ظهريًّا ) ، لا تخافونه حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( أرهطي أعز عليكم من الله ) ، قال: أعززتم قومكم
، واغتررتم بربكم، سمعت إسحاق بن أبي إسرائيل قال: قال سفيان: ( واتخذتموه وراءكم
ظهريًّا ) ، كما يقول الرجل للرجل: « خلَّفتَ حاجتي
خلفَ ظهرك » ، ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، استخففتم بأمره. فإذا أراد الرجل
قضاء حاجةِ صاحبه جعلها أمامه بين يديه، ولم يستخفَّ بها. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال،
قال ابن زيد في قوله: ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، قال: « الظهْريّ » ،
الفَضْل، مثل الجمّال يخرج معه بإبل ظَهَارَّية ، فضل ، لا يحمل عليها شيئًا ، إلا
أن يحتاج إليها. قال: فيقول: إنما ربكم عندكم مثل هذا ، إن احتجتم إليه. وإن لم
تحتاجوا إليه فليس بشيء. وقال آخرون: معنى ذلك: واتخذتم ما جاء به شعيبٌ وراءكم ظهريًّا
فالهاء في قوله: ( واتخذتموه ) ، على هذا من ذكر ما جاء به شعيب. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واتخذتموه وراءكم
ظهريًّا ) ، قال: تركتم ما جاء به شعيب . . . . قال، حدثنا جعفر بن عون، عن
سفيان، عن جابر، عن مجاهد قال: نبذوا أمره. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز،
عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد: (
واتخذتموه وراءكم ظهريا ) ، قال: نبذتم أمره. حدثنا محمد بن
عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (
واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، قال: همَّ رهط شعيب بتركهم ما جاء به وراء ظهورهم
ظهريًّا. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد قال . . . . وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، قال: استثناؤهم رهط شعيب، وتركهم ما
جاءَ به شعيب وراء ظهورهم ظهريًّا.
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل
ذلك ، لقرب قوله: ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، من قوله: ( أرهطي أعز عليكم من
الله ) فكانت الهاء في قوله : ( واتخذتموه ) ، بأن تكون من ذكر الله ، لقرب جوارها
منه ، أشبهَ وأولى. وقوله: ( إن ربي بما تعملون محيط ) ، يقول: إن ربي محيط علمه
بعملكم، فلا يخفى عليه منه شيء، وهو مجازيكم على جميعه عاجلا وآجلا. القول في تأويل
قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ
تَعْلَمُونَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: ( ويا قوم
اعملوا على مكانتكم ) ، يقول: على تمكنكم. يقال منه: « الرجل يعمل على مَكينته ،
ومَكِنته » ، أي : على اتئاده، «
ومَكُن الرجل يمكُنُ مَكْنًا ومَكانةً ومَكانًا » . وكان بعض أهل
التأويل يقول في معنى قوله: ( على مكانتكم ) ، على منازلكم. قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: ويا
قوم اعملوا على تمكنكم من العمل الذي تعملونه، إنّي عامل على تؤدةٍ من العمل الذي
أعمله ( سوف تعلمون ) ، أينا الجاني على نفسه ، والمخطئ عليها ، والمصيب في فعله
المحسنُ إلى نفسه. القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ
وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ( 93 ) قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل نبيّه شعيب لقومه: الذي يأتيه منّا ومنكم ، أيها
القوم ( عذاب يخزيه ) ، يقول: يذله ويهينه ( ومن هو كاذب ) ، يقول: ويُخزي أيضًا
الذي هو كاذب في قيله وخبره منا ومنكم
( وارتقبوا ) ، أي : انتظروا وتفقدوا من الرقبة. يقال منه: « رقبت
فلانًا أرْقُبه رِقْبَةً » . وقوله: ( إني معكم رقيب ) ، يقول: إني أيضًا ذو رقبة لذلك
العذاب معكم، وناظر إليه بمن هو نازل منا ومنكم؟ القول في تأويل قوله تعالى :
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي
دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 94 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء قضاؤنا في قوم شعيب ،
بعذابنا « نجينا شعيبًا » رسولنا، والذين آمنوا به فصدقوه على ما جاءهم به من عند ربهم
مع شعيب، من عذابنا الذي بعثنا على قومه ( برحمة منا ) ، له ولمن آمن به واتبعه
على ما جاءهم به من عند ربهم وأخذت الذين ظلموا صيحة من السماء أخمدتهم ، فأهلكتهم
بكفرهم بربهم. وقيل: إن جبريل عليه السلام، صاح بهم صَيحةً أخرجت أرواحهم من
أجسامهم ( فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) ، على ركبهم ، وصرعى بأفنيتهم. القول في تأويل
قوله تعالى : كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا
بَعِدَتْ ثَمُودُ ( 95 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: كأن لم يعش قوم شعيب الذين
أهلكهم الله بعذابه ، حين أصبحوا جاثمين في ديارهم قبل ذلك. ولم يغنوا. من قولهم: « غنيت
بمكان كذا » ، إذا أقمت به، ومنه قول النابغة: غَنِيَــتْ بِـذَلِكَ إِذْ هُـمُ لِـي
جِـيرَةٌ مِنْهَــا بِعَطْــفِ رِسَــالِةٍ وتَـوَدُّدِ وكما :- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح،
قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( كأن لم يغنوا فيها ) ، قال يقول:
كأن لم يعيشوا فيها. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة مثله. وقوله: ( ألا
بعدًا لمدين كما بعدت ثمود ) ، يقول تعالى ذكره: ألا أبعد الله مدين من رحمته،
بإحلال نقمته بهم « كما بعدت ثمود » ، يقول: « كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته ،
بإنـزال سخطه بهم. » القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى
بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 96 ) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا
أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( 97 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد
أرسلنا موسى بأدلتنا على توحيدنا، وحجةً تُبين لمن عاينها وتأملها بقلب صحيحٍ.
أنها تدل على توحيد الله ، وكذب كل من ادّعى الربوبية دونه، وبُطُول قول من أشرك
معه في الألوهية غيره ( إلى فرعون وملئه ) ، يعني إلى أشراف جنده وتُبَّاعه ( فاتبعوا
أمر فرعون ) ، يقول: فكذب فرعون وملأه موسى، وجحدوا
وحدانية الله، وأبوا قبول ما أتاهم به موسى من عند الله، واتبع ملأ فرعون أمرَ
فرعون دون أمر الله، وأطاعوه في تكذيب موسى ، وردّ ما جاءهم به من عند الله عليه
يقول تعالى ذكره: ( وما أمر فرعون برشيد ) يعني: أنه لا يُرشد أمر فرعون من قَبِله
منه، في تكذيب موسى، إلى خير، ولا يهديه إلى صلاح، بل يورده نار جهنم. القول في تأويل
قوله تعالى : يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ
وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ( 98
) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( يقدم ) ، فرعون (
قومه يوم القيامة ) ، يقودهم، فيمضي
بهم إلى النار ، حتى يوردهموها ، ويصليهم سعيرها، ( وبئس الورد ) ، يقول: وبئس
الورد الذي يردونه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا
محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:
( يقدم قومه يوم القيامة ) ، قال: فرعون يقدم قومه يوم
القيامة ، يمضى بين أيديهم حتى يهجم بهم على النار. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة: ( يقدم قومه يوم القيامة ) يقول: يقود قومه « فأوردهم النار » . حدثنا القاسم
قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: ( يقدم
قومه يوم القيامة ) ، يقول: أضلهم فأوردهم النار. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق، قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله:
( فأوردهم النار ) ، قال: « الورد » ، الدُّخول.
حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن
سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( فأوردهم النار ) ، كان ابن عباس يقول: «
الورد » في القرآن أربعةُ أوراد: في هود قوله: ( وبئس الورد المورود ) وفي مريم: وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلا وَارِدُهَا [ سورة مريم: 71 ] ، وورد في « الأنبياء » : حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا
وَارِدُونَ ، [ سورة الأنبياء: 98
] ، وورد في
« مريم » أيضًا: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [ سورة مريم: 86 ]
كان ابن عباس يقول: كل هذا الدخول، والله ليردن جهنم كل برٍّ وفاجر: ثُمَّ
نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ، [ سورة
مريم: 72 ] . القول في تأويل قوله تعالى : وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ( 99
) قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وأتبعهم الله في
هذه يعني في هذه الدنيا مع العذاب الذي عجله لهم فيها من الغرق في البحر، لعنتَه (
ويوم القيامة ) ، يقول: وفي يوم القيامة أيضًا يلعنون لعنةً أخرى، كما:- حدثنا بن حميد
قال ، حدثنا حكام، عن عنبسه عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن
مجاهد: ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة ) ، قال: لعنةً أخرى. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم
القيامة ) ، قال : زِيدوا بلعنته لعنةً أخرى، فتلك لعنتان. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة
قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة
بئس الرفد المرفود ) ، اللعنةُ في إثر اللعنة. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا
عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ( وأتبعوا في هذه لعنة
ويوم القيامة ) ، قال: زيدوا لعنة أخرى، فتلك لعنتان. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:
( في هذه ) ، قال: في الدنيا ( ويوم القيامة ) ، أردفوا
بلعنة أخرى ، زيدوها، فتلك لعنتان.
وقوله: ( بئس الرفد المرفود ) ، يقول: بئس العَوْن
المُعان، اللعنةُ المزيدة فيها أخرى مثلها. وأصل « الرفد » ، العون، يقال منه: «
رفَد فلانٌ فلانًا عند الأمير يَرفِده رِفْدًا » بكسر الراء وإذا فتحت، فهو
السَّقي في القدح العظيم، و « الرَّفد » : القدحُ الضخم، ومنه قول الأعشى: رُبَّ رَفْــدٍ
هَرَقْتَــهُ ذَلِــكَ الْيَـوْ مَ وَأسْــرَى مِــنْ مَعْشَــرٍ أَقْتَـالِ ويقال:
« رَفد فلان حائطه » ، وذلك إذا أسنده بخشبة ، لئلا يسقط. و « الرَّفد » ، بفتح الراء المصدر. يقال
منه: « رَفَده يَرفِده رَفْدًا » ، و
« الرِّفْد » ، اسم الشيء الذي يعطاه الإنسان ، وهو «
المَرْفَد » . وينحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله
قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( بئس الرفد المرفود ) ، قال: لعنة
الدنيا والآخرة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
عن قتادة: ( بئس الرفد المرفود ) ، قال: لعنهم الله في الدنيا، وزيد لهم فيها اللعنة
في الآخرة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في
قوله: ( ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) ، قال: لعنة في الدنيا، وزيدوا فيها
لعنةً في الآخرة . حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: (
وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) ، يقول: ترادفت عليهم
اللعنتان من الله ، لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد،
عن جويبر، عن الضحاك، قال: أصابتهم لعنتان في الدنيا، رفدت إحداهما الأخرى، وهو
قوله: ( ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) . القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ( 100 ) قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هذا القصص الذي ذكرناه لكَ في هذه
السورة، ، والنبأ الذي أنبأناكه فيها ، من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم
بالله، وتكذيبهم رسله ( نقصه عليك ) فنخبرك به ( منها قائم ) ، يقول: منها قائم
بنيانه ، بائدٌ أهله هالك ، ومنها قائم بنيانه عامر، ومنها حصيدٌ بنيانه ، خرابٌ
متداعٍ، قد تعفى أثرُه دارسٌ. من قولهم: « زرع حصيد » ، إذا كان قد استؤصل قطعه، وإنما هو
محصود، ولكنه صرف إلى « فعيل » ، كما قد بينا في نظائره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ) ، يعني ب « القائم » قُرًى عامرة. و « الحصيد » قرى
خامدة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( قائم وحصيد ) ،
قال: « قائم » على عروشها و « حصيد » مستأصَلة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة: ( منها قائم
) ، يرى
مكانه، ( وحصيد ) لا يرى له أثر.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج: ( منها قائم ) ، قال: خاوٍ على عروشه ( وحصيد ) ، ملزقٌ بالأرض. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن الأعمش: ( منها قائم وحصيد ) ، قال: خرَّ
بنيانه. حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش: (
منها قائم وحصيد ) ، قال: « الحصيد » ، ما قد خرَّ بنيانه. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال،
قال ابن زيد في قوله: ( منها قائم وحصيد ) ، منها قائم يرى أثره، وحصيدٌ بَادَ لا
يرى أثره. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ( 101 ) قال أبو جعفر: يقول
تعالى ذكره: وما عاقبنا أهل هذه القرى التي اقتصَصنا نبأها عليك ، يا محمد ، بغير
استحقاق منهم عقوبتنا، فنكون بذلك قد وضعنا عقوبتنا إياهُمْ في غير موضعها ( ولكن
ظلموا أنفسهم ) ، يقول: ولكنهم أوجبوا لأنفسهم بمعصيتهم الله وكفرهم به، عقوبتَه
وعذابه، فأحلوا بها ما لم يكن لهم أن يحلوه بها، وأوجبوا لها ما لم يكن لهم أن
يوجبوه لها ( فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء ) ، يقول: فما
دفعت عنهم آلهتهم التي يدعونها من دون الله ، ويدعونها أربابًا من عقاب الله
وعذابه إذا أحله بهم ربُّهم من شيء ، ولا ردَّت عنهم شيئًا منه ( لما جاء أمر ربك ) ، يا محمد، يقول: لما جاء قضاء ربك بعذابهم، فحقّ
عليهم عقابه ، ونـزل بهم سَخَطه ( وما زادوهم غير تتبيب ) ، يقول: وما زادتهم
آلهتهم عند مجيء أمر ربك هؤلاء المشركين بعقاب الله غير تخسيرٍ وتدميرٍ وإهلاك. يقال منه: «
تبَّبْتُه أتبِّبُه تَتْبيبًا » ، ومنه قولهم للرجل: « تبًّا لك » ، قال جرير: عَــرَادَةُ
مِــنْ بَقِيَّــةِ قَـوْمِ لُـوطٍ أَلا تَبًّـــا لِمَـــا فَعَلُــوا تَبَابًــا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني المثني قال ، حدثنا سعيد بن
سلام أبو الحسن البصري قال ، حدثنا سفيان، عن نسير بن ذعلوق، عن ابن عمر في قوله:
( وما زادوهم غير تتبيب ) ، قال: غير تخسير. حدثني محمد بن
عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( غير
تتبيب ) ، قال: تخسير. حدثنا المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة: ( غير
تتبيب ) ، يقول: غير تخسير. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا
محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:
( غير تتبيب ) ، قال: غير تخسير. قال أبو جعفر: وهذا الخبر من الله
تعالى ذكره، وإن كان خبرًا عمَّن مَضَى من الأمم قبلنا، فإنه وعيدٌ من الله جلّ
ثناؤه لنا أيتها الأمة ، أنا إن سلكنا سبيلَ الأمم قبلَنا في الخلاف عليه وعلى
رسوله، سلك بنا سبيلهم في العُقوبة وإعلام منه لما أنه لا يظلم أحدًا من خلقه، وأن
العباد هم الذين يظلمون أنفسهم، كما:-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قال،
اعتذر يعني ربنا جل ثناؤه إلى خلقه فقال: ( وما ظلمناهم ) ، مما ذكرنا لك من عذاب
من عذبنا من الأمم ، ( ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم ) ، حتى بلغ: ( وما
زادوهم غير تتبيب ) ، قال: ما زادهم الذين كانوا يعبدونهم غير تتبيب. القول في تأويل
قوله تعالى : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ
إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( 102
) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما أخذت، أيها الناس
، أهلَ هذه القرى التي اقتصصت عليك نبأ أهلها بما أخذتُهم به من العذاب، على
خلافهم أمري ، وتكذيبهم رسلي ، وجحودهم آياتي، فكذلك أخذي القرَى وأهلها إذا
أخذتهم بعقابي ، وهم ظلمة لأنفسهم بكفرهم بالله ، وإشراكهم به غيره ، وتكذيبهم رسله
( إنَّ أخذه أليم ) ، يقول: إن أخذ ربكم بالعقاب من أخذه ( أليم ) ، يقول: موجع ( شديد ) الإيجاع. وهذا من الله تحذيرٌ لهذه الأمة ، أن
يسلكوا في معصيته طريق من قبلهم من الأمم الفاجرة، فيحل بهم ما حلَّ بهم من
المثُلات، كما:- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو معاوية، عن بريد بن أبي بردة،
عن أبيه، عن أبي موسى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يُمْلي
ورُبَّما ، قال: يمهل الظالمَ، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتُه. ثم قرأ: ( وكذلك أخذ
ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة )
. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن
الله حذّر هذه الأمة سطوتَه بقوله: ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن
أخذه أليم شديد ) . وكان عاصم الجحدريّ يقرأ ذلك: ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ
إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ) ، وذلك قراءة لا أستجيز القراءة بها
لخلافها مصاحف المسلمين ، وما عليه قراء الأمصار. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ
النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ( 103 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن في
أخذنا من أخذنا من أهل القرى التي اقتصصنا خبرَها عليكم أيها الناس لآية، يقول:
لعبرة وعظة لمن خاف عقاب الله وعذابه في الآخرة من عباده، وحجةً عليه لربه،
وزاجرًا يزجره عن أن يعصي الله ويخالفه فيما أمره ونهاه. وقيل: بل معنى ذلك: إن فيه عبرة لمن
خاف عذاب الآخرة ، بأن الله سيفي له بوَعْده. ذكر من قال ذلك : حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال،
قال ابن زيد في قوله: ( إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ) ، إنا سوف نفي لهم
بما وعدناهم في الآخرة ، كما وفينا للأنبياء : أنا ننصرهم. وقوله: ( ذلك يوم مجموع له الناس ) ،
يقول تعالى ذكره: هذا اليوم يعني يوم القيامة ( يوم مجموع له الناس ) ، يقول: يحشر
الله له الناس من قبورهم، فيجمعهم فيه للجزاء والثواب والعقاب ( وذلك يوم مشهود )
، يقول: وهو يوم تَشهده الخلائق ، لا يتخلَّف منهم أحدٌ، فينتقم حينئذ ممن عصى
الله وخالف أمره وكذَّب رُسُلَه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب قال
، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد في قوله: ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم
مشهود ) ، قال: يوم القيامة. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن عكرمة، مثله. حدثنا أبو كريب
قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة، عن علي بن زيد، عن
يوسف المكي، عن ابن عباس قال، « الشاهد » ، محمد، و « المشهود » ، يوم القيامة. ثم قرأ: (
ذلك يوم مجموعٌ له الناس وذلك يوم مشهود ) . حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن
المنهال قال ، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن ابن عباس قال: « الشاهد » ، محمد و «
المشهود » ، يوم القيامة. ثم تلا هذه الآية: ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم
مشهود ) . حدثت عن المسيب ، عن جويبر، عن الضحاك قوله: ( ذلك يوم مجموع له الناس
وذلك يوم مشهود ) ، قال: ذلك يوم القيامة، يجتمع فيه الخلق كلهم ، ويشهدُه أهل السماء
وأهل الأرض. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ ( 104 ) قال أبو
جعفر: يقول تعالى ذكره: وما نؤخّر يوم القيامة عنكم أن نجيئكم به إلا لأن يُقْضَى،
فقضى له أجلا فعدّه وأحصَاه، فلا يأتي إلا لأجله ذلك، لا يتقدم مجيئه قبل ذلك ولا
يتأخر. القول في تأويل قوله تعالى : يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ( 105 ) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ( 106 ) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا
يُرِيدُ ( 107 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: يوم يأتي يوم القيامة ، أيها
الناس، وتقوم الساعة ، لا تكلم نفس إلا بإذن رَبّها. واختلفت القراء في قراءة قوله: (
يَوْمَ يَأْتِي ) . فقرأ ذلك عامّة قراء أهل المدينة بإثبات الياء فيها ( يَوْمَ
يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ ) .
وقرأ ذلك بعض قراء أهل البصرة وبعض الكوفيين بإثبات
الياء فيها في الوصل وحذفها في الوقف.
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بحذف الياء في الوصل
والوقف: ( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ ) . قال أبو جعفر:
والصواب من القراءة في ذلك عندي: ( يَوْمَ يَأْتِ ) ، بحذف الياء في الوصل والوقف
اتباعًا لخط المصحف، وأنها لغة معروفة لهذيل، تقول: « مَا أدْرِ مَا تَقول » ، ومنه قول
الشاعر: كَفَّــاكَ كَــفٌّ مَـا تُلِيـقُ دِرْهَمَـا جُـودًا وأُخْـرَى تُعْـطِ بِالسَّـيْفِ
الدَّمَا وقيل: ( لا تَكَلَّمُ ) ، وإنما هي « لا تتكلم » ، فحذف إحدى التاءين اجتزاء
بدلالة الباقية منهما عليها. وقوله: ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) ، يقول: فمن هذه النفوس
التي لا تكلم يوم القيامة إلا بإذن ربها، شقيٌّ وسعيد وعاد على « النفس » ، وهي في
اللفظ واحدة ، بذكر الجميع في قوله: ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) . يقول: تعالى
ذكره: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ ) وهو
أوّل نُهاق الحمار وشبهه ( وَشَهِيقٌ ) ، وهو آخر نهيقه إذا ردده في الجوف عند
فراغه من نُهاقه، كما قال رؤبة بن العجاج: حَشْـرَجَ فِـي الجَوْفِ سَحِيلا أَوْ
شَهَقْ حَــتَّى يُقَــالَ نَـاهِقٌ وَمَـا نَهَـقْ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال
أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني المثني قال ، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي،
عن ابن عباس قوله: ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) ، يقول: صوت شديدٌ وصوت
ضعيف. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن أبي العالية
في قوله: ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) ، قال: « الزفير » في الحلق، و «
الشهيق » في الصدر. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي
جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية ، بنحوه. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال،
أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: صوت الكافر في النار صوت الحمار، أوّله
زفير وآخره شهيق حدثنا أبو هشام الرفاعي ، ومحمد بن معمر البحراني ، ومحمد بن
المثني ، ومحمد بن بشار قالوا، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا سليمان بن سفيان قال ، حدثنا
عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن عمر قال، لما نـزلت هذه الآية : ( فَمِنْهُمْ
شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبيّ الله، فعلام
عَمَلُنا؟ على شيء قد فرغ منه ، أم على شيء لم يفرغ منه؟ قال: فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: على شيء قد فُرِغ منه ، يا عمر ، وجرت به الأقلام، ولكن كلٌّ
مُيَسَّر لما خُلق له اللفظ لحديث ابن معمر. وقوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات
والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ) ، يعني تعالى ذكره بقوله: ( خالدين
فيها ) ، لابثين فيها ويعني بقوله: ( ما دامت السماوات والأرض ) ، أبدًا . وذلك أن العرب
إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت: هذا دائم دوام السموات والأرض ، بمعنى
أنه دائم أبدًا، وكذلك يقولون: « هو باقٍ ما اختلف الليل والنهار » . و « ما سمر
ابنا سَمِير » ، و « ما لألأت العُفْرُ بأذنابها » يعنون بذلك كله « أبدا » .
فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم فقال: ( خالدين فيها ما دامت السماوات
والأرض ) ، والمعنى في ذلك: خالدين فيها أبدًا.
وكان ابن زيد يقول في ذلك بنحو ما قلنا فيه. حدثنا يونس قال،
أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض
) ، قال: ما دامت الأرض أرضًا، والسماءُ سماءً. ثم قال: ( إلا ما شاء ربك ) ، واختلف
أهل العلم والتأويل في معنى ذلك فقال بعضهم: هذا استثناءٌ استثناه الله في بأهل
التوحيد ، أنه يخرجهم من النار إذا شاء ، بعد أن أدخلهم النار. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن
يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي
النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ، قال: الله أعلم بثُنَياه. وذكر لنا أن
ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابوها، ثم يدخلهم الجنة. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض
إلا ما شاء ربك ) ، والله أعلم بثَنيَّته . ذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من
النار بذنوب أصابتهم، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم : «
الجهنَّميُّون » . حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا شيبان بن فروخ قال ، حدثنا
أبو هلال قال ، حدثنا قتادة، وتلا هذه الآية: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي
النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) ، إلى قوله: ( لما يريد ) ، فقال عند ذلك:
حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يَخْرج قومٌ من النار
قال قتادة: ولا نقول مثل ما يقول أهل حَرُوراء. » حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب،
عن أبي مالك، يعني ثعلبة، عن أبي سنان في قوله: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي
النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ، قال: استثناء في أهل التوحيد. حدثنا محمد بن
عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الضحاك بن مزاحم: ( فَأَمَّا
الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ) ، إلى قوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات
والأرض إلا ما شاء ربك ) ، قال: يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة، فهم الذين
استثنى لهم. حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، ثني معاوية، عن عامر بن جشيب،
عن خالد بن معدان في قوله: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ، [ سورة النبأ: 23 ] ،
وقوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، أنهما في أهل
التوحيد. وقال آخرون: الاستثناء في هذه الآية في أهل التوحيد، إلا أنهم قالوا: معنى
قوله: ( إلا ما شاء ربك ) ، إلا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار.
ووجهوا الاستثناء إلى أنه من قوله: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ )
( إلا ما شاء ربك ) ، لا من « الخلود
» . ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال ، حدثنا ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي نضرة، عن جابر أو: أبي سعيد يعني
الخدري أو : عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إلا ما شاء
ربك إن ربك فعال لما يريد ) ، قال: هذه الآية تأتي على القرآن كلِّه يقول: حيث كان
في القرآن ( خالدين فيها ) ، تأتي عليه قال: وسمعت أبا مجلز يقول: هو جزاؤه، فإن شاء الله
تجاوَزَ عن عذابه. وقال آخرون: عنى بذلك أهل النار وكلَّ من دخلها. ذكر من قال ذلك : حدثت عن المسيب
عمن ذكره، عن ابن عباس: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) ، لا يموتون، ولا
هم منها يخرجون ما دامت السموات والأرض، ( إلا ما شاء ربك ) ، قال: استثناءُ الله.
قال: يأمر النار أن تأكلهم. قال: وقال ابن مسعود: ليأتين على جهنَّم زمان تخفِقُ
أبوابُها ، ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن
بيان، عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانًا وأسرعهما خرابًا. وقال آخرون:
أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنة، فعرَّفنا معنى ثُنْياه بقوله: عَطَاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ ، أنها في الزيادة على مقدار مدَّة السموات والأرض .قال: ولم يخبرنا
بمشيئته في أهل النار. وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة ، وجائز أن تكون في
النقصان. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (
خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، فقرأ حتى بلغ: عَطَاءً
غَيْرَ مَجْذُوذٍ ، قال: وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب،
القولُ الذي ذكرنا عن قتادة والضحاك: من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل
الكبائر أنه يدخلهم النار، خالدين فيها أبدًا إلا ما شاءَ من تركهم فيها أقل من ذلك،
ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة، كما قد بينا في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته في
هذا الموضع. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك ، لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك
به الخلود في النار، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغير
جائز أن يكون استثناءً في أهل الشرك وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن الله يدخل قومًا من أهل الإيمان به بذنوبٍ أصابوها النارَ، ثم يخرجهم
منها فيدخلهم الجنة ، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دُخُولها
، مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا وأنّا إن جعلناه
استثناء في ذلك، كنا قد دخلنا في قول من يقول: « لا يدخل الجنة فاسق ، ولا النار
مؤمن » ، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم ، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم. فإذا فسد هذان الوجهان ، فلا قول قال به القُدْوة من أهل العلم إلا الثالث. ولأهل العربية في
ذلك مذهبٌ غير ذلك، سنذكره بعدُ، ونبينه إن شاء الله . . وقوله: ( إن ربك فعال لما يريد ) ،
يقول تعالى ذكره: إن ربك ، يا محمد ، لا يمنعه مانع من فعل ما أراد فعله بمن عصاه
وخالف أمره ، من الانتقام منه، ولكنه يفعل ما يشاء فعلَه ، فيمضي فيهم وفيمن شاء
من خلقه فعلُه وقضاؤهُ. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا
فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا
مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( 108 ) قال أبو جعفر: واختلفت القراء في
قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء المدينة والحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: ( وَأَمَّا الَّذِينَ
سَعِدُوا ) ، بفتح السين. وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفة: ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا
) ، بضم السين، بمعنى: رُزِقوا السعادة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان
معروفتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ. فإن قال قائل: وكيف قيل: ( سُعِدُوا )
، فيما لم يسمَّ فاعله، ولم يقل:
« أسعدوا » ، وأنت لا تقول في الخبر فيما سُمِّى فاعله :
« سعده الله » ، بل إنما تقول: « أسعده الله » ؟ قيل ذلك نظير قولهم: « هو مجنون »
و « محبوب » ، فيما لم يسمَّ فاعله، فإذا سموا فاعله قيل: « أجنه الله » ، و «
أحبه » ، والعرب تفعل ذلك كثيرًا.
وقد بينا بعض ذلك فيما مضى من كتابنا هذا. وتأويل ذلك: وأما
الذين سعدوا برحمة الله، فهم في الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، يقول:
أبدًا ( إلا ما شاء ربك ) . فاختلف أهل التاويل في معنى ذلك. فقال بعضهم: ( إلا ما شاء ربك ) ، من
قدر ما مكثوا في النار قبل دخُولهم الجنة. قالوا: وذلك فيمن أخرج من النار من
المؤمنين فأدخل الجنة. ذكر من قال ذلك
: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن الضحاك في قوله: ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت
السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، قال: هو أيضًا في الذين يخرجون من النار
فيدخلون الجنة. يقول: خالدين في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك.
يقول: إلا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة. وقال آخرون: معنى ذلك: ( إلا ما شاء
ربك ) ، من الزيادة على قدر مُدّة دوام السموات والأرض، قالوا: وذلك هو الخلود
فيها أبدًا. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن أبي مالك، يعني ثعلبة،
عن أبي سنان: ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات
والأرض إلا ما شاء ربك ) ، قال: ومشيئته خلودهم فيها، ثم أتبعها فقال: ( عطاء غير
مجذوذ ) . واختلف أهل العربية في وجه الاستثناء في هذا الموضع. فقال بعضهم في ذلك معنيان: أحدهما : أن
تجعله استثناءً يستثنيه ولا يفعله، كقولك: « والله لأضربنَّك إلا أن أرى غير ذلك »
، وعزمُك على ضربه. قال: فكذلك قال: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما
شاء ربك ) ، ولا يشاؤه، [ وهو أعلم
] . قال: والقول الآخر: أنّ العرب إذا استثنت شيئًا
كثيرًا مع مثله ، ومع ما هو أكثر منه ، كان معنى « إلا » ومعنى « الواو » سواء.
فمن كان قوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) سوى ما شاء الله من
زيادة الخلود، فيجعل « إلا » مكان « سوى » فيصلح، وكأنه قال: « خالدين فيها ما
دامت السموات والأرض سوى ما زادهم من الخلود والأبد » . ومثله في الكلام أن تقول:
لي عليك ألف إلا ألفين اللذين [ مِنْ قِبَل فلان « ، أفلا ترى أنه في المعنى : لي
عليك ألفٌ سِوَى الألفين ] ؟ قال: وهذا أحبُّ الوجهين إليّ ، لأنّ الله لا خُلْفَ
لوعده. وقد وصل الاستثناء بقوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ،
فدلَّ على أن الاستثناء لهم بقوله في الخلود غير منقطعٍ عنهم. » وقال آخر منهم بنحو هذا القول.
وقالوا: جائز فيه وجه ثالثٌ: وهو أن يكون استثنى من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها
ما بين الموت والبعث ، وهو البرزخ ، إلى أن يصيُروا إلى الجنة، ثم هو خلود الأبد.
يقول: فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرْزَخ. وقال آخر منهم: جائز أن يكون دوام
السموات والأرض ، بمعنى : الأبد ، على ما تعرف العرب وتستعمل ، وتستثنى المشيئة من
داومها ، لأنَّ أهل الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقاتِ دوام السموات
والأرض في الدنيا ، لا في الجنة، فكأنه قال: خالدين في الجنة ، وخالدين في النار ،
دوامَ السماء، والأرض ، إلا ما شاء ربُّك من تعميرهم في الدنيا قبلَ ذلك. قال أبو جعفر :
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القولُ الذي ذكرته عن الضحاك، وهو ( وأما
الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، من
قدر مُكْثِهم في النار، من لدن دخلوها إلى أن ادخلوا الجنة، وتكون الآية معناها
الخصوص ، لأن الأشهر من كلام العرب في
« إلا » توجيهها إلى معنى الاستثناء ، وإخراج معنى ما
بعدها مما قبلها ، إلا أن يكون معها دلالةٌ تدلُّ على خلاف ذلك. ولا دلالة في
الكلام أعني في قوله: ( إلا ما شاء ربك ) تدلُّ على أن معناها غير معنى الاستثناء
المفهوم في الكلام، فيُوَجَّه إليه.
وأما قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، فإنه يعني : عطاءً من
الله غيرَ مقطوع عنهم. من قولهم: « جذذت الشيء أجذّه جذًّا » ، إذا قطعته، كما قال
النابغة: تَجــذُّ السَّـلُوقِيَّ المُضَـاعَفَ نَسْـجُهُ وَيوقِــدْنَ بِالصُّفَّـاحِ
نَـارَ الحُبَـاحِبِ يعني بقوله: « تجذ » : تقطع. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (
عطاء غير مجذوذ ) ، قال: غير مقطوع.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، يقول: غير منقطع. حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن
صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ( عطاء غير مجذوذ ) ، يقول: عطاء
غير مقطوع. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد: ( مجذوذ ) ، قال: مقطوع.
حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله،
عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، قال: غير
مقطوع. . . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، مثله. .... قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع،
عن أبي العالية، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج. عن ابن
جريج، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي
العالية قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، قال: أما هذه فقد أمضَاها. يقول: عطاء غير منقطع. حدثني يونس قال ،
أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، غير منـزوع منهم. القول في تأويل
قوله تعالى : فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ
إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ
غَيْرَ مَنْقُوصٍ ( 109 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم: فلا تَك في شك ، يا محمد ، مما يعبد هؤلاء المشركون من قومك من الآلهة
والأصنام، أنه ضلالٌ وباطلٌ ، وأنه بالله شركٌ ( ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من
قبل ) ، يقول: إلا كعبادة آبائهم ، من قبل
عبادتهم لها. يُخبر تعالى ذكره أنهم لم يعبدُوا ما عبدوا من الأوثان إلا اتباعًا
منهم منهاج آبائهم، واقتفاءً منهم آثارهم في عبادتهموها، لا عن أمر الله إياهم
بذلك، ولا بحجة تبيَّنوها توجب عليهم عبادتها. ثم أخبر جل ثناؤه نبيَّه ما هو فاعل
بهم لعبادتهم ذلك، فقال جل ثناؤه:
( وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ) ، يعني: حظهم مما
وعدتهم أن أوفّيهموه من خير أو شر ( غير منقوص ) ، يقول: لا أنقصهم مما وعدتهم، بل
أتمّم ذلك لهم على التمام والكمال، كما:-
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان، عن جابر، عن
مجاهد، عن ابن عباس : ( وإنا لموفُّوهم نصيبهم غير منقوص ) ، قال: ما وُعِدوا فيه من
خير أو شر. حدثنا أبو كريب ومحمد بن بشار قالا حدثنا وكيع، عن سفيان عن جابر، عن مجاهد،
عن ابن عباس، مثله إلا أن أبا كريب قال في حديثه: من خيرٍ أو شرّ. حدثني المثني
قال، أخبرنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد عن ابن
عباس: ( وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ) ، قال: ما قُدِّر لهم من الخير والشر. حدثنا الحسن بن
يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس
في قوله: ( وإنا لموفّوهم نصيبهم غير منقوص ) ، قال: ما يصيبهم من خير أو شر. حدثني يونس قال،
أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله : ( وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ) ،
قال: نصيبهم من العذاب. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ( 110 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ،
مسليًا نبيه في تكذيب مشركي قومه إياه فيما أتاهم به من عند الله ، بفعل بني
إسرائيل بموسى فيما أتاهم به من عند الله. يقول له تعالى ذكره: ولا يحزنك ، يا
محمد ، تكذيب هؤلاء المشركين لك، وامض لما أمرك به ربُّك من تبليغ رسالته، فإن
الذي يفعل بك هؤلاء من ردِّ ما جئتهم به عليك من النصيحة من فعل ضُربائهم من الأمم
قبلهم وسنَّةٌ من سُنتهم. ثم أخبره جل ثناؤه بما فعل قوم موسى به فقال: ( ولقد آتينا
موسى الكتاب ) ، يعني : التوراة، كما آتيناك الفرقان،
فاختلف في ذلك الكتاب قومُ موسى ، فكذّب به بعضُهم وصدّق به بعضهم، كما قد فعل
قومك بالفرقان من تصديق بعض به ، وتكذيب بعض ( ولولا كلمة سبقت من ربك ) ، يقول
تعالى ذكره: ولولا كلمة سبقت ، يا محمد ، من ربك بأنه لا يعجل على خلقه العذاب،
ولكن يتأنى حتى يبلغ الكتاب أجله ( لقضي بينهم ) ، يقول: لقضي بين المكذب منهم به والمصدِّق
، بإهلاك الله المكذب به منهم ، وإنجائه المصدق به ( وإنهم لفي شك منه مريب ) ،
يقول: وإن المكذبين به منهم لفي شك من حقيقته أنه من عند الله ( مريب ) ، يقول:
يريبهم ، فلا يدرون أحقٌّ هو أم باطلٌ؟ ولكنهم فيه ممترون. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ
كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ ( 111 ) قال أبو جعفر : اختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته جماعة من
قراء أهل المدينة والكوفة: ( وَإنَّ ) مشددة ( كُلا لَمَّا ) مشددة. واختلف أهل العربية في معنى ذلك: فقال بعض نحويي
الكوفيين: معناه إذا قرئ كذلك : وإنّ كلا لممَّا ليوفينهم ربك أعمالهم ولكن لما
اجتمعت الميمات حذفت واحدة ، فبقيت ثنتان، فأدغمت واحدة في الأخرى، كما قال الشاعر: وَإِنِّـي
لَمِمَّـا أُصْـدِرُ الأَمْـرَ وَجْهَـهُ إِذَا هُــوَ أَعْيـى بالسَّـبِيلِ
مَصَـادِرُهُ ثم تخفف، كما قرأ بعض القراء: وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ ، [ سورة
النحل: 90 ] ، تخفُّ الياء مع الياء. وذكر أن الكسائي
أنشده: وَأشْــمَتَّ العُــدَاةَ بِنَــا فَـأضْحَوْا لــدَيْ يَتَبَاشَــرُونَ بِمَــا
لَقِينَــا وقال: يريد « لديَّ يتباشرون بما لقينا » ، فحذف ياء، لحركتهن
واجتماعهن ، قال: ومثله: كـــأنَّ مِــنْ آخِرِهــا الْقــادِمِ مَخْــرِمُ نَجْــدٍ
فــارعِ المَخَـارِمِ وقال: أراد : إلى القادم، فحذف اللام عند اللام. وقال آخرون: معنى
ذلك إذا قرئ كذلك: وإن كلا شديدًا وحقًّا ، ليوفينهم ربك أعمالهم. قال: وإنما يراد
إذا قرئ ذلك كذلك: ( وإنّ كلا لمَّا ) بالتشديد والتنوين، ولكن قارئ ذلك كذلك حذف
منه التنوين، فأخرجه على لفظ فعل « لمَّا » ،
كما فعل ذلك في قوله: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ، [ سورة المؤمنون: 44
] ، فقرأ « تترى » ، بعضهم بالتنوين، كما قرأ من قرأ: « لمَّا » بالتنوين، وقرأ
آخرون بغير تنوين، كما قرأ ( لمَّا ) بغير تنوين من قرأه. وقالوا: أصله من «
اللَّمِّ » من قول الله تعالى: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا ، يعني :
أكلا شديدًا. وقال آخرون: معنى ذلك إذا قرئ كذلك: وإنّ كلا إلا ليوفينهم، كما يقول القائل:
« بالله لمَّا قمتَ عنا ، وبالله إلا قمت عنا » . قال أبو جعفر: ووجدت عامة أهل العلم
بالعربية ينكرون هذا القول، ويأبون أن يكون جائزًا توجيه « لمَّا » إلى معنى « إلا
» ، في اليمين خاصة . وقالوا: لو جاز أن يكون ذلك بمعنى إلا جاز أن يقال: « قام القوم لمَّا
أخاك » بمعنى: إلا أخاك، ودخولها في كل موضع صلح دخول « إلا » فيه. قال أبو جعفر:
وأنا أرى أنّ ذلك فاسد من وجه هو أبين مما قاله الذين حكينا قولهم من أهل العربية
، في فساده، وهو أنّ « إنّ » إثبات للشيء وتحقيق له، و « إلا » ، تحقيق أيضًا، وإنما تدخل نقضًا
لجحد قد تقدَّمها. فإذا كان ذلك معناها، فواجب أن تكون عندَ متأولها التأويلَ الذي
ذكرنا عنه، أن تكون « إنّ » بمعنى الجحد عنده، حتى تكون « إلا نقضًا » لها. وذلك إن
قاله قائل، قولٌ لا يخفى جهلُ قائله، اللهم إلا أن يخفف قارئ « إن » فيجعلها بمعنى « إن » التي تكون
بمعنى الجحد. وإن فعل ذلك ، فسدت قراءته ذلك كذلك أيضًا من وجه آخر، وهو أنه يصير
حينئذ ناصبًا « لكل » بقوله: ليوفينهم، وليس في العربية أن ينصب ما بعد « إلا » من
الفعل ، الاسم الذي قبلها. لا تقول العرب: « ما زيدًا إلا ضربت » ، فيفسد ذلك إذا
قرئ كذلك من هذا الوجه ، إلا أن يرفع رافع « الكل » ، فيخالف بقراءته ذلك كذلك
قراءة القراء وخط مصاحف المسلمين، ولا يخرج بذلك من العيب لخروجه من معروف كلام
العرب. وقد قرأ ذلك بعض قراء الكوفيين: ( وَإنْ كُلا ) بتخفيف « إن » ونصب ( كُلا
لمَّا ) مشدّدة. وزعم بعض أهل العربية أن قارئ ذلك كذلك، أراد « إنّ » الثقيلة
فخففها، وذكر عن أبي زيد البصري أنه سمع: « كأنْ ثَديَيْه حُقَّان » ، فنصب ب «
كأن » ، والنون مخففة من « كأنّ » ، ومنه قول
الشاعر: وَوَجْــــهٌ مُشْـــرِقُ النَّحْـــرِ كَــــأَنْ ثَدْيَيْــــهِ حُقَّــــانِ
وقرأ ذلك بعض المدنيين بتخفيف: ( إنْ ) ونصب ( كُلا ) ، وتخفيف ( لَمَا ) . وقد يحتمل أن
يكون قارئ ذلك كذلك، قصدَ المعنى الذي حكيناه عن قارئ الكوفة من تخفيفه نون « إن »
وهو يريد تشديدها، ويريد ب « ما » التي في « لما » التي تدخل في الكلام صلة، وأن يكون
قَصَد إلى تحميل الكلام معنى: وإنّ كلا ليوفينهم . ويجوز أن يكون معناه كان في قراءته
ذلك كذلك: وإنّ كُلا ليوفينهم ، أي
: ليوفين كُلا فيكون نيته في نصب « كل » كانت بقوله: «
ليوفينهم » ، فإن كان ذلك أراد ، ففيه من القبح ما ذكرت من خلافه كلام العرب. وذلك
أنها لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسمًا قبلَها. وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والبصرة: (
وَإنَّ ) مشددة ( كُلا لَمَا ) مخففة
( لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ) . ولهذه القراءة وجهان من المعنى: أحدهما: أن يكون
قارئها أراد: وإن كلا لمَنَ ليوفينهم ربك أعمالهم، فيوجه « ما » التي في « لما » إلى معنى « من »
كما قال جل ثناؤه: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ، [ سورة النساء
: 3 ] ، وإن كان أكثر استعمال العرب لها في غير بني آدم وينوي باللام التي في «
لما » اللام التي تُتَلقَّى بها « إنْ » جوابًا لها، وباللام التي في قوله: (
ليوفينهم ) ، لام اليمين ، دخلت فيما بين ما وصلتها،
كما قال جل ثناؤه: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [ سورة النساء : 72 ] ،
وكما يقال : « هذا ما لَغَيرُه أفضلُ منه » . والوجه الآخر: أن يجعل « ما » التي
في « لما » بمعنى « ما » التي تدخل صلة في الكلام، واللام التي فيها هي اللام التي
يجاب بها، واللام التي في: ( ليوفينهم ) ، هي أيضًا اللام التي يجاب بها « إنّ » كررت
وأعيدت، إذا كان ذلك موضعها، وكانت الأولى مما تدخلها العرب في غير موضعها ، ثم
تعيدها بعدُ في موضعها، كما قال الشاعر:
فَلَـوْ أَنَّ قَـوْمِي لَـمْ يَكُونُـوا أَعِـزَّةً
لَبَعْـدُ لَقَـدْ لاقَيْـتُ لا بُـدَّ مَصْرَعَـا وقرأ ذلك الزهري فيما ذكر عنه:
( وإنَّ كُلا ) بتشديد « إنَّ » ، و ( لمَّا ) بتنوينها، بمعنى: شديدًا وحقًا وجميعًا. قال أبو جعفر :
وأصح هذه القراءات مخرجًا على كلام العرب المستفيض فيهم ، قراءة من قرأ: « وَإنَّ
» بتشديد نونها، « كُلا لَمَا » بتخفيف « ما » ( لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ ) ،
بمعنى: وإن كل هؤلاء الذين قصَصَنا عليك ، يا محمد ، قصصهم في هذه السورة، لمن
ليوفينهم ربك أعمالهم ، بالصالح منها بالجزيل من الثواب، وبالطالح منها بالشديد من
العقاب فتكون « ما » بمعنى « مَن » واللام التي فيها جوابًا لـ « إنّ » ، واللام في قوله: (
ليوفينهم ) ، لام قسم. وقوله: ( إنه بما يعملون خبير ) ، يقول
تعالى ذكره: إن ربك بما يعمل هؤلاء المشركون بالله من قومك ، يا محمد، « خبير » ،
لا يخفى عليه شيء من عملهم ، بل يخبرُ ذلك كله ويعلمه ويحيط به ، حتى يجازيهم على
جميع ذلك جزاءهم. القول في تأويل قوله تعالى : فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 112 ) قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاستقم أنت ، يا محمد ، على أمر
ربك ، والدين الذي ابتعثك به ، والدعاء إليه، كما أمرك ربك ( ومن تاب معك ) ،
يقول: ومن رجع معك إلى طاعة الله والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره ( ولا تطغوا
) ، يقول: ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه. ( إنه بما تعملون بصير ) ، يقول: إن
ربكم ، أيها الناس ، بما تعملون من الأعمال كلِّها ، طاعتها ومعصيتها « بصير » ،
ذو علم بها، لا يخفى عليه منها شيء، وهو لجميعها مبصرٌ. يقول تعالى ذكره: فاتقوا
الله، أيها الناس ، أن يطَّلع عليكم ربكم وأنتم عاملون بخلاف أمره ، فإنه ذو علم
بما تعلمون، وهو لكم بالمرصاد. وكان ابن عيينة يقول في معنى قوله: ( فاستقم كما أمرت ) ، ما:- حدثني المثني
قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن سفيان في قوله: ( فاستقم
كما أمرت ) ، قال: استقم على القرآن.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في
قوله: ( ولا تطغوا ) ، قال: الطغيان:
خلاف الله ، وركوب معصيته . ذلك « الطغيان » . القول في تأويل قوله : وَلا
تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ( 113 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا
تميلوا ، أيها الناس ، إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم وترضوا
أعمالهم ( فتمسكم النار ) ، بفعلكم ذلك وما لكم من دون الله من ناصر ينصركم ووليّ
يليكم ( ثم لا تنصرون ) ، يقول: فإنكم إن
فعلتم ذلك لم ينصركم الله، بل يخلِّيكم من نصرته ويسلط عليكم عدوّكم. وبنحو الذي قلنا
في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) ، يعني:
الركون إلى الشرك. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع،
عن أبي العالية: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ) ، يقول: لا ترضوا أعمالهم. حدثني المثني قال
، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في
قوله : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ) ، يقول: لا ترضوا أعمالهم. يقول: « الركون » ،
الرضى. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية، في قوله: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ) ، قال: لا ترضوا
أعمالهم ( فتمسكم النار ) . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ) ، قال: قال ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم
النار ) ، يقول: لا تلحقوا بالشرك، وهو الذي خرجتم منه. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال،
قال ابن زيد، في قوله: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) ، قال: «
الركون » ، الإدهان. وقرأ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ، [ سورة القلم: 9 ] ،
قال: تركنُ إليهم، ولا تنكر عليهم الذي قالوا، وقد قالوا العظيمَ من كفرهم بالله وكتابه
ورسله. قال: وإنما هذا لأهل الكفر وأهل الشرك وليس لأهل الإسلام. أما أهل الذنوب
من أهل الإسلام ، فالله أعلم بذنوبهم وأعمالهم. ما ينبغي لأحد أن يُصَالح على شيء
من معاصي الله ، ولا يركن إليه فيها.
القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ( 114 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم: ( وأقم الصلاة ) ، يا محمد، يعني: صَلِّ ( طرفي النهار )
، يعني الغداةَ والعشيَّ. واختلف أهل التأويل في التي عُنِيت بهذه الآية من صَلوات
العشيّ، بعد إجماع جميعهم على أن التي عُنيت من صَلاة الغداة، الفجرُ. فقال بعضهم:
عُنيت بذلك صلاة الظهر والعصر. قالوا: وهما من صلاة العشيّ. ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع
وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: ( أقم الصلاة طرفي
النهار ) ، قال: الفجر، وصلاتي العشي يعني الظهر والعصر. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو نعيم قال
، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد ، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: ( أقم الصلاة طرفي
النهار ) ، قال: صلاة الفجر، وصلاة العشي. حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال،
أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح بن سعيد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: ( أقم
الصلاة طرفي النهار ) ، قال: فطرفا النهار: الفجرُ والظهرُ والعصرُ. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز
قال ، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال:
( طرفي النهار ) ، قال: الفجر والظهر والعصر. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال ،
حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : ( أقم الصلاة طرفي
النهار ) ، قال: الفجر والظهر والعصر.
وقال آخرون: بل عنى بها صلاة المغرب. ذكر من قال ذلك : حدثني المثني
قال ، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: ( أقم
الصلاة طرفي النهار ) ، يقول: صلاة الغداة وصلاة المغرب. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى،
عن عوف، عن الحسن: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال. صلاة الغداة والمغرب. حدثني يونس قال،
أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، الصبح،
والمغرب. وقال آخرون: عني بها: صلاة العصر. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن
سليمان، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله:
( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال: صلاة الفجر والعصر. . . . . قال:
حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن سعيد القبائي، عن محمد بن كعب ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، الفجر و
العصر. حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله: ( أقم الصلاة
طرفي النهار ) ، قال: صلاة الصبح وصلاة العصر. حدثني الحسين بن علي الصدائي قال ،
حدثنا أبي قال ، حدثنا مبارك، عن الحسن قال، قال الله لنبيه: ( أقم الصلاة طرفي
النهار ) ، قال: ( طرفي النهار
) ، الغداة
والعصر. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله ( أقم الصلاة
طرفي النهار ) ، يعني صلاة العصر والصبح. حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال،
أخبرنا ابن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ،
الغداة والعصر. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن زيد، عن
محمد بن كعب: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، الفجر والعصر. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عامر
قال ، حدثنا قرة، عن الحسن: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال: الغداة والعصر. وقال بعضهم: بل
عنى بطرفي النهار: الظهر، والعصر ، وبقوله: ( زلفًا من الليل ) ، المغرب، والعشاء،
والصبح. قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قولُ من قال: «
هي صلاة المغرب » ، كما ذكرنا عن ابن عباس. وإنما قلنا هو أولى بالصواب لإجماع
الجميع على أن صلاة أحد الطرفين من ذلك صلاة الفجر، وهي تصلى قبل طلُوع الشمس .
فالواجب إذ كان ذلك من جميعهم إجماعًا ، أن تكون صلاةُ الطرف الآخر المغرب، لأنها
تصلى بعد غُروب الشمس. ولو كان واجبًا أن يكون مرادًا بصلاة أحد الطرفين قبل غروب
الشمس ، وجب أن يكون مرادًا بصلاة الطرف الآخر بعدَ طلوعها، وذلك ما لا نعلم قائلا
قاله ، إلا من قال: « عنى بذلك صلاة الظهر والعصر » . وذلك قول لا يُخِيلُ فساده، لأنهما
إلى أن يكونا جميعًا من صلاة أحد الطرفين ، أقربُ منهما إلى أن يكونا من صلاة طرفي
النهار. وذلك أن « الظهر » لا شك أنها تصلَّى بعد مضي نصف النهار في النصف الثاني
منه، فمحالٌ أن تكون من طرف النهار الأول ، وهي في طرفه الآخر. فإذا كان لا
قائلَ من أهل العلم يقول: « عنى بصلاة طرف النهار الأول صلاةً بعد طلوع الشمس » ،
وجب أن يكون غير جائز أن يقال: « عنى بصلاة طرف النهار الآخر صلاةً قبل غروبها » . وإذا كان ذلك
كذلك ، صح ما قلنا في ذلك من القول ، وفسدَ ما خالفه. وأما قوله: ( وزلفًا من الليل ) ، فإنه
يعني: ساعاتٍ من الليل. وهي جمع « زُلْفة » ، و « الزلفة » ، الساعة ، والمنـزلة،
والقربة، وقيل: إنما سميت « المزدلفة » و « جمع » من ذلك ، لأنها منـزلٌ بعد عرفة
وقيل سميت بذلك، لازدلاف آدم من عَرَفة إلى حواء وهي بها ، ومنه قول العجاج في صفة
بعير: نــاجٍ طَــوَاهُ الأَيْـنُ مِمَّـا وجَفـا طَـــيَّ اللَّيــالِي زُلَفًــا
فَزُلَفَــا واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء المدينة والعراق: (
وَزُلَفًا ) ، بضم الزاي وفتح اللام.
وقرأه بعض أهل المدينة بضم الزاي واللام كأنه وجَّهه إلى
أنه واحدٌ، وأنه بمنـزلة « الحُلُم
» . وقرأ بعض المكيين: ( وَزُلْفًا ) ، ضم الزاي وتسكين
اللام. قال أبو جعفر: وأعجب القراءات في ذلك إليّ أن أقرأها: ( وزُلَفًا ) ، بضم الزاي
وفتح اللام، على معنى جمع « زُلْفة » ، كما تجمع « غُرْفَة غُرف » ، و « حُجْرة حُجر » . وإنما اخترت
قراءة ذلك كذلك، لان صلاة العشاء الآخرة إنما تصلى بعد مضيّ زُلَفٍ من الليل، وهي
التي عُنِيت عندي بقوله: ( وزلفًا من الليل ) . وبنحو الذي قلنا في قوله: ( وزلفًا
من الليل ) ، قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( وزلفًا من
الليل ) ، قال: الساعات من الليل صلاة العتمة. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة
قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله
قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ( زلفًا من الليل ) يقول: صلاة العتمة. حدثنا محمد بن
بشار قال ، حدثنا يحيى، عن عوف، عن الحسن: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: العشاء. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن
آدم، عن سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس يعجبه التأخير بالعشاء
ويقرأ: ( وزلفًا من الليل ) . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: ساعة من الليل، صلاة العتمة. حدثني يونس قال،
أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: العتمة، وما
سمعت أحدًا من فقهائنا ومشايخنا، يقول « العشاء » ،
ما يقولون إلا « العتمة » وقال قوم: الصلاة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامتها
زُلَفًا من الليل، صلاة المغرب والعشاء.
ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم، وابن وكيع،
واللفظ ليعقوب قالا حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أبو رجاء عن الحسن: ( وزلفًا من
الليل ) ، قال: هما زُلفتان من الليل: صلاة المغرب، وصلاة العشاء. حدثنا ابن حميد
وابن وكيع، قالا حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن في قوله: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: المغرب،
والعشاء. حدثني الحسن بن علي، قال ثنا أبي قال ، حدثنا مبارك، عن الحسن، قال الله لنبيه
صلى الله عليه وسلم: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، قال: ( زلفًا من الليل ) : المغرب، والعشاء ، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم هما زُلْفَتا الليل، المغرب والعشاء. « » حدثنا أبو
كريب قال ، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان عن منصور عن
مجاهد : ( وزلفًا من الليل ) ، قال: المغرب، والعشاء. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى قال حدثنا أبو نعيم قال:
، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله . . . . . قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا
ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: قد بيّن اللهُ مواقيتَ الصلاة في
القرآن، قال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [ سورة
الإسراء: 78 ] ، قال: « دلوكها » : إذا زالت عن بطن
السماء ، وكان لها في الأرض فيءٌ.
وقال: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، الغداة، والعصر (
وزلفًا من الليل ) ، المغرب، والعشاء.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هُما زلفتا الليل ، المغرب والعشاء. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( وزلفًا من الليل ) ،
قال: يعني صلاة المغرب وصلاة العشاء.
حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن أفلح بن سعيد قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: ( زلفًا من الليل ) ، المغرب
والعشاء. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن سعيد، عن محمد بن
كعب، مثله. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن
كعب القرظي: ( وزلفًا من الليل ) ، المغرب والعشاء. حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال،
أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم بن سليمان، عن الحسن قال: زلفتا الليل، المغرب
والعشاء. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر،
عن الضحاك في قوله: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: المغرب والعشاء. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عاصم، عن الحسن: ( وزلفًا من الليل ) ، قال:
المغرب والعشاء. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن
الضحاك: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: المغرب والعشاء. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن
عاصم، عن الحسن: ( زلفًا من الليل
) ، صلاة
المغرب والعشاء. وقوله: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، يقول تعالى ذكره: إنّ
الإنابة إلى طاعة الله والعمل بما يرضيه، يذهب آثام معصية الله ، ويكفّر الذنوب. ثم اختلف أهل
التأويل في الحسنات التي عنى الله في هذا الموضع ، اللاتي يذهبن السيئات، فقال
بعضهم: هنّ الصلوات الخمس المكتوبات.
ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا
ابن علية، عن الجريري، عن أبي الورد بن ثمامة، عن أبي محمد ابن الحضرمي قال ،
حدثنا كعب في هذا المسجد، قال: والذي نفس كعب بيده ، إن الصلوات الخمس لهُنّ الحسنات التي
يذهبن السيئات ، كما يغسل الماءُ الدَّرَنَ. حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال،
أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح قال: سمعت محمد بن كعب القرظى يقول في قوله: ( إن
الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: هن الصلوات الخمس. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (
إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: الصلوات
الخمس. . . . . قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن
مجاهد: ( إن الحسنات ) الصلوات. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى ، وحدثنا ابن وكيع قال ،
حدثنا أبو أسامة جميعا، عن عوف، عن الحسن: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: الصلوات الخمس. حدثني زريق بن
السَّخت قال ، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن
ابن عباس: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: الصلوات الخمس. حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون،
قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله تعالى: ( إن الحسنات يذهبن السيئات
) ، قال: الصلوات الخمس. حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن
منصور، عن الحسن قال، الصلوات الخمس.
حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك، عن
سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال:
الصلوات الخمس. . . . . قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد الجريري
قال، حدثني أبو عثمان، عن سلمان قال: والذي نفسي بيده، إن الحسنات التي يمحو الله
بهن السيئات كما يغسل الماء الدَّرَن: الصلواتُ الخمس. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص بن
غياث، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( إن الحسنات يذهبن
السيئات ) ، قال: الصلوات الخمس.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن
أبي إسحاق، عن مزيدة بن زيد، عن مسروق: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال:
الصلوات الخمس. حدثني محمد بن عمارة الأسدي، وعبد الله بن أبي زياد القطواني
قالا حدثنا عبد الله بن يزيد قال، أخبرنا حيوة قال، أخبرنا أبو عقيل زهرة بن معبد القرشي
من بني تيم من رهط أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه سمع الحارث مولى عثمان بن
عفان رحمة الله عليه يقول: جلس عثمان يومًا وجلسنا معه، فجاء المؤذن ، فدعا عثمان
بماءٍ في إناء ، أظنه سيكون فيه قدر مُدٍّ ، فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتوضأ وُضوئي هذا ، ثم قال: من توضأ وُضوئي هذا ثم قام فصلَّى صلاة
الظهر ، غفر له ما كان بينه وبين صلاة الصبح، ثم صَلَّى العصر ، غفر له ما بينه
وبين صلاة الظهر، ثمَّ صلَّى المغرب ، غفر له ما بينه وبين صلاة العصر، ثم صلّى
العشاء ، غفر له ما بينه وبين صلاة المغرب، ثمَّ لعله يبيت ليلته يَتَمَرّغ، ثم إن
قام فتوضأ وصلَّى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهُنَّ الحسنات يذهبن السيئات. حدثني سعد بن عبد
الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أبو زرعة قال ، حدثنا حيوة قال ، حدثنا أبو عقيل
زهرة بن معبد، أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: جلس عثمان بن
عفان يومًا على المقاعد فذكر نحوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه قال:
« وهن الحسنات إن الحسنات يذهبن السيئات » . حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن
أبي مريم قال: أخبرنا نافع بن يزيد، ورشدين بن سعد قالا حدثنا زهرة بن معبد قال:
سمعت الحارث مولى عثمان بن عفان يقول، جلس عثمان بن عفان يوما على المقاعد، ثم ذكر
نحو ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال: وهن الحسنات : ( إن الحسنات
يذهبن السيئات
) . حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا محمد بن
إسماعيل قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك
الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعلت الصلوات كفارات لما بينهن،
فإن الله قال: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) . حدثنا ابن سيار القزاز قال ، حدثنا
الحجاج قال ، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي قال، كنت مع سلمان
تحت شجرة، فأخذ غصنا من أغصانها يابسًا فهزَّه حتى تحاتَّ ورقُه، ثم قال: هكذا فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت معه تحت شجرة ، فأخذ غصنًا من أغصانها يابسًا
فهزه حتى تحاتَّ ورقُه، ثم قال: ألا تسألني لم أفعل هذا يا سلمان؟ فقلت: ولم
تفعله؟ فقال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم صلَّى الصلوات الخمس، تحاتّت خطاياه
كما تحاتَّ هذا الورق. ثم تلا هذه الآية: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من
الليل ) ، إلى آخر الآية. وقال آخرون: هو قول: « سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا
الله، والله أكبر » . ذكر من قال ذلك:
حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك، عن
منصور، عن مجاهد: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: « سبحان الله، والحمد لله،
ولا إله إلا الله، والله أكبر »
. قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، قولُ
من قال في ذلك: « هن الصلوات الخمس » ، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وتواترها عنه أنه قال: « مَثَلُ الصلوات الخمس مَثَلُ نَهْرٍ جَارٍ عَلَى
بابِ أحَدِكم، ينغمس فيه كل يومٍ خمس مرات، فماذا يُبقينَ من دَرَنه؟ » ، وأن ذلك
في سياق أمر الله بإقامة الصلوات، والوعدُ على إقامتها الجزيلَ من الثواب عَقيبها
، أولى من الوعد على ما لم يجر له ذكر من صالحات سائر الأعمال ، إذا خُصّ بالقصد
بذلك بعضٌ دون بعض. وقوله: ( ذلك ذكرى للذاكرين ) ، يقول تعالى ذكره: هذا الذي
أوعدت عليه من الركون إلى الظلم ، وتهددت فيه، والذي وعدت فيه من إقامة الصلوات
اللواتي يُذهبن السيئات ، تذكرة ذكّرت بها قومًا يذكُرون وعد الله، فيرجُون ثوابه ووعيده
، فيخافون عقابه، لا من قد طبع على قلبه ، فلا يجيب داعيًا ، ولا يسمع زاجرًا. وذكر أن هذه
الآية نـزلت بسبب رجل نالَ من غير زوجته ولا ملك يمينه بعضَ ما يحرم عليه، فتاب من
ذنبه ذلك. *ذكر الرواية بذلك: حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن
إبراهيم، عن علقمة والأسود قالا قال عبد الله بن مسعود: جاء رجل إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: إني عالجتُ امرأة في بعض أقطار المدينة، فأصبت منها ما دون أن
أمسَّها، فأنا هذا ، فاقض فيَّ ما شئت ! فقال عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك
! قال: ولم يردّ النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا . فقام الرجل فانطلق، فأتبعه
النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، فلما أتاه قرأ عليه: ( أقم الصلاة طرفي
النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) ، فقال رجل
من القوم: هذا لهُ يا رسول الله خاصَّةً؟ قال: بل للناس كافة. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ،
وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، عن
علقمة والأسود، عن عبد الله قال:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول
الله إني لقيت امرأة في البستان، فضممتها إليَّ وباشرتُها وقبَّلتها، وفعلت بها
كلَّ شي غير أني لم أجامعها . فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فنـزلت هذه
الآية: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) ، فدعاه النبي صلى الله
عليه وسلم فقرأها عليه، فقال عمر: يا رسول الله، أله خاصَّةً، أم للناس كافة؟ قال:
لا بل للناس كافة ولفظ الحديث لابن وكيع. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد
الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، أنه سمع إبراهيم بن زيد، يحدث عن
علقمة ، والأسود، عن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله، إني وجدت امرأةً في بستان ، ففعلت بها كل شيء ، غير أني لم أجامعها،
قَبَّلتها ، ولزمتُها ، ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت . فلم يقل له رسول الله
صلى الله عليه وسلم شيئًا . فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر على
نفسه ! فأتبعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَصَره، فقال: « ردُّوه عليَّ !
فردُّوه، فقرأ عليه: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن
السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) ، قال: فقال معاذ بن جبل: أله وحده ، يا نبي الله، أم
للناس كافة؟ فقال: » بل للناس كافة
. حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا أبو
عوانة، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة ، والأسود ، عن عبد الله قال: جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخذت امرأة في البُستان فأصبتُ منها
كل شيء، غير أني لم أنكحها، فاصنع بي ما شئت ! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم،
فلما ذهب دعاه فقرأ عليه هذه الآية: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ،
الآية. حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي قال
، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب قال، سمعت إبراهيم يحدث عن خاله الأسود، عن عبد
الله: أن رجلا لقي امرأةً في بعض طرق المدينة، فأصاب منها ما دون الجماع، فأتى
النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنـزلت: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا
من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) ،
فقال معاذ بن جبل: يا رسول الله، لهذا خاصة ، أو لنا عامة؟ قال: بل لكم عامة. حدثنا ابن المثني
قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة قال، أنبأني سماك قال، سمعت إبراهيم يحدث
عن خاله، عن ابن مسعود: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقيت امرأة في
حُشٍّ بالمدينة، فأصبت منها ما دون الجماع، نحوه. حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا أبو قطن
عمرو بن الهيثم البغدادي قال ، حدثنا شعبة، عن سماك، عن إبراهيم، عن خاله، عن ابن
مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو
معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: جاء فُلانُ بن معتِّب رجل من الأنصار ، فقال:
يا رسول الله دخلت عليّ امرأة، فنلتُ منها ما ينالُ الرجل من أهله، إلا أني لم
أواقعها ؟ فلم يدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجيبه ، حتى نـزلت هذه الآية:
( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، الآية،
فدعاه فقرأها عليه. حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية ، وحدثنا حميد بن
مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل ، وحدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان
جميعًا، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود: أن رجلا أصاب من امرأةٍ
شيئًا لا أدري ما بلغ، غير أنه ما دون الزنا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر
ذلك له، فنـزلت: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن
السيئات ) ، فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ قال: لمن أخذَ بها من أمتي أو :
لمن عمل بها. حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا قبيصة، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد
، عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان، فأخذ غصن شجرة يابسة فحتَّه ، وقال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ فأحسن الوضوء ، تحاتَّت خطاياه كما يتحاتُّ هذا
الورق ! ثم قال: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، إلى آخر الآية. حدثنا أبو كريب
قال ، حدثنا أبو أسامة، وحسين الجعفي ، عن زائدة قال ، حدثنا عبد الملك بن عمير،
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله، ما ترى في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته
شيئًا إلا قد أتاه منها ، غير أنْ لم يجامعها؟ فأنـزل الله هذه الآية: ( أقم
الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين )
، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ ثم صلّ . قال معاذ: قلت : يا رسول
الله، أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: بل للمؤمنين عامة. حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا محمد
بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن
رجلا أصابَ من امرأة ما دون الجماع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن ذلك،
فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو: أنـزلت ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من
الليل ) ، الآية، فقال معاذ: يا رسول الله، أله
خاصة، أم للناس عامة؟ قال: هي للناس عامة. حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا أبو داود
قال ، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:
أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال ،
حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال، حدثني عمرو بن الحارث قال، حدثني عبد الله بن سالم،
عن الزبيدي قال ، حدثنا سليم بن عامر، أنه سمع أبا أمامة يقول: إن رجلا أتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، أقم فيَّ حَدّ الله مرةً واثنتين.
فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقيمت الصلاة ، فلما فرغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الصلاة، قال: أين هذا القائل: أقم فيَّ حدَّ الله؟ قال: أنا ذا ! قال: هل
أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا؟ قال: نعم! قال: فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمّك، فلا
تَعُدْ ! وأنـزل الله حينئذ على رسوله: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل
) ، الآية. حدثنا ابن وكيع قال، حدثني جرير، عن عبد الملك، عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى، عن معاذ بن جبل: أنه كان جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فقال:
يا رسول الله، رجلٌ أصاب من امرأة ما لا يحلُّ له، لم يدع شيئًا يصيبه الرجل من
امرأته إلا أتاه إلا أنه لم يجامعها؟ قال: يتوضأ وضوءًا حسنًا ثم يصلي. فأنـزل
الله هذه الآية: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، الآية، فقال معاذ:
هي له يا رسول الله خاصة، أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة حدثنا الحسن بن
يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن
يحيى بن جعدة: أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر امرأة وهو جالسٌ مع
النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه لحاجة، فأذن له، فذهب يطلبها فلم يجدها. فأقبل
الرجل يريد أن يُبَشّر النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر، فوجد المرأة جالسةً على
غديرٍ، فدفع في صدرها وجلس بين رجليها، فصار ذكره مثل الهُدْبة، فقام نادمًا حتى
أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
استغفر ربَّك وصلّ أربع ركعات : قال: وتلا عليه: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا
من الليل ) ، الآية. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس بن
الربيع، عن عثمان بن وهب، عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر بن عمرو الأنصاري قال:
أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمرًا، فقلت: إن في البيت تمرًا أجود من هذا! فدخلت ،
فأهويت إليها فقبَّلتها. فأتيت أبا بكر فسألته، فقال: استر على نفسك وتُبْ واستغفر
الله ! فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخلَفْتَ رجلا غازيًا في سبيل
الله في أهله بمثل هذا !! حتى ظننت أنّي من أهل النار، حتى تمنيت أني أسلمت
ساعتئذ! قال: فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً فنـزل جبريل فقال: أين أبو
اليسر؟ فجئت، فقرأ عليّ: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، إلى : (
ذكرى للذاكرين ) ، قال إنسان : لهُ يا رسول الله ، خاصةً ، أم للناس عامة؟ قال:
للناس عامة. حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن
موهب، عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر قال: لقيت امرأة فالتَزَمْتُها، غير أني لم
أنكحها، فأتيت عمر بن الخطاب رحمة الله عليه فقال: اتق الله ، واستر على نفسك، ولا
تخبرنّ أحدًا ! فلم أصبر حتى أتيت أبا بكر رحمة الله عليه ، فسألته فقال: اتق الله
واستر على نفسك ولا تخبرن أحدًا ! قال: فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى الله عليه
وسلم، فأخبرته فقال له: هل جهزت غازيًا في أهله ؟ قلت: لا قال: فهل خلفت غازيًا في
أهله؟ قلت: لا فقال لي ، حتى تمنيت أني كنت دخلت في الإسلام تلك الساعة! قال: فلما
وليت دعاني، فقرأ عليّ: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، فقال له أصحابه:
ألهذا خاصة ، أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال، حدثني
سعيد، عن قتادة: أن رجلا أصاب من امرأة قُبْلَةً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا نبي الله هلكتُ ! فأنـزل الله: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) . حدثنا محمد بن
عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن سليمان التيمي قال: ضرب رجلٌ على
كَفَلِ امرأة، ثم أتى أبا بكر وعمر رحمة الله عليهما . فكلما سأل رجلا منهما عن
كفارة ذلك قال: أمغزية هي [ مادا ] ؟ قال: نعم قال: لا أدري! ثم أتى النبي صلى
الله عليه وسلم فسأله عن ذلك، فقال: أمغزية هي؟ قال: نعم! قال: لا أدري! حتى أنـزل
الله: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ) . حدثني المثني
قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن عطاء،
في قول الله: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، أنّ امرأة دخلت على
رجل يبيعُ الدقيق، فقبَّلها فأسقِطَ في يده. فأتى عمر فذكر ذلك له، فقال: اتق الله
، ولا تكن امرأةَ غازٍ ! فقال الرجل:
هي امرأة غازٍ. فذهب إلى أبى بكر ، فقال مثل ما قال عمر.
فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جميعًا، فقال له: كذلك، ثم سكت النبي صلى
الله عليه وسلم فلم يجبهم، فأنـزل الله: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، الصلوات المفروضات ( إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك
ذكرى للذاكرين ) . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج
قال، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال: أقبلت امرأة حتى جاءت إنسانًا يبيع الدقيق
لتبتاع منه، فدخل بها البيت، فلما خلا له قَبَّلها. قال: فسُقِط في يديه، فانطلق إلى
أبي بكر، فذكر ذلك له، فقال: أبصر ، لا تكونَنّ امرأة رجل غازٍ ! فبينما هم على
ذلك، نـزل في ذلك: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) قيل لعطاء:
المكتوبة هي؟ قال: نعم ، هي المكتوبة فقال ابن جريج، وقال عبد الله بن كثير: هي
المكتوبات. قال ابن جريج: عن يزيد بن رومان: إن رجلا من بني غنم، دخلت عليه امرأةٌ فقبَّلها
، ووضع يده على دُبُرها. فجاء إلى أبى بكر رضى الله عنه ، ثم جاء إلى عمر رضى الله
عنه ، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنـزلت هذه الآية: ( أقم الصلاة ) ،
إلى قوله: ( ذلك ذكرى للذاكرين ) ، فلم يزل الرجل الذي قبَّل المرأة يذكر، فذلك
قوله: ( ذكرى للذاكرين ) . القول في تأويل قوله تعالى : وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 115
) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واصبر ، يا محمد ، على
ما تلقى من مشركي قومك من الأذى في الله والمكروه ، رجاءَ جزيل ثواب الله على ذلك،
فإن الله لا يضيع ثوابَ عمل من أحسن فأطاع الله واتبع أمره ، فيذهب به، بل يوَفّره
أحوجَ ما يكون إليه. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ
مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا
مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ
وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ( 116 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فهلا كان من القرون الذين
قصصت عليك نبأهم في هذه السورة ، الذين أهلكتهم بمعصيتهم إياي ، وكفرهم برسلي من
قبلكم. ( أولو بقية ) ، يقول: ذو بقية من الفهم والعقل، يعتبرون مواعظَ الله ويتدبرون
حججه، فيعرفون ما لهم في الإيمان بالله ، وعليهم في الكفر به ( ينهون عن الفساد في الأرض ) ، يقول:
ينهون أهل المعاصي عن معاصيهم ، وأهل الكفر بالله عن كفرهم به ، في أرضه ( إلا
قليلا ممن أنجينا منهم ) ، يقول:
لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في
الأرض ، إلا يسيرًا، فإنهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض، فنجاهم الله من عذابه،
حين أخذ من كان مقيمًا على الكفر بالله عذابُه وهم اتباع الأنبياء والرسل. ونصب « قليلا »
لأن قوله: ( إلا قليلا ) استثناء منقطع مما قبله، كما قال: إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا ،
[ سورة يونس: 98 ] . وقد بينا ذلك في غير موضع ، بما أغنى عن إعادته. وبنحو الذي قلنا
في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك
: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
اعتذر فقال: ( فلولا كان من القرون من قبلكم ) ، حتى بلغ: ( إلا قليلا ممن أنجينا
منهم ) ، فإذا هم الذين نجوا حين نـزل عذاب الله. وقرأ: ( واتبع الذين ظلموا ما
أترفوا فيه ) . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج
قوله: ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ) ، إلى قوله: ( إلا قليلا ممن أنجينا
منهم ) ، قال: يستقلَّهم الله من كل قوم. حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا ابن
أبي عدي، عن داود قال: سألني بلال عن قول الحسن في القدر، قال: فقال: سمعت الحسن
يقول: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى
أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ
أَلِيمٌ ، قال: بعث الله هودًا إلى عاد، فنجى الله هودًا والذين آمنوا معه
وهلك المتمتعون. وبعث الله صالحًا إلى ثمود، فنجى الله صالحًا وهلك المتمتعون. فجعلت أستقريه
الأمم، فقال: ما أراه إلا كان حسن القول في القَدر . حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد
في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) ، أي : لم يكن من قبلكم من ينهى عن الفساد
في الأرض ( إلا قليلا ممن أنجينا منهم
) . وقوله: ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) ، يقول
تعالى ذكره: واتبع الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله ما أترفوا فيه. ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم
قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ( واتبع
الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) ، قال: ما أُنْظروا فيه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ،
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) ، من دنياهم. وكأنّ هؤلاء
وجَّهوا تأويل الكلام: واتبع الذين ظلموا الشيء الذي أنظرهم فيه ربُّهم من نعيم
الدنيا ولذاتها، إيثارًا له على عمل الآخرة وما ينجيهم من عذاب الله. وقال آخرون: معنى
ذلك: واتبع الذين ظلَموا ما تجبَّروا فيه من الملك ، وعتَوْا عن أمر الله. ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن
عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول
الله: ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) ، قال: في ملكهم وتجبُّرهم، وتركوا الحق. حدثني المثني قال
، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه، إلا أنه
قال: وتركِهم الحق. حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد، مثل حديث محمد بن عمرو سواء. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك
بالصواب أن يقال: إن الله أخبر تعالى ذكره: أن الذين ظلموا أنفسهم من كل أمة سلفت
فكفروا بالله، اتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا ، فاستكبروا وكفروا بالله ،
واتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا، فاستكبروا عن أمر الله وتجبروا وصدوا عن
سبيله . وذلك أن المترف في كلام العرب: هو المنعم الذي قد غُذِّي باللذات، ومنه
قول الراجز: نُهْــدِي رُءُوسَ المُــتْرَفينَ الصُّـدَّادْ إلــى أمِــير المُــؤْمِنِينَ
المُمْتَـادْ وقوله: ( وكانوا مجرمين ) ، يقول: وكانوا مكتسبي الكفر بالله. القول في تأويل
قوله تعالى : وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ ( 117 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان ربك ، يا محمد، ليهلك
القرى ، التي أهلكها، التي قَصَّ عليك نبأها، ظُلمًا وأهلها مصلحون في أعمالهم،
غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربّهم ، ظلمًا، ولكنه
أهلكها بكفر أهلها بالله وتماديهم في غيِّهم، وتكذيبهم رُسُلهم ، وركوبهم السيئات. وقد قيل: معنى
ذلك : لم يكن ليهلكهم بشركهم بالله. وذلك قوله « بظلم » يعني: بشرك ( وأهلها مصلحون ) ، فيما
بينهم لا يتظالمون، ولكنهم يتعاطَون الحقّ بينهم ، وإن كانوا مشركين، إنما يهلكهم
إذا تظالموا. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ( 118 ) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ
وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 119 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولو
شاء ربك ، يا محمد ، لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة ، ودين واحد، كما:- حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ
النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ، يقول: لجعلهم مسلمين كلهم. وقوله: ( وَلا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ ) ، يقول تعالى ذكره: ولا يزال النَّاس مختلفين ( إلا من رحم ربك ) . ثم اختلف أهل
التأويل في « الاختلاف » الذي وصف الله الناس أنهم لا يزالون به. فقال بعضهم: هو
الاختلاف في الأديان فتأويل ذلك على مذهب هؤلاء : ولا يزال الناس مختلفين على
أديان شتى ، من بين يهوديّ ونصرانيّ، ومجوسي، ونحو ذلك. وقال قائلو هذه المقالة: استثنى الله
من ذلك من رحمهم، وهم أهل الإيمان.
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير
عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: اليهود
والنصارى والمجوس، والحنيفيَّة همُ الذين رحم ربُّك حدثني المثني قال ، حدثنا
قبيصة قال ، حدثنا سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: ( وَلا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: اليهود والنصارى والمجوس ، ( إلا من رحم ربك ) ، قال: هم الحنيفية. حدثني يعقوب بن
إبراهيم ، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال، أخبرنا منصور بن عبد الرحمن قال:
قلت للحسن قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) ،
قال: الناس مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلفين. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد: ( وَلا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: أهل الباطل ( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل الحقّ. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو
عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وَلا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: أهل الباطل
( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل الحق. حدثني المثني قال
، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. . . . . قال،
حدثنا معلي بن أسد قال ، حدثنا عبد العزيز، عن منصور بن عبد الرحمن قال: سئل الحسن
عن هذه الآية : ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) ، قال:
الناس كلهم مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلف. فقلت له: (
ولذلك خلقهم ) ؟ فقال: خلق هؤلاء لجنته ، وهؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق
هؤلاء لعذابه. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، حدثنا
أبو جعفر، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: أهل الباطل ( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل
الحق. . . . . قال، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد، قوله: ( وَلا
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: أهل الحقّ وأهل الباطل. ( إلا من رحم ربك ) ،
قال: أهل الحق. . . . . قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثنا سويد بن نصر قال،
أخبرنا ابن المبارك: ( إلا من رحم ربك )
، قال: أهل
الحقّ ، ليس فيهم اختلاف. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن جريج،
عن عكرمة: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: اليهود والنصارى ( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل القبلة. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة، عن ابن عباس: ( وَلا
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) قال: أهل الباطل ( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل الحق. حدثنا هناد قال ،
حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *
إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) ، قال: لا يزالون مختلفين في الهوى. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *
إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) ، فأهل رحمة الله أهل جماعة ، وإن تفرقت دورهم
وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة ، وإن اجتمعت دورهم وأبدانهم. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز
قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ
رَحِمَ رَبُّكَ ) ، قال: من جعله على الإسلام. . . . . قال، حدثنا عبد العزيز قال ،
حدثنا الحسن بن واصل، عن الحسن:
( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: أهل الباطل ،
( إلا من رحم ربك ) . . . . . قال، حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن
عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ
) ، قال: أهل الباطل ( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل الحق. حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا
جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يزالون مختلفين في الرزق، فهذا
فقير وهذا غنى. ذكر من قال ذلك
: حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا معتمر، عن أبيه، أن
الحسن قال: مختلفين في الرزق، سخر بعضهم لبعض. وقال بعضهم: مختلفين في المغفرة
والرحمة، أو كما قال. قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك، بالصواب قولُ من
قال: معنى ذلك: « ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل
وأهواء شتى، إلا من رحم ربك، فآمن بالله وصدق رسله، فإنهم لا يختلفون في توحيد الله
، وتصديق رسله ، وما جاءهم من عند الله
» . وإنما قلت ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك، لأن الله
جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: ( وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجِنة والناس أجمعين ) ،
ففي ذلك دليلٌ واضح أن الذي قبله من ذكر خبره عن اختلاف الناس، إنما هو خبرٌ عن اختلاف
مذموم يوجب لهم النار، ولو كان خبرًا عن اختلافهم في الرزق ، لم يعقّب ذلك بالخبر
عن عقابهم وعَذابهم. وأما قوله: ( ولذلك خلقهم ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في
تأويله: فقال بعضهم: معناه: وللاختلاف خلقهم. ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع،
وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن: ( ولذلك خلقهم ) ،
قال: للاختلاف. حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا منصور بن عبد
الرحمن، قال: قلت للحسن: ( ولذلك خلقهم ) ؟ فقال: خلق هؤلاء لجنته وخلق هؤلاء لناره، وخلق
هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عليه، عن منصور، عن
الحسن، مثله. حدثني المثني قال ، حدثنا المعلى بن أسد قال ، حدثنا عبد العزيز، عن منصور
بن عبد الرحمن، عن الحسن. بنحوه.
. . . . قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد،
عن خالد الحذاء، أن الحسن قال في هذه الآية: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: خلق هؤلاء
لهذه، وخلق هؤلاء لهذه. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا هوذة بن خليفة قال ، حدثنا
عوف، عن الحسن قال: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون
اختلافًا يضرُّهم. حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: خلقهم فريقين: فريقًا يرحم فلا يختلف،
وفريقًا لا يرحم يختلف، وذلك قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، [ سورة هود: 105 ] . حدثني الحارث
قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء في قوله: (
وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: يهود ونصارى ومجوس ( إلا من رحم ربك ) ،
قال: من جعله على الإسلام ( ولذلك خلقهم ) ،
قال: مؤمن وكافر. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، قال،
حدثنا الأعمش : « ولذلك خلقهم » ، قال: مؤمن وكافر. حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال: سئل
مالك عن قول الله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ
وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ، قال: خلقهم ليكونوا فريقين: فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير. وقال آخرون: بل
معنى ذلك: وللرحمة خلقهم. ذكر من قال ذلك
: حدثني أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد: ( ولذلك خلقهم ) ، قال:
للرحمة. حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: ( ولذلك خلقهم
) ، قال للرحمة. حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك، عن خصيف،
عن مجاهد، مثله. حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن
شريك، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
. . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد
قال، أخبرنا أبو حفص، عن ليث، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: للرحمة خلقهم. حدثني محمد بن
عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: للرحمة خلقهم. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا أبو معاوية، عمن ذكره عن ثابت، عن الضحاك: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: للرحمة. حدثنا القاسم قال
، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان، عن
عكرمة: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: أهل الحقّ ومن اتبعه لرحمته. حدثني سعد بن عبد الله قال ، حدثنا حفص
بن عمر قال ، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ( وَلا
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ ) ، قال: للرحمة
خلقهم ولم يخلقهم للعذاب. قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال:
وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم ، لأن الله جل ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما
أهل اختلاف وباطل، والآخر أهل حق ، ثم عقَّب ذلك بقوله: ( ولذلك خلقهم ) ، فعمّ بقوله:
( ولذلك خلقهم ) ، صفة الصنفين، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميَسَّر لما خلق له. فإن قال قائل:
فإن كان تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفون غير ملومين على
اختلافهم، إذ كان لذلك خلقهم ربُّهم، وأن يكون المتمتِّعون هم الملومين؟ قيل: إن
معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل
من أديانهم ومللهم ، ( إلا من رحم ربك ) ، فهداه للحقّ ولعلمه، وعلى علمه النافذ
فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكافر، والشقي والسعيد خلقهم فمعنى
اللام في قوله: ( ولذلك خلقهم ) بمعنى «
على » كقولك للرجل: أكرمتك على برك بي، وأكرمتك لبرك بي. وأما قوله: (
وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) ، لعلمه السابق فيهم أنهم
يستوجبون صليها بكفرهم بالله، وخلافهم أمره. وقوله: ( وتمت كلمة ربك ) ، قسم كقول
القائل: حلفي لأزورنك، وبدًا لي لآتينك ، ولذلك تُلُقِّيَت بلام اليمين. وقوله: ( من
الجنة ) ، وهي ما اجتَنَّ عن أبصار بني آدم ( والناس ) ، يعني: وبنى آدم. وقيل: إنهم سموا
« الجنة » ، لأنهم كانوا على الجنان.
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله،
عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك:
وإنما سموا « الجنة » أنهم كانوا على الجنان، والملائكة
كلهم « جنة » حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك قال:
« الجنة » : الملائكة. وأما معنى قول أبى مالك هذا: أن إبليس كان من الملائكة، والجن
ذريته، وأن الملائكة تسمى عنده الجن، لما قد بينت فيما مضى من كتابنا هذا. القول في تأويل
قوله تعالى : وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ
بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ ( 120 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ( وكلا نقصّ عليك ) ، يا محمد
( من أنباء الرسل ) ، الذين كانوا قبلك ( ما نثبت به فؤادك ) ، فلا تجزع من تكذيب
من كذبك من قومك ، وردَّ عليك ما جئتهم به، ولا يضق صدرك ، فتترك بعض ما أنـزلتُ
إليك من أجل أن قالوا: لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْهِ كَنْـزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ
مَلَكٌ ؟ إذا علمت ما لقي من قبلك من رسلي من أممها، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال،
حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:
( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) ،
قال: لتعلم ما لقيت الرسل قبلك من أممهم. وأختلف أهل العربية في وجه نصب « كلا » . فقال بعض
نحويي البصرة: نصب على معنى: ونقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، كلا ،
كأنَّ الكلّ منصوب عنده على المصدر من « نقص » بتأويل: ونقص عليك ذلك كلَّ القصص . وقد أنكر ذلك من
قوله بعض أهل العربية وقال: ذلك غير جائز ، وقال إنما نصبت « كلا » ب « نقصّ » ، لأن « كلا » بنيت
على الإضافة ، كان معها إضافةٌ أو لم يكن وقال: أراد: كلَّه نقص عليك، وجعل « ما نثبت
» ردًّا على « كلا » ، وقد بينت الصواب
من القول في ذلك. وأما قوله: ( وجاءك في هذه الحق ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا
في تأويله: فقال بعضهم: معناه: وجاءك في هذه السورة الحق. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد
الرحمن قال ، حدثنا شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي إياس، عن أبي موسى: ( وجاءك في
هذه الحق ) ، قال: في هذه السورة.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ،
حدثنا أبي عن شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي إياس معاوية بن قرة، عن أبي موسى،
مثله. حدثنا ابن بشار قال، حدثني سعيد بن عامر قال ، حدثنا عوف، عن أبي رجاء، عن
ابن عباس، في قوله: ( وجاءك في هذه الحق ) ، قال: في هذه السورة. حدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن عمرو العنبري، عن ابن
عباس: ( وجاءك في هذه الحق ) ، قال: في هذه السورة. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد
الرحمن بن مهدي، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن رجل من بني العنبر قال: خطبنا ابن
عباس فقال: ( وجاءك في هذه الحق
) ، قال: في
هذه السورة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش،
عن سعيد بن جبير قال: سمعت ابن عباس قرأ هذه السورة على الناس حتى بلغ: ( وجاءك في هذه
الحق ) ، قال في هذه السورة. حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن
عوف، عن مروان الأصغر، عن ابن عباس أنه قرأ على المنبر: ( وجاءك في هذه الحق )
فقال: في هذه السورة حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبي عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: ( وجاءك في هذه الحق ) قال: في هذه السورة. حدثني محمد بن
عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:، في هذه
السورة. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد،
مثله. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن
شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، مثله.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله، عن أبي جعفر
الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: هذه السورة. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ،
حدثنا عبد الرحمن بن سعيد، قال:
أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، مثله. حدثني يعقوب قال
، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله: ( وجاءك في هذه الحق ) ، قال: في هذه
السورة. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن أبي رجاء، عن
الحسن، بمثله. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبي عن شعبة، عن أبي رجاء عن الحسن. مثله. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد
الرحمن، عن أبان بن تغلب، عن مجاهد، مثله. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا
محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:
( وجاءك في هذه الحق ) قال: في هذه السورة. حدثنا بشر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة [ مثله ] . حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم قال ،
حدثنا شعبة، عن أبي رجاء قال: سمعت الحسن البصري يقول في قول الله: ( وجاءك في هذه
الحق ) ، قال: يعني في هذه السورة.
وقال آخرون: معنى ذلك: وجاءك في هذه الدنيا الحق. ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن
بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن قتادة: (
وجاءك في هذه الحق ) ، قال: في هذه الدنيا. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع
وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة، عن قتادة: ( وجاءك في هذه الحق ) ، قال:
كان الحسن يقول: في الدنيا . قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في تأويل ذلك، قول من
قال: وجاءك في هذه السورة الحق ، لإجماع الحجة من أهل التأويل، على أن ذلك تأويله. فإن قال قائل: أو
لم يجيء النبي صلى الله عليه وسلم الحق من سور القرآن إلا في هذه السورة ، فيقال :
وجاءك في هذه السورة الحق؟ قيل له: بلى ، قد جاءه فيها كلِّها. فإن قال: فما وجه
خصُوصه إذًا في هذه السورة بقوله: ( وجاءك في هذه الحق ) ؟ قيل: إن معنى الكلام:
وجاءك في هذه السورة الحق مع ما جاءك في سائر سور القرآن أو إلى ما جاءك من الحق
في سائر سور القرآن لا أن معناه: وجاءك في هذه السورة الحق دون سائر سور القرآن. وقوله: ( وموعظة
) يقول: وجاءك موعظةٌ تعظ الجاهلين بالله ، وتبين لهم عبره ممن كفر به وكذب رسله (
وذكرى للمؤمنين ) يقول: وتذكرة تذكر المؤمنين بالله ورسله ، كي لا يغفلوا عن
الواجب لله عليهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ( 121 ) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ
( 122 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل ، يا محمد
، للذين لا يصدّقونك ولا يقرُّون بوحدانية الله ( اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ )
، يقول: على هِينَتكم وتمكنكم ما أنتم عاملوه فإنا عاملون ما نحن عاملوه من
الأعمال التي أمرنا الله بها وانتظروا ما وعدكم الشيطان، فإنا منتظرون ما وعدنا
الله من حربكم ونصرتنا عليكم، كما:-
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج، عن
ابن جريج في قوله: ( وانتظروا إنا منتظرون ) ، قال: يقول: انتظروا مواعيد الشيطان
إياكم على ما يزيّن لكم ( إنا منتظرون
) . القول في تأويل قوله تعالى : وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 123 ) قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولله ، يا محمد ، ملك كل ما غاب
عنك في السموات والأرض فلم تطلع ولم تعلمه ، ولم تعلمه ، كل ذلك بيده وبعلمه، لا
يخفى عليه منه شيء، وهو عالم بما يعمله مشركو قومك ، وما إليه مصير أمرهم ، من
إقامة على الشرك ، أو إقلاعٍ عنه وتوبة ( وإليه يرجع الأمر كله ) ، يقول: وإلى
الله مَعَادُ كل عامل وعمله، وهو مجازٍ جميعَهم بأعمالهم، كما:- حدثنا القاسم
قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( وإليه يرجع الأمر كله ) ،
قال: فيقضي بينهم بحكمه بالعدل.
( فاعبده ) ، يقول: فاعبد ربك يا محمد ( وتوكل عليه ) ،
يقول: وفوِّض أمرك إليه ، وثق به وبكفايته، فإنه كافي من توكل عليه. وقوله: ( وما ربك
بغافل عما تعملون ) ، يقول تعالى ذكره: وما ربك ، يا محمد ، بساه عما يعمل هؤلاء
المشركون من قومك ، بل هو محيط به ، لا يعزب عنه شيء منه، وهو لهم بالمرصاد، فلا
يحزنك إعراضهم عنك ، ولا تكذيبهم بما جئتهم به من الحقّ، وامض لأمر ربّك، فإنك
بأعيننا. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن الحباب، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران
الجوني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب ، قال: خاتمة « التوراة » ،
خاتمة « هود » ( آخر تفسير سورة هود ، والحمد لله وحده )