مجلد 3. من كتاب : تاريخ اليعقوبي
المؤلف : اليعقوبي
وقال:
أصل المرء قلبه،
وحسبه خلقه، وكرمه تقواه، والناس في آدم شرع سواء. وقال: أن الله خص أولياءه بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم فإن كانت فيكم
فاحمدوا الله وإلا فارغبوا إليه. قيل له: وما هي؟ قال: اليقين والقنوع والصبر
والشكر والعقل والمروة والحلم والسخاء والشجاعة. وقال: ثلاث لا يموت صاحبهن حتى
يرى ما يكره: البغي وقطيعة الرحم واليمين الكاذبة يبارز الله بها، وأن أعجل الطاعة
ثوابا لصلة الرحم، وأن القوم ليكونون فجارا فيتواصلون فتنمو أموالهم ويثرون، وأن
اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم تترك الديار بلاقع وتقطع السبل، ومن صدق لسانه زكا
عمله، ومن حسنت نيته زاد الله في رزقه، ومن حسن بره بأهل بيته زاد الله في عمره.
وقال: ثلاث لم يجعل الله لأحد فيها رخصة: بر الوالدين برين كانا أو فاجرين، ووفاء العهد للبر والفاجر، وأداء
الأمانة إلى البر والفاجر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره
وليكرم ضيفه وليقل خيراً وليشكر. وقال: المؤمن أخو المؤمن لا يخذله ولا يحزنه ولا
يغتابه ولا يحسده ولا يبغي عليه، فإن إبليس يقول لجنوده: ألقوا بينهم البغي والحسد
فإنه يعدل عند الله الشرك.
وقال:
من حسن إسلام المرء
تركه ما لا يعنيه، فإياكم وما تعتذرون منه فإن المؤمن لا يسيء ويعتذر وأن المنافق
يسيء كل يوم فلا يعتذر، وللغيبة أسرع في دين المسلم من الأكلة في جوفه. أن أهل
الأرض مرحومون ما تحابوا وأدوا الأمانة وعملوا بالحق.
وقال:
يقول الله عز وجل:
ابن آدم أنا الحي لا أموت، فأطعني أجعلك حيا لا تموت وأنا على كل شيء قدير، ابن
آدم صل رحمك أفك عنك عسرك وأيسرك ليسرك. وقال: من أصبح وهو على الدنيا حزين أصبح على الله ساخطا، ومن شكا مصيبة نزلت
به فإنما يشكو ربه، ومن أتى ذا ميسرة فخشع له لينال من دنياه ذهب ثلثا دينه، ومن
تمنى شيئاً هو لله رضي لم يخرج من الدنيا حتى يعطاه.
وقال:
يقول الله، عز وجل:
ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى ولا أكلك في طلب معاشك إلى طلبك، وعلي أن أسد
فاقتك واملأ قلبك خوفا مني، وإلا تفرغ لعبادتي أملاه شغلا بالدنيا ثم أسدها عنك
وأكلك إلى طلبك. وقال: لا تصلح الصنيعة إلا عند ذي حسب أو دين، فمن سألكم بالله
فأعطوه ومن استعاذكم بالله فأعيذوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن اصطنع إليكم معروفا
فكافئوه فإن لم تكافئوه فاشكروه.
وقال:
من حق جلال الله على
العباد إجلال الإمام المقسط وذي الشيبة في الإسلام وحامل القرآن غير الغالي فيه
ولا الجافي عنه. أربع من فعلهن فقد خرج من الإسلام: من رفع لواء ضلالة، ومن أعان
ظالما أو سار معه أو مشى معه وهو يعلم أنه ظالم، ومن احترم بذمة، ورجلان لا
تنالهما شفاعتي يوم القيامة: أمير ظلوم ورجل غال في الدين مارق منه، والأمير العادل لا ترد دعوته.
وقال:
لا يشغلنك طلب دنياك
عن طلب دينك، فإن طالب الدنيا ربما أدرك فهلك بما أدرك وربما فاته فهلك بما فاته.
الأكثرون في الدنيا هم الأقلون في الآخرة ألا من قال: هكذا، وهكذا، وحثا بيده. وما
أعطي أحد من الدنيا شيئاً إلا كان أنقص من حقه في الآخرة حتى سليمان بن داود فإنه
آخر من يدخل الجنة من الأنبياء لما أعطي من الدنيا. ورأس كل خطيئة حب الدنيا.
وقال:
جاء الموت بما فيه
الراحة والكرة المباركة إلى جنة عالية لأهل دار الخلود الذين كان لها سعيهم وفيها
رغبتهم، وجاء الموت بما فيه الشقوة والندامة والكرة الخاسرة إلى نار حامية لأهل
دار الغرور الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم. وقال: أفضل ما توسل به المتوسلون
الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله، وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وتمام الصلاة
فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها مثراة في المال منسأة في الأجل، وصدقة السر
فإنها تكفر الخطيئة وتطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف فإنها تدفع ميتة السوء وتقي
مصارع الهوان. ألا فاصدقوا فإن الصادق على شفا منجاة وكرامته، وأن الكاذب على شفا
مخزاة ومهلكه. ألا وقولوا خيراً تعرفوا به اعملوا به تكونوا من أهله، وأدوا
الأمانة إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم، وعودوا بالفضل على من جهل عليكم.
وقال:
من تعرض لسلطان جائر
فأصابته بلية لم يؤجر فيها ولم يرزق الصبر عليها، فحسب المؤمن عزاء إذا رأى المنكر
أن يعلم الله من قلبه أنه كاره. وقال: إن لله عبادا من خلقه يخصهم بنعمه يقرهم
فيها ما بذلوها فإذا منعوها نقلها منهم وحولها إلى غيرهم.
وقال:
ما عظمت نعمة الله
على عبد إلا عظمت مؤونة الناس عليه، فمن لم يحتمل تلك المؤونة فقد عرض النعمة
للزوال. وقال لبني سلمة: من سيدكم اليوم يا بني سلمة؟ قالوا: الجد بن قيس، يا رسول
الله. قال: فكيف حاله فيكم؟ قالوا: من رجل نبخله. قال: وأي داء أدوا من البخل! لا
سؤدد البخيل بل سيدكم الأبيض الجعد عمرو بن الجموح، أو قال، قال: قيس بن البراء.
وقال لوافد وفد عليه
واطلع منه على كذبه: لو لا سخاء فيك ومعك الله تشرب بلبن وافد.
وقال: خلتان لا
تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق.
وقال: تجافوا عن زلة
السخي فإن الله، عز وجل، يأخذ بناصيته كلما عثر.
وقال: الجنة دار
الأسخياء.
وقال: الشاب الجواد
الزاهد هو أحب إلى الله من الشيخ البخيل العابد.
وقال: إن الله جواد
يحب الجود ويحب مكارم الأخلاق ويبغض سفسافها.
وقال: إن لله عباداً
خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم فهم الآمنون يوم القيامة.
وقال: أحسنوا مجاورة
نعم الله ولا تملوها ولا تنفروها فإنها قلما نفرت من قوم فرجعت إليهم.
وقال:
الحوائج إلى الله،
وأسبابها إلى الناس، فاطلبوها إلى الله بهم، فمن أعطاكموها فخذوها عن الله بشكر،
ومن منعكموها فخذوها عن الله بصبر. وقال: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه وحسن الخلق.
وقال:
رأس العقل بعد
الإيمان مداراة الناس، فإن عرض بلاء فقدم مالك قبل نفسك ودينك، فإن تجاوز البلاء
فقدم مالك ونفسك دون دينك، وأعلم أن المحروب من حرب دينه.
وقال:
إن لكل شيء شرفاً،
وإن أشرف المنازل ما استقبل به القبلة. من أحب أن يكون أعز الناس فليثق بالله، ومن
أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، ومن أحب أن
يكون أقوى الناس. فليتوكل على الله. ثم قال: ألا أنبئكم بشرار الناس؟ من أكل وحده
ومنع رفده وجلد عبده. ألا أنبئكم بشر من ذلك؟ من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره. ألا
أنبئكم بشر من ذلك؟ من يبغض الناس ويبغضونه.
وقيل له: ما أفضل ما
أعطي العبد؟ قال: نحيزه من عقل يولد معه. قالوا: فإذا أخطأه ذلك؟ قال: فليتعلم
عقلا. قالوا: فإن أخطأه ذلك؟ قال: فليتخذ صاحبا في الله غير حسود. قالوا: فإن
أخطأه ذلك؟ قال: عليه بالصمت. قالوا: فإن أخطأه ذلك؟ قال: فميتة قاضية. وقال لرجل
من ثقيف: ما المروة فيكم؟ فقال: الصلاح في الدين وإصلاح المعيشة وسخاء النفس وحسن
الخلق. فقال: كذلك هي فينا. وقال: من اتقى ربه كل لسانه ولم يشف غيظه، إن الله عند لسان كل قائل
فلينظر قائل ما يقول. وقال: ما أتاني جبريل إلا ووعظني، وقال في آخر قوله: إياك
والمشازرة فإنها تكشف العورة وتذهب بالعز. وسأله رجل، فقال له: ما عندي شيء. فقال
له: عدني. فقال: إني لأستعمل الرجل وغيره أن يكون انفض عينا وأمثل رجله وأشد
مكيدة، وإني لا أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه أعطيه تألفا. وقال: من لم يحمد عدلا ويذم جورا فقد بارز الله بالمحاربة. وقال: أشرف
الأعمال ثلاثة: ذكر الله، عز وجل، على كل حال، وإنصاف الناس من نفسك، ومواساة
الإخوان. وقال: موت البنات من المكرمات. وقال: الصبر عند الله ضد الغيرة ولا يكمله
أحد، وعظم الجزاء مع عظم البلاء، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه. وقال: إن أكمل
المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً. وقال: كل معروف صدقة وما وقى به اللسان صدقة،
فقيل لمحمد بن المنكدر: وما ذاك؟ قال: إعطاء الشاعر وذي اللسان.
وقال:
ما من ذنب إلا وله
عند الله التوبة إلا سوء الخلق إنه لا يخرج من شيء إلا وقع في شر منه. وقال: إياك
ومهلك، فإن ذا مهل قتل أخاه ونفسه وسلطانه. وأتاه رجل فقال له: ألك مأكل؟ قال: نعم من أكل المال. فقال: إذا الله
أنعم عليك بنعمته فليثن عليك. وقال: لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر.
فقال رجل: يا رسول
الله، إني لأحب أن تكون دابتي فارهة وثيابي جيادا، حتى ذكر شراك نعله وعلاقة سوطه،
فقال: إن الله جميل يحب الجمال، فإنما الكبر أن يمنع الحق ويغمض الباطل.
وسأل سائل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: ما أصبح في بيت آل محمد غير صاع من طعام وإنهم لأهل تسعة
أبيات فهل لهم عنه غنى؟ ولم يرد سائلا قط. وإنه كان يعالج حظاء من جريد، فمر به
رجل فقال: أكفيكه يا رسول الله؟ فقال: شأنك. فلما فرغ منه قال له: ألك حاجة؟ قال: نعم تضمن لي على الله
الجنة.
فأطرق طويلاً ثم رفع
رأسه إليه فقال: ذلك لك. فلما ولي ناداه: يا عبد الله أعني بطول السجود. وخطب على
ناقته فقال: يا أيها الناس كان الموت على غيرنا كتب، وكان الحق على غيرنا وجب،
وكان الذين يشيعون من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم ونأكل
تراثهم كانا مخلدون بعدهم، قد نسينا كل واعظه وآمنا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه
عن عيوب الناس وأنفق من مال قد اكتسبه من غير معصية ورحم وصاحب أهل الذل والمسكنة
وخالط أهل الفقه والحكمة طوبى لمن أذل نفسه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وعزل عن
الناس شره ووسعته السنة ولم يبعدها إلى البدعة.
وقال: وعظني جبريل
فقال لي: أحبب من شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه.
وقال: من طلب الرزق
من حله فليبذر على الله.
وقال: استرشدوا
العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا.
وقال:
لا طلاق إلا بعد
نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك، ولا صمت إلا من غدوة إلى الليل، ولا وصال في صيام، ولا
رضاع بعد فطام، ولا يتم بعد احتلام، ولا يمين لامرأة مع زوجها، ولا يمين لولد مع
والده، ولا يمين للمملوك مع سيده، ولا تعرب بعد الهجرة، ولا يمين في قطيعة رحم،
ولا نذر في معصية. ولو أن أعرابيا حج عشر حجج ثم هاجر كان فريضة الإسلام عليه إذا
استطاع إليه سبيلا، ولو أن مملوكا حج عشر حجج ثم عتق كان فريضة الإسلام عليه إن
استطاع إليه سبيلاً.
وقال:
أعظم الذنوب عند الله
أصغرها عند العباد، وأصغر الذنوب عند الله أعظمها عند العباد. وقال: لا يلسع
المؤمن من جحر مرتين، والناس سواء كأسنان المشط، والمرء كثير بأخيه، ولا خير لك في
صحبة من لا يرى لك من الحق مثل ما ترى له، واليد العليا خير من اليد السفلى،
والمسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، والمستشار مؤتمن، ولن يهلك امرؤ عرف
قدره، ورحم الله عبدا قال خيراً فغنم أو سكت فسلم.
وذكر الخيل فقال:
معقود في نواصيها الخير، وبطونها كنز وظهورها حرز، وأجرى الخيل فجاء فرس له أدهم
سابقا فجثا على ركبتيه ثم قال: ما هو إلا البحر. وقال: يحمل هذا العلم من كل حلف عدو له، ينفون عنه تحريف الغالين
وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وقال:
إن الله، عز وجل،
يقول: ويل للذين يختلون الدنيا بالدين وويل للذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من
الناس وويل للذين يسير المؤمن فيهم بالتقية إياي يغرون أم علي يجترءون فإني حلفت
لأتيحنهم فتنة تترك الحليم منهم حيران.
وروي عنه أنه قال:
كان تحت الجدار الذي ذكره الله، عز وجل، في كتابه كنز لهما، كان الكنز لوحا من ذهب
مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم. عجبا لمن يوقن بالموت كيف يفرح. عجبا لمن يوقن
بالقدر كيف يحزن. عجبا لمن يوقن بالنار كيف يضحك. عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها
بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله ومحمد رسول الله. وقال: للطاعم الشاكر
أجر الجائع الصابر، ولأن يعافى أحدكم فيشكر خير له من أن يبيت قائما ويصبح صائماً
معجباً.
وقال:
لا يحل لمؤمن أن يذل
نفسه. قيل: يا رسول الله فكيف تذل؟ قال: بعرضها لما لا تطيق من البلاء. وقال:
اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله.
ووجد في كتاب عند
أسماء بنت عميس من كلام رسول الله: الآجلات الجانيات المعقبات رشداً باقياً خير من
العاجلات العابدات المعقبات غياً باقياً. المسلم عفيف من المظالم عفيف من المحارم.
بئس العبد عبد هواه يضله، بئس العبد عبد رغب إليه بذلة، بئس العبد عبد طغى وبغى
وآثر الحياة الدنيا.
وقال:
أربع من قواصم الظهر:
إمام تطيعه ويضلك، وزوجة تأمنها وتخونك، وجار سوء إن علم سوءاً أذاعه وإن علم
خيراً ستره، وفقير إذا نحل لم يجد صاحبه.
وقال:
ما من عبد إلا وفي
علمه وحلمه نقص، ألا ترون أن رزقه يجري بالزيادة فيظل مسروراً مغتبطاً وهذان الليل
والنهار يجريان بنقص عمره لا يحزنه ذلك ولا يحتفل به ضل ضلالة، ما أغنى عنه رزق
يزيد وعمر ينقص.
وقال:
إن بني إسرائيل
اذهبوا خشية الله من قلوبهم فحضرت أبدانهم وغابت قلوبهم، وإن الله لا يقبل من عبد
لا يحضر من قلبه ما يحضر من بدنه.
وقال:
من ازداد علما ثم لم
يزدد زهداً لم يزدد من الله إلا بعداً. من أعان إماماً جائراً ولم يخطئه لم يفارق
قدمه قدمه بين يدي الله حتى يأمر به إلى النار.
وأتاه رجل من بني
قشير يقال له قرة بن هبيرة فقال: يا رسول الله كانت لنا أرباب وربات فهدانا الله
بك. فقال: أكثر أهل الجنة البله وأهل عليين ذوو الألباب.
وقال:
الأئمة من قريش لكم
عليهم حق، ولهم عليكم حق ما حكموا فعدلوا واسترحموا فرحموا وعاهدوا فوفوا. ووقف
على بيت فيه جماعة من قريش فقال: إنكم ستولون هذا الأمر ومن وليه منكم فاسترحم فلم
يرحم وحكم فلم يعدل وعاهد فلم يف فعليه لعنة الله.
وقال:
الدين النصيحة، الدين
النصيحة! قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولنبيه ولائمة الحق. وقال
بالخيف من مني: نضر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها حتى يبلغها من لم يسمعها، فرب
حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهم قلب مؤمن: إخلاص العمل وصحة الورع
والنصيحة لولاة الأمر.
وقال:
للمسلم على أخيه
المسلم من المعروف ست: يسلم عليه إذا لقيه وينصح له إذا غاب عنه ويعوده إذا مرض
ويشيع جنازته إذا مات ويجيبه إذا دعاه ويشمته إذا عطس.
وقال:
انصر أخاك ظالماً أو
مظلوماً. قالوا: يا رسول الله كيف ننصره ظالماً؟ قال: بكفه عن الظلم. وقال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة:
من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.
وقال:
ثلاثة لا يرد لهم
دعوة: المظلوم وإمام عادل والصائم حتى يفطر. وقال: ثلاث يتبعن ابن آدم بعد موته:
سنة سنها في المسلمين فعمل بها فله أجرها وأجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء،
وصدقة تصدق بها من مال أو ثمر فما جرت تلك الصدقة فهي له، ورجل ترك ذرية يدعون له.
وقال في خطبته: شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ولكل شيء آفة وآفة هذا الرأي
الهوى. وقال: اكفلوا لي ستاً أكفل لكم الجنة: إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا اؤتمنتم
فلا تخونوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا. كفوا ألسنتكم وغضوا أبصاركم وصونوا فروجكم.
وقال:
يقول الله، عز وجل:
لا يزال عبدي يصدق حتى يكتب صديقاً ولا يزال عبدي يكذب حتى يكتب كذاباً. وقال: ويل
للذي يتحدث بالكذب ليضحك به القوم، ويل له وويل له. وروي أنه قال: عليكم بالصدق
وإن ظننتم فيه الهلكة فإن عاقبته النجاة، وإياكم والكذب وإن ظننتم فيه النجاة فإن
عاقبته الهلكة.
وقال:
من خلف على مال أخيه
ظالماً فليتبوأ مقعده من النار. فقال رجل: وإن كان يسيراً يا رسول الله؟ فقال: ولو
كان قضيباً من أراك. ومن اقتطع حق امرئ مؤمن بيمينه فقد أوجب الله عليه النار وحرم
عليه الجنة.
وكان أجود الناس
بالخير وأجود ما يكون في شهر رمضان، وقال: والذي نفسي بيده لو كان لي مثل شجر
تهامة نعما لقسمته بينكم ثم لم تجدوني كذوباً ولا جباناً ولا بخيلاً. وقال له رجل:
يا رسول الله أعطني رداءك. فألقاه إليه. فقال: ما أريده. فقال: قاتلك الله! أردت
أن تبخلني ولم يجعلني الله بخيلاً. وقال: خياركم من يرجى خيره ولا يتقى شره، وشراركم من يتقى شره ولا يرجى
خيره، فإن الله أكرمكم بالإسلام فزينوه بالسخاء وحسن الخلق.
وقال:
الخير أسرع إلى البيت
الذي يعشى من الشفرة إلى سنام البعير. وقال: إياكم والشح! فإنما أهلك من كان
قبلكم، الشح! أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا.
اللؤم كفر والكفر في النار. قال الله، عز وجل: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم
المفلحون " .
وقال:
رأس العقل بعد
الإيمان مداراة الناس، وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر
في الدنيا أهل المنكر في الآخرة، وإن أول أهل الجنة دخولاً أهل المعروف. وقال: لا
تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تعطى صلة الحبل ولو شسع النعل، ولو أن تفرغ من دلوك
في إناء المستسقي، ولو أن تنحى الشيء عن طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك
فتسلم عليه، ولو أن تلقاه ووجهك إليه منطلق، وإن رجلاً سبك بأمر يعلمه فيك تعلم
فيه نحوه فلا تسبه ليكون لك أجر ذلك ويكون عليه وزره.
وقال:
إن الله جعل للمعروف
وجوهاً من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ووجه طلاب المعروف إليهم ويسر
عليهم إعطاءه كما ييسر الغيث إلى الأرض الجدبة ليحييها ويحيي بها أهلها، وإن الله
جعل للمعروف أعداء من خلقه بغض إليهم المعروف وبغض إليهم فعاله وحظر على طلاب المعروف
الطلب وحظر عليهم إعطاءه كما يحظر الغيث عن الأرض الجدبة ليهلكها ويهلك بها أهلها
أو يعفو الله عنه أكثره.
وقال:
الخلق كلهم عيال الله
فأحب الخلق إلى الله أحسن الناس إلى عياله. وسأله رجل فقال: أي الناس أحب إلى
الله؟ قال: أنفع الناس للناس. قال: فأي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إدخال سرور على
مسلم، إطعام جوعته وكساء عورته وقضاء دينه.
وقال: إن الله، عز
وجل، ينصب للغادر لواء يوم القيامة فيقال ألا إن هذا لواء فلان.
وقال له بعضهم:
أخبرنا بخصال يعرف المنافق بها. فقال: من حلف فكذب ووعد فأخلف وخاصم ففجر واؤتمن
فخان وعاهد فغدر.
وقال:
إن الله ليسأل العبد
يوم القيامة حتى أنه يقول له: فما منعك أن رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله
عبده حجته قال: يا رب إني وثقت بك وخفت من الناس. وقال: من أعطي عطاء فوجد فليجزه،
فإن لم يجزه فليثن به، ومن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره.
وقال له قوم من
المهاجرين يا رسول الله إن إخواننا من الأنصار واسونا وبذلوا لنا وقد خشينا أن
يذهبوا بالأجر كله. فقال: إلا ما أثنيتم به عليهم ودعوتم الله لهم. وقال: والذي
نفسي بيده لا يأخذ أحد شيئاً بغير حقه إلا لقي الله بحمله يوم القيامة. وقال:
الهدية تذهب السخيمة وتجدد الأخوة وتثبت المودة. وقال: لو أهدى إلى كراع لقبلته، ولو دعيت إليه لأجبت.
وقال: ما أحسن عبد
الصدقة إلا أحسن الله الخلافة على تركته، وصدقة المؤمن ظله أو ظله من صدقته.
وروي عنه أنه قال: ما
من الأعمال شيء أحب إلي من ثلاثة: إشباع جوعة المسلم وقضاء دينه وتنفيس كربته. من
نفس عن مؤمن كربته نفس الله عنه كرب يوم القيامة، والله في عون عبده ما كان العبد
في عون أخيه. وقال: إن المسألة لا تحل إلا الثلاثة: لذي فقر مدقع ولذي عسر مفظع
ولذي دم مفجع. وقال: من سأل وله أوقية، والأوقية أربعون درهماً، فقد سأل الناس إلحافاً.
وسأله رجلان، وهو
يقسم مغانم خيبر، فقال: لا حظ لغني ولا لقوي مكتسب.
وقال:
لا تحل الصدقة لغني
ولا لذي مرة سوى. وقال: من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم. قيل: يا
رسول الله ما يغنيه؟ قال: لغدائه أو لعشائه. وقيل له: يا رسول الله ما الغناء؟ قال: غداء وعشاء. وقال: من سأل عن
ظهر غنى جاء يوم القيامة بوجهه كدوح يعرف بها. قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما ظهر غنى؟ قال: قوت ليلة أو قوت يوم. وسأله حكيم بن حزام فأعطاه فقال: إن
هذا المال خضر حلو فمن أخذه بطيب نفس بشير بورك له فيه ومن أخذه بإشراف لم يبارك
له فيه فكان كأكل يأكل ولا يشبع.
وسأله الأنصار، فلم
يسألوه شيئاً إلا أعطاهم حتى أنفدوا ما عنده، ثم قال: أما بعد يا معشر الأنصار ما
يكن عندنا من خير فلن أؤخره عنكم وإنه من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله
ومن يصبر يصبره الله ولن يعطى عبد أفضل ولا أوسع من الصبر. وقال: من يضمن لي خلة
أضمن له الجنة. فقيل: ما هي يا رسول الله؟ قال: ألا تسأل أحداً شيئاً.
وقال لأبي ذر: يا أبا
ذر أ رأيت إن أصاب الناس جوع شديد حتى لا تستطيع أن تنهض من فراشك إلى مسجدك كيف
تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: تتعفف. وقال: لا يفتح رجل على نفسه باب مسألة
إلا فتح الله عليه باب فقر. وقال: الأيدي ثلاث: فيد الله العليا ويد المعطي التي
تليها ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة، فاستعفف عن السؤال ما استطعت. وقال
لبعضهم: ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه فتموله أو تصدق به.
وقال:
لا صدقة إلا عن ظهر
غنى وابدأ بمن تعول ولا تلام على كفاف. وقال: المسألة خروج في وجه الرجل يوم
القيامة إلا أن يسأل سلطانه أو من لا بد منه. وقيل له: أي الصدقة أفضل؟
فقال:
إن تصدق وأنت صحيح
تخاف الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا
وقد كان لفلان كذا. وقال: من أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهو له صدقة، ومن
سره الإنساء في الأجل والمد في الرزق فليصل رحمه. وقال: ما من ذنب أجدر أن يعجل
الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم. وأتاه رجل
فقال: من أبر؟ قال: أمك وأباك وأخاك وأختك وأدناك أدناك. وقال: يقول الله، تبارك وتعالى:
من وقر أباه أطلت في أيامه ومن وقر أمه رأى لبنيه بنين. وقال: ألا أنبئكم بأكبر
الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقول الزور.
وقال: من ستر عورة
أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة.
وقال: أربع من سنن
المرسلين: الحياء والنكاح والحلم والسواك.
وقال:
قال الله، سبحانه
وتعالى: لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو لأولين عليكم شراركم ولأجعلن أموالكم
في أيدي بخلائكم ولأمنعنكم قطر السماء ثم ليدعوني خياركم فلا أستجيب لهم،
ويسترحموني فلا أرحمهم، ويستسقوني فلا أسقيهم.
وقال:
أربع من كن فيه كمل
إسلامه، وإن كان ما بين قرنه إلى قدمه خطأ: الأمر بالمعروف، والحياء، والشكر، وحسن
الخلق. وأربع من كن فيه بنى الله له بيتا في الجنة: إيواء اليتيم، ورحمة... ورفق
بمملوكه، وشفق على والديه. وقال: التودد إلى الناس نصف الإيمان، والرفق نصف العيش، وما عال امرؤ وفى
اقتصاده.
حجة الوداعوحج رسول
الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة 10، وهي حجة الإسلام. خرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم من المدينة، حتى أتى ذا الحليفة وقد لبس ثوبين صحاريين إزارا
ورداء. وقيل: خرج من المدينة وقد لبس الثوبين ودخل المسجد بذي الحليفة وصلى ركعتين
وكان نساؤه جميعاً معه، ثم خرج من المسجد فأشعر بدنة من الجانب الأيمن ثم ركب
ناقته القصوى فلما استوت به على البيداء أهل بالحج.
وقال الواقدي عن
الزهري عن سالم عن أبيه وعن الزهري في إسناد له عن سعد بن أبي وقاص قالا: أهل رسول
الله صلى الله عليه وسلم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وقال بعضهم بالحج مفرداً. وقال
بعضهم بحجة وعمرة.
ودخل مكة نهاراً من
كداء، وهي عقبة المدنيين، على راحلته حتى انتهى إلى البيت. فلما رأى البيت رفع يديه فوق زمام ناقته وبدأ بالطواف قبل الصلاة.
وخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر ويوم عرفة، حين زالت الشمس، على راحلته قبل
الصلاة من غد يوم مني. فقال في خطبته: نضر الله وجه عبد سمع مقالتي فوعاها وحفظها
ثم بلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
ثلاث لا يغل عليهم قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لائمة الحق، واللزوم
لجماعة المؤمنين، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم. ودعا بالبدن فصفت بين يديه وكانت
مائة بدنة، فنحر منها بيده ستين بدنة، وقيل أربعا وستين، وأعطى علياً سائرها،
فنحرها وأخذ من كل ناقة بضعة، فجمعت في قدر واحدة فطبخت بالماء والملح، ثم أكل هو
وعلي، وحسا من المرق، ورمى جمرة العقبة على ناقته، ووقف عند زمزم وأمر ربيعة بن
أمية بن خلف فوقف تحت صدر راحلته، وكان صبياً، فقال: يا ربيعة! قل يا أيها الناس
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لعلكم لا تلقونني على مثل حالي هذه وعليكم
هذا. هل تدرون أي بلد هذا؟ وهل تدرون أي شهر هذا؟ وهل تدرون أي يوم هذا ؟ فقال
الناس: نعم! هذا البلد الحرام والشهر الحرام واليوم الحرام. قال: فإن الله حرم
عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة بلدكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وكحرمة يومكم هذا. ألا
هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
ثم قال: واتقوا الله
ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها. ثم قال: الناس في الإسلام سواء، الناس
طف الصاع لآدم وحواء لا فضل عربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بتقوى الله، ألا
هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: لا تأتوني
بأنسابكم وأتوني بأعمالكم، فأقول للناس هكذا، ولكم هكذا، إلا هل بلغت؟ قالوا: نعم!
قال: اللهم اشهد. ثم قال: كل دم كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول دم أضعه دم
آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان آدم بن ربيعة مسترضعاً في هذيل، فقتله
بنو سعد بن بكر، وقيل في بني ليث، فقتلته هذيل، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال:
اللهم اشهد. ثم قال: وكل ربا كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول ربا أضعه ربا
العباس بن عبد المطلب، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد. ثم قال: يا أيها
الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما
ليواطئوا عدة ما حرم الله، ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات
والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله منها أربعة حرم: رجب
الذي بين جمادى وشعبان يدعونه مضر، وثلاثة متوالية: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم،
ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: أوصيكم
بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنما أخذتموهن
بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكتاب الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق كسوتهن
ورزقهن بالمعروف، ولكم عليهن ألا يوطئن فراشكم أحداً، ولا يأذن في بيوتكم إلا
بعلمكم وإذنكم، فإن فعلن شيئاً من ذلك فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير
مبرح، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال:
فأوصيكم بمن ملكت
أيمانكم فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، وإن أذنبوا فكلوا عقوباتهم إلى
شراركم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
ثم قال:
إن المسلم أخو المسلم
لا يغشه ولا يخونه ولا يغتابه ولا يحل له دمه ولا شيء من ماله إلا بطيبة نفسه، ألا
هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: إن الشيطان
قد يئس أن يعبد بعد اليوم، ولكن يطاع فيما سوى ذلك من أعمالكم التي تحتقرون، فقد
رضي به، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال:
أعدى الأعداء على
الله قاتل غير قاتله وضارب غير ضاربه، ومن كفر نعمة مواليه فقد كفر بما أنزل الله
على محمد، ومن انتمي إلى غير أبيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ألا
هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد.
ثم قال: إلا إني إنما
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإذا قالوها
عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق، وحسابهم على الله، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم!
قال: اللهم اشهد.
ثم قال: لا ترجعوا
بعدي كفاراً مضلين يملك بعضكم رقاب بعض، إني قد خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن
تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي. إلا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم اشهد. ثم قال: إنكم مسؤولون فليبلغ الشاهد منكم
الغائب. ولم ينزل مكة، وقيل له في ذلك: لو نزلت يا رسول الله بعض منازلك؟
فقال: ما كنت لأنزل بلدا أخرجت منه. ولما كان يوم النفر دخل البيت، فودع ونزل عليه:
اليوم أكملت لكم
دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا. وخرج ليلاً منصرفا إلى المدينة،
فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة يقال له: غدير خم، لثماني عشرة ليلة خلت من ذي
الحجة، وقام خطيبا وأخذ بيد على بن أبي طالب فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فمن كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
ثم قال: أيها الناس
إني فرطكم وأنتم واردي على الحوض، وإني سائلكم، حين تردون على، عن الثقلين فانظروا
كيف تخلفوني فيهما. وقالوا: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الثقل الأكبر كتاب
الله سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلوا، ولا تبدلوا، وعترتي
أهل بيتي.
الوفاة
ولما قدم المدينة
أقام أياماً وعقد لأسامة بن زيد بن حارثة على جلة المهاجرين والأنصار، وأمره أن
يقصد حيث قتل أبوه من أرض الشام، وروي عن أسامة أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن اغز يبنى من أرض فلسطين صباحا ثم أحرق. وروى آخرون أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أمره أن يوطئ الخيل أرض البلقاء، وكان في الجيش أبو بكر وعمر،
وتكلم قوم وقالوا: حدث السن، وابن سبع عشرة سنة! فقال: لئن طعنتم عليه، فقبله
طعنتم على أبيه، وإن كانا لخليقين للإمارة. واشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قبل أن ينفذ الجيش، وكان أسامة مقيماً بالجرف، فلما اشتدت عليه قال: أنفذوا جيش
أسامة! فقالها مراراً، واعتل أربعة عشر يوماً، وتوفي يوم الإثنين لليلتين خلتا من
شهر ربيع الأول، ومن شهور العجم آذار، وكان قرآن العقرب.
قال، ما شاء الله،
المنجم: كان طالع السنة التي توفي فيها رسول الله، وهو القرآن الرابع من مولده،
الجدي ثماني عشرة درجة، والزهرة في... سبع عشرة درجة، والشمس في الحمل دقيقة،
والقمر في الحمل درجتين وثلاثين دقيقة، وعطارد... إحدى عشرة درجة وثلاث عشرة
دقيقة، والمشتري في الميزان ثلاثاً وعشرين درجة وأربع دقائق راجعاً، والمريخ في
الجدي خمس دقائق. وقال: الخوارزمي: كانت الشمس يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الجوزاء ست درجات، والقمر في الجوزاء ثلاثاً وعشرين، وزحل في القوس تسعاً وعشرين
درجة، والمريخ في الحوت إحدى عشرة درجة، والزهرة في السرطان ثماني عشرة درجة،
وعطارد في الجوزاء ثمانياً وعشرين درجة، والرأس في الجدي خمساً وعشرين درجة، وكان
سنة ثلاثاً وستين سنة، وغسله علي بن أبي طالب، والفضل بن العباس بن عبد المطلب
وأسامة بن زيد يناولان الماء، وسمعوا صوتا من البيت، يسمعون الصوت ولا يرون الشخص،
فقال: السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، إنه حميد مجيد، إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس، أهل البيت، ويطهركم تطهيرا، كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون
أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا
إلا متاع الغرور، لتبلون في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور، إن
في الله خلفاً من كل هالك وعزاء من كل مصيبة، عظم الله أجوركم، والسلام ورحمة
الله. فقيل لجعفر بن محمد: من كنتم ترونه؟ فقال: جبريل! وكفن في ثوبين صحاريين وبرد
حبرة، ونزل قبره علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، وقيل الفضل بن العباس
وشقران مولى رسول الله، ونادت الأنصار: اجعلوا لنا في رسول الله صلى الله عليه
وسلم نصيبا في وفاته كما كان لنا في حياته! فقال علي: ينزل رجل منكم. فأنزلوا أوس
بن خولي أحد بني الحبلى، وكان حفر قبره أبو طلحة بن سهل الأنصاري، ولم يكن
بالمدينة من يحفر غيره وغير أبي عبيدة بن الجراح، وكان أبو عبيدة بن الجراح يشق
ويحفر وسطا وأبو طلحة يلحد، فقيل إنهما سابقاً حفراً، فسبق أبو طلحة بالحفر، وصلى
عليه أياماً، والناس يأتون ويصلون إرسالا، ودفن ليلة الأربعاء في بعض الليل، وطرحت
تحته قطعة رحلة وكانت من أرجوان، وربع قبره ولم يسنم، ولما توفي قال الناس: ما كنا
نظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت حتى يظهر على الأرض، وخرج عمر فقال:
والله ما مات رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت، وإنما تغيب كما غاب موسى بن عمران أربعين ليلة
ثم يعود، والله ليقطعن أيدي قوم وأرجلهم. وقال أبو بكر: بل قد نعاه الله إلينا
فقال: إنك ميت، وإنهم ميتون. فقال عمر: والله لكأني ما قرأتها قط. ثم قال:
لعمري لقد أيقنت إنك
ميت ... ولكنما أبدى الذي قلته الجزع
ولم يخلف من الولد
إلا فاطمة، وتوفيت بعده بأربعين ليلة، وقال قوم بسبعين ليلة، وقال آخرون ثلاثين
ليلة، وقال آخرون ستة أشهر، وأوصت علياً زوجها أن يغسلها، فغسلها وأعانته أسماء
بنت عميس، وكانت تخدمها وتقوم عليها، وقالت: ألا ترين إلى ما بلغت؟ أفأحمل على سرير ظاهراً؟ قالت: لا لعمري، يا
بنت رسول الله، ولكني أصنع لك شيئاً كما رأيته يصنع بالحبشة. قالت: فأرينيه!
فأرسلت إلى جرائد
رطبة فقطعتها، ثم جعلتها على السرير نعشاً، وهو أول ما كانت النعوش، فتبسمت، وما
رئيت متبسمة إلا يومئذ، ودفنت ليلاً، ولم يحضرها أحد إلا سلمان وأبو ذر، وقيل
عمار. وكان بعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أتينها في مرضها فقلن: يا بنت
رسول الله! صيري لنا في حضور غسلك حظا! قالت: أتردن تقلن في كما قلتن في أمي؟ لا حاجة لي في حضوركن.
ودخل إليها في مرضها
نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء قريش فقلن: كيف أنت؟ قالت: أجدني
والله كارهة لدنياكم، مسرورة لفراقكم، ألقى الله ورسوله بحسرات منكن، فما حفظ لي
الحق، ولا رعيت مني الذمة، ولا قبلت الوصية، ولا عرفت الحرمة، وكان سنها ثلاثاً
وعشرين سنة.
صفة رسول اللهوكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً، ظاهر الوضاءة، مبتلج الوجه، حسن
الخلق، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيماً،
قسيماً، لم يماشه أحد من الناس إلا طاله، وإن كان المماشي له طويلا، عظيم الهامة،
رجل الشعر إن تفرقت عقيقته انفرقت فرقا، لا يجاوز شعره شحمة أذنه، أزهر اللون،
مشرباً حمرة، في عينه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، وفي لحيته كثافة، وكان
أكثر شيبه في لحيته حول الذقن وفي رأسه في فودى رأسه، سهل الخدين، ضليع الفم، حلو
المنطق لا نزر ولا هدر، دقيق المسربة، معتدل الخلق، عريض الصدر والكتف، بعيد ما
بين المنكبين، واسع الظهر، غير ما تحت الأزرار من الفخذ والساق، أنور المتجرد،
موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري ما سوى ذلك من الشعر، أشعر
الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحتين، شثن الكفين
والقدمين، شائل الأطراف، خمصان الأخمصين، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب
أو يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت معا خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره
إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يبدأ من لقي بالسلام، وكان جل جلوسه القرفصى، وكان
يأكل على الأرض، وكان إذا دعاه رجل فقال: يا رسول الله! قال: لبيك، وإذا قال: يا
أبا القاسم! قال: يا أبا القاسم، وإذا قال: يا محمد! قال: يا محمد، وإذا أخذ الرجل
بيده لم ينزعها منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها، وإذا نازعه رداءه لا يجاذبه
حتى يخليه، وإذا سأله سائل حاجة لم يرده إلا بحاجته أو بميسور من القول.
المشبهون برسول
اللهوكان المشبهون برسول الله جعفر بن أبي طالب. قال رسول الله:
أشبهت خلقي وخلقي،
والحسن بن علي. وكانت فاطمة تقول: بأبي! شبيه بأبي غير شبيه بعلي، ويقال: إن أبا
بكر قال له، وقد لقيه في بعض طرق المدينة: بأبي! شبيه بالنبي غير شبيه بعلي، وقثم بن العباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان
بن الحارث بن عبد المطلب، وأسهد بن العبرة، وهاشم بن عبد المطلب ابن عبد مناف،
ومسلم بن معتب بن أبي لهب.
نسب الرسول وأمهاته
إلى إبراهيموالعواتك والفواطم اللاتي ولدنه. هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن
هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن
النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد
بن أدد بن هميسع بن يشجب بن أمين بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم ابن تارح
بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن
متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس النبي، بن يرد بن مهلائيل ابن قينان بن أنوش بن شيث بن
آدم، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب،
وأمها برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ابن قصي.
وأم عبد الله بن عبد
المطلب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وأم عبد المطلب، وهو شيبة الحمد
بن هاشم، سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار،
واسمه زيد مناة، ويقال: بل اسمه تيم اللات، ابن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج. وأم هاشم
عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهتة ابن سليم.
وأم عبد مناف، واسمه
المغيرة بن قصي، حبي بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة
بن عمرو بن عامر من خزاعة. وأم قصي، واسمه زيد بن كلاب، فاطمة بنت سعد بن سيل بن
عامر الجادر... من الأزد أزد شنوءة، وهم حلفاء بني نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر
بن عبد مناة بن كنانة.
وأم كلاب بن مرة هند
بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة. وأم مرة بن كعب بن لؤي ماوية بنت القين بن جسر بن شيع الله بن الأسد
ابن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وأم كعب بن لؤي وحشية بنت
شيبان.
وأم لؤي بن غالب سلمى
بنت عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن خزاعة. وأم غالب بن فهر ليلى بنت سعد بن
هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر. وأم فهر بن مالك جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر
بن سعد بن الحارث بن مضاض بن عامر بن دب بن جرهم.
وأم مالك بن النضر
عاتكة، وهي عكرشة، وهي الحصان بنت عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان بن
مضر. وأم النضر بن كنانة برة بنت مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر. وأم كنانة بن
خزيمة هند بنت قيس بن عيلان. وأم خزيمة بن مدركة سلمى بنت أسد بن ربيعة بن نزار.
وأم مدركة بن إلياس خندف، وهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة. وأم
إلياس بن مضر الحنفاء بنت أياد بن نزار بن معد بن عدنان. وأم مضر بن نزار شقيقة
بنت عك بن عدنان بن أدد. وأم نزار بن معد ناعمة بنت جوشم بن عدي بن دب بن جرهم. وأم معد بن
عدنان تيمة بنت يشجب بن يعرب بن قحطان... وأم أد بن أدد البعجا بنت عمرو بن تبع بن
سعد ذي فائش ابن حمير. وأم أدد بن الهميسع حية بنت قحطان. وأم الهميسع بن يشجب
حارثة بنت مراد بن زرعة بن ذي رعين بن حمير. وأم يشجب بن أمين قطامة بنت علي بن
جرهم... وأم إسماعيل بن إبراهيم هاجر أمه كانت لسارة أم إسحاق، وهي قبطية، يزعم
آخرون أنها رومية. وأم إبراهيم، وهو إبراهيم بن تارح، أدنيا بنت بر بن أرغوا بن
فالغ بن عابر بن شالخ. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول:
أنا ابن العواتك، وربما قال: أنا ابن العواتك من سليم، واللاتي ولدنه من العواتك اثنتا
عشرة عاتكة: عشر منهن مضريات، وقحطانية وقضاعية، والمضريات: ثلاث من قريش وثلاث من
سليم، وعدوانيتان، وهذلية، وأسدية، فأما القرشيات فولدته، من قبل أسد بن عبد
العزى، أم أسد بن عبد العزى الحطيا، وهي ريطة بنت كعب ابن سعد بن تيم بن مرة،
وأمها قبله بنت حذافة بن جمح، وأمها أميمة بنت عامر بن الحان بن الحارث، وهو غسان
بن خزاعة، وأمها عاتكة بنت هلال بن وهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وأم هلال بن
وهيب عاتكة بنت عتواره بن الطرب بن الحارث بن فهر، وأمها عاتكة بنت يخلد بن النضر
ابن كنانة بن خزيمة.
وأما السليميات،
فولدته، من قبل هاشم، أم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن سليم بن
منصور، وأم مرة بن هلال عاتكة بنت مرة بن عدي بن سليمان بن قصي بن خزاعة، ويقال:
هي عاتكة بنت جابر بن قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم.
وأما العدوانيتان
فولدتاه من قبل أمهات أبيه عبد الله، ومن قبل مالك بن النضر، فأما التي ولدته من
قبل عبد الله، فهي السابعة من أمهاته، ويقال الخامسة، وهي عاتكة بنت عامر بن ظرب
بن عمرو بن يشكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان، ومن قال: هي
الخامسة، فيقول عاتكة بنت عبد الله بن الحارث بن وائلة بن ظرب بن عمرو، وأما
العدوانية الثانية فأم مالك بن النضر بن كنانة، وهي عاتكة بنت عدوان بن عمرو ابن
قيس بن عيلان.
وأما الهذلية فوالدته
من قبل هاشم، وأم هاشم عاتكة بنت مرة بن هلال، وأمها ماوية بنت حورة بن عمرو بن
سلول بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، فأم معاوية بن بكر بن هوازن عاتكة بنت
سعد بن هذيل.
وأما الأسدية فوالدته
من قبل كلاب بن مرة، وهي الثالثة من أمهاته، وهي عاتكة بنت دودان بن أسد بن خزيمة.
وأما القحطانية
فوالدته من غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وأم غالب بن فهر ليلى بنت سعد
بن هذيل بن مدركة، وأمها سلمى بنت طابخة بن إلياس بن مضر، وأمها عاتكة بنت الأزد
بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهي
الثالثة من أمهات النضر بن كنانة.
وأما القضاعية
فوالدته من قبل كعب بن لؤي، وهي الثالثة من أمهاته، عاتكة بنت رشدان بن قيس بن
جهينة بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.
تسميه من ولدنه من
الفواطمقال: وأخبرني غير واحد من أهل العلم أنه كان يكثر يوم حنين ويقول: أنا ابن
الفواطم، فأخبرني النسابون أنه ولده من الفواطم أربع فواطم: قرشية، وقيسيتان،
وأزدية، فأما القرشية، فوالدته من قبل أبيه عبد الله بن عبد المطلب، فاطمة بنت
عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، والقيسيتان أم عمرو بن عائذ بن عمران، وهي فاطمة
بنت ربيعة بن عبد العزى بن رزام بن بكر بن هوازن، وأمها فاطمة بنت الحارث بن بهثة
بن سليم بن منصور، والأزدية أم قصي بن كلاب، وهي فاطمة بنت سعد بن سيل.
وكان عمال رسول الله،
لما قبضه الله، على مكة: عتاب بن أسيد بن العاص، وعلى البحرين: العلاء بن الحضرمي
والمنذر بن ساوي التميمي. وبعضهم يقول مكان العلاء: أبان بن سعيد بن العاص، وعلى
عمان عباد وجيفر ابنا الجلندا. وقال بعضهم: عمرو بن العاص، وعلى الطائف عثمان بن
أبي العاص، وعلى اليمن معاذ بن جبل وأبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري يفقهان
الناس، وعلى مخاليف الجند وصنعاء المهاجر بن أبي أمية المخزومي، وعلى حضرموت زياد
بن لبيد الأنصاري، وعلى مخاليف اليمن خالد بن سعيد بن العاص، وعلى ناحية من
نواحيها يعلى بن منية التميمي، وعلى نجران فروة ابن مسيك المرادي، وقال بعضهم: أبو
سفيان بن حرب، وعلى صدقات أسد وطئ عدي بن حاتم، وعلى صدقات حنظلة مالك بن نويرة
الحنظلي، وقال بعضهم: على صدقات بني يربوع، وعلى صدقات بني عمرو وتميم سمرة بن
عمرو بن جناب العنبري، وعلى صدقات بني سعد الزبرقان بن بدر، وعلى صدقات مقاعس
والبطون قيس بن عاصم.
خبر سقيفة بني
ساعدةوبيعة أبي بكر واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، يوم توفي رسول الله...
يغسل، فأجلست سعد بن عبادة الخزرجي، وعصبته بعصابة، وثنت له وسادة. وبلغ أبا بكر
وعمر والمهاجرين، فأتوا مسرعين، فنحوا الناس عن سعد، وأقبل أبو بكر وعمر بن الخطاب
وأبو عبيدة بن الجراح فقالوا: يا معاشر الأنصار! منا رسول الله، فنحن أحق بمقامه.
وقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير! فقال أبو بكر: منا الأمراء وأنتم الوزراء.
فقام ثابت بن قيس ابن شماس، وهو خطيب الأنصار، فتكلم وذكر فضلهم. فقال أبو بكر: ما
ندفعهم عن الفضل، وما ذكرتم من الفضل فأنتم له أهل، ولكن قريش أولى بمحمد منكم،
وهذا عمر بن الخطاب الذي قال رسول الله: اللهم أعز الدين به! وهذا أبو عبيدة بن
الجراح الذي قال رسول الله: أمير هذه الأمة، فبايعوا أيهما شئتم! فأبيا عليه
وقالا: والله ما كنا لنتقدمك، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني
اثنين. فضرب أبو عبيدة على يد أبي بكر، وثنى عمر، ثم بايع من كان معه من قريش.
ثم نادى أبو عبيدة:
يا معشر الأنصار! إنكم كنتم أول من نصر، فلا تكونوا أول من غير وبدل. وقام عبد الرحمن
بن عوف فتكلم فقال: يا معشر الأنصار، إنكم، وإن كنتم على فضل، فليس فيكم مثل أبي
بكر وعمر وعلي، وقام المنذر بن أرقم فقال: ما ندفع فضل من ذكرت، وإن فيهم لرجلاً
لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد، يعني علي بن أبي طالب.
فوثب بشير بن سعد من
الخزرج، فكان أول من بايعه من الأنصار، وأسيد بن حضير الخزرجي، وبايع الناس حتى
جعل الرجل يطفر وسادة سعد بن عبادة وحتى وطئوا سعداً. وقال عمر: اقتلوا سعدا، قتل
الله سعداً.
وجاء البراء بن عازب،
فضرب الباب على بني هاشم وقال: يا معشر بني هاشم، بويع أبو بكر. فقال بعضهم: ما
كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه، ونحن أولى بمحمد. فقال العباس: فعلوها، ورب
الكعبة.
وكان المهاجرون
والأنصار لا يشكون في علي، فلما خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس، وكان لسان
قريش، فقال: يا معشر قريش، أنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم،
وصاحبنا أولى بها منكم. وقام عتبة بن أبي لهب فقال:
ما كنت أحسب أن الأمر
منصرف ... عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
عن أول الناس إيماناً
وسابقة، ... وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وآخر الناس عهداً
بالنبي، ومن ... جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما فيهم لا
يمترون به، ... وليس في القوم ما فيه من الحسن
فبعث إليه علي فنهاه.
وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، ومالوا مع علي بن أبي طالب،
منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد
بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان ألفاًرسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر،
والبراء بن عازب، وأبي بن كعب، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن
الجراح والمغيرة بن شعبة، فقال: ما الرأي؟ قالوا: الرأي أن تلقى العباس بن عبد
المطلب، فتجعل له في هذا الأمر نصيبا يكون له ولعقبه من بعده، فتقطعون به ناحية علي
بن أبي طالب حجة لكم على علي، إذا مال معكم، فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن
الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلاً، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه، ثم
قال: إن الله بعث محمداً نبياً وللمؤمنين وليا، فمن عليهم بكونه بين أظهرهم، حتى
اختار له ما عنده، فخلى على الناس أموراً ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم مشفقين،
فاختاروني عليهم واليا ولأمورهم راعيا، فوليت ذلك، وما أخاف بعون الله وتشديده
وهنا، ولا حيرة، ولا جبنا، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، وما
أنفك يبلغني عن طاعن يقول الخلاف على عامة المسلمين، يتخذكم لجأ، فتكون حصنه
المنيع وخطبة البديع. فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا عليه، وإما صرفتموهم عما
مالوا إليه، ولقد جئناك ونحن نريد أن لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك، ويكون لمن
بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله، وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان صاحبك...
عنكم، وعلى رسلكم بني هاشم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا ومنكم.
فقال عمر بن الخطاب:
إي والله وأخرى، إنا لم نأتكم لحاجة إليكم، ولكن كرهاً أن يكون الطعن فيما اجتمع
عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم.
فحمد العباس الله
وأثنى عليه وقال: إن الله بعث محمداً كما وصفت نبيا وللمؤمنين ولياً، فمن على أمته
به، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عنده، فخلى على المسلمين أمورهم ليختاروا
لأنفسهم مصيبين الحق، لا مائلين بزيغ الهوى، فإن كنت برسول الله فحقاً أخذت، وإن
كنت بالمؤمنين فنحن منهم، فما تقدمنا في أمرك فرضاً، ولا حللنا وسطاً، ولا برحنا
سخطاً، وإن كان هذا الأمر إنما وجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنا كارهين. ما أبعد
قولك من انهم طعنوا عليك من قولك إنهم اختاروك ومالوا إليك، وما أبعد تسميتك
بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولك خلى على الناس أمورهم ليختاروا
فاختاروك، فأما ما قلت إنك تجعله لي، فإن كان حقاً للمؤمنين، فليس لك أن تحكم فيه،
وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض، وعلى رسلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها. فخرجوا من عنده. وكان فيمن تخلف عن بيعة أبي
بكر أبو سفيان بن حرب، وقال: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم
غيركم؟ وقال لعلي بن أبي طالب: امدد يدك أبايعك، وعلي معه قصي، وقال:
بني هاشم لا تطمعوا
الناس فيكم ... ولا سيما تيم بن مرة أو عدي
فما الأمر إلا فيكم
وإليكم، ... وليس لها إلا أبو حسن علي
أبا حسن، فاشدد بها
كف حازم، ... فإنك بالأمر الذي يرتجي ملي
وإن امرأ يرمى قصي
وراءه ... عزيز الحمى، والناس من غالب قصي
وكان خالد بن سعيد
غائباً، فقدم فأتى علياً فقال: هلم أبايعك، فو الله ما في الناس أحد أولى بمقام
محمد منك. واجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له، فقال لهم:
اغدوا على هذا محلقين الرءوس. فلم يغد عليه إلا ثلاثة نفر.
وبلغ أبا بكر وعمر أن
جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت
رسول الله، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر،
فصارعه عمر فصرعه، وكسر سيفه، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت: والله لتخرجن أو
لأكشفن شعري ولأعجن إلى الله! فخرجوا وخرج من كان في الدار وأقام القوم أياماً. ثم
جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع علي إلا بعد ستة أشهر وقيل أربعين يوماً.
أيام أبي بكروكانت
بيعة أبي بكر يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشر، في اليوم
الذي توفي فيه رسول الله. واسم أبي بكر عبد الله بن عثمان بن عامر، وكان يسمي
عتيقاً لجماله، وأمه سلمى بنت صخر من بني تيم بن مرة، وكان منزله بالسنح خارج
المدينة، وكانت امرأته حبيبة بنت خارجة فيه، وكان له أيضاً منزل بالمدينة فيه
أسماء بنت عميس، فلما ولي كان منزله المدينة، وأتته فاطمة ابنة رسول الله تطلب
ميراثها من أبيها، فقال لها: قال رسول الله: إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا
صدقة. فقالت: أ في الله أن ترث أباك ولا إرث أبي؟ أما قال رسول الله: المرء يحفظ
ولده؟ فبكى أبو بكر بكاء شديدا. وأمر أسامة بن زيد أن ينفذ في جيشه. وسأله أن يترك
له عمر يستعين به على أمره. فقال: فما تقول في نفسك؟ فقال: يا ابن أخي! فعل الناس
ما ترى فدع لي عمر، وأنفذ لوجهك. فخرج أسامة بالناس وشيعة أبو بكر فقال له:
ما أنا بموصيك بشيء،
ولا آمرك به، وإنما آمرك ما أمرك به رسول الله، وامض حيث ولاك رسول الله. فنفذ
أسامة، فأقام منذ خرج إلى أن قدم المدينة منصرفا ستين يوماً، أو أربعين يوماً، ثم
دخل المدينة ولواؤه معقود، حتى يدخل المسجد، فصلى، ثم دخل إلى بيته ولواؤه الذي
عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، وصعد أبو بكر المنبر عند ولايته الأمر،
فجلس دون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرقاة، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال:
إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني! لا أقول إني
أفضلكم فضلا، ولكني أفضلكم حملاً. وأثنى على الأنصار خيراً وقال: أنا وإياكم، معشر
الأنصار كما قال القائل:
جزى الله عنا جعفرا
حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبو أن يملونا ولو أن
آمنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملت
فاعتزلت الأنصار عن
أبي بكر، فغضبت قريش، وأحفظها ذلك، فتكلم خطباؤها، وقدم عمرو بن العاص فقالت له
قريش: قم فتكلم بكلام تنال فيه من الأنصار! ففعل ذلك، فقام الفضل بن العباس فرد
عليهم ثم صار إلى علي، فأخبره وأنشده شعراً قاله، فخرج علي مغضباً حتى دخل المسجد،
فذكر الأنصار بخير، ورد علي عمرو بن العاص قوله. فلما علمت الأنصار ذلك سرها
وقالت: ما نبالي بقول من قال مع حسن قول علي، واجتمعت إلى حسان بن ثابت، فقالوا:
أجب الفضل، فقال: إن عارضته بغير قوافيه فضحني. فقالوا: فأذكر علياً فقط، فقال:
جزى الله خيراً،
والجزاء بكفه، ... أبا حسن عنا ومن كأبي حسن
سبقت قريشاً بالذي
أنت أهله ... فصدرك مشروح وقلبك ممتحن
تمنت رجال من قريش
أعزة ... مكانك، هيهات الهزال من السمن
وأنت من الإسلام في
كل منزل ... ... البطين من الرسن
وكنت المرجى من لؤي
بن غالب ... لما كان منه والذي بعد لم يكن
حفظت رسول الله فينا
وعهده ... إليك ومن أولى به منك من ومن
ألست أخاه في الإخاء
ووصيه، ... وأعلم فهر بالكتاب وبالسنن
وتنبأ جماعة من
العرب، وارتد جماعة، ووضعوا التيجان على رؤوسهم، وامتنع قوم من دفع الزكاة إلى أبي
بكر.
وكان ممن تنبأ طليحة
بن خويلد الأسدي بنواحيه، وكان أنصاره غطفان، ورئيسهم عيينة بن حصن الفزاري، والأسود
العنسي باليمن، ومسيلمة بن حبيب الحنفي باليمامة، وسجاح بنت الحارث التميمية، ثم
تزوجت بمسيلمة، وكان الأشعث بن قيس مؤذنها. فخرج أبو بكر في جيشه إلى ذي القصة.
ودعا عمرو بن العاص فقال: يا عمرو إنك ذو رأي قريش، وقد تنبأ طليحة. فما ترى في علي؟ قال: لا
يطيعك! قال: فالزبير؟ قال: شجاع حسن! قال: فطلحة؟ قال: للخفض والطعن! قال:
فسعد؟ قال: محش حرب ! قال: فعثمان؟ قال: أجلسه واستعن برأيه! قال: فخالد بن
الوليد؟ قال: بسوس للحرب، نصير للموت. له أناة القطاة، ووثوب الأسد. فلما عقد له
قام ثابت بن قيس بن شماس فقال: يا معشر قريش، أما كان فينا رجل يصلح لما تصلحون
له؟ أما والله ما نحن عمياً عما نرى، ولا صما عما نسمع، ولكن أمرنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالصبر، فنحن نصبر. وقام حسان فقال:
يا للرجال لخلفة
الأطوار ... ولما أراد القوم بالأنصار
لم يدخلوا منا رئيساً
واحداً ... يا صاح في نقض ولا إمرار
فعظم على أبي بكر هذا
القول، فجعل على الأنصار ثابت بن قيس، وأنفذ خالداً على المهاجرين، فقصد طليحة
ففرق جمعه، وقتل خلقا من أتباعه، وأخذ عيينة بن حصن، فبعث به إلى أبي بكر مع
ثلاثين أسيراً، وهو مكبل بالحديد، فجعل الصبيان يصيحون به لما دخل المدينة: يا
مرتد! فيقول: ما آمنت طرفة عين قط! فاستتابه وأطلق سبيله، ولحق طليحة بالشام،
وجاور بني حنيفة، وبعث بشعر إلى أبي بكر يعتذر إليه، ويراجع الإسلام، يقول فيه:
فهل يقبل الصديق أني
مراجع ... ومعط بما أحدثت من حدث يدي
وأني من بعد الضلالة
شاهد ... شهادة حق لست فيها بملحد
فلما انتهى قوله إلى
أبي بكر رق له، وبعث إليه، فرجع، وقد هلك أبو بكر، وقام عمر على قبره. وبعث به مع
سعد بن أبي وقاص إلى العراق، وأمره أن لا يستعمله.
وأما الأسود بن عنزة
العنسي، فقد كان تنبأ على عهد رسول الله، فلما بويع أبو بكر ظهر أمره، واتبعه على
ذلك قوم، فقتله قيس بن مكشوح المرادي وفيروز الديلمي، دخلا عليه منزله، وهو سكران،
فقتلاه.
وقد كان أبو بكر عقد
لشرحبيل بن حسنة، وأمره أن يقصد لمسيلمة الكذاب وألا يأتيه راية، ثم عقد لخالد
وبعثه على شرحبيل، فكتب خالد إلى شرحبيل: ألا تعجل حتى آتيك! ونفذ خالد بن الوليد
مسرعا إلى اليمامة، إلى مسيلمة الحنفي الكذاب، وكان قد أسلم ثم تنبأ في سنة 10،
وزعم أنه شريك لرسول الله في النبوة، وكان كتب إلى رسول الله: أني أشركت معك، فلك
نصف الأرض، ولي نصفها، ولكن قريش قوم لا يعدلون. فكتب إليه رسول الله: من محمد
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب: أما بعد فإن الأرض لله يورثها من
يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، فلقي خالد مجاعة في جماعة، فأسرهم وضرب أعناقهم،
واستبقى مجاعة، وزحف إلى مسيلمة، فخرج مسيلمة فقاتله بمن معه من ربيعة وغيرها
قتالاً شديداً، وقتل من المسلمين خلق عظيم، ثم قتل مسيلمة في المعركة، طعنه أبو
دجانة الأنصاري، فمشى إليه مسيلمة في الرمح فقتله، ورماه وحشي بحربته فقتله، وهو
يومئذ ابن مائة وخمسين سنة.
وأتى مجاعة الحنفي
إلى خالد، فأوهمه أن في الحصن قوما بعد، وقال: ما أتاك إلا سرعان الناس، ودعا إلى
الصلح فصالحهم خالد على الصفراء والبيضاء ونصف السبي، ثم نظروا وليس في الحصن أحد
إلا النساء والصبيان، فألبسهم السلاح ووقفهم على الحصون، ثم أشار إلى خالد فقال:
أبو علي، فتأخذ الربع؟ ففعل ذلك خالد، وقبل منهم. فلما فتحت الحصون لم يجد إلا
النساء والصبيان فقال: أمكراً يا مجاعة؟ قال: إنهم قومي. وأجاز لهم وافتتحت اليمامة، وهربت
سجاح، فماتت بالبصرة.
وكان فتح مسيلمة في
سنة إحدى عشر وقتل في شهر ربيع الأول سنة إثنا عشر. وخطب خالد إلى مجاعة ابنته،
فزوجه إياها، فكتب إليه أبو بكر: تتوثب على النساء وعند أطناب بيتك دماء المسلمين؟
وأمر أبو بكر خالداً
أن يسير إلى أرض العراق، فسار ومعه المثنى بن حارثة، حتى صار إلى مدينة بانقيا،
فافتتحها وسبى من فيها، ثم صار إلى مدينة كسكر، فافتتحها وسبى من فيها، ثم سار حتى
لقي بعض ملوك الأعاجم يقال له جابان، فهزمه وقتل أصحابه، ثم سار حتى انتهى إلى
فرات بادقلى يريد الحيرة، وملكها النعمان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم انهزم
النعمان فلحق بالمدائن، ونزل خالد الخورنق، وسار حتى صير الحيرة خلف ظهره، وكانوا
على محاربته، ثم دعوا إلى الصلح، فصالحهم على سبعين ألفاً عن رؤوسهم، وقيل مائة
ألف درهم.
وتجرد أبو بكر لقتال
من ارتد، وكان ممن ارتد، وممن وضع التاج على رأسه من العرب، النعمان بن المنذر بن
ساوي التميمي بالبحرين، فوجه العلاء بن الحضرمي فقتله، ولقيط بن مالك ذو التاج
بعمان وجه إليه حذيفة ابن محصن فقتله بصحار من أرض عمان.
وكان ذو التاج... من
بني ناجية وبشر كثير من عبد القيس، فقتل الله ذا التاج، وسبى المسلمون ذراريهم،
وبعثوا بها إلى أبي بكر، فباعها بأربعمائة درهم، ثم وجه لقتال من منع الزكاة،
وقال: لو منعوني عقالا لقاتلتهم. وكتب إلى خالد بن الوليد أن ينكفئ إلى مالك بن
نويرة اليربوعي، فسار إليهم، وقيل إنه كان نداهم، فأتاه مالك بن نويرة يناظره،
واتبعته امرأته، فلما رآها خالد أعجبته فقال: والله لا نلت ما في مثابتك حتى
أقتلك، فنظر مالكاً، فضرب عنقه، وتزوج امرأته، فلحق أبو قتادة بأبي بكر، فأخبره
الخبر، وحلف ألا يسير تحت لواء خالد لأنه قتل مالكاً مسلماً. فقال عمر بن الخطاب
لأبي بكر: يا خليفة رسول الله! إن خالدا قتل رجلاً مسلماً، وتزوج امرأته من يومها.
فكتب أبو بكر إلى خالد، فأشخصه، فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إني
تأولت، وأصبت، وأخطأت.
وكان متمم بن نويرة
شاعراً فرثى أخاه بمراث كثيرة، ولحق بالمدينة إلى أبي بكر، فصلى خلف أبي بكر صلاة
الصبح، فلما فرغ أبو بكر من صلاته قام متمم فاتكأ على قوسه، ثم قال:
نعم القتيل إذا
الرياح تناوحت ... خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور
أدعوته بالله ثم
غدرته ... لو هو دعاك بذمة لم يغدر
فقال:
ما دعوته ولا غدرت
به. وكتب أبو بكر إلى زياد بن لبيد البياضي في قتال من ارتد باليمن. ومنع الزكاة.
فقاتلهم وكان لكندة ملوك عدة يتسمون بالملك، ولكل واحد منهم حمى لا يرعاه غيره،
فأغار زياد ليلاً، وهم في محاجرهم، فأصاب الملوك: جمداً ومخوصاً ومشرحاً وأبضعة،
وسبى النعم وسبايا كثيرة، فعارضهم الأشعث بن قيس، فانتزع السبايا من أيديهم.
وانتهى إلى أبي بكر بارتداد الأشعث، وما فعل، فوجه عكرمة بن أبي جهل في جيش
لمحاربتهم، فوافى وقد حصرهم زياد بن لبيد والمهاجر بن أبي أمية، وقتلوا منهم مقتلة
عظيمة، وغنموا مغانم كثيرة، فقال المهاجر وزياد لمن معهما: قد قدم إخوانكم من
الحجاز، فأشركوهم، وأعطوهم، وطلب الأشعث الصلح، وأخذ الأمان لعشيرته، ونسي نفسه،
فلما قرأ عكرمة الصحيفة وليس فيها اسم الأشعث كبر وأخذه، فأتى به أبا بكر في وثاق،
فمن عليه أبو بكر، وأطلق سبيله، وزوجه أم فروة أخته.
وأراد أبو بكر أن
يغزو الروم، فشاور جماعة من أصحاب رسول الله، فقدموا وأخروا، فاستشار علي بن أبي
طالب، فأشار أن يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت. فقال: بشرت بخير! فقام أبو بكر في الناس
خطيبا، وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم، فسكت الناس، فقام عمر فقال: لو كان عرضا
قريبا وسفرا قاصدا لانتدبتموه. فقام عمرو بن سعيد فقال: لنا تضرب أمثال المنافقين
يا ابن الخطاب، فما يمنعك أنت ما عبت علينا فيه؟ فتكلم خالد بن سعيد، وأسكت أخاه
فقال: ما عندنا إلا الطاعة، فجزاه أبو بكر خيراً، ثم نادى في الناس بالخروج،
وأميرهم خالد بن سعيد، وكان خالد من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمن،
فقدم وقد توفي رسول الله، فامتنع عن البيعة، ومال إلى بني هاشم، فلما عهد أبو بكر
لخالد قال له عمر: أتولي خالداً وقد حبس عنك بيعته، وقال لبني هاشم ما قد بلغك؟ فو
الله ما أرى أن توجهه. فحل لواءه، ودعا يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح،
وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، فعقد لهم، وقال: إذا اجتمعتم فأمير الناس أبو
عبيدة.
وقدمت عليه العشائر
من اليمن، فأنفذهم جيشاً بعد جيش، فلما قدمت الجيوش الشام كتب إليه أبو عبيدة
يعلمه إقبال ملك الروم في خلق عظيم، فجعل يسرح إليه الجيش بعد الجيش، والأول
فالأول ممن يقدم عليه من قبائل العرب، ثم تتابعت عليه كتب أبي عبيدة بكل أخبار جمع
الروم، فوجه أبو بكر عمرو بن العاص في جيش من قريش وغيرهم، ثم كتب أبو بكر إلى
خالد بن الوليد أن يسير إلى الشام ويخلف المثنى بن حارثة بالعراق، فنفذ خالد في
أهل القوة ممن كان معه، وخلف المثنى بن حارثة الشيباني في بقية الجيش بالعراق.
وسار خالد نحو الشام، فلما صار إلى عين التمر لقي رابطة لكسرى عليهم عقبة بن أبي
هلال النمري، فتحصنوا منه، ثم نزلوا على حكمه، فضرب عنق النمري. ثم سار حتى لقي
جمعا لبني تغلب عليهم الهذيل بن عمران، فقدمه فضرب عنقه، وسبى منهم سبايا كثيرة
بعث بهم إلى المدينة. وبعث إلى كنيسة اليهود، فأخذ منهم عشرين غلاماً، وصار إلى
الأنبار، فأخذ دليلا يدله على طريق المفازة، فمر بتدمر، فتحصن أهلها، فأحاط بهم،
ففتحوا له وصالحهم، ثم مضى إلى حوران، فقاتلهم قتالاً شديداً، فقيل: إن خالدا سار
في البرية والمفازة ثمانية أيام حتى وافاهم، فافتتحوا بصرى، وفحل، وأجنادين من
فلسطين.
وكانت بينهم وبين
الروم وقعات بأجنادين صعبة في كل ذلك يهزم الله الروم وتكون العاقبة للمسلمين.
وروى بعضهم: أن خالد
بن الوليد صار إلى غوطة دمشق، ثم فرعها إلى ثنية ومعه راية بيضاء تدعى العقاب،
فبها سميت ثنية العقاب، وصار إلى حوران، فقصد مدينة بصرى فحاربهم، فسألوه الصلح،
فصالحهم، ثم صار إلى أجنادين، وبها جمع للروم، فحاربهم محاربة شديدة، وتفرق جمع
الكفرة. وكانت وقعة أجنادين يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاثة
عشر.
وبعث أبو بكر عثمان
بن أبي العاص، وندب معه عبد القيس، فسار في جيش إلى توج فافتتحها وسبى أهلها،
وافتتح مكران وما يليها، ووجه العلاء ابن الحضرمي في جيش، فافتتح الزارة وناحيتها
من أرض البحرين، وبعث إلى أبي بكر بالمال، فكان أول ما قسمه أبو بكر في الناس بين
الأحمر والأسود، والحر والعبد، دينارا لكل إنسان.
وقدم إياس بن عبد
الله بن الفجاءة السلمي على أبي بكر فقال: يا خليفة رسول الله! إني قد أسلمت،
فأعطاه أبو بكر سلاحا، فخرج من عنده، فبلغه أنه يقطع الطريق، فكتب إلى طريفة بن
حاجزة: أن عدو الله ابن الفجاءة خرج من عندي، فبلغني أنه قطع الطريق، وأخاف السبيل،
فسر إليه حتى تأخذه. وتقدم طريفة، فسار إليه، فقتل قوماً من أصحابه، ثم لقيه،
فقال: إني مسلم، وإنه مكذوب علي! فقال طريفة: فإن كنت صادقا، فاستأسر حتى تأتي أبا
بكر فتخبره! فاستأسر. فلما قدم به على أبي بكر أخرجه إلى البقيع فحرقه بالنار،
وحرق أيضاً رجلاً من بني أسد يقال له شجاع بن ورقاء كان ينكح...
وقال عمر بن الخطاب
لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، إن حملة القرآن قد قتل أكثرهم يوم اليمامة، فلو
جمعت القرآن، فإني أخاف عليه أن يذهب حملته. فقال أبو بكر: أفعل ما لم يفعله رسول
الله؟ فلم يزل به عمر حتى جمعه وكتبه في صحف. وكان مفترقاً في الجريد وغيرها،
وأجلس خمسة وعشرين رجلاً من قريش، وخمسين رجلاً من الأنصار، وقال: اكتبوا القرآن،
وأعرضوا على سعيد بن العاص، فإنه رجل فصيح.
وروى بعضهم أن علي بن
أبي طالب كان جمعه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى به يحمله على جمل،
فقال: هذا القرآن قد جمعته، وكان قد جزأه سبعة أجزاء، فالجزء الأول البقرة، وسورة
يوسف، والعنكبوت، والروم، ولقمان، وحم السجدة، والذاريات، وهل أتى على الإنسان،
والم تنزيل السجدة، والنازعات، وإذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء
انشقت، وسبح اسم ربك الأعلى، ولم يكن، فذلك جزء البقرة ثمانمائة وست وثمانون آية،
وهو خمس عشرة سورة.
الجزء الثاني: آل
عمران، وهود، والحج، والحجر، والأحزاب، والدخان، والرحمن، والحاقة، وسأل سائل،
وعبس، والشمس وضحاها، وإنا أنزلناه، وإذا زلزلت، وويل لكل همزة، وألم تر، ولإيلاف
قريش، فذلك جزء آل عمران ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة. الجزء
الثالث: النساء، والنحل، والمؤمنون، ويس، وحمعسق، والواقعة، وتبارك الملك، ويا
أيها المدثر، وأ رأيت، وتبت، وقل هو الله أحد، والعصر، والقارعة، والسماء ذات
البروج، والتين والزيتون، وطس النمل، فذلك جزء النساء ثمانمائة وست وثمانون آية،
وهو ست عشرة سورة. الجزء الرابع: المائدة، ويونس، ومريم، وطسم الشعراء، والزخرف،
والحجرات، وق والقرآن المجيد، واقتربت الساعة، والممتحنة، والسماء والطارق، ولا
أقسم بهذا البلد، وألم نشرح لك، والعاديات، وإنا أعطيناك الكوثر، وقل يا أيها
الكافرون، فذلك جزء المائدة ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو خمس عشرة سورة.
الجزء الخامس:
الأنعام، وسبحان، واقترب، والفرقان، وموسى وفرعون، وحم المؤمن، المجادلة، والحشر،
والجمعة، والمنافقون، ون والقلم، وإنا أرسلنا نوحاً، وقل أوحي إلي، والمرسلات،
والضحى، وألهاكم، فذلك جزء الأنعام ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة سورة.
الجزء السادس:
الأعراف، وإبراهيم، والكهف، والنور، وص، والزمر، والشريعة، والذين كفروا، والحديد،
والمزمل، ولا أقسم بيوم القيامة، وعم يتساءلون، والغاشية، والفجر، والليل إذا
يغشى، وإذا جاء نصر الله، فذلك جزء الأعراف ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو ست عشرة
سورة. الجزء السابع: الأنفال، وبراءة، وطه، والملائكة، والصافات، والأحقاف،
والفتح، والطور، والنجم، والصف، والتغابن، والطلاق، والمطففين، والمعوذتين، فذلك
جزء الأنفال ثمانمائة وست وثمانون آية، وهو خمس عشرة سورة.
وقال بعضهم: إن علياً
قال: نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع أمثال، وربع محكم
ومتشابه. وقسم أبو بكر بين الناس بالسوية لم يفضل أحداً على أحد، وكان يأخذ في كل
يوم من بيت المال ثلاثة دراهم أجرة، وكان تسمى خليفة رسول الله.
واعتل أبو بكر في
جمادى الآخرة سنة ثلاثة عشر. فلما اشتدت به العلة عهد إلى عمر بن الخطاب، فأمر
عثمان أن يكتب عهده، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله، أما بعد، فإني قد استعملت عليكم
عمر بن الخطاب، فاسمعوا، وأطيعوا، وإني ما ألوتكم نصحاً، والسلام. وقال لعمر بن
الخطاب: يا عمر، أحبك محب وأبغضك مبغض، فلئن أبغض الحق، فلقديما ما، ولئن استمر في
الباطل، فلربما.
ودخل عبد الرحمن بن
عوف في مرضه الذي توفي فيه، فقال: كيف أصبحت يا خليفة رسول الله؟ فقال: أصبحت
موليا، وقد زدتموني على ما بي إن رأيتموني استعملت رجلاً منكم فكلكم قد أصبح وارم
أنفه، وكل يطلبها لنفسه. فقال عبد الرحمن: والله ما أعلم صاحبك إلا صالحاً مصلحاً،
فلا تأس على الدنيا! قال: ما آسى إلا على ثلاث خصال صنعتها ليتني لم أكن صنعتها،
وثلاث لم اصنعها ليتني كنت صنعتها، وثلاث ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم عنها، فأما الثلاث التي صنعتها، فليت أني لم أكن تقلدت هذا الأمر. وقدمت عمر
بين يدي، فكنت وزيرا خيراً مني أميرا، وليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأدخله الرجال، ولو كان أغلق على حرب، وليتني لم أحرق الفجاءة
السلمي، إما أن أكون قتلته سريحاً، أو أطلقته نجيحاً، والثلاث التي ليت أني كنت
فعلتها، فليتني قدمت الأشعث بن قيس تضرب عنقه، فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شيئاً من
الشر إلا أعان عليه، وليت أني بعثت أبا
عبيدة إلى المغرب
وعمر إلى أرض المشرق فأكون قدمت يدي في سبيل الله، وليت أني ما بعثت خالد بن
الوليد إلى بزاخة، ولكن خرجت فكنت ردا له في سبيل الله. والثلاث التي وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن: فلمن
هذا الأمر، فلا ينازعه فيه، وهل للأنصار فيه من شيء، وعن العمة والخالة أتورثان أو
لا ترثان، وإني ما أصبت من دنياكم بشيء، ولقد أقمت نفسي في مال الله وفيء المسلمين
مقام الوصي في مال اليتيم إن استغنى تعفف، وإن افتقر أكل بالمعروف، وإن والي الأمر
بعدي عمر بن الخطاب، وإني استسلفت من بيت المال مالاً، فإذا مت فليبع حائطي في
موضع كذا وليرد إلى بيت المال.
وأوصى أبو بكر بغسله
أسماء بنت عميس امرأته، فغسلته ودفن ليلاً، وورثه أبو قحافة السدس. وكان الغالب
على أبي بكر عمر بن الخطاب، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لثماني ليال بقين من جمادى
الآخرة، ومن شهور العجم في آب، وقيل لليلتين بقيتا منه سنة ثلاثة عشر، وصلى عليه
عمر بن الخطاب، ودفن في البيت الذي فيه قبر رسول الله، وكان له يوم توفي ثلاث
وستون سنة، وكان له من الولد الذكور ثلاثة توفي أحدهم في حياته، وهو عبد الله،
وخلف اثنين محمداً وعبد الرحمن، وكان حاجبه مولاه سديدا، وكانت ولايته سنتين
وأربعة أشهر، وحج بالناس سنة اثنا عشر.
وكان عمال أبي بكر
لما توفي: عتاب بن أسيد على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، ورجلاً من
الأنصار على اليمامة، وحذيفة بن محصن على عمان، والعلاء بن الحضرمي على البحرين،
وخالد بن الوليد على جيش الشام، والمثنى بن حارثة الشيباني على الكوفة، وسويد بن
قطبة على البصرة. صفة أبي بكر: وكان أبو بكر أبيض، نحيفاً، خفيف العارضين، أحنى،
لا يستمسك إزاره على حقويه، معروق الوجه، غائر العينين، عاري الأشاجع، يخضب لحيته
بالحناء والكتم.
وكان من يؤخذ عنه
الفقه، في أيام أبي بكر، علي بن أبي طالب، وعمر ابن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن
كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله ابن مسعود.
أيام عمر بن الخطابثم
استخلف عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله ابن قرط بن رزاح
بن عدي بن كعب، وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، يوم
الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، وقيل لسبع بقين منه سنة ثلاثة عشر، وكان
ذلك من شهور العجم في آب، وكانت الشمس يومئذ في الأسد ست عشرة درجة، والقمر في
العقرب أربعاً وعشرين درجة وعشر دقائق، وزحل في القوس ثلاثين درجة راجعاً،
والمشتري في الحوت تسع درج وثلاثين دقيقة راجعا، والمريخ في الثور إحدى وعشرين
درجة وخمسين دقيقة، والزهرة في الحوت تسع درجات، وعطارد في السنبلة عشر درجات
وثلاثين دقيقة، والرأس في القوس اثنتي عشرة درجة وخمساً وثلاثين دقيقة، فصعد
المنبر، فجلس دون مجلس أبي بكر بمرقاة، وخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى
على النبي، وذكر أبا بكر، وفضله، وترحم عليه، ثم قال: ما أنا إلا رجل منكم، ولو لا
أني كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله لما تقلدت أمركم. فأثنى الناس عليه خيراً.
وكان أول ما عمل به
عمر أن رد سبايا أهل الردة إلى عشائرهم، وقال: إني كرهت أن يصير السبي سنة على
العرب، وكتب عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح يخبره بوفاة أبي بكر مع يرفأ مولاه، وكتب
بعقده وولايته الشام مكان خالد بن الوليد مع شداد بن أوس، وصير خالداً موضع أبي
عبيدة، وكان عمر سيء الرأي في خالد، على أنه ابن خاله، لقول كان قاله في عمر، وقد
كان خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين فتحوا مرج الصفر من أرض دمشق، وحاصروا
مدينة دمشق، قبل وفاة أبي بكر، بأربعة أيام، فستر أبو عبيدة الخبر عن خالد، حتى
ورد كتاب ثان من عمر على أبي عبيدة يأمره أن يتوجه إلى حمص ونواحي الشام، فعلم
بذلك خالداً، فقال: رحم الله أبا بكر! لو كان حيا ما عزلني.
وكتب عمر إلى أبي
عبيدة: إن كذب خالد نفسه فيما كان قاله عمله، وإلا فانزع عمامته وشاطره ماله.
فشاور خالد أخته، فقالت: والله ما أراد ابن حنتمة إلا أن تكذب نفسك، ثم ينزعك من
عملك، فلا تفعلن. فلم يكذب نفسه، فقام بلال فنزع عمامته وشاطره أبو عبيدة ماله،
حتى نعله فأفرد واحدة عن الأخرى.
وأقاموا على ما كانوا
عليه في حصار دمشق حولاً كاملاً وأياماً، وكان أبو عبيدة بباب الجابية، وخالد بباب
الشرقي، وعمرو بن العاص بباب توما، ويزيد بن أبي سفيان بباب الصغير، فلما طال على
صاحب دمشق الأمر أرسل إلى أبي عبيدة فصالحه، وفتح له باب الجابية، وألح خالد على
باب الشرقي لما بلغه أن أبا عبيدة عزم على أن يصالح القوم، وأن القوم قد وثقوا به
للصلح، ففتحه عنوة، فقال خالد لأبي عبيدة: اسبهم، فإني دخلتها عنوة! فقال: لا، قد
أمنتهم! ودخل المسلمون المدينة، وتم الصلح، وذلك في رجب سنة أبع عشر. وروى الواقدي
أن خالد بن الوليد صالحهم، وكتب للأسقف كتابا للصلح، وأعطاهم الأمان، فأجاز أبو
عبيدة ذلك.
وفي هذه السنة سن عمر
بن الخطاب قيام شهر رمضان، وكتب بذلك إلى البلدان، وأمر أبي بن كعب وتميما الداري
أن يصليا بالناس، فقيل له في ذلك: إن رسول الله لم يفعله، وإن أبا بكر لم يفعله،
فقال: إن تكن بدعة فما أحسنها من بدعة.
ووجه أبو عبيدة عمرو
بن العاص إلى الأردن وفلسطين، فجمع القوم جموعاً ليدفعوا عمراً وأصحابه، فوجه أبو
عبيدة إلى عمرو شرحبيل بن حسنة، وتوجه أبو عبيدة نحو جمع الروم، ففتح الأردن عنوة
ما خلا طبرية، فإن أهلها صالحوه على إنصاف منازلهم وكنائسهم، وكان المتولي لذلك
شرحبيل بن حسنة.
وقد كان الروم لما
بلغهم إقبال أبي عبيدة تحولوا إلى فحل، فعبأ أبو عبيدة المسلمين، فجعل على ميمنته
معاذ بن جبل، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة، وعلى الرجالة سعد بن زيد، وعلى الخيل خالد
بن الوليد. وأقبلت الروم، فكان أول من لقيهم خالد فهزم الله الروم، وطلبوا الصلح
على أن يؤدوا الجزية، فأجابهم أبو عبيدة إلى ذلك، وانصرف، وخلف عمرو بن العاص على
باقي الأردن، ووجه بخالد على مقدمته إلى بعلبك وأرض البقاع، فافتتحها وصار إلى
حمص، ولحقه أبو عبيدة، فحصروا أهل حمص حصاراً شديداً، ثم طلبوا الصلح، فصالحهم عن
جميع بلادهم على أن عليهم خراجاً مائة وسبعين ألف دينار، ثم دخل المسلمون المدينة،
وبث أبو عبيدة عماله في نواحي حمص.
ثم أتاه خبر ما جمع
طاغية الروم من الجموع في جميع البلدان، وبعثه إليهم من لا قبل لهم به، فرجع إلى
دمشق، وكتب إلى عمر بن الخطاب بذلك، وكتب إليهم عمر أنه قد كره رجوعكم من أرض حمص
إلى دمشق، وجمع أبو عبيدة إليه المسلمين، وعسكر باليرموك، وكان جبلة بن الأيهم
الغساني على مقدمة الروم في جيش من قومه، وجعل أبو عبيدة خالد بن الوليد على
مقدمته، فواقع المشركين، ولقي ماهان صاحب الروم، واقتتلوا قتالاً شديدا، ولحقه أبو
عبيدة والمسلمون، وكانت وقعة جليلة الخطب، فقتل من الروم مقتلة عظيمة وفتح الله
على المسلمين، وكان ذلك في سنة خمس عشر.
وأوفد أبو عبيدة إلى
عمر وفدا فيهم حذيفة بن اليمان، وقد كان عمر أرق عدة ليال، واشتد تطلعه إلى الخبر،
فلما ورد عليه الخبر خر ساجدا وقال: الحمد لله الذي فتح على أبي عبيدة، فو الله لو
لم يفتح لقال قائل: لو كان... خالد بن الوليد.
ورجع أبو عبيدة إلى
حمص ووجه بخالد في آثار الروم حتى صار إلى قنسرين. وانتهى إلى حلب، فتحصن أهلها،
وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليها، وطلبوا الصلح والأمان، فقبل أبو عبيدة ذلك منهم،
وكتب لهم أماناً، ووجه بمالك بن الحارث الأشتر على جمع إلى الروم، وقد قطعوا
الدرب، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم انصرف وقد عافاه الله وأصحابه.
ورجع أبو عبيدة نحو
الأردن، فحاصر أهل إيلياء، وهي بيت المقدس، فامتنعوا عليه وطاولوه، ووجه أبو عبيدة
عمرو بن العاص إلى قنسرين، فصالحهم أهل حلب، وقنسرين، ومنبج، ووضع عليهم الخراج
على نحو ما فعل أبو عبيدة بحمص، وجمعت غنائم اليرموك بالجابية، وكتبوا إلى عمر،
فكتب إليهم: لا تحدثوا فيها حدثاً، حتى تفتحوا بيت المقدس.
وكان جبلة بن الأيهم
الغساني لما انهزمت الروم من اليرموك صار إلى موضعه في جماعة قومه، فأرسل إليه
يزيد بن أبي سفيان أن اقطع على أرضك بالخراج وأداء الجزية، فقال: إنما يؤدي الجزية
العلوج، وأنا رجل من العرب.
وكان عمر قد بعث أبا
عبيد بن مسعود الثقفي في جيش مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى العراق، وكان كسرى
قد توفي، وقامت بوران ابنته بالملك، وصيرت رستم والفيرزان القيمين بأمر الملك،
وكانا ضعيفين مهينين، فتقدم أبو عبيد الثقفي، فلقي مسلحة من مسالح الفرس، فأوقع
بهم، واقتتلوا قتالاً شديداً، ثم أظفر الله المسلمين بهم، ومنحهم أكتافهم.
وبعث إليهم رستم، لما
بلغه الخبر، برجل يقال له جالينوس، فالتقوا بموضع يقال له باروسما، فانهزمت الفرس،
وافتتح أبو عبيد باروسما، فوجه إليهم رستم بذي الحاجب، وبعث معه بالفيل، فاقتتلوا
قتالاً شديداً، فجعلت خيل المسلمين تنفر من الفيل، فشد عليه أبو عبيد الثقفي
بالسيف، فقطع مشفره، وبرك عليه الفيل فقتله، وقام بالجيش المثنى بن حارثة
الشيباني، فلما انتهى الخبر إلى عمر اشتد غمه بذلك.
وقدم جرير بن عبد
الله البجلي من اليمن في ركب من بجيلة، رئيسهم عرفجة بن هرثمة، حليف لهم من الأزد،
فأمرهم عمر بالنفوذ إلى العراق، وأمر عليهم عرفجة، فغضب جرير وقال: والله ما الرجل
منا! فقال عرفجة: صدق! فوجه عمر جرير بن عبد الله، فقدم الكوفة، ثم خرج منها فواقع
مرزبان المذار، فقتله، وانهزم جيشه، وغرق أكثرهم في دجلة، ثم صار إلى النخيلة،
وبها مهران في جمعه، فواقعه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وشد المنذر بن حسان على
مهران فطعنه فألقاه عن دابته، فبادر جرير فاحتز رأسه، فاختصما في سلبه، فأخذ جرير
السلاح، والمنذر المنطقة، وذلك في سنة أربع عشر.
فلما رأت الفرس ما هم
فيه من الضعف والمهانة وظهور المسلمين عليهم اجتمعوا على قتل رستم والفيرزان، ثم
قالوا: إن في هذا أشتاتاً لأمرنا، فطلبوا ابن كسرى حتى وجدوا يزدجرد، وهو ابن
عشرين سنة، فملكوه عليهم، فضبط أمورهم، وحسن تدبيره، واشتدت المملكة، وقوي أمر
الفرس، وأخرجوا المسلمين عن المروج، فارتد أهل السواد وخرقوا العهود التي كانت في
أيديهم، وصار المسلمون في الأطراف، فلما بلغ ذلك عمر أراد الخروج إلى العراق، ثم
استشار، فأشير عليه بسعد بن أبي وقاص، فوجهه بثمانية آلاف، فسار حتى نزل القادسية،
ووجه عتبة بن غزوان إلى كور دجلة والأبلة وأبر قباذ وميسان ففتحها، واختط البصرة،
وبنى مسجدها بالقصب، وقد قيل: إن عمر وجهه لذلك.
وأقام سعد بالقادسية،
ثم ظفر المسلمون ببنت آزاذمرد، وهي تزف إلى بعض الملوك وأخذوا ما كان معها من
الأموال والأثقال، وفرقوها على المسلمين فطابت أنفسهم، وحسنت قوتهم.
ثم وجه سعد إلى كسرى
بالنعمان بن مقرن وجماعة معه يدعونه إلى الإسلام، فدخلوا عليه في أحسن زي، وعليهم
البرود والنعل، فأخبروه بما وجههم له سعد، ودعوة إلى الإسلام وإلى شهادة الحق وإلى
أداء الجزية، فأغضبه ذلك، ودعا بتليس تراب فقال: احملوه على رأس سيدهم، فلو لا أن
الرسل لا تقتل لقتلتهم. فقال عاصم بن عمرو التميمي: أنا سيد القوم، فحملوه التراب،
فمضى مسرعاً، وقال: قد ظفرنا والله بهم، ووطئنا أرضهم. وبلغ رستم الخبر، فغلظ ذلك عليه،
وقال: ما لابن
الحجامة ولتدبير الملك. ويقال: إن أم يزدجرد كانت حجامة، ثم وجه رسلاً في آثارهم،
ففاتوا الرسل. فاشتد رعب كسرى والفرس منهم، وأمر رستم أن يتوجه إليهم، فكره ذلك،
فحمل عليه بالقول حتى خرج وهو مكره، فلما صار إلى النجف وجه إلى سعد أن ابعث إلي
بقوم من عندكم لأناظرهم، فأرسل سعد المغيرة بن شعبة، وبشر بن أبي رهم، وعرفجة بن
هرثمة، وحذيفة ابن محصن، وربعي بن عامر، وقرفة بن زاهر، ومذعور بن عدي، ومضارب بن
يزيد، وشعبة بن مرة، وكانوا من دهاة العرب، فدخلوا عليه رجلاً رجلاً، يقول كل واحد
منهم مثل مقالة صاحبه، ويدعونه إلى الإسلام، أو أداء الجزية، فتبينوا فيه أنه يهوى
الدخول في الإسلام، ويخاف من أصحابه، وكلما عرض على واحد منهم لم ير عنده مسارعة،
ثم خرج رستم في التعبية للجيش، وجلس على سرير من ذهب، وأقام مصافه، وعدل أصحابه،
وأيقن بالهلكة. وكان منجماً، وكتب إلى أخيه: بسم الله ولي الرحمة، من الإصبهبد
رستم إلى أخيه، أما بعد، فإني رأيت المشتري في هبوط، والزهرة في علو، وهو آخر
العهد منك. والسلام عليك الدهر الدائم.
وخطب سعد بن أبي وقاص
المسلمين، فرغبهم في الجهاد، وأعلمهم ما وعد الله نبيه من النصر وإظهار الدين،
ورغب كل رجل من المسلمين صاحبه، وأنشبت الحرب بينهم بعد صلاة الظهر، واقتتلوا
قتالاً شديداً وحسن بلاء المسلمين وغناؤهم، وكان سعد يومئذ عليلاً فصار إلى قصر
العذيب فنزله، وتحصن فيه، فبلغ رستم فوجه خيلاً، فأحدقت بالقصر، فلما بلغ المسلمين
ذلك صاروا إلى القصر، فانهزم أصحاب رستم، ثم أصبحوا من غد، فوافاهم ستة آلاف من
جيش أبي عبيدة بن الجراح، وهم الذين كانوا مع خالد بن الوليد: خمسة آلاف من مضر
وربيعة، وألف من أفناء المسلمين، عليهم المرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكان
فتح الشام قبل القادسية بشهر، فأصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم، وأخرج رستم
الفيلة فلما نظرت إليها الكتائب كادت أن تفترق، ثم حمل المسلمون عليها ففقأوا
أعينها، وقطعوا مشافرها.
وزحف المسلمون
وأصبحوا، في اليوم الرابع، وللمسلمين العلو، وقتل رستم، وقع عليه عدل كان على بغل
فقتله، وكان الذي طرح عليه العدل هلال ابن علفة، وصعد على سريره وصاح: قتلت رستم
ورب الكعبة، إلي إلي! وقيل: قتله زهير بن عبد شمس ابن أخي جرير بن عبد الله، وقتل
منهم مقتلة عظيمة، وانكشفوا مدبرين، وجمعت الأموال والأسلاب وبيع سلب رستم، فبلغ
سهم الرجل لكل فارس أربعة عشر ألفاً، وسهم الراجل سبعة آلاف ومائة، ورضخ لعيال
الشهداء من صلب الفيء، ورضخ للنساء من صلب الفيء، فأما العبيد فإنهم عفوا، وأوفد
سعد إلى عمر وفدا، فأجازهم عمر ثمانين ديناراً ثمانين ديناراً.
وكان بالقادسية من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر سبعون رجلاً، ومن أهل بيعة الرضوان
ومن شهد الفتح مائة وعشرون، ومن أصحاب رسول الله مائة. ونفرت جميع الفرس إلى
المدائن منهزمين لا يلوون على شيء، ويزدجرد الملك بها، فأتبعهم سعد بالمسلمين،
فحاصرهم شهراً وخمسة عشر يوماً، ثم خرج الفرس هاربين، وفتحت المدائن، وقيل إن ذلك
كان في سنة ستة عشر.
وفيها أرخ عمر الكتب،
وأراد أن يكتب التاريخ منذ مولد رسول الله، ثم قال: من المبعث، فأشار عليه على بن
أبي طالب أن يكتبه من الهجرة، فكتبه من الهجرة.
وتوجه عتبة بن غزوان
إلى عمر، واستخلف على البصرة مجاشع بن مسعود السلمي، والمغيرة بن شعبة في الجيش،
فلما شخص عتبة جاء من كان بميسان، ومن كان بكور دجلة من الأعاجم، وعليهم الفيلكان،
فجمع لهم المغيرة بن شعبة عدة من المسلمين، فسار بهم حتى لقي الأعاجم بميسان،
فهزمهم وسبى أهلها عنوة، وكتب المغيرة بذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر لعتبة:
استعمل أهل الوبر على أهل المدر، وكتب إلى المغيرة: إنك خليفة عتبة بن غزوان حتى
يقدم عتبة، وخرج عتبة من عند عمر، فلما كان بين المدينة والبصرة توفي عتبة، فكتب
عمر إلى المغيرة بولايته على البصرة.
فلما كانت وقعة
القادسية صار المغيرة إلى سعد ثم رجع إلى عمله، وكان يختلف إلى امرأة من بني هلال
يقال لها: أم جميل زوجة الحجاج بن عتيك الثقفي، فاستراب به جماعة من المسلمين،
فرصده أبو بكر، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، وزياد بن عبيد، حتى دخل إليها
فرفعت الريح الستر فإذا به عليها، فوفد على عمر، فسمع عمر صوت أبي بكرة وبينه
وبينه حجاب، فقال: أبو بكرة؟ قال: نعم. قال: لقد جئت ببشر؟ قال: إنما جاء به المغيرة. ثم قص عليه القصة، فبعث
عمر أبا موسى الأشعري عاملا مكانه، وأمره أن يشخص المغيرة، فلما قدم عليه جمع بينه
وبين الشهود، فشهد الثلاثة، وأقبل زياد، فلما رآه عمر قال: أرى وجه رجل لا يخزي
الله به رجلاً من أصحاب محمد، فلما دنا قال: ما عندك يا سلح العقاب؟ قال: رأيت
أمراً قبيحاً، وسمعت نفساً عالياً، ورأيت أرجلاً مختلفة، ولم أر الذي مثل الميل في
المكحلة. فجلد عمر أبا بكرة، ونافعاً، وشبل بن معبد، فقام أبو بكرة وقال: أشهد إن
المغيرة زان، فأراد عمر أن يجلده ثانية، فقال له: علي إذا توفي صاحبك حجارة. وكان
عمر إذا رأى المغيرة قال: يا مغيرة! ما رأيتك قط إلا خشيت أن يرجمني الله
بالحجارة. وكان بالبصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وستون رجلاً.
رجع الحديث إلى خبر
أبي عبيدة بن الجراح وحصاره أهل بيت المقدس لأنا جعلنا كل خبر في سنته ووقته. وكتب
أبو عبيدة إلى عمر يعلمه مطاولة أهل إيلياء وصبرهم، وقال بعضهم: إن أهل إيلياء
سألوه أن يكون الخليفة المصالح لهم، فأخذ عليهم العقود والمواثيق، وكتب إلى عمر
فخرج إلى الشام، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وقرب خالدا، وأدناه، وأمره.
فسار في الناس على مقدمته، وذلك في رجب سنة ستة عشر، فنزل الجابية من أرض دمشق ثم
صار إلى بيت المقدس، فافتتحها صلحاً، وكتب لهم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم،
هذا كتاب كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس، إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم،
وكنائسكم لا تسكن ولا تخرب، إلا أن تحدثوا حدثاً عاماً، وأشهد شهوداً، وأتاه عمرو
بن العاص بالطلاء فقال: كيف يصنع هذا؟ فقال: يطبخ حتى يذهب ثلثاه، ويبقى ثلثه،
فقال: ما أرى بذلك بأساً.
واختلف القوم في صلح
بيت المقدس، فقالوا: صالح اليهود، وقالوا: النصارى، والمجمع عليه النصارى، وقام
إليه بلال فقال: يا أمير المؤمنين، إن أمراء أجناد الشام ما يأكلون إلا لحوم الطير
والخبز النقي، وما يجد ذلك عامة الناس. فأخذ عمر أمراء الشام بأن ضمنوا له القوت للمسلمين في كل يوم خبزين
لكل رجل وما يصلحه من الخل والزيت، وأمر عمر أن تقسم الغنائم بين الناس بالسوية
خلا لخم وجذام، وقال: لا أجعل من خرج من الشقة إلى عدوه كمن خرج من بيته.
فقام إليه رجل فقال:
إن كان الله جعل الهجرة إلينا فخرجنا من بيوتنا إلى عدونا نحرم حظنا.
ومر عمر راجعا إلى
المدينة فمر على قوم قد أقيموا يعذبون في الخراج، فقال عمر: دعوهم ولا تعذبوهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن
الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله في الآخرة، يوم القيامة، فأرسل إليهم،
فخلى سبيلهم. فأتاه جبلة بن الأيهم فقال له: تأخذ مني الصدقة كما تصنع بالعرب؟
قال: بل الجزية، وإلا فالحق بمن هو على دينك. فخرج في ثلاثين ألفاً من قومه، حتى
لحق بأرض الروم، وندم عمر على ما كان منه في أمره.
ووجه عمرو بن العاص
فقال له: يا أمير المؤمنين تأذن لي في أن أصير إلى مصر، فإنا إن فتحناها كانت قوة
للمسلمين، وهي من أكثر الأرض أموالا، وأعجزه عن القتال، ولم يزل يعظم أمرها في
نفسه، ويهون عليه فتحها، حتى عقد له على أربعة آلاف كلهم من عك، وقال له: سيأتيك
كتابي سريعاً، فإن لحقك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخل شيئاً من
أرضها، فانصرف، فإن دخلتها ثم جاءك كتابي فامض، واستعن بالله.
وسار عمرو مسرعاً،
فلما كان برفح، وهي آخر عمل فلسطين، أتاه رسول عمر ومعه كتاب، فلم يفض الكتاب،
ونفذ حتى صار إلى قرية بالقرب من العريش، وقرأ الكتاب، ثم قال: من أين هذه القرية؟
قالوا: من مصر! قال: فإن أمير المؤمنين أمرني إن أتاني كتابه، وقد دخلت شيئاً من
أرض مصر، أن أمضي لوجهي وأستعين بالله، حتى أتى الفرما، فقاتلوه نحواً من ثلاثة
أشهر، ثم فتح الله عليه، ومضى حتى صار إلى أم دنين، فقاتلوه قتالاً شديداً، وأبطأ
عنه الفتح، وكتب إلى عمر يستمده، فوجه بأربعة آلاف، وكتب إليه: أنه قد صير على كل
ألف رجل رجلاً يقوم مقام ألف رجل منهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود،
وعبادة بن الصامت، وخارجة بن حذافة، وقيل مسلمة بن مخلد، فاقتتلوا قتالاً شديداً،
ثم قال الزبير: إني أهب نفسي لله، وأرجو أن يفتح الله على المسلمين، فوضع السلم
ليلاً إلى جانب الحصن، ثم اقتحم معه جماعة، وكبر المسلمون، فلما استحر القتل دعوا
إلى الصلح، فقال بعضهم: صالح المقوقس عمرو بن العاص على دينارين دينارين لكل رجل،
وقيل لم يكن صلح، وإنما افتتح عنوة.
ثم مضى حتى صار إلى
الإسكندرية وبها جموع الروم، وعليها ثلاثة حصون، فقاتلوه قتالاً شديداً، فطالت
المدة بينهم ثلاثة أشهر. وكان المقوقس قد سأل عمرا أن يصالحه عن الإسكندرية على أن
يطلق من أراد منهم أن يمضي إلى بلاد الروم، ومن أقام فعليه ديناران خراج، فأجابه
إلى ذلك، فلما بلغ هرقل ملك الروم غضب...
فقال المقوقس: إني قد
نصحت لهم فاستغشوني، فلا تجبهم إلى ما أجبتني إليه.
وخرج عمر إلى مكة سنة
سبع عشر، فاعتمر عمرة رجب، ووسع المقام، وباعده من البيت، ووسع الحجر، وبنى المسجد
الحرام، ووسع فيه، واشترى من قوم منازلهم، وامتنع آخرون، فهدم عليهم ووضع أثمان
منازلهم في بيت المال. وكان فيما هدم بيت العباس بن عبد المطلب، فقال له: تهدم
داري؟ قال: لأوسع بها في المسجد الحرام! فقال العباس: سمعت رسول الله يقول: إن
الله أمر داود أن يبني له بيتا بإيلياء فبناه ببيت المقدس، وكان كلما ارتفع البناء
سقط فقال داود: يا رب إنك أمرتني أن أبني لك بيتا، وإني كلما بنيت سقط البناء،
فأوحى الله إليه: أني لا أقبل إلا الطيب، وإنك بنيت لي في غصب، فنظر داود فإذا
قطعة أرض لم يكن شراها، فابتاعها من صاحبها بحكمة، ثم بنى فتم البناء. قال: ومن
يشهد أنه سمع هذا من رسول الله؟ فقام قوم فشهدوا. قال: فتحكم إلينا يا أبا الفضل،
وإلا أمسكنا؟ قال: فإني قد تركتها لله. وانصرف عمر بعد عشرين يوماً، وكان العباس
يسايره، وتحت العباس دابة مصعب، فتقدمه عمر ثم وقف له حتى لحقه فقال له: تقدمتك،
وما لأحد أن يتقدمكم معشر بني هاشم قوم... فيكم ضعف. قال: رآنا الله نقوى على النبوة، ونضعف على الخلافة.
ثم خرج يريد الشام
حتى بلغ إلى سرغ، فبلغه أن الطاعون قد كثر، فرجع، فلقيه أمراء الشام، وكلمه أبو
عبيدة بن الجراح أشد كلام، وقال: أفرار من قدر الله تعالى؟ قال عمر: نعم أفر من
قدر الله إلى قدر الله. وفي هذه السنة خطب عمر إلى علي بن أبي طالب أم كلثوم بنت
علي، وأمها فاطمة بنت رسول الله، فقال علي: أنها صغيرة! فقال: إني لم أرد حيث
ذهبت. لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل نسب وسبب ينقطع يوم
القيامة إلا سببي ونسبي وصهري، فأردت أن يكون لي سبب وصهر برسول الله. فتزوجها،
وأمهرها عشرة آلاف دينار. وفي هذه السنة نزل المسلمون الكوفة، واختطوا بها الخطط، وبنوا المنازل.
وقيل كان ذلك في أول
سنة ثمان عشر، ونزلها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانون رجلاً. وأصاب
الناس جدب وقحط ومجاعة شديدة في عام الرمادة، وهي سنة ثمان عشر، فخرج عمر يستسقي،
وأخرج الناس، وأخذ بيد العباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا نتقرب إليك بعم
نبيك! اللهم فلا تخيب ظنهم في رسولك، فاسقوا. وأجرى عمر الأقوات في تلك السنة على
عيالات قوم من المسلمين، وأمر أن تكون نفقات أولاد اللقط ورضاعهم من بيت المال.
وفي هذه السنة سمي
عمر أمير المؤمنين، وكان يسمى خليفة خليفة رسول الله، وكتب إليه أبو موسى الأشعري:
لعبد الله عمر أمير المؤمنين، وجرت عليه، وقيل إن المغيرة بن شعبة دخل عليه فقال:
السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لتحرجن مما قلت. فقال: ألسنا مسلمين ؟ قال: بلى! قال: وأنت أميرنا؟
قال: اللهم نعم.
وكان أبو عبيدة بن
الجراح قد وجه عياض بن غنم الفهري إلى الجزيرة، فلم يزل يحاصر عليهم ثم افتتح
الرقة، وسروج، والرها، ونصيبين، وسائر مدن الجزيرة، وكانت صلحاً كلها، ووضع عليها
الخراج على الأرضين ورقاب الرجال. على كل إنسان أربعة وخمسة دنانير وستة في سنة
ثمان عشر، فانصرف إلى أبي عبيدة.
وكثر الطاعون بالشام،
وكان طاعون عمواس، فمات أبو عبيدة بن الجراح، واستخلف عياض بن غنم على حمص، وما
والاها من قنسرين، ومعاذ بن جبل على الأردن، ولم يلبث معاذ بن جبل إلا أياماً حتى
توفي، ومات يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، فأقر عمر معاوية على عمل يزيد،
ومات في تلك السنة في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفاً سوى من لم يحصر منهم، وغلا
السعر، واحتكر الناس، فنهى عمر عن الاحتكار.
وفيها توفي الفضل بن
العباس بن عبد المطلب بفلسطين، وكانت فلسطين قد افتتحت خلا قيسارية، وكان معاوية
بن أبي سفيان مقيما عليها، فافتتحها سنة ثمان عشر، وقيل كان بها ثمانون ألف مقاتل،
وبعث رجلين من جذام إلى عمر بالبشارة، ثم أردفهما برجل من خثعم يقال له: زهير،
وقال له: إن قدرت أن تسبق الجذاميين فافعل، فمر بهما الخثعمي، وهما نائمان،
فجازهما، وقدم المدينة ليلاً، فأتى عمر فأخبره، فكبر وحمد الله، ثم خرج إلى
المسجد، وأمر بنار، فأتي بها، فحمد الله، وأعلمهم بفتح قيسارية.
وكتب سعد بن أبي وقاص
من المدائن إلى عمر بعد مقامه بثلاث سنين يعلمه اجتماع الفرس بجلولاء، وهي قرية من
قرى السواد، بالقرب من حلوان، وكتب إليه أن ينهض إليهم فيمن معه، ووجه عبد الله بن
مسعود، فأقامه مقام سعد، وقيل صير سلمان بالمدائن، وكان ابن مسعود يفقههم ويعلمهم،
فكانت وقعة جلولاء سنة تسع عشر، فلم يزل يقاتلهم حتى فتح الله عليه، وقتل من الفرس
مقتلة عظيمة، وهرب يزدجرد فيمن بقي معه، فلحق بإصبهان، ثم سار إلى ناحية الري، وأتاه
صاحب طبرستان، فأعلمه حصانة بلاده، فامتنع عليه، ومضى إلى مرو، وكان معه ألف أسوار
من أساورته، وألف جبار، وألف صناجة، فكاتب نيزك طرخان، فعلاه بعمود، فمضى منهزما
حتى دخل بيت طحان، ولحقوه فقتلوه في بيت الطحان، فصارت أساورته إلى بلخ، ووقعت
صناجته، إلى هراة وجباروه إلى مرو، وافترقت جموع الفرس وأذهب الله ملكهم، وفرق
جمعهم، ورجع سعد إلى الكوفة، فاختط مسجدها، وقصر إمارتها، فاختط الأشعث جبانة
كندة، واختط كندة حوله، واختط يزيد بن عبد الله ناحية البرية، واختطت بجلة حوله.
وشاور عمر أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم في سواد الكوفة، فقال له بعضهم: تقسمها بيننا، فشاور علياً، فقال: إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء
بعدنا شيء، ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال: وفقك
الله! هذا الرأي. ووجه عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان، فمسحا السواد، وأمرهما أن
لا يحملا أحداً فوق طاقته، فاجتبى خراج السواد ثمانين ألف ألف درهم، وأجرى على
عثمان بن حنيف خمسة دراهم في كل يوم وجراباً من دقيق، وأمره أن لا يمسح تلا، ولا
أجمة، ولا مستنقع ماء، ولا ما لا يبلغه الماء، وأن يمسح بالذراع السوداء، وهو ذراع
وقبضة، وأقام إبهامه فوق القبضة شيئاً يسيراً، فمسح عثمان كل شيء دون جبل حلوان
إلى أرض العرب وهو أسفل الفرات، فكتب إلى عمر: أني وجدت كل شيء بلغه الماء من عامر
وغير عامر، بلغه الماء، عمله صاحبه أو لم يعمله... درهماً وقفيزاً وعلى الكرم عشرة
دراهم، وعلى الرطاب خمسة دراهم.
وفرض على رقابهم: على
الموسر ثمانية وأربعين، وعلى من دون ذلك أربعة وعشرين، وعلى من لا يجد اثني عشر
درهماً، وقال: درهم في الشهر لا يعوز رجلاً! فحمل من خراج السواد، في أول سنة،
ثمانون ألف ألف درهم، وحمل من قابل عشرون ومائة ألف ألف درهم.
واجتمع الدهاقين إلى
عثمان بن حنيف في الكرم، فقالوا: إنما في قرب من المصر يباع العنقود منه بدرهم،
فكتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر أن يحمل من هذا، ويوضع على هذا بقدر
الموضعين. وكان عمر يأخذ الجزية من أهل كل صناعة من صناعتهم بقيمة ما يجب عليهم،
وكذلك فعل علي، وكتب عمر إلى أبي موسى أن يضع على أرض البصرة من الخراج مثل ما وضع
عثمان بن حنيف على أرض الكوفة، وكتب إلى عثمان بن حنيف: أن احمل إلى أهل المدينة
أعطياتهم، فإنهم شركاؤهم. فكان يحمل ما بين العشرين ألف ألف إلى الثلاثين ألف ألف.
ودون عمر الدواوين
وفرض العطاء سنة عشرين، وقال: قد كثرت الأموال. فأشير عليه أن يجعل ديوانا، فدعا
عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف، وقال:
اكتبوا الناس على منازلهم. وابدءوا ببني عبد مناف. فكتب أول الناس علي بن أبي طالب في خمسة آلاف، والحسن بن علي في ثلاثة
آلاف، والحسين بن علي في ثلاثة آلاف، وقيل بدأ بالعباس بن عبد المطلب في ثلاثة
آلاف، وكل من شهد بدراً من قريش في ثلاثة آلاف، ومن شهد بدرا من الأنصار في أربعة
آلاف، ولأهل مكة من كبار قريش مثل أبي سفيان بن حرب، ومعاوية بن أبي سفيان في خمسة
آلاف، ثم قريش على منازلهم ممن لم يشهد بدراً، ولأمهات المؤمنين ستة آلاف ستة
آلاف، ولعائشة وأم حبيبة وحفصة في اثني عشر ألفاً، ولصفية وجويرية في خمسة آلاف
خمسة آلاف، ولنفسه في أربعة آلاف، ولابنه عبد الله بن عمر في خمسة آلاف، وفي أهل
مكة الذين لم يهاجروا في ستمائة وسبعمائة، وفرض لأهل اليمن في أربعمائة، ولمضر في
ثلاثمائة، ولربيعة في مائتين.
وكان أول مال أعطاه
مالاً قدم به أبو هريرة من البحرين، مبلغه سبعمائة ألف درهم. قال: اكتبوا
الناس على منازلهم،
وكتبوا بني عبد مناف، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم أتبعوهم عمر بن الخطاب وقومه
على الخلافة. فلما نظر عمر قال: وددت والله أني هكذا في القرابة برسول الله، ولكن
ابدءوا برسول الله ثم الأقرب فالأقرب منه، حتى تضعوا عمر بحيث وضعه الله. وفرض
للنساء المهاجرات وغيرهن على قدر فضلهن، وكانت فريضته لهن في ألفين، وألف
وخمسمائة، وألف، وفرض لأسماء بنت عميس، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وخولة بنت
حكيم بن الأوقص امرأة عثمان بن مظعون في ألفين، وفرض لأم عبد في ألف وخمسمائة،
وفرض لأشراف الأعاجم، وفرض لفيروز بن يزدجرد دهقان نهر الملك والنخيرخان، ولخالد
وللجميل ابني بصبهري دهقان الفلوجة، وللهرمزان، ولبسطام بن نرسى دهقان بابل،
وجفينة العبادي في ألفين ألفين، وقال: قوم أشراف أحببت أن أتألف بهم غيرهم.
وقال عمر في آخر
سنيه: إني كنت تألفت الناس بما صنعت في تفضيل بعض على بعض، وإن عشت هذه السنة
ساويت بين الناس، فلم أفضل أحمر على أسود، ولا عربياً على عجمي، وصنعت كما صنع
رسول الله وأبو بكر.
ومصر الأمصار في هذه
السنة. وقال: الأمصار سبعة: فالمدينة مصر، والشام مصر، والجزيرة مصر، والكوفة مصر،
والبصرة مصر... وجند الأجناد فصير فلسطين جنداً، والجزيرة جنداً، والموصل جنداً،
وقنسرين جنداً. وفي هذه السنة فتح عمرو بن العاص الإسكندرية وسائر أعمال مصر،
واجتباها أربعة عشر ألف ألف دينار من خراج رؤوسهم، لكل رأس ديناراً، وخراج غلاتهم
من كل مائة إردب إردبين، وأخرج أصحاب هرقل، ومات هرقل ملك الروم، فزاد ذلك في
وهنهم وضعفهم.
ولما فتح عمرو بن
العاص الإسكندرية أوفد إلى عمر بن الخطاب معاوية بن حديج الكندي، فقال له معاوية: اكتب
معي! فقال: وما أصنع بالكتاب معك؟ خبره بما رأيت وأد إليه الرسالة. فلما أتى عمر
وخبره الخبر خر ساجداً، وكتب عمر إلى عمرو بن العاص أن يحمل طعاماً في البحر إلى
المدينة يكفي عامة المسلمين، حتى يصير به إلى ساحل الجار، فحمل طعاماً إلى القلزم،
ثم حمله في البحر في عشرين مركباً في المركب ثلاثة آلاف أردب وأقل وأكثر، حتى وافى
الجار. وبلغ عمر قدومها، فخرج ومعه جلة أصحاب رسول الله، حتى قدم الجار، فنظر
السفن، ثم وكل من قبض ذلك الطعام، وبنى هنالك قصرين، وجعل ذلك الطعام فيهما، ثم
أمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم، وأمره أن يكتب لهم صكاكا من قراطيس،
ثم يختم أسافلها، فكان أول من صك وختم أسفل الصكاك.
رجع الحديث إلى خبر
سعد بن أبي وقاص. وقد رجع سعد بن أبي وقاص إلى الكوفة، وأقام بها واختطت الخطط،
وبنيت المنازل والمحال، ثم إن أهل الكوفة شكوا سعدا وقالوا: لا يحسن يصلي، فعزله
عمر عنهم، فدعا عليهم سعد إلا يرضيهم الله عز وجل عن أمير، ولا يرضى أميرا منهم.
وولى عمر مكان سعد بن أبي وقاص عمار بن ياسر... ثم قدم عليه أهل الكوفة فقال: كيف
خلفتم عمار بن ياسر أميركم؟ قالوا: مسلم ضعيف. فعزله، ووجه جبير بن مطعم، فمكر به
المغيرة، وحمل عنه خبرا إلى عمر، وقال له: ولني، يا أمير المؤمنين. قال: أنت رجل
فاسق. قال: وما عليك مني؟ كفايتي ورجلتي لك، وفسقي على نفسي. فولاه الكوفة، فسألهم
عن المغيرة، فقالوا: أنت أعلم به وبفسقه. فقال: ما لقيت منكم يا أهل الكوفة! إن
وليتكم مسلما تقيا قلتم: هو ضعيف، وإن وليتكم مجرماً قلتم: هو فاسق. فيقال إنه رد سعد بن أبي وقاص.
وأخرج عمر يهود خيبر
من الحجاز لما قتل مظهر بن رافع الحارثي وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: لا يجتمع في جزيرة العرب دينان. وقسم خيبر على ستة عشر سهماً.
ووجه ميسرة بن مسروق
العبسي إلى أرض الروم، فكان أول جيش دخلها جيش ميسرة في هذه السنة، وهي سنة عشرون،
وأغزى حبيب بن مسلمة الفهري، وقدر له أجلا، فجاز ذلك الوقت، واشتد غم عمر حتى
وافى، فقال له: ما أخرك عن الوقت الذي وقته لك؟ قال: اعتل رجل من المسلمين، فأقمنا
عليه حتى قضى الله ما قضى. ولم يغز عمر بلاد الروم بعد حبيب، وكان عمر يقول: إذا
ذكر الروم والله لوددت إن الدرب جمرة بيننا وبينهم، لنا ما دونه وللروم ما وراءه،
لما كان يكره قتالهم. ووجه علقمة بن مجزز المدلجي في عشرين مركباً، أو نحوها،
فأصيبوا جميعاً
فحلف عمر لا يحمل في
البحر أحداً أبدا. وفي هذه السنة كانت زلازل لم ير مثلها.
وافتتحت نهاوند سنة
إحدى وعشرون، وأمير الناس النعمان بن مقرن المزني، وكانت الأعاجم قد اجتمعت من
الري وقومس وأصبهان وعدة بلدان، حتى صاروا إلى نهاوند، وقالوا: قد غلبنا على
بلدنا، ونالنا الذل في دارنا. فبعث عمر النعمان في جيش، فصار إلى نهاوند، وقد ملك
الأعاجم عليهم ملكا يقال له دوير. واقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل النعمان بن مقرن،
ثم هزم الله الأعاجم، وفتحت نهاوند.
وفي غزاة نهاوند كان
عمر بن الخطاب على منبر رسول الله يخطب، فبينا هو يخطب إذ قال: يا سارية الجبل
الجبل. وكان سارية في جيش نهاوند، فقال سارية لما قدم من نهاوند: أحدق بنا العدو،
فسمعنا صوتك يا أمير المؤمنين وأنت تقول: يا سارية الجبل الجبل، فانحزنا إلى
الجبل، فسلمنا.
وفتح عمرو بن العاص
برقة، وصالحهم على ثلاثة عشر ألف دينار، على أن يبيعوا من أبنائهم من أحبوا في
جزيتهم في هذه السنة، ثم سار حتى أتى أطرابلس إفريقية، فافتتحها، وكتب إلى عمر
يستأذنه في غزو باقي إفريقية، فكتب إليه أنها مفرقة، ولا يغزوها أحد ما بقيت. ووجه
بسر بن أبي أرطأة، فصالح أهل ودان وأهل فزان، وبعث عقبة بن نافع الفهري، وكان أخا
العاص ابن وائل السهمي لأمه، إلى أرض النوبة، ولقي المسلمون من النوبة قتالاً
شديداً. ولما انصرف المسلمون من بلاد النوبة اختطوا الجيزة، وكتب عمرو بن العاص
بذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: لا تجعل بيني وبينك ماء، وانزلوا موضعا
متى أردت أن أركب راحلتي وأصير إليكم فعلت.
وافتتحت آذربيجان سنة
إثنان وعشرون، وأمير الناس المغيرة بن شعبة. وقيل هاشم ابن عتبة بن أبي وقاص،
وافتتح أبو موسى الأشعري كور الأهواز وإصطخر سنة ثلاث وعشرون، وكتب إليه عمر أن ضع
عليها الخراج كما وضع على سائر أرض العراق، ففعل ذلك، وافتتح عبد الله بن بديل بن
ورقاء الخزاعي همدان وأصبهان في هذه السنة، وافتتح قرظة بن كعب الأنصاري الري،
وافتتح معاوية بن أبي سفيان عسقلان، وولى عمر خالد بن الوليد الرها وحران ورقة وتل
موزن وآمد، فأقام بها سنة، ثم استعفى، فأعفاه، وقدم المدينة، فأقام بها أياماً، ثم
توفي خالد بالمدينة.
وقال الواقدي إن خالد
بن الوليد توفي بحمص، فأوصى إلى عمر، ولما ورد إليه خبر وفاته بكته حفصة وآل عمر،
وكثر بكاؤهن عليه، فقال عمر: حق لهن أن يبكين على أبي سليمان، وأظهر عليه جزعا.
ووجه حبيب بن مسلمة الفهري إلى أرمينية، ثم أردفه سلمان بن ربيعة مددا له، فلم يصل
إليه إلا بعد قتل عمر.
وأذن عمر لأزواج
النبي صلى الله عليه وسلم في الحج في هذه السنة، وحج معهن. قال بعضهم: فرأيت أزواج
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهوادج، وعليهن الطيالسة الزرق سنة ثلاث وعشرون،
وكان يكون أمامهن عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان وراءهن، فلا يدعان أحداً يدنو
منهن. وشاطر عمر جماعة من عماله أموالهم. قيل: إن فيهم سعد بن أبي وقاص عامله على
الكوفة، وعمرو بن العاص عامله على مصر، وأبا هريرة عامله على البحرين، والنعمان بن
عدي بن حرثان عامله على ميسان، ونافع بن عمرو الخزاعي عامله على مكة، ويعلى بن
منية عامله على اليمن. وامتنع أبو بكرة من المشاطرة وقال: والله لئن كان هذا المال
لله، فما يحل لك أن تأخذ بعضا وتترك بعضاً، وإن كان لنا فما لك أخذه. فقال له عمر:
إما أن تكون مؤمناً لا تغل أو منافقاً أفك. فقال: بل مؤمن لا أغل. واستأذن قوم من
قريش عمر في الخروج للجهاد، فقال: قد تقدم لكم مع رسول الله. قال: إني آخذ بحلاقيم
قريش على أفواه هذه الحرة. لا تخرجوا! فتسللوا بالناس يميناً وشمالاً. قال عبد الرحمن بن عوف، فقلت: نعم، يا
أمير المؤمنين، ولم تمنعنا من الجهاد؟ فقال: لأن اسكت عنك، فلا أجيبك، خير لك من
أن أجيبك، ثم اندفع يحدث عن أبي بكر، حتى قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله
شرها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه.
وروي عن ابن عباس
قال: طرقني عمر بن الخطاب بعد هدأة من الليل، فقال: اخرج بنا نحرس
نواحي المدينة! فخرج،
وعلى عنقه درته، حافيا، حتى أتى بقيع الغرقد، فاستلقى على ظهره، وجعل يضرب أخمص
قدميه بيده وتأوه صعدا، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما أخرجك إلى هذا الأمر؟ قال:
أمر الله يا ابن عباس! قال: إن شئت أخبرتك بما في نفسك. قال: غص غواص، إن كنت
لتقول فتحسن. قال: ذكرت هذا الأمر بعينه وإلى من تصيره. قال: صدقت! قال فقلت له:
أين أنت عن عبد الرحمن بن عوف؟ فقال: ذاك رجل ممسك، وهذا الأمر لا يصلح إلا لمعط
في غير سرف ومانع في غير إقتار. قال فقلت: سعد بن أبي وقاص؟ قال: مؤمن ضعيف ! قال
فقلت: طلحة بن عبد الله؟ قال: ذاك رجل يناول للشرف والمديح، يعطي ماله حتى يصل إلى
مال غيره، وفيه باو وكبر. قال فقلت: فالزبير بن العوام، فهو فارس الإسلام؟ قال:
ذاك يوم إنسان ويوم شيطان، وعفة نفس، إن كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظهر
حتى يفوته الصلاة. قال فقلت: عثمان بن عفان؟ قال: إن ولي حمل ابن أبي معيط وبني
أمية على رقاب الناس، وأعطاهم مال الله، ولئن ولي ليفعلن والله، ولئن فعل لتسيرن
العرب إليه حتى تقتله في بيته. ثم سكت. قال فقال: أمضها يا ابن عباس! أترى صاحبكم
لها موضعاً؟ قال فقلت: وأين يتبعد من ذلك مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه؟ قال: هو
والله كما ذكرت ولو وليهم تحملهم على منهج الطريق، فأخذ المحجة الواضحة، إلا أن فيه
خصالا: الدعابة في المجلس، واستبداد الرأي، والتبكيت للناس مع حداثة السن. قال
قلت: يا أمير المؤمنين. هلا استحدثتم سنة يوم الخندق إذ خرج عمرو بن عبدود، وقد كعم عنه
الأبطال، وتأخرت عنه الأشياخ، ويوم بدر إذ كان يقط الأقران قطا، ولا سبقتموه
بالإسلام، إذ كان جعلته السعب وقريش يستوفيكم ؟ فقال: إليك يا ابن عباس! أ تريد أن
تفعل بي كما فعل أبوك وعلي بأبي بكر يوم دخلا عليه؟ قال: فكرهت أن أغضبه فسكت.
فقال: والله يا ابن عباس إن علياً ابن عمك لاحق الناس بها، ولكن قريشاً لا تحتمله،
ولئن وليهم ليأخذنهم بمر الحق لا يجدون عنده رخصة، ولئن فعل لينكثن بيعته ثم
ليتحاربن.
وحج عمر جميع سني
ولايته، إلا السنة الأولى، وهي سنة ثلاث عشر، فإن عبد الرحمن بن عوف حج بالناس،
وكان الغالب عليه عبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان.
وروى بعضهم أن عبد
الله بن عباس كان على شرطه، وكان حاجبه يرفا مولاه، فطعن عمر يوم الأربعاء لأربع
ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرون، وكان ذلك من شهور العجم في تشرين الآخر،
وكان الذي طعنه أبو لؤلؤة، عبد للمغيرة بن شعبة، وجاه بخنجر مسموم، وكانت سنو عمر
يومئذ ثلاثاً وستين سنة، وقيل أربعاً وخمسين سنة، وكانت ولايته عشر سنين وثمانية
أشهر.
ولما طعن عمر قال
لابنه: إني كنت استسلفت من بيت مال المسلمين ثمانين ألفاً، فليرد من مال ولدي، فإن
لم يف مالهم فمال آل الخطاب، فإن لم يف فمال بني عدي، وإلا قريش عامة، ولا تعدوهم.
ولما حضرته الوفاة
اجتمع إليه الناس فقال: إني قد مصرت الأمصار، ودونت الدواوين، وأجريت العطايا،
وغزوت في البر والبحر، فإن أهلك، فالله خليفتي عليكم، وسترون رأيكم. إني قد تركتكم
على الواضحة، إنما أخاف عليكم أحد رجلين: إما رجلاً يرى أنه أحق بالملك من صاحبه
فيقاتله عليه...
وإني قد قرأت في كتاب
الله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة، نكالا من الله، والله عليم حكيم،
فلا تهلكوا عن الرجم. وقد رجم رسول الله، ورجمنا، ولو لا أن يقول الناس زاد عمر في
كتاب الله لكتبتها بيدي، فقد قرأتها في كتاب الله.
وصير الأمر شورى بين
ستة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان،
وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص،
وقال: أخرجت سعيد بن زيد لقرابته مني. فقيل له في ابنه عبد الله بن عمر، قال: حسب
آل الخطاب ما تحملوا منها! إن عبد الله لم يحسن يطلق امرأته، وأمر صهيباً أن يصلي
بالناس حتى يتراضوا من الستة بواحد، واستعمل أبا طلحة زيد بن سهل الأنصاري، وقال:
إن رضي أربعة وخالف اثنان، فاضرب عنق الاثنين، وإن رضي ثلاثة وخالف ثلاثة، فاضرب
أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن، وإن جازت الثلاثة الأيام ولم يتراضوا
بأحد، فاضرب أعناقهم جميعاً.
وكانت الشورى بقية ذي
الحجة سنة ثلاث وعشرون، وصهيب يصلي بالناس، وهو الذي صلى على عمر. وكان أبو طلحة
يدخل رأسه إليهم ويقول: العجل العجل، فقد قرب الوقت، وانقضت المدة.
ودفن عمر إلى جانب
أبي بكر، وخلف من الولد الذكور ستة: عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وعاصما،
وزيدا، وأبا عبد الله، ووثب ابنه عبيد الله فقتل أبا لؤلؤة وابنته وامرأته، واغتر
الهرمزان فقتله، وكان عبيد الله يحدث أنه تبعه، فلما أحس الهرمزان بالسيف قال:
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وروى بعضهم أن عمر
أوصى أن يقاد عبيد الله بالهرمزان، وأن عثمان أراد ذلك، وقد كان قبل أن يلي الأمر
أشد من خلق الله على عبيد الله، حتى جر بشعره، وقال: يا عدو الله قتلت رجلاً مسلماً، وصبية طفلة، وامرأة لا ذنب لها! قتلني
الله إن لم أقتلك. فلما ولي رده إلى عمرو بن العاص. وروى بعضهم عن عبد الله بن عمر
أنه قال: يغفر الله لحفصة، فإنها شجعت عبيد الله على قتلهم.
صفة عمر بن الخطاب:
وكان عمر طوالاً، أصلع، أقبل، شديد الأدمة، أعسر يسراً، يعمل بيديه جميعاً، ويصفر
لحيته، وقيل يغيرها بالحناء والكتم. وكان الفقهاء في أيامه الذين يؤخذ عنهم العلم:
علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت.
وأبو موسى الأشعري وأبو الدرداء وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عباس. وكان عمال
عمر، وقت وفاته: سعد بن أبي وقاص على الكوفة، وقيل المغيرة، وأبو موسى الأشعري على
البصرة، وعمير بن سعد الأنصاري على حمص، ومعاوية بن أبي سفيان على بعض الشام،
وعمرو بن العاص على مصر، وزياد بن لبيد البياضي على بعض اليمن، وأبو هريرة على
عمان، ونافع بن الحارث على مكة، ويعلى بن منية التميمي على صنعاء، والحارث بن أبي
العاص الثقفي على البحرين، وعبد الله بن أبي ربيعة على الجند.
أيام عثمان بن عفانثم
استخلف عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه أروى بنت كريز بن
ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وكان عبد الرحمن بن عوف الزهري، لما توفي عمر، واجتمعوا
للشورى، سألهم أن يخرج نفسه منها على أن يختار منهم رجلاً، ففعلوا ذلك، فأقام
ثلاثة أيام، وخلا بعلي بن أبي طالب، فقال: لنا الله عليك، إن وليت هذا الأمر، أن
تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر. فقال: أسير فيكم بكتاب الله
وسنة نبيه ما استطعت. فخلا بعثمان فقال له: لنا الله عليك، إن وليت هذا الأمر، أن تسير فينا
بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر.
فقال:
لكم أن أسير فيكم
بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، ثم خلا بعلي فقال له مثل مقالته الأولى،
فأجابه مثل الجواب الأول، ثم خلا بعثمان فقال له مثل المقالة الأولى، فأجابه مثل
ما كان أجابه، ثم خلا بعلي فقال له مثل المقالة الأولى، فقال: إن كتاب الله وسنة
نبيه لا يحتاج معهما إلى أجيري أحد. أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر عني. فخلا بعثمان
فأعاد عليه القول، فأجابه بذلك الجواب، وصفق على يده.
وخرج عثمان، والناس
يهنئونه، وكان ذلك يوم الإثنين، مستهل المحرم، سنة أربع وعشرون، ومن شهور العجم في
تشرين الآخر، وكانت الشمس يومئذ في العقرب ثلاث عشرة درجة، وزحل في الحمل إحدى
وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمشتري في الجدي أربع درجات وأربعين دقيقة،
والمريخ في الميزان خمسين دقيقة، والزهرة في العقرب إحدى عشرة درجة راجعا، والرأس
في الثور أربعا وعشرين درجة، فصعد عثمان المنبر، فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه
رسول الله، ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه، جلس أبو بكر دونه بمرقاة، وجلس عمر دون
أبي بكر بمرقاة، فتكلم الناس في ذلك، فقال بعضهم: اليوم ولد الشر، وكان عثمان
رجلاً حيياً فارتج عليه. فقام مليا لا يتكلم، ثم قال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان
لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام يشقق الخطب، وإن
تعيشوا فسيأتيكم الخطبة. ثم نزل. وروى بعضهم أن عثمان خرج من الليلة التي بويع له
في يومها لصلاة العشاء الآخرة، وبين يديه شمعة، فلقيه المقداد بن عمرو، فقال: ما
هذا البدعة! ومال قوم مع علي بن أبي طالب، وتحاملوا في القول على عثمان. فروى
بعضهم قال: دخلت مسجد رسول الله، فرأيت رجلاً جاثياً على ركبتيه يتلهف تلهف من كان
الدنيا كانت له فسلبها، وهو يقول: واعجباً لقريش، ودفعهم هذا الأمر على أهل بيت
نبيهم، وفيهم أول المؤمنين، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس
وأفقههم في دين الله، وأعظمهم غناء في الإسلام، وأبصرهم بالطريق، وأهداهم للصراط
المستقيم، والله لقد زووها عن الهادي المهتدي الطاهر النقي، وما أرادوا إصلاحاً
للأمة ولا صواباً في المذهب، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعدا وسحقا للقوم
الظالمين. فدنوت منه فقلت: من أنت يرحمك الله، ومن هذا الرجل؟ فقال: أنا المقداد
بن عمرو، وهذا الرجل علي بن أبي طالب. قال فقلت: ألا تقوم بهذا الأمر فأعينك عليه؟ فقال: يا ابن أخي! إن هذا الأمر لا
يجري فيه الرجل ولا الرجلان. ثم خرجت، فلقيت أبا ذر، فذكرت له ذلك، فقال: صدق أخي
المقداد، ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فذكرت ذلك له فقال: لقد أخبرنا فلم نال.
وأكثر الناس في دم
الهرمزان وإمساك عثمان عبيد الله بن عمر، فصعد عثمان المنبر، فخطب الناس، ثم قال:
ألا إني ولي دم الهرمزان، وقد وهبته لله ولعمر، وتركته لدم عمر. فقام المقداد بن
عمرو فقال: إن الهرمزان مولى لله ولرسوله، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله.
قال: فننظر وتنظرون. ثم أخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة،
وأنزله دارا، فنسب الموضع إليه، كويفة ابن عمر، فقال بعضهم:
أبا عمرو عبيد الله
رهن ... فلا تشكك بقتل الهرمزان
وافتتح المغيرة بن
شعبة همذان، وكتب إلى عثمان أنه قد دخل الري وأنزلها المسلمين.
وكانت الري قد افتتحت
في حياة عمر، وقيل لم تفتح، ولكنها محاصرة، وافتتحت سنة أربع وعشرون. وكتب عثمان
إلى الحكم بن أبي العاص أن يقدم عليه، وكان طريد رسول الله، وقد كان عثمان لما ولي
أبو بكر اجتمع هو وقوم من بني أمية إلى أبي بكر، فسألوه في الحكم، فلم يأذن له،
فلما ولي عمر فعلوا ذلك، فلم يأذن له، فأنكر الناس إذنه له، وقال بعضهم: رأيت
الحكم بن أبي العاص يوم قدم المدينة عليه فزر خلق، وهو يسوق تيسا، حتى دخل دار
عثمان، والناس ينظرون إلى سوء حاله وحال من معه، ثم خرج وعليه جبة خز وطيلسان.
وانتقضت الإسكندرية
سنة خمس وعشرون، وحاربهم عمرو بن العاص، حتى فتحها وسبى الذراري، ووجه بهم إلى
المدينة، فردهم عثمان إلى ذمتهم الأولى، وعزل عمرو بن العاص
وولى عبد الله بن أبي
سرح، فكان ذلك سبب العداوة بين عثمان وعمرو. وقال عثمان لعمرو لما قدم: كيف تركت
عبد الله بن سعد؟ قال: كما أحببت! قال: وما ذاك؟ قال: قوي في ذات نفسه، ضعيف في
ذات الله. قال: لقد أمرته أن يتبع أثرك. قال: لقد كلفته شططا. واجتبى عبد الله مصر اثني عشر ألف ألف دينار،
فقال عثمان لعمرو: درت اللقاح! قال: ذاك إن يتم يضر بالفصلان. ووسع عثمان في
المسجد الحرام، وزاد فيه سنة ست وعشرون، وابتاع من قوم منازلهم، وأبى آخرون، فهدم
عليهم، ووضع الأثمان في بيت المال، فصاحوا بعثمان، فأمر بهم للحبس. وقال: ما جراكم
علي إلا حلمي، وقد فعل هذا عمر، فلم تصيحوا، وجدد أنصاب الحرم.
وفي هذه السنة افتتح
عثمان بن أبي العاص الثقفي سابور. وفيها ولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط الكوفة
مكان سعد، وصلى بالناس الغداة، وهو سكران، أربع ركعات، ثم تهوع في المحراب، والتفت
إلى من كان خلفه، فقال: أزيدكم؟ ثم جلس في صحن المسجد، وأتي بساحر يدعى بطروي من
الكوفة، فاجتمع الناس عليه، فجعل يدخل من دبر الناقة ويخرج من فيها، ويعمل أعاجيب،
فرآه جندب بن كعب الأزدي، فخرج إلى بعض الصياقلة، فأخذ منه سيفا ثم أقبل في الزحام
وقد ستر السيف حتى ضرب عنقه، ثم قال له: أحي نفسك، إن كنت صادقا! فأخذه الوليد،
فأراد أن يضرب عنقه، فقام قوم من الأزد، فقالوا: لا تقتل والله صاحبنا، فصيره في
الحبس. وكان يصلي الليل كله، فنظر إليه السجان، وكان يكنى أبا سنان، فقال:
ما عذري عند الله إن
حبستك على الوليد يقتلك؟ فأطلقه، فصار جندب إلى المدينة، وأخذ الوليد أبا سنان
فضربه مائتي سوط فوثب عليه جرير بن عبد الله، وعدي بن حاتم، وحذيفة بن اليمان،
والأشعث بن قيس، وكتبوا إلى عثمان مع رسلهم، فعزله وولى سعيد بن العاص مكانه. فلما
قدم الوليد قال عثمان: من يضربه؟ فأحجم الناس لقرابته، وكان أخا عثمان لأمه، فقام
علي فضربه، ثم بعث به عثمان على صدقات كلب وبلقين.
وأغزى عثمان الناس
إفريقية سنة سبع وعشرون، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فلقي جرجيس ودعاه إلى
الإسلام، أو أداء الجزية، فامتنع، وكان جرجيس في جمع عظيم، ففض الله ذلك الجمع،
فطلب جرجيس الصلح، فأبى عليه، وهزموه حتى صار إلى مدينة سبيطلة، والتحمت الحرب حتى
قتل جرجيس، وكثرت الغنائم، وبلغت ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف
دينار.
وروى بعضهم أن عثمان
زوج ابنته من مروان بن الحكم، وأمر له بخمس هذا المال. ووجه عبد الله بن سعد بن أبي سرح عبد الله بن الزبير إلى عثمان
بالبشارة، فسار عشرين ليلة، حتى قدم المدينة، وأخبر عثمان، فصعد عثمان المنبر،
فخبر به الناس.
ووجه عبد الله بن سعد
جيشاً إلى أرض النوبة، فسألوا الموادعة والصلح على أن عليهم في كل سنة ثلاثمائة
رأس، ويبعث إليهم مثل ذلك من الطعام والشراب، فكتب إلى عثمان بذلك، فأجابهم إلى
ذلك. وافتتح معاوية بن أبي سفيان قبرس.
وفي هذه السنة بني
عثمان داره، وبني الزوراء، ووسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع
وعشرون، وحملت له الحجارة من بطن نخل، وجعل في عمدة الرصاص، وجعل طوله مائة وستين
ذراعاً وعرضه مائة ذراع وخمسين ذراعا، وأبوابه ستة على ما كانت عليه على عهد عمر.
وعزل أبا موسى
الأشعري، وولى مكانه عبد الله بن عامر بن كريز، وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة،
فلما بلغ أبا موسى ولاية عبد الله بن عامر قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى
على نبيه، ثم قال: قد جاءكم غلام كثير العمات والخالات والجدات في قريش، يفيض
عليكم المال فيضاً. فلما قدم ابن عامر البصرة وجه الجنود لفتح سابور وفسا
ودارابجرد وإصطخر من أرض فارس، وعلى ذلك الجند الذي فتح إصطخر عبيد الله بن معمر
التيمي، فقتل عبيد الله بن معمر في أصل مدينة إصطخر، فقام مكانه عمر بن عبيد الله
حتى فتح المدينة، ثم سار عبد الله بن عامر بنفسه إلى إصطخر ووجه عبد الرحمن بن
سمرة، وكانت له صحبة، إلى سجستان، فافتتح زرنج بعد نكبة شديدة.
ولما ولي عثمان عبد
الله بن عامر البصرة وولي سعيد بن العاص الكوفة كتب إليهما: أيكما سبق إلى خراسان، فهو أمير عليها. فخرج عبد الله بن عامر وسعيد
بن العاص، فأتى دهقان من
دهاقين خراسان إلى
عبد الله بن عامر، فقال: ما تجعل لي إن سبقت بك؟ قال: لك خراجك وخراج أهل بيتك إلى
يوم القيامة. فأخذ به على طريق مختصر إلى قومس، وعبد الله بن خازم السلمي على
مقدمته، فسار إلى نيسابور. وأقام على المدينة، ولقيه عبد الله بن عامر، فافتتح
نيسابور عنوة في سنة ثلاثون، وصالح أهل الطبسين على خمسة وسبعين ألفاً، ثم سار حتى
صار إلى مدينة أبر شهر، فحاصرهم شهوراً، ثم فتحها وصالحهم، وكتب إلى أهل هراة،
فكتبوا إليه: إن فتحت أبرشهر أجبناك إلى ما سألت، وبوشنج وبادغيس يومئذ إلى هراة،
وكانت طوس ونيسابور إلى أبر شهر، ثم فتحها وصالحهم على ألف ألف درهم.
وبعث الأحنف بن قيس
إلى هراة ومرو الروذ، فسار إلى هراة، فلقيه صاحبها بالميرة والطاعة، ثم سار إلى
مرو الروذ، ففتحها عنوة، وفتح الطالقان والفارياب، وطخارستان، ولم يرجع إلى عبد
الله بن عامر، حتى شرب من نهر بلخ.
وقال بعض أهل خراسان:
وجه عبد الله بن عامر حين افتتح نيسابور بالجيوش فبعث الأحنف بن قيس إلى مرو
الروذ، وبعث أوس بن ثعلبة التميمي إلى هراة، وبعث حاتم بن النعمان الباهلي إلى
مرو، وعبد الله بن خازم السلمي إلى سرخس. ففتح القوم جميعاً ما بعثوا له خلا مرو،
فإنها صالحت حاتماً على ألفي ألف ومائتي ألف أوقية وعلى أن يوسعوا للمسلمين في
منازلهم.
ولما فتح عبد الله بن
عامر هذه الكور انصرف إلى عثمان، وخالف بين الترك والديلم، وكان قد صير خراسان
أرباعاً، وولي قيس بن الهيثم السلمي على ربع، وراشد بن عمرو الجديدي على ربع،
وعمران بن الفصيل البرجمي على ربع، وعمرو بن مالك الخزاعي على ربع، فلما رده عثمان
وجه أمير ابن أحمد اليشكري إلى خراسان، فصار إلى مرو، فأناخ بها، ثم أدركه الشتاء
وأدخله أهل مرو، وبلغه انهم يريدون الوثوب به، فجرد فيهم السيف حتى أفناهم، ثم قفل
إلى عثمان، فلما رآه عثمان خوفه، فانصرف عنه مغضباً، وكان عثمان أنكر عليه قتل أهل
مرو، ورجع عبد الله بن عامر إلى البصرة، ثم صار إلى كرمان، فأناخ بها فنالهم مجاعة
شديدة، حتى كان الرغيف بدينار، ثم أتاه الخبر بأن عثمان قد حوصر، فانصرف، وخلف
بخراسان قيس بن الهيثم ابن الصلت، فافتتح قيس طخارستان، وكان عثمان قد وجه حبيب بن
مسلمة الفهري إلى أرمينية، ثم أردفه سلمان بن ربيعة الباهلي مدداً له، فلما قدم
عليه تنافراً، وقتل عثمان وهم على تلك المنافرة.
وقد كان حبيب بن
مسلمة فتح بعض أرمينية، وكتب عثمان إلى سلمان بإمرته على أرمينية، فسار حتى أتى
البيلقان، فخرج إليه أهلها، فصالحوه ومضى حتى أتى برذعة، فصالحه أهلها على شيء
معلوم.
وقيل إن حبيب بن
مسلمة افتتح جرزان. ثم نفذ سلمان إلى شروان، فصالحه ملكها، ثم سار حتى أتى أرض
مسقط، فصالح أهلها، وفعل مثل ذلك ملك اللكز وأهل الشابران وأهل فيلان، ولقيه خاقان
ملك الخزر في جيشه، خلف نهر البلنجر، في خلق عظيم، فقتل سلمان ومن معه، وهم أربعة
آلاف، فولى عثمان حذيفة بن اليمان العبسي، ثم صرفه، وولي المغيرة بن شعبة.
وزوج عثمان ابنته من
عبد الله بن خالد بن أسيد، وأمر له بستمائة ألف درهم، وكتب إلى عبد الله بن عامر
أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة.
وحدث أبو إسحاق عن
عبد الرحمن بن يسار قال: رأيت عامل صدقات المسلمين على سوق المدينة إذا أمسى آتاها
عثمان، فقال له: ادفعها إلى الحكم ابن أبي العاص. وكان عثمان إذا أجاز أحداً من أهل بيته بجائزة جعلها فرضا من بيت
المال، فجعل يدافعه ويقول له: يكون فنعطيك إن شاء الله، فألح عليه، فقال: إنما أنت
خازن لنا، فإذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت. فقال وجاء بالمفتاح يوم الجمعة
وعثمان يخطب، فقال: أيها الناس زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت
خازناً للمسلمين، وهذه مفاتيح بيت مالكم. ورمى بها، فأخذها عثمان، ودفعها إلى زيد
بن ثابت.
وفي هذه السنة توفي
أبو سفيان بن حرب، وصلى عليه عثمان وهي سنة إحدى وثلاثون. وأغزى عثمان جيشاً، أميرهم معاوية، على الصائفة سنة إثنان وثلاثون،
فبلغوا إلى مضيق القسطنطينية، وفتحوا فتوحا كثيرة، وصير عثمان إلى معاوية غزو
الروم على أن يوجه من رأى على الصائفة، فولى معاوية سفيان بن عوف الغامدي فلم يزل
عليها أيام عثمان... لشيء شجر بينهما في خلافة عثمان.
وروي أن عثمان اعتل
علة اشتدت به، فدعا حمران بن أبان، وكتب عهدا لمن بعده، وترك موضع الاسم، ثم كتب
بيده: عبد الرحمن بن عوف، وربطه وبعث به إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقرأه حمران
في الطريق فأتى عبد الرحمن فأخبره، فقال عبد الرحمن، وغضب غضباً شديداً: استعمله
علانية، ويستعملني سراً. ونمى الخبر وانتشر بذلك في المدينة. وغضب بنو أمية، فدعا
عثمان بحمران مولاه، فضربه مائة سوط، وسيره إلى البصرة. فكان سبب العداوة بينه
وبين عبد الرحمن بن عوف.
ووجه إليه عبد الرحمن
بن عوف بابنه، فقال له قل له: والله لقد بايعتك، وإن في ثلاث خصال أفضلك بهن: إني
حضرت بدراً، ولم تحضرها، وحضرت بيعة الرضوان، ولم تحضرها، وثبت يوم أحد وانهزمت.
فلما أدى ابنه الرسالة إلى عثمان قال له قل له: أما غيبتي عن بدر، فإني أقمت على
بيت رسول الله، فضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمي وأجري، وأما بيعة
الرضوان، فقد صفق لي رسول الله بيمينه على شماله، فشمال رسول الله صلى الله عليه
وسلم خير من أيمانكم، وأما يوم أحد فقد كان ما ذكرت إلا أن الله قد عفا عني. ولقد
فعلنا أفعالا لا ندري أغفرها الله أم لا. وكان عبد الرحمن قد أطلق امرأته تماضر
بنت الأصبغ الكلبية لما اشتدت علته، فورثها عثمان، فصولحت عن ربع الثمن على مائة ألف
دينار، وقيل ثمانين ألف دينار.
وجمع عثمان القرآن
وألفه، وصير الطوال مع الطوال، والقصار مع القصار من السور، وكتب في جمع المصاحف
من الآفاق حتى جمعت، ثم سلقها بالماء الحار والخل، وقيل أحرقها، فلم يبق مصحف إلا
فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود. وكان ابن مسعود بالكوفة، فامتنع أن يدفع مصحفة إلى
عبد الله بن عامر، وكتب إليه عثمان: أن أشخصه، إنه لم يكن هذا الدين خبالاً وهذه
الأمة فساداً. فدخل المسجد وعثمان يخطب، فقال عثمان: إنه قد قدمت عليكم دابة سوء،
فكلمه ابن مسعود بكلام غليظ فأمر به عثمان، فجز برجله حتى كسر له ضلعان، فتكلمت
عائشة، وقالت قولاً كثيراً، وبعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى الكوفة، ومصحف
إلى البصرة، ومصحف إلى المدينة، ومصحف إلى مكة، ومصحف إلى مصر، ومصحف إلى الشام،
ومصحف إلى البحرين، ومصحف إلى اليمن، ومصحف إلى الجزيرة، وأمر الناس أن يقرأوا على
نسخة واحدة.
وكان سبب ذلك أنه
بلغه أن الناس يقولون قرآن آل فلان، فأراد أن يكون نسخة واحدة، وقيل: إن ابن مسعود
كان كتب بذلك إليه، فلما بلغه أنه يحرق المصاحف قال: لم أرد هذا.
وقيل:
كتب إليه بذلك حذيفة
بن اليمان، واعتل ابن مسعود، فأتاه عثمان يعوده، فقال له: ما كلام بلغني عنك؟ قال:
ذكرت الذي فعلته بي، أنك أمرت بي فوطئ جوفي، فلم أعقل صلاة الظهر، ولا العصر،
ومنعتني عطائي. قال: فإني أقيدك من نفسي فافعل بي مثل الذي فعل بك! قال: ما كنت
بالذي أفتح القصاص على الخلفاء. قال: فهذا عطاؤك، فخذه. قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا
غني عنه؟ لا حاجة لي به، فانصرف. فأقام ابن مسعود مغاضباً لعثمان حتى توفي، وصلى
عليه عمار بن ياسر، وكان عثمان غائباً فستر أمره. فلما انصرف رأى عثمان القبر،
فقال: قبر من هذا؟ فقيل: قبر عبد الله بن مسعود. قال: فكيف دفن قبل أن أعلم؟
فقالوا: ولى أمره عمار بن ياسر، وذكر أنه أوصى ألا يخبر به، ولم يلبث إلا يسيرا
حتى مات المقداد، فصلى عليه عمار، وكان أوصى إليه، ولم يؤذن عثمان به، فاشتد غضب
عثمان على عمار، وقال: ويلي على ابن السوداء! أما لقد كنت به عليماً.
وبلغ عثمان أن أبا ذر
يقعد في مسجد رسول الله، ويجتمع إليه الناس، فيحدث بما فيه الطعن عليه، وأنه وقف
بباب المسجد فقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر
الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذي، إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل
عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم، محمد الصفوة من نوح،
فالأول من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من محمد. إنه شرف
شريفهم، واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة وكالكعبة المستورة، أو
كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية، أو كالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو
كالشجر الزيتونية أضاء زيتها، وبورك
زبدها، ومحمد وارث
علم آدم وما فضل به النبيون، وعلي بن أبي طالب وصي محمد، ووارث علمه. أيتها الأمة
المتحيرة بعد نبيها! أما لو قدمتم من قدم الله، وأخرتم من أخر الله، وأقررتم
الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما
عال ولي الله، ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلا وجدتم
علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيه، فأما إذ فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وبال
أمركم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وبلغ عثمان أيضاً أن
أبا ذر يقع فيه، ويذكر ما غير وبدل من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنن أبي
بكر وعمر، فسيره إلى الشام إلى معاوية، وكان يجلس في المسجد، فيقول كما كان يقول،
ويجتمع إليه الناس، حتى كثر من يجتمع إليه ويسمع منه. وكان يقف على باب دمشق، إذا
صلى صلاة الصبح، فيقول: جاءت القطار تحمل النار، لعن الله الآمرين بالمعروف
والتاركين له، ولعن الله الناهين عن المنكر والآتين له.
وكتب معاوية إلى
عثمان: إنك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر، فكتب إليه: أن احمله على قتب بغير
وطاء، فقدم به إلى المدينة، وقد ذهب لحم فخذيه، فلما دخل إليه وعنده جماعة قال:
بلغني أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كملت بنو أمية
ثلاثين رجلاً اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا. فقال: نعم!
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. فقال لهم: أسمعتم رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول ذلك؟ فبعث إلى علي بن أبي طالب، فأتاه، فقال: يا أبا الحسن أسمعت
رسول الله يقول ما حكاه أبو ذر؟ وقص عليه الخبر. فقال علي: نعم! قال: وكيف تشهد ؟
قال: لقول رسول الله: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر.
فلم يقم بالمدينة إلا أياماً حتى أرسل إليه عثمان: والله لتخرجن عنها! قال: أ
تخرجني من حرم رسول الله؟ قال: نعم، وأنفك راغم. قال: فإلى مكة؟ قال: لا!
قال: فإلى البصرة؟
قال: لا! قال: فإلى الكوفة؟ قال: لا! ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت
بها. يا مروان! أخرجه، ولا تدع أحداً يكلمه، حتى يخرج. فأخرجه على جمل ومعه امرأته
وابنته، فخرج وعلي والحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر ينظرون، فلما
رأى أبو ذر علياً قام إليه فقبل يده ثم بكى وقال: إني إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أصبر حتى أبكي! فذهب علي يكلمه فقال له
مروان: إن أمير المؤمنين قد نهى أن يكلمه أحد. فرفع علي السوط فضرب وجه ناقة
مروان، وقال: تنح، نحاك الله إلى النار! ثم شيعة، فكلمه بكلام يطول شرحه، وتكلم كل
رجل من القوم وانصرفوا، وانصرف مروان إلى عثمان، فجرى بينه وبين علي في هذا بعض
الوحشة، وتلاحيا كلاماً، فلم يزل أبو ذر بالربذة حتى توفي.
ولما حضرته الوفاة
قالت له ابنته: إني وحدي في هذا الموضع، وأخاف أن تغلبني عليك السباع. فقال: كلا
إنه سيحضرني نفر مؤمنون، فانظري أترين أحداً؟ فقالت: ما أرى أحداً! قال: ما حضر
الوقت، ثم قال: انظري، هل ترين أحداً؟ قالت: نعم أرى ركباً مقبلين، فقال: الله
أكبر، صدق الله ورسوله، حولي وجهي إلى القبلة، فإذا حضر القوم فأقرئيهم مني
السلام، فإذا فرغوا من أمري، فاذبحي لهم هذه الشاة، وقولي لهم: أقسمت عليكم أن
برحتم حتى تأكلوا، ثم قضى عليه، فأتى القوم، فقالت لهم الجارية: هذا أبو ذر صاحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي، فنزلوا، وكانوا سبعة نفر، فيهم حذيفة بن
اليمان، والأشتر، فبكوا بكاءً شديداً، وغسلوه، وكفنوه، وصلوا عليه، ودفنوه. ثم
قالت لهم: إنه يقسم عليكم ألا تبرحوا حتى تأكلوا! فذبحوا الشاة، وأكلوا، ثم حملوا
ابنته، حتى صاروا بها إلى المدينة. فلما بلغ عثمان وفاة أبي ذر قال:
رحم الله أبا ذر! قال
عمار: نعم! رحم الله أبا ذر من كل أنفسنا، فغلظ ذلك على عثمان. وبلغ عثمان. عن
عمار كلام، فأراد أن يسيره أيضاً، فاجتمعت بنو مخزوم إلى علي بن أبي طالب، وسألوه
إعانتهم، فقال علي: لا ندع عثمان ورأيه. فجلس عمار في بيته، وبلغ عثمان ما تكلمت به بنو مخزوم، فأمسك عنه،
وسير عبد الرحمن بن حنبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
القموس من خيبر، وكان
سبب تسييره إياه أنه بلغه كرهه مساوئ ابنه وخاله، وأنه هجاه.
وكان عثمان جواداً
وصولاً بالأموال، وقدم أقاربه وذوي أرحامه، فسوى بين الناس في الأعطيه وكان الغالب
عليه مروان بن الحكم بن أبي العاص، وأبو سفيان بن حرب، وعلى شرطة عبد الله بن قنفذ
التيمي، وحاجبه حمران ابن أبان مولاه.
ونقم الناس على عثمان
بعد ولايته بست سنين، وتكلم فيه من تكلم، وقالوا: آثر القرباء، وحمى الحمى، وبنى
الدار، واتخذ الضياع والأموال بمال الله والمسلمين، ونفى أبا ذر صاحب رسول الله،
وعبد الرحمن بن حنبل، وآوى الحكم بن أبي العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح طريدي
رسول الله، وأهدر دم الهرمزان، ولم يقتل عبيد الله بن عمر به، وولي الوليد بن عقبة
الكوفة، فأحدث في الصلاة ما أحدث، فلم يمنعه ذلك من إعاذته إياه، وأجاز الرجم،
وذلك أنه كان رجم امرأة من جهينة دخلت على زوجها، فولدت لستة أشهر، فأمر عثمان
برجمها، فلما أخرجت دخل إليه علي بن أبي طالب فقال: إن الله عز وجل يقول:
وحمله وفصاله ثلاثون
شهراً، وقال في رضاعه حولين كاملين، فأرسل عثمان في أثر المرأة، فوجدت قد رجمت
وماتت. واعترف الرجل بالولد.
وقدم عليه أهل
البلدان فتكلموا، وبلغ عثمان أن أهل مصر قدموا عليهم السلاح، فوجه إليهم عمرو بن
العاص وكلمهم، فقال لهم: إنه يرجع إلى ما تحبون، ثم كتب لهم بذلك وانصرفوا، فقال
لعمرو بن العاص: اخرج فأعذرنى عند الناس، فخرج عمرو، فصعد المنبر، ونادى: الصلاة
جامعة، فلما اجتمع الناس حمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر محمداً بما هو أهله، وقال:
بعثه الله رأفة ورحمة، فبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله بالحكمة
والموعظة الحسنة، أفليس ذلك كذلك؟ قالوا: بلى. فجزاه الله خير ما جزى نبيا عن
أمته، ثم قال: وولي من بعده رجل عدل في الرعية، وحكم بالحق، أفليس ذلك كذلك؟
قالوا: بلى! فجزاه الله خيراً. قال: ثم ولي الأعسر الأحول ابن حنتمة، فابدت له
الأرض أفلاذ كبدها، وأظهرت له مكنون كنوزها، فخرج من الدنيا، وما أنبل عصاه، أفليس
ذلك كذلك؟ قالوا: بلى! فجزاه الله خيراً. قال: ثم ولي عثمان، فقلتم، وقال، تلومونه
ويعذر نفسه، أفليس ذلك كذلك؟ قالوا: بلى! قال: فاصبروا له، فإن الصغير يكبر
والهزيل يسمن، ولعل تأخير أمر خير من تقديمه. ثم نزل، فدخل أهل عثمان عليه فقالوا
له: هل عابك أحد بمثل ما عابك به عمرو؟ فلما دخل عليه عمرو قال: يا ابن النابغة!
والله ما زدت إن حرضت الناس علي. قال: والله لقد قلت فيك أحسن ما علمت، ولقد ركبت
من الناس، وركبوها منك، فاعتزل إن لم تعتدل! فقال: يا ابن النابغة قمل درعك مذ
عزلتك عن مصر.
وسار الركب الذين
قدموا من مصر، فلما صاروا في بعض الطريق، إذا براكب على جمل، فأنكروه، ففتشوه،
فوجدوا معه صحيفة من عثمان إلى خليفته عبد الله بن سعد: إذا قدم عليك النفر، فاقطع أيديهم وأرجلهم، فقدموا واتفقوا على
الخروج، وكان من يأخذون عنه محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، وكنانة بن بشر،
وابن عديس البلوي، فرجعوا إلى المدينة، وكان بين عثمان وعائشة منافرة وذلك أنه
نقصها مما كان يعطيها عمر ابن الخطاب، وصيرها أسوة غيرها من نساء رسول الله، فإن
عثمان يوماً ليخطب إذ دلت عائشة قميص رسول الله، ونادت: يا معشر المسلمين! هذا
جلباب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبل، وقد أبلى عثمان سنته! فقال عثمان: رب
اصرف عني كيدهن إن كيدهن عظيم.
وحصر ابن عديس البلوي
عثمان في داره، فناشدهم الله، ثم نشد مفاتيح الخزائن، فأتوا بها إلى طلحة بن عبيد
الله، وعثمان محصور في داره، وكان أكثر من يؤلب عليه طلحة والزبير وعائشة، فكتب
إلى معاوية يسأل تعجيل القدوم عليه، فتوجه إليه في اثني عشر ألفاً، ثم قال: كونوا
بمكانكم في أوائل الشام، حتى آتي أمير المؤمنين لأعرف صحة أمره، فأتى عثمان، فسأله
عن المدة، فقال: قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم فأجيئك بهم. قال: لا والله، ولكنك
أردت أن أقتل فتقول: أنا ولي الثأر. ارجع، فجئني بالناس! فرجع، فلم يعد إليه حتى
قتل.
وصار مروان إلى
عائشة، فقال: يا أم المؤمنين! لو قمت فأصلحت بين هذا الرجل وبين الناس، قالت قد
فرغت من جهازي، وأنا أريد الحج. قال: فيدفع إليك بكل درهم أنفقته درهمين، قالت:
لعلك ترى أني في شك من صاحبك؟ أما والله لوددت أنه مقطع في غرارة من غرائري، وإني
أطيق حمله، فأطرحه في البحر.
وأقام عثمان محاصراً
أربعين يوماً. وقتل لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثون، وهو ابن
ثلاث وثمانين سنة، وقيل ست وثمانين سنة، وكان الذين تولوا قتله: محمد بن أبي بكر،
ومحمد بن أبي حذيفة، وابن حزم، وقيل كنانة بن بشر التجيبي، وعمرو بن الحمق
الخزاعي، وعبد الرحمن ابن عديس البلوي، وسودان بن حمران، وأقام ثلاثاً لم يدفن،
وحضر دفنه حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، وحويطب بن عبد العزى، وعمرو بن عثمان
ابنه. ودفن بالمدينة ليلاً في موضع يعرف بحش كوكب، وصلى عليه هؤلاء الأربعة. وقيل
لم يصل عليه، وقيل أحد الأربعة قد صلى عليه، فدفن بغير صلاة.
وكانت أيامه اثنتي
عشرة سنة، وحج عثمان بالناس أيامه كلها إلا السنة الأولى، وهي سنة أربع وعشرون،
فإنه حج بالناس عبد الرحمن بن عوف، والسنة التي قتل فيها، فإنه حج بالناس عبد الله
بن عباس، وهي سنة خمس وثلاثون، وكان له من الولد الذكور سبعة: عمرو وعمر وخالد
وأبان والوليد وسعيد وعبد الملك.
صفة عثمان بن عفان:
وكان عثمان بن عفان مربوعاً، حسن الوجه، رقيق البشرة، كثير اللحية، عظيمها، أسمر،
عظيم الكرادس، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، أسنانه مشدودة بالذهب، يصفر
لحيته.
وكان عمال عثمان: على
اليمن يعلى بن منية التميمي. وعلى مكة عبد الله بن عمرو الحضرمي، وعلى همذان جرير
بن عبد الله البجلي. وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي، وعلى الكوفة أبا موسى
الأشعري، وعلى البصرة عبد الله بن عامر بن كريز، وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي
سرح. وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان بن حرب.
وكان الفقهاء في أيام
عثمان أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن
ثابت، وأبا موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وأبا الدرداء، وأبا سعيد الخدري،
وعبد الله بن عمر، وسلمان بن ربيعة الباهلي.
؟
خلافة أمير المؤمنين
علي بن أبي طالبواستخلف علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، وأمه فاطمة بنت أسد بن
هاشم بن عبد مناف، يوم الثلاثاء لسبع ليال بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثون، ومن
شهور العجم في حزيران، وكانت الشمس يومئذ في الجوزاء ستا وعشرين درجة وأربعين
دقيقة، والقمر في الدلو ثماني عشرة درجة وأربعين دقيقة، وزحل في السنبلة خمساً
وعشرين درجة، والمريخ في الجدي سبع درجات... بايعه طلحة والزبير والمهاجرون
والأنصار، وكان أول من بايعه وصفق على يده طلحة بن عبيد الله، فقال رجل من بني
أسد: أول يد بايعت يد شلاء، أو يد ناقصة، وقام الأشتر فقال: أبايعك يا أمير
المؤمنين على أن علي بيعة أهل الكوفة، ثم قام طلحة والزبير فقالا: نبايعك يا أمير
المؤمنين على أن علينا بيعة المهاجرين، ثم قام أبو الهيثم بن التيهان وعقبة بن
عمرو وأبو أيوب، فقالوا: نبايعك على أن علينا بيعة الأنصار، وسائر قريش.
وبايع الناس إلا
ثلاثة نفر من قريش: مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة، وكان لسان
القوم. فقال: يا هذا إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر، وأما
سعيد فقتلت أباه يوم بدر، وكان أبوه من نور قريش، وأما مروان فشتمت أباه وعبت على
عثمان حين ضمه إليه... على ذلك بنو عبد مناف، فتبايعنا على أن تضع عنا ما أصبنا
وتعفي لنا عما في أيدينا، وتقتل قتله صاحبنا. فغضب علي وقال: أما ما ذكرت من وتري
إياكم، فألحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم، فليس لي أن أضع حق الله تعالى، وأما
إعفائي عما في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم، وأما قتلى قتلة عثمان،
فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غدا، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنة
نبيه، فمن ضاق عليه الحق، فالباطل عليه أضيق، وإن شئتم فألحقوا بملاحقكم. فقال
مروان: بل نبايعك، ونقيم معك، فترى ونرى.
وقام قوم من الأنصار
فتكلموا، وكان أول من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، وكان خطيب الأنصار،
فقال: والله، يا أمير المؤمنين، لئن كانوا تقدموك في الولاية فما تقدموك في الدين،
ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك، ولا يجهل
مكانك، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون، وما احتجت إلى أحد مع علمك.
ثم قام خزيمة بن ثابت
الأنصاري، وهو ذو الشهادتين، فقال: يا أمير المؤمنين! ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك، ولا كان المنقلب إلا إليك، ولئن صدقنا
أنفسنا فيك، فلأنت أقدم الناس إيماناً، وأعلم الناس بالله، وأولى المؤمنين برسول
الله، لك ما لهم، وليس لهم ما لك.
وقام صعصعة بن صوحان
فقال: والله، يا أمير المؤمنين، لقد زينت الخلافة وما زانتك، ورفعتها وما رفعتك،
ولهي إليك أحوج منك إليها. ثم قام مالك بن الحارث الأشتر فقال: أيها الناس، هذا
وصي الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، العظيم البلاء، الحسن الغناء، الذي شهد له كتاب
الله بالإيمان، ورسوله بجنة الرضوان. من كملت فيه الفضائل، ولم يشك في سابقته
وعلمه وفضله الأواخر، ولا الأوائل.
ثم قام عقبة بن عمرو
فقال: من له يوم كيوم العقبة وبيعة كبيعة الرضوان، والإمام الهدى الذي لا يخاف
جوره، والعالم الذي لا يخاف جهله.
وعزل على عمال عثمان
عن البلدان خلا أبي موسى الأشعري، كلمه فيه الأشتر، فأقره، وولي قثم بن العباس
مكة، وعبيد الله بن العباس اليمن، وقيس بن سعد بن عبادة مصر، وعثمان بن حنيف
الأنصاري البصرة. وأتاه طلحة والزبير فقالا: إنه قد نالتنا بعد رسول الله جفوة،
فأشركنا في أمرك! فقال: أنتما شريكاي في القوة والاستقامة، وعوناي على العجز
والأود. وروى بعضهم أنه ولي طلحة اليمن، والزبير اليمامة والبحرين، فلما دفع
إليهما عهديهما قالا له: وصلتك رحم! قال: وإنما وصلتكما بولاية أمور المسلمين.
واسترد العهد منهما، فعتبا من ذلك، وقالا: آثرت علينا! فقال: لو لا ما ظهر من
حرصكما لقد كان لي فيكما رأي.
وروى بعضهم أن
المغيرة بن شعبة قال له: يا أمير المؤمنين! أنفذ طلحة إلى اليمن، والزبير إلى
البحرين، واكتب بعهد معاوية على الشام، فإذا استقامت الأمور، فشأنك وما تريده
فيهم! فأجابه في ذلك بجواب، فقال المغيرة: والله ما نصحت له قبلها، ولا أنصح له
بعدها.
وكانت عائشة بمكة،
خرجت قبل أن يقتل عثمان، فلما قضت حجها انصرفت راجعة، فلما صارت في بعض الطريق
لقيها ابن أم كلاب، فقالت له: ما فعل عثمان؟ قال: قتل! قالت: بعدا وسحقا! قالت: فمن بايع الناس؟ قال: طلحة. قالت: أيها ذو
الإصبع. ثم لقيها آخر، فقالت: ما فعل الناس؟ قال: بايعوا علياً. قالت: والله
ما كنت أبالي أن تقع هذه على هذه. ثم رجعت إلى مكة، وأقام علي أياماً، ثم أتاه
طلحة والزبير فقالا: إنا نريد العمرة، فأذن لنا في الخروج.
وروى بعضهم أن علياً
قال لهما، أو لبعض أصحابه: والله ما أرادا العمرة، ولكنهما أرادا الغدرة. فلحقا
عائشة بمكة فحرضاها على الخروج، فأتت أم سلمة بنت أبي أمية، زوج رسول الله، فقالت:
إن ابن عمي وزوج أختي أعلماني أن عثمان قتل مظلوماً، وأن أكثر الناس لم يرض ببيعة
علي، وأن جماعة ممن بالبصرة قد خالفوا، فلو خرجت بنا لعل الله أن يصلح أمر أمه
محمد على أيدينا؟ فقالت لها أم سلمة: إن عماد الدين لا يقام بالنساء، حماديات
النساء غض الأبصار، وخفض الأطراف، وجر الذيول. إن الله وضع عني وعنك هذا، ما أنت
قائلة لو أن رسول الله عارضك بأطراف الفلوات قد هتكت حجابا قد ضربه عليك؟ فنادى
مناديها: إلا إن أم المؤمنين مقيمة، فأقيموا.
وأتاها طلحة والزبير
وأزالاها عن رأيها، وحملاها على الخروج، فسارت إلى البصرة مخالفة على علي، ومعها
طلحة والزبير في خلق عظيم، وقدم يعلى بن منية بمال من مال اليمن قيل: إن مبلغه
أربعمائة ألف دينار، فأخذه منه طلحة والزبير، فاستعانا به، وسارا نحو البصرة.
ومر القوم في الليل
بماء يقال له: مر الحوأب، فنبحتهم كلابه، فقالت عائشة: ما هذا الماء؟ قال بعضهم:
ماء الحوأب. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! ردوني ردوني! هذا الماء الذي قال لي
رسول الله: لا تكوني التي تنبجك كلاب الحوأب. فأتاها القوم بأربعين رجلاً، فأقسموا بالله أنه ليس بماء الحوأب.
وقدم القوم البصرة،
وعامل علي عثمان بن حنيف، فمنعها ومن معها من الدخول، فقالا: لم نأت لحرب، وإنما
جئنا لصلح، فكتبوا بينهم وبينه كتابا انهم لا يحدثون حدثاً إلى قدوم علي، وأن كل
فريق منهم آمن من صاحبه، ثم افترقوا، فوضع عثمان بن حنيف السلاح، فنتفوا لحيته
وشاربه وأشفار عينيه وحاجبيه، وانتهبوا بيت المال، وأخذوا ما فيه، فلما حضر وقت
الصلاة تنازع طلحة والزبير، وجذب كل واحد منهما صاحبه، حتى فات وقت الصلاة، وصاح
الناس: الصلاة الصلاة يا أصحاب محمد! فقالت عائشة: يصلي محمد بن طلحة يوماً
وعبد الله بن الزبير يوماً، فاصطلحوا على ذلك. فلما أتى علياً الخبر سار إلى
البصرة، واستخلف على المدينة أبا حسن بن عبد عمرو، أحد بني النجار، وخرج من
المدينة، ومعه أربعمائة راكب من أصحاب رسول الله، فلما صاروا إلى أرض أسد وطئ تبعه
منهم ستمائة، ثم صار إلى ذي قار، ووجه الحسن وعمار بن ياسر، فاستنفر أهل الكوفة،
وعامله يومئذ على الكوفة أبو موسى الأشعري، فخذل الناس عنه، فوافاه منهم ستة آلاف
رجل، ولقيه عثمان بن حنيف فقال: يا أمير المؤمنين، وجهتني ذا لحية فأتيتك أمرد!
وقص عليه القصة.
ثم قدم أمير المؤمنين
البصرة، وكانت وقعة الجمل بموضع يقال له الخريبة في جمادى الأولى سنة ست وثلاثون.
وخرج طلحة والزبير فيمن معهما، فوقفوا على مصافهم، فأرسل إليهم علي: ما تطلبون وما
تريدون؟ قالوا: نطلب بدم عثمان! قال علي: لعن الله قتلة عثمان! واصطف أصحاب علي، فقال لهم: لا ترموا
بسهم، ولا تطعنوا برمح، ولا تضربوا بسيف... أعذروا.
فرمى رجل من عسكر
القوم بسهم، فقتل رجلاً من أصحاب أمير المؤمنين، فأتى به إليه، فقال: اللهم اشهد،
ثم رمى آخر، فقتل رجلاً من أصحاب علي، فقال: اللهم اشهد، ثم رمى رجل آخر، فأصاب
عبد الله بن بديل ابن ورقاء الخزاعي فقتله، فأتى به أخوه عبد الرحمن يحمله، فقال
علي: اللهم اشهد، ثم كانت الحرب، وأطافت بنو ضبة بالجمل، وكانت تحمل الراية، فقتل
منهم ألفان، وحفت به الأزد، فقتل منهم ألفان وسبعمائة. وكان لا يأخذ خطام الجمل
أحد إلا سالت نفسه، فقتل طلحة بن عبيد الله في المعركة، رماه مروان بن الحكم بسهم
فصرعه، وقال: لا أطلب والله بعد اليوم بثأر عثمان، وأنا قتلته، فقال طلحة لما سقط:
تالله ما رأيت كاليوم، قط، شيخا من قريش أضيع مني! إني والله ما وقفت موقفا قط إلا
عرفت موضع قدمي فيه، إلا هذا الموقف. وقال علي بن أبي طالب للزبير: يا أبا عبد
الله، ادن إلي أذكرك كلاماً سمعته أنا وأنت من رسول الله! فقال الزبير لعلي: لي
الأمان؟ قال علي: عليك الأمان، فبرز إليه فذكره الكلام، فقال: اللهم إني ما ذكرت
هذا إلا هذه الساعة، وثنى عنان فرسه لينصرف، فقال له عبد الله: إلى أين؟ قال:
ذكرني علي كلاماً قاله رسول الله. قال: كلا، ولكنك رأيت سيوف بني هاشم حداداً تحملها شداد. قال: ويلك!
ومثلي يعير بالجبن؟ هلم إلى الرمح. وأخذ الرمح وحمل على أصحاب علي، فقال علي:
افرجوا للشيخ، إنه
محرج، فشق الميمنة والميسرة والقلب ثم رجع فقال لابنه: لا أم لك! أيفعل هذا جبان؟ وانصرف، فاجتاز بالأحنف بن قيس، فقال: ما
رأيت مثل هذا، أتى بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوقها، فهتك عنها حجاب
رسول الله، وستر حرمته في بيته، ثم أسلمها وانصرف. ألا رجل يأخذ لله منه!
فاتبعه عمرو بن جرموز
التميمي، فقتله بموضع يقال له وادي السباع، وكانت الحرب أربع ساعات من النهار،
فروى بعضهم أنه قتل في ذلك اليوم نيف وثلاثون ألفاً.
ثم نادى منادي علي:
ألا لا يجهز على جريح، ولا يتبع مول، ولا يطعن في وجه مدبر، ومن ألقى السلاح فهو
آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. ثم آمن الأسود والأحمر، ووجه ابن عباس إلى عائشة
يأمرها بالرجوع، فلما دخل عليها ابن عباس قالت: أخطأت السنة يا ابن عباس مرتين، دخلت بيتي بغير أذني، وجلست على متاعي
بغير أمري. قال: نحن علمنا إياك السنة، إن هذا ليس ببيتك، بيتك الذي خلفك رسول
الله صلى الله عليه وسلم به، وأمرك القرآن أن تقري فيه. وجرى بينهما كلام موضعه في
غير هذا من الكتاب.
وأتاها علي، وهي في
دار عبد الله بن خلف الخزاعي وابنه المعروف بطلحة الطلحات، فقال: أيها يا حميراء!
ألم تنتهي عن هذا المسير؟ فقالت: يا ابن أبي طالب! قدرت فاسجح! فقال: اخرجي إلى المدينة، وارجعي إلى بيتك الذي أمرك رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن تقري فيه. قالت: أفعل. فوجه معها سبعين امرأة من عبد
القيس في ثياب الرجال، حتى وافوا بها المدينة، وأعطى الناس بالسوية لم يفضل أحداً
على أحد، وأعطى الموالي كما أعطى الضلبية، وقيل له في ذلك، فقال: قرأت ما بين
الدفتين، فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضل هذا، وأخذ عودا من الأرض، فوضعه
بين إصبعيه.
ولما فرغ من حرب
أصحاب الجمل، وجه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى خراسان، وقدم عليه ماهويه
مرزبان مرو، فكتب له كتاباً، وأنفذ له شروطه، وأمره أن يحمل من الخراج ما كان وظفه
عليه، فحمل إليه مالا على الوظيفة المتقدمة.
وخرج علي من البصرة
متوجهاً إلى الكوفة، وقدم الكوفة في رجب سنة ست وثلاثون، وكان جرير بن عبد الله على
همذان، فعزله، فقال لعلي: وجهني إلى معاوية، فإن جل من معه قومي، فلعلي أجمعهم على
طاعتك! فقال له الأشتر: يا أمير المؤمنين! لا تبعثه، فإن هواه هواهم. فقال: دعه
يتوجه، فإن نصح كان ممن أدى أمانته، وإن داهن كان عليه وزر من اؤتمن ولم يؤد
الأمانة، ووثق به فخالف الثقة. ويا ويحهم مع من يميلون ويدعونني، فو الله ما
أردتهم إلا على إقامة حق، ولا يريدهم غيري إلا على باطل. فقدم جرير على معاوية،
وهو جالس، والناس حوله، فدفع إليه كتاب علي، فقرأه، ثم قام جرير فقال: يا أهل
الشام! إنه من لم ينفعه القليل لم ينفعه الكثير، وقد كانت بالبصرة ملحمة لن يشفع
البلاء بمثلها، فلا بقاء للإسلام، فاتقوا الله يا أهل الشام، ورووا في علي ومعاوية
خيراً، فانظروا لأنفسكم، ولا يكونن أحد أنظر لها منكم. ثم سكت، وصمت معاوية، فلم
ينطق، فقال: أبلعني ريقي يا جرير.
وبعث معاوية من ليلته
إلى عمرو بن العاص أن يأتيه وكتب إليه: أما بعد، فإنه قد كان من أمر علي وطلحة
والزبير وعائشة ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة، وقدم على
جرير بن عبد الله في بيعة علي، وحبست نفسي عليك حتى تأتيني، فاقدم على بركة الله
تعالى. فلما انتهى الكتاب إليه دعا ابنيه عبد الله ومحمداً، فاستشارهما، فقال له
عبد الله: أيها الشيخ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو عنك راض، ومات أبو
بكر وعمر وهما عنك راضيان، فإنك إن تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها مع معاوية
فتضجعان غدا في النار، ثم قال لمحمد: ما ترى؟ قال: بادر هذا الأمر، فكن فيه رأساً
قبل أن تكون ذنباً، فأنشأ يقول:
تطاول ليلي للهموم
الطوارق، ... وخوف التي تجلو وجوه العواتق
فإن ابن هند سألني أن
أزوره، ... وتلك التي فيها بنات البوائق
أتاه جرير من علي
بخطة ... أمرت عليه العيش مع كل دانق
فإن نال منه ما يؤمل
رده، ... فإن لم ينله ذل ذل المطابق
فو الله ما أدري،
وإني لهكذا ... أكون، ومهما قادني، فهو سائقي
أأخدعه، فالخدع فيه
دنية، ... أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق
أم أجلس في بيتي، وفي
ذاك راحة ... لشيخ يخاف الموت في كل شارق
وقد قال عبد الله
قولاً تعلقت ... به النفس، إن لم يعتقلني عوائقي
وخالفه فيه أخوه
محمد، ... وإني لصلب العود عند الحقائق
فلما سمع عبد الله
شعره قال: بال الشيخ على عقبيه، وباع دينه بدنياه، فلما أصبح دعا وردان مولاه فقال
له: ارحل يا وردان، ثم قال حط يا وردان، فحط ورحل ثلاث مرات، فقال وردان: لقد خلطت
أبا عبد الله، فإن شئت أخبرتك بما في نفسك. قال: هات! قال: اعترضت الدنيا والآخرة
على قلبك، فقلت: علي معه آخرة بلا دنيا، ومعاوية معه دنيا بلا آخرة، وليس في
الدنيا عوض من الآخرة، فلست تدري أيهما تختار. قال: لله درك ما أخطأت مما في نفسي
شيئاً، فما الرأي يا وردان؟ قال: الرأي أن تقيم في منزلك، فإن ظهر أهل الدين عشت
في عفو دينهم، وإن ظهر
أهل الدنيا لم يستغن
عنك. قال عمرو: الآن، وقد شهرتنى العرب بمسيري إلى معاوية، ارحل يا وردان! ثم أنشأ
يقول:
يا قاتل الله وردان
وفطنته، ... أبدى لعمرك ما في الصدر وردان
فقدم على معاوية،
فذاكره أمره، فقال له: أما علي، فو الله لا تساوي العرب بينك وبينه في شيء من
الأشياء، وإن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من قريش إلا أن تظلمه. قال: صدقت، ولكنا
نقاتله على ما في أيدينا، ونلزمه قتل عثمان. قال عمرو: واسوءتاه! إن أحق الناس ألا
يذكر عثمان لا أنا ولا أنت. قال: ولم ويحك؟ قال: أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام
حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي، فسار إليه، وأما أنا فتركته عياناً، وهربت إلى
فلسطين. فقال معاوية: دعني من هذا! مد يدك فبايعني! قال: لا، لعمر الله، لا أعطيك
ديني حتى آخذ من دنياك. قال له معاوية: لك مصر طعمة، فغضب مروان بن الحكم وقال: ما
لي لا استشار؟ فقال معاوية: اسكت، فإنما يستشار بك. فقال له معاوية: يا أبا عبد
الله! بت عندنا الليلة، وكره أن يفسد عليه الناس، فبات عمرو، وهو يقول:
معاوي لا أعطيك ديني،
ولم أنل ... به منك دنيا، فانظرن كيف تصنع
فإن تعطني مصراً
فاربح بصفقة ... أخذت بها شيخاً يضر وينفع
وما الدين والدنيا
سواء، وإنني ... لأخذ ما أعطي، ورأسي مقنع
ولكنني أعطيك هذا،
وإنني ... لأخدع نفسي، والمخادع يخدع
أأعطيك أمراً فيه
للملك قوة، ... وأبقى له، إن زلت النعل أخدع
وتمنعني مصراً، وليست
برغبة ... وإن ثري القنوع يوماً لمولع
فكتب له بمصر شرطاً،
وأشهد له شهوداً، وختم الشرط، وبايعه عمرو، وتعاهدا على الوفاء. واحتال معاوية
لقيس بن سعد بن عبادة عامل علي على مصر، فجعل يكاتبه رجاء أن يستميله، وكتب إليه
قيس بن سعد: من قيس بن سعد إلى معاوية بن صخر: أما بعد، فإنما أنت وثن من أوثان مكة دخلت في الإسلام كارها، وخرجت
منه طائعا. وكتب معاوية إلى سعد بن أبي وقاص: إن أحق الناس بنصر عثمان أهل الشورى
من قريش، الذين أثبتوا حقه، واختاروه على غيره، وقد نصرة طلحة والزبير، وهما
شريكاك في الأمر ونظيراك في الإسلام، وخفت لذلك أم المؤمنين، ولا تكرهن ما رضوا،
ولا تردن ما قبلوا! فكتب إليه سعد: أما بعد، فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من تحل
له الخلافة، فلم يكن أحد منا أحق بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه، غير أن علياً
قد كان فيه ما فينا، ولم يكن فينا ما فيه، وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما كان
خيراً لهما، والله يغفر لأم المؤمنين.
وبلغ علياً أن معاوية
قد استعد للقتال، واجتمع معه أهل الشام، فسار علي في المهاجرين والأنصار، حتى أتى
المدائن، فلقيه الدهاقين بالهدايا، فردها، فقالوا: ولم ترد علينا، يا أمير
المؤمنين؟ قال: نحن أغنى منكم بحق أحق بأن نفيض عليكم، ثم صار إلى الجزيرة، فلقيه
بطون تغلب والنمر بن قاسط، فسار معه منهم خلق عظيم، ثم سار إلى الرقة، وجل أهلها
العثمانية الذين هربوا من الكوفة إلى معاوية، فغلقوا أبوابها، وتحصنوا، وكان
أميرهم سماك ابن مخرمة الأسدي، فغلقوا دونه الباب، فصار إليهم الأشتر مالك بن
الحارث النخعي، فقال: والله لتفتحن، أو لأضعن فيكم السيف! ففتحوا، وأقام بها أمير
المؤمنين يومه.
ثم عبر إلى الجانب
الشرقي من الفرات، حتى صار إلى صفين، وقد سبق معاوية إلى الماء ووسعه المناخ، فلما
وافى علي وأصحابه لم يصلوا إلى الماء، فتوسل الناس إلى معاوية، وقالوا: لا تقتل
الناس عطشا، فيهم العبد والأمة والأجير. فأبى معاوية، وقال: لا سقاني الله، ولا
أبا سفيان من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شربوا منه أبداً. فوجه علي
الأشتر والأشعث في الخيل، والأشعث ابن قيس في الرجالة، وكانت خيل معاوية مع أبي
الأعور
السلمي، فقاتله أصحاب
علي حتى صارت سنابك الخيل في الفرات، وغلبوا على المشرعة، وكان الواقف عليها عبد
الله بن الحارث أخو الأشتر، فلما غلب علي على المشرعة قال أصحاب معاوية: إنه لا
قوام لنا وقد أخذ علي الماء! فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إن علياً لا يستحل منك
ومن أصحابك ما استحللت منه ومن أصحابه، فأطلق علي الماء. وكان ذلك في ذي الحجة سنة
ست وثلاثون.
ثم وجه علي إلى
معاوية يدعوه ويسأله الرجوع، وألا يفرق الأمة بسفك الدماء، فأبى إلا الحرب، فكانت
الحرب في صفين سنة سبع وثلاثون، وأقامت بينهم أربعين صباحاً.
وكان مع علي يوم صفين
من أهل بدر سبعون رجلاً، وممن بايع تحت الشجرة سبعمائة رجل، ومن سائر المهاجرين
والأنصار أربعمائة رجل، ولم يكن مع معاوية من الأنصار إلا النعمان بن بشير، ومسلمة
بن مخلد، وصدقت نيات أصحاب علي في القتال، وقام عمار بن ياسر، فصاح في الناس،
فاجتمع إليه خلق عظيم، فقال: والله إنهم لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق،
وانهم على الباطل. ثم قال: ألا هل من رائح إلى الجنة؟ فتبعه خلق، فضرب حول سرادق
معاوية، فقاتل القوم قتالاً وقتل عمار بن ياسر، واشتدت الحرب في تلك العشية، ونادى
الناس: قتل صاحب رسول الله، وقد قال رسول الله: تقتل عماراً الفئة الباغية.
وزحف أصحاب علي
وظهروا على أصحاب معاوية ظهوراً شديداً، حتى لصقوا به، فدعا معاوية بفرسه لينجو
عليه، فقال له عمرو بن العاص: إلى أين؟ قال: قد نزل ما ترى، فما عندك؟ قال: لم يبق
إلا حيلة واحدة، أن ترفع المصاحف، فتدعوهم إلى ما فيها، فتستكفهم وتكسر من حدهم،
وتفت في أعضادهم. قال معاوية: فشأنك! فرفعوا المصاحف، ودعوهم إلى التحكم بما فيها، وقالوا: ندعوكم إلى كتاب
الله. فقال علي: أنها مكيدة، وليسوا بأصحاب قرآن فاعترض الأشعث بن قيس الكندي، وقد
كان معاوية استماله، وكتب إليه ودعاه إلى نفسه، فقال: قد دعا القوم إلى الحق! فقال
علي: إنهم إنما كادوكم، وأرادوا صرفكم عنهم. فقال الأشعث: والله لئن لم تجبهم
انصرفت عنك. ومالت اليمانية مع الأشعث، فقال الأشعث: والله لتجيبنهم إلى ما دعوا
إليه، أو لندفعنك إليهم برمتك، فتنازع الأشتر والأشعث في هذا كلاما عظيما، حتى كاد
أن يكون الحرب بينهم، وحتى خاف علي أن يفترق عنه أصحابه. فلما رأى ما هو فيه
أجابهم إلى الحكومة، وقال علي: أرى أن أوجه بعبد الله بن عباس. فقال الأشعث: إن
معاوية يوجه بعمرو بن العاص، ولا يحكم فينا مضريان، ولكن توجه أبا موسى الأشعري،
فإنه لم يدخل في شيء من الحرب. وقال علي: إن أبا موسى عدو، وقد خذل الناس عني
بالكوفة، ونهاهم أن يخرجوا معي قالوا: لا نرضى بغيره. فوجه علي أبا موسى على علمه
بعداوته له ومداهنته فيما بينه وبينه، ووجه معاوية عمرو بن العاص، وكتبوا كتابين
بالقضية: كتابا من علي بخط كاتبه عبد الله بن أبي رافع، وكتابا من معاوية بخط
كاتبه عمير بن عباد الكناني، واختصموا في تقديم علي أو تسمية علي بامره المؤمنين،
فقال أبو الأعور السلمي: لا نقدم علياً، وقال أصحاب علي: ولا نغير اسمه ولا نكتب
إلا بامره المؤمنين، فتنازعوا على ذلك منازعة شديدة حتى تضاربوا بالأيدي، فقال
الأشعث: امحوا هذا الاسم! فقال له الأشتر: والله يا أعور لهممت أن أملأ سيفي منك، فلقد قتلت قوما ما هم شر منك،
وإني أعلم أنك ما تحاول إلا الفتنة، وما تدور إلا على الدنيا وإيثارها على الآخرة.
فلما اختلفوا قال علي: الله أكبر! قد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الحديبية لسهيل بن عمرو: هذا ما صالح رسول الله، فقال سهيل: لو علمنا أنك رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما قاتلناك. فمحا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه
بيده، وأمرني فكتبت: من محمد بن عبد الله، وقال: إن اسمي واسم أبي لا يذهبان
بنبوتي، وكذلك كتبت الأنبياء، كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآباء،
وإن اسمي واسم أبي لا يذهبان بإمرتي، وأمرهم فكتبوا: من علي بن أبي طالب، وكتب
كتاب القضية على الفريقين يرضون بذلك بما أوجبه كتاب الله، واشترط على الحكمين في
الكتابين أن يحكما بما في كتاب الله من فاتحته إلى
خاتمته لا يتجاوزان
ذلك، ولا يحيدان عنه إلى هوى، ولا ادهان، وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق، فإن
هما جاوزا بالحكم كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته، فلا حكم لهما.
ووجه علي بعبد الله
بن عباس في أربعمائة من أصحابه ونفذ معاوية أربعمائة من أصحابه، واجتمعوا بدومة
الجندل في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثون. فخدع عمرو بن العاص أبا موسى، وذكر له
معاوية فقال: هو ولي ثار عثمان وله شرفة في قريش، فلم يجد عنده ما يحب، قال: فابني
عبد الله؟ قال: ليس بموضع لذلك. قال: فعبد الله بن عمر؟ قال: إذا يحيى سنة عمر، الآن حيث به. فقال:
فاخلع علياً وأخلع أنا معاوية، ويختار المسلمون.
وقدم عمرو أبا موسى
إلى المنبر فلما رآه عبد الله بن عباس قام إلى عبد الله ابن قيس، فدنا منه، فقال:
إن كان عمرو فارقك على شيء، فقدمه قبلك، فإنه غدر. فقال: لا، قد اتفقنا على أمر، فصعد المنبر، فخلع علياً، ثم صعد عمرو
بن العاص فقال: قد ثبت معاوية كما ثبت خاتمي هذا في يدي. فصاح به أبو موسى:
غدرت يا منافق، إنما
مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. قال عمرو: إنك مثلك مثل الحمار
يحمل أسفاراً.
وتنادى الناس: حكم
والله الحكمان بغير ما في الكتاب، والشرط عليهما غير هذا. وتضارب القوم بالسياط، وأخذ قوم بشعور بعض، وافترق الناس ونادت
الخوارج: كفر الحكمان، لا حكم إلا لله. وقيل: أول من نادى بذلك عروة بن أدية
التميمي قبل أن يجتمع الحكمان، وكانت الحكومة في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثون. قال
ابن الكلبي: أخبرني عبد الرحمن بن حصين بن سويد... قال: إني لأساير أبا موسى
الأشعري على شاطئ الفرات، وهو إذ ذاك عامل لعمر، فجعل يحدثني، فقال:
إن بني إسرائيل لم
تزل الفتن ترفعهم وتخفضهم أرضا بعد أرض، حتى حكموا ضالين أضلا من اتبعهما. قلت:
فإن كنت يا أبا موسى أحد الحكمين، قال فقال لي: إذا لا ترك الله لي في السماء مصعداً، ولا في الأرض مهربا إن كنت أنا
هو. فقال سويد: لربما كان البلاء موكلاً بالمنطق. ولقيته بعد التحكيم، فقلت: إن
الله إذا قضى أمراً لم يغالب.
وانصرف علي إلى
الكوفة، فلما قدمها قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! إن أول وقوع الفتن هوى يتبع، وأحكام تبتدع، يعظم فيها
رجال رجالاً، يخالف فيها حكم الله، ولو أن الحق أخلص فعمل به لم يخف على ذي حجى
ولكن يؤخذ ضغث من ذا وضغث من ذا، فيخلط فيعمل به، فعند ذلك يستولي الشيطان على
أوليائه وينجو الذين سبقت لهم منا الحسنى.
وصارت الخوارج إلى
قرية يقال لها حروراء بينها وبين الكوفة نصف فرسخ، وبها سموا الحرورية، ورئيسهم
عبد الله بن وهب الراسبي، وابن الكوا، وشبث بن ربعي، فجعلوا يقولون: لا حكم إلا
لله، فإذا بلغ علياً ذلك قال: كلمة حق أريد بها باطل. ثم خرجوا في ثمانية آلاف، وقيل:
في اثني عشر ألفاً، فوجه إليهم علي عبد الله بن عباس، فكلمهم، واحتجوا عليه، فخرج
إليهم علي فقال: أتشهدون علي بجهل؟ قالوا: لا! قال: فتنفذون أحكامي؟ قالوا: نعم!
قال: فارجعوا إلى كوفتكم حتى نتناظر، فرجعوا من عند آخرهم، ثم جعلوا يقومون
فيقولون: لا حكم إلا لله، فيقول علي: حكم الله أنتظر فيكم. وخرجوا من الكوفة،
فوثبوا على عبد الله ابن خباب بن الأرت، فقتلوه وأصحابه، فخرج إليهم علي، فناشدهم
الله، ووجه إليهم عبد الله بن عباس، فقال: يا ابن عباس قل لهؤلاء الخوارج ما نقمتم
على أمير المؤمنين؟ أ لم يحكم فيكم بالحق، ويقيم فيكم العدل، ولم يبخسكم شيئاً من
حقوقكم؟ فناداهم عبد الله بن عباس بذلك، فقالت طائفة منهم: والله لا نجيبه. وقالت الأخرى: والله لنجيبنه ثم لنخصمنه، نعم، يا ابن
عباس، نقمنا على علي خصالا كلها موبقة لو لم نخصمه منها إلا بخصلة خصمناه، محا
اسمه من أمره أمير المؤمنين يوم كتب إلى معاوية، ورجعنا عنه يوم صفين، فلم يضربنا
بسيفه حتى نفيء إلى الله، وحكم الحكمين، وزعم أنه وصى، فضيع الوصية، وجئتنا يا ابن
عباس في حلة حسنة جميلة تدعونا إلى مثل ما يدعونا إليه؟
فقال ابن عباس: قد
سمعت، يا أمير المؤمنين، مقالة القوم، وأنت أحق بالجواب. فقال:
حججتهم والذي فلق
الحبة وبرأ النسمة، قل لهم: أ لستم راضين بما في كتاب الله، وبما فيه من أسوة رسول
الله؟ قالوا: بلى! قال: فعلي بذلك أرضي. كتب كاتب رسول الله يوم الحديبية، إذ كتب
إلى سهيل ابن عمرو وصخر بن حرب ومن قبلهما من المشركين: من محمد رسول الله، فكتبوا
إليه: لو علمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاتلناك، فاكتب إلينا: من
محمد بن عبد الله لنجيبك، فمحا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه بيده، وقال: إن
اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي وأمري، فكتب: من محمد بن عبد الله، وكذلك كتب
الأنبياء كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآباء، ففي رسول الله أسوة
حسنة.
وأما قولكم إني لم
أضربكم بسيفي يوم صفين حتى تفيئوا إلى أمر الله، فإن الله جل وعز يقول: ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة، وكنتم عدداً جماً، وأنا وأهل بيتي في عدة يسيرة.
وأما قولكم إني حكمت
الحكمين، فإن الله عز وجل حكم في أرنب يباع بربع درهم، فقال: يحكم به ذوا عدل
منكم، ولو حكم الحكمان بما في كتاب الله لما وسعني الخروج من حكمهما.
وأما قولكم إني كنت
وصيا فضيعت الوصية، فإن الله عز وجل يقول: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين أفرأيتم هذا البيت، لو لم يحجج إليه أحد
كان البيت يكفر، إن هذا البيت لو تركه من استطاع إليه سبيلاً كفر، وأنتم كفرتم
بترككم إياي لا أنا كفرت بتركي لكم.
فرجع يومئذ من
الخوارج ألفان، وأقام أربعة آلاف، والتحمت الحرب بينهم مع زوال الشمس، فأقامت
مقدار ساعتين من النهار، فقتلوا من عند آخرهم، وقتل ذو الثدية، ولم يفلت من القوم
إلا أقل من عشرة، ولم يقتل من أصحاب علي إلا أقل من عشرة، وكانت وقعة النهروان سنة
تسع وثلاثون.
ولما قدم علي الكوفة
قام خطيبا فقال: بعد حمد الله والثناء عليه والتذكير لنعمه والصلاة على محمد وذكره
بما فضله الله به، أما بعد أيها الناس! فأنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ
عليها أحد غيري، ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون، ولا القاسطون، ولا المارقون،
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فإني عن قليل مقتول، فما يحبس أشقاها أن يخضبها بدم
أعلاها، فو الذي فلق البحر وبرأ النسمة لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة،
ولا عن فتنة تضل مائة أو تهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها إلى يوم
القيامة. إن القرآن لا يعلم علمه إلا من ذاق طعمه، وعلم بالعلم جهله، وأبصر
عمله، واستمع صممه وأدرك به مأواه، وحي به إن مات، فأدرك به الرضا من الله،
فاطلبوا ذلك عند أهله، فإنهم في بيت الحياة، ومستقر القرآن، ومنزل الملائكة، وأهل
العلم الذين يخبركم عملهم عن علمهم وظاهرهم عن باطنهم هم الذين لا يخالفون الحق،
ولا يختلفون فيه، قد مضى فيهم من الله حكم صادق، وفي ذلك ذكرى للذاكرين.
وأما إنكم ستلقون
بعدي ذلا شاملاً وسيفاً قاتلاً وأثرة قبيحة يتخذها الظالمون عليكم سنة تفرق
جموعكم، وتبكي عيونكم، وتدخل الفقر بيوتكم، وستذكرون ما أقول لكم عن قليل، ولا
يبعد الله إلا من ظلم.
ووجه معاوية بن أبي
سفيان عمرو بن العاص على مصر على شرط له، فقدمها سنة ثمان وثلاثون، ومعه جيش عظيم
من أهل الشام، فكان على دمشق يزيد بن أسد البجلي، وعلى أهل فلسطين شمير الخثعمي،
وعلى أهل الأردن أبو الأعور السلمي، ومعاوية بن حديج الكندي على الخارجة، فلقيهم
محمد بن أبي بكر بموضع يقال له المسناة، فحاربهم محاربة شديدة، وكان عمرو يقول: ما
رأيت مثل يوم المسناة، وقد كان محمد استذم إلى اليمانية، فمايل عمرو بن العاص
اليمانية، فخلفوا محمد بن أبي بكر وحده، فجالد ساعة، ثم مضى فدخل منزل قوم خرابة،
واتبعه ابن حديج الكندي، فأخذه وقتله، وأدخله جيفة حمار، وحرقه بالنار في زقاق
يعرف بزقاق الحوف.
وبلغ علياً ضعف محمد
بن أبي بكر وممالاة اليمانية معاوية وعمرو بن العاص فقال: ما أوتي
محمد من حرض، ووجه
مالك بن الحارث الأشتر إلى مصر قبل أن ينتهي إليه قتل محمد بن أبي بكر، وكتب إلى
أهل مصر: أني بعثت إليكم سيفا من سيوف الله لا نأبى الضربة، ولا كليل الحد، فإن
استنفركم فانفروا، وإن أمركم بالمقام فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري،
وقد آثرتكم به على نفسي. فلما بلغ معاوية أن علياً قد وجه الأشتر عظم عليه، وعلم
أن أهل اليمن أسرع إلى الأشتر منهم إلى كل أحد، فدس له سما، فلما صار إلى القلزم
من الفسطاط على مرحلتين نزل منزل رجل من أهل المدينة يقال له... فخدمه وقام
بحوائجه، ثم أتاه بقعب فيه عسل قد صير فيه السم، فسقاه إياه، فمات الأشتر بالقلزم
وبها قبره، وكان قتله وقتل محمد بن أبي بكر في سنة ثمان وثلاثون.
ولما بلغ علياً قتل
محمد بن أبي بكر والأشتر جزع عليهما جزعاً شديداً، وتفجع، وقال علي: على مثلك
فلتبك البواكي يا مالك، وأنى مثل مالك؟ وذكر محمد بن أبي بكر، وتفجع عليه، وقال:
إنه كان لي ولدا ولولدي وولد أخي أخا، وخرج الخريت بن راشد الناجي في جماعة من
أصحابه، فجردوا السيوف بالكوفة، فقتلوا جماعة، وطلبهم الناس، فخرج الخريت وأصحابه
من الكوفة، فجعلوا لا يمرون ببلد إلا انتهبوا بيت ماله حتى صاروا إلى سيف عمان.
وكان علي قد وجه
الحلو بن عوف الأزدي عاملا على عمان فوثبت به بنو ناجية فقتلوه، وارتدوا عن
الإسلام، فوجه علي معقل بن قيس الرياحي إلى البلد، فقتل الخريت بن راشد وأصحابه،
وسبى بني ناجية، فاشتراهم مصقلة ابن هبيرة الشيباني، وأنفذ بعض الثمن ثم هرب إلى
معاوية، وأمر على بهدم داره، وأنفذ عتق بن ناجية، وكانوا يدعون انهم من ولد سامة
ابن لؤي.
ووجه معاوية النعمان
بن بشير، فأغار على مالك بن كعب الأرحبي، وكان عامل علي على مسلحة عين التمر، فندب
علي فقال: يا أهل الكوفة انتدبوا إلى أخيكم مالك بن كعب، فإن النعمان بن بشير قد
نزل به في جمع ليس بكثير لعل الله أن يقطع من الظالمين طرفا. فأبطأوا، ولم يخرجوا،
فصعد على المنبر فتكلم كلاما خفيا لا يسمع، فظن الناس أنه يدعو الله، ثم رفع صوته
فقال: أما بعد يا أهل الكوفة أكلما أقبل منسر من مناسر أهل الشام أغلق كل امرئ
بابه وانجحر في بيته انجحار الضب والضبع الذليل في وجاره؟ أف لكم! لقد لقيت منكم
يوماً أناجيكم ويوما أناديكم، فلا إخوان عند النجاء، ولا أحرار عند النداء. فلما
دخل بيته قام عدي بن حاتم فقال: هذا والله الخذلان القبيح! ثم دخل إليه فقال: يا
أمير المؤمنين! معي ألف رجل من طيء لا يعصونني، وإن شئت أن أسير بهم سرت؟ فقال
علي: جزاك الله خيراً، يا أبا طريف، ما كنت لأعرض قبيلة واحدة لحد أهل الشام، ولكن
أخرج إلى النخيلة! فخرج واتبعه الناس فسار عدي على شاطئ الفرات، فأغار على أدنى
الشام.
وأغار الضحاك بن قيس
على القطقطانة، فبلغ علياً إقباله، وأنه قد قتل ابن عميش، فقام علي خطيبا فقال: يا
أهل الكوفة اخرجوا إلى جيش لكم قد أصيب منه طرف، وإلى الرجل الصالح ابن عميش،
فامنعوا حريمكم، وقاتلوا عدوكم. فردوا رداً ضعيفاً، فقال: يا أهل العراق! وددت أن
لي بكم بكل ثمانية منكم رجلاً من أهل الشام، وويل لهم قاتلوا مع تصبرهم على جور،
ويحكم! اخرجوا معي، ثم فروا عني إن بدا لكم، فو الله إني لأرجو شهادة، وإنها لتدور
على رأسي مع ما لي من الروح العظيم في ترك مداراتكم كما تداري البكار الغمرة، أو
الثياب المتهتكة، كلما حيصت من جانب تهتكت من جانب فقام إليه حجر بن عدي الكندي
فقال: يا أمير المؤمنين ! لا قرب الله مني إلى الجنة من لا يحب قربك، عليك بعادة
الله عندك، فإن الحق منصور، والشهادة أفضل الرياحين، اندب معي الناس المناصحين،
وكن لي فئة بكفايتك، والله فئة الإنسان وأهله، إن الشيطان لا يفارق قلوب أكثر
الناس حتى تفارق أرواحهم أبدانهم، فتهلل وأثنى على حجر جميلاً، وقال: لا حرمك الله
الشهادة، فإني أعلم أنك من رجالها.
وجلس علي في المسجد
فندب الناس، وانتدب أربعة آلاف، فسار بهم في طلب القوم، وأغذ المسير حتى لقيهم
بتدمر من عمل حمص، فقاتلهم فهزمهم، حتى انتهوا إلى الضحاك، وحجز بينهم الليل،
فأدلج الضحاك على وجهه منصرفا، وشن حجر بن عدي ومن معه الغارة في تلك
البلاد يومين
وليلتين، ثم أغار سفيان بن عوف على الأنبار، فقتل أشرس بن حسان البكري، فاتبعه علي
سعيد بن قيس، فلما أحس به انصرف مولياً، وتبعه سعيد إلى عانات، فلم يلحقه. وبعث
معاوية عبد الله بن مسعدة بن حذيفة بن بدر الفزاري في جريدة خيل، وأمره أن يقصد
المدينة ومكة، فسار في ألف وسبعمائة، فلما أتى علياً الخبر وجه المسيب بن نجبة
الفزاري، فقال له: يا مسيب! إنك ممن أثق بصلاحه وبأسه ونصيحته، فتوجه إلى هؤلاء
القوم وأثر فيهم، وإن كانوا قومك. فقال له المسيب: يا أمير المؤمنين! إن من سعادتي
أن كنت من ثقاتك، فخرج في ألفي رجل من همدان وطيء وغيرهم، وأغذ السير، وقدم
مقدمته، فلقوا عبد الله بن مسعدة، فقاتلوه، فلحقهم المسيب، فقاتلهم حتى أمكنه أخذ
ابن مسعدة، فجعل يتحاماه، وانهزم ابن مسعدة، فتحصن بتيماء، وأحاط المسيب بالحصن،
فحصر ابن مسعدة وأصحابه ثلاثا، فناداه: يا مسيب! إنما نحن قومك، فليمسك الرحم.
فخلى لابن مسعدة وأصحابه الطريق ونجا من الحصن.
فلما جنهم الليل خرجوا
من تحت ليلتهم حتى لحقوا بالشام، وصبح المسيب الحصن، فلم يجد أحداً، فقال عبد
الرحمن بن شبيب: داهنت والله يا مسيب في أمرهم، وغششت أمير المؤمنين، وقدم على علي
فقال له علي: يا مسيب! كنت من نصاحي، ثم فعلت ما فعلت! فحبسه أياماً، ثم أطلقه
وولاه قبض الصدقة بالكوفة.
ووجه معاوية بسر بن
أبي أرطأة، وقيل ابن أرطأة العامري، من بني عامر ابن لؤي، في ثلاثة آلاف رجل، فقال
له: سر حتى تمر بالمدينة، فاطرد أهلها، وأخف من مررت به، وأنهب مال كل من أصبت له
مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا، وأوهم أهل المدينة أنك تريد أنفسهم، وأنه لا براءة
لهم عندك، ولا عذر، وسر حتى تدخل مكة، ولا تعرض فيها لأحد، وأرهب الناس فيما بين
مكة والمدينة، واجعلهم شرادات، ثم امض حتى تأتي صنعاء، فإن لنا بها شيعة، وقد
جاءني كتابهم، فخرج بسر، فجعل لا يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمره معاوية،
حتى قدم المدينة، وعليها أبو أيوب الأنصاري، فتنحى عن المدينة، ودخل بسر، فصعد
المنبر ثم قال: يا أهل المدينة! مثل السوء لكم، قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها
رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما
كانوا يصنعون، ألا وإن الله قد أوقع بكم هذا المثل وجعلكم أهله، شاهت الوجوه، ثم
ما زال يشتمهم حتى نزل. قال: فانطلق جابر بن عبد الله الأنصاري إلى أم سلمة زوج
النبي، فقال: إني قد خشيت أن أقتل، وهذه بيعة ضلال، قالت: إذا فبايع، فإن التقية
حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب ويحضرون الأعياد مع قومهم، وهدم بسر
دورا بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، ثم مضى حتى أتى اليمن، وكان على اليمن عبيد
الله بن عباس، عامل علي، وبلغ علياً الخبر، فقام خطيبا فقال: أيها الناس! إن أول
نقصكم ذهاب أولي النهى والرأي منكم الذين يحدثون فيصدقون، ويقولون فيفعلون، وإني
قد دعوتكم عوداً وبداً، وسراً وجهراً، وليلاً ونهاراً، فما يزيدكم دعائي إلا
فراراً، ما ينفعكم الموعظة ولا الدعاء إلى الهدى والحكمة، أما والله إني لعالم بما
يصلحكم، ولكن في ذلك فسادي، أمهلوني قليلاً، فو الله لقد جاءكم من يحزنكم ويعذبكم
ويعذبه الله بكم، إن من ذل الإسلام وهلاك الدين إن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل
والأشرار فيجيبون، وأدعوكم، وأنتم لا تصلحون، فتراعون، هذا بسر قد صار إلى اليمن
وقبلها إلى مكة والمدينة.
فقام جارية بن قدامة
السعدي فقال: يا أمير المؤمنين! لا عد منا الله قربك، ولا أرانا فراقك، فنعم الأدب
أدبك، ونعم الإمام والله أنت أنا لهؤلاء القوم فسرحني إليهم! قال: تجهز، فإنك ما
علمتك رجل في الشدة والرخاء، المبارك الميمون النقيبة، ثم قام وهب بن مسعود
الخثعمي فقال: أنا انتدب يا أمير المؤمنين قال: انتدب، بارك الله عليك، فخرج جارية
في ألفين ووهب ابن مسعود في ألفين، وأمرهما على أن يطلبا بسرا حيث كان حتى يلحقاه،
فإذا اجتمعا فراس الناس جارية، فخرج جارية من البصرة ووهب من الكوفة، حتى التقيا
بأرض الحجاز، ونفذ بسر من الطائف، حتى قدم اليمن، وقد تنحى عبيد الله بن عباس عن
اليمن، واستخلف بها عبد الله بن عبد المدان الحارثي، فأتاه بسر فقتله، وقتل ابنه
مالك بن عبد الله، وقد كان عبيد الله خلف ابنيه عبد الرحمن وقثم عند جويرية ابنة
قارظ الكنانية، وهي أمهما، وخلف معها رجلاً من كنانة، فلما انتهى بسر إليها دعا
ابني عبيد الله ليقتلهما، فقام الكناني فانتضى سيفه وقال: والله لأقتلن دونهما
فألآقي عذراً لي عند الله والناس، فضارب بسيفه حتى قتل، وخرجت نسوة من بني كنانة
فقلن: يا بسر! هذا، الرجال يقتلون، فما بال الولدان، والله ما كانت الجاهلية
تقتلهم، والله إن سلطاناً لا يشتد إلا بقتل الصبيان ورفع الرحمة لسلطان سوء، فقال
بسر: والله لقد هممت أن أضع فيكن السيف، وقدم الطفلين فذبحهما، فقالت أمهما
ترثيهما:
ها من أحس بنيي
اللذين هما ... سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف
ها من أحس بنيي
اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
ها من أحس بنيي
اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف
نبئت بسراً وما صدقت
ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجي ابني
مرهفة ... مشحوذة وكذاك الأمر مقترف
من دل وإلهه خرى
وثاكلة ... على صبيين ضلا إذ غداً السلف
ثم جمع بسر أهل نجران
فقال: يا إخوان النصارى! أما والذي لا إله غيره لئن بلغني عنكم أمر أكرهه لأكثرن
قتلاكم ثم سار نحو جيشان، وهم شيعة لعلي، فقاتلهم، فهزمهم، وقتل فيهم قتلاً
ذريعاً، ثم رجع إلى صنعاء. وسار جارية بن قدامة السعدي حتى أتى نجران وطلب بسراً،
فهرب منه في الأرض، ولم يقم له، وقتل من أصحابه خلقا، واتبعهم بقتل وأسر حتى بلغ
مكة، ومر بسر حتى دخل الحجاز لا يلوي على شيء، فأخذ جارية بن قدامة أهل مكة
بالبيعة، فقالوا: قد هلك علي فلمن نبايع؟ قال: لمن بايع له أصحاب علي بعده،
فتثاقلوا، فقال: والله لتبايعن ولو بأستاهكم، فبايعوا ودخل المدينة، وقد اصطلحوا على
أبي هريرة فصلى بهم ففر منه أبو هريرة، فقال جارية: يا أهل المدينة بايعوا للحسن
بن علي! فبايعوا، ثم خرج يريد الكوفة فرد أهل المدينة أبا هريرة.
قال غياث عن فطر بن
خليفة: حدثني أبو خالد الوالبي قال: قرأت عهد علي لجارية بن قدامة: أوصيك يا جارية
بتقوى الله، فإنها جموع الخير، وسر على عون الله، فالق عدوك الذي وجهتك له، ولا
تقاتل إلا من قاتلك، ولا تجهز على جريح، ولا تسخرن دابة، وإن مشيت ومشى أصحابك،
ولا تستأثر على أهل المياه بمياههم، ولا تشربن إلا فضلهم عن طيب نفوسهم، ولا تشتمن
مسلما ولا مسلمة فتوجب على نفسك ما لعلك تؤدب غيرك عليه، ولا تظلمن معاهدا، ولا
معاهدة، واذكر الله، ولا تفتر ليلاً ولا نهاراً، واحملوا رجالتكم، وتواسوا في ذات
أيديكم، وأجدد السير، وأجل العدو من حيث كان، واقتله مقبلا، واردده بغيظه صاغراً،
وأسفك الدم في الحق، وأحقنه في الحق، ومن تاب فاقبل توبته، وإخبارك في كل حين بكل
حال، والصدق الصدق، فلا رأي لكذوب قال وحدث أبو الكنود أن جارية مر في طلب بسر فما
كان يلتفت إلى مدينة ولا يعرج على شيء حتى انتهى إلى اليمن ونجران، فقتل من قتل
وهرب منه بسر، وحرق تحريقا، فسمي محرقاً.
وكتب علي إلى عماله
يستحثهم بالخروج، فكتب إلى الأشعث بن قيس، وكان عامله باذربيجان: أما بعد، فإنما
غرك من نفسك وجراك على آخرك إملاء الله لك، إذ ما زلت قديما تأكل رزقه، وتلحد في
آياته، وتستمتع بخلاقك، وتذهب بحسناتك إلى يومك هذا، فإذا أتاك رسولي بكتابي هذا،
فأقبل، واحمل ما قبلك من مال المسلمين، إن شاء الله. فلما قرأ الأشعث كتابه أقبل
إليه.
وكتب إلى يزيد بن قيس
الأرحبي: أما بعد، فإنك أبطأت بحمل خراجك، وما أدري ما الذي حملك على ذلك. غير أني
أوصيك بتقوى الله وأحذرك أن تحبط أجرك وتبطل جهادك بخيانة المسلمين، فاتق الله
ونزه نفسك عن الحرام، ولا تجعل لي عليك سبيلاً، فلا أجد بداً من الإيقاع بك، واعزز
المسلمين ولا تظلم المعاهدين، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك
من الدنيا، أحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب
المفسدين.
وكتب إلى سعد بن
مسعود عم المختار بن أبي عبيد، وهو على المدائن: أما بعد، فإنك قد أديت خراجك،
وأطعت ربك، وأرضيت إمامك، فعل المبر التقي النجيب، فغفر الله ذنبك، وتقبل سعيك
وحسن مآبك.
وكتب إلى عمر بن أبي
سلمة المخزومي، وهو ابن أم سلمة زوج النبي، وكان عامله على البحرين: أما بعد، فإني
قد وليت النعمان بن العجلان البحرين بلا ذم لك، فأقبل، غير ظنين، واخرج إليه من
عمل ما وليت، فقد أردت الشخوص إلى ظلمة أهل الشام وبقية الأحزاب، فأحببت أن تشهد
معي لقاءهم، فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين ونصر الهدى، جعلنا الله وإياك من
الذين يعملون بالحق وبه يعدلون. فأقبل عمر، فشهد معه، ثم انصرف وتبع علياً إلى
الكوفة، فمكث معه سنة وبعض أخرى.
فبلغه أن النعمان بن
العجلان قد ذهب بمال البحرين، فكتب إليه علي: أما بعد، فإنه من استهان بالأمانة
ورغب في الخيانة، ولم ينزه نفسه ودينه، أخل بنفسه في الدنيا، وما يشفي عليه بعد
أمر وأبقى وأشقى وأطول، فخف الله! إنك من عشيرة ذات صلاح، فكن عند صالح الظن بك،
وراجع، إن كان حقاً ما بلغني عنك، ولا تقلبن رأيي فيك، واستنظف خراجك، ثم اكتب إلي
ليأتيك رأيي وأمري إن شاء الله. فلما جاءه كتاب علي، وعلم أنه قد علم حمل المال،
لحق معاوية. وكتب إلى مصقلة بن هبيرة، وبلغه أنه يفرق ويهب أموال أردشير خره، وكان
عليها: أما بعد، فقد بلغني عنك أمر أكبرت أن أصدقه إنك تقسم فيء المسلمين في
قومك ومن اعتراك من السألة والأحزاب وأهل الكذب من الشعراء، كما تقسم الجوز، فو
الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لأفتش عن ذلك تفتيشاً شافياً، فإن وجدته حقاً لتجدن
بنفسك علي هواناً، فلا تكونن من الخاسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة
الدنيا، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً.
فكتب مصقلة إليه: أما
بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين فليسأل إن كان حقا فليعجل عزلي بعد نكالي، فكل
مملوك لي حر، وعلى أيام ربيعة ومضر إن كنت رزأت من عملي ديناراً، ولا درهما، ولا
غيرهما، منذ وليته إلى أن ورد علي كتاب أمير المؤمنين، ولتعلمن أن العزل أهون علي
من التهمة. فلما قرأ كتابه قال: ما أظن أبا الفضل إلا صادقاً.
ووجه رجلاً من أصحابه
إلى بعض عماله مستحثاً، فاستخف به فكتب إليه: أما بعد، فإنك شتمت رسولي وزجرته،
وبلغني أنك تبخر وتكثر من الأدهان وألوان الطعام، وتتكلم على المنبر بكلام
الصديقين، وتفعل، إذا نزلت، أفعال المحلين، فإن يكن ذلك كذلك فنفسك ضررت وأدبي
تعرضت، ويحك أن تقول العظمة والكبرياء ردائي فمن نازعنيهما سخطت عليه، بل ما عليك
أن تدهن رفيها، فقد أمر رسول الله بذلك، وما حملك أن تشهد الناس عليك بخلاف ما
تقول، ثم على المنبر حيث يكثر عليك الشاهد، ويعظم مقت الله لك، بل كيف ترجو، وأنت
متهوع في النعيم جمعته من الأرملة واليتيم، أن يوجب الله لك أجر الصالحين، بل ما
عليك، ثكلتك أمك، لو صمت لله أياماً، وتصدقت بطائفة من طعامك، فإنها سيرة الأنبياء
وأدب الصالحين. أصلح نفسك وتب من ذنبك وأد حق الله عليك والسلام.
وكتب إلى قيس بن سعد
بن عبادة، وهو على آذربيجان: أما بعد، فأقبل على خراجك بالحق، وأحسن إلى جندك
بالإنصاف، وعلم من قبلك مما علمك الله، ثم أن عبد الله بن شبيل الأحمسي سألني
الكتاب إليك فيه بوصايتك به خيراً، فقد رأيته وادعاً متواضعاً، فألن حجابك وافتح
بابك، واعمد إلى الحق، فإن وافق الحق ما يحبو أسره، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل
الله. إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب.
قال غياث: ولما أجمع
علي القتال لمعاوية كتب أيضاً إلى قيس: أما بعد، فاستعمل عبد الله بن شبيل الأحمسي
خليفة لك، وأقبل إلي، فإن المسلمين قد أجمع ملؤهم وانقادت جماعتهم، فعجل الإقبال،
فأنا سأحضرن إلى المحلين عند غرة الهلال، إن شاء الله، وما تأخري إلا لك، قضى الله
لنا ولك بالإحسان في أمرنا كله.
وكتب إلى سهل بن
حنيف، وهو على المدينة: أما بعد، فقد بلغني أن رجالاً من أهل المدينة خرجوا إلى
معاوية، فمن أدركته فامنعه، ومن فاتك فلا تأس عليه، فبعدا لهم، فسوف يلقون غياً،
أما لو بعثرت القبور، واجتمعت الخصوم، لقد بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون،
وقد جاءني رسولك يسألني الإذن، فاقبل، عفا الله عنا وعنك، ولا تذر خللاً، إن شاء
الله تعالى.
وكتب علي إلى عمر بن
مسلمة الأرحبي: أما بعد، فإن دهاقين عملك شكوا غلظتك، ونظرت في أمرهم فما رأيت
خيراً، فلتكن منزلتك بين منزلتين: جلباب لين بطرف من الشدة في غير ظلم ولا نقص،
فإنهم أحيونا صاغرين، فخذ ما لك عندهم وهم صاغرون، ولا تتخذ من دون الله ولياً،
فقد قال الله عز وجل: لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، وقال جل وعز في
أهل الكتاب: لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، وقال تبارك وتعالى: ومن يتولهم
منكم فإنه منهم، وقرعهم بخراجهم. وقابل في ورائهم وإياك ودماءهم والسلام.
وكتب إلى قرظة بن كعب
الأنصاري: أما بعد، فإن رجالاً من أهل الذمة من عملك ذكروا نهراً في أرضهم قد عفا
وأدفن، وفيه لهم عمارة على المسلمين، فانظر أنت وهم، ثم أعمر وأصلح النهر، فلعمري
لأن يعمروا أحب إلينا من أن يخرجوا، وأن يعجزوا أو يقصروا في واجب من صلاح البلاد
والسلام. وكتب إلى المنذر بن الجارود، وهو على إصطخر: أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني
منك، فإذا أنت لا تدع انقياداً لهواك أزرى ذلك بك. بلغني أنك تدع عملك كثيراً،
وتخرج لاهيا بمنبرها، تطلب الصيد وتلعب بالكلاب، وأقسم لئن كان حقا لنثيبنك فعلك، وجاهل
أهلك خير منك، فأقبل إلي حين تنظر في كتابي والسلام.
فأقبل فعزله وأغرمه
ثلاثين ألفاً، ثم تركها لصعصعة بن صوحان بعد أن أحلفه عليها، فحلف، وذلك أن علياً
دخل على صعصعة يعوده، فلما رآه علي قال: إنك ما علمت حسن المونة خفيق المئونة.
فقال صعصعة: وأنت والله، يا أمير المؤمنين، عليم وأبة في صدرك عظيم. فقال له علي:
لا تجعلها أبهة على قومك إن عادك أمامك. قال: لا، يا أمير المؤمنين، ولكنه من من الله على أن عادني أهل البيت
وابن عم رسول رب العالمين. قال غياث فقال له صعصعة: يا أمير المؤمنين! هذه ابنة
الجارود تعصر عينيها كل يوم لحبسك أخاها المنذر، فأخرجه، وأنا أضمن ما عليه في
أعطيات ربيعة. فقال له علي: ولم تضمنها، وزعم لنا أنه لم يأخذها، فليحلف ونخرجه.
فقال له صعصعة: أراه والله سيحلف. قال: وأنا والله أظن ذلك. وقال علي: أما إنه نظار في عطفيه، مختال في برديه، نقال في شراكيه، فليحلف
بعد، أو ليدع فحلف فخلى سبيله.
وكتب إلى زياد وكان
عامله على فارس: أما بعد، فإن رسولي أخبرني بعجب زعم أنك قلت له فيما بينك وبينه:
إن الأكراد هاجت بك، فكسرت عليك كثيراً من الخراج، وقلت له: لا تعلم بذلك أمير
المؤمنين. يا زياد! وأقسم بالله إنك لكاذب، ولئن لم تبعث بخراجك لأشدن عليك شدة
تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، إلا أن تكون لما كسرت من الخراج محتملاً.
وكتب إلى كعب بن
مالك: أما بعد، فاستخلف على عملك، واخرج في طائفة من أصحابك حتى تمر بأرض كورة
السواد فتسأل عن عمالي وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب، ثم ارجع إلى
البهقباذات فتول معونتها، واعمل بطاعة الله فيما ولاك منها، واعلم أن كل عمل ابن
آدم محفوظ عليه مجزي به، فاصنع خيراً صنع الله بنا وبك خيراً، وأعلمني الصدق فيما
صنعت، والسلام.
قال:
وقدم على علي أبو
مريم القرشي المكي، كان صديقا له، فلما رآه قال: ما أقدمك يا أبا مريم؟ قال: والله
ما جئت في حاجة، ولكن عهدي بك قديم، فأحببت أن أراك، ولو اجتمع أهل الأرض عليك
لأقمتم على الطريق. فقال: يا أبا مريم، والله إني لصاحبك الذي تعلم، ولكن منيت
بشرار خلق الله إلا من رحم الله، يدعونني فأبى عليهم ثم أجيبهم، فيتفرقون عني، والدنيا
محنة الصالحين، جعلنا الله وإياك منهم، ولو لا ما سمعت من حبيبي أنه يقول لضاق
ذرعي غير هذا الضيق، سمعته يقول: الجهد والبلاء أسرع إلى من أحب الله وأحبني من السيل إلى مجاريه. وكتب
أبو الأسود الدئلي، وكان خليفة عبد الله بن عباس بالبصرة، إلى علي يعلمه أن عبد
الله أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم، فكتب إليه يأمره بردها، فامتنع، فكتب يقسم
له بالله لتردنها، فلما ردها عبد الله بن عباس، أو رد أكثرها، كتب إليه علي: أما
بعد، فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فما أتاك
من الدنيا فلا تكثر به فرحاً، وما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعاً، واجعل همك لما
بعد الموت، والسلام. فكان ابن عباس يقول: ما اتعظت بكلام قط اتعاظي بكلام أمير
المؤمنين.
وقال كميل بن زياد:
وأخذ بيدي علي، فأخرجني إلى ناحية الجبانة، فلما أصحر تنفس الصعداء ثلاثا، ثم قال:
يا كميل، إن القلوب أوعية فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالم
رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم،
ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. يا كميل! العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والعلم حاكم،
والمال محكوم عليه، مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر،
أعيانهم مفقودة وأمثلتهم في القلوب موجودة، ها إن هاهنا، وأشار إلى صدره، لعلما
جما لو أصبت له حملة اللهم إلا أن أصيب لقنا غير مأفون يستعمل آلة الدين في طلب
الدنيا ويستظهر بحجج الله على أوليائه وبنعمه على خلقه، أو منقاداً لحملة الحق لا
بصيرة في إحيائه، يقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذاك، أو
منهوماً باللذة، سلس القيادة للشهوة، أو مغرماً بالجمع والادخار، ليسوا من رعاة
الدين في شيء، أقرب شبها بهم الأنعام السائمة، اللهم كلا! لا تخلو الأرض من قائم
بحق إما ظاهر مشهور، وإما خائب مغمور، لئلا يبطل حجج الله عز وجل وبيناته أولئك
الأقلون عددا، والأعظمون خطراً، هجم بهم العلم، حتى حقائق الأمور، وباشروا روح
اليقين، فاستلانوا ما استوعر المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا
الدنيا بأبدان، أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، يا كميل أولئك أولياء الله من خلقه
والدعاة إلى دينه، بهم يحفظ الله حججه، حتى يودعوها أمثالهم، ويزرعوها في قلوب
أشباههم، هاه شوقاً إلى رؤيتهم. وقال: لو أن حملة العلم حملوه لحقه لأحبهم الله
وملائكته وأهل طاعته من خلقه، ولكنهم حملوه لطلب الدنيا، فمنعهم الله، وهانوا على
الناس. وقال: قيمة كل امرئ ما يحسن.
وقال:
أيها الناس لا ترجوا
إلا ربكم، ولا تخشوا إلا ذنوبكم، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحي من
يعلم أن يعلم، واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
وقال:
من كان يريد العز بلا
عشيرة، والنسل بلا كثرة، والغناء بلا مال، فليتحول من ذل المعصية إلى عز الطاعة.
وقال: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مغرور بالستر عليه، وكم من مفتون بحسن
القول فيه. وما ابتلي أحد بمثل الإملاء له، ألم تسمع قول الله عز وجل: " إنما
نملي لهم ليزدادوا إثماً " . وقال: من اشتاق إلى الجنة تسلى عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن
المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات.
وخطب فتلا قول الله
عز وجل: " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في
إمام مبين " . ثم قال: إن هذا الأمر ينزل من السماء كقطر المطر إلى كل نفس
بما كتب الله لها من نقصان في نفس أو أهل أو مال، فمن أصابه نقص في أهله وماله،
ورأى عند أخيه عفوه، فلا يكونن ذلك عليه فتنة، فإن المرء المسلم ما لم يأت دنياه
يخشع لها وتذله، إذا
ذكرت تغرى به ليألم.
الناس كالياسر ألفاًلح الذي ينتظر أول فوزه من قداحه يوجب له المغنم، ويدفع عنه
المغرم، كذلك المرء البريء من الخيانة والكذب يترقب كل يوم وليلة إحدى الحسنيين:
إما داعي الله فما عند الله خير له، وإما فتحا من الله، فإذا هو ذو أهل ومال، ومعه
حسبه ودينه. المال والبنون حزب الدنيا، والعمل الصالح حزب الآخرة، وقد يجمعهم الله
لأقوام.
وقال: من عامل الناس
فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، كان ممن حرمت غيبته، وكملت
مروته، وظهر عدله، ووجب وصله.
وخرج يوماً فقال: يا
طالب العلم! إن للعالم ثلاث علامات: العلم بالله، وبما يحب الله، وبما يكره الله:
وللعامل ثلاث علامات: الصلاة، والزكاة، والورع. وللمتكلف من الرجال ثلاث علامات: ينازع من هو فوقه، ويقول بما لا
يعلم، ويتعاطى ما لا ينال. وللظالم ثلاث علامات يظلم من هو فوقه بالمعصية، ومن هو
دونه بالغلبة، ويظاهر الظلمة والإثم. وللمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده،
وينشط إذا كان من يراه، ويحب أن يحمد في جميع أموره. وللحاسد ثلاث علامات: يغتاب
إذا غاب، ويتقرب إذا شهد، ويشمت بالمصيبة. وللمنافق ثلاث علامات: يخالف لسانه
قلبه، وقوله فعله، وعلانيته سريرته. وللمسرف ثلاث علامات: يأكل ما ليس له، ويشرب
ما ليس له، ويلبس ما ليس له. وللكسلان من الرجال ثلاث علامات: يتوانى حتى يفرط،
ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم. وإنما هلك الذين قبلكم بالتكلف، فلا يتكلف رجل منكم أن يتكلم في دين
الله بما لا يعرف، فإن الله عز وجل يعذر على الخطإ إن أجهدت رأيك.
وقال لعمر بن الخطاب:
ثلاث إن حفظتهن وعملت بهن كفيتك ما سواهن، وإن تركتهن، فلا ينفعك شيء سواهن. قال:
وما هن؟ فقال: الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط،
والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود. فقال له عمر: أبلغت وأوجزت.
وسمع رجلاً يذم
الدنيا، فقال: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن
تزود منها، مسجد أحباء الله، ومهبط وحيه، ومصلى ملائكته، ومتجر أوليائه، اكتسبوا
فيها الرحمة فربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها، وقد أذنت ببينها، ونادت بفراقها،
ونعت نفسها وأهلها، مثلت ببلاها البلا، وشوقت بسرورها السرور، راحت بفجيعة، وأبكرت
بعافية ترغيباً وترهيباً وتحذيراً وتخويفاً، ذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون
ذكرتهم فذكروا، وحدثتهم فصدقوا، فيا ذام الدنيا، المغتر بغرورها! متى استذمت إليك
بل متى غرتك؟ أبمضاجع آبائك من البلى، أو بمنازل أمهاتك من الثرى؟ كم مرضت بيديك،
وعللت بكفيك، من تبتغي له الشفاء وتستوصف له الأطباء، فلم ينفعه تطبيبك ولم يستعف
له بعافيتك، مثلت به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك، غداة لا يغني عنك بكاؤك ولا
ينفعك أحباؤك.
وخطب فقال: إن من
أخوف ما أخاف عليكم خصلتين: اتباع الهوى، وطول الأمل. فأما طول الأمل فينسي
الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق. من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، له
قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا، إن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي وجمالي وبهائي
وعلوي وارتفاعي في مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا جعلت همه في الآخرة وغناءه
في قلبه، وضمنت السموات والأرض رزقه، وأتته الدنيا وهي راغمة.
وقال:
حصر بالبلاء من عرف
الناس، ومن جهلهم عاش معهم. وقال: يأتي على الناس زمان لا يعز فيه إلا الماحل، ولا
يستظرف إلا الفاجر، ولا يضعف إلا المنصف، يتخذون الفيء مغنماً، والصدقة مغرماً،
والعبادة استطالة على الناس، وصلة الرحم منا، والعلم متجراً، فعند ذلك يكون سلطان
النساء ومشورة الإماء وإمارة الصبيان.
وقال:
لا تصلح الناس إمارة
يعمل فيها المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ فيها الكتاب الأجل. وغزا فقال لرجل:
لئن جزعت إن الرحم ليستحق ذاك، وإن صبرت كأني بها مأجوراً، وإلا صبرت كارهاً
مأزوراً. وقيل لعلي: كم بين السماء والأرض؟ قال: دعوة مظلوم. وقيل له: كم مسافة
الدنيا؟ فقال: مسير الشمس يوماً إلى الليل. وقال يوم الجمل: الموت طالب حثيث لا
يعجزه المقيم، ولا يفوته الهارب، أقدموا ولا تنكلوا ليس عن الموت محيص، إنكم إن لم
تقتلوا تموتوا، وإن أشرف الموت القتل، والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من
موت على فراش.
وقال له رجل: أوصني.
فقال: أوصيك بتقوى الله، واجتناب الغضب، وترك الأماني، وأن تحافظ على ساعتين من
النهار: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ومن العصر إلى غروبها، ولا تفرح بما علمت،
ولكن بما عملت فيها.
وأتي برجل جنى جناية،
فرأى ناسا يعدون خلفه، فقال: لا مرحباً بوجوه لا ترى إلا عند كل سوء. وقال له
الحارث بن حوط الراني: أظن طلحة والزبير وعائشة اجتمعوا على باطل، فقال: يا حارث!
إنه ملبوس عليك، وإن الحق والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق تعرف أهله،
واعرف الباطل تعرف من أتاه.
ورأى رجلاً يسأله
عشية عرفة، فقال: ويحك تسأل في هذا اليوم غير الله! وروي عنه أنه قال: يا معشر
الفتيان حصنوا أعراضكم بالأدب ودينكم بالعلم. وكان إذا انصرف من صلاته أقبل على
الناس بوجهه فقال: كونوا مصابيح الهدى، ولا تكونوا أعلام ضلالة، واكرهوا المزاح
بما يسخط الله، وليهن عليكم الذم فيما يرضى الله، علموا الناس الخير بعبر ألسنتكم،
وكونوا دعاة لهم بفعلكم، والزموا الصدق والورع.
وقال:
الصمت حلم، والسكوت
سلامة، والكتمان سعادة. واجتمع عنده جماعة فتذاكروا المعروف، فقال: المعروف كنز من
أفضل الكنوز، وزرع من أزكى الزروع، فلا يزهدنكم في المعروف كفر من كفره وجحد من
جحده، فإن من يشكرك عليه ممن لم يصل إليه منه شيء أعظم مما ناله أهل منه، فلا
تلتمس من غيرك ما أسديت إلى نفسك، إن المعروف لا يتم إلا بثلاث خصال: تصغيره،
وستره، وتعجيله، فإذا صغرته فقد عظمته، وإذا سترته فقد أتممته، وإذا عجلته فقد
هنأته.
وقدم عليه قوم من أهل
الغرب فقال لهم: أ فيكم من قد شهر نفسه حتى لا يعرف إلا به؟ فقالوا: نعم! قال:
وفيكم قوم بين ذلك يتصونون من السيئات ويعملون الحسنات؟ قالوا: نعم! قال أولئك خير
أمه محمد، أولئك النمرقة الوسطى، بهم يرجع الغالي، وبهم يلحق المقصر.
وروي عنه أنه قال:
ألهم البهائم كل شيء إلا أربع خصال: أن الله عز وجل خالقها ورازقها... وإتيان
الذكر الأنثى، والفرار من الموت، وطلب الرزق.
وقال:
ستة لا يسلم عليهم:
اليهودي، والنصراني والمجوسي، والشاعر يقذف المحصنات، وقوم يتفكهون بسب الأمهات،
وقوم على مائدة يشرب عليها الخمر.
وقال:
الأئمة من قريش
خيارهم على خيارهم، وشرارهم على شرارهم. وقضى على رجل بقضية فقال: يا أمير
المؤمنين! قضيت علي بقضية هلك فيها مالي، وضاع فيها عيالي! فغضب حتى استبان الغضب
في وجهه، ثم قال: يا قنبر! ناد في الناس الصلاة جامعة. فاجتمع الناس ورقي المنبر،
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فذمتي رهينة، وأنا به زعيم، بجميع من صرحت له العبر إلا يهيج
على التقوى زرع قوم، ولا يظمأ على التقوى سنخ أصل، وإن الخير كله فيمن عرف قدره،
وكفى بالمرء جهلاً ألا يعرف قدره، إن من أبغض خلق الله إلى الله العبد وكله إلى
نفسه جائراً عن قصد السبيل، مشغوفاً بكلام بدعة، قد قمس في أشباهه من الناس
عشواء، غارا بأغباش
الفتنة قد لهج فيها بالصوم والصلاة، فهو فتنة على من تبعه، قد سماه أشباه الناس
عالما، ولم يغن فيه يوماً، سالما بكر، فاستكثر مما قل منه، فهو خير مما كثر، حتى
إذا ارتوى من آجن، وأكثر من غير طائل، جلس بين الناس قاضياً، ضامناً بتخليص ما
التبس على غيره، إن قايس شيئاً بشيء لم يكذب نفسه، وإن التبس عليه شيء كتمه من
نفسه لكيلا يقال لا يعلم، ولا مليء والله بإصدار ما ورد عليه، ولا هو أهل بما قرظ
به من حسن، مفتاح عشوات، خباط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعرض في
العلم ببصيرة، يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم، تصرخ منه الدماء، وتبكي منه
المواريث، ويستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرم بمرضاته الفرج الحلال، فأين يتاه
بكم، بل أين تذهبون عن أهل بيت نبيكم؟ أنا من سنخ أصلاب أصحاب السفينة، وكما نجا
في هاتيك من نجا ينجو في هذه من ينجو، ويل رهين لمن تخلف عنهم، إني فيكم كالكهف
لأهل الكهف، وإني فيكم باب حطة من دخل منه نجا، ومن تخلف عنه هلك، حجة من ذي الحجة
في حجة الوداع، إني قد تركت بين أظهركم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب
الله وعترتي أهل بيتي وحكم بأحكام عجيبة، حتى أنه حرق قوما، ودخن على آخرين، وقطع
بعض أصابع اليد في السرقة، وهدم حائطا على اثنين وجدهما على فسق، وكان يقول:
استتروا ببيوتكم، والتوبة وراءكم، من أبدى صفحته للحق هلك، إن الله أدب هذه الأمة
بالسوط والسيف، وليس لأحد عند الإمام هوادة.
وقدم عبد الرحمن بن
ملجم المرادي الكوفة لعشر بقين من شعبان سنة أربعين، فلما بلغ علياً قدومه قال:
وقد وافى؟ أما إنه ما بقي على غيره، هذا أو إنه، فنزل على الأشعث بن قيس الكندي،
فأقام عنده شهراً يستحد سيفه، وكانوا ثلاثة نفر توجهوا، فواحد منهم إلى معاوية
بالشام، وآخر إلى عمرو بن العاص بمصر، والآخر إلى علي، وهو ابن ملجم، فأما صاحب
معاوية فضربه، فوقعت الضربة على أليته، وبادر فدخل داره، وأما صاحب عمرو بن العاص
فإنه ضرب خارجة بن حذافة خليفة عمرو في الصبح، وكان عمرو تخلف لعلة، فقال الخارجي:
أردت عمرا وأراد الله خارجة، وأما عبد الرحمن بن ملجم، فإنه وقف له عند المسجد،
وخرج علي في الغلس، فتبعه إوز كن في الدار، فتعلقن بثوبه، فقال: صوائح تتبعها نوائح،
وأدخل رأسه من باب خوخة المسجد، وضربه على رأسه، فسقط، وصاح: خذوه! فابتدره الناس،
فجعل لا يقرب منه أحد إلا نفحة بسيفه، فبادر إليه قثم بن العباس، فاحتمله وضرب به
الأرض، فصاح: يا علي نح عني كلبك، وأتي به إلى علي، فقال: ابن ملجم؟ قال: نعم! فقال: يا حسن شأنك بخصمك، فأشبع بطنه، واشدد
وثاقه، فإن مت فألحقه بي أخاصمه عند ربي، وإن عشت فعفو أو قصاص. وأقام يومين ومات
ليلة الجمعة أول ليلة من العشر الأواخر من شهر رمضان سنة أربعين، ومن شهور العجم
في كانون الآخر، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وغسله الحسن ابنه بيده، وصلى عليه وكبر
عليه سبعا، وقال: أما إنه لا يكبر على أحد بعده، ودفن بالكوفة في موضع يقال له
الغري، وكانت خلافته أربع سنين وعشرة أشهر.
وكان له من الولد
الذكور أربعة عشر ذكرا: الحسن، والحسين، ومحسن، مات صغيرا، أمهم فاطمة بنت رسول
الله، ومحمد الأكبر، أمه خولة بنت جعفر الحنفية، وعبيد الله، وأبو بكر، لا عقب
لهما، أمهما ليلى بنت مسعود الحنظلية من بني تميم، والعباس وجعفر قتلا بالطف،
وعثمان وعبد الله، أمهم أم البنين بنت حرام الكلابية، وعمرو، أمه أم حبيب بنت
ربيعة البكرية، ومحمد الأصغر، لا عقب له، أمه أمامة بنت أبي العاص، وعثمان الأصغر
ويحيى وأمهما أسماء بنت عميس الخثعمية، وكان له من البنات ثماني عشرة ابنة، منهن
من فاطمة ثلاث، والباقيات لعدة نسوة، وأمهات أولاد شتى، وكان على شرطة معقل بن قيس
الرياحي، وحاجبه قنبر مولاه.
ولما مات قام الحسن
خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، ثم قال: ألا إنه قد مضى في هذه
الليلة رجل لم يدركه الأولون، ولن يرى مثله الآخرون، من كان يقاتل وجبريل عن يمينه
وميكائيل عن شماله، والله لقد توفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران، ورفع
فيها عيسى بن مريم، وأنزل القرآن، ألا وإنه ما خلف صفراً ولا بيضاً إلا سبعمائة
درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله. فقام القعقاع بن زرارة على
قبره، فقال: رضوان الله عليك، يا أمير المؤمنين، فو الله لقد كانت حياتك مفتاح
خير، ولو أن الناس قبلوك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم غمطوا النعمة،
وآثروا الدنيا على الآخرة.
وأقام الحج للناس في
خلافته في سنة ستة وثلاثون عبد الله بن العباس، وفي سنة سبع وثلاثون قثم بن
العباس، وقيل عبد الله بن العباس، وفي سنة ثمان وثلاثون عبيد الله بن العباس، وفي
سنة تسع وثلاثون شيبة بن عثمان. وكان أصحاب علي الذين يحملون عنه العلم: الحارث
الأعور، أبو الطفيل عامر بن واثلة، حبة العرني، رشيد الهجري، حويزة بن مسهر،
الأصبغ بن نباتة، ميثم التمار، الحسن بن علي.
خلافة الحسن بن
عليواجتمع الناس، فبايعوا الحسن بن علي، وخرج الحسن بن علي إلى المسجد الجامع،
فخطب خطبة له طويلة، ودعا بعبد الرحمن بن ملجم فقال: عبد الرحمن! ما الذي أمرك به
أبوك؟ قال: أمرني ألا أقتل غير قاتله، وأن أشبع بطنك، وأنعم وطاءك، فإن عاش اقتص
أو أعفو، وإن مات ألحقتك به. فقال ابن ملجم: إن كان أبوك ليقول الحق ويقضي به في
حال الغضب والرضا، فضربه الحسن بالسيف فالتقاه بيده فندرت، وقتله.
وأقام الحسن بن علي
بعد أبيه شهرين، وقيل أربعة أشهر، ووجه بعبيد الله ابن العباس في اثني عشر ألفاً
لقتال معاوية، ومعه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وأمر عبيد الله أن يعمل بأمر
قيس بن سعد ورأيه، فسار إلى ناحية الجزيرة، وأقبل معاوية لما انتهى إليه الخبر
بقتل علي، فسار إلى الموصل بعد قتل علي بثمانية عشر يوماً، والتقى العسكران، فوجه
معاوية إلى قيس بن سعد يبذل له ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف عنه، فأرسل
إليه بالمال، وقال له: تخدعني عن ديني! فيقال: إنه أرسل إلى عبيد الله بن عباس
وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس على محاربته.
وكان معاوية يدس إلى
عسكر الحسن من يتحدث أن قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه، ويوجه إلى عسكر قيس
من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية، وأجابه.
ووجه معاوية إلى
الحسن المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عامر بن كريز وعبد الرحمن بن أم الحكم،
وأتوه، وهو بالمدائن نازل في مضاربه، ثم خرجوا من عنده، وهم يقولون ويسمعون الناس:
إن الله قد حقن بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدماء، وسكن به الفتنة وأجاب
إلى الصلح، فاضطرب العسكر ولم يشكك الناس في صدقهم، فوثبوا بالحسن فانتهبوا مضاربه
وما فيها، فركب الحسن فرسا له ومضى في مظلم ساباط، وقد كمن الجراح بن سنان الأسدي،
فجرحه بمعول في فخذه، وقبض على لحية الجراح ثم لواها فدق عنقه.
وحمل الحسن إلى
المدائن وقد نزف نزفا شديدا، واشتدت به العلة، فافترق عنه الناس، وقدم معاوية
العراق، فغلب على الأمر، والحسن عليل شديد العلة، فلما رأى الحسن أن لا قوة به،
وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له، صالح معاوية، وصعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه، وقال: أيها الناس! إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم باخرنا، وقد
سالمت معاوية، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
أيام معاوية بن أبي
سفيانوملك معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وأمه هند بنت عتبة بن
ربيعة بن عبد شمس، وبويع بالكوفة في ذي القعدة سنة أربعين، وكانت الشمس في الحمل
درجتين، والقمر في الثور خمس عشرة درجة، وزحل في العقرب تسعاً وعشرين درجة،
والمشتري في الثور تسعاً وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والمريخ في الثور ست عشرة
درجة، والزهرة في الثور أربع درجات، وعطارد في الحوت ست عشرة درجة. وقدم الكوفة
فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد ذلكم، فإنه لم تختلف أمه بعد
نبيها إلا غلب باطلها حقها، إلا ما كان من هذه الأمة، فإن حقها غلب باطلها. ثم نزل.
وأحضر الناس لبيعته،
وكان الرجل يحضر فيقول: والله يا معاوية! إني لأبايعك، وإني لكاره لك، فيقول:
بايع، فإن الله قد جعل في المكروه خيراً كثيراً، ويأبى الآخر فيقول: أعوذ بالله من
شر نفسك! وأتاه قيس بن سعد بن عبادة فقال: بايع قيس! قال: إن كنت لأكره مثل هذا
اليوم، يا معاوية. فقال له: مه، رحمك الله! فقال: لقد حرصت أن أفرق بين روحك وجسدك
قبل ذلك، فأبى الله، يا ابن أبي سفيان، إلا ما أحب.
قال:
فلا يرد أمر الله.
قال: فأقبل قيس على الناس بوجهه، فقال: يا معشر الناس! لقد اعتضتم الشر من الخير، واستبدلتم الذل من العز، والكفر من
الإيمان، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وابن عم رسول رب
العالمين، وقد وليكم الطليق ابن الطليق يسومكم الخسف، ويسير فيكم بالعسف، فكيف
نجهل ذلك أنفسكم، أم طبع الله على قلوبكم، وأنتم لا تعقلون؟ فجثا معاوية على
ركبتيه ثم أخذ بيده وقال: أقسمت عليك! ثم صفق على كفه، ونادى الناس: بايع قيس!
فقال، كذبتم، والله، ما بايعت، ولم يبايع لمعاوية أحد إلا أخذ عليه الأيمان، فكان
أول من استحلف على بيعته، ودخل إليه سعد بن مالك فقال: السلام عليك أيها الملك.
فغضب معاوية فقال: أ لا قلت السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذاك إن كنا أمرناك
إنما أنت منتز.
وخرج فروة بن نوفل
الأشجعي سنة أربعين، وكان معتزلا بشهرزور في جماعة من الخوارج، فلما بلغه قتل علي
وغلبة معاوية أقبل في ألف وخمسمائة حتى صار بالنخيلة، فوجه إليه معاوية خيلا،
فكشفهم، فأخذ معاوية أهل الكوفة بالخروج إليهم، فخرجوا خوفا منه، فلما لقوهم قال
لهم فروة بن نوفل: دعونا فإن معاوية عدونا وعدوكم، فقاتلهم أهل الكوفة أشد قتال،
حتى قتل فروة، وأفرخ روع معاوية.
ورجع معاوية إلى
الشام سنة أحدى وأربعون، وبلغه أن طاغية الروم قد زحف في جموع كثيرة وخلق عظيم،
فخاف أن يشغله عما يحتاج إلى تدبيره وإحكامه، فوجه إليه، فصالحه على مائة ألف
دينار.
وكان معاوية أول من
صالح الروم. وكان صلحه إياهم في أول سنة اثنتن وأربعون، فلما استقام الأمر لمعاوية
أغزى أمراء الشام على الصوائف، فسبوا في بلاد الروم سنة بعد سنة، وقد ذكرنا
أسماءهم في موضع الصوائف. وطلب صاحب الروم الصلح على أن يضعف المال، فلم يجبه.
وولي عبد الله بن عامر بن كريز البصرة، فلما قدمها وجه عبد الرحمن ابن سمرة إلى
خراسان، فغزا بلخ وكابل، ومعه عبد الله بن خازم السلمي، فافتتح بلخ بعد حرب شديدة،
وصار إلى كابل، فأقام عليها ليالي، ثم أتاه بواب باب المدينة، فجعل له شيئاً حتى
فتح الباب، وكانت الحرب في المدينة، ثم طلبوا الصلح، فصالحهم ابن سمرة، وانصرف
وخلف ابن خازم بخراسان. وولى معاوية عبد الله بن دراج مولاه خراج العراق، وكتب
إليه: احمل إلي من مالها ما أستعين به! فكتب إليه ابن دراج يعلمه أن الدهاقين
أعلموه أنه كان لكسرى وآل كسرى صوافي يجتبون مالها لأنفسهم ولا تجري مجرى الخراج.
فكتب إليه: أن أحص تلك الصوافي واستصفها، واضرب عليها المسنيات. فجمع الدهاقين،
فسألهم، فقالوا: الديوان بحلوان. فبعث فأتي به، فاستخرج منه كل ما كان لكسرى وآل
كسرى، وضرب عليه المسنيات، واستصفاه لمعاوية، فبلغت جبايته خمسين ألف ألف درهم من
أرض الكوفة وسوادها.
وكتب إلى عبد الرحمن
بن أبي بكرة بمثل ذلك في أرض البصرة، وأمرهم أن يحملوا إليه هدايا النيروز
والمهرجان، فكان يحمل إليه في النيروز وغيره وفي المهرجان عشرة آلاف ألف.
وكان زياد بن عبيد
عامل علي بن أبي طالب على فارس، فلما صار الأمر إلى معاوية كتب إليه يتوعده
ويتهدده فقام زياد خطيباً فقال: إن ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق وبقية الأحزاب
كتب يتوعدني ويتهددني، وبيني وبينه ابنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في
تسعين ألفاً واضعي قبائع سيوفهم تحت أذقانهم لا يلتفت أحدهم حتى يموت، أما والله
لئن وصل إلي ليجدنى
أحمز، ضرابا بالسيف.
فوجه معاوية إليه المغيرة بن شعبة، فأقدمه ثم ادعاه، وألحقه بأبي سفيان، وولاه
البصرة، وأحضر زياد شهودا أربعة، فشهد أحدهم أن علي بن أبي طالب أعلمه انهم كانوا
جلوساً عند عمر بن الخطاب حين أتاه زياد برسالة أبي موسى الأشعري، فتكلم زياد
بكلام أعجبه، فقال: أكنت قائلا للناس هذا على المنبر؟ قال: هم أهون علي منك، يا
أمير المؤمنين، فقال أبو سفيان: والله لهو ابني، ولأنا وضعته في رحم أمه. قلت: فما
يمنعك من ادعائه؟ قال: مخافة هذا العير الناهق.
وتقدم آخر فشهد على
هذه الشهادة. قال زياد الهمداني: لما سأله زياد كيف قولك في علي؟ قال: مثل قولك
حين ولاك فارس، وشهد لك أنك ابن أبي سفيان.
وتقدم أبو مريم
السلولي فقال: ما أدري ما شهادة علي، ولكني كنت خماراً بالطائف، فمر بي أبو سفيان
منصرفا من سفر له، فطعم وشرب، ثم قال: يا أبا مريم طالت الغربة، فهل من بغي؟ فقلت:
ما أجد لك إلا أمه بني عجلان قال: فأتني بها على ما كان من طول ثدييها ونتن رفغها،
فأتيته بها، فوقع عليها، ثم رجع إلي فقال لي: يا أبا مريم! لاستلت ماء ظهري
استلالاً تثيب ابن الحبل في عينها. فقال له زياد: إنما أتينا بك شاهداً، ولم نأت بك شاتماً. قال: أقول
الحق على ما كان، فأنفذ معاوية... قال ما قد بلغكم وشهد بما سمعتم، فإن كان ما
قالوا حقا، فالحمد لله الذي حفظ مني ما ضيع الناس، ورفع مني ما وضعوا، وإن كان
باطلاً، فمعاوية والشهود أعلم. وما كان عبيد إلا ولداً مبروراً مشكوراً. ونزل وولي
المغيرة ابن شعبة الكوفة في جمادى... سنة اثنان وأربعون فأقام عليها حينا، ثم بدا
له وولى عبد الله بن عامر بن كريز الكوفة، فلما بلغ أهل الكوفة الخبر خرج كثير من
الناس إلى عبد الله بن عامر، فجعل المغيرة لا يسأل عن أحد إلا قيل له قد خرج إلى
عبد الله بن عامر، حتى سأل عن كاتبه، فقيل له: قد لحق بعبد الله، فقال: يا غلام شد
رحلي وقدم بغلي، فخرج حتى أتى دمشق، فدخل على معاوية، فلما رآه قال: ما أقدمك يا
مغيرة، تركت العمل، وأخللت بالمصر وأهل العراق وهم أسرع شيء إلى الفتن؟ قال: يا
أمير المؤمنين كبرت سني، وضعفت قوتي، وعجزت عن العمل، وقد بلغت من الدنيا حاجتي،
والله ما آسى على شيء منها إلا على شيء واحد قدرت به قضاء حقك، ووددت أنه لا
يفوتني أجلي وإن الله أحسن عليه معونتي. قال: وما هو؟ قال: كنت دعوت أشراف الكوفة إلى البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين بولاية
العهد بعد أمير المؤمنين، فأجابوا إلى ذلك، ووجدتهم سراعا نحوه، فكرهت أن أحدث
أمرا دون رأي أمير المؤمنين، فقدمت لأشافهه بذلك، وأستعفيه من العمل. فقال:
سبحان الله يا أبا
عبد الرحمن! إنما يزيد ابن أخيك، ومثلك إذا شرع في أمر لم يدعه حتى يحكمه، فنشدتك
الله إلا رجعت فتممت هذا. فخرج من عنده، فلقي كاتبه، فقال: ارجع بنا إلى الكوفة،
فو الله لقد وضعت رجل معاوية في غرز لا يخرجها منه إلا سفك الدماء. وانصرف إلى
الكوفة.
وكتب معاوية إلى
زياد، وهو بالبصرة، إن المغيرة قد دعا أهل الكوفة إلى البيعة ليزيد بولاية العهد
بعدي، وليس المغيرة بأحق بابن أخيك منك، فإذا وصل إليك كتابي فادع الناس قبلك إلى
مثل ما دعاهم إليه المغيرة، وخذ عليهم البيعة ليزيد. فلما بلغ زياداً وقرأ الكتاب
دعا برجل من أصحابه يثق بفضله وفهمه، فقال: إني أريد أن آتمنك على ما لم آتمن عليه
بطون الصحائف، ايت معاوية فقل له: يا أمير المؤمنين إن كتابك ورد علي بكذا، فما
يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغ،
ويدمن الشراب، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد
الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، ولكن تأمره، ويتخلق بأخلاق هؤلاء حولاً وحولين،
فعسينا أن نموه على الناس. فلما صار الرسول إلى معاوية وأدى إليه الرسالة قال:
ويلي على ابن عبيد! لقد بلغني أن الحادي حدا له أن الأمير بعدي زياد، والله لأردنه
إلى أمه سمية، وإلى أبيه عبيد.
وقدم المغيرة الكوفة
منصرفا من عند معاوية، وقد خرج شبيب بن بجرة الأشجعي الخارجي، فلما
علم أن قدم المغيرة
هرب إلى معاوية فقال: أنا قاتل علي بن أبي طالب، وكان شبيب بن بجرة مع ابن ملجم في
الليلة التي ضرب فيها علياً، فقال له معاوية: لا أراك ولا تراني. فرجع إلى الكوفة
فقاتل المغيرة، فوجه إليه جيشا فقتله.
وخرج المستورد بن
علفة التيمي من تيم الرباب سنة ثلاث وأربعون فوجه إليه المغيرة خيلاً، فقتل بأسفل
ساباط، وقتل أصحابه جميعاً. وخرج بعده معاذ بن جوين الطائي أبو المستورد، فوجه
إليه المغيرة خيلا عليها رجل من همدان، فقتلوه.
وخرجت عصابة من
الموالي، أميرهم أبو علي من أهل الكوفة، وهو مولى لبني الحارث بن كعب، وكانت أول
خارجة خرجت فيها الموالي، فبعث المغيرة إليهم رجلاً من بجيلة، فالتقوا ببادوريا،
فناداهم البجلي: يا معشر الأعاجم! هذه العرب تقاتلنا على الدين، فما بالكم؟
فنادوه: يا جابر! إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد، فآمنا به، ولن نشرك بربنا
أحداً، وإن الله بعث نبينا للناس كافة، ولم يزوه عن أحد. فقاتلهم حتى قتلهم.
وكانت مصر والمغرب
لعمرو بن العاص طعمة شرطها له يوم بايع، ونسخة الشرط: هذا ما أعطى معاوية بن أبي
سفيان عمرو بن العاص مصر، أعطاه أهلها، فهم له حياته، ولا تنقص طاعته شرطاً. فقال
له وردان مولاه: فيه الشعر من بدنك، فجعل عمرو يقرأ الشرط، ولا يقف على ما وقف
عليه وردان، فلما ختم الكتاب وشهد الشهود قال له وردان: وما عمرك أيها الشيخ إلا
كظمء حمار، هلا شرطت لعقبك من بعدك؟ فاستقال معاوية، فلم يقله، فكان عمرو لا يحمل
إليه من مالها شيئاً، يفرق الأعطيه في الناس، فما فضل من شيء أخذه لنفسه.
وولي عمرو بن العاص
مصر عشر سنين، منها لعمر بن الخطاب أربع سنين، ولعثمان بن عفان أربع سنين إلا
شهرين، ولمعاوية سنتين وثلاثة أشهر، وتوفي وله ثمان وتسعون سنة، وكان داهية العرب
رأياً وحزماً وعقلاً ولساناً، وكان عمر بن الخطاب، إذا رأى رجلاً يكلم فلا يقيم
كلامه يقول: سبحان من خلقك وخلق عمرو بن العاص.
وقال بعضهم: سمعت
عمراً يقول: سلطان عادل خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم،
وزلة الرجل عظم يجبر، وزلة اللسان لا تبقى ولا تذر، واستراح من لا عقل له. ولما
حضرت عمراً الوفاة قال لابنه: لود أبوك أنه كان مات في غزاة ذات السلاسل. إني قد
دخلت في أمور لا أدري ما حجتي عند الله فيها. ثم نظر إلى ماله فرأى كثرته، فقال:
يا ليته كان بعرى، يا ليتني مت قبل هذا اليوم بثلاثين سنة، أصلحت لمعاوية دنياه،
وأفسدت ديني، آثرت دنياي وتركت آخرتي، عمى على رشدي حتى حضرني أجلي، كأني بمعاوية
قد حوى مالي وأساء فيكم خلافتي.
وتوفي عمرو ليلة
الفطر سنة أربع وثلاثون، فأقر معاوية ابنه عبد الله بن عمرو، ثم استصفى مال عمرو،
فكان أول من استصفى مال عامل، ولم يكن يموت لمعاوية عامل إلا شاطر ورثته ماله،
فكان يكلم في ذلك، فيقول: هذه سنة سنها عمر بن الخطاب. ثم عزل معاوية عبد الله بن
عمرو، وولى أخاه عتبة ابن أبي سفيان مصر.
وكتب معاوية إلى زياد
بن أبي سفيان: إن قبلك رجلاً من أصحاب رسول الله فوله خراسان، وهو الحكم بن عمرو
الغفاري، فولاه زياد خراسان، فقدمها سنة أربع وأربعون، فصار إلى هراة، ثم مضى منها
إلى الجوزجان، فافتتحها، ونالتهم شدة حتى أكلوا دوابهم، وكان المهلب مع الحكم بن
عمرو في ذلك الوقت، وقد عرف بلاء المهلب وبأسه، وتوفي الحكم بن عمرو، فولى زياد
مكانه الربيع بن زياد الحارثي، وفتحت خوارزم في ذلك الوقت، وكان الذي افتتحها عبد
الله بن عقيل الثقفي.
وحج معاوية سنة أربع
وأربعون، وقدم معه من الشام بمنبر، فوضعه عند باب البيت الحرام، فكان أول من وضع
المنبر في المسجد الحرام. ولما صار إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم، وكلموه في
أمورهم، فقال: أما ترضون يا بني هاشم أن نقر عليكم دماءكم، وقد قتلتم عثمان، حتى
تقولوا ما تقولون؟ فو الله لا أنتم أجل دما من كذا وكذا، وأعظم في القول، فقال له
ابن عباس: كل ما قلت لنا يا معاوية من شر بين دقتيك، أنت والله أولى بذلك منا، أنت
قتلت عثمان، ثم قمت تغمص على الناس إنك تطلب بدمه فانكسر معاوية، فقال ابن عباس:
والله ما رأيتك صدقت إلا فزعت وانكسرت. قال: فضحك معاوية، وقال: والله ما أحب إنكم
لم تكونوا كلمتموني.
ثم كلمه الأنصار، فأغلظ
لهم في القول، وقال لهم: ما فعلت نواضحكم قالوا: أفنيناها يوم بدر لما قتلنا أخاك وجدك وخالك، ولكنا نفعل ما أوصانا به
رسول الله. قال: ما أوصاكم به؟ قالوا: أوصانا بالصبر. قال: فاصبروا. ثم أدلج
معاوية إلى الشام، ولم يقض لهم حاجة.
وفي هذه السنة عمل
معاوية المقصورة في المسجد وأخرج المنابر إلى المصلى في العيدين، وخطب الخطبة قبل
الصلاة، وذلك أن الناس، إذا صلوا، انصرفوا لئلا يسمعوا لعن علي، فقدم معاوية
الخطبة قبل الصلاة، ووهب فدكا لمروان بن الحكم ليغيظ بذلك آل رسول الله. واستعمل
معاوية ابن أثال النصراني على خراج حمص، ولم يستعمل النصارى أحد من الخلفاء قبله
فاعترضه خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالسيف، فقتله، فحبسه معاوية
أياماً، ثم أغرمه ديته، ولم يقده منه.
وكان ابن أثال قتل
عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، دس إليه شربة سم، فعيره المنذر بن الزبير بن
العوام، وقال: تتكلم، وابن أثال بحمص يأمر وينهى؟ فلما قتله قال خالد بن عبد
الرحمن: أما أنا فقد قتلت ابن أثال وهذا عمرو بن جرموز التميمي قاتل الزبير آمن
السرب.
وكان عبد الرحمن بن
العباس بن عبد المطلب قد قدم على معاوية إلى الشام، فجفاه معاوية، ولم يقض له
حاجة، ودخل إليه يوماً، فقال له: يا ابن العباس كيف رأيت الله فعل بنا وبأبي
الحسن؟ فقال: فعلا، والله، غير مختل عجلة إلى جنة لن تنالها، وأخرك إلى دنيا قد
كان أمير المؤمنين نالها. قال: وإنك لتحكم على الله! قال: بما حكم الله به على
نفسه، ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الظالمون. قال معاوية: والله لو عاش
أبو عمرو حتى يراني لرأى نقم ابن العم. فقال ابن عباس: أما والله لو رآك أيقن أنك
خذلته حين كانت النصرة له ونصرته حين كانت النصرة لك. قال: وما دخولك بين العصا
ولحائها؟ قال: ما دخلت إلا عليهما لا لهما، فدعني مما أكره أدعك من مثله، فلأن
تحسن فأجازي أحب إلي من أن تسيء فأكافي، ثم نهض.
وفاة الحسن بن
عليوتوفي الحسن بن علي في شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعون، ولما حضرته الوفاة قال
لأخيه الحسين: يا أخي إن هذه آخر ثلاث مرار سقيت فيها السم، ولم أسقه مثل مرتي
هذه، وأنا ميت من يومي، فإذا أنا مت فادفني مع رسول الله، فما أحد أولى بقربه مني،
إلا أن تمنع من ذلك فلا تسفك فيه محجمة دم. ولما لف في أكفانه قال محمد بن
الحنفية: رحمك الله أبا محمد، فو الله لئن عزت حياتك لقد هدت وفاتك، ونعم الروح
روح عمر به بدنك، ونعم البدن بدن ضمه كفنك، لم لا يكون كذلك، وأنت سليل الهدى،
وحلف أهل التقوى، وخامس أصحاب الكساء، غذتك كف الحق، وربيت في حجر الإسلام،
وأرضعتك ثديا الإيمان، فطب حيا وميتا، فعليك السلام ورحمة الله، وإن كانت أنفسنا
غير قالية لحياتك، ولا شاكة في الخيار لك.
ثم أخرج نعشه يراد به
قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فركب مروان بن الحكم، وسعيد ابن العاص، فمنعا من
ذلك، حتى كادت تقع فتنة.
وقيل إن عائشة ركبت
بغلة شهباء، وقالت: بيتي لا آذن فيه لأحد. فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر، فقال
لها: يا عمة ! ما غسلنا رءوسنا من يوم الجمل الأحمر، أ تريدين أن يقال يوم البغلة
الشهباء؟ فرجعت.
واجتمع مع الحسين بن
علي جماعة وخلق من الناس، فقالوا له: دعنا وآل مروان، فو الله ما هم عندنا كأكله
رأس. فقال: إن أخي أوصاني أن لا أريق فيه محجمة دم. فدفن الحسن في البقيع، وكانت سنة سبعاً وأربعين سنة، وتوفي الحسن بن
علي وابن عباس عند معاوية، فدخل عليه لما أتاه نعي الحسن، فقال له: يا ابن عباس!
إن حسنا مات. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم الخطب وجليل المصاب، أما
والله يا معاوية لئن كان الحسن مات، فما ينسئ موته في أجلك، ولا يسد جسمه حفرتك،
ولقد مضى إلى خير وبقيت على شر. قال: لا أحسبه قد خلف إلا صبية صغاراً. قال: كلنا
كان صغيراً فكبر. قال: بخ بخ، يا ابن عباس، أصبحت سيد قومك. قال: أما ما أبقى الله
أبا عبد الله الحسين بن رسول الله، فلا.
وكان الحسن بن علي
جواداً كريماً وأشبه برسول الله خلقاً وخلقاً وسأل الحسن: ما ذا سمعت من رسول
الله؟ فقال: سمعته يقول لرجل: دع ما يريبك، فإن الشر ريبة والخير طمأنينة. وعقلت
عنه أني بينا أنا أمشي معه إلى جنب جرن الضيقة، تناولت تمرة فأدخلتها في فمي. قال:
فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعه في فمي، فاستخرجها، فألقاها، وقال: إن
محمداً وآل محمد لا تحل لهم الصدقة. وعقلت عنه الصلوات الخمس.
وحج الحسن خمس عشرة
حجة ماشياً، وخرج من ماله مرتين، وقاسم الله عز وجل ثلاث مرات، حتى كان يعطي نعلا
ويمسك نعلا، ويعطي خفا ويمسك أخرى.
وقال معاوية للحسن:
يا أبا محمد ثلاث خلال ما وجدت من يخبرني عنهن. قال: وما هن؟ قال: المروة والكرم والنجدة.
قال: أما المروة فإصلاح الرجل أمر دينه، وحسن قيامه على ماله، ولين الكف، وإفشاء
السلام والتحبب إلى الناس. والكرم العطية قبل السؤال، والتبرع بالمعروف، والإطعام
في المحل، ثم النجدة الذب عن الجار والمحاماة في الكريهة والصبر عند الشدائد.
وقال جابر: سمعت
الحسن يقول: مكارم الأخلاق عشر: صدق اللسان، وصدق البأس، وإعطاء السائل، وحسن
الخلق، والمكافاة بالصنائع، وصلة الرحم، والتذمم على الجار، ومعرفة الحق للصاحب،
وقرى الضيف، ورأسهن الحياء.
وقيل للحسن: من أحسن
الناس عيشا؟ قال: من أشرك الناس في عيشه. وقيل: من شر الناس عيشاً؟ قال: من لا
يعيش في عيشه أحد. وقال الحسن: فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وأشد من
المصيبة سوء الخلق، والعبادة انتظار الفرج.
ودعا الحسن بن علي
بنيه وبني أخيه، فقال: يا بني وبني أخي! إنكم صغار قوم، وتوشكون أن تكونوا كبار
قوم آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم يرويه أو يحفظه، فليكتبه وليجعله في
بيته. وقال رجل للحسن: إني أخاف الموت! قال: ذاك إنك أخرت مالك، ولو قدمته لسرك أن تلحق به.
وقال معاوية: ما تكلم
عندي أحد كان أحب إلي إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي، وما سمعت منه كلمة فحش
قط إلا مرة، فإنه كان بين الحسن بن علي وبين عمرو بن عثمان بن عفان خصومة في أرض،
فعرض الحسن ابن علي أمراً لم يرضه عمرو، فقال الحسن: ليس له عندنا إلا ما رغم
أنفه، فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه قط.
وقال له معاوية يوما:
ما يجب لنا في سلطاننا؟ قال: ما قال سليمان بن داود. قال معاوية: وما قال سليمان
بن داود؟ قال: قال لبعض أصحابه: أ تدري ما يجب على الملك في ملكه، وما لا يضره؟
إذا أدى الذي عليه منه، وإذا خاف الله في السر والعلانية، وعدل في الغضب والرضا،
وقصد في الفقر والغنى، ولم يأخذ الأموال غصباً، ولم يأكلها إسرافاً وبذاراً لم
يضره ما تمتع به من دنياه، إذا كان ذلك من خلته. وقال الحسن: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا سأله أحد حاجة لم يرده إلا بها وبميسور من القول. ومر الحسن
يوماً وقاص يقص على باب مسجد رسول الله، فقال الحسن: ما أنت؟ فقال: أنا قاص يا ابن
رسول الله. قال: كذبت، محمد القاص، قال الله عز وجل: فاقصص القصص. قال: فأنا مذكر. قال:
كذبت، محمد المذكر،
قال له عز وجل: فذكر إنما أنت مذكر قال: فما أنا؟ قال: المتكلف من الرجال.
وكان للحسن من الولد
ثمانية ذكور، وهم: الحسن بن الحسن، وأمه خولة بنت منظور الفزارية، وزيد بن الحسن، وأمه
أم بشير بنت أبي مسعود الأنصاري الخزرجي، وعمر والقاسم وأبو بكر وعبد الرحمن
لأمهات أولاد شتى، وطلحة وعبيد الله.
ولما توفي الحسن وبلغ
الشيعة ذلك اجتمعوا بالكوفة في دار سليمان بن صرد، وفيهم بنو جعدة بن هبيرة،
فكتبوا إلى الحسين بن علي يعزونه على مصابه بالحسن: بسم الله الرحمن الرحيم،
للحسين بن علي من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله
الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فقد بلغنا وفاة الحسن بن علي يوم ولد ويوم يموت ويوم
يبعث حياً غفر الله ذنبه وتقبل حسناته، وألحقه بنبيه، وضاعف لك الأجر في المصاب به
وجبر بك المصيبة من بعده
فعند الله نحتسبه،
وإنا لله وإنا إليه راجعون، ما أعظم ما أصيب به هذه الأمة عامة، وأنت وهذه الشيعة
خاصة، بهلاك ابن الوصي وابن بنت النبي، علم الهدى، ونور البلاد المرجو لإقامة
الدين وإعادة سير الصالحين، فاصبر رحمك الله على ما أصابك، إن ذلك لمن عزم الأمور،
فإن فيك خلفا ممن كان قبلك، وإن الله يؤتي رشده من يهدي بهديك، ونحن شيعتك المصابة
بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، السائرة بسيرتك، المنتظرة لأمرك، شرح
الله صدرك، ورفع ذكرك، وأعظم أجرك، وغفر ذنبك، ورد عليك حقك.
وبايع معاوية لابنه
يزيد بولاية العهد، بعد وفاة الحسن بن علي، ولم يتخلف عن البيعة إلا أربعة نفر:
الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير.
وقال عبد الله بن عمر: نبايع من يلعب بالقرود والكلاب، ويشرب الخمر، ويظهر الفسوق!
ما حجتنا عند الله! وقال عبد الله بن الزبير: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد
أفسد علينا ديننا.
وحج معاوية تلك السنة
فتألف القوم، ولم يكرههم على البيعة، وأغزى معاوية يزيد ابنه الصائفة، ومعه سفيان
بن عوف العامري، فسبقه سفيان بالدخول إلى بلاد الروم فنال المسلمين في بلاد الروم
حمى وجدري، وكانت أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر تحت يزيد بن معاوية، وكان لها
محباً، فلما بلغه ما نال الناس من الحمى والجدري قال:
ما إن أبالي بما لاقت
جموعهم ... بالغذ قذونه من حمى ومن موم
إذا اتكأت على
الأنماط في غرف ... بدير مران عندي أم كلثوم
فبلغ ذلك معاوية
فقال: أقسم بالله لتدخلن أرض الروم فليصيبنك ما أصابهم، فأردف به ذلك الجيش، فغزا
به حتى بلغ القسطنطينية.
ووجه معاوية عقبة بن
نافع الفهري إلى إفريقية فافتتحها واختط قيروانها، وبناه، وكان موضع دغل وحلفاء
تنزله الأسد، وكان ذلك سنة خمسين، ثم ولى معاوية دينارا أبا المهاجر، مولى
الأنصار، مكان عقبة بن نافع الفهري، فأخذ عقبة بن نافع، فحبسه وقيده، فأقام في
الحبس شهورا، ثم أطلقه، فلما صار إلى مصر رده عمرو بن العاص إلى المغرب.
وقيل ورد كتاب من
معاوية على عمرو يأمره بذلك. فلما قدم عقبة إفريقية أخذ ديناراً فحبسه، وخرج على
عقبة رجل من البربر يقال له ابن الكاهنة، ولم يزل عقبة على البلد أيام معاوية
ويزيد بن معاوية.
وتوفي المغيرة بن
شعبة سنة إحدى وخمسين، فولى معاوية الكوفة زياداً، وضمها إليه مع البصرة، فكان أول
من جمع له المصران. وكتب زياد إلى معاوية: أني قد شغلت شمالي بالعراق ويميني
فارغة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يوليني الموسم؟ فكتب إليه بولاية الحجاز، وقيل
بولاية الموسم.
وكان عبد الله بن عمر
يدخل فيقول: ارفعوا أيديكم فادعوا الله أن يكفيكم يمين زياد.
وروى بعضهم أن أبا
بكرة أخاه أتاه، فخاطب صبيا له، وكان قد حلف ألا يكلمه مه كاع عن الشهادة على
المغيرة، فقال: يا بني أبوك ركب في الإسلام عظيما، شتم أمه، وانتفى من أبيه، ثم هو
الآن يريد أن يفعل ما هو أكبر من هذا، يمر بالمدينة، فيستأذن على أم حبيبة بنت أبي
سفيان، فإن أذنت فأعظم بها مصيبة على رسول الله، وعلى المسلمين، فإن لم تأذن له
فأعظم بها فضيحة على أبيك. فتأخر عن الخروج.
وكان حجر بن عدي
الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما من شيعة علي بن أبي طالب، إذا سمعوا
المغيرة وغيره من أصحاب معاوية، وهم يلعنون علياً على المنبر، يقومون فيردون اللعن
عليهم، ويتكلمون في ذلك. فلما قدم زياد الكوفة خطب خطبة له مشهورة لم يحمد الله
فيها، ولم يصل على محمد وأرعد فيها وأبرق، وتوعد وتهدد، وأنكر كلام من تكلم،
وحذرهم ورهبهم، وقال: قد سميت الكذبة، على المنبر، الصلعاء فإذا أوعدتكم أو
وعدتكم، فلم أف لكم بوعدي ووعيدي، فلا طاعة لي عليكم.
وكانت بينه وبين حجر
بن عدي مودة، فوجه إليه فأحضره، ثم قال له: يا حجر! أرأيت ما كنت عليه من المحبة
والموالاة لعلي؟ قال: نعم! قال: فإن الله قد حول ذلك بغضة وعداوة، أورأيت ما كنت
عليه من البغضة والعداوة لمعاوية؟ قال: نعم! قال: فإن الله قد حول ذلك محبة وموالاة، فلا أعلمنك ما ذكرت علياً
بخير ولا أمير المؤمنين معاوية بشر.
ثم بلغه انهم
يجتمعون، فيتكلمون ويدبرون عليه وعلى معاوية، ويذكرون مساويهما، ويحرضون الناس،
فوجه صاحب شرطه إليهم، فأخذ جماعة منهم فقتلوا، وهرب عمرو بن الحمق الخزاعي إلى
الموصل وعدة معه، وأخذ زياد حجر بن عدي الكندي وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه فأشخصهم
إلى معاوية، فكتب فيهم انهم خالفوا الجماعة في لعن أبي تراب، وزروا على الولاة،
فخرجوا بذلك من الطاعة، وأنفذ شهادات قوم أولهم بلال بن أبي بردة بن أبي موسى
الأشعري، فلما صاروا بمرج عذراء من دمشق على أميال، أمر معاوية بإيقافهم هناك، ثم
وجه إليهم من يضرب أعناقهم، فكلمه قوم في ستة منهم، فوقف عنهم، فقتل سبعة: حجر بن
عدي الكندي وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة ابن ضبيعة
العبسي، ومحرز بن شهاب التميمي، وكدام بن حيان العنزي، ولما أراد قتلهم قال حجر بن
عدي: دعوني
حتى أصلي، فصلى ركعتين خفيفتين ثم أقبل عليهم فقال: لو لا أن تظنوا بي خلاف ما بي
لأحببت أن تكونا أطول مما هما، وإني لأول من رمي بسهم في هذا الموضع، وأول من هلك
فيه. فقيل له: أجزعت؟ فقال: ولم لا أجزع، وأنا أرى سيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً،
وقبراً محفوراً؟ ثم ضربت عنقه وأعناق القوم، وكفنوا ودفنوا، وكان ذلك في سنة اثنان
وخمسين.
وقال معاوية للحسين
بن علي: يا أبا عبد الله! علمت أنا قتلنا شيعة أبيك، فحنطناهم، وكفناهم، وصلينا
عليهم، ودفناهم؟ فقال الحسين: حجرك، ورب الكعبة، لكنا والله إن قتلنا شيعتك ما
كفناهم، ولا حنظناهم، ولا صلينا عليهم ولا دفناهم.
وقالت عائشة لمعاوية
حين حج، ودخل إليها: يا معاوية! أقتلت حجرا وأصحابه، فأين عزب حلمك عنهم؟ أما إني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل
السموات. قال: لم يحضرني رجل رشيد، يا أم المؤمنين.
وروي أن معاوية كان
يقول: ما أعد نفسي حليما بعد قتلي حجرا وأصحاب حجر. وبلغ عبد الرحمن بن أم الحكم،
وكان عامل معاوية على الموصل، مكان عمرو بن الحمق الخزاعي، ورفاعة بن شداد، فوجه
في طلبهما، فخرجا هاربين، وعمرو بن الحمق شديد العلة، فلما كان في بعض الطريق لدغت
عمراً حية، فقال: الله أكبر! قال لي رسول الله: يا عمرو ليشترك في قتلك الجن
والإنس. ثم قال لرفاعة: امض لشأنك، فإني مأخوذ ومقتول. ولحقته رسل عبد الرحمن ابن
أم الحكم، فأخذوه وضربت عنقه، ونصب رأسه على رمح، وطيف به، فكان أول رأس طيف به في
الإسلام. وقد كان معاوية حبس امرأته بدمشق، فلما أتى رأسه بعث به، فوضع في
حجرها، فقالت للرسول: أبلغ معاوية ما أقول: طالبه الله بدمه، وعجل له الويل من
نقمه، فلقد أتى أمراً فريا، وقتل براً نقياً. وكان أول من حبس النساء بجرائر
الرجال.
وخرج قريب وزحاف
الخارجيان بالبصرة في جماعة من الخوارج، فاستعرضا الشرط، فقتلا منهم خلقا عظيما،
وصارا إلى المسجد الجامع، فقتلا خلقاً من الناس، ومالوا إلى القبائل، ففعلوا مثل
ذلك. وكان زياد بالكوفة وعامله على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة، فحاربهم، فلما
لم يكن له بهم طاقة كتب إلى زياد، فأقبل زياد حتى صار إلى البصرة، فصار إلى دار
الإمارة، ثم قال: يا أهل البصرة ما هذا الذي قد اشتملتم عليه؟ إني أعطي الله عهداً
لا يخرج على خارجي بعدها فأدع من حيه وقبيلته أحداً، فاكفوني بوائقكم. فقام خطباء
البصرة، فتكلموا واعتذروا.
وكان معاوية أول من
أقام الحرس والشرط والبوابين في الإسلام، وأرخى الستور واستكتب النصارى، ومشى بين
يديه بالحراب، وأخذ الزكاة من الأعطيه، وجلس على السرير، والناس تحته، وجعل ديوان
الخاتم وبنى وشيد البناء، وسخر الناس في بنائه، ولم يسخر أحد قبله، واستصفى أموال
الناس، فأخذها لنفسه.
وكان سعيد بن المسيب
يقول: فعل الله بمعاوية وفعل، فإنه أول من أعاد هذا الأمر ملكاً. وكان معاوية
يقول: أنا أول الملوك. ورحل إليه عبد الله بن عمر يوماً، فقال: يا أبا عبد الله!
كيف ترى بنياننا؟ قال: إن كان من مال الله فأنت من الخائنين، وإن كان من مالك فأنت
من المسرفين. ودخل إليه عدي بن حاتم، فقال له: كيف زماننا هذا يا أبا طريف؟ قال:
إن صدقناكم خفناكم، وإن
كذبناكم خفنا الله.
قال: أقسمت عليك! قال: عدل زمانكم هذا جور زمان قد مضى، وجور زمانكم هذا عدل زمان
ما يأتي. واستقر خراج العراق وما يضاف إليه مما كان في مملكة الفرس في أيام معاوية
على ستمائة ألف ألف وخمسة وخمسين ألف ألف درهم.
وكان خراج السواد
مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف درهم، وخراج فارس سبعين ألف ألف، وخراج الأهواز وما
يضاف إليها أربعين ألف ألف، وخراج اليمامة والبحرين خمسة عشر ألف ألف درهم، وخراج
كور دجلة عشرة آلاف ألف درهم، وخراج نهاوند وماه الكوفة، وهو الدينور، وماه
البصرة، وهو همذان، وما يضاف إلى ذلك من أرض الجبل أربعين ألف ألف درهم، وخراج
الري وما يضاف إليها ثلاثين ألف ألف درهم، وخراج حلوان عشرين ألف ألف درهم، وخراج
الموصل وما يضاف إليها ويتصل بها خمسة وأربعين ألف ألف درهم، وخراج آذربيجان
ثلاثين ألف ألف درهم، بعد أن أخرج معاوية من كل بلد ما كانت ملوك فارس تستصفيه
لأنفسها من الضياع العامرة وجعله صافية لنفسه، فأقطعه جماعة من أهل بيته.
وكان صاحب العراق
يحمل إليه من مال صوافيه في هذه النواحي مائة ألف ألف درهم، فمنها كانت صلاته وجوائزه،
واستقر خراج مصر في أيام معاوية على ثلاثة آلاف ألف دينار، وكان عمرو بن العاص
يحمل منها إليه الشيء اليسير، فلما مات عمرو حمل المال إلى معاوية، فكان يفرق في
الناس أعطياتهم، ويحمل إليه ألف ألف دينار، واستقر خراج فلسطين على أربعمائة
وخمسين ألف دينار، واستقر خراج الأردن على مائة وثمانين ألف دينار، وخراج دمشق على
أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وخراج جند حمص على ثلاثمائة وخمسين ألف دينار،
وخراج قنسرين والعواصم على أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، وخراج الجزيرة، وهي
ديار مضر وديار ربيعة، على خمسة وخمسين ألف ألف درهم، وخراج اليمن على ألف ألف
ومائتي ألف دينار، وقيل تسعمائة ألف دينار.
وكان معاوية قد ولي
اليمن، لما استقامت له الأمور، فيروز الديلمي، ثم استعمل مكانه عثمان بن عفان
الثقفي، ثم استعمل ابن بشير الأنصاري. وفعل معاوية بالشام والجزيرة واليمن مثل ما
فعل بالعراق من استصفاء ما كان للملوك من الضياع وتصييرها لنفسه خالصة وأقطعها أهل
بيته وخاصته. وكان أول من كانت له الصوافي في جميع الدنيا، حتى بمكة والمدينة،
فإنه كان فيهما شيء يحمل في كل سنة من أوساق التمر والحنطة.
وكان معاوية وجه إلى
ثغر الهند ابن سوار بن همام، فشخص في أربعة آلاف حتى أتى مكران، فأقام بها شهوراً،
ثم غزا القيقان، فقاتلهم، وصبر على قتالهم، فقتل ابن سوار وعامة ذلك الجيش، ورجع
من بقي معه إلى مكران، فكتب معاوية إلى زياد أن يوجه رجلاً له حزم وجزالة. فوجه
سنان بن سلمة الهذلي فأتى مكران، فلم يزل بها مقيما ثم صرفه زياد، وولى راشد بن
عمرو الجديدي الأزدي، فغزا القيقان، فظفر وغنم، وغزا بعض بلاد السند، وفتح بلاد
الهند، وكانت الهند يومئذ أهون شوكة من السند، فقتل راشد ببلاد السند. وأقام زياد
على ولاية العراق اثنتي عشرة سنة، وكان لزياد دهاء ورجله وصولة، وكان أول من دون الدواوين
ووضع النسخ للكتب، وأفرد كتاب الرسائل من العرب والموالي المتفصحين.
وكان زياد يقول:
ينبغي أن يكون كتاب الخراج من رؤساء الأعاجم العالمين بأمور الخراج.
وكان زياد يقول: ملاك
السلطان أربع خلال: العفاف عن المال، والقرب من المحسن، والشدة على المسيء، وصدق اللسان.
وكان زياد أول من بسط الأرزاق على عماله ألف درهم ألف درهم، ولنفسه خمسة وعشرين
ألف درهم.
وكان زياد يقول:
ينبغي للوالي أن يكون أعلم بأهل عمله منهم بأنفسهم. فقام إليه رجل فقال: أصلح الله
الأمير! تعرفني؟ فقال: نعم المعرفة الجامعة! أعرفك باسمك واسم أبيك، وكنيتك،
وعريفك، وعشيرتك، وفصيلتك، ولقد بلغ من معرفتي بكم أني أرى البرد على أحدكم، ثم
آخر عارية، فأعرفه.
واختصم إلى زياد
رجلان فقال أحدهما: أصلح الله الأمير! إنه يدل بناحية ذكر أنها له من الأمير. قال:
صدق! سأخبرك بما ينفعه من ذلك، ويضرك، إن وجب له الحق عليك أخذتك له أخذاً عنيفاً،
وإن وجب عليه حكمت وأديت عنه.
وقال زياد وهو على
المنبر: إن أعظم الناس كذباً أمير يقف على المنبر وتحته مائة ألف من الناس،
فيكذبهم، وإني والله لا أعدكم أجراً إلا انجزته، ولا أعاقبكم حتى أتقدم عليكم.
وكان زياد يقول
لأصحابه: ليس كل يصل إلي ولا كل من وصل إلى أمكنه الكلام، فاستشفعوا لمن وراءكم،
فإني من ورائكم أمنع إن أردت أن أمنع.
وكان زياد يقول:
أربعة أعمال لا يليها إلا المسن الذي قد عض على ناجذة: الثغر، والصائفة، والشرط،
والقضاء. وينبغي أن يكون صاحب الشرط شديد الصولة، قليل الغفلة، وينبغي أن يكون
صاحب الحرس مسناً، عفيفاً، مأموناً، لا يطعن عليه. وينبغي أن يكون في الكاتب خمس خلال: بعد غور، وحسن مداراة، وأحكام
للعمل وألا يؤخر عمل اليوم لغد، والنصيحة لصاحبه. وينبغي للحاجب أن يكون عاقلا،
فطنا، قد خدم الملوك قبل أن يتولى حجابتهم وتوفي زياد بالكوفة سنة أربع وخمسين.
وروي أنه كان أحضر
قوماً بلغه انهم شيعة لعلي ليدعوهم إلى لعن علي والبراءة منه، أو يضرب أعناقهم،
وكانوا سبعين رجلاً، فصعد المنبر، وجعل يتكلم بالوعيد والتهديد، فنام بعض القوم،
وهو جالس، فقال له بعض أصحابه: تنام وقد أحضرت لتقتل؟ فقال: من عمود إلى عمود
فرقان، لقد رأيت في نومتي هذه عجباً. قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت رجلاً أسود دخل المسجد فضرب رأسه السقف، فقلت: من
أنت يا هذا؟ فقال: أنا النقاد داق الرقبة. قلت: وأين تريد؟ قال: أدق عنق هذا
الجبار الذي يتكلم على هذه الأعواد.
فبينا زياد يتكلم على
المنبر إذ قبض على إصبعه، ثم صاح: يدي! وسقط عن المنبر مغشيا عليه، فأدخل القصر،
وقد طعن في خنصرة اليمنى، فجعل لا يتغاذ، فأحضر الطبيب، فقال له: اقطع يدي! قال:
أيها الأمير! أخبرني عن الوجع تجده في يدك، أو في قلبك؟ قال: والله إلا في قلبي.
قال: فعش سويا.
فلما نزل به الموت
كتب إلى معاوية أني كتبت إلى أمير المؤمنين، وأنا في آخر يوم من الدنيا وأول يوم
من الآخرة، وقد استخلفت على عملي خالد ابن عبد الله بن خالد بن أسيد.
فلما توفي زياد ووضع
نعشه ليصلي عليه تقدم عبيد الله ابنه فنحاه، وتقدم خالد بن عبد الله فصلى عليه،
فلما فرغ من دفنه خرج عبيد الله من ساعته إلى معاوية، فلما قيل لمعاوية هذا عبيد
الله قال: يا بني! ما منع أباك أن يستخلفك؟ أما لو فعل لفعلت. فقال: نشدتك الله،
يا أمير المؤمنين، أن يقولها لي أحد بعدك ما منع أباه وعمه أن يستعملاه؟ فولاه
خراسان، وصير إليه ثغرى الهند. وتوفي المنذر فولى مكانه سنان بن سلمة، فقاتل
القيقان والبوقان، وظفر، ورزقه الله النصر عليهم. وصار عبيد الله بن زياد إلى
خراسان، فبدأ ببخارى، وعليها ملكة يقال لها خاتون فقاتلهم حتى فتحها، ثم قطع نهر
بلخ، وكان أول عربي قطع نهر بلخ، وحاربه القوم محاربة شديدة، وكان الظفر له، ثم
انصرف من خراسان إلى معاوية فولاه البصرة سنة ست وخمسين، وقيل أول سنة سبع وخمسين.
وولى معاوية عبد الله
بن زياد خراسان، فاستضعفه، فعزله، وولي عبد الرحمن بن زياد، فلم يحمده، فعزله،
فقدم عبد الرحمن بمال عظيم، فقيل إنه قال: قدمت معي بمال يكفيني مائة سنة لكل يوم
ألف درهم، فذهب ذلك المال، حتى نظر إليه في أيام الحجاج على حمار فقيل له: أين
المال؟ فقال: لا يكفي إلا وجه الله، والحمار أيضاً ليس لي، إنما هو عارية.
وولى معاوية خراسان
بعد عبد الرحمن بن زياد سعيد بن عثمان بن عفان، فقطع النهر، وصار إلى بخارى، فطلبت
خاتون ملكة بخارى الصلح، فأجابها إلى ذلك، ثم رجعت عن الصلح، وطمعت في سعيد،
فحاربهم سعيد، فظفر، وقتل مقتلة عظيمة. وسار إلى سمرقند، فحاصرها، فلم يكن له طاقة
بها، فظفر بحصن فيه أبناء الملوك، فلما صاروا في يده طلب القوم الصلح، فحلف ألا
يبرح حتى يدخل المدينة، ففتح له باب المدينة، فدخلها، ورمى القهندز بحجر، وكان معه
قثم بن العباس بن عبد المطلب فتوفي بسمرقند. فلما بلغ عبد الله بن عباس موته قال:
ما أبعد ما بين مولده ومقبرة، مولده بمكة، وقبره بسمرقند، فانصرف سعيد بن عثمان
إلى معاوية، فولى معاوية مكانه أسلم بن زرعة.
وصار سعيد إلى
المدينة، ومعه أسراء من أولاد ملوك السغد، فوثبوا عليه، وقتلوه، وقتل بعضهم بعضا،
حتى لم يبق منهم أحد. وأقام أسلم بن زرعة شهورا، وكان عمال خراسان ينزلون هراة، ثم
ولى معاوية خليد بن عبد الله الحنفي، فكان آخر ولاته على خراسان.
وأراد سعد بن أبي
وقاص أن يعمل له، فامتنع عليه، ولزم منزله، وكان يسكن قصرا له خارج المدينة على
عشرة أميال فلم يزل نازلا به حتى توفي، وكانت وفاته سنة خمس وخمسين، وحمل على أيدي
الرجال من قصره إلى المدينة، حتى دفن بالبقيع.
وتوفي أيام معاوية
أربع من أزواج رسول الله: حفصة بنت عمر، توفيت سنة خمس وأربعين، وصلى عليها مروان
بن الحكم، وهو عامل المدينة، وصفية بنت حيي بن أخطب توفيت سنة خمسين، وخولة بنت
الحارث توفيت سنة ست وخمسين، وعائشة بنت أبي بكر توفيت سنة ثمان وخمسين، وصلى
عليها أبو هريرة، وكان خليفة لمروان على المدينة، فقال بعض من حضر: صلى عليها أعدى
الناس لها. وتوفي أبو هريرة سنة تسع وخمسين.
وكان لمعاوية حلم
ودهاء، وجود بالمال على المداراة من رجل يبخل على طعامه. وقال سعيد بن العاص: سمعت
معاوية يوماً يقول: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني،
ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. قيل: وكيف، يا أمير المؤمنين؟ قال: كانوا إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها
مددتها. وكان إذا بلغه عن رجل ما يكره قطع لسانه بالإعطاء، وربما احتال عليه
فبعث به في الحروب، وقدمه، وكان أكثر فعله المكر والحيلة.
وحج بالناس، في جميع
سني ولايته، حجتين سنة أربع وأربعين وسنة خمسين، وأراد أن يحمل منبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم فنال المنبر زلزلة، حتى ظن أنه آخر الدنيا، فتركه ثم زاد فيه خمس
مراق من أسفله، واعتمر عمرة رجب في سنة ست وخمسين. وكان أول من كسا الكعبة
الديباج، واشترى لها العبيد.
وكان يغلب عليه عمرو
بن العاص، ويزيد بن الحر العبسي، والضحاك بن قيس الفهري وكان الضحاك على شرطته،
وعلى حرسه أبو مخارق مولى حمير، وحاجبه رباح، مولاه. وكان معاوية جهم الوجه جاحظ
العين، وافر اللحية، عريض الصدر، عظيم الأليتين، قصير الساقين والفخذين، وكانت
ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر، وتوفي مستهل رجب، ويقال للنصف من رجب سنة ستين،
وهو ابن سبع وسبعين سنة، ويقال ثمانين سنة، وقد كان ضعف ونحل، وسقطت ثنيتاه.
قال صالح بن عمرو:
ورأيت معاوية على المنبر معتما بعمامة سوداء، قد سدلها على فيه، وهو يقول: معشر
الناس! كبرت سني، وضعفت قوتي، وأصبت في أحسني، فرحم الله من دعا لي! ثم بكى، فبكى
معه الناس. وخرج الضحاك بن قيس، لما مات معاوية، فوضع أكفانه على المنبر، ثم قال:
إن معاوية كان ناب العرب وحبلها، وقد مات، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها، وموردوه
قبره، ثم هو آخر اللقاء.
وصلى عليه الضحاك بن
قيس الفهري لغيبة يزيد في ذلك الوقت، ودفن بدمشق، وخلف من الذكور أربعة: يزيد وعبد
الله ومحمداً، وعبد الرحمن. وأقام الحج في أيامه سنة واحد وأربعون واثنان وأربعون
عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة ثلاث وأربعون مروان ابن الحكم، وفي سنة أربع وأربعون
معاوية بن أبي سفيان، وفي سنة خمس وأربعون مروان بن الحكم، وفي سنة ست وأربعون
عتبة بن أبي سفيان، وفي سنة سبع وأربعون عتبة بن أبي سفيان وفي سنة ثمان وأربعون
مروان بن الحكم، وفي سنة تسع وأربعون سعيد بن العاص، وفي سنة خمسين معاوية بن أبي
سفيان، وفي سنة وحد وخمسين يزيد بن معاوية، وفي سنة اثنان وخمسين سعيد بن العاص،
وفي سنة ثلاث وخمسون سعيد بن العاص أيضاً، وفي سنة أربع وخمسون مروان بن
الحكم، وفي سنة خمس
وخمسون مروان ابن الحكم أيضاً، وفي سنة ست وخمسون الوليد بن عتبة بن أبي سفيان،
وفي سنة سبع وخمسون الوليد ابن عتبة بن أبي سفيان أيضاً، وفي سنة ثمان وخمسون
الوليد بن عتبة أيضاً، وفي سنة تسع وخمسون عثمان بن محمد بن أبي سفيان. وغزا
بالناس في ولايته سنة واحد وأربعون، وجه حبيب بن مسلمة، فصالح صاحب الروم، وكره أن
يشغله. وسنة ثلاث وأربعون غزا بسر بن أبي أرطأة أرض الروم ومشتاة بها. سنة أربع
وأربعون غزا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد حتى بلغ قلونية. سنة خمس وأربعون عبد
الرحمن بن خالد بن الوليد وشتا بأرض الروم وبلغ أنطاكية سنة ست وأربعون مالك بن
عبد الله الخثعمي، وقيل مالك بن هبيرة السكوني، وشتا بأرض الروم سنة سبع وأربعون
مالك بن هبيرة السكوني وشتا بأرض الروم سنة ثمان وأربعون عبد الرحمن العتبي وبلغ
أنطاكية السوداء. سنة تسع وأربعون فضالة بن عبيد، ففتح الله على يده، وسبى سبياً
كثيراً. سنة خمسين غزا بسر بن أبي أرطأة، وشتا سفيان بن عوف. سنة واحد وخمسين غزا محمد بن عبد الرحمن، وشتا فضالة بن عبيد الأنصاري.
سنة اثنان وخمسين سفيان بن عوف، فتوفي، فاستخلف عبد الله بن مسعدة الفزاري.
سنة ثلاث وخمسين محمد
بن مالك، وقيل فتحت طرسوس في هذه السنة، فتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي. سنة خمس
وخمسين مالك بن عبد الله الخثعمي، وشتا بأرض الروم سنة ست وخمسين يزيد بن معاوية،
فبلغ القسطنطينية، وشتا مسعود بن أبي مسعود، وكان على البر يزيد بن شجرة، وعلى
البحر عياض بن الحارث، كل هذا يقال سنة سبع وخمسين عبد الله بن قيس. سنة ثمان
وخمسين مالك بن عبد الله الخثعمي، ويقال عمرو بن يزيد الجهني، وقيل يزيد بن شجرة
في البحر. سنة تسع وخمسين عمرو بن مرة الجهني في البر، لم يكن عامئذ غزوة بحر.
وكان الفقهاء في أيام معاوية عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمر بن الخطاب، المسور
بن مخرمة الزهري، السائب بن يزيد، عبد الرحمن بن حاطب، أبو بكر بن عبد الرحمن بن
الحارث، سعيد بن المسيب، عروة بن الزبير، عطاء ابن يسار، القاسم بن محمد بن أبي
بكر، عبيدة بن قيس السلماني، الربيع ابن خشيم الثوري، زر بن حبيش، الحارث بن قيس
الجعفي، عمرو بن عتبة بن فرقد، الأحنف بن قيس، الحارث بن عمير الزبيدي، سويد بن
غفلة الجعفي، عمرو بن ميمون الأودي، مطرف بن عبد الله بن الشخير شقيق بن سلمة،
عمرو بن شرحبيل، عبد الله بن يزيد الخطمي، الحارث الأعور الهمداني، مسروق بن
الأجدع، علقمة بن قيس الخثعمي، شريح بن الحارث الكندي، زيد بن وهب الهمداني.
أيام يزيد بن
معاويةوملك يزيد بن معاوية، وأمه ميسون بنت بحدل الكلبي، في مستهل رجب سنة ستون،
وكانت الشمس يومئذ في الثور درجة وعشرين دقيقة، والقمر في العقرب... درجات وثلاثين
دقيقة، وزحل في السرطان إحدى عشرة درجة، والمشتري في الجدي تسع عشرة درجة، والمريخ
في الجوزاء اثنتين وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في الجوزاء ثماني درجات
وخمسين دقيقة، وعطارد في الثور عشرين درجة وثلاثين دقيقة، وكان غائباً فلما قدم
دمشق كتب إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وهو عامل المدينة: إذا أتاك كتابي هذا،
فأحضر الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، فخذهما بالبيعة لي، فإن امتنعا فاضرب
أعناقهما، وابعث لي برؤوسهما، وخذ الناس بالبيعة، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم، وفي
الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، والسلام. فورد الكتاب على الوليد ليلاً، فوجه
إلى الحسين وإلى عبد الله بن الزبير، فأخبرهما الخبر، فقالا: نصبح ونأتيك مع الناس. فقال له مروان: إنهما والله إن خرجا لم ترهما،
فخذهما بأن يبايعا، وإلا فاضرب أعناقهما. فقال: والله ما كنت لأقطع أرحامهما!
فخرجا من عنده وتنحيا من تحت ليلتهما، فخرج الحسين إلى مكة، فأقام بها أياماً،
وكتب أهل العراق إليه، ووجهوا بالرسل على أثر الرسل، فكان آخر كتاب ورد عليه منهم
كتاب هانئ بن أبي هانئ، وسعيد بن عبد الله الخثعمي: بسم الله الرحمن الرحيم،
للحسين بن علي من شيعته المؤمنين والمسلمين، أما بعد فحي هلا، فإن الناس ينتظرونك،
لا إمام لهم غيرك، فالعجل ثم العجل والسلام.
فوجه إليهم مسلم بن
عقيل بن أبي طالب، وكتب إليهم، وأعلمهم أنه أثر كتابه فلما قدم مسلم الكوفة
اجتمعوا إليه، فبايعوه وعاهدوه وعاقدوه، وأعطوه المواثيق على النصرة والمشايعة
والوفاء. وأقبل الحسين من مكة يريد العراق، وكان يزيد قد ولى عبيد الله بن زياد
العراق، وكتب إليه: قد بلغني أن أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم،
وأنه قد خرج من مكة متوجها نحوهم، وقد بلي به بلدك من بين البلدان، وأيامك من بين
الأيام، فإن قتلته، وإلا رجعت إلى نسبك وإلى أبيك عبيد، فاحذر أن يفوتك.
مقتل الحسين بن
عليوقدم عبيد الله بن زياد الكوفة، وبها مسلم بن عقيل قد نزل على هانئ بن عروة،
وهانئ شديد العلة، وكان صديقا لابن زياد، فلما قدم ابن زياد الكوفة أخبر بعلة
هانئ، فأتاه ليعوده، فقال هانئ لمسلم بن عقيل وأصحابه، وهم جماعة: إذا جلس ابن
زياد عندي وتمكن، فإني سأقول اسقوني، فاخرجوا فاقتلوه، فأدخلهم البيت وجلس في
الرواق.
وأتاه عبيد الله بن
زياد يعوده، فلما تمكن قال هانئ بن عروة: اسقوني! فلم يخرجوا، فقال: اسقوني، ما
يؤخركم؟ ثم قال: اسقوني، ولو كانت فيه نفسي، ففهم ابن زياد، فقام فخرج من عنده،
ووجه بالشرط يطلبون مسلماً، وخرج وأصحابه، وهو لا يشك في وفاء القوم، وصحة نياتهم،
فقاتل عبيد الله، فأخذوه، فقتله عبيد الله، وجر برجله في السوق وقتل هانئ ابن عروة
لنزول مسلم منزله وإعانته إياه.
وسار الحسين يريد
العراق، فلما بلغ القطقطانة أتاه الخبر بقتل مسلم بن عقيل، ووجه عبيد الله بن
زياد، لما بلغه قربه من الكوفة، بالحر بن يزيد، فمنعه من أن يعدل، ثم بعث إليه
بعمر بن سعد بن أبي وقاص في جيش، فلقي الحسين بموضع على الفرات يقال له كربلاء
وكان الحسين في اثنين وستين، أو اثنين وسبعين رجلاً من أهل بيته وأصحابه، وعمر بن
سعد في أربعة آلاف، فمنعوه الماء، وحالوا بينه وبين الفرات، فناشدهم الله عز وجل،
فأبوا إلا قتاله أو يستسلم، فمضوا به إلى عبيد الله بن زياد فيرى رأيه فيه، وينفذ
فيه حكم يزيد، فروي عن علي بن الحسين أنه قال: إني لجالس في العشية التي قتل أبي
الحسين ابن علي في صبيحتها، وعمتي زينب تمرضني، إذ دخل أبي، وهو يقول:
يا دهر أف لك من خليل
... كم لك في الإشراق والأصيل
من طالب وصاحب قتيل
... والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل
... وكل حي سألك السبيل
ففهمت ما قال: وعرفت
ما أراد، وخنقتني عبرتي، ورددت دمعي، وعرفت أن البلاء قد نزل بنا، فأما عمتي زينب،
فإنها لما سمعت ما سمعت، والنساء من شأنهن الرقة والجزع، لم تملك إن وثبت تجر
ثوبها حاسرة، وهي تقول: ووا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم! ماتت فاطمة
وعلي والحسن بن علي أخي، فنظر إليها فردد غصته، ثم قال: يا أختي اتقي الله، فإن
الموت نازل لا محالة! فلطمت وجهها، وشقت جيبها، وخرت مغشياً عليها، وصاحت:
واويلاه! وواثكلاه! فتقدم إليها، فصب على وجهها الماء، وقال لها: يا أختاه، تعزي
بعزاء الله، فإن لي ولكل مسلم أسوة برسول الله، ثم قال: إني أقسم عليك، فأبرى
قسمي، لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها، ولا تدعي علي بالويل والثبور، ثم جاء
بها حتى أجلسها عندي، فإني لمريض مدنف، وخرج إلى أصحابه.
فلما كان من الغد خرج
فكلم القوم، وعظم عليهم حقه، وذكرهم الله عز وجل ورسوله، وسألهم أن يخلوا بينه
وبين الرجوع، فأبوا إلا قتاله، أو أخذه حتى يأتوا به عبيد الله بن زياد، فجعل يكلم
القوم بعد القوم والرجل بعد الرجل، فيقولون: ما ندري ما تقول، فأقبل على أصحابه فقال: إن القوم ليسوا يقصدون غيري،
وقد قضيتم ما عليكم فانصرفوا، فأنتم في حل. فقالوا: لا والله، يا ابن رسول الله،
حتى تكون أنفسنا قبل نفسك، فجزاهم الخير. وخرج زهير بن القين على فرس له فنادى: يا
أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله! نذار عباد الله! ولد فاطمة أحق بالود والنصر
من ولد سمية، فإن لم تنصروهم، فلا تقاتلوهم. أيها الناس! إنه ما أصبح على ظهر
الأرض ابن بنت نبي إلا الحسين، فلا يعين أحد على قتله ولو بكلمة إلا نغصه الله
الدنيا، وعذبه أشد عذاب الآخرة.
ثم تقدموا رجلاً
رجلاً، حتى بقي وحده ما معه أحد من أهله، ولا ولده، ولا أقاربه، فإنه لواقف على
فرسه إذ أتي بمولود قد ولد له في تلك الساعة، فأذن في أذنه، وجعل يحنكه، إذ أتاه
سهم، فوقع في حلق الصبي، فذبحه، فنزع الحسين السهم من حلقه، وجعل يلطخه بدمه يقول:
والله لأنت أكرم على الله من الناقة، ولمحمد أكرم على الله من صالح! ثم أتى فوضعه
مع ولده وبني أخيه، ثم حمل عليهم، فقتل منهم خلقاً عظيماً، وأتاه سهم فوقع في
لبته، فخرج من قفاه، فسقط، وبادر القوم فاحتزوا رأسه، وبعثوا به إلى عبيد الله بن
زياد، وانتهبوا مضاربه، وابتزوا حرمه، وحملوهن إلى الكوفة، فلما دخلن إليها خرجت
نساء الكوفة يصرخن ويبكين، فقال علي بن الحسين: هؤلاء يبكين علينا فمن قتلنا؟
وأخرج عيال الحسين وولده إلى الشام، ونصب رأسه على رمح، وكان مقتله لعشر ليال خلون
من المحرم سنة واحد وستون، واختلفوا في اليوم، فقالوا: يوم السبت، وقالوا: يوم
الإثنين، وقالوا: يوم الجمعة، وكان من شهور العجم في تشرين الأول.
قال الخوارزمي: وكانت
الشمس يومئذ في الميزان سبع عشرة درجة وعشرين دقيقة، والقمر في الدلو عشرين درجة
وعشرين دقيقة، وزحل في السرطان تسعاً وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والمشتري في الجدي
اثنتي عشرة درجة وأربعين دقيقة، والزهرة في السنبلة خمس درجات وخمسين دقيقة،
وعطارد في الميزان خمس درجات وأربعين دقيقة، والرأس في الجوزاء درجة وخمساً
وأربعين دقيقة.
ووضع الرأس بين يدي
يزيد، فجعل يزيد يقرع ثناياه بالقصب وكان أول صارخة صرخت في المدينة أم سلمة زوج
رسول الله، كان دفع إليها قارورة فيها تربة، وقال لها: إن جبريل أعلمني أن أمتي
تقتل الحسين وأعطاني هذه التربة، وقال لي: إذا صارت دما عبيطا فاعلمي أن الحسين قد قتل، وكانت عندها، فلما حضر
ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كل ساعة، فلما رأتها قد صارت دما صاحت: وا
حسيناه! وابن رسول الله! وتصارخت النساء من كل ناحية، حتى ارتفعت المدينة بالرجة
التي ما سمع بمثلها قط.
وكانت سن الحسين يوم
قتل ستاً وخمسين سنة، وذلك أنه ولد في سنة أربعة من الهجرة.
وقيل للحسين: ما سمعت
من رسول الله؟ قال: سمعته يقول: إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، وعقلت
عنه أنه يكبر فأكبر خلفه، فإذا سمع تكبيري أعاد التكبير حتى يكبر سبعاً، وعلمني:
قل هو الله أحد، وعلمني الصلوات الخمس، وسمعته يقول: من يطع الله يرفعه، ومن يعص
الله يضعه، ومن يخلص نيته لله يزينه، ومن يثق بما عند الله يغنه، ومن يتعزز على
الله يذله. ئ قال بعضهم: سمعت الحسين يقول: الصدق عز، والكذب عجز، والسر أمانة والجوار قرابة،
والمعونة صداقة، والعمل تجربة، والخلق الحسن عبادة، والصمت زين، والشح فقر والسخاء
غنى، والرفق لب.
ووقف الحسين بن علي
بالحسن البصري، والحسن لا يعرفه، فقال له الحسين: يا شيخ هل ترضى لنفسك يوم بعثك؟
قال: لا! قال: فتحدث نفسك بترك ما لا ترضاه لنفسك من نفسك يوم بعثك؟ قال: نعم بلا
حقيقة. قال: فمن أغش لنفسه منك يوم بعثك، وأنت لا تحدث نفسك بترك ما لا ترضاه
لنفسك بحقيقة؟ ثم مضى الحسين، فقال الحسن البصري: من هذا؟ فقيل له: الحسين بن علي.
فقال: سهلتم علي.
وكان للحسين من
الولد: علي الأكبر، لا بقية له، قتل بالطف، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن
مسعود الثقفي، وعلي الأصغر، وأمه حرار بنت يزدجرد، وكان الحسين سماها غزالة.
وقيل لعلي بن الحسين:
ما أقل ولد أبيك! قال: العجب كيف ولدت له، إنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف
ركعة، فمتى كان يفرغ للنساء؟ وأقام عبد الله بن الزبير بمكة خالعاً يزيد، ودعا إلى
نفسه، وأخرج عامل يزيد. ووجه إليه يزيد ابن عضاة الأشعري، وكتب إليه يعطيه الأمان،
ويعلمه أنه كان حلف ألا يقبل بيعته إلا وهو في جامعة حديد، حتى يبايع ثم يطلقه.
وكان مروان بن الحكم عامل المدينة، فكره ابن الزبير أن يجيب إلى ذلك، وداخله الهلع
عندما بلغه من قتل الحسين، فوجه إليه مع بعض ثقاته بشعر يقول فيه:
فخذها فليست للعزيز
بخطه ... وفيها مقال لامرئ متذلل
وكان ابن الزبير شديد
العزة، فلم يفعل، وأجاب ابن عضاة بجواب غليظ، فقال ابن عضاة: إن الحسين بن علي كان
أجل قدراً في الإسلام وأهله من قبل، وقد رأيت حاله، فقال له ابن الزبير: إن الحسين
بن علي خرج إلى من لا يعرف حقه، وإن المسلمين قد اجتمعوا علي. فقال له: فهذا ابن
عباس، وابن عمر لم يبايعك، وانصرف.
وأخذ ابن الزبير عبد
الله بن عباس بالبيعة له، فامتنع عليه، فبلغ يزيد بن معاوية أن عبد الله بن عباس
قد امتنع على ابن الزبير، فسره ذلك، وكتب إلى ابن عباس: أما بعد فقد بلغني أن
الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته، وعرض عليك الدخول في طاعته لتكون على الباطل
ظهيرا وفي المأثم شريكا، وإنك امتنعت عليه، واعتصمت ببيعتنا وفاء منك لنا، وطاعة
لله فيما عرفك من حقنا، فجزاك الله من ذي رحم بأحسن ما يجزى به الواصلين لأرحامهم،
فإني ما آنس من الأشياء فلست بناس برك، وحسن جزائك، وتعجيل صلتك بالذي أنت مني
أهله في الشرف والطاعة والقرابة بالرسول، وانظر، رحمك الله، فيمن قبلك من قومك،
ومن يطرؤ عليك من الآفاق ممن يسحره الملحد بلسانه وزخرف قوله، فأعلمهم حسن رأيك في
طاعتي والتمسك ببيعتي، فإنهم لك أطوع، ومنك أسمع منهم للمحل الملحد، والسلام.
فكتب إليه عبد الله
بن عباس: من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية. أما بعد، فقد بلغني كتابك بذكر
دعاء ابن الزبير إياي إلى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من بيعته، فإن يك
ذلك كما بلغك، فلست حمدك أردت، ولا ودك، ولكن الله بالذي أنوي عليم. وزعمت أنك لست
بناس ودي فلعمري ما تؤتينا مما في يديك من حقنا إلا القليل، وإنك لتحبس عنا منه
العريض الطويل، وسألتني أن أحث الناس عليك وأخذ لهم عن ابن الزبير، فلا، ولا
سروراً، ولا حبوراً، وأنت قتلت الحسين بن علي، بفيك الكثكث ولك الأثلب، إنك إن
تمنك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنك لأنت المفند المهور. لا تحسبني، لا أبا لك، نسيت
قتلك حسينا وفتيان بني عبد المطلب، مصابيح الدجى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك
مصرعين في صعيد، مرملين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لا مكفنين، تسفي عليهم الرياح،
وتعاورهم الذئاب، وتنشى بهم عرج الضباع، حتى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في
دمائهم، فأجنوهم في أكفانهم، وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست، يا يزيد.
وما آنس من الأشياء،
فلست بناس تسليطك عليهم الدعي العاهر، ابن العاهر، البعيد رحما، اللئيم أبا وأما
الذي في ادعاء أبيك إياه ما اكتسب أبوك به إلا العار والخزي والمذلة في الآخرة
والأولى، وفي الممات والمحيا، إن نبي الله قال: الولد للفراش، وللعاهر الحجر.
فألحقه بأبيه كما يلحق بالعفيف النقي ولده الرشيد، وقد أمات أبوك السنة جهلاً
وأحيا البدع والأحداث المضلة عمداً.
وما آنس من الأشياء،
فلست بناس إطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرم
الله، ودسك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفا
يترقب، وقد كان أعز أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعز أهلها بها حديثاً، وأطوع
أهل الحرمين بالحرمين لو تبوأ بها مقاما واستحل بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو
الذي يستحل حرمة البيت وحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبر من ذلك ما لم
تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم وما لم يكبر ابن الزبير حيث الحد
بالبيت الحرام وعرضه للعائر وأراقل العالم، وأنت؟ لأنت المستحل فيما أظن بل لا شك
فيه إنك للمحرف العريف، فإنك حلف نسوة، صاحب ملأه، فلما رأى سوء رأيك شخص إلى
العراق، ولم يبتغك ضرابا، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
ثم إنك الكاتب إلى
ابن مرجانة أن يستقبل حسينا بالرجال، وأمرته بمعاجلته، وترك مطاولته، والإلحاح
عليه، حتى يقتله ومن معه من بني عبد المطلب، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم
الرجاس، وطهرهم تطهيراً، فنحن أولئك لسنا كأبائك الأجلاف قاه الأكباد الحمير.
ثم طلب الحسين بن علي
إليه الموادعة، وسألهم الرجعة، فاغتنمتم قلة أنصاره، واستئصال أهل بيته، فعدوتم
عليهم، فقتلوهم كأنما قتلوا أهل بيت من الترك والكفر، فلا شيء عندي أعجب من طلبك
ودي ونصري، وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت آخذ ثاري، فإن يشأ الله لا
يطل لديك دمي ولا تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا، فقبلنا ما قتل النبيون
وآل النبيين وكان الله الموعد، وكفى به للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً.
فلا يعجبنك أن ظفرت بنا اليوم، فو الله لنظفرن بك يوماً.
فأما ما ذكرت من
وفائي، وما زعمت من حقي، فإن يك ذلك كذلك، فقد والله بايعت أباك، وإني لأعلم أن
ابني عمي وجميع بني أبي أحق بهذا الأمر من أبيك، ولكنكم، معاشر قريش، كاثرتمونا،
فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقنا، فبعدا على من يجترئ على ظلمنا،
واستغوى السفهاء علينا، وتولى الأمر دوننا. فبعدا لهم كما بعدت ثمود، وقوم لوط،
وأصحاب مدين، ومكذبو المرسلين.
ألا ومن أعجب
الأعاجيب، وما عشت أراك الدهر العجيب، حملك بنات عبد المطلب وغلمة صغاراً من ولده
إليك بالشام كالسبي المجلوب، ترى الناس أنك قهرتنا، وأنك تأمر علينا، ولعمري لئن
كنت تصبح وتمسي آمنا لجرح يدي، إني لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا
يستقر بك الجدل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
قليلاً، حتى يأخذك أخذاً أليماً، فيخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً، فعش لا أبا
لك، فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت. والسلام على من أطاع الله.
وولى يزيد عثمان بن
محمد بن أبي سفيان المدينة، فأتاه ابن مينا، عامل صوافي معاوية، فأعلمه أنه أراد
حمل ما كان يحمله في كل سنة من تلك الصوافي من الحنطة والتمر، وأن أهل المدينة
منعوه من ذلك، فأرسل عثمان إلى جماعة منهم، فكلمهم بكلام غليظ، فوثبوا به وبمن كان
معه بالمدينة من بني أمية، وأخرجوهم من المدينة واتبعوهم يرجمونهم بالحجارة، فلما
انتهى الخبر إلى يزيد بن معاوية وجه إلى مسلم بن عقبة، فأقدمه من فلسطين، وهو
مريض، فأدخله منزله، ثم قص عليه القصة، فقال: يا أمير المؤمنين! وجهني إليهم فو
الله لأدعن أسفلها أعلاها، يعني مدينة الرسول، فوجهه في خمسة آلاف إلى المدينة،
فأوقع بأهلها وقعة الحرة، فقاتله أهل المدينة قتالاً شديدا، وخندقوا على المدينة،
فرام ناحية من نواحي الخندق، فتعذر ذلك عليه، فخدع مروان بعضهم، فدخل ومعه مائة
فارس، فاتبعه الخيل حتى دخلت المدينة، فلم يبق بها كثير أحد إلا قتل، وأباح حرم
رسول الله، حتى ولدت الأبكار لا يعرف من أولدهن، ثم أخذ الناس على أن يبايعوا على
انهم عبيد يزيد بن معاوية، فكان الرجل من قريش يؤتى به، فيقال: بايع آية إنك عبد
قن ليزيد، فيقول: لا! فيضرب عنقه، فأتاه علي بن الحسين فقال: علام يريد يزيد أن
أبايعك؟ قال: على أنك أخ وابن عم. فقال: وإن أردت أن أبايعك على أني عبد قن، فعلت فقال: ما أحشمك هذا،
فلما أن رأى الناس إجابة علي بن الحسين قالوا: هذا ابن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بايعه على ما يريد، فبايعوه على ما أراد، وكان ذلك سنة اثنان وستون.
وكان جيش مسلم خمسة
آلاف رجل: من فلسطين ألف رجل عليهم روح ابن زنباع الجذامي، ومن الأردن ألف رجل
عليهم حبيش بن دلجة القيني، ومن دمشق ألف رجل عليهم عبد الله بن مسعدة الفزاري،
ومن أهل حمص ألف رجل عليهم الحصين بن نمير السكوني، ومن قنسرين ألف رجل عليهم زفر
بن الحارث الكلابي. وكان المدبر لأمر أهل المدينة والرئيس في محاربة أهل الشام عبد
الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاري.
وخرج مسلم بن عقبة من
المدينة يريد مكة لمحاربة ابن الزبير، فلما صار بثنية المشلل احتضر، واستخلف
الحصين بن نمير، وقال له: يا برذعة الحمار! لو لا حبيش بن دلجة القيني لما وليتك،
فإذا قدمت مكة، فلا يكون عملك إلا الوقاف ثم الثقاف، ثم الانصراف، ثم قال: اللهم
إن عذبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية وقتل أهل الحرة، فإني إذا لشقي. ثم
خرجت نفسه فدفن بثنية المشلل، وجاءت أم ولد يزيد بن عبد الله بن زمعة، فنبشته
وصلبته على المشلل، وجاء الناس فرجموه، وبلغ الخبر الحصين بن نمير فرجع فدفنه،
وقتل جماعة من أهل ذلك الموضع، وقيل لم يدع منهم أحداً.
وقدم الحصين بن نمير
مكة فناوش ابن الزبير الحرب في الحرم، ورماه بالنيران حتى أحرق الكعبة. وكان عبد
الله بن عمير الليثي قاضي ابن الزبير، إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة، فنادى
بأعلى صوته: يا أهل الشام! هذا حرم الله الذي كان مأمناً في الجاهلية يأمن فيه
الطير والصيد، فاتقوا الله، يا أهل الشام! فيصيح الشاميون: الطاعة الطاعة! الكرة
الكرة! الرواح قبل المساء! فلم يزل على ذلك حتى أحرقت الكعبة، فقال أصحاب ابن الزبير: نطفئ
النار، فمنعهم، وأراد أن يغضب الناس للكعبة، فقال بعض أهل الشام إن الحرمة والطاعة
اجتمعتا، فغلبت الطاعة الحرمة. وكان حريق الكعبة في سنة ثلاث وستون.
وولى يزيد سلم بن
زياد خراسان، وبعث معه بعده من الأشراف، أحدهم طلحة الطلحات، وهو طلحة بن عبد الله
بن خلف الخزاعي، والمهلب ابن أبي صفرة، وعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعبد
الله بن خازم السلمي فصار إلى خراسان، فأقام بنيسابور، ثم صار إلى خوارزم، ففتحها.
ثم صار إلى بخارى،
وملكتها خاتون، فلما رأت كثرة جمعه هالها ذلك، وكتبت إلى طرخون ملك السغد: أني
متزوجتك، فأقبل إلي لتملك بخارى، فأقبل إليها في مائة ألف وعشرين ألفاً، فوجه سلم
المهلب بن أبي صفرة طليعة له لما بلغه إقبال طرخون، فخرج وتبعه الناس، فلما أشرفوا
على عسكر طرخون زحف أصحاب طرخون إليهم، والتحم القتال، ورشقهم المسلمون بالنبل،
فقتل طرخون وانهزم أصحابه، فقتل منهم بشر كثير، فبلغت سهام المسلمين يومئذ للفارس
ألفين وأربعمائة، وللراجل ألفاً ومائتين، ولم يزل ابن زياد بخراسان حتى توفي يزيد،
وكان يكتم موته حتى ذاع في الناس، فانصرف سلم من خراسان، فاستخلف عليها ابن خازم
السلمي، وذلك أنه خاف أن يثب به، فداراه وبلغه اختلاط الناس، فأعطاه عهده ومضى.
وأقام ابن خازم
بخراسان فعمل العجائب، ولم يكن يرد عليه، وسار سليمان إلى هراة، ووثب أوس بن ثعلبة
بالطالقان، فلم يزل يحاربهما ويحارب الترك، وهو في كل ذلك منصور عليهم. وتوفي يزيد
بن معاوية في صفر سنة أربع وستون بموضع يقال له حوارين وحمل إلى دمشق، فدفن بها،
وصلى عليه معاوية بن يزيد. وكان له من الولد الذكور أربعة: معاوية، وخالد، وأبو
سفيان، وعبد الله، وكان الغالب عليه حسان بن بحدل الكلبي، وروح بن زنباع الجذامي،
والنعمان بن بشير، وعبد الله بن رياح، وكان على شرطة عبد الله بن عامر الهمداني،
وعلى حرسه سعيد مولى كلب، وحاجبه صفوان مولاه.
وكتب مروان بن الحكم
إلى الحصين بن نمير، وهو في محاربة ابن الزبير: لا يهولنك ما حدث، وامض لشأنك.
وبلغ الخبر ابن الزبير وذاع في العسكر، فانكسرت شوكة القوم، وأرسل الحصين بن نمير
إلى ابن الزبير: نلتقي الليلة على الأمان، فالتقيا، فقال له الحصين بن نمير: إن
يزيد قد مات، وابنه صبي، فهل لك أن أحملك إلى الشام، فليس بالشام أحد، فأبايع لك،
فليس يختلف عليك اثنان؟ فقال ابن الزبير، رافعا صوته: لا والله الذي لا إله إلا
هو، أو تقتل بأهل الحرة أمثالهم من أهل الشام فقال له الحصين: من زعم أنك داهية
فهو أحمق. أقول لك ما لك سراً، وتقول لي ما عليك علانية؟ ثم انصرف. وكان سعيد بن
المسيب يسمى سني يزيد بن معاوية بالشؤم: في السنة الأولى قتل الحسين بن علي وأهل
بيت رسول الله، والثانية استبيح حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهكت حرمة المدينة،
والثالثة سفكت الدماء في حرم الله وحرقت الكعبة.
وأقام الحج في ولاية
يزيد بن معاوية سنة ستون عمرو بن سعيد بن العاص، وفي سنة واحد وستون الوليد بن
عتبة، وفي سنة اثنان وستون الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وغزا في الناس في ولايته
سنة واحد وستون، غزا مالك بن عبد الله الخثعمي الصائفة، وهي غزاة سورية.
أيام معاوية بن يزيد
بن معاوية
ثم ملك معاوية بن
يزيد بن معاوية، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، أربعين يوماً، وقيل:
بل أربعة أشهر، وكان له مذهب جميل، فخطب الناس، فقال: أما بعد حمد الله والثناء
عليه، أيها الناس فإنا بلينا بكم وبليتم بنا فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا،
ألا وإن جدي معاوية ابن أبي سفيان نازع الأمر من كان أولى به منه في القرابة برسول
الله، وأحق في الإسلام، سابق المسلمين، وأول المؤمنين، وابن عم رسول رب العالمين،
وأبا بقية خاتم المرسلين، فركب منكم ما تعلمون، وركبتم منه ما لا تنكرون، حتى أتته
منيته وصار رهنا بعمله، ثم قلد أبي وكان غير خليق للخير، فركب هواه، واستحسن خطأه،
وعظم رجاؤه، فأخلفه الأمل، وقصر عنه الأجل، فقلت منعته، وانقطعت مدته، وصار أحفرته
رهناً بذنبه، وأسيراً بجرمه. ثم بكى، وقال: إن أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه
وقبح منقلبه، وقد قتل عترة الرسول، وأباح الحرمة وحرق الكعبة، وما أنا المتقلد
أموركم، ولا المتحمل تبعاتكم، فشأنكم أمركم، فو الله لئن كانت الدنيا مغنماً لقد
نلنا منها حظاً، وإن تكن شراً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها. فقال له مروان بن
الحكم: سنها فينا عمرية! قال: ما كنت أتقلدكم حيا وميتا، ومتى صار يزيد بن معاوية
مثل عمر، ومن لي برجل مثل رجال عمر. وتوفي وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وصلى عليه
خالد بن يزيد بن معاوية، وقيل بل عثمان بن محمد بن أبي سفيان، ودفن بدمشق، وكان
بها ينزل.
أيام مروان بن
الحكموعبد الله بن الزبير وأيام من أيام عبد الملك وكان عبد الله بن الزبير بن
العوام، وأمه أسماء بنت أبي بكر، قد تغلب على مكة، وتسمى بأمير المؤمنين، ومال
إليه أكثر النواحي، وكان ابتداء أمره في أيام يزيد بن معاوية، على ما اقتصصنا من
خبره، ومحاربته للحصين بن نمير، فلما توفي يزيد بن معاوية مال الناس من البلدان
جميعاً إلى ابن الزبير، وكان بمصر عبد الرحمن بن جحدم الفهري عاملاً لابن الزبير،
وأهل مصر في طاعته، وبفلسطين ناتل بن قيس الجذامي، وبدمشق الضحاك بن قيس الفهري،
وبحمص النعمان بن بشير الأنصاري، وبقنسرين والعواصم زفر بن الحارث الكلابي،
وبالكوفة عبد الله بن مطيع، وبالبصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وبخراسان
عبد الله بن خازم السلمي، ولم تبق ناحية إلا مالت إلى ابن الزبير خلا الأردن،
ورئيسها يومئذ حسان بن بحدل الكلبي.
وأخرج ابن الزبير بني
أمية من المدينة، وأخذ مروان بالخروج، فأتى عبد الملك ابنه، وهو عليل مجدر، فقال
له: يا بني إن ابن الزبير قد أخرجني! قال: فما يمنعك أن تخرجني معك؟ قال: كيف
أخرجك وأنت على هذا الحال؟ قال: لفني في القطن، فإن هذا رأي لم يتعقبه ابن الزبير.
فخرج وأخرج عبد الملك، وتعقب ابن الزبير الرأي، فعلم أنه قد أخطأ، فوجه يردهم
ففاتوه.
وقدم مروان، وقد مات
معاوية بن يزيد، وأمر الشام مضطرب، فدعا إلى نفسه، واجتمع الناس بالجابية من أرض
دمشق، فتناظروا في ابن الزبير وفيما تقدم لبني أمية عندهم، وتناظروا في خالد بن
يزيد بن معاوية، وفي عمرو بن سعيد بن العاص بعده، وكان روح بن زنباع الجذامي يميل
مع مروان، فقام خطيباً، فقال: يا أهل الشام! هذا مروان بن الحكم شيخ قريش، والطالب
بدم عثمان، والمقاتل لعلي بن أبي طالب يوم الجمل، ويوم صفين، فبايعوا الكبير،
واستنيبوا للصغير، ثم لعمرو بن سعيد.
فبايعوا لمروان بن
الحكم، ثم لخالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد. فلما عقدوا البيعة جمعوا من كان في
ناحيتهم، ثم تناظروا في أي بلد يقصدون، فقالوا: نقصد دمشق، فإنها دار الملك، ومنزل
الخلفاء، وقد تغلب بها الضحاك بن قيس. فقصدوا دمشق، فلقوا الضحاك بمرج راهط، وكان
مع الضحاك من أهل دمشق وفتينهم جماعة، وقد أمده النعمان بن بشير عامل حمص بشر حبيل
بن ذي الكلاع في أهل حمص، وأمده زفر بن الحارث الكلابي بقيس بن طريف بن حسان
الهلالي، والتقوا بمرج راهط، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل الضحاك بن قيس وخلق من
أصحابه، وهرب من بقي من جيشه.
وبلغ الخبر النعمان
بن بشير، وهو بحمص، فخرج هارباً، ومعه امرأته الكنانية وثقله وولده، فتبعه قوم من
حمير وباهلة، فقتلوه في البرية، واحتزوا رأسه. ووجهوا به إلى مروان بن الحكم.
وهرب زفر بن الحارث
الكلابي والخيل تتبعه حتى أتى قرقيسيا وبها عياض الحرشي من مذحج فأغلق أبوابها
دونه. فلم يزل يخدعه حتى دخلها.
ووجه مروان حبيش بن
دلجة القيني إلى الحجاز لمحاربة ابن الزبير، فسار حتى أتى المدينة، وعليها جابر بن
الأسود بن عوف الزهري عامل ابن الزبير، وكتب ابن الزبير إلى الحارث بن عبد الله
عامله على البصرة أن يوجه إليهم بجيش، فلقوا حبيشا فقتلوه وقتلوا عامة أصحابه فلم
يفلت منهم إلا الشريد فكان فيمن أفلت منهم: يوسف بن الحكم الثقفي، وابنه الحجاج بن
يوسف. ثم خرج مروان يريد مصر، فلما سار إلى فلسطين وجد ناتل بن قيس الجذامي
متغلباً على البلد، وأخرج روح بن زنباع، فحاربه، فلما لم يكن لناتل قوة على محاربة
مروان هرب، فلحق بابن الزبير، وسار مروان يريد مصر حتى دخلها، فصالحه أهلها،
وأعطوه الطاعة، وأخرج ابن جحدم الفهري، عامل ابن الزبير، وقيل اغتاله فقتله، وقتل
أكيدر بن حمام اللخمي، واستعمل عليها ابنه عبد العزيز بن مروان وانصرف.
وقام سليمان بن صرد
الخزاعي، والمسيب بن نجبة الفزاري، وخرجا في جماعة معهما من الشيعة بالعراق، بموضع
يقال له عين الوردة، يطلبون بدم الحسين بن علي، ويعملون بما أمر الله به بني
إسرائيل، إذ قال: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتاب
عليكم، إنه هو التواب الرحيم، واتبعهم خلق من الناس، فوجه إليهم مروان عبيد الله
بن زياد، وقال: إن غلبت على العراق فأنت أميرها، فلقي سليمان بن صرد، فلم يزل
يحاربه حتى قتله، وقيل لم يقتل سليمان في أيام مروان، ولكنه قتل في أيام عبد الملك.
ولما صار مروان إلى
الصنبرة من أرض الأردن، منصرفا من مصر، بلغه أن حسان بن بحدل قد بايع عمرو بن
سعيد، فأحضره فقال له: قد بلغني أنك بايعت عمرو بن سعيد، فأنكر ذلك، فقال له: بايع
لعبد الملك، فبايع لعبد الملك، ثم بعده لعبد العزيز بن مروان، ولم يبرح مروان من
الصنبرة حتى توفي.
وكان سبب وفاته أنه
تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية، فدخل إليه يوماً فأفحش له في القول، ثم أعاد عليه
في يوم آخر مثل ذلك، فدخل خالد إلى أمه مغضبا، فخبرها، فقالت: والله لا يشرب
البارد بعدها! فصيرت له سما في لبن، فلما دخل سقته إياه. وقال بعضهم: بل وضعت على
وجهه وسادة حتى قتلته. وقال قوم: إنه توفي بدمشق ودفن بها.
وكانت ولاية مروان
تسعة أشهر، فتوفي في شهر رمضان سنة خمس وستون، وهو ابن إحدى وستين سنة، وكان صاحب
شرطته يحيى بن قيس الغساني، وحاجبه أبو سهل الأسود، وصلى عليه عبد الملك ابنه،
وخلف من الولد اثني عشر ذكرا وهم: عبد الملك وعبد العزيز، ومعاوية، وبشر، وعمر،
وأبان، وعبد الله، وعبيد الله، وأيوب، وداود، وعثمان، ومحمد.
وخلف أهل الشام عبد
الملك، فأقبل مسرعاً إلى دمشق خوفاً من وثوب عمرو بن سعيد، واجتمع الناس عليه،
فقال لهم: إني أخاف أن يكون في أنفسكم مني شيء فقام جماعة من شيعة مروان، فقالوا:
والله لتقومن إلى المنبر، أو لنضربن عنقك! فصعد المنبر وبايعوه.
وكان المختار بن أبي
عبيد الثقفي أقبل في جماعة عليهم السلاح، يريدون نصر الحسين بن علي، فأخذه عبيد
الله بن زياد، فحبسه، وضربه بالقضيب، حتى شتر عينه، فكتب فيه عبد الله بن عمر إلى
يزيد بن معاوية وكتب يزيد إلى عبيد الله: إن خل سبيله، فخلى سبيله، ونفاه، فخرج
المختار إلى الحجاز، فكان مع ابن الزبير، فلما لم ير ابن الزبير يستعمله شخص إلى
العراق، فوافى وقد خرج سليمان بن صرد الخزاعي يطلب بدم الحسين، فلما صار إلى
الكوفة اجتمعت إليه الشيعة، فقال لهم: إن محمد بن علي بن أبي طالب بعثني إليكم
أميرا، وأمرني بقتل المحلين، وأطلب بدماء أهل بيته المظلومين، وإني والله قاتل ابن
مرجانة، والمنتقم لآل رسول الله ممن ظلمهم. فصدقه طائفة من الشيعة، وقالت طائفة:
نخرج إلى محمد بن علي فنسأله، فخرجوا إليه، فسألوه، فقال: ما أحب إلينا من طلب بثأرنا،
وأخذ لنا بحقنا، وقتل عدونا، فانصرفوا إلى المختار، فبايعوه وعاقدوه، واجتمعت
طائفة.
==========
===========
مجلد 4. من كتاب :
تاريخ اليعقوبي اليعقوبي
وكان ابن مطيع عامل
ابن الزبير على الكوفة، فجعل يطلب الشيعة ويخيفهم، فواعد المختار أصحابه، ثم خرجوا
بعد المغرب، وصاحب الجيش إبراهيم ابن مالك بن الحارث الأشتر، ونادى: يا لثارات
الحسين بن علي! وكان ذلك سنة ست وستون، والتحم القتال بينهم وبين عبد الله بن
مطيع، وكانت أشد حرب وأصعبها.
ثم صار ابن مطيع إلى
القصر ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوا لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع
المختار إلى ابن مطيع مائة ألف، وقال له: تحمل بها وأنفذ لوجهك. وسرح المختار
عماله إلى النواحي، فأخرجوا من كان فيها، وأقاموا بها.
وكان عامل المختار
على الموصل عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، فزحف إليه عبيد الله بن زياد، بعد
قتله سليمان بن صرد، فحاربه عبد الرحمن، وكتب إلى المختار بخبره، فوجه إليه يزيد
بن أنس، ثم وجه إبراهيم بن مالك بن الحارث الأشتر، فلقي عبيد الله بن زياد فقتله،
وقتل الحصين بن نمير السكوني، وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، وحرق أبدانهما
بالنار، وأقام واليا على الموصل وأرمينية وآذربيجان من قبل المختار وهو على العراق
وال، ووجه برأس عبيد الله بن زياد إلى علي بن الحسين إلى المدينة مع رجل من قومه،
وقال له: قف بباب علي بن الحسين، فإذا رأيت أبوابه قد فتحت ودخل الناس، فذاك
الوقت الذي يوضع فيه طعامه، فأدخل إليه. فجاء الرسول إلى باب علي بن الحسين، فلما
فتحت أبوابه، ودخل الناس للطعام، نادى بأعلى صوته: يا أهل بيت النبوة، ومعدن
الرسالة، ومهبط الملائكة، ومنزل الوحي! أنا رسول المختار بن أبي عبيد معي رأس عبيد
الله بن زياد، فلم تبق في شيء من دور بني هاشم امرأة إلا صرخت، ودخل الرسول، فأخرج
الرأس، فلما رآه علي بن الحسين قال: أبعده الله إلى النار. وروى بعضهم أن علي بن
الحسين لم ير ضاحكا يوماً قط، منذ قتل أبوه، إلا في ذلك اليوم، وإنه كان له إبل
تحمل ألفاًكهة من الشام، فلما أتي برأس عبيد الله بن زياد أمر بتلك ألفاًكهة،
ففرقت في أهل المدينة وامتشطت نساء آل رسول الله، واختضبن، وما امتشطت امرأة ولا
اختضبت منذ قتل الحسين بن علي وتتبع المختار قتلة الحسين فقتل منهم خلقا عظيما،
حتى لم يبق منهم كثير أحد، وقتل عمر بن سعد وغيره، وحرق بالنار، وعذب بأصناف
العذاب.
وهدم ابن الزبير
الكعبة في جمادى الآخرة سنة أربع وستون، حتى ألصقها بالأرض، وذلك أن الحصين بن
نمير لما أراد ابن الزبير هدمها امتنع، وامتنع الناس من الهدم، فعلا عبد الله بن
الزبير على البيت، فهدم، فلما رآه الناس يهدم هدموا، فلما ألصقها بالأرض خرج ابن
عباس من مكة إعظاما للمقام بها، وقد هدمت الكعبة، وقال له: اضرب حوالي الكعبة
الخشب لا تبق الناس بغير قبله.
وروى ابن الزبير عن
خالته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قال لي رسول الله: يا عائشة
إن بدا لقومك أن يهدموا الكعبة ثم يبنوها، فلا يرفعوها عن الأرض، وليصيروا لها
بابين. فلما بلغ ابن الزبير بالهدم إلى القواعد أدخل الحجر في البناء حتى رفعها،
وجعل لها بابين باباً شرقياً وباباً غربياً وصير على كل باب مصراعين، وكان على
بابها الأول مصراع واحد، وجعل طول البابين إحدى عشرة ذراعاً، وكان ارتفاعها في
السماء ثماني عشرة ذراعاً، فجعلها ابن الزبير تسعا وعشرين ذراعاً، ولم يرفعها عن
الأرض بل جعلها مستوية مع وجه الأرض. وكان قد أخذ الحجر الأسود فجعله عنده في
بيته، فلما بلغ البناء إلى موضع الحجر أمر فحفر له في الحجارة على قدره، ثم أمر
ابنه عباداً أن يأتي، وهو في صلاة الظهر، فيضعه في موضعه، والناس في الصلاة لا
يعلمون، فإذا فرغ من وضعه كبر، فجاء عباد بن عبد الله بن الزبير بالحجر، وأبوه
يصلي بالناس الظهر في يوم شديد الحر، فشق الصفوف حتى صار إلى الموضع، ثم وضعه،
وطول ابن الزبير الصلاة حتى وقف عليه، فلما رأت قريش ذلك غضبت وقالت: والله ما
هكذا فعل رسول الله، ولقد حكمته قريش، فجعل لكل قبيلة نصيباً.
وكان الركن لما أصابه
الحريق تصدع بثلاث قطع، فشده ابن الزبير بالفضة، ولما فرغ من البناء خلق داخل
الكعبة وخارجها، فكان أول من خلقها وكساها القباطي، واعتمر من التنعيم، ومشى.
ومنع عبد الملك أهل
الشام من الحج، وذلك أن ابن الزبير كان يأخذهم، إذا حجوا، بالبيعة، فلما رأى عبد
الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة، فضج الناس، وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله
الحرام، وهو فرض من الله علينا! فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال: لا تشد الرجال إلا إلى
ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس وهو يقوم لكم مقام المسجد
الحرام، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع قدمه عليها،
لما صعد إلى السماء، تقوم لكم مقام الكعبة، فبنى على الصخرة قبة، وعلق عليها ستور
الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة،
وأقام بذلك أيام بني أمية.
وتحامل عبد الله بن
الزبير على بني هاشم تحاملاً شديداً، وأظهر لهم العداوة والبغضاء، حتى بلغ ذلك منه
أن ترك الصلاة على محمد في خطبته، فقيل له: لم تركت الصلاة على النبي؟ فقال: إن له
أهل سوء يشرئبون لذكره ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به.
وأخذ ابن الزبير محمد
بن الحنفية، وعبد الله بن عباس، وأربعة وعشرين رجلاً من بني هاشم ليبايعوا له،
فامتنعوا، فحبسهم في حجرة زمزم، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ليبايعن أو
ليحرقنهم بالنار، فكتب محمد بن الحنفية إلى المختار بن أبي عبيد: بسم الله الرحمن
الرحيم، من محمد بن علي ومن قبله من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المختار
بن أبي عبيد ومن قبله من المسلمين، أما بعد فإن عبد الله بن الزبير أخذنا، فحبسنا
في حجرة زمزم، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو لنبايعنه، أو ليضرمنها علينا بالنار،
فيا غوثاً! فوجه إليهم المختار بن أبي عبيد بأبي عبد الله الجدلي في أربعة آلاف
راكب، فقدم مكة، فكسر الحجرة، وقال لمحمد بن علي: دعني وابن الزبير! قال: لا أستحل
من قطع رحمه ما استحل مني.
وبلغ محمد بن علي بن
أبي طالب أن ابن الزبير قام خطيبا فنال من علي بن أبي طالب، فدخل المسجد الحرام،
فوضع رحلا، ثم قام عليه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ثم قال: شاهت
الوجوه، يا معشر قريش، أيقال هذا بين أظهركم وأنتم تسمعون ويذكر علي فلا تغضبون؟
ألا إن علياً كان سهما صائبا من مرامي الله أعداءه، يضرب وجوههم، ويهوعهم مأكلهم،
ويأخذ بحناجرهم. ألا وأنا على سنن ونهج من حاله، وليس علينا في مقادير الأمور
حيلة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فبلغ قوله عبد الله
بن الزبير، فقال: هذا عذرة بني الفواطم، فما بال ابن أمه بني حنيفة؟ وبلغ محمداً
قوله، فقال: يا معاشر قريش وما ميزني من بني الفواطم؟ أليست فاطمة ابنة رسول الله
حليلة أبي وأم إخوتي؟ أ وليست فاطمة بنت أسد بن هاشم جدتي وأم أبي؟ أليست فاطمة
بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم جدة أبي وأم جدتي؟ أما والله لو لا خديجة بنت
خويلد لما تركت في أسد عظماً إلا هشمته، فإني بتلك التي فيها المعاب صبير.
ولما لم يكن بابن
الزبير قوة على بني هاشم، وعجز عما دبره فيهم، أخرجهم عن مكة، وأخرج محمد بن
الحنفية إلى ناحية رضوى، وأخرج عبد الله بن عباس إلى الطائف إخراجاً قبيحاً، وكتب
محمد بن الحنفية إلى عبد الله بن عباس: أما بعد، فقد بلغني أن عبد الله بن الزبير
سيرك إلى الطائف، فرفع الله بك أجرا، واحتط عنك وزرا، يا ابن عم، إنما يبتلي
الصالحون، وتعد الكرامة للأخيار ولو لم تؤجر إلا فيما نحب وتحب قل الأجر، فاصبر
فإن الله قد وعد الصابرين خيراً، والسلام.
وروى بعضهم أن محمد
بن الحنفية صار أيضا إلى الطائف، فلم يزل بها، وتوفي ابن عباس بها في سنة ثمان
وستون، وهو ابن إحدى وسبعين سنة، وصلى عليه محمد ابن الحنفية، ودفن عبد الله بن
عباس بالطائف في مسجد جامعها، وضرب عليه فسطاط، ولما دفن أتى طائر أبيض فدخل معه
قبره، فقال بعض الناس: علمه، وقال آخرون: عمله الصالح.
قال عبد الله بن عباس:
أردفني رسول الله، ثم قال لي: يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قلت: بلى!
يا رسول الله. قال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، اذكر الله في الرخاء
يذكرك في الشدة، إذا
سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما هو كائن، ولو جهد الخلق
على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لم يقدروا عليه، ولو جهدوا على أن يضروك بشيء لم
يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، فعليك بالصدق في اليقين، إن في الصبر على ما تكره
خيراً كثيراً، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً.
وكان لعبد الله بن
العباس من الولد خمسة ذكور: علي بن عبد الله، وهو أصغرهم سناً، إلا أنه تقدم لشرفه
ونبله، والعباس كان أكبر ولده، وكان يلقب بالأعنق، ومحمد، والفضل، وعبد الرحمن.
وفي هذه السنة وقفت
أربعة ألوية بعرفات: محمد بن الحنفية في أصحابه، وابن الزبير في أصحابه، ونجدة بن
عامر الحروري، ولواء بني أمية، وقال المساور بن هند بن قيس: وتشعبوا شعباً، فكل
قبيلة فيها أمير المؤمنين.
ووجه عبد الله بن
الزبير أخاه مصعب بن الزبير إلى العراق، فقدمها سنة ثمان وستون، فقاتله المختار،
وكانت بينهم وقعات مذكورة، وكان المختار شديد العلة من بطن به، فأقام يحارب مصعبا
أربعة أشهر، ثم جعل أصحابه يتسللون منه حتى بقي في نفر يسير، فصار إلى الكوفة،
فنزل القصر، وكان يخرج في كل يوم، فيحاربهم في سوق الكوفة أشد محاربة، ثم يرجع إلى
القصر. وكان عبيد الله بن علي بن أبي طالب مع مصعب بن الزبير، فجعل مصعب يقول: يا
أيها الناس، المختار كذاب، وإنما يغركم بأنه يطلب بدم آل محمد، وهذا ولي الثأر،
يعني عبيد الله بن علي، يزعم أنه مبطل فيما يقول.
ثم خرج المختار
يوماً، فلم يزل يقاتلهم أشد قتال يكون، حتى قتل، ودخل أصحابه إلى القصر فتحصنوا،
وهم سبعة آلاف رجل، فأعطاهم مصعب الأمان، وكتب لهم كتابا بأغلظ العهود، وأشد
المواثيق، فخرجوا على ذلك، فقد مهم رجلاً رجلاً فضرب أعناقهم، فكانت إحدى الغدرات
المذكورة المشهورة في الإسلام. وأخذ أسماء بنت النعمان بن بشير امرأة المختار،
فقال لها: ما تقولين في المختار بن أبي عبيد؟ قالت: أقول إنه كان تقياً، نقياً
صواماً. قال: يا عدوة الله أنت ممن يزكيه! فأمر بها فضرب عنقها، وكانت أول امرأة
ضرب عنقها صبراً، فقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
إن من أعجب العجائب
عندي ... قتل بيضاء حرة عطبول
قتلوها بغير جرم أتته
... إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال
علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
فلما قتل مصعب بن
الزبير المختار، واستقامت له أمور العراق، حسده عبد الله بن الزبير على ذلك، فوجه
حمزة ابنه إلى البصرة، وكتب إلى مصعب أن يصرف أمر البصرة إلى حمزة ففعل ذلك، فكان
حمزة من أضعف الناس، وأقلهم علما بالأمر، ثم اجتبى خراج البصرة، ونفذ إلى أبيه إلى
مكة.
ووفد مصعب على أخيه
عبد الله فجفاه حتى كان ليدخل فيسلم فلا يرفعه، فلما قدم على عبد الله ابنه حمزة
رد مصعب إلى العراق، وقتل عبد الله بن الزبير أخاه عمرو بن الزبير لعداوة كانت
بينه وبينه، ولمبايعته لمروان بن الحكم، وقيل: إنه كان على شرطة عمرو بن سعيد، فوجه به عمرو لمحاربة أخيه فقتله.
وولى ابن الزبير
المهلب بن أبي صفرة خراسان، وكان مع مصعب، فقدم البصرة، وقد حصرت الخوارج أهلها،
وغلبت على جميع سوادها وكورها، فلم يبق في أيدي أهلها إلا المدينة، فلما
قدم عليهم المهلب فزع
إليه أشراف الناس ووجوههم، وأتاه الأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومالك بن
مسمع، فيمن معهم من العشائر، فقالوا: يا أبا سعيد! أنت شيخ الناس، وسيف العراق، وقد ترى ما فيه أهل مصرك من هذه الخوارج
المارقة، والإقامة على منع بلدك، والذب عن حريمك أولى لك من خراسان. فقال:
نعم! أقيم على محاربة
هؤلاء، على أن لي جميع ما أغلبهم عليه، وانتزعه من أيديهم من خراج أو غيره.
فأجابته العشائر إلى ذلك خلا مالك بن مسمع، فإنه امتنع عليه، وكانت في مالك أبهة
شديدة وكبر معروف، فوثب الأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود على مالك بن مسمع،
فقالا له: رأيت الذي تمنعه أبا سعيد، أهو شيء في يدك أو في يد عدوك؟ قال: في يد
عدوي. قالا: فو الله ما أنصفته إن تسأله أن يحمي دمك وحرمتك، ثم تمنعه ما أنت
مغلوب عليه، فهو يجعل لك ما سألت، وقم بمحاربة القوم! قال: لا أقوى على ذلك.
فقالا: فهذا الظلم والعجز. ثم جعلوا جميعاً للمهلب ما سأل، فأقام على محاربة الخوارج، ورئيسهم
يومئذ نافع بن الأزرق، وبه سموا الأزارقة، حتى أجلاهم عن البصرة.
وسار عبد الملك إلى
مصعب بن الزبير في سنة واحد وسبعون، فلقيه بموضع يقال له دير الجاثليق، على فرسخين
من الأنبار، فكانت بينهم وقعات وحروب، وجادة عبد الملك القتال، وخذل مصعبا أكثر
أصحابه، وكان أكثر من خذله منهم ربيعة، ثم حملوا عليه، وهو جالس على سريره،
فقتلوه، وحز رأسه عبيد الله ابن زياد بن ظبيان، وأتى به عبد الملك، فلما وضعه بين
يديه خر ساجداً.
قال عبيد الله: فهممت
أن أضرب عنقه، فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد.
وقال بعضهم: دخلت على
عبد الملك بن مروان، وبين يديه رأس مصعب بن الزبير، فقلت: يا أمير المؤمنين! لقد رأيت في هذا الموضع عجبا! قال: وما رأيت؟ قلت:
رأيت رأس الحسين بن علي بين يدي عبيد الله بن زياد! ورأيت رأس عبيد الله بن زياد
بين يدي المختار بن أبي عبيد، ورأيت رأس المختار بن أبي عبيد بين يدي مصعب بن
الزبير، ورأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك. قال: فخرج من ذلك البيت، وأمر بهدمه.
وكان قتل مصعب بن الزبير في ذي القعدة سنة اثنان وسبعون.
وقال المضاء بن
علوان، كاتب مصعب بن الزبير: دعاني عبد الملك بعد ما قتل مصعباً، فقال لي: علمت
أنه لم يبق من أصحاب مصعب وخاصته أحد إلا كتب إلي يطلب الأمان والجوائز والصلات
والأقطاعات؟ قلت: قد علمت، يا أمير المؤمنين، إنه لم يبق من أصحابك أحد إلا وقد
كتب إلى مصعب بمثل ذلك، وهذه كتبهم عندي. قال: فجئني بها، فجئته بإضبارة عظيمة، فلما رآها قال: ما حاجتي أن
أنظر فيها، فأفسد صنائعي، وأفسد قلوبهم علي. يا غلام! أحرقها بالنار، فأحرقت.
ولما قتل عبد الملك
بن مروان مصعب بن الزبير ندب الناس للخروج إلى عبد الله بن الزبير، فقام إليه
الحجاج بن يوسف فقال: ابعثني إليه، يا أمير المؤمنين، فإني رأيت في المنام كأني
ذبحته، وجلست على صدره، وسلخته. فقال: أنت له، فوجهه في عشرين ألفاً من أهل الشام
وغيرهم، وقدم الحجاج بن يوسف، فقاتلهم قتالاً شديداً، وتحصن بالبيت، فوضع عليه
المجانيق، فجعلت الصواعق تأخذهم، ويقول: يا أهل الشام! لا تهولنكم هذه، فإنما هي صواعق
تهامة، فلم يزل يرميه بالمنجنيق، حتى هدم البيت فكتب إليه عبد الملك بن مروان، وهو
في محاربته: أوصيك يا حجاج بما أوصى به البكري زيداً، والسلام. فقام الحجاج خطيباً
فقال: أيكم يدري ما أوصى به البكري زيداً، وله عشرة آلاف درهم؟ فقام رجل من القوم
فقال: أنا أدري ما أوصى به البكري، فدعا ببدرة، فدفعت إليه فقال:
أقول لزيد لا تترتر
فإنهم ... يرون المنايا دون قتلك أو قتلي
فإن وضعوا حرباً
فضعها وإن أبوا ... فشب وقود النار بالحطب الجزل
فإن عضت الحرب الضروس
بنابها ... فعرضه حد الحرب مثلك أو مثلي
ورأى ابن الزبير من
أصحابه تثاقلا عنه، وكان يجري لهم نصف صاع من تمر، فقال: أكلتم تمري، وعصيتم أمري!
وكان شديد البخل.
ولما علم ابن الزبير
أنه لا طاقة له بالحرب دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر، فقال: كيف أصبحت يا أمه؟
قالت: إن في الموت لراحة، وما أحب أن أموت إلا بعد خلتين: إما أن قتلت فأحتسبك، أو
ظفرت فقرت عيني. قال: يا أمه! إن هؤلاء قد أعطوني الأمان، فما ذا تقولين؟ قالت: يا
بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت على حق وإليه تدعو، فلا تمكن عبيد بني أمية منك
يتلاعبون بك، وإن كنت على غير الحق، فشأنك وما تريد. قال: يا أمه! إن الله ليعلم
أني ما أردت إلا الحق، ولا طلبت غيره، ولا سعيت في ريبة قط، اللهم إني لا أقول ذلك
تزكية لنفسي، ولكن لأطيب نفس أمي. ثم قال: يا أمه! إني أخاف إن قتلني هؤلاء القوم
أن يمثلوا بي. قالت: يا بني، إن الشاة لا تألم للسلخ إذا ذبحت. قال: الحمد لله
الذي وفقك، وربط على قلبك! وخرج، فخطب الناس، فقال: أيها الناس! إن الموت قد أظلكم
سحابة وأحدق بكم ربابه، فغضوا أبصاركم عن الأبارقة، وليشغل كل امرئ قرنه، ولا
يلهينكم التساؤل، ولا يقولن قائل أين أمير المؤمنين؟ إلا من سأل عني فإني في
الرعيل الأول. ثم نزل فقاتل حتى قتل.
وكان قتله في سنة
ثلاث وسبعون، وله إحدى وسبعون سنة، وصلب بالتنعيم، فأقام ثلاثة وقيل سبعة أيام، ثم
جاءت أمه أسماء بنت أبي بكر، وهي عجوز عمياء، حتى وقفت على الحجاج، فقالت: أما آن
لهذا الراكب أن ينزل بعد؟ أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن في
بني ثقيف مبيراً وكذاباً، فأما المبير فأنت، وأما الكذاب فالمختار بن أبي عبيد،
فقال: من هذه؟ فقيل: أم ابن الزبير فأمر به، فأنزل.
وروى بعضهم أن الحجاج
خطبها، فقالت: وهو يخطب عمياء بنت المائة؟ فقال: ما أردت إلا مسالفة رسول الله.
ومر عبد الله بن عمر
على عبد الله بن الزبير، وهو مصلوب، فقال: يرحمك الله، أبا خبيب، لو لا ثلاث كن
فيك لقلت أنت أنت: إلحادك في الحرم، ومسارعتك إلى الفتنة، وبخل بكفك، وما زلت
أتخوف عليك هذا المركب وما صرت إليه، مذ كنت أراك ترمق بغلات شهبا كن لابن حرب،
فيعجبنك، إلا أنه كان أسوس لدنياه منك.
وأقام الحج للناس في
هذه السنين في سنة ثلاث وستون عبد الله بن الزبير، وفي سنة ألابع وستون ابن
الزبير، وقيل يحيىبن صفوان الجمحي، وفي سنة خمس وستون وسنة ست وستون وسنة سبع
وستون ابن الزبير، وفي سنة ثمان وستون وقفت أربعة ألوية بعرفات: لواء مع محمد بن
الحنفية وأصحابه، ولواء مع ابن الزبير، ولواء مع نجدة بن عامر الحروري، ولواء مع
بني أمية، وفي سنة تسع وستون وسنة سبعون وسنة واحد وسبعون ابن الزبير.
؟؟؟
أيام عبد الملك بن
مروانوملك عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة ابن أبي
العاص بن أمية، جداه جميعاً طريداً رسول الله، وكانت البيعة له بالشام في اليوم
الذي توفي فيه مروان، وذلك في شهر رمضان سنة 56، وكانت الشمس يومئذ في الثور سبع
عشرة درجة وعشرين دقيقة، والقمر في الحمل خمساً وعشرين دقيقة، وزحل في السنبلة
ثماني عشرة درجة وخمسين دقيقة راجعا، والمشتري في الجوزاء اثنتين وعشرين درجة وعشر
دقائق، والمريخ في الحمل تسع عشرة درجة وعشر دقائق، والزهرة في السرطان درجتين
وعشرين دقيقة، وعطارد في الجوزاء ثلاث درجات، والرأس في الحوت عشرين درجة وعشر
دقائق.
وقد ذكرنا خبر بيعته
في أيام ابن الزبير، وما كانت عليه البلدان من الاضطراب، وتغلب من تغلب على كل
بلد، وخبر سليمان بن صرد الخزاعي، وإبراهيم بن مالك بن الحارث الأشتر، وقتله عبيد
الله بن زياد والحصين بن نمير، وغير ذلك مما دخل في نسق أيام ابن الزبير.
وكان قوم قد قالوا:
إنما تحق الخلافة لمن كان الحرمان في يده، ولمن أقام الحج للناس، فلذلك أدخلنا خبر
مروان وأياما من أيام عبد الملك في خبر ابن الزبير.
واستقامت الشام لعبد
الملك بن مروان خلا فلسطين، فإن ناتل بن قيس كان بها، فلما أراد عبد الملك النهوض
أتاه الخبر بأن طاغية الروم قد أناخ على المصيصة فكره أن يتشاغل بمحاربته مع
اضطراب البلدان، فوجه إليه، فصالحه، وحمل أموالاً كثيرة إليه، حتى انصرف.
وكان عبد الملك لما
أحكم أمر الشام، ووجه روح بن زنباع الجذامي إلى فلسطين شخص عن دمشق، حتى صار إلى
بطنان يريد قرقيسيا لمحاربة زفر بن الحارث، وأمر ابن الزبير على حاله، فلما صار
إلى بطنان من أرض قنسرين أتاه الخبر بأن عمرو بن سعيد بن العاص قد وثب بدمشق، ودعا
إلى نفسه، وتسمى بالخلافة، وأخرج عبد الرحمن بن عثمان الثقفي خليفة عبد الملك
بدمشق، وكانت أم عبد الرحمن أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب، وحوى الخزائن وبيوت
الأموال، فعلم عبد الملك أنه قد أخطأ في خروجه عن دمشق، فانكفا راجعا إلى دمشق،
فتحصن عمرو بن سعيد، ونصب له الحرب، وجرت بينهم السفراء، حتى اصطلحا وتعاقدا،
وكتبا بينهما كتابا بالعهود والمواثيق والأيمان على أن لعمرو بن سعيد الخلافة بعد
عبد الملك ودخل عبد الملك دمشق وانحاز مع عمرو بن سعيد أصحابه، فكانوا يركبون معه
إذا ركب إلى عبد الملك، ثم دبر عبد الملك على قتل عمرو، ورأى أن الملك لا يصلح له
إلا بذلك، فدخل إليه عمرو عشية، وقد أعد له جماعة من أهله ومواليه ومن كان عنده
ممن سواهم، فلما استوى لعمرو مجلسه قال له: يا أبا أمية! إني كنت حلفت في الوقت الذي كان فيه من أمرك ما كان، إني متى ظفرت بك
وضعت في عنقك جامعة، وجمعت يديك إليها. فقال: يا أمير المؤمنين! نشدتك بالله أن
تذكر شيئاً قد مضى. فتكلم من بحضرته، فقالوا: وما عليك أن تبر قسم أمير المؤمنين؟
فأخرج عبد الملك جامعة من فضة، فوضعها في عنقه، وجعل يقول:
أدنيته مني ليسكن
روعه ... فأصول صولة حازم مستمكن
وجمع يديه إلى عنقه،
فلما شد المسمار جذبه إليه، فسقط لوجهه، فانكسرت ثنيتاه، فقال: نشدتك الله، يا
أمير المؤمنين، أن يدعوك عظم مني كسرته إلى أن تركب مني أكثر من ذلك، أو تخرجني
إلى الناس فيروني على هذه الصورة! وإنما أراد أن يستفزه فيخرجه، وكان على الباب من
شيعة عمرو بن سعيد نيف وثلاثون ألفاً منهم عنبسة بن سعيد، فقال له: أمكراً أبا
أمية، وأنت في الأنشوطة؟ وليس بأول مكر، إني والله لو علمت أن الأمر يستقيم، ونحن
جميعاً باقيان، لا فتديتك بدم النواظر، ولكني أعلم أنه ما اجتمع فحلان في إبل إلا غلب
أحدهما.
وقتله وفرق جمعه،
وطرح رأسه إلى أصحابه، ونفى أخاه عنبسة إلى العراق، وكان ذلك سنة سبعون.
وكان عبد الله بن
خازم السلمي متغلبا على خراسان منذ استخلفه سلم بن زياد في أيام يزيد بن معاوية،
ثم صار في طاعة ابن الزبير على ما بيناه من خبره، فلما استقامت أمور عبد الملك كتب
إليه: أما بعد فأهد لنا طاعتك نضعك موضعك، ونقرك على عملك وعقبك ما أغنوا عنا وعن
المسلمين. وبعث بالكتاب مع عتبة النميري، وبعث معه برأس مصعب بن الزبير، وأعد عبد
الله الرأس، ولفه في ثوبين، وطرح عليه مسكاً كثيراً ودفنه، وقال لعتبة النميري: كل
الكتاب، فقال: أكلا جميلا، فأحرقه بالنار، ثم أسقاه إياه، وكتب إلى عبد الملك: أما
بعد، فإني لم أكن لألقى الله ببيعتين: بيعة رضوان مع ابن حواري رسول الله انتزعها،
وبيعة نكث مع ابن طريدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألبسها.
وكان أهل خراسان
مبغضي عبد الله بن خازم لسوء سيرته فيهم، فوثب به جماعة، منهم:
بكير بن وساج، ووكيع
بن عمير، فقتلوه، وبعث برأسه إلى عبد الملك بن مروان، فلما ورد عليه الخبر، وأتاه
الرأس، بعث أمية ابن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية على خراسان،
فقدم خراسان، وقد وثب موسى بن عبد الله بن خازم السلمي، وأرسل طرخون ملك السغد،
فأجابه إلى أن يمده، ووثب بكير بن وساج الثقفي بمرو في جماعة وغلب على مرو،
فحاربهما أمية، وبدأ بمرو، فحارب بكير بن وساج، فتحصن منه، ثم أعطاه الأمان، فخرج
إليه، ثم بلغ أمية أن بكيرا يدبر على أن يثب به، فقدمه فضرب عنقه، ووجه أمية بابنه
عبد الله على هراة وسجستان، فلقي رتبيل بن أمية فقتله.
وأقر عبد الملك
المهلب بن أبي صفرة على قتال الخوارج الذين بكرمان، فجادهم المهلب القتال، حتى قتل
رئيسهم نافع بن الأزرق الذي سموا به الأزارقة، وأقام بكرمان، ثم ولاه عبد الملك
خراسان مكان أمية، ورد عبد الملك أخاه عبد العزيز إلى مصر والمغرب، وولى أخاه
بشراً العراق، وولى أخاه محمداً الموصل، ونقل إليها الأزد وربيعة من البصرة، وغزا
أرمينية، وقد خالف أهل البلد، فقتل وسبى، ثم كاتب الأشراف من أهل البلد والذين
يقال لهم الأحرار وأعطاهم الأمان ووعدهم أن يفرض لهم في الشرف، فاجتمعوا لذلك في
الكنائس في عمل خلاط، وأمر بجمع الحطب حول الكنائس، وأغلق أبوابها عليهم، ثم ضرب
تلك الكنائس بالنار، فحرقهم جميعاً. وأقام محمد ابن مروان بأرمينية حتى مات.
وأعاد الحجاج بنيان
الكعبة، وجعل لها بابا واحدا على ما كانت عليه قبل أن يبنيها ابن الزبير، ونقص
منها ما كان ابن الزبير زاده مما يلي الحجر، وهو ستة أذرع، وكبسها بالردم الذي خرج
منها، ورفع بابها على ما كان عليه، ونقص من طوله حتى صيره على ما هو عليه اليوم
وفرغ من بنائها في سنة أربع وسبعون، وختم أعناق قوم من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ليذلهم بذلك، منهم: جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد الساعدي، وجماعة معهم،
وكانت الخواتيم رصاصاً.
وكان نجدة بن عامر
الحنفي الحروري قد خرج في أيام ابن الزبير بناحية اليمامة ثم صار إلى الطائف فوجد
ابنة لعمرو بن عثمان بن عفان قد وقعت في السبي، فاشتراها من ماله بمائة ألف درهم،
وبعث بها إلى عبد الملك، ثم سار إلى البحرين ووجه مصعب بن الزبير بخيل بعد خيل
وجيش بعد جيش، فهزمهم.
وظهرت من نجده أمور
أنكرتها الخوارج. وكان قد أقام خمس سنين وعماله بالبحرين واليمامة وعمان وهجر
وطوائف من أرض العرض، فلما نقمت الخوارج ما نقمت من دفع عشرة آلاف إلى مالك بن
مسمع، وبعثه بابنه عمرو بن عثمان إلى عبد الملك خلعوه، وأقاموا أبا فديك، فوجه
إليه عبد الملك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فهزمه أبو فديك، وفضخه وأخذ
أثقاله وحرمه، ثم وجه إليه عمر بن عبيد الله بن معمر، فلقي أبا فديك بالبحرين، ومع
عمر أهل الكوفة، فقتل أبا فديك واستنقذ منه حرم أمية بن عبد الله.
وولى عبد الملك
الحجاج في هذه السنة العراق، وكتب إليه كتاباً بخطه: أما بعد، يا حجاج فقد وليتك
العراقين صدقة، فإذا قدمت الكوفة فطأها وطأة يتضاءل منها أهل البصرة، وإياك وهوينا
الحجاز، فإن القائل هناك يقول ألفاً ولا يقطع بهن حرفاً، وقد رميت العرض الأقصى،
فارمه بنفسك، وأرد ما أردته بك، والسلام.
فلما قدم الكوفة صعد
المنبر متلثماً بعمامته متنكباً قوسه وكنانته، فجلس على المنبر ملياً لا يتكلم،
حتى هموا أن يحصبوه، ثم قال: يا أهل العراق، ويا أهل الشقاق والنفاق والمراق،
ومساوئ الأخلاق، إن أمير المؤمنين نثل كنانته، فعجمها عودا عودا، فوجدني أمرها
عوداً واصعبها كسراً، فرماكم بي، وإنه قلدني عليكم سوطا وسيفا، فسقط السوط وبقي
السيف وتكلم بكلام كثير فيه توعد وتهدد، ثم نزل وهو يقول:
أنا ابن جلا وطلاع
الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
ولما استقامت الأمور
لعبد الملك وصلحت البلدان، ولم تبق ناحية تحتاج إلى صلاحها والاهتمام بها، خرج
حاجا سنة خمس وسبعون فبدأ بالمدينة وأحرم من ذي الحليفة، ودخل وهو يلبي، ودخل
المسجد وهو يلبي، وخطب في أربعة أيام في كل يوم خطبة، وصلى المغرب عشية عرفة قبل
أن يصير إلى جمع، وكان فيما خطب به في بعض أيامه، أن قال: لقد قمت في هذا الأمر،
وما أدري أحداً أقوى عليه مني، ولا أولى به، ولو وجدت ذلك لوليته. إن ابن الزبير
لم يصلح أن يكون سائساً، وكان يعطي مال الله كأنه يعطي ميراث أبيه، وإن عمرو بن
سعيد أراد الفتنة، وأن يستحل الحرمة ويذهب الدين، وما أراد صلاحا للمسلمين، فصرعه
الله مصرعه، وإني محتمل لكم كل أمر إلا نصب راية، وإن الجامعة التي وضعتها في عنق
عمرو عندي، وإني أقسم بالله لا أضعها في عنق أحد فأنزعها منه إلا صعداً.
وأتاه علي بن عبد
الله بن عباس، فذم إليه ابن الزبير، وأعلمه ما كان أبوه وأهل بيته لقوا منه
لامتناعهم من بيعته، وأن أباه أوصاه ليلحق به، فأحسن عبد الملك إجابته، وحمله وحمل
عياله إلى الشام، وأنزله داراً بدمشق، ولم يزل يجري عليه أيامه كلها.
ولما أراد عبد الملك
الانصراف وقف على الكعبة فقال: والله إني وددت أني لم أكن أحدثت فيها شيئاً، وتركت
ابن الزبير وما تقلد. وقدم عبد الملك راجعاً إلى المدينة، فوافاها في أول سنة ست
وسبعون، فأغلظ لأهلها في القول، وقام خطباؤه ونالوا من أهل المدينة، وقام محمد بن
عبد الله القارئ فقال لبعض الخطباء، وهو يتكلم: كذبت لسنا كذلك! فأخذه الحرس،
فجروه حتى ظن الناس انهم قاتلوه، فأرسل إليهم: أن كفوا عنه، وخلوا سبيله، فأقام
بالمدينة ثلاثاً ثم انصرف إلى الشام.
وفي هذه السنة خرج
شبيب بن يزيد الشيباني الحروري بالعراق، وهي سنة ست وسبعون، فوجه إليه الحجاج
الجيش بعد الجيش، فهزمهم شبيب، وكان شبيب ينتقل فيما بين السواد والجبل، ثم دخل
الكوفة ليلا حتى وقف على باب الحجاج في القصر، فضرب بابه بالعمود، وقال: اخرج
إلينا، يا ابن أبي رغال.
وكان شبيب في نفر
يسير، وكانت معه امرأته غزالة، وأمه جهيزة، ثم صار إلى المسجد الجامع فقتل من به
من الحرس، وقتل ميموناً مولى حوشب بن يزيد، صاحب شرط الحجاج، وكان ميمون هذا يسمى
العذاب، وصلى بالناس بالمسجد الجامع، فقرأ بهم البقرة، وآل عمران.
ثم خرج الحجاج في
طلبه، يقاتله في سوق الكوفة أشد قتال، واتبعه، وكان لحق شبيباً من أصحابه نحو مائة
رجل، ثم حمي الناس، فجعلوا يتنادون حتى انهزم، فوجه الحجاج في أثره علقمة بن عبد
الرحمن الحكمي، فلم يزل ينتقل من موضع إلى موضع حتى صار إلى الأهواز. ثم وجه
الحجاج في طلبه سفيان بن الأبرد الكلبي، فطلبه حتى انتهى إلى دجيل، فأقبل شبيب
نحوه وسار على الجسر، فلما توسطه قطع سفيان جسر دجيل، فدارت السفن، فغرق شبيب، ثم
استخرجه بالشباك فاحتز رأسه، ووجه به إلى الحجاج، وقتل امرأته وأمه. وكان غرقه سنة
ثمان وسبعون.
وخرج بعد قتل شبيب
أبو زياد المرادي بجوخى، فوجه إليه الحجاج الجراح بن عبد الله الحكمي، فلقيه
بالفلوجة، فقتله.
ثم خرج بعد قتل أبي
زياد أبو معبد، رجل من عبد القيس رحل بناحية البحرين، فبعث إليه الحجاج الحكم بن
أيوب بن الحكم الثقفي، وكان يومئذ عاملا على البصرة، فقتله.
وألح الحجاج في قتال
الأزارقة، واشتد استبطاؤه، فجادهم المهلب، فما زال يهزمهم من منزل إلى منزل حتى
انتهى بهم إلى سجستان، فقتل عطية ابن الأسود الحنفي، وكان من رؤساء الخوارج، ثم جد
بهم الأمر حتى صاروا إلى كرمان، ثم وقع بأسهم بينهم بكرمان في كذبة وقعوا عليها من
قطري، فقالوا له: تب! فكره أن يوجب على نفسه التوبة، فخلعوه.
وكان في عسكره رجلان:
عبد ربه الكبير، وعبد ربه الصغير، فلما امتنع أن يجيبهم إلى التوبة فيوجدهم السبيل
إلى خلعه، انحاز كل واحد منهما في جيش مخالفاً على قطري، فقصد المهلب قصد عبد ربه
الصغير حتى قتله.
وخرج قطري في اثنين
وعشرين ألفاً من أصحابه حتى صاروا إلى طبرستان، وقصد المهلب عبد ربه الكبير، وفرق
جمعه، ولما صار قطري إلى طبرستان أرسل إلى أصبهبذ يسأله أن يدخله بلاده، فسمع له
وفعل، فلما بزأت جراحهم وسمنت دوابهم أرسل إليه قطري، فعرض عليه الإسلام، أو يؤدي
الجزية صاغرا، ووجه إليه أبا نعامة في الأزارقة، فقال الإصبهبذ: جئتني طريدا شريدا
فآويتك، ثم ترسل إلي بهذا؟ أنت ألأم من في الأرض، فقال: إنه لا يجوز في الدين غير
هذا، فخرج الإصبهبذ يحاربه، فقتل ابنه وأخوه وعمه، فانهزم الإصبهبذ حتى صار إلى
الري، فاستولى قطري على طبرستان، وصار الإصبهبذ إلى سفيان بن الأبرد الكلبي، وهو
يومئذ عامل الري قد تهيأ لقتال الأزارقة، فأدخله طبرستان من طريق مختصرة، فقتل
قطريا، وبعث برأسه إلى الحجاج سنة تسع وسبعين.
وولى المهلب بن أبي
صفرة خراسان سنة ثمان وسبعين من قبل الحجاج، وولى ابنه المغيرة مرو، ومات بها،
فرثاه زياد بقصيدة يقول فيها:
إن السماحة والشجاعة
ضمنا ... قبراً بمرو على الطريق الواضح
وسار المهلب حتى صار
إلى بلاد الصغد، ونزل كش، فصالحه ملك الصغد، وأخذ المهلب منه الرهائن، ودفعها إلى
حريث بن قطبة، وانصرف إلى بلخ، فأخذ حريث بلاد... فحاربه.
واعتل المهلب، فاشتدت
علته من آكلة كانت في رجله، فلما حضرته الوفاة استخلف ابنه يزيد على كره منه له لصلفه
وتيهه، إلا أن الحجاج كتب إليه بذلك، ثم أنكر الحجاج على يزيد أشياء بلغته عنه،
فأراد صرفه فخاف أن يمتنع عليه فتزوج هنداً أخته، وكتب أن يقدم عليه، ويستخلف
المفضل بن المهلب، فقدم وكتب الحجاج إلى المفضل بولايته خراسان مكان يزيد أخيه، ثم
ولى قتيبة ابن مسلم مكانه، وقتيبة على الري، وقد شرحنا ذلك في غير هذا الموضع من
الكتاب.
وولي الحجاج ثغرى
السند والهند سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي، فأقام بمكران، وغزا ناحية من الهند،
وكان رجلاً محدوداً، فقتل، فوجه الحجاج موضعه محمد بن هارون بن ذراع النمري، فصار
إلى مكران، وحسن أثره في غزو العدو، وظفر مرة بعد أخرى، فخرج يريد الديبل في عدة
سفن و... ملك الديبل، فعارضه في خلق عظيم، فقتل محمد بن هارون وخلق عظيم ممن كان
معه.
وولى عبد الملك حسان
بن النعمان الغساني إفريقية والمغرب، فلم يزل مقيما بها، ثم توفي، واستخلف رجلاً
على البلد، فولى عبد الملك إفريقية موسى بن نصير اللخمي سنة سبع وسبعين، وقيل ولاه
عبد العزيز بن مروان، وهو يومئذ عامل مصر، فافتتح موسى بن نصير عامة المغرب، ولم
يزل مقيماً عليها مدة أيام ولاية عبد الملك.
وتوفي عبد الله بن
جعفر بن أبي طالب بالمدينة سنة ثمانين، وكان جواداً سخياً، يقال إنه أتاه إنسان في
أمر يسأله معونته عليه، فلم يحضره ما يعطيه، فنزع ثيابه التي كانت عليه، وقال:
اللهم إن نزل بي من بعد اليوم حق لا أقدر على قضائه فأمتني قبله! فمات في ذلك
اليوم، وفي هذه السنة كان السيل الجحاف الذي ذهب بمتاع الحاج.
وكان عبد الرحمن بن
محمد بن الأشعث بن قيس عامل الحجاج على سجستان، ووجه معه الحجاج بعشرة آلاف منتخب،
فلما صار إلى سجستان أقام ببست، ثم سار يريد رتبيل ملك البلد، وكان قد ضبط أطرافه،
فلما أوغل في بلاد رتبيل، خاف غرره، فرجع إلى بست، وكتب إلى الحجاج يعلمه برجوعه،
وأنه أخر غزو رتبيل إلى العام المقبل، فكتب إليه كتاباً يتوعده فيه، فجمع أطرافه
إليه وحرض الناس على الحجاج، ودعاهم إلى خلعه، فخلعوه، وبايعوا له فلما اجتمعت
الكلمة قال لهم: نسير إلى العراق، ونكتب بيننا وبين رتبيل كتاب صلح فإن تم أمرنا وقفنا
عنه، ورقبنا له، وإن كانت الأخرى اتخذناه ملجأ فتم رأي القوم على ذلك، وكتب بينه
وبين رتبيل كتابا بهذا الشرط، وسار إلى العراق واستخلف على سجستان رجلاً من قبله،
وأقبل حتى صار إلى قرب الأهواز، فلما بلغ الحجاج أمره، وجه إليه عبد الله بن عامر
بن صعصعة.
ثم خرج الحجاج في جيش
حتى صار إلى الأهواز، ولقيه عبد الرحمن، فقاتله قتالاً شديداً، فهزمه حتى رجع
الحجاج إلى البصرة، ولحقه ابن الأشعث، فقاتله بالبصرة، فانهزم ابن الأشعث، فلما
رأوا انهزامه إلى الكوفة أتوا عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة الهاشمي، فقالوا:
تركنا ولحق بالكوفة، وهذا الفاسق منيخ علينا. فبايعهم وسار إلى الحجاج، فقاتله
بالزاوية، فهزمه الحجاج، فلحق بابن الأشعث بالكوفة.
وأقبل الحجاج من
البصرة إلى ابن الأشعث فسلك في البرية حتى نزل قريبا منه، وخرج ابن الأشعث فنزل
دير الجماجم، وجعلت خيلهما تروح وتغدو للقتال، وأهل الكوفة يستعلون على خيل
الحجاج، ويهزمونهم في كل يوم، فاشتد على الحجاج ما رأى من ذلك، وكتب إلى عبد الملك
كتابا بعث به باحث سير: أما بعد فيا غوثاه، ثم يا غوثاه! فلما قرأ عبد الملك
الكتاب كتب إليه: أما بعد فيا لبيك، ثم يا لبيك، ثم يا لبيك! ثم وجه بجيش بعد جيش،
وكانت وقائعهم كثيرة شديدة، أخراهن وقعة مسكن هزمه فيها الحجاج، فمضى منهزما لا
يلوي على شيء حتى صار إلى سجستان، فأتى مدينة زرنج، فمنعه عبد الله بن عامر عامله
من دخولها، فمضى إلى بست، وعليها عياض بن عمرو، فأدخله المدينة، ودبر أن يغدر به،
ويتقرب به إلى الحجاج.
وكان مع عبد الرحمن
جماعة من قراء العراق منهم الحسن البصري، وعامر ابن شراحيل الشعبي، وسعيد بن جبير،
وإبراهيم النخعي، وجماعة من هذه الطبقة، فسار إلى رتبيل صاحب سجستان، فكانت هزيمته
في سنة ثلاث وثمانون، وجعل الحجاج يتلقط أصحابه ويضرب أعناقهم، حتى قتل خلقاً
كثيراً، وعفا عن جماعة منهم الشعبي وإبراهيم.
وبني الحجاج مدينة
واسط في السنة التي هرب فيها ابن الأشعث، ونزلها، وقال: انزل بين الكوفة والبصرة.
ولما بلغ أصحاب ابن
الأشعث أنه قد صار إلى رتبيل صاحب البلد، وأنه قد أقام عنده في أمن وسلامة، ووفى
له رتبيل بما كان بينه وبينه، اجتمعوا من كل أوب بناحية زرنج، وأمروا عليهم عبد
الرحمن بن العباس الهاشمي... فلقيهم بهراة، فقاتلهم، فهزمهم.
وبلغ الحجاج مكان ابن
الأشعث في أربعة آلاف من أصحابه عند رتبيل، فوجه عمارة بن تميم اللخمي إلى رتبيل،
وكتب معه إليه يأمره أن يوجهه إليه، وإلا وجه إليه بمائة ألف مقاتل، فلم يفعل.
وكان عبيد بن أبي سبيع غالباً على رتبيل، فنفسه ذلك ابن الأشعث، وأراد أن يمكر به
ووجه إليه ليقتله، فهرب عبيد بن أبي سبيع فصار إلى عمارة بن تميم، وهو مقيم بمدينة
بست، وقال: تجعلون لي شيئاً، وتصالحون رتبيل، وتكفون عنه، ويسلم إليكم ابن الأشعث.
وكتب عمارة إلى الحجاج بذلك، وكتب إليه الحجاج يقول له: أجبه إلى كل ما سألك، وكتب
له عهودا ختمها بخاتمه، فأخذها عمارة، وقدم بها على رتبيل، فلم يزل يرهبه مرة
ويرغبه أخرى، حتى أجابه إلى أخذ ابن الأشعث، فأخذه، وقيده وجماعة معه وأخاه،
وحملهم معه إلى الحجاج في الحديد، فلما صاروا بالرخج رمى ابن الأشعث بنفسه من فوق
سطح، وكان معه في السلسلة رجل يقال له أبو العر، فماتا جميعاً، وكان ذلك في سنة
أربع وثمانون، واحتز رأسه، فحمل إلى الحجاج، وحمله الحجاج إلى عبد الملك.
وعزم عبد الملك بن
مروان على خلع أخيه عبد العزيز والبيعة لابنه الوليد بولاية العهد من بعده، وكان
عبد العزيز بمصر، وكتب إلى الحجاج بأن يشخص إليه الشعبي، فأشخصه إليه فانسه وبره،
وأقام عنده أياماً، ثم قال: إني آتمنك على شيء لم آتمن عليه أحداً. إنه قد بداً لي
أن أبايع للوليد بولاية العهد بعدي، فإذا أتيت عبد العزيز، فزين له أن يخلع نفسه
من ولاية العهد، ومصر له طعمة. قال الشعبي: فأتيت عبد العزيز، فما رأيت ملكاً كان
أسمح أخلاقاً منه، فإني يوماً خال به أحدثه إذ قلت له: والله، أصلح الله الأمير،
أن رأيت ملكا أكمل، ولا نعمة أنضر، ولا عزا أتم مما أنت فيه، ولقد رأيت عبد الملك
طويل النصب، كثير التعب، قليل الراحة، دائم الروعة، إلى ما يتحمل من أمر الأمة،
ولوددت والله انهم أجابوك إلى أن يصيروا مصر لك طعمة، ويصيروا عهدهم إلى من أحبوا،
فقال: ومن لي بذلك ؟ فلما عرفت ما عنده انصرفت إلى عبد الملك، فأخبرته الخبر، فخلع
عبد الملك أخاه من ولاية العهد، وولى ابنه الوليد، ثم ابنه سليمان من بعد الوليد.
وقيل إن عبد الملك لم
يخلعه، ولكنه توفي في تلك المدة التي هم بخلعه فيها، وقيل إن عبد العزيز سقي سما،
وكان ذلك في سنة خمس وثمانون.
وولي هشام بن إسماعيل
المخزومي المدينة، فضرب سعيد بن المسيب ستين سوطا ظلما وعدوانا، وطاف به، فكتب
إليه عبد الملك يلومه، وساءت سيرة هشام بن إسماعيل، وأظهر العداوة لآل رسول الله.
وكان الغالب على عبد
الملك روح بن زنباع الجذامي، وعلى شرطته يزيد ابن أبي كبشه السكسكي، ثم عزله
واستعمل عبد الله بن يزيد الحكمي، وكان على حرسه أبو عياش الكهاني، وبعده أبو
الزعيزعة مولاه، وجمع العراقين للحجاج، ومصر والمغرب لعبد العزيز بن مروان، ثم
لابنه عبد الله ابن عبد الملك.
وكانت لعبد الملك
رجله، ودهاء، وعلم، إلا أنه كان مبخلا، فلما حضرته الوفاة جمع ولده، فأوصاهم
بالإجماع والألفة وترك التباغي، ثم قال: يا وليد، إذا أنا مت فشمر واتزر، والبس
جلد النمر، ثم ادع الناس إلى بيعتك، فمن قال برأسه هكذا، فقل بالسيف هكذا. وتوفي
للنصف من شوال سنة ست وثمانون، وكانت ولايته إحدى وعشرين سنة من يومه الذي بويع
فيه بالشام، وبعد قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنة، وكانت سنة ستين سنة أو نيفاً
وستين سنة، وصلى عليه ابنه الوليد، ودفن بدمشق.
وخلف من الولد الذكور
أربعة عشر ذكرا: الوليد وسليمان، ويزيد، ومروان، وهشام وبكار، وعبد الله، ومسلمة،
ومعاوية، ومحمد، والحجاج، وسعيد، والمنذر، وعنبسة. وفي أيام عبد الملك نقشت
الدراهم والدنانير بالعربية، وكان الذي فعل ذلك الحجاج بن يوسف.
وروى بعضهم أن رجلاً
أتى سعيد بن المسيب فقال: رأيت كان النبي موسى واقف على ساحل البحر، آخذ برجل رجل
يدوره كما يدور الغسال الثوب، فدوره ثلاثا، ثم دحا به إلى البحر. فقال سعيد: إن
صدقت رؤياك مات عبد الملك إلى ثلاثة أيام، فلم يمض ثالثة حتى جاء نعيه، فقال
لسعيد: من أين قلت هذا؟ قال: لأن موسى غرق فرعون، ولا أعلم فرعون هذا الوقت إلا
عبد الملك.
وأقام الحج للناس في
ولايته سنة اثنان وسبعون الحجاج بن يوسف، سنة ثلاث وسبعون، وسنة أربع وسبعون
الحجاج أيضاً، سنة خمس وسبعون عبد الملك بن مروان، سنة ست وسبعون أبان بن عثمان بن
عفان، سنة سبع وسبعون أبان أيضاً، سنة ثمان وسبعون، وسنة تسع وسبعون، وسنة ثمانون
أبان أيضاً، سنة واحد وثمانون سليمان بن عبد الملك، سنة اثنان وثمانون أبان بن
عثمان، سنة ثلاث وثمانون هشام بن إسماعيل المخزومي، سنة أربع وثمانون وسنة خمس
وثمانون هشام بن إسماعيل المخزومي أيضاً.
وغزا بالناس في
ولايته سنة خمس وسبعون محمد بن مروان الصائفة، وخرجت الروم على الأعماق، فقتلهم
أبان بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ودينار بن دينار، سنة ست وسبعون غزا يحيى بن
الحكم الصائفة بمرج الشحم بين ملطية والمصيصة، سنة سبع وسبعون غزا الوليد بن عبد
الملك أطمار، وكانت غزاته من ناحية ملطية، وغزا في البحر حسان بن النعمان... سنة
ثلاث وثمانون عبد الله أيضاً، وفتح المصيصة وبنى فيها حصناً صغيراً.
وكان الفقهاء في
أيامه عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمر، المسور بن مخرمة الزهري، السائب بن
يزيد، أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، خارجة بن زيد بن ثابت، سعيد بن
المسيب، عروة بن الزبير، عطاء بن يسار، القاسم بن محمد، أبا سلمة بن عبد الرحمن بن
عوف، سالم بن عبد الله، قبيصة ابن جابر، عبيدة بن قيس السلماني، شريح بن الحارث
الكندي، عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عبد الله بن يزيد الخطمي، زيد بن وهب الهمداني،
الحارث بن سويد التميمي مرة بن شراحيل الهمداني، أبا جحيفة وهب بن عبد الله
العامري الأسدي، يسير بن عمرو السلولي، أبا الشعثاء سليمان بن الأسود، الأسود بن
مالك الحارثي، ابن حراش العبسي، عمرو بن ميمون الأودي، عامر بن شراحيل الشعبي، عبد
الرحمن بن يزيد النخعي، سالم بن أبي الجعد، عمار ابن عمير الليثي، إبراهيم بن يزيد
التيمي، أبا ظبيان الحصين بن جندب، سليمان بن يسار، أبا المليح بن أسامة.
أيام الوليد بن عبد
الملكثم ملك الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأمه ولادة بنت العباس بن جزء العبسية،
للنصف من شوال سنة ست وثمانون، في اليوم الذي توفي فيه عبد الملك، وكانت الشمس
يومئذ في الميزان خمس عشرة درجة وخمسين دقيقة، والقمر في الحمل ثمانياً وعشرين
درجة وخمسين دقيقة، وزحل في الثور أربعا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا،
والمشتري في الدلو ستا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمريخ في القوس إحدى
وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، والزهرة في العقرب خمس عشرة درجة وثلاثين دقيقة،
وعطارد في الميزان عشر درجات وأربعين دقيقة، فصعد المنبر فنعى أباه، وقال: أيها
الناس! عليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإنه من أبدى ذات نفسه ضربت الذي فيه عيناه،
ومن سكت مات بدائه.
ثم نزل فعقد لمسلمة
أخيه على غزاة الروم، فنفذ في عدد كثير، فوجد جراجمة أنطاكية قد خالفوا، فقتل منهم
مقتلة عظيمة.
وكتب الوليد إلى
الحجاج فنعى إليه أباه عبد الملك، فنادى الحجاج بالصلاة جامعة، ثم صعد المنبر،
فذكر عبد الملك، وقرظة ووصف فعله وقال: كان والله البازل الذكر، رابعا من الولاة
الراشدين المهديين، وقد اختار له الله ما عنده، وعهد إلى نظيره في الفضل وشبيهه في
الحزم والجلد، والقيام بأمر الله، فاسمعوا وأطيعوا. وولى الوليد عمر بن عبد العزيز
المدينة، وأمر أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان هشام بن إسماعيل المخزومي قد
أساء السيرة، وجار في الأحكام، وتحامل على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما
قدم عمر قال هشام: ما أخاف إلا علي بن الحسين! فمر به، وهو موقوف، فسلم عليه،
فناداه هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، ولم يعرض له سعيد بن المسيب ولا لأحد من
أسبابه وحاميته.
وكان قدوم عمر بن عبد
العزيز المدينة سنة سبع وثمانون وثقله على ثلاثين بعيراً. وضرب الوليد البعث على أهل المدينة، وكتب إلى عمر، فأخرج منهم ألفي
رجل. وبنى
الوليد المسجد بدمشق، فأنفق عليه أموالاً عظاماً، وابتدأ بناءه في سنة ثمان
وثمانون، وكتب إلى عمر بن عبد العزيز أن يهدم مسجد رسول الله، ويدخل فيه المنازل
التي حوله، ويدخل فيه حجرات أزواج النبي، وهدم الحجرات، وأدخل ذلك في المسجد. ولما
بدأ بهدم الحجرات قام خبيب بن عبد الله بن الزبير إلى عمر والحجرات تهدم، فقال:
نشدتك الله يا عمر أن تذهب باية من كتاب الله، يقول: إن الذين ينادونك من وراء
الحجرات، فأمر به، فضرب مائة سوط، ونضح بالماء البارد، فمات، وكان يوماً بارداً.
فكان عمر لما ولي الخلافة، وصار إلى ما صار إليه من الزهد، يقول: من لي بخبيب!
وروى الواقدي أن الوليد بعث إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد رسول الله،
فليعنه فيه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهبا، ومائة فاعل، وأربعين حملاً فسيفساء،
فبعث الوليد بذلك كله إلى عمر، فأصلح به المسجد، وفرع من بنائه في سنة تسعون.
وبعث الوليد إلى خالد
بن عبد الله القسري، وهو على مكة، بثلاثين ألف دينار، فضربت صفائح، وجعلت على باب
الكعبة وعلى الأساطين التي داخلها وعلى الأركان والميزاب، فكان أول من ذهب البيت
في الإسلام.
وحج الوليد سنة واحد
وتسعون لينظر إلى البيت وإلى المسجد وما أصلح منه، وإلى البيت وتذهيبه، فلما قرب
من المدينة خرج عمر، فتلقاه بأشراف المدينة، فدخل المسجد، وجعل ينظر إليه، وأخرج
الحرس كل من كان فيه خلا سعيد بن المسيب، فإنه لم يخرج، ولم يترجرج، فدخل الوليد،
فجعل يطوف وسعيد بن المسيب جالس، ثم قال الوليد: أحسب هذا سعيد بن المسيب؟ فقال له
عمر: نعم! ومن حاله وحاله، إلا أنه ضعيف البصر. فجاء الوليد حتى وقف عليه، فقال:
كيف أنت أيها الشيخ؟ فما تحرك، وقال: نحن بخير، يا أمير المؤمنين، وكيف أنت؟
وانصرف الوليد، وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس. وقسم الوليد بين أهل المدينة قسماً
كثيرة، وصلى بها الجمعة، وصف بها الجند صفين، وصلى في دراعة وقلنسوة في غير رداء،
وخطب قاعدا، وتوعد أهل المدينة فقال: إنكم أهل الخلاف والمعصية، فقام إليه قوم
فكلموه، وكلمه أبو بكر بن عبد الرحمن، فقال: ما نجهل ما تقولون، ولكن في النفوس ما
فيها.
وصار إلى مكة فخطب
بها خطبة بتراء ذكر فيها الوعيد والتهديد، ولما صار بعرفة أطعم الناس، ونصب
الموائد، ولم يأكل، وكان خالد الذي يقوم على الموائد، ثم نصب مائدة، فقيل: هذه
لأمير المؤمنين، فقام، فأرسل إليه الوليد يأمره بالجلوس فجلس.
وولى الوليد موسى بن
نصير الأندلس في هذه السنة، وهي سنة واحد وتسعون، فوجه معه بطارق مولاه، فلقي ملك
الأندلس، وكان يقال له الإدريق، وكان رجلاً من أهل أصبهان، وهم
القوطيون ملوك
الأندلس، فزحف طارق إليه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وفتح الأندلس ثم خرج موسى بن
نصير إلى البلد، وكان قد غضب على طارق مولاه في أمور بلغته عنه، فلقيه طارق،
فترضاه، فرضي عنه، ووجهه إلى مدينة طليطلة، وهي من عظام مدائن الأندلس، على مسيرة
عشرين يوماً، فأصاب فيها مائدة ذهب مفصصة بالجوهر، قيل إنها مائدة سليمان بن داود،
فكسر رجلها، فأخذها، وبعث بها إلى موسى بن نصير. وكان الحجاج قد عزل يزيد بن
المهلب عن خراسان، وولي المفضل، فأقر المفضل ثم عزله وولى قتيبة بن مسلم الباهلي،
وكان قتيبة عامله على الري، وكتب إليه أن يستوثق من المفضل وبني أبيه، ويشخصهم
إليه، فسار قتيبة من الري حتى قدم مرو، فأخذ المفضل بن المهلب وسائر ولد المهلب،
فأشخصهم إلى الحجاج، فحبسهم وطالبهم بستة آلاف ألف.
وصار قتيبة إلى
بخارى، فافتتحها، وافتتح عدة مدن منها، ثم انصرف وخلف فيها ورقاء بن نصر الباهلي،
وأمره بقبض الصلح. وكان نيزك صاحب الترك قد صار إلى قتيبة، فلم يزل معه يحضر
حروبه، فلما انصرف قتيبة تحرك طرخون صاحب السغد وجيل أبو شوكر بخار أخداه، وكر
معانون اللوفسي في الترك، فكره قتيبة قتالهم، فوجه حيان النبطي فصالحهم. ثم صار
إلى الطالقان، وبها باذام قد عصى وتغلب على البلد، وكان ابن باذام مع قتيبة، فلما
بلغه أن باذام قد تحصن وعصى وارتد أخذ ابنه، فقتله، وصلبه وجماعة معه، ثم لقي
باذام فقاتله أياماً، ثم ظفر به فقتله، وقتل ولده وامرأته، واستعمل على البلد أخاه
عمرو بن مسلم.
ولما فتح قتيبة بخارى
والطالقان استأذنه نيزك طرخان في الرجوع إلى بلاده، وكان نيزك قد أسلم وسمي بعبد
الله، فأذن له، فرجع إلى طخارستان، فعصى، وكاتب الأعاجم، وجمع الجموع، فزحف إليه
قتيبة، ووجه إليه سليما الناصح، وكان صديقا له، فلم يزل يختدعه ويعطيه عن قتيبة ما
يسأل، حتى خرج إلى قتيبة على الأمان فأقام عنده أياماً ثم ضرب عنقه وعنق ابن أخت
له، وبعث برؤوسهما إلى الحجاج، وأخذ امرأة نيزك، فلما خلا بها قالت له: ما أجهلك!
أظننت أن نفسي تطيب لك، وقد قتلت زوجي وسلبتني ملكي؟ فخلاها، وقال: اذهبي حيث شئت.
ثم سار قتيبة إلى
السغد، فلقيه صاحب السغد، فصافه أياماً، ثم هرب منه، ولحق قتيبة الشتاء، فانصرف
وكتب إليه الحجاج يأمره بالمصير إلى سجستان ومحاربة رتبيل، فسار سنة اثنان وتسعون،
حتى صار إلى زالق من أرض سجستان، ثم زحف إلى رتبيل، فوجه إليه رتبيل: أنا كنا قد
صالحناكم، وقبلتم الصلح، فما ذا دعاكم إلى نقضه؟ فأرسل إليه أن الحجاج أبي ذلك،
فرد عليه رتبيل: إن قبلتم الصلح كان أصلح لكم، وإلا رجونا النصر عليكم. فقال قتيبة
لأصحابه: إن هذا وجه مشؤوم، وقد هلك فيه عبد الله بن أمية، وابن أبي بكرة، وغير
واحد، ولا نأمن الحيل التي كان رتبيل يحتالها من تحريق الطعام، والعلوفات، وأخذ
الحصون والسهل وحمل ما... فولى قتيبة عبد ربه بن عبد الله بن عمير الليثي، وسار
قتيبة إلى خوارزم، وبها سعيد بن ونوفار، وكانوا قتلوا عامل قتيبة، فقدمها، فسبى
مائة ألف، وحاصر سعيد بن ونوفار حتى قتله.
فلما أصلح البلاد
وانصرف بالغنائم التي لم يسمع بمثلها، وأراد جنده الرجوع إلى أوطانهم بما في
أيديهم، قام قتيبة خطيبا، فذكرهم ما كانوا فيه، وأعلمهم أنه لا براح لهم، واستخلف
على خوارزم عبد الله بن أبي عبد الله الكرماني، ثم سار قتيبة إلى سمرقند، وكان
غوزك قد قتل طرخون ملك السغد، وتملك على البلد، فلما وافى قتيبة حاربه، فكانت
بينهم حروب شديدة، وأحب قتيبة الصلح فراسل غوزك يدعوه إلى ذلك، فقال لأهل سمرقند:
علام نصالحهم، وبلدنا لا يدخله إلا رجلان: إما أحدهما فقيل وإما الآخر فاسمه إكاف،
فكبر قتيبة، وكبر المسلمون، وقالوا: أميرنا اسمه قتب البعير، فأذعنوا بالصلح على
أن يدخل فيصلي ركعتين، فدخل من باب كش، وخرج من باب الصين، واتخذ لهم غوزك ملك
سمرقند الطعام، فأكل قتيبة وأصحابه، فكتب له كتاب صلح: هذا ما صالح عليه قتيبة بن
مسلم غوزك إخشيد السغد، أفشين سمرقند على السغد، وسمرقند وكش، وكسف، صالحه على
ثلاثة آلاف درهم يؤديها غوزك إلى رأس كل سنة، وجعل له عهد الله وذمته، وذمة الأمير
الحجاج بن يوسف، وأشهد له شهودا، وكان ذلك سنة أربع وتسعون.
وولي قتيبة سمرقند
عبد الرحمن بن مسلم أخاه، فغدر به أهل سمرقند، وأتاه خاقان ملك الترك، وكتب إلى
قتيبة، فتوقف قتيبة حتى انحسر الشتاء، ثم سار إليه، فهزم عسكر الترك، واستقامت له
خراسان.
وكان الحجاج لما أشخص
إليه قتيبة ولد المهلب حبسهم جميعاً، ومعهم يزيد بن المهلب، بستة آلاف ألف درهم،
وعذبهم في ذلك أشد العذاب، فلما رأوا ما هم فيه من العذاب سألوه أن يدخل إليهم
التجار حتى يبيعوا أموالهم وضياعهم، وصنعوا طعاما كثيراً، ودخل إليهم الناس، وخلق
من التجار، فأكلوا عندهم في الحبس ثم اختلطوا بغمار الناس، وخرجوا معهم، وقد لبس
يزيد لحية كبيرة طويلة صفراء، وكان شابا، ثم ركب وإخوته نجائب قد كان تقدم في
إعدادها، ولحق بالشام، فصار إلى سليمان بن عبد الملك، فكلموه، وصار إلى عبد العزيز
بن الوليد، فشفع فيهم عند الوليد، حتى آمنهم وأحضرهم، فصالحهم على نصف المال، وهو
ثلاثة آلاف ألف درهم، فقالوا: على أن نستعين قومنا من أهل الشام، فقال:
ذلك إليكم! فتحمل
عنهم اليمانية من أهل دمشق من أعطيتهم نجما، وتحمل عنهم سائر أهل الشام نجما،
وأقاموا بباب الوليد، وكتب الوليد إلى الحجاج في تخلية من كان في محبسه من أسبابهم
فخلاهم جميعاً.
ووجه الحجاج محمد بن
القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي إلى السند، سنة اثنان وتسعون، وأمره
أن يقيم بشيراز من أرض فارس حتى يمكن الزمان، فقدم محمد شيراز، فأقام بها ستة
أشهر، ثم سار في ستة آلاف فارس، حتى أتى مكران، فأقام بها شهراً ونحوه، ثم زحف إلى
فنزبور، وقد جمع أهل فنزبور، فحاربهم شهورا، ثم فتحها فسبى وغنم، ثم زحف إلى
أرمائيل فحاربهم أياماً، ثم فتحها، فأقام بها شهورا، ثم زحف إلى الديبل في خلق
عظيم، حتى أتى المدينة، وعبا الجيوش، وأخذ بإكظام القوم، وأقام يحاربهم عدة شهور،
وكان لهم بد يعبدونه، طوله في السماء أربعون ذراعاً، فرماه بالمنجنيق، فكسره، ثم
وضع السلاليم على السور، وأصعد الرجال، فافتتحها عنوة، فقتل المقاتلة، ووجد للبد
الذي كانوا يعبدونه سبع مائة راتبة، وأخذ منها أموالاً عظاماً.
ولما فتح الديبل،
وكانت أعظم مدائنهم، خضع له أهل البلدان، فسار من الديبل إلى النيرون، فصالحهم،
وكتب إلى الحجاج يستأذنه في التقدم، فكتب إليه: أن سر، فأنت أمير على ما فتحته!
وكتب إلى قتيبة بن مسلم عامل خراسان: أيكما سبق إلى الصين، فهو عامل عليها، وعلى
صاحبها، فمضى محمد ابن القاسم، وجعل لا يمر ببلد إلا غلب عليه، ولا مدينة إلا
فتحها صلحاً أو عنوة، فعبر نهر السند، وهو دون مهران، وسار إلى سهبان ففتحها، ثم
سار نحو شط مهران، فلما بلغ داهر ملك السند مكانه وجه إليه جيشاً عظيماً، فلقي
محمد بن القاسم ذلك الجيش فهزمهم، وزحف إليه داهر، فأقام مواقفا له عدة شهور،
وبينا هم في تلك المواقفة زاحفة داهر، وهو على الفيل، فاشتدت بينهما الحرب، وأخذت
من الفريقين، وعطش الفيل الذي كان داهر عليه، فغلب فياله، فترجل، فنزل داهر فقاتل
في الأرض حتى قتل، وانهزم جيشه، وفتح المسلمون، وكتب محمد إلى الحجاج بالفتح، وبعث
برأس داهر إليه.
ومضى في بلاد السند
ففتح بلدا بلدا، ومدينة مدينة، حتى أتى أورو، وهي من أعظم مدائن السند، فحاصرهم
حصاراً شديداً، وهم لا يعلمون أن داهر قد قتل، فلما أملهم بعث إليهم محمد بن
القاسم بامرأة داهر، فقالت لهم: إن الملك قد قتل، فاطلبوا الأمان، فطلبوه، ونزلوا
على حكم محمد، وفتحوا له باب المدينة، فدخلها، ثم استخلف فيها، ومضى يقطع البلاد،
ويفتح مدينة مدينة، ثم كتب إليه الحجاج: أني قد كتبت إلى أمير المؤمنين الوليد
أضمن له أن أرد إلى بيت المال نظير ما أنفقت، فأخرجني من ضماني! فحمل إليه أكثر
مما أنفق.
وأقام محمد بن القاسم
في بلاد السند حتى توفي الوليد، وولي سليمان بن عبد الملك، وكان لمحمد بن القاسم،
في الوقت الذي غزا فيه بلاد السند والهند، وقاد الجيوش وفتح الفتوح، خمس عشرة سنة،
فقال زياد الأعجم:
إن الشجاعة والسماحة
والندى ... لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لخمس عشرة
حجة ... يا قرب ذلك سؤدداً من مولد
وكتب الوليد إلى خالد
بن عبد الله القسري، عامله على الحجاز، يأمره بإخراج من بالحجاز من أهل العراقين،
وحملهم إلى الحجاج بن يوسف، فبعث خالد إلى المدينة عثمان بن حيان المري لإخراج من
بها من أهل العراقين، فأخرجهم جميعاً، وجماعاتهم في الجوامع، إلى الحجاج، ولم يترك
تاجرا ولا غير تاجر، ونادى: إلا برئت الذمة ممن آوى عراقياً، وكان لا يبلغه أن
أحداً من أهل العراق في دار أحد من أهل المدينة إلا أخرجه.
فخرج الوليد إلى
الحميمة من أرض الشراة، من عمل جند دمشق سنة خمس وتسعون، وكان سبب ذلك أن أم سليط
بن عبد الله بن عباس رفعت إلى الوليد أن علي بن عبد الله قتل ابنها، ودفنه في
البستان الذي ينزله، وبنى عليه دكانا، فأخذه الوليد بذلك وقال له: أقتلت أخاك؟
قال: ليس بأخي، ولكنه عبدي قتلته. وكان عبد الله بن عباس أوصى إلى ابنه علي أن
يورث سليطا، ولا يزوجه، وقال: أنا أعلم أنه ليس مني، ولكني لا أدفعه عن الميراث.
فنزل علي بن عبد الله الحميمة، فلم يزل بها حتى ولد أولاداً، وصار له الأهل
والعيل، وولد له نيف وعشرون ذكرا، مات عامتهم في حياته، ولم يزل ولده بالحميمة حتى
أذهب الله سلطان بني أمية.
وتوفي الحجاج بن يوسف
في هذه السنة، وهي سنة خمس وتسعون، وهو يومئذ ابن أربع وخمسين سنة، وكانت إمرته
على العراق عشرين سنة، فأقر الوليد على عمله يزيد بن أبي مسلم خليفته، ثم استعمل
مكانه يزيد بن أبي كبشه السكسكي. وكان الوليد لحاناً، فيه هرج وحيرة، وكان يقول:
لا ينبغي لخليفه أن يناشد، ولا يكذب، ولا يسميه أحد باسمه، وعاقب على ذلك.
وكان أول من عمل
البيمارستان للمرضى، ودار الضيافة، وأول من أجرى على العميان، والمساكين،
والمجذمين الأرزاق، وكان ممن أحدث قتل العصاة وأحصى أهل الديوان، وألقى منهم بشراً
كثيراً بلغت عدتهم عشرين ألفاً، وأول من أجزى طعام شهر رمضان في المساجد، وصام
الإثنين والخميس فأدمنه، وأول من أخذ بالقذف والظنة وقتل بهما الرجال، وانكسر
الخراج في أيامه، فلم يحمل كثير شيء، ولم يحمل الحجاج من جميع العراق إلا خمسة
وعشرين ألف ألف درهم. وكانت في ولايته الزلازل التي هدمت كل شيء، وأقامت أربعين
صباحا في سنة أربع وتسعون وكان الغالب عليه الفازي بن ربيعة الحرشي، وكان قاضيه
بالكوفة الشعبي، وكان على شرطة أبو ناتل رباح بن عبد الغساني، ثم عزله، واستعمل
كعب بن حامد العبسي، وعلى حرسه خالد بن الديان، مولى محارب، وحاجبه سعيد مولاه،
وتوفي الوليد لأربع عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ست وتسعون، وقيل انسلاخ جمادى
الآخرة، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وقيل تسع وأربعين سنة، وكانت أيامه تسع سنين
وثمانية أشهر ونصفا، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكانت وفاته بدير مران ودفن
بدمشق، وخلف من الولد تسعة عشر ذكراً: محمد، والعباس، وعمر، وبشر وروح وخالد،
وتمام، ومبشر، وجري، ويزيد، وعبد الرحمن، وإبراهيم، ويحيى، وأبو عبيدة، ومسرور،
وصدقة.
وأقام الحج للناس في
أيامه سنة ست وثمانون هشام بن إسماعيل، سنة سبع وثمانون عمر بن عبد العزيز، سنة
ثمان وثمانون حج هو، سنة تسع وثمانون وسنة تسعون عمر بن عبد العزيز، سنة واحد
وتسعون حج هو، سنة اثنان وتسعون وسنة ثلاث وتسعون عمر بن عبد العزيز، سنة أربع
وتسعون مسلمة بن عبد الملك، سنة خمس وتسعون أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
وغزا الصوائف في
أيامه سنة ست وثمانون مسلمة، ففتح حصنين، سنة ثمان وثمانون... مسلمة والعباس بن الوليد، فافتتحا سورية وافتتح العباس ادروليه سنة
تسعين عبد العزيز بن الوليد، فافتتح حصناً، سنة واحد وتسعين عبد العزيز بن
الوليد... محمد ابن مروان، وغزا موسى بن نصير الأندلس، سنة ثلاث وتسعون العباس بن
الوليد ومروان بن الوليد ومسلمة، ففتحوا أماسية وحصن الحديد سنة أربع وتسعون
العباس وعمر ابنا الوليد، سنة خمس وتسعون العباس، ففتح قبرس سنة ست وتسعون بشر بن
الوليد.
وكان الفقهاء في
أيامه عبد الرحمن بن حاطب، سعيد بن المسيب، عروة ابن الزبير، عطاء بن يسار، أبا
سلمة بن عبد الرحمن، القاسم بن محمد، سعيد بن جبير، مجاهد بن جبير مولى بني مخزوم،
عكرمة مولى ابن عباس، حكيم بن أبي حازم شقيق ابن سلمة، إبراهيم بن يزيد النخعي،
عامر الشعبي، سالم بن أبي الجعد، إسحاق السبيعي، أيوب الأزدي، أبا تميم الحميني،
الحسن بن أبي الحسن، محمد بن سيرين، أبا قلابة عبد الله بن زيد، سليمان بن يسار،
مورق العجلي، سنان بن سلمة، أبا المليح بن أسامة الهذلي، العلاء بن زياد، أبا
إدريس، رجاء بن حيوة. وكان الوليد طوالا، أسمر، به أثر جدري خفي، بمقدم لحيته شمط،
ليس في رأسه ولا لحيته غيره، أفطس.
أيام سليمان بن عبد
الملكوملك سليمان بن عبد الملك بن مروان، وأمه ولادة بنت العباس بن جزء العبسية،
للنصف من جمادى الأولى سنة ست وتسعون، وكانت الشمس يومئذ في الحوت ست درجات وأربعين
دقيقة، والقمر في السنبلة ست عشرة درجة وعشرين دقيقة راجعا، والمشتري في القوس
خمساً وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمريخ في الدلو إحدى عشرة درجة وثلاث دقائق،
والزهرة في الحوت خمس عشرة درجة وتسع عشرة دقيقة، وعطارد في الحوت خمس درجات
وخمسين دقيقة والرأس في الأسد ثلاث عشرة درجة وخمس عشرة دقيقة.
وأتته الخلافة
بالرملة، وكان بها منزلة، وهو أنشأ مسجد جامعها، وقصر إمارتها، ونقل الناس إليها
من لد، وكانت المدينة التي ينزلها الناس، فأخذ بهدم منازلهم بلد، والبنيان
بالرملة، وعاقب من امتنع من ذلك، وهدم منازلهم، وقطع الميرة عنهم، حتى انتقلوا
وخرب لد.
وأخذ له عمر بن عبد
العزيز البيعة بدمشق، يوم مات الوليد، فصار إلى دمشق فأقام بها يسيراً، وأراد
سليمان الحج، فكتب إلى خالد بن عبد الله وهو عامل مكة، يأمره أن يجري له عينا تخرج
من الثقبة من الماء العذب، حتى تظهر بين زمزم والركن الأسود، يباهي بها زمزم، فعمل
خالد البركة التي بفم الثقبة، يقال لها: بركة القسري، وهي قائمة إلى اليوم، في أصل
ثبير، عملها بحجارة منقوشة، واستنبط ماءها من ذلك الموضع، ثم شق من هذه البركة
عينا تجري إلى المسجد الحرام، في قصب من رصاص، حتى أظهرها في فواره تسكب في فسقية
رخام، بين الركن وزمزم، فلما أن جرت وظهر ماؤها أمر خالد بجزر، فنحرت بمكة، وقسمت
بين الناس، وعمل طعاماً، فدعا إليه الناس، ثم أمر صائحا، فصاح: الصلاة جامعة، ثم
صعد المنبر فقال: أيها الناس احمدوا الله، وادعوا لأمير المؤمنين الذي سقاكم الماء
العذب، بعد المالح الأجاج، الذي لا يطاق شربه، يعني زمزم وكان لا يجتمع على ذلك
الماء اثنان، وكانوا على شرب زمزم أكثر ما كانوا، فلما رأى خالد ذلك قام خطيباً،
فنال من أهل مكة، وكلمهم بكلام قبيح يعنفهم فيه على تركهم شرب ذلك الماء، وإقبالهم
على زمزم، ولم تزل تلك الفسقية على حالها أيام بني أمية، فلما صار الأمر إلى بني
هاشم هدمها داود بن علي أول ما قدم مكة.
ولم يقم خالد بمكة
إلا قليلاً حتى سخط عليه سليمان، فصرفه، وولي طلحة بن داود الحضرمي، وأمره أن يضرب
خالدا بالسياط بسبب امرأة من قريش كان قذفها فأقبح، وأن يطالبه، ويحمله في الحديد،
وعزل عثمان بن حيان المري عامل المدينة، وقلد أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم،
فضرب عثمان بن حيان حدين: أحدهما في شرب الخمر، والآخر في قرفه على عبد الله بن
عمرو بن عثمان بن عفان.
وسخط سليمان على موسى
بن نصير اللخمي، العامل على إفريقية، والذي افتتح الأندلس وما والاها، وكان موسى
قدم على الوليد، فوجده شديد العلة، فلم يقم إلا أياماً حتى مات، وسعى طارق مولى
موسى بمولاه إلى سليمان، فاستصفى سليمان ماله، وأخذه بمائة ألف دينار، فقال موسى:
صحبتكم ولي فرس وفرو وسيف، فأعطوني هذا وشأنكم بما بقي.
وولي سليمان المغرب
محمد بن يزيد، مولى قريش، وأمره بتتبع أصحاب موسى وولده وأصحابه، وكان سليمان قد
قدم يزيد بن المهلب وخصه وأبره، ودفع إليه أصحاب الحجاج بن يوسف، وموسى بن نصير،
وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف بن عمر الثقفي، والحكم بن أيوب، وعبد الرحمن بن
حيان المري، وأمره أن يعذبهم حتى يستخرج منهم الأموال، وتتبع سليمان أصحاب الحجاج
يسومهم سوء العذاب، وأشخص إليه يزيد بن أبي مسلم خليفة الحجاج، وكان قصيرا، خفيف
البدن، فلما رآه قال له: أنت يزيد؟ قال: نعم! قال: صاحب الحجاج والأفعال التي
بلغتني مما أرى من دمامة خلقتك؟ قال: ذاك والله إنك رأيتني والدنيا عليك مقبلة،
وهي عني مدبرة، ولو رأيتها وهي إلي مقبلة، وعنك مدبرة، لاستعظمت ما استصغرت،
واستجللت ما استحقرت. قال: أين ترى الحجاج يهوي في النار؟ قال: لا تقل هذا يا أمير
المؤمنين لرجل يحشر عن يمين أبيك وشمال أخيك، وأنزله حيث شئت تنزلهما معه. فقال
ليزيد بن المهلب: خذه إليك، فعذبه بألوان العذاب، حتى تستخرج منه الأموال. فقال:
يا أمير المؤمنين أنا أعلم به، لا والله ما عنده مال، ولا كان ممن يحوي المال.
وكان يزيد بن المهلب يعرف له جميل فعله به، فولاه سليمان الصائفة.
وكان قتيبة بن مسلم
عامل الحجاج على خراسان فلما بلغه فعل سليمان بنظرائه، وقصده عمال الوليد، وعمال
الحجاج، جمع إليه إخوانه وأهل بيته، وأوغل في أرض العجم، حتى بلغ بلد فرغانة
القصوى وكان عبد الله ابن الأهتم التميمي معه، فهرب منه إلى سليمان، فرفع إليه،
فأخذ قتيبة قوما من أهل بيته، فقتلهم وقطع أيدي آخرين وأرجلهم، وكان يزيد بن
المهلب عدوه لما فعل به وبأهل بيته لما ولي عليه، فعلم أنه لا يصلح له حب سليمان،
وكتب إليه كتابا، فأجابه سليمان يغلظ له، فأراد الخلع، وهو لا يشك أن موضعه من
النزارية... واليمانية لا يخالفونه، فلما علم القوم مذهبه تبعدوا عنه، فخطبهم خطبة
مشهورة، نال فيها، وقال: يا معشر تميم، ويا أهل الذلة والقلة، ويا معشر الأزد!
أخليتم السفن، وركبتم الخيل، وقذفتم المرادي، وأخذتم الرماح، والله لأنا بمن معي
من العجم أعز منكم! فصاف القوم عنه، وصارت كلمتهم واحدة في الوثوب عليه، واجتمعوا
إلى الحضين بن المنذر، فدعوه إلى القيام بجماعتهم، فقال: عليكم بوكيع بن أبي سود
التميمي. فأتوا وكيعا، فانقضت كلمتهم عليه، ومع القوم يومئذ حيان النبطي، فوثبوا
بقتيبة فقتلوه، وقام وكيع بخراسان، وولي عماله، وكتب إلى سليمان يعلمه ما كان منه،
وبعث برأس قتيبة ورؤوس أهل بيته إليه، وذلك في سنة ست وتسعون.
فلما أتى سليمان كتاب
وكيع أراد أن يكتب إليه بالعهد على خراسان، فقيل له: إنه رجل ترفعه الفتنة وتضعه
السنة، وليس لها بموضع، فولى سليمان يزيد بن المهلب العراق وخراسان، فكان يزيد بن
المهلب في العراق، فعذب عمال الحجاج، ثم استخلف على العراق ونفذ إلى خراسان، فتتبع
أصحاب قتيبة وقراباته، فسامهم سوء العذاب، وحبس وكيع بن أبي سود، وقيده، وأخذ
عماله الذين كان ولاهم البلدان بعد قتل قتيبة، فطالبهم بالأموال التي صارت إليهم،
وخالف أكثر أهل خراسان فقصد جرجان، فحاصرها حتى نزلوا على حكمه، فقتل منهم مقتلة
عظيمة، وفتحها وحارب أصبهبذ طبرستان، وملك الترك، وملك الديلم، فأقام في محاربة
صاحب طبرستان زمانا، ثم عرض وضجر، ثم طلب أن يصالحه، فلم يفعل، فرجع إلى جرجان
فأقام بها، ثم خرج منها إلى نيسابور، وولي يزيد إخوته وولده البلدان، فولى مخلدا
سمرقند، ومدرك بن المهلب بلخ، ومحمد بن المهلب مرو، وعظم أمر يزيد بخراسان.
واضطرب السند، وأخل
الجند الذين كانوا مع محمد بن القاسم الثقفي بمراكزهم، فرجع أهل كل بلد إلى بلدهم،
فوجه سليمان حبيب بن المهلب إليها، فدخل البلاد، وقاتل قوما كانوا ناحية مهران،
وأخذ محمد بن القاسم، فألبسه المسوح، وقيده وحبسه.
وقدم أبو هاشم عبد
الله بن محمد بن علي بن أبي طالب على سليمان، وقال سليمان: ما كلمت قرشيا قط يشبه
هذا، وما أظنه إلا الذي كنا نحدث عنه، فأجازه، وقضى حوائجه وحوائج من معه.
ثم شخص عبد الله بن
محمد، وهو يزيد فلسطين، فبعث سليمان قوما إلى بلاد لخم وجذام، ومعهم اللبن
المسموم، فضربوا أخبية نزلوا فيها، فمر بهم، فقالوا: يا عبد الله! هل لك في
الشراب؟ فقال: جزيتم خيراً. ثم مر باخرين، فقالوا مثل ذلك، فجزاهم خيراً، ثم
باخرين، فاستسقى فسقوه، فلما استقر اللبن في جوفه قال لمن معه: أنا والله ميت، فانظروا
من هؤلاء، فنظروا فإذا القوم قد قوضوا، فقال: ميلوا بي إلى ابن عمي محمد بن علي بن
عبد الله بن عباس، فإنه بأرض الشراة، فأسرعوا السير حتى أتوا محمد بن علي بالحميمة
من أرض الشراة، فلما قدم عليه قال له: يا ابن عم أنا ميت، وقد صرت إليك، وهذه وصية
أبي إلي، وفيها أن الأمر صائر إليك، وإلى ولدك، والوقت الذي يكون ذلك، والعلامة
وما ينبغي لكم العمل به أعلى ما سمع وروى عن أبيه علي بن أبي طالب، فاقبضها إليك،
وهؤلاء الشيعة ستوص بهم خيراً، وهؤلاء دعاتك وأنصارك، فاستبطنهم، فإني قد بلوتهم
بمحبة ومودة لأهل بيتك، ثم هذا الرجل ميسرة، فاجعله صاحبك بالعراق، فأما الشام،
فليست لكم ببلاد، وهؤلاء رسله إلى خراسان وإليك، ولتكن دعوتكم بخراسان، ولا تعد
هذه الكور: مرو، ومرو الروذ، وبيورد، ونسا، وإياك ونيسابور وكورها، وأبرشهر، وطوس،
فإني أرجو أن تتم دعوتكم، ويظهر الله أموركم، وأعلم أن صاحب هذا الأمر من ولدك عبد
الله بن الحارثية، ثم عبد الله أخوه الذي هو أكبر منه، فإذا مضت سنة الحمار، فوجه
رسلك بكتبك، ووطد الأمر قبل ذلك بلا رسول ولا حجة. فأما أهل العراق، فهم شيعتك
ومحبوك، وهم أهل اختلاف، فلا يكن رسولك إلا منهم، وانظر أهل الحي من ربيعة فألحقهم
بهم، فإنهم معهم في كل أمر، وانظر هذا الحي من تميم وقيس فاقصهم، ثم أبدهم إلا من
عصم الله منهم، وهم أقل من القليل، ثم اختر دعاتك، فليكونوا اثني عشر نقيبا، فإن
الله عز وجل لم يصلح أمر بني إسرائيل إلا بهم وسبعين نفسا بعدهم يتلونهم، فإن
النبي إنما اتخذ اثني عشر نقيباً من الأنصار اتباعاً لذلك.
فقال محمد: يا أبا
هاشم! وما سنة الحمار؟ قال: لم يمض مائة من نبوة قط إلا انقضت أمورها، لقول الله
عز وجل: " أو كالذي مر على قرية " ، الآية، فإذا خلت مائة سنة، فابعث
رسلك ودعاتك، فإن الله متمم أمرك.
ومات أبو هاشم بعد أن
دفع الكتاب إلى محمد بن علي، وذلك سنة سبع وتسعون، وفيها وجه محمد بن علي أبا رباح
ميسرة النبال مولى الأزد إلى الكوفة. وحج سليمان سنة سبع وتسعون، وقد عزم على أن
يبايع لابنه أيوب بولاية العهد من بعده، وكان قد كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو
بن حزم أن يبني له قصرا بالجرف ينزله، فلما قدم لم يرض بناء القصر، فنزله، وقسم
بين أهل المدينة قسما، وفرض لقريش خاصة أربعة آلاف فريضة لم يدخل فيها حليفا ولا
مولى، فأجمع رأى مشيخة قريش أن جعلوها لحلفائهم ومواليهم، ثم دخلوا عليه فقالوا:
إنك قد فرضت لنا أربعة آلاف فريضة لا تدخل علينا فيها حليفا ولا مولى، فرأينا أن
نكافئك ونجعلها في حلفائنا وموالينا، فنحن أخف عليك مؤونة منهم. ففرض لهم أربعة
آلاف فريضة أخرى.
وصار إلى مكة، فلما
نزل بطن رابغ أخذتهم السماء وجاءت صواعق لم ير مثلها، ففزع سليمان، فقال له عمر بن
عبد العزيز: هذه الرحمة، فكيف العذاب؟ وأحضر جماعة من الفقهاء فيهم القاسم بن محمد
بن أبي بكر، وسالم ابن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن
حزم، فسألهم عن أمر الحج، فاختلفوا عليه، فقال كل واحد منهم قولا لم يوافق الآخر،
فقال: كيف صنع أمير المؤمنين عبد الملك؟ فقيل له: كذا، فقال: أصنع كما صنع، وأترك
اختلافكم. وانصرف من مكة إلى بيت المقدس، فأطاف المجذمون بمنزله، فضربوا بأجراسهم،
حتى منعوه النوم، فسأل عنهم، فأخبر بما يلقاه الناس منهم، فأمر بإحراقهم، وقال: لو
كان في هؤلاء خير ما ابتلاهم الله بهذا البلاء! فكلمه عمر في ذلك، فأمسك عنهم،
وأمر أن ينفوا إلى قرية معتزلة لا يخالطوا الناس وخرج سليمان إلى ناحية الجزيرة،
فنزل بموضع يقال له دابق، من جند قنسرين، وأغزى مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم
وأمره أن يقصد القسطنطينية، فيقيم عليها حتى يفتحها، فسار مسلمة حتى بلغ
القسطنطينية، وأقام عليها حتى زرع وأكل مما زرع، ودخل، وفتح مدينة
الصقالبة وأصاب
المسلمين ضر وجوع وبرد. وبلغ سليمان ما فيه مسلمة ومن معه، فأمدهم بعمرو بن قيس في
البر، وأغزى عمر بن هبيرة الفزاري في البحر، وذلك أن الروم أغاروا على مدينة
اللاذقية من جند حمص، فأحرقوها، وذهبوا بما فيها، فبلغ عمر بن هبيرة خليج
القسطنطينية.
وكان الغالب على
سليمان النصرا بن برهم الحميري، ورجاء بن حيوة الكندي، وعلى شرطة كعب بن حامد
العبسي، وعلى حرسه خالد بن الديان مولى محارب، وحاجبه مولاه أبو عبيدة، وكان أكولا
لا يكاد يشبع، وكان له جمال وفصاحة... رجل طويل، أبيض قضيف البدن، لم يشب، وهو
الذي يقول، ونظر إلى نفسه في المرآة: أنا الملك الشاب، فما دارت عليه الجمعة حتى مات، وكانت وفاته في صفر
سنة تسع وتسعين، وعهد إلى عمر بن عبد العزيز، وكتب كتابا، وأحضر أهل بيته، فقال:
بايعوا لمن في هذا الكتاب، فبايعوا، ودفع الكتاب إلى مسجد دابق، فدعا من بها من
أهل بيت سليمان، فقال: بايعوا! فقالوا: إنا بايعنا مرة، فقال: بايعوا الذي في هذا الكتاب، فبايعوا، فلما فرغ قال: قوموا إلى صاحبكم،
فقد مات، وقرأه، فلما بلغ إلى اسم عمر بن عبد العزيز قال هشام: لا والله لا أبايع!
فقال رجاء بن حيوة: إذا أضرب عنقك، وأخذ بضبع عمر، فأجلسه على المنبر، فلما فرغوا
من البيعة دفنوا سليمان، ونزل عمر بن عبد العزيز قبره، وثلاثة من ولده، فلما
تناولوه تحرك على أيديهم، فقال ولد سليمان: عاش أبونا ورب الكعبة! فقال عمر: بل
عوجل أبوكم ورب الكعبة! وكان بعض من يطعن على عمر يقول له: دفن سليمان حيا. وكانت
ولاية سليمان بن عبد الملك سنتين وثمانية أشهر، وخلف من الولد الذكور عشرة: يزيد
والقاسم وسعيد، وعثمان، وعبد الله، وعبد الواحد، والحارث، وعمرو، وعمر، وعبد
الرحمن. وأقام الحج للناس في ولايته سنة ست وتسعون أبو بكر بن عمرو بن جزم، وفي
سنة سبع وتسعون سليمان، وفي سنة ثمان وتسعون عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن
أسيد. وغزا في
أيامه سنة ست وتسعون مسلمة، ففتح حصن الحديد وشتا بنواحي الروم، وعمر بن هبيرة في
البحر، فمخروا ما بين الخليج والقسطنطينية، وفتحوا مدينة الصقالبة، وأمد سليمان
بعمرو بن قيس الكندي، وعبد الله بن عمر بن الوليد ابن عقبة وفي سنة تسع وتسعون وجه
سليمان بن عبد الملك بابنه داود إلى أرض الروم، ومسلمة منيخ على القسطنطينية، ففتح
داود حصن المرأة من ناحية ملطية. وكان الفقهاء في أيامه مثل من كان في أيام الوليد.
أيام عمر بن عبد
العزيزثم ولى عمر بن عبد العزيز بن مروان، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر ابن
الخطاب، لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعون، وكانت الشمس يومئذ في السنبلة ثمانياً
وعشرين درجة، وزحل في الميزان خمساً وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمشتري في الحوت
درجتين راجعا، والمريخ في السرطان ثلاثاً وعشرين درجة وثلاثين دقيقة، وعطارد في
الميزان اثنتين وعشرين درجة، والرأس في الجوزاء ثلاثاً وعشرين درجة وستا وعشرين
دقيقة، وبويع بدابق، وكان الكتاب الذي كتبه سليمان: هذا كتاب من عبد الله سليمان
أمير المؤمنين لعمر ابن عبد العزيز أني وليتك الخلافة بعدي، فاسمعوا، وأطيعوا،
واتقوا الله، ولا تختلفوا. فلما قرئ الكتاب بايع جميع من حضر من بني أمية خلا عبد
العزيز ابن الوليد بن عبد الملك، فإنه كان غائباً، فدعا إلى نفسه، فبايعه قوم،
فلما بلغه ولاية عمر قدم، فقال له عمر: بلغني أنك كنت دعوت إلى نفسك، وأردت دخول
دمشق، فقال: قد كان ذلك لأني خفت الفتنة، وبلغني أن الخليفة لم يعهد إلى أحد. فقال
عمر: لو قمت بالأمر ما نازعتك ذلك فقال عبد العزيز: ما كنت أحب أن يكون ولي هذا
الأمر غيرك.
ولما بلغ يزيد بن
المهلب ولاية عمر وورد عليه كتابه شخص من خراسان، واستخلف بها مخلدا ابنه، وحمل كل
ما كان له، مخافة من أهل خراسان، معه، فأشار عليه قوم ألا يبرح، فلم يفعل، وصار
إلى البصرة، فلقيه بها عدي ابن أرطأة عامل عمر، فأوصل إليه كتاب عمر، فقال: سمعا
وطاعة، ثم حمله إليه مستوثقاً منه، فقال له عمر: إني وجدت لك كتابا إلى سليمان
تذكر فيه أنك اجتمع قبلك عشرون ألف ألف، فأين هي؟ فأنكرها، ثم قال: دعني أجمعها!
قال: أين؟ قال: أسعى إلى الناس. قال: تأخذها منهم مرة أخرى؟ لا ولا نعمي عين. ثم
ولي الجراح بن عبد الله الحكمي خراسان، وأمره أن يأخذ مخلد بن يزيد، فيستوثق منه
استيثاقا لا يمنعه من الصلاة، فحبسه الجراح مكرماً، ثم حمله إلى عمر، فدخل في ثياب
مشمرة، وقلنسوة بيضاء، فقال له عمر: هذا خلاف ما بلغني عنك. فقال: أنتم الأئمة إذا
أسبلتم أسبلنا، وإذا شمرتم شمرنا.
وحسنت سيرة الجراح
وقدمت عليه وفود التبت يسألونه أن يبعث إليهم من يعرض عليهم الإسلام، فوجه إليهم
السليط بن عبد الله الحنفي، ووجه عبد الله بن معمر اليشكري إلى ما وراء النهر،
فلقي جمعاً للترك فهزم وانصرف ابن معمر.
وبلغ عمر عن الجراح
أمور يكرهها من أنه يأخذ الجزية من قوم قد أسلموا، وأنه يغزى موالي بلا عطاء، وأنه
يظهر العصبية، فكتب إليه: أن أقدم، واستخلف عبد الرحمن بن نعيم الغامدي، ففعل ذلك،
ثم كتب عمر إلى عبد الرحمن بعهده على خراسان، ويأمره بأقفال من وراء النهر من
المسلمين بذراريهم إلى مرو، فعرض ذلك عليهم، فأبوا عليه، فكتب إلى عمر انهم قد
رضوا بالمقام، فحمد عمر ربه على ذلك.
وبلغ عمر ما فيه من
في بلاد الروم مع مسلمة من الضرر والفاقة، فوجه عمر بن قيس على الصائفة، ووجه معه
الكساء والطعام والأعطيه لمن كان مع مسلمة من المسلمين، فوجه عمر عبد العزير بن
حاتم بن النعمان الباهلي، فأوقع بالترك، فلم يفلت منهم إلا الشريد، وقدم على عمر
منهم بخمسين أسيرا، فقال رجل من المسلمين لعمر في أسير منهم: لو رأيت هذا، يا أمير
المؤمنين، يقتل المسلمين، لرأيت قتالاً ذريعا فقال: قم فاضرب عنقه.
وفاة علي بن
الحسينوتوفي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في سنة تسع وتسعون، وقال قوم سنة
مائة، وله ثمان وخمسون سنة، وكان أفضل الناس، وأشدهم عبادة، وكان يسمى زين
العابدين، وكان يسمى أيضاً ذا الثفنات، لما كان في وجهه من أثر السجود، وكان يصلي
في اليوم والليلة ألف ركعة، ولما غسل وجد على كتفيه جلب كجلب البعير، فقيل لأهله:
ما هذه الآثار؟ قالوا: من حمله للطعام في الليل يدور به على منازل الفقراء.
قال سعيد بن المسيب:
ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين. وما رأيته قط إلا مقت نفسي، ما رأيته ضاحكا
يوماً قط. وكانت أمه حرار بنت يزدجرد كسرى، وذلك أن عمر بن الخطاب لما أتي بابنتي
يزدجرد وهب أحداًهما للحسين بن علي، فسماها غزالة، وكان يقول بعض الأشراف إذا ذكر
علي ابن الحسين يود الناس كلهم أن أمهاتهم إماء. وقيل إن أمه كانت من سبي كابل.
قال أبو خالد
الكابلي: سمعت علي بن الحسين يقول: من عف عن محارم الله كان عابداً، ومن رضي بقسم
الله كان غنياً، ومن أحسن مجاورة من جاوره كان مسلماً، ومن صاحب الناس بما يحب أن
يصاحبوه به كان عدلاً.
وقال علي بن الحسين:
إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم:
انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما فضلكم؟ فيقولون: كنا
إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء علينا عفونا. فيقولون: ادخلوا
الجنة، فنعم أجر العاملين. ثم ينادي مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس،
فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما كان
صبركم؟ فيقولون: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرنا عن معاصي الله، فيقولون لهم:
ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين. ثم ينادي فيقول: ليقم جيران الله! فيقوم ناس من
الناس، وهم الأقل، فيقال لهم: بم جاورتم الله في داره؟ فيقولون: كنا نتجالس في
الله، ونتذاكر في الله، ونتزاور في الله، فيقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر
العاملين. وقال: بئس القوم قوم ختلوا الدنيا بالدين، وبئس القوم قوم عملوا بأعمال
يطلبون بها الدنيا.
وقال:
إن المعرفة بكمال
المرء تركه الكلام فيما لا يعنيه، وقلة مرائه، وصبره، وحسن خلقه. وكتب ملك الروم
إلى عبد الملك يتوعده، فضاق عليه الجواب وكتب إلى الحجاج، وهو إذ ذاك على الحجاز:
أن ابعث إلى علي بن الحسين فتوعده وتهدده وأغلظ له، ثم انظر ما ذا يجيبك، فاكتب به
إلي ففعل الحجاج ذلك فقال له علي بن الحسين: إن لله في كل يوم ثلاثمائة وستين
لحظة، وأرجو أن يكفينك في أول لحظة من لحظاته. وكتب بذلك إلى عبد الملك، فكتب به
إلى صاحب الروم كتاباً، فلما قرأه قال: ليس هذا من كلامه، هذا من كلام عترة نبوته.
ومرض ثلاث مرضات في
كل ذلك يوصي بوصية، فإذا برئ وأفاق أنفذها، وقال: كلكم سيصير حديثاً، فمن استطاع
أن يكون حديثاً حسناً، فليفعل.
وكان يقول: ابن آدم
لن تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همتك، وما كان لك الخوف
شعاراً، والحزن دثاراً.
وكان عبد الملك قد
كتب إلى الحجاج، وهو على الحجاز: جنبني دماء آل بني أبي طالب فإني رأيت آل حرب لما
تهجموا بها لم ينصروا، فكتب إليه علي بن الحسين: أني رأيت رسول الله ليلة كذا في
شهر كذا يقول لي: إن عبد الملك قد كتب إلى الحجاج في هذه الليلة بكذا وكذا، وأعلمه
أن الله قد شكر له ذلك، وزاده برهة في ملكه.
وكان له من الولد:
أبو جعفر محمد، والحسين، وعبد الله، وأمهم أم عبد الله بنت الحسن بن علي، وعلي،
والحسن، والحسين الأصغر، وسليمان، توفي صغيراً، وزيد.
وذكره يوماً عمر بن
عبد العزيز، فقال: ذهب سراج الدنيا، وجمال الإسلام وزين العابدين، فقيل له: إن
ابنه أبا جعفر محمد بن علي فيه بقية، فكتب عمر يختبره، فكتب إليه محمد كتاباً يعظه
ويخوفه، فقال عمر: أخرجوا كتابه إلى سليمان، فأخرج كتابه، فوجده يقرظه، ويمدحه،
فأنفذ إلى عامل المدينة، وقال له: أحضر محمداً، وقل له: هذا كتابك إلى سليمان
تقرظه، وهذا كتابك إلي معما أظهرت من العدل والإحسان. فأحضره عامل المدينة، وعرفه
ما كتب به عمر، فقال: إن سليمان كان جباراً كتبت إليه بما يكتب إلى الجبارين، وإن
صاحبك أظهر أمراً فكتبت إليه بما شاكله وكتب عامل عمر إليه بذلك، فقال عمر: إن أهل
هذا البيت لا يخليهم الله من فضل.
ونكث عمر أعمال أهل
بيته وسماها مظالم، وكتب إلى عماله جميعاً: أما بعد، فإن الناس قد أصابهم بلاء
وشدة وجور في أحكام الله، وسنن سيئة سنتها عليهم عمال السوء، قلما قصدوا قصد الحق
والرفق والإحسان، ومن أراد الحج، فعجلوا عليه عطاءه، حتى يتجهز منه، ولا تحدثوا
حدثا في قطع وصلب حتى تؤامروني، وترك لعن علي بن أبي طالب على المنبر، وكتب بذلك
إلى الآفاق فقال كثير:
وليت فلم تشتم علياً
ولم تخف ... بريا ولم تتبع مقالة مجرم
وأعطى بني هاشم
الخمس، ورد فدكا، وكان معاوية أقطعها مروان، فوهبها لابنه عبد العزيز، فورثها عمر
منه، فردها على ولد فاطمة فلم تزل في أيديهم حتى ولي يزيد بن عبد الملك، فقبضها.
ورد عمر هدايا النيروز والمهرجان، ورد السخر، ورد العطاء على قدر ما استحق الرجل
من السنة، وورث العيالات على ما جرت به السنة، غير أنه أقر القطائع التي أقطعها
أهل بيته، والعطاء في الشرف لم ينقصه، ولم يزد فيه، وزاد أهل الشام في أعطياتهم
عشرة دنانير، ولم يفعل ذلك في أهل العراق، وكان يقول: ما بقي المسلم على جفوة
السلطان ونزغة الشيطان لم أر شيئاً أعون له على دينه من إعطائه حقه. فكان يجلس
للنظر في أمور المسلمين نهاره كله، فقال له رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين! نهارك
كله مشغول، ذلك جزء من الليل، وأنت تسمر معنا فقال: يا رجاء إن ملاقاة الرجال تلقح
لأوليائها، وإن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة، لا يضل معهما رأى ولا
يقعد معهما حزم.
وكان يقول: لكل شيء معدن،
ومعدن التقوى قلوب العاقلين، لأنهم عقلوا عن الله، فاتقوه في أمره ونهيه. وكتب إلى
عامله باليمن: أما بعد، فدع ما أنكرت من الباطل، وخذ ما عرفت من الحق بالغا بك ما
بلغ، فإن بلغ مهج أنفسنا، فإن الله يعلم أنك إن لم تحمل إلي إلا حفنة من كتم فإني
بذلك مسرور، إذا كان موافقاً.
قال الزهري: دخلت إلى
عمر يوماً فبينا أنا عنده إذ أتاه كتاب من عامل له يخبره إن مدينتهم قد احتاجت إلى
مرمة، فقلت له: إن بعض عمال علي بن أبي طالب كتب بمثل هذا، وكتب إليه: أما بعد
فحصنها بالعدل، ونق طرقها من الجور، فكتب بذلك عمر إلى عامله.
ووجه عمر إلى مسجد
دمشق من ينزع ما فيه من الرخام والفسيفساء والذهب، وقال: إن الناس يشتغلون بالنظر
إليه عن صلاتهم، فقيل له: إن فيه مكيدة للعدو، فتركه، وارتحل إلى خناصرة، فنزلها،
وهي برية من أطراف جند قنسرين، وكره أن ينزل في منازل أهل بيته التي بنوها بمال
الله وفيء المسلمين، ثم كلم في ذلك، وقيل له: إن في نزولك البرية إضراراً
بالمسلمين، فخرج إلى دمشق، فنزل دار أبيه التي كانت إلى جانب المسجد، وأقام عشرين
يوماً، وكثر عليه الناس، فارتحل حتى صار إلى مدينة حلب، وكثر عليه الناس، فارتحل
إلى مدينة حمص راجعاً يريد أن ينزلها، فلما صار إلى أوائل حمص اعتل، فمال إلى موضع
يعرف بدير سمعان، فنزله، ويقال: بل ارتحل إليه قاصداً يريد نزوله بسبب قطعة أرض
كان ورثها عن أمه فيه، فلما صار إلى دير سمعان أتاه الخبر بخروج شوذب الحروري،
فأمر بتوجيه جيش إليه، ووجه إليه شوذب برجلين من قبله يناظرانه، فقالا له: إنك
أظهرت أفعالا حسنة، وأعمالا جميلة، ومما ننكر عليك ترك لعن أهل بيتك، والبراءة
منهم. فقال: وكيف يلزمني لعنهم؟ قالا لأنهم من أهل المعاصي والذنوب، ولا يسعك غير
ذلك. قال: متى عهدكم بلعن فرعون؟ قالوا: ما نذكر متى لعناه. قال: فكيف يسعكم ترك لعنه،
وهو من أهل الذنوب والمعاصي؟ أنتم قوم أردتم شيئاً فأخطأتموه، ولقد أصبحتم بنعمه،
ووعدكم كثير، وشوكتكم ضعيفة. فأقام أحدهما عنده، وانصرف الآخر.
وأتاه أبو الطفيل
عامر بن واثلة وكان من أصحاب علي، فقال له: يا أمير المؤمنين! لم منعتني عطائي؟ فقال له: بلغني أنك صقلت سيفك، وشحذت سنانك، ونصلت
سهمك، وغلفت قوسك، تنتظر الإمام القائم حتى يخرج، فإذا خرج وفاك عطائك. فقال: إن
الله سائلك عن هذا، فاستحيا عمر من هذا، وأعطاه.
وكانت ريطة بنت عبيد
الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي عند عبد الله ابن عبد الملك بن مروان،
فهلك عنها، فخلف عليها الحجاج بن عبد الملك، فطلقها قبل أن يدخل عليها، فقدم محمد
بن علي، وهو يريد الصائفة، فكلم عمر فيها، وقال: ابنة خالي كانت متزوجة فيكم، فإن
تأذن أتزوجها. قال عمر: ومن يحول بينك وبينها، وهي أملك بنفسها؟ فتزوجها وبنى بها
بحاضر قنسرين في دار طلحة بن مالك الطائي واشتملت هناك على أبي العباس.
ولما دخلت سنة مائة
بعث محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ميسرة أبا رباح إلى العراق، ومحمد بن خنيس،
وأبا عكرمة السراج، وحيان العطار، إلى خراسان، وعليها يومئذ الجراح بن عبد الله
الحكمي، عامل عمر بن عبد العزيز، فلقوا من لقوا بها، وانصرفوا وقد غرسوا غرساً.
وكانت ولاية عمر ثلاثين شهراً، وكان الغالب عليه رجاء بن حيوة الكندي، وصاحب شرطته
روح بن يزيد السكسكي، مولاه، وتوفي لست بقين من رجب سنة مائة وواحد، وهو ابن تسع
وثلاثين سنة، وكان أسمر، رقيق الوجه، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر، وعهد
إلى يزيد بن عبد الملك، وقيل إن سليمان كان جعل له العهد من بعده، وإن عمر قال عند
وفاته: لو كان الأمر إلي لوليت ميمون بن مهران، والقاسم بن محمد، وصلى عليه مسلمة
بن عبد الملك، ودفن بدير سمعان، وقيل: إن أهل بيته سموه خوفاً من أن يخرج الأمر
منهم.
وهرب يزيد بن المهلب،
قبل وفاة عمر بليلتين، ولحق بالبصرة، وعليها عدي بن أرطأة الفزاري، وقد قبض على
أهل بيته فحبسهم، فوجه عمر في أثر يزيد رسلاً ففاتهم.
وخلف عمر من الولد
تسعة ذكور: عبد العزيز، وعبد الله، وعبيد الله، وزيداً، ومسلمة، وعثمان، وسليمان، وعاصما،
وعبد الرحمن.
وأقام الحج للناس في
ولايته سنة تسع وتسعون أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، سنة مائة أبو بكر أيضاً،
وغزا الصوائف في ولايته سنة تسع وتسعون عمرو بن قيس الكندي.
وكان الفقهاء في
أيامه: خارجة بن زيد بن ثابت، يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أبا سلمة بن عبد
الرحمن، سالم بن عبد الله بن عمر، القاسم بن محمد ابن أبي بكر، عبيد الله بن عبد
الله بن عتبة بن مسعود، محمد بن كعب القرظي، عاصم بن عمر بن قتادة، نافعاً مولى
عبد الله بن عمر، سعيد بن يسار، محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عبد الله بن
دينار، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو، عطاء
بن أبي رباح، مجاهد بن جبير، عكرمة مولى عبد الله بن عباس، عامر بن شراحيل الشعبي،
سالم بن أبي الجعد، حبيب بن أبي ثابت، عبد الملك بن ميسرة الهلالي، أبا إسحاق
السبيعي، الحسن ابن أبي الحسن البصري، محمد بن سيرين، أبا قلابة عبد الله بن زيد،
مورق العجلي، عبد الملك بن يعلى الليثي، زيد بن نوفل، علقمة بن عبد الله المزني،
أبا حازم رجاء بن حيوة، مكحول الدمشقي، راشد بن سعد، المقرئ سليمان ابن حبيب
المحاربي، ميمون بن مهران، يزيد بن الأصم، أبا قبيل المعافري، طاووس اليماني.
أيام يزيد بن عبد
الملكوملك يزيد بن عبد الملك بن مروان، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي
سفيان، وهي التي حرمت على عشرة من خلفاء بني أمية، معاوية جدها، ويزيد أبوها،
ومروان بن الحكم زوجها، والوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام بنو عبد الملك أولاد زوجها،
ويزيد ابنها، والوليد بن يزيد ابن ابنها، ويزيد بن الوليد ابن ابن زوجها.
وكانت ولايته في رجب
سنة مائة وواحد، والشمس يومئذ في الدلو إحدى وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والقمر في
الجدي أربع درجات وثلاثين دقيقة، وزحل في العقرب تسعا وعشرين درجة وثلاثين دقيقة،
والمشتري في الثور أربع عشرة درجة وعشرين دقيقة، والمريخ في الميزان ثلاث درجات
وأربعين دقيقة، والزهرة في الحوت خمس عشرة درجة وعشر دقائق، وعطارد في الجدي خمس
عشرة درجة وأربعين دقيقة، والرأس في الثور سبع درجات وعشرين دقيقة.
وعزل يزيد عمال عمر
بن عبد العزيز جميعاً، وكتب إلى عدي بن أرطأة يأمره بأخذ يزيد بن المهلب، فحاربه
في داخل البصرة، في شهر رمضان، فظفر به يزيد، فأخذه أسيرا، وحمله معه في الحديد
إلى واسط، فحبسه بها وجماعة معه. وغلب يزيد بن المهلب على البصرة وما والاها، ثم
خرج يريد الكوفة، واستخلف على البصرة مروان بن المهلب، فوجه إليه يزيد مسلمة بن
عبد الملك، والعباس بن الوليد، فسار مسلمة بن عبد الملك حتى أتى العراق، وجعل
يقول: إني أخشى أن يتعيا ابن المهلب ويهرب فنطلبه فقال له حسان النبطي، وكان معه:
لا يحسن ذلك، أيها الأمير! قال: ولم؟ قال: سمعته يقول: ويح عبد الرحمن بن محمد بن
الأشعث! هبه غلب على البصرة، أغلب على الصبر؟ ما ضره لو ألقى طرف ثوبه على وجهه،
ثم تقدم حتى قتل؟ وقال مسلمة: ما أجرأه ألا يبرح! فالتقيا بمسكن، فحاربه محاربة
شديدة، ويزيد مبطون شديد العلة، وكان مسلمة يسميه الجرادة الصفراء، فلم يبرح حتى
قتل، وكان ذلك في سنة مائة واثنان.
وكان معاوية بن يزيد
بن المهلب بواسط، فلما انتهى إليه خبر أبيه أخرج عدي بن أرطأة ومن كان معه، فضرب
أعناقهم، وركب البحر حتى صار بمن كان من أهل بيته وأنصاره إلى قندابيل من أرض
السند، إلى أن وافاهم هلال بن أحوز المازني بعث به مسلمة بن عبد الملك، فقتل
معاوية وجميع من كان معه سوى نفر يسير أخذهم أسرى، فحملهم إلى يزيد بن عبد الملك،
فقتلهم بدمشق، منهم عثمان بن المفضل بن المهلب، وحمل إليه من نساء المهلب خمسين
امرأة، فحبسهن بدمشق.
وبعث مسلمة على
خراسان سعيد بن عبد العزيز، فقصد السغد، فحاربهم محاربة شديدة، وأقام بسمرقند،
فجاءته ملكة فرغانة، فقالت: إني أدلك على شيء فيه الظفر على أن تجعل لي ألا تغزي
إلي جيشاً، فأعطاها ما سألت، فقالت: إن السغد قد خلوا عن أرضهم، ونزلوا خجندة،
وطلبوا إلينا أن ندخلهم بلادنا حتى يصالحوا العرب، أو يكون غير ذلك، وليس لهم في
خجندة طعام ولا شراب ولا عدة لحصار، فإن أردتهم فالساعة. فبعث سعيد بن عبد العزيز
سورة بن الحر الدارمي في الخيل ولحقهم بنفسه، فحصرهم في المدينة، فلما تخوفوا
الهلاك دعوا إلى الصلح على أن يرجعوا إلى بلادهم، فقال: علي أن تخرجوا عن آخركم،
فحفر لهم خندقاً، فقال: اخرجوا! فخرجوا جميعاً إلا رجلاً منهم يقال له جليح، ثم
خرج بالسلاح، وحارب المسلمين، وحارب معه قوم، فوثب عليهم سعيد والمسلمون، فقتلوهم
قتلاً ذريعاً، وكبس بهم الخندق، وسبى الذرية، وغنم ما لم يغنم مثله.
وولى يزيد بن عبد
الملك عمر بن هبيرة العراق مكان مسلمة، في هذه السنة، بعد انقضاء حرب ابن المهلب،
وقتلهم، فلقي جماعة من آل المهلب في الحديد قد وجه بهم مسلمة، فقال للرسل: ردوهم!
فقالوا: لا نفعل. قال: إن مسلمة يوم وجه بكم أميركم... فردوهم معه، وكتب إلى يزيد
كتابا حسنا في أمرهم، وأن الصنيعة فيهم عامة لقومهم فكتب إليه يزيد: وما أنت وذاك؟
لا أم لك فعاوده، وكتب إليه: ما هم لي بعشيرة، وما أردت إلا النظر لأمير المؤمنين
في تألف عشائرهم لئلا تفسد قلوبهم وطاعتهم فكتب إليه: بارك الله لك في ودهم إن كنت
أردت ذاك.
وأقر عمر بن هبيرة
سعيد بن عبد العزيز على خراسان، فوجد رسلا لأبي رباح ميسرة داعية بني هاشم في زي
التجار، فقيل إنه دعاهم، فسألهم عن حالهم، فقالوا: نحن تجار، فخلى سبيلهم، فخرجوا
من خراسان.
وظهر يزيد بن جرهم
الداعية، وبلغ عمر بن هبيرة الخبر، فعزله وولى خراسان مسلم بن سعيد الكلابي، فقدم
خراسان، فغزا بالناس، فلم يصنع شيئاً، فلما انصرف راجعاً من فرغانة تبعته الترك
وأهل فرغانة، فقاتلوه قتالاً شديداً وكان قد استعمل نصر بن سيار على بلخ، فكتب
إليه أن يمده بالرجال، وأن يحشر الناس إليه، فدعاهم نصر بن سيار إلى ذلك، فأبوا
عليه وقاتلوه، وكانت بينهم وبين نصر وقعة تسمى وقعة البروقان.
واستعمل يزيد على
المدينة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، وكتب إليه يأمره أن يجمع بين عثمان
بن حيان المري وبين أبي بكر بن عمرو بن حزم في الحدين اللذين جلدهما أبو بكر عثمان
بن حيان، فإن وجد أن أبا بكر ظلمه أقاده منه ففعل، وتحامل على أبي بكر، فجلده حدين
قودا بعثمان بن حيان.
وخطب عبد الرحمن
فاطمة بنت الحسين بن علي، فأرسل إليها رجالاً يحلف بالله لئن لم تفعلي ليضربن أكبر
ولدها بالسياط. فكتبت إلى يزيد كتابا، فلما قرأ كتابها سقط عن فراشه، وقال: لقد
ارتقى ابن الحجام مرتقى صعبا من رجل يسمعني ضربه وأنا على فراشي هذا؟ فكتب إلى عبد
الواحد بن عبد الله بن بشر النضري، وكان بالطائف، أن يتولى المدينة، ويأخذ عبد
الرحمن بن الضحاك بأربعين ألف دينار، ويعذبه حتى يسمعه ضربه، ففعل ذلك، فرئي عبد
الرحمن وفي عنقه خرقة صوف يسأل الناس.
ووجه يزيد الجراح بن
عبد الله الحكمي، فغزا الترك، وفتح بلنجر، وسبى خلقاً عظيماً في سنة مائة وأربع،
وانتهى إلى نهر الروباس، ثم سار حتى انتهى إلى نهر الران، ولقي ابن خاقان صاحب
الخزر فقاتله فهزمه، وقتل مقاتلته، وسبى سبياً كثيراً. ولما فتح بلنجر سار، فجعل
ينزل بلداً بلداً يتبع خاقان ملك الخزر، حتى صار إلى نهر دبيل من عمل آذربيجان،
فاقتتلوا هناك، وقتل الجراح وجميع أصحابه.
وولي يزيد بن أبي
مسلم إفريقية، فقدمها وعبد الله بن موسى اللخمي محبس بها، فقال له: أعط الجند من
مالك أرزاقهم لخمس سنين، فقال: لا أقدر على ذلك، فحبسه، وأخذ موالي موسى بن نصير
فوسم أيديهم، وردهم إلى الرق، واستخدم عامتهم في حرسه، فوثب عليه غلام منهم يقال
له جرير دخل عليه وهو يأكل عنباً، فقتله، فلما بلغ يزيد بن عبد الملك الخبر ولي
بشر بن صفوان الكلبي، فلم يزل مقيما بها ولاية يزيد.
وكتب يزيد إلى عمر بن
هبيرة، وهو عامل على العراق، يأمره أن يمسح السواد، فمسحه سنة مائة وخمس، ولم يمسح
السواد منذ مسحه عثمان بن حنيف في زمن عمر بن الخطاب، حتى مسحه عمر بن هبيرة، فوضع
على النخل والشجر، وأضر بأهل الخراج، ووضع على التانئة، وأعاد السخر والهدايا وما
كان يؤخذ في النيروز والمهرجان، والمساحة التي يؤخذ بها مساحة ابن هبيرة.
وكان يزيد قد جعل
ولاية العهد من بعده لهشام، ثم بدا له أن يبايع بولاية العهد لابنه الوليد، وكان
هشام بالجزيرة، فوجه إليه خالد بن عبد الله القسري يحسن له خلع نفسه من ولاية
العهد على أن الجزيرة له طعمة.
قال خالد بن عبد
الله: فأتيته، فذكرت له ذلك، فأسرع الإجابة، فقلت له: أيها الإنسان إن استشرتني
وعاهدتني على أن تكتم على أشرت عليك. فقال: قد استشرتك ولك عهد الله أن أكتم عليك.
فقلت: إنما هي أيام قلائل حتى تصير الجزيرة أحد أعمالك. قال: فكيف بالسلامة من
يزيد؟ قلت: علي! قال: افعل ما بدا لك، فإنها يد مشكورة لك. فانصرفت إلى يزيد فقلت:
يا أمير المؤمنين! إني أتيت رجلاً صعباً، فأنشدك الله أن توقع العداوة والشر
بينكم، وتوجدوا الناس السبيل إلى الطعن فيكم والاختلاف عليكم، ولكن تصير الوليد
ولي العهد بعد أخيك. فركن إلى ذلك وفعله، فما زال هشام يشكر ذلك لخالد حتى ولي
الخلافة فولاه العراق.
وكان الغالب على يزيد
سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان بن عفان، وصاحب شرطة كعب بن حامد العبسي، وعلى حرسه
يزيد بن أبي كبشه السكسكي، وحاجبه خالد مولاه.
وكانت ولايته أربع
سنين، وتوفي لأربع بقين من شعبان سنة مائة وخمس، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وصلى عليه
الوليد بن يزيد، ودفن بالبلقاء من أرض دمشق، وخلف من الولد عشرة ذكوراً وهم:
الوليد، ويحيى، ومحمد، والغمر، وسليمان، وعبد الجبار، وداود وأبو سليمان والعوام،
وهاشم وأقام الحج للناس في ولايته سنة مائة وواحد عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس،
سنة مائو واثنان عبد الرحمن أيضاً، سنة مائو وثلاث عبد الرحمن أيضاً، سنة مائة
وأربع عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النضري.
وغزا بالناس في
ولايته سنة مائة واثنان الوليد بن هشام أرض الروم، فنزل على المخاضة عند أنطاكية،
ولقي عمر بن هبيرة الروم بأرمينية الرابعة، فهزمهم، وأسر منهم سبعمائة، سنة مائة
وثلاث غزا العباس بن الوليد، فأصيب الناس في السرايا، وأغارت الترك على أرض اللان،
وغزا عبد الرحمن بن سليمان الكلبي، وعثمان بن حيان المري، فنزلا على حصن ففتحاه،
سنة مائة وأربع عبد الرحمن بن سليمان الكلبي على الصائفة اليمنى، وعثمان بن حيان
المري على الصائفة اليسرى، سنة مائة وخمس سعيد بن عبد الملك بن مروان، ثم رجع فغزا
ناحية الترك، فبلغ قصر قطن، وغزا الجراح بن عبد الله الحكمي باب اللان، حتى خرج من
الباب. وكان الفقهاء في ولايته يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، سالم بن عبد الله ابن
عمر، القاسم بن محمد بن أبي بكر، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، محمد بن كعب
القرظي، عاصم بن عمر بن قتادة، نافعاً مولى عبد الله بن عمر، سعيد بن يسار، محمد
بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عبد الله بن دينار، عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن
عمرو بن حزم، طاووس اليماني، عطاء بن أبي رباح، حبيب بن أبي رباح، حبيب بن أبي
ثابت، عبد الله بن ميسرة، أبا إسحاق السبيعي.
أيام هشام بن عبد
الملك بن مروانثم ملك هشام بن عبد الملك بن مروان، وأمه أم هشام بنت هشام بن
إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وأتته الخلافة وهو بقرية يقال لها
الزيتونة من الجزيرة، فجاء البريد، فسلم عليه بالخلافة، فركب من الرصافة حتى أتى
دمشق، وكان ذلك في شهر رمضان سنة 105، ومن شهور العجم في كانون، وكانت الشمس يومئذ
في الدلو ست درجات وثمانيا وخمسين دقيقة، والقمر في القوس سبع درجات وتسع دقائق،
والمشتري في الميزان ست درجات وخمسين دقيقة راجعاً، والمريخ في العقرب إحدى وعشرين
درجة وتسعاً وثلاثين دقيقة، والزهرة في القوس عشرين درجة وثلاث دقائق، وعطارد في
الدلو إحدى وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والرأس في الدلو عشرين درجة وعشرين دقيقة.
وولي خالد بن عبد
الله القسري العراق باليد التي كانت له عنده، وكان قد كتب إلى الجنيد بن عبد
الرحمن يأمره أن
يكاتب خالداً، ففعل، وعظم أمر الجنيد ببلاد السند، ودوخها حتى صار إلى أرض الجرز،
ثم إلى أرض الصين، ودعا ملكها إلى الإسلام، فقاتله، فثبت له الجنيد، فأقام يقاتله
ورمى حصنه بالنفط والنار، فطفاها، فقال الجنيد: في الحصن قوم من العرب هم أطفئوا
النار، ولم يزل يقاتله، حتى طلب الصلح وصالحه، وفتح المدينة، فوجد فيها رجلين من
العرب، فقتلهما. وأقام الجنيد أياماً ثم غزا الكيرج ومعه أشندر أبيد الملك في
مقاتلته، فهرب الراه ملك الكيرج، فافتتحها الجنيد، فسبى، وغنم، واستقامت أموره،
فوجه بعماله إلى المرمذ والمندل ودهنج والبروص وسرست والبيلمان والمالبة وغيرها من
البلاد، وكتب إليه هشام بفتح أتاه من الروم يخبره أن المسلمين أسروا عدة، وغنموا
حمرا وبقرا، فكتب إليه الجنيد: أني نظرت في ديواني، فوجدت ما أفاء الله علي، مذ
فارقت بلاد السند، ستمائة ألف وخمسين ألف رأس من السبي، وحملت ثمانين ألف ألف
درهم، وفرقت في الجند أمثالها مراراً.
وأقام الجنيد عدة
سنين، ثم استعمل خالد مكانه تميم بن زيد العتبي، فوجه ثمانية عشر ألف ألف طاطري
خلفها الجنيد في بيت المال، ولم يستقم لتميم أمر، وكثر خلاف أهل البلاد عليه،
وكثرت حروبه، وفشا القتل في أصحابه، وخرج من البلد يريد العراق، فكتب خالد إلى
هشام أن يولي الحكم بن عوانة الكلبي، فقدم الحكم وبلاد الهند كلها قد غلب عليها،
إلا أهل قصة، فقالوا: ابن لنا حصنا يكون للمسلمين يلجأون إليه! فبنى مدينة سماها
المحفوظة، وأجلى القوم المتغلبين بعد حرب شديدة، وهدأت البلاد وسكنت، وكان مع
الحكم عمرو بن محمد بن القاسم الثقفي، وجماعة من وجوه الناس، فلم يزل مقيما في
البلد، حتى عزل خالد، وولي يوسف بن عمر الثقفي.
وولي هشام مسلمة بن
عبد الملك أرمينية وآذربيجان سنة 107، فوجه سعيد بن عمرو الحرشي على مقدمته، فلقي
عسكرا للخزر، ومعهم عشرة آلاف من أسارى المسلمين، فحاربهم، فهزمهم، وقتل عامتهم،
واستنقذ الأسارى منهم، وفعل ذلك مرة بعد مرة أخرى، وقتل ابن خاقان، وفتح عدة
مدائن، ووجه برأس ابن خاقان إلى هشام من غير أن يوافق مسلمة، فأغضبه ذلك، وكتب إليه
يلومه وعزله، وصير مكانه عبد الملك بن مسلم العقيلي، وأمره أن يقيد سعيد بن عمرو
الحرشي ويحبسه بمدينة يقال لها قبله.
وقدم مسلمة البلد
وأحضر الحرشي، فأغلظ له، ودق لواءه، وبعث به إلى سجن برذعة، فكتب إليه هشام يلومه
على ذلك، ووجه برسل من قبله حتى أخرجوا سعيد بن عمرو الحرشي من السجن، وحملوه إليه.
وسار مسلمة في البلاد
التي للخزر حتى صار إلى جرزان، فافتتحها، وقتل أهلها، ثم صار إلى شروان، فسالمه
أهلها، ثم أتى مسقط، فصالحه أهلها، ووجه خيله إلى أرض اللكز، فصالحه أهلها، وبعث
إلى طبرستان، فصالحه أهلها، فسار في البلاد لا يلقاه أحد حتى بلغ أرض ورثان، فلقيه
خاقان ملك الخزر، وكان مع مسلمة جماعة من ملوك البلدان التي فتحها، فجعل مروان ابن
محمد على مقدمته، فلقي القوم، فأقام يقاتلهم أياماً، وربما فقد، فيقال لمسلمة: قتل
مروان! فيقول: أما والله دون أن يسلم عليه بالخلافة فلا! ففتح عامة البلدان.
وعزل هشام مسلمة وولي
مروان بن محمد، فصار إلى الحصن الذي فيه ملك السرير، وهو سرير من ذهب كان بعث به
بعض ملوك الفرس، ويقال إن أنوشروان بعث به إليه فسمي بذلك السرير، فصالحه على ألف
وخمسمائة غلام سود الشعور، ثم صار إلى تومان شاه، فصالحه ملكها، ثم دخل إلى أرض
زريكران، فصالحه ملكها ثم صار إلى حمزين فحاربهم، فقتل منهم خلقاً عظيماً، وفتح
أكثر البلد، وجمع الطعام إلى مدينة الباب، ولم يزل هناك.
وكان بشر بن صفوان
الكلبي عامل المغرب، فلما ولي هشام بعث إليه بأموال عظام وهدايا، فأقره هشام على
إفريقية، فلم يزل بها حتى مات، فلما مات بشر بن صفوان ولي هشام إفريقية عبيدة بن
عبد الرحمن القيسي، ولم يزل بها، فأغزى الناس في البحر، فغنم غنائم كثيرة، فخرج
إلى هشام بأموال جليلة وعشرين ألف عبد، فاستعفاه فأعفاه، وولى مكانه عقبة بن قدامة
التجيبي، فلم يقم إلا يسيرا حتى عزل، وولى عبيد الله بن الحبحاب، فغزا غزوات
كثيرة... وقتل كلثوم بن عياض، ثم ولي حنظلة بن صفوان الكلبي، فقدم إفريقية، وقد
تغلب على بعض النواحي عكاشة
بن أيوب الفزاري،
فظفر به حنظلة، ولم يزل مقيما إلى أيام مروان بن محمد.
وظهر سليمان بن كثير
الخزاعي وأصحابه بخراسان يدعون إلى بني هاشم سنة 111، وظهرت دعوتهم، وكثر من
يجيبهم، وقدم بكير بن ماهان، فأجابه خلق كثير إلى خلع بني أمية وبيعة بني هاشم،
وكثر أشياعه وأصحابه، ثم حضرت بكير بن ماهان الوفاة، فاستخلف أبا سلمة حفص بن
سليمان الخلال وكتب بذلك إلى محمد بن علي بن عبد الله، وأعلمه أنه يرضاه، فأقره،
وكتب إلى أصحابه يأمرهم بالسمع والطاعة، فاستقاموا جميعاً عليه، وولى خالد بن عبد
الله أخاه أسد بن عبد الله خراسان، فبلغه خبرهم، فأخذ جماعة منهم، فقطع أيديهم
وأرجلهم وصلبهم، فما زالوا في خوف، حتى مات أسد، وولي خراسان جعفر بن حنظلة البهراني.
وولي سجستان يزيد بن
الغريف الهمداني، فلما قدم سجستان ساءت سيرته، وأظهر الفسق، فقتله قوم من الخوارج
وثبوا عليه وهو جالس في مجلسه، وعلى رأسه ألف وخمسمائة مدجج، وكان الخوارج خمسة
نفر، فقدم إليه بعضهم، فضربه بالسيف، فقتله، ووثب الجند عليهم، فقتلوهم بعد أن
قتلوا جماعة منهم. فلما بلغ خالد بن عبد الله الخبر ولي الأصفح بن عبد الله
الكلبي، فصار إلى النية في الشتاء، فندب الناس إلى الغزو، فأتاه شيخ من أهل البلد
يقال له عبد الله بن عامر، فقال: أيها الأمير! ليس هذا وقت غزو، فقال أنا أعلم
بوقت الغزو منك، ونفذ، فلما صار على رأس شعب من الشعاب أتاه عمرو بن بجير فقال:
أصلح الله الأمير، ليس هذا وقت دخول هذا الشعب. فقال: لو كنت عاقبت المتكلم بالأمس
لما سمعت هذا اليوم، واقتحم الشعب، حتى إذا أمعن فيه أخذ العدو عليه مضايقه،
واجتمع فقتل الجيش بأسره، فلم ينج منه أحد، فلما أتى خالداً الخبر بقتل الأصفح ومن
معه من المسلمين، ولي عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى، فلم يزل مقيماً بها ولاية
خالد.
؟
وفاة أبي جعفر محمد
بن عليوتوفي أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه أم عبد الله
بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، سنة 117، وسنة ثمان وخمسون سنة.
قال أبو جعفر: قتل
جدي الحسين ولي أربع سنين وإني لأذكر مقتله، وما نالنا في ذلك الوقت. وكان يسمى
أبا جعفر الباقر لأنه بقر العلم.
قال جابر بن عبد الله
الأنصاري: قال لي رسول الله: إنك تستبقي حتى ترى رجلاً من ولدي أشبه الناس بي اسمه
علي اسمي، إذا رأيته لم يخل عليك، فأقرئه مني السلام! فلما كبرت سن جابر، وخاف
الموت، جعل يقول: يا باقر! يا باقر! أين أنت؟ حتى رآه فوقع عليه يقبل يديه ورجليه،
ويقول: بأبي وأمي شبيه أبيه رسول الله! إن أباك يقرئك السلام.
قال أبو حمزة
الثمالي: سمعت محمد بن علي يقول: يقول الله عز وجل: إذا جعل عبدي همه في هما واحدا
جعلت غناه في نفسه، ونزعت الفقر من بين عينيه، وجمعت له شمله، وكتبت له من وراء
تجارة كل تاجر، وإذا جعل همه في مفترقاً جعلت شغله في قلبه، وفقره بين عينيه، وشتت
عليه أمره ورميت بحبله على غاربه، ولم أبال في أي واد من أودية الدنيا هلك.
وقيل لمحمد: أ تعرف
شيئاً خيراً من الذهب؟ قال: نعم! معطية. وقال: اصبر للنوائب، ولا تتعرض للحقوق،
ولا تعط أحداً من نفسك ما ضره عليك أكثر من نفعه له. وقال: كفى العبد من الله
ناصراً أن يرى عدوه يعصي الله.
وقال: شررالآباء من
دعاه البر إلى الإفراط، وشر الأبناء من دعاه التقصير إلى العقوق.
وسئل أبو جعفر عن قول
الله عز وجل: وقولوا للناس حسناً. قال: قولوا لهم أحسن ما تحبون أن يقال لكم، ثم
قال: إن الله عز وجل يبغض اللعان السباب، الطعان الفحاش المتفحش، السائل الملحف،
ويحب الحيي الحليم، العفيف المتعفف.
وقال:
لو صمت النهار مالي
في سبيل الله لا أفطر، وصليت الليل لا أفتر، ومالي في سبيل الله علقا علقا، ثم لم
تكن في قلبي محبة لأوليائه، ولا بغضه لأعدائه، ما نفعني ذلك شيئاً.
وكان له من الولد
خمسة ذكور: أبو عبد الله جعفر، وعبد الله، وإبراهيم، وعبيد الله درج صغيراً، وعلى
درج صغيراً.
وتوفي علي بن عبد
الله بن العباس بن عبد المطلب سنة 118، وكان مولده في الليلة التي قتل في صبيحتها
علي بن أبي طالب وتوفي بالاحهير بين الحميمة وأذرح من عمل دمشق، وسنة ثمان وسبعون
سنة، وأمه زرعة بنت مشرح ابن معديكرب، أحد ملوك كندة الأربعة. وكان ذا غناء وفضل
وشرف ورواية عن أبيه.
قال:
سمعت أبي يقول: إن من
غصبته نفسه فيما تحب لم يطمعها فيما يحب. وقال: سمعت أبي يقول: تعاشر الناس حينا
بالتقوى، ثم رفع ذلك، فتعاشروا بالمروة، ثم رفع ذلك، فتعاشروا بالحياء، ثم رفع
ذلك، فانهتك الغطاء.
وكان يقول: الكريم
يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا لوطف. وقال: سخاء الناس عما في أيدي الناس أفضل
من سخائها بالبذل، والقناعة لذة العيش، والرضا بالقسم أكثر من مروة الإعطاء، ومن
حفظ من نفسه أربعاً فهو خليق ألا ينزل به ما نزل بغيره: العجلة، واللجاج، والعجب،
والتواني.
وكان لعلي بن عبد
الله بن عباس من الولد اثنان وعشرون ولدا: محمد بن علي، وأمه العالية بنت عبيد
الله بن عباس، وداود، وعيسى لأم ولد، وسليمان، وصالح لأم ولد، وأحمد، وبشر، ومبشر،
وإسماعيل، وعبد الصمد، لأمهات أولاد، وعبد الله الأكبر، أمه أم أبيها بنت عبد الله
بن جعفر ابن أبي طالب، لا عقب له، وعبيد الله، وأمه فلانة بنت الحريش، وعبد الملك،
وعثمان، وعبد الرحمن، وعبد الله الأصغر، وهو السفاح، ويحيى، وإسحاق، ويعقوب، وعبد
العزيز، وإسماعيل الأصغر، وعبد الله الأوسط، وهو الأحنف، لأمهات أولاد شتى.
قدم محمد بن علي بن
عبد الله على هشام، ومعه ابنه أبو العباس غلام، فلما خرج من عنده قال لبعض أصحابه:
شكوت إلى أمير المؤمنين ثقل الدين والعيال، فاستهزأ بي، وقال: أنتظر ابن الحارثية،
يعني هذا الغلام.
وألح هشام في طلب
الخوارج... فجلس يوماً، وجمع إليه الخوارج، فقال: يا قوم! خافوا الله ولا تدعوا الجهاد! فبايعوه، وأقام أياماً وحضرته الوفاة،
فقال لهم: إني لست بأحد أوثق مني بالبهلول بن عمير الشيباني، فلما مات خرج
البهلول، فصار إلى قرب الكوفة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فوجه إليه بخيل،
فاتبعته من عين التمر إلى الموصل، فقتل بالموصل.
وأنكر هشام على خالد
بن عبد الله أموراً بلغته، منها: أنه فرق أموالا عظاما، مبلغها ستة وثلاثون ألف
ألف درهم، فاستعظمها، وإنه قال: ما زادت أمية في شرف قسر هكذا، وجمع بين إصبعيه،
فكتب إليه: أما بعد فقد بلغني مقالتك، وإنما أنت من بجيلة الذليلة الحقيرة، وستعلم
يا ابن النصرانية إن الذي رفعك سيضعك. وأقام خالد على العراق أربع عشرة سنة، أو
خمس عشرة، فلما عزم هشام على صرفه أحضر حسان النبطي، وكان ينظر في أمر خالد بن عبد
الله كله، فأشرف عليه بالقتل، وحلف له بالله الذي لا إله إلا هو ليصدقنه، أو
ليقتلنه، فأتاه حسان بصناديق وقائع على خالد، وكان أول كاتب رفع على عامل بلده،
ولما وقف هشام من أمر خالد على ما أراد كتب إلى يوسف بن عمر الثقفي، وكان عامله
باليمن، كتاباً بخطه لم يطلع عليه أحداً، يأمره بالنفوذ إلى العراق، وأن يستر خبره
حتى يقدمها، فيقبض على خالد وأصحابه، فيأخذه بستة وثلاثين ألف ألف درهم.
فخرج يوسف من اليمن،
وقد أسر أمره، وكان في سبعة نفر، حتى قدم العراق، وكان مقدمه العراق سنة 120،
ووافى يوسف بن عمر في الليل في خمسة نفر حتى صار إلى المسجد الجامع، فلما أقيمت
الصلاة تقدم خالد ليصلي، فجذبه يوسف فأخرجه، ثم تقدم وقرأ: إذا وقعت الواقعة، في
أول ركعة، ثم قرأ في الثانية: سأل سائل بعذاب واقع، ثم أقبل على الناس بوجهه،
فعرفهم نفسه، وأخذ خالدا وأصحابه، فعذبهم أنواع العذاب، وطالبهم بالمال، فاجتمع
جماعة دهاقين العراق ومياسير الناس، فقالوا: نحن نتحمل هذا المال عنه ونؤديه،
فيقال إن يوسف قبل ذلك منهم، فلما حملوا إليه المال طالب خالداً وأخذ خالداً،
فألبسه جبة صوف، وجمع يده إلى عنقه، ثم أتى به إليه، وهو جالس على دكان، فجذبه حتى
سقط لوجهه، فقال بعض من حضر: رأيت خالداً وقد فعل مثل هذا بعمر بن هبيرة الفزاري
لما عزله عن العراق، فمن ولي شيئاً فليحسن.
وخوف يوسف خالداً
وعماله، ووظف عليهم الأموال، وعذبهم حتى مات أكثرهم في يده: فوظف على أبان بن الوليد البجلي عشرة آلاف ألف، ووظف على طارق بن أبي
زياد عامل فارس عشرين ألف ألف، ووظف على الزبير عامل أصبهان والري وقومس عشرين ألف
ألف درهم، وعلى غيرهم ما دون ذلك، فاستخرج أكثر المال.
وكان بلال بن أبي
بردة بن أبي موسى الأشعري عامل خالد على البصرة، فهرب من سجن يوسف، فلحق بهشام،
فكتب فيه يوسف إلى هشام فأشخصه إليه، فعذبه حتى قتله، وجعل داره بالكوفة سجنا
واستصفى داره بالبصرة. ولما بلغ الحكم بن عوانة عامل السند ما فعل يوسف بعمال خالد
أوغل في بلاد العدو، وقال: إما فتح يرضى به يوسف، وإما شهادة أستريح بها منه، فلقي
العدو، فلم يزل يقاتل حتى قتل، وقد كان استخلف على الخيل عمرو ابن محمد بن القاسم
الثقفي.
ولما قتل الحكم بن
عوانة بأرض السند تنازع خلافته عمرو بن محمد الثقفي وابن عرار، فكتب إلى يوسف بن
عمر، وكتب بذلك إلى هشام، فكتب إليه هشام: إن كان عمرو بن محمد قد اكتهل فوله فمال
يوسف بالثقفية إلى عمرو، فولاه، وأرسل بعهده إليه، فأخذ ابن عرار، فحبسه وقيده.
وبني عمرو بن محمد بن القاسم مدينة دون البحيرة سماها المنصورة، ونزلها في منزل
الولاة. وكلب العدو، وملكوا ملكاً، ثم زحفوا إلى المنصورة فحصروها، فكتب عمرو إلى
يوسف، فوجه إليه بأربعة آلاف، فانصرف عنه الملك، وقوض أمره، فتجهز للعدو وجعل على
مقدمته معن بن زائدة الشيباني، وكبس عسكر ذلك الملك ليلاً، وصبر أصحابه، فقتل من
العدو خلقاً عظيماً. وأشرف ذلك الملك، فمر به قوم من أصحابه ولم يعرفه المسلمون،
فلما رأوه قالوا: الراه الراه، أي الملك، فاستنقذوه، ومر هاربا هو وأصحابه لا يلوي
على شيء، واستقامت البلاد لعمرو، وكان معه في عسكره مروان بن يزيد ابن المهلب،
فوثب في جماعة من القواد مايلوه على ذلك، حتى انتهب متاعه وأخذ دوابه، فخرج إليه
عمرو ومعه معن بن زائدة وعطية بن عبد الرحمن، فهزمه، وفرق أصحابه، وهرب مروان،
فنادى عمرو: الناس كلهم آمنون إلا ابن المهلب، فدل عليه فقتله. وأقدم هشام زيد بن
علي بن الحسين، فقال له: إن يوسف بن عمر الثقفي كتب يذكر أن خالد بن عبد الله
القسري ذكر له أن عندك ستمائة ألف درهم وديعة، فقال: ما لخالد عندي شيء! قال: فلا
بد من أن تشخص إلى يوسف ابن عمر حتى يجمع بينك وبين خالد. قال: لا توجه بي إلى عبد
ثقيف يتلاعب بي، فقال: لا بد من إشخاصك إليه، فكلمه زيد بكلام كثير، فقال له هشام:
لقد بلغني أنك تؤهل نفسك للخلافة، وأنت ابن أمه. قال: ويلك! مكان أمي يضعني؟ والله
لقد كان إسحاق ابن حرة وإسماعيل ابن أمه، فاختص الله عز وجل ولد إسماعيل، فجعل
منهم العرب، فما زال ذلك ينمي حتى كان منهم رسول الله، ثم قال: اتق الله، يا هشام!
فقال: أومثلك يأمرني بتقوى الله؟ فقال: نعم! إنه ليس أحد دون أن يأمر بها، ولا أحد فوق أن يسمعها.
فأخرجه مع رسل من
قبله، فلما خرج قال: والله إني لأعلم أنه ما أحب الحياة قط أحد إلا ذل. وكتب هشام
إلى يوسف بن عمر: إذا قدم عليك زيد بن علي فاجمع بينه وبين خالد، ولا يقيمن قبلك
ساعة واحدة، فإني رأيته رجلاً حلو اللسان شديد البيان خليقا بتمويه الكلام، وأهل
العراق أسرع شيء إلى مثله.
فلما قدم زيد الكوفة
دخل إلى يوسف فقال: لم أشخصتني من عند أمير المؤمنين؟ قال: ذكر خالد بن عبد الله أن له عندك ستمائة ألف درهم. قال: فأحضر خالداً!
فأحضره وعليه حديد
ثقيل، فقال له يوسف: هذا زيد ابن علي، فأذكر ما لك عنده! فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما لي عنده قليل ولا كثير، ولا أردتم
بإحضاره إلا ظلمه. فأقبل يوسف على زيد، وقال له: إن أمير المؤمنين أمرني أن أخرجك
من الكوفة ساعة قدومك. قال: فأستريح ثلاثا، ثم أخرج. قال: ما إلى ذلك سبيل. قال:
فيومي هذا. قال: ولا ساعة واحدة. فأخرجه مع رسل من قبله، فتمثل عند خروجه بهذه
الأبيات:
منخرق الخفين يشكو
الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد
شرده الخوف وأزرى به
... كذلك من يكره حر الجلاد
قد كان في الموت له
راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
فلما صار رسل يوسف
بالعذيب انصرفوا، وانكفأ زيد راجعاً إلى الكوفة، فاجتمع إليه من بها من الشيعة،
وبلغ يوسف بن عمر، فوثب بينهم وكانت بينهم ملحمة، ثم قتل زيد بن علي، وحمل على
حمار، فأدخل الكوفة، ونصب رأسه على قصبة، ثم جمع فأحرق وذرى نصفه في الفرات ونصفه
في الزرع، وقال: والله، يا أهل الكوفة، لأدعنكم تأكلونه في طعامكم وتشربونه في
مائكم. وكان مقتل زيد سنة 121.
ولما قتل زيد، وكان
من أمره ما كان، تحركت الشيعة بخراسان، وظهر أمرهم، وكثر من يأتيهم ويميل معهم،
وجعلوا يذكرون للناس أفعال بني أمية، وما نالوا من آل رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى لم يبق بلد إلا فشا فيه هذا الخبر، وظهرت الدعاة ورئيت المنامات وتدورست
كتب الملاحم، وهرب يحيى بن زيد إلى خراسان، فصار إلى بلخ، فأقام بها متوارياً،
وكتب يوسف إلى هشام بحاله، فكتب إلى نصر بن سيار بسببه، فوجه نصر جيشاً إلى بلخ،
عليهم هدبة بن عامر السعدي، فطلبوا يحيى حتى ظفروا به، فأتوا به نصراً، فحبسه في
قهندز مرو.
وبلغ هشاماً اضطراب
خراسان، وكثرة من بها، فكتب إلى يوسف بن عمر: ابعث إلي برجل له علم بخراسان فبعث
إليه بعبد الكريم بن سليط بن عطية الحنفي، فسأله عن أمر خراسان وأهلها ومن بها ممن
يصلح أن يولاها، فسمي له جماعة من قيس وربيعة، فكان إذا سمى رجلاً من ربيعة قال:
إن ربيعة لا يسد بها الثغور! فسمي نصر بن سيار الليثي، فقال: كأنه نصر وسيار، فقال: يا غلام اكتب
عهده، فكتب العهد، وأمره أن يعاجل يوسف بن عمر، وكان نصر بن سيار قبل ذلك تولى
كورة من كور خراسان، فعزل جعفر بن حنظلة وولي البلد.
وكان يوسف أخذ عمال
خالد فحبسهم، وكان ممن أخذ: عيسى بن معقل العجلي، وعاصم بن يونس العجلي، وكان أبو
مسلم، واسمه إبراهيم بن عثمان، قبل أن يسميه محمد بن علي عبد الرحمن، يخدم عيسى بن
معقل، وقد سمعهم يتكلمون في دعوة بني هاشم حتى فهم الأمر، وقد ارتحل سليمان بن
كثير، ومالك بن الهيثم، وقحطبة بن شبيب يريدون مكة، فدخلوا السجن إلى عيسى بن
معقل، وعاصم بن يونس، فرأوا أبا مسلم يختلف إليهم، ويذاكرهم هذا الأمر، فأخرجوه
معهم، وأدخلوه إلى محمد بن علي فكلمه، وقال: إني لأحسب هذا الغلام صاحبنا بل هو
هو، فاقبلوا قوله، وانتهوا إلى أمره، واستوصوا به، فإنه صاحب الأمر لا شك فيه.
وبعض أهل العلم
بالدولة يقول: إن أبا مسلم لم يلحق محمد بن علي، إنما لقي ابنه إبراهيم بن محمد بن
علي.
وكان يزيد بن عبد
الملك جعل ولاية العهد لابنه الوليد بن يزيد، فكانت الملاحاة لا تزال تجري بينه
وبين هشام، فدخل الوليد يوماً إلى هشام، فلم يجده في مجلسه، ووجد فيه خاله إبراهيم
بن هشام بن إسماعيل المخزومي، فقال له الوليد: من الرجل؟ متجاهلا به، فغضب ابن
هشام، وقال: من لم يتم لجدك شرف إلا بمصاهرته. قال: وإنك لتقول هذا، يا ابن اللخناء!
وتنازعا كلاماً قبيحاً، وخرج هشام، وقد سمع الكلام، فأمسكا، ولم يقم إليه الوليد،
فقال له هشام: كيف أنت يا وليد؟ قال: صالح. قال: ما فعلت طنابيرك؟ قال: مغلمة. قال:
ما فعل جلساؤك جلساء
السوء؟ قال: عليهم لعنة الله إن كانوا شرا من جلسائك. قال: أقيموه، فأخذ بيده، وأقيم من مجلسه.
وكان هشام من أحزم
بني أمية وأرجلهم وكان بخيلاً، حسوداً، فظاً، غليظاً، ظلوماً، شديد القسوة، بعيد
الرحمة، طويل اللسان، وفشا الطاعون في أيامه حتى هلك عامة الناس وذهبت الدواب
والبقر، وكان الغالب عليه الأبرش ابن الوليد الكلبي، وصاحب شرطة كعب بن حامد
العبسي، وعلى حرسه الربيع ابن زياد بن سابور، وحاجبه الحريش مولاه، وعمل الخز
الرقم وغيره، والوشي والأرمني وأصناف الثياب، وكانت ولايته عشرين سنة إلا خمسة
أشهر، وتوفي يوم الأربعاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول سنة 125، وهو ابن ثلاث
وخمسين سنة، ومنع وكلاء الوليد بن يزيد من الخرائن، فلم يوجد له كفن حتى كفنه خادم
له، وقيل: بل كفنه الأبرش الكلبي، فصلى عليه العباس بن الوليد، وقيل: بل الأبرش
الكلبي، ودفن بالرصافة.
وخلف من الولد عشرة:
مسلمة، ويزيد، ومحمداً، وعبد الله، وسليمان، ومروان، ومعاوية، وسعيداً، وعبد الرحمن،
وقريشاً. وأقام الحج للناس في ولايته سنة 105 إبراهيم بن هشام، سنة 106 هشام بن عبد الملك، سنة 107 إبراهيم بن
هشام، وفي سني 108، 109، 110، 111 و112 إبراهيم أيضاً، سنة 113 سليمان ابنه، سنة 114
خالد بن عبد الملك بن
الحارث بن الحكم، سنة 115 محمد بن هشام بن إسماعيل، سنة 116 الوليد بن يزيد بن عبد
الملك، سنة 117 خالد بن عبد الملك بن الحارث... سنة 119 أبو شاكر مسلمة بن هشام،
سنة 120 وسنة 121 وسنة 122 محمد بن هشام بن إسماعيل، سنة 123 يزيد بن هشام، سنة
124 محمد بن هشام بن إسماعيل. وغزا بالناس في ولايته سنة 106، غزا معاوية بن هشام،
وبعث بالوضاح صاحب الوضاحية فأحرق الزرع والقرى لأن الروم حرقوا المرعى، وغزا
الصائفة اليسرى سعيد بن عبد الملك، وغزا الجراح بن عبد الله الحكمي اللان، سنة 107
معاوية أيضاً، سنة 108 مسلمة بن عبد الملك على الصائفة اليمنى، وعاصم بن يزيد
الهلالي على الصائفة اليسرى، سنة 109 معاوية بن هشام، ومعه البطال على مقدمته،
فافتتح خنجره، وغزا مسلمة الترك، فأخذ عليهم باب اللان، ولقي خاقان، سنة 111
معاوية بن هشام على الصائفة اليسرى، وسعيد بن هشام على الصائفة اليمنى، وسارت
الترك إلى آذربيجان، فلقيهم الحارث بن عمرو الطائي، فهزمهم، سنة 112 صار الترك إلى
أرض أردبيل، فغزاهم الجراح بن عبد الله الحكمي، فلقي ملك الترك، فقتله، وغزا
معاوية بن هشام الروم فلم يمكنه دخول بلادهم، فرابط بالعمق من ناحية مرعش، سنة 114
معاوية بن هشام ومسلمة بن عبد الملك، سنة 115 معاوية وسليمان ابنا هشام، وعلى
المقدمة عبد الله البطال، فلقي قسطنطين فأسره، وهزم الروم، سنة 116 معاوية بن
هشام، سنة 117 معاوية وسليمان ابنا هشام، وغزا مروان بن محمد بلاد الترك... مروان
بن محمد، سنة 121 مسلمة بن هشام بلغ ملطية، سنة 122 مروان ابن محمد ناحية أرمينية،
وسليمان بن هشام ناحية ملطية، سنة 123 سليمان بن هشام الصائفة، ومروان بن محمد
جيلان وموقان من أرض أرمينية، سنة 124 سليمان بن هشام، فلقي أليون طاغية الروم
وأرطباس، فانصرف، ولم يكن بينهم حرب، سنة 125 الغمر بن يزيد بن عبد الملك.
وكان الفقهاء في
أيامه سالم بن عبد الله بن عمر الهيثم بن محمد بن أبي بكر، محمد بن مسلم بن شهاب
الزهري، محمد بن كعب القرظي، نافعاً مولى عبد الله ابن عمر، عاصم بن عمر بن قتادة،
محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، طاووساً اليماني، ربيعة بن أبي عبد
الرحمن، عطاء بن أبي رباح، عمرو بن دينار، عبد الله بن أبي نجيح، حبيب بن أبي
ثابت، عبد الملك ابن ميسرة، أبا إسحاق السبيعي، القاسم بن عبد الرحمن، عبيد الله
بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، سماك بن حرب الذهلي، الحكم بن عيينة الكندي، حماد
ابن أبي سليمان، أبا معشر زياد بن كليب، طلحة بن مصرف الهمداني، نعيم بن أبي هند
الأشجعي، أشعث بن أبي الشعثاء، سعيد بن أسبوع، أبا حازم الأعرج، قتادة بن دعامة
السدوسي، بكر بن عبد الله المزني، أيوب السختياني، يزيد بن عبد الله بن الشخير،
عبد الرحمن بن جبير، مكحولا الدمشقي، راشد بن سعد المقرئ، ميمون بن مهران، أبا
قبيل المعافري، يزيد بن الأصم.
أيام الوليد بن
يزيدوملك الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي،
وأتته الخلافة وهو بدمشق بعد وفاة هشام بعشرة أيام، وكان ذلك يوم الجمعة لعشر بقين
من شهر ربيع الأول سنة 521، وكانت الشمس يومئذ في الدلو ستا وعشرين درجة وعشرين
دقيقة، والقمر في السنبلة خمس درجات وعشرين دقيقة، والمريخ في الجدي أربع درجات،
والزهرة في الجدي ست عشرة درجة وخمساً وأربعين دقيقة، وعطارد في الحوت اثنتي عشرة
درجة وعشر دقائق، والرأس في الدلو إحدى عشرة درجة وخمساً وأربعين دقيقة.
وعزل الوليد عمال
هشام وعذبهم أنواع العذاب، خلا يوسف بن عمر الثقفي عامل العراق، وذلك إنه وجد في
ديوان هشام كتباً من العمال يقومون عزمه في خلع الوليد، إلا يوسف، فإنه أشار عليه
ألا يفعل، فأقره على عمله، وكتب إليه في خالد بن عبد الله القسري، فلم يزل يوسف
يعذبه...
وعقد لابنه الحكم
بولاية العهد بعده، وولاه دمشق، وعقد من بعده لعثمان ابنه، وولاه حمص، وضم إليه
ربيعة بن عبد الرحمن الفقيه، وجعله قائماً بأمره.
وعزل إبراهيم بن هشام
بن إسماعيل المخزومي، خال هشام، عن المدينة ومكة والطائف، وولى خاله يوسف بن محمد
الثقفي المدينة ومكة.
وكان نصر بن سيار لما
أخذ يحيى بن زيد بن علي بن الحسين في أيام هشام صار به إلى مرو، فحبسه في قهندز
مرو، وكتب إلى هشام بخبره، فوافق ورود كتابه موت هشام، فكتب إليه الوليد: أن خل
سبيله، وقيل: بل احتال يحيى ابن زيد حتى هرب من الحبس، وصار إلى بيهق من أرض
أبرشهر فاجتمع إليه قوم من الشيعة، فقالوا: حتى متى ترضون بالذلة؟ واجتمع معه نحو
مائة وعشرين رجلاً، فرجع حتى صار إلى نيسابور، فخرج إليه عمرو بن زرارة القسري،
وهو عامل نيسابور، فقاتل يحيى، فظهر يحيى عليه، فهزمه وأصحابه، وأخذوا أسلحتهم، ثم
اتبعوهم حتى لحقوا عمرو بن زرارة فقتلوه. وسار يحيى يريد بلخ، فوجه إليه نصر بن
سيار سلم بن أحوز الهلالي، فسار سلم حتى صار إلى سرخس وسار يحيى حتى صار إلى
باذغيس، وسبق إلى مرو الروذ، فلما بلغ نصرا ذلك سار إليه في جموعه، فلقيه
بالجوزجان فحاربه محاربة شديدة، فأتت نشابة فوقعت في يحيى، وبادر القوم فاحتزوا
رأسه، وقاتل أصحابه بعده، حتى قتلوا عن آخرهم.
وقدم في هذه السنة
سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وقحطبة بن شبيب، وهم رؤساء دعاة بني هاشم، على
محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بأموال وهدايا، ومعهم أبو مسلم، فقال لهم محمد:
لن تلقوني بعد وقتي هذا، وأنا ميت في سنتي هذه، وكان ذلك في أول سنة 125، وصاحبكم
ابني إبراهيم مقتول، فإذا قضى الله فيه قضاءه، فصاحبكم عبد الله بن الحارثية، فإنه
القائم بهذا الأمر، وصاحب هذه الدعوة الذي يؤتيه الله الملك، ويكون على يده هلاك
بني أمية، وأخرجه إليهم حتى رأوه، وقبلوا يديه ورجليه، وقال لهم: إن عبد الرحمن
صاحبكم، يعني أبا مسلم، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه القائم بهذه الدولة.
وتوفي محمد بن علي في
آخر سنة 125، وهو ابن سبع وستين سنة، فلما بلغ القوم وفاة محمد بن علي، قدموا على
إبراهيم بأبي مسلم وأعلموه أنه صاحب أمرهم أمره عليهم، ثم قال لقحطبة بن شبيب:
وأنت والله الذي تلقى نباتة بن حنظلة، وعامر بن ضبارة، فتهزمهما، وتقاتل عساكرهما،
ويفتح الله لك حتى تصير إلى الفرات لا ترد لك راية.
فخرجوا إلى خراسان،
وقد وقعت العصبية بين مضر واليمن، وذلك أن نصر بن سيار تحامل على اليمن وربيعة،
وقدم المضرية، فوثب به جديع ابن علي الكرماني الأزدي، وكان رئيس الأزد يومئذ
ورجلهم، وقال له: لا ندعك وفعلك، ومالت معه اليمانية وربيعة، فأخذه نصر فحبسه،
فأتت اليمن وربيعة حتى أخرجوه من مجرى كنيف، ثم اجتمعوا عليه، ورام نصر أن يخدعه
فيصير إليه، فلم يفعل، وكان في نصر بعض الخرق، فلما علم جديع أن اليمن وربيعة قد
اجتمع رأيهما معه على نصر بن سيار، وثب به فحاربه، وكان له العلو على نصر، فمال
أبو مسلم إلى الكرماني، فقال له: ادع إلى آل محمد ! وجعل يمايل أصحابه، ويدعوهم
إلى ذلك، حتى أظهروا دعوة بني هاشم بخراسان.
وكان عمرو بن محمد بن
القاسم الثقفي، ويزيد بن عرار، لما قتل الحكم ابن عوانة عامل السند، تنازعا
خلافته، فكتب هشام إلى يوسف بن عمر في ذلك، فمال يوسف بالثقفية إلى عمرو بن محمد
بن القاسم، فولاه، فلما ولي الوليد عزل عمرو بن محمد بن القاسم عن السند، وولي
يزيد بن عرار، فغزا ثماني عشرة غزاة، وكان ميمون النقيبة.
واضطربت البلدان
كلها، وكان الوليد مهملا لأمره، قليل العناية بأطرافه، وكان صاحب ملأه وقيان
وإظهار للقتل والجور، وتشاغل عن أمور الناس، وشرب ومجون، فبلغ من مجونه أنه أراد
أن يبني على الكعبة بيتاً يجلس فيه للهو، ووجه مهندساً لذلك، فلما ظهر هذا منه مع
قتله خالد بن
عبد الله القسري
وتعذيبه إبراهيم ومحمد ابني هشام حتى ماتا، واستذمامه إلى الناس وإلى أهل بيته،
ومن كان في ناحيتهم من العرب، استمال يزيد بن الوليد بن عبد الملك جماعة من أهل
بيته، فمايلوه على خلع الوليد، وشايعه على ذلك بنو خالد بن عبد الله القسري وجماعة
من اليمانية إلى البيعة ليزيد بن الوليد بن عبد الملك، واجتمع إليه جماعة، وخرج
مولى للوليد فعرفه الخبر، فضربه مائة سوط، وزحف إليه يزيد بن الوليد رويدا رويدا
إلى قرية تعرف بالبخراء، فنزل قصراً بها بعساكره يتلو بعضها بعضا، فقاتلوه، فقاتلهم
حتى قتل، فابتدره الناس بأسيافهم، فاحتزوا رأسه، وقطعوا يده، فنصب رأسه بدمشق.
وكان قتله لخمس بقين
من جمادى الآخرة سنة 126، وكانت ولايته سنة وخمسة أشهر، وكان على شرطة عبد الرحمن
بن حميد الكلبي، وعلى حرسه قطري مولاه، وحاجبه قطن مولاه، وخلف من الولد الذكور أربعة
عشر ذكراً: عثمان، ويزيد، والحكم، والعباس، وفهراً، ولؤياً، والعاص، وموسى، وقصياً
وواصلا وذؤابة، وفتحا والوليد، وسعيداً. وأقام الحج للناس في ولايته سنة 125 محمد
بن موسى الثقفي.
أيام يزيد بن الوليد
بن عبد الملكوملك يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وأمه شاهفريد بنت فيروز بن كسرى،
مستهل رجب سنة 621، بعد قتل الوليد بخمس، وكانت الشمس يومئذ في الحمل إحدى عشرة
درجة وأربعين دقيقة، والقمر في الحوت عشرين درجة، وزحل في السنبلة عشرين درجة،
والمشتري في الجوزاء ثلاث درجات وخمسين دقيقة، والمريخ في الجوزاء خمساً وعشرين درجة
وأربعين دقيقة، والزهرة في الجدي عشر درجات، وعطارد في الحمل إحدى وعشرين درجة
وثلاثين دقيقة. ونقص الناس من إعطائهم، فسمي يزيد الناقص، واضطربت عليه البلدان،
فكان ممن خرج عليه العباس بن الوليد بحمص، وشايعه أهل حمص، وبشر بن الوليد
بقنسرين، وعمر بن الوليد بالأردن، ويزيد بن سليمان بفلسطين. وساعد العباس أبو محمد
بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، وسليمان بن هشام.
وبايع لأخيه إبراهيم
بن الوليد بولاية العهد من بعد ثلاثة أيام من ولايته، ووجهه إلى الأردن، وقد أمروا
عليهم محمد بن عبد الملك، فوافقوه، فأرسل إليهم عبد الرحمن بن مصاد يقول لهم: علام
تقتلون أنفسكم؟ أقبلوا إلينا نجمع لكم الدنيا والآخرة، وأنا أضمن لكل رجل منكم ألف
دينار، فافترقوا.
وكانت ولايته خمسة
أشهر، والفتنة في جميع الدنيا عامة، حتى قتل أهل مصر أميرهم حفص بن الوليد
الحضرمي، وقتل أهل حمص عاملهم عبد الله بن شجرة الكندي، وأخرج أهل المدينة عاملهم
عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز. وغلب على أمره يزيد بن خالد بن عبد الله القسري،
وكان على شرطة يزيد بن الشماخ اللخمي، وعلى حرسه سلام مولاه، وحاجبه جبير مولاه،
وكان في بيت مال الوليد يوم قتل سبعة وأربعون ألف ألف دينار، ففرقها يزيد عن
آخرها، وكان قدرياً، وتوفي لانسلاخ ذي القعدة، وصلى عليه إبراهيم بن الوليد، ودفن
بدمشق، وقيل إن أخاه إبراهيم سقاه السم.
وأقام الحج في تلك
السنة، وهي سنة 126، عمر بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وقيل... إن الحجاج بن
عبد الملك... ووثب ثابت بن نعيم الجذامي على مروان، وهو بأرمينية، فظفر به مروان،
فمن عليه، وانصرف مروان من أرمينية، واستخلف عليها عاصم بن عبد الله بن يزيد
الهلالي، واستخلف على الباب والأبواب إسحاق بن مسلم العقيلي، ثم جمع أرمينية
لإسحاق بن مسلم العقيلي.
أيام إبراهيم بن
الوليدثم ملك إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأمه أم ولد، يقال لها
سعار، في اليوم الذي توفي فيه يزيد بن الوليد، فأقام أربعة أشهر، وقدم مروان بن
محمد بن مروان من أرمينية خالعاً له، فلما صار بحران دعا إلى نفسه، فبايع له أهل
الجزيرة سراً، وأقبل في جموع من أهل الجزيرة، فلقي بشرا ومسروراً ابني الوليد بن
عبد الملك معسكرين بحلب، فهزم عسكريهما، وأسرهما ثم مضى حتى أتى حمص وعليها عبد
العزيز.
وبلغ إبراهيم الخبر،
فوجه إليه سليمان بن هشام بن عبد الملك، فلقي مروان ومن معه من أهل الجزيرة
وقنسرين وحمص، فالتقوا بعين الجر من عمل دمشق، فتناوشوا القتال يوم الأربعاء لسبع
خلون من صفر سنة 127 وانصرف بعضهم عن بعض، فلما كان من الغد انهزم سليمان بن هشام
وأصحابه، فلحقوا بإبراهيم، وأقبل مروان حتى نزل دير العالية، فبايع له أهل دمشق،
ودخلها، فخلع إبراهيم نفسه، وبايع لمروان يوم الإثنين للنصف من صفر سنة 127، ولم
يزل مع مروان حتى غرق بالزاب، في وقعة عبد الله بن علي.
أيام مروان بن محمدبن
مروان ودعوة بني العباس وملك مروان بن محمد بن مروان، وأمه أم ولد يقال لها ريا،
في صفر سنة 127، وبايع له من بدمشق من بني أمية وغيرهم، وكتب إلى عمال البلدان
فأتته كتبهم بالسمع والطاعة والانقياد، وأتاه الخبر أن أهل حمص مقيمون على
المعصية، فسار إليهم، واستخلف بدمشق عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فحاصرهم
حتى فتح المدينة، وهرب منه السمط بن ثابت بن الأصبغ بن ذوالة، وأسر معاوية بن عبد
الله السكسكي.
وأتاه الخبر أن يزيد
بن خالد بن عبد الله القسري قتل يوسف بن عمر الثقفي، وكان يوسف محبوسا، فلما رأى
عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك اضطراب أمر مروان بن محمد أمر يزيد بن خالد بن
عبد الله القسري بالمضي إلى السجن، وأمره أن يقتل يوسف بن عمر، ويقتل عثمان والحكم
ابني الوليد بن يزيد، ففعل ذلك.
وأراد مروان أن يرجع،
فأتاه الخبر أن الضحاك بن قيس الحروري قد غلب على ناحية العراق، وحارب عبد الله بن
عمر بن عبد العزيز بواسط، وإنه قد صار إلى الجزيرة، وجاز الموصل، فصار إلى نصيبين،
وبها عبد الله بن مروان، فحاصره، وكان عامل إسحاق بن مسلم بالباب والأبواب رجلاً
يقال له مسافر، وكان يرى رأي الخوارج، فكتب إليه الضحاك بعهده على أرمينية، وكان
أهلها قتلوا عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي عامل أرمينية، فتوجه إليها، وصار
مروان إلى حران، فابتنى بها منزلة في موضع يقال له: دباب البين، وبلغ الضحاك خبره،
فأقبل نحوه، فمر بالموصل، فحصرها، ثم كره أن يطول الأمر به، فنفذ إلى نصيبين،
فحصرها، ثم نفذ إلى حران حتى واقف مروان، فحاربه محاربة شديدة، وظفر الضحاك عليه
مراراً حتى عزله سريره، وجلس عليه، ثم قتل الضحاك سنة 127،
وافترق الخوارج فرقاً.
وصار سليمان بن هشام
بن عبد الملك ومن هرب من اليمانية من أصحاب يزيد ابن خالد بن عبد الله معهم، وسار
سليمان بن هشام بن عبد الملك يريد الشام، فلقيه مروان بخساف، فهزمه، ومضى سليمان،
وأصحاب الضحاك عليهم الخيبري، فسار في عسكر عظيم، فلقي مروان فقتله مروان، فولت
الخوارج أمرها أبا الذلفاء الشيباني، فرجع بأصحابه إلى الموصل، واتبعه مروان،
فقاتله شهراً، ثم انهزم أبو الذلفاء، فوجه مروان خلفه عامر بن ضبارة المري، فصار
أبو الذلفاء إلى عمان، فقتل، قتله الجلندي بن مسعود الأزدي، فخرج أبو عبيدة خليفة
الضحاك إلى الكوفة، فولى مروان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري العراق، فقدمها سنة 128،
فقتل خليفة الضحاك، وخرج ثابت بن نعيم الجذامي بناحية الأردن، فوجه إليه مروان
بالرماحس بن عبد العزيز، وولي عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك المدينة ومكة.
وقدم مكة ليقيم الحج،
ووافت الحرورية، ومعهم أبو حمزة المختار بن عوف الحروري الأزدي، حتى وقفوا على جبل
عرفات، وكان أبو حمزة من قبل عبد الله بن يحيى الكندي الذي يسمى طالب الحق، فلما
وقفوا بعرفات أرعبوا الناس وأخافوهم، فأرسل إليهم عبد الواحد يعظم عليهم البلد
الحرام والأيام العظام ويوم الحج الأكبر، فوادعوهم يوم عرفة وأربعة أيام، وصاروا
إلى منى فعسكروا ناحية منها، فلما انصرفوا لحق عبد الواحد المدينة، فدعا الناس إلى
الديوان، ووجه بالجيش وعليهم عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفان
بقديد في صفر سنة 130، فقتل عبد العزيز ومن معه من أهل المدينة، واتهمت قريش خزاعة
أن يكونوا داهنوا عليهم الحرورية.
وقدمت الحرورية
المدينة لعشر بقين من صفر، وهرب عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وغلب أبو حمزة
على المدينة، وخطبهم خطبة مشهورة، وكان أهل المدينة يصلون خلفه، ويعيدون الصلاة،
ثم ساروا يريدون الشام، ولقيهم خيل لمروان عليهم عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي،
فأوقعوا بهم بوادي القرى، فزحف الحرورية منهزمين إلى المدينة، فخرج إليهم أهل
المدينة، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ووافاهم ابن عطية، فانهزموا، فأتبعهم إلى مكة،
ثم اتبعهم إلى اليمن حتى قتل عبد الله بن يحيى، ودنوا من صعدة فقتل فيهم حتى وطئ
الناس عليهم، ثم دخلوا صنعاء، فأتاه كتاب مروان بتولية الموسم، فخرج، فلما صار في
بعض الطريق توفي في عسكره.
وأراد مروان أن ينفذ
إلى العراق، فأتاه خبر أهل حمص انهم عصوا، فصار إليهم، فوضع عليها المنجنيق حتى
هدم سورها، فطلبوا الأمان، فأمنهم إلا ثلاثة نفر لم يؤمنهم وقتلهم.
وكان منصور بن جمهور
لما قدم يزيد بن عمر بن هبيرة العراق هرب حتى أتى السند، وكان ابن عرار عامل السند
قرابة له، فصار خلف النهر، وأرسل إليه ابن عرار ألا تبرح مكانك! فرد عليه: إنما
أردت المقام قبلك، فلا وصل الله رحمك، ولا قرب قرباك، وستعلم بعد، ثم عمل المراكب
بسدوسان وحملها على الإبل حتى ألقاها في مهران، ثم لقي ابن عرار، فحاربه حتى هزمه
إلى المنصورة، وحصره منصور بن جمهور، فطلب ابن عرار الأمان، فقال: لا أعطيك الأمان
إلا حكمي، فنزل على حكمه، فأمر فبنيت عليه أسطوانة، وهو حي، وأقام منصور
بالمنصورة، وبعث أخاه منظوراً إلى قندابيل والديبل. ولم يزل منصور مقيما بالسند
حتى ظهر أبو مسلم بخراسان، ووجه أبو مسلم برجل يقال له مغلس من أهل سجستان إلى
السند، فلما أظلهم وثب أصحاب منظور أخي منصور بن جمهور، فقتلوه، وكتبوا إلى مغلس
فأتاهم، فلقيه منصور بن جمهور، فقاتله، فهزمه، وأسر مغلس، فأتي به منصور، فقتله
وقتل أكثر قتلة أخيه.
واشتدت شوكة الكرماني
بخراسان، ودامت الحرب بينه وبين نصر بن سيار، وظهر الكرماني على نصر بن سيار، وكان
أبو مسلم الغالب على أمر الكرماني، فحدثني جماعة من أشياخنا أن أبا مسلم كان يقول:
إذا التقى الكرماني ونصر بن سيار للقتال اللهم افرغ عليهما الصبر، وانزع عنهما
النصر. وطعن الكرماني فقتل، وصلبه نصر، وغلب أبو مسلم على عسكره، وظهر أمره،
واستكثف جمعه، وجاد نصر بن سيار القتال حتى فله مراراً، وأظهر دعوة بني هاشم، وكان
ذلك في شهر رمضان سنة 129.
ووثب سليمان بن حبيب
بن المهلب بالأهواز، فوجه إليه يزيد بن عمر ابن هبيرة نباتة بن حنظلة الكلابي،
فاقتلوا قتالاً شديداً، ثم انهزم سليمان، فلحق بفارس، فوجه يزيد بن عمر عامر بن
ضبارة المري إلى فارس.
وضعف أمر نصر بن سيار
بخراسان، وقوي أمر أبي مسلم، فكتب نصر إلى مروان يصف له حاله، وضعف من معه، وقوة
أبي مسلم، وظهوره، وكتب في آخر كتابه:
أرى بين الرماد وميض
جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين
تورى ... وإن الفعل يقدمه الكلام
أقول من التعجب ليت
شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام؟
فكتب مروان إلى يزيد
بن عمر بن هبيرة عامله على العراق أن يمد نصر بن سيار بالرجال، فقعد يزيد، ثم تابع
مروان الكتب إليه بالوعيد، فوجه بابنه داود بن يزيد في جيش عظيم، فيه عامر بن
ضبارة المري، والجويرية بن إسماعيل، ونباتة بن حنظلة الكلابي، وكان داود بن يزيد
بن عمر حدث السن، فكتب مروان إلى ابن هبيرة ينكر عقده لابنه داود لحداثة سنة،
ويأمره أن ينفذ إليه من يحل لواءه، ويعقد لعامر بن ضبارة المري على الجيش، ففعل
ابن هبيرة ذلك، ونفذ الجيش، وعلى المقدمة نباتة بن حنظلة الكلابي.
وطلب مروان إبراهيم
بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لما بلغه أن دعوة أبي مسلم له، وأنه الذي يؤهل
لهذا الأمر. فحدث عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: كنت مع أبي جعفر عبد
الله بن محمد بالحميمة، ومعه ابناه جعفر، ومحمد، وهما صبيان، فأنا أداعبهما
وألاعبهما فقال لي: أي شيء تصنع بهذين الصبيين، أ ما ترى ما نحن فيه؟ فنظرت، فإذا
رسل مروان تطلب إبراهيم بن محمد، فقلت: دعني أخرج! فقال: تخرج من بيتي، وأنت ابن
عمار بن ياسر؟ قال: فأخذوا بأبواب المسجد، وأشير لهم إلى إبراهيم ليأخذوه، وقد كان وصف
لهم بصفة أبي العباس، وأبو العباس الموصوف بقتلهم، فلما أتي به إلى مروان قال:
ليس هذه الصفة! فقال
الرسول: قد والله رأيت الصفة، ولكن قلت: إبراهيم بن محمد، وهذا إبراهيم بن محمد،
فردهم في طلب أبي العباس، فوجدوه قد تغيب، فأمر مروان بإبراهيم فغطى وجهه بقطيفة،
حتى مات، وقيل: بل أدخل رأسه في جراب نوره حتى مات، وفيه يقول ابن هرمة:
وكنت أحسبني جلدا
فضعفني ... قبر بحران فيه عصمة الدين
فيه الإمام الذي عمت
مصيبته ... وعيلت كل ذي مال ومسكين
وأظهر أبو مسلم
الدعوة لبني هاشم، وطلب نصر بن سيار منه المتاركة، وسأله الموادعة، فوجه إليه لاهز
بن قريظ في جماعة من أصحابه، وكان لاهز ابن قريظ أحد النقباء، فأمره أن يحضر
ليبايع، فدخل لاهز عليه فقال: أجب الأمير! ثم تلا: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك،
فاخرج إني لك من الناصحين. فقال نصر: أدخل إلى بستاني وأخرج إليهم، فدخل إلى بستان له، فركب دوابه، ومضى
هاربا، فمات بقرية يقال لها ساوة، وأخذ أبو مسلم لاهز بن قريظ، فضرب عنقه. وقدم
إلى نيسابور في شهر رمضان، أو شوال، ووجه عماله، فاستعمل سباع بن معمر الأزدي على
سمرقند، واستعمل أبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان، وجعل أبا نصر مالك بن
الهيثم الخزاعي على شرطه، ووجه محمد ابن الأشعث الخزاعي إلى الطبسين وفارس، ووجه
الحسن بن قحطبة على مقدمته، ثم قدم قحطبة بن شبيب، ومعه عهد إبراهيم بن محمد بن
علي، وسيره يعمل عليها، فأمضى أبو مسلم له ذلك ووجهه لقتال جند بني أمية، فسار
قحطبة حتى أتى جرجان، فلقي نباتة بن حنظلة، فنشبت الحرب، فقتل نباتة، وهزم جنده،
واحتوى على ما في عسكره، وصير الغنائم إلى خالد بن برمك، فقسمها بين أصحابه.
وأقام قحطبة إلى غرة
المحرم سنة 131، ثم وجه بابنه الحسن بن قحطبة إلى قومس على مقدمته، ولحقه فوجهه من
الري إلى همذان، ووجه العكي إلى قم وأصبهان، وسار قحطبة حتى صار إليها وفيها عامر
بن ضبارة المري، فأرسل إليه يدعوه إلى بيعة آل محمد، فأرسل إليه ابن ضبارة: يا
علوج! أما والله إني لأرجو أن أقرنكم في الحبال! وكان في أربعين ألفاً من أهالي
الشام، فواقعه قحطبة، فقتله، وقتل من كان معه من أصحابه، فلم ينج منهم إلا القليل،
فهربوا إلى ابن هبيرة وهو إذ ذاك بجلولاء.
وصار قحطبة إلى
نهاوند وبها أدهم بن محرز الباهلي في جماعة ممن ضوى إليه، فحصرها قحطبة ثلاثة أشهر
حتى أفنى أكثرهم ثم فتحها، وسار إلى حلوان، وكان قحطبة يقول: ما من شيء فعلته إلا
وقد خبرني به الإمام إلا أنه أعلمني ألا أعبر الفرات.
ووجه قحطبة أبا عون
عبد الملك بن يزيد إلى شهرزور، فلقي عثمان بن زياد فهزمه واستباح عسكره.
قال حميد بن قحطبة:
حدثني أبي قال: دخلت مسجد الكوفة أيام بني أمية، وعلى فرو غليظ، فجلست إلى حلقة،
وشيخ في صدر القوم يحدثهم، فذكر أيام بني أمية، وذكر السواد ومن يلبسه فقال. يكون
ويكون، ويخرج رجل يقال له قحطبة، كأنه هذا الأعرابي، وأشار إلى، ولو أشاء أن أقول
هو هو لقلت. قال قحطبة: فخفت على نفسي، فتنحيت ناحية، فلما انصرف كلمته، فقال: لو
شئت أن أقول إنك أنت هو لقلت. فسألت عنه فقيل لي: هو جابر بن يزيد الجعفي.
وكان ابن هبيرة بواسط
العراق فتحصن بها، وأدخل الطعام والأنزال، وانصرف إليها فلال
العساكر.
وقدم قحطبة العراق
فوافى به عسكرا ليزيد بن هبيرة، واستباحة، وصار إلى الزاب، وهو من الفلوجة العليا،
على رأس أربعة وعشرين فرسخاً من الكوفة، فلقي يزيد بن عمر بن هبيرة ليلة الخميس
لسبع خلون من المحرم سنة 132، فاقتتلوا ساعة من الليل، ثم انهزم ابن هبيرة، حتى
رجع إلى واسط، فتحصن بها، فلما فرغ قحطبة من قتاله قام خطيبا، فحمد الله وأثنى
عليه، وصلى على النبي، ثم قال: أيها الناس، أنا والله ما خرجنا إلا لإقامة الحق
وإزالة دولة الباطل، وقد أعلمتكم أن الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس
أعلمني أن ألقى نباتة بن حنظلة الكلابي، وعامر بن ضبارة المري، فأهزمهما واستبيح
عسكرهما، وأقتل مقاتلتهما، وأنبأتكم بذلك قبل كونه، وقد رأيتم صدق ما خبرتكم، وإن
الإمام أعلمني أن لا أعبر الفرات، وإنكم تعبرونه، فلا يفقد من الجيش أحد غيري،
وإنه والله لا كذب فيما قال فإذا فقدتموني فأمير الناس حميد بن قحطبة، فإن غاب
فالحسن بن قحطبة، والسلام على من اتبع الهدى، ورحمة الله وبركاته.
فلما كان السحر عبروا
الفرات، وكان في أيام المد وكثرة الماء، فلما أصبحوا فقدوا قحطبة، فلم يعرفوا له
خبراً، وقالوا: غرق، وقالوا: سقط عليه جرف، وقالوا: غار به فرسه، وكان أبو مسلم قد
كتب إليه... من الكوفة: أني قد أعددت لك من المنازل، فكتب إليه قحطبة: أيها الوزير
لئن لقيتك إذا إن لبني أمية بعد لبقاء.
وانهزم ابن هبيرة بعد
أن غرق قحطبة، فلما بلغ مروان الخبر قال: هذا والله الإدبار، وإلا فمن سمع بميت
يهزم حياً؟ وسار حميد بن قحطبة حتى دخل الكوفة بعد ما فقد قحطبة بأربع ليال، وقد
أخذ محمد بن عبد الله القسري الكوفة لبني هاشم، وأظهر دعوتهم، وشرد من كان بها من
بني أمية وأصحابهم، وأظهر السواد، وغلب سفيان بن معاوية ابن يزيد بن المهلب على
البصرة وسود، ودعا إلى بني هاشم أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال، واستعمل العمال،
ووجه الحسن بن قحطبة إلى ابن هبيرة، وأتبعه بمالك بن الهيثم، وأمرهما أن يحاصراه،
فأناخ الحسن على المدينة الغربية، ومالك على الشرقية، ووجه هشام بن إبراهيم مولى
بني ليث إلى عبد الواحد ابن عمر بن هبيرة، وكان عامل أخيه على الأهواز، فقاتله حتى
فض جمعه، ثم انهزم عبد الواحد بن عمر بن هبيرة، فلحق بسلم بن قتيبة الباهلي، وهو
عامل يزيد بن عمر على البصرة.
وقدم أبو العباس
وإخوته وأهل بيته الكوفة في المحرم سنة 132، فصيرهم أبو سلمة في دار الوليد بن سعد
في بني أود، وكتم أمرهم، فلم يطلع على خبرهم أحد، فأقاموا في تلك الدار شهرين، حتى
لقي أبو حميد غلاماً لهم، فسأله عنهم، فأخبره بسوء ضعفهم، فصار إليهم وهم في،
فقال: أيكم عبد الله بن محمد بن الحارثية؟ فأشير له إلى أبي العباس، فسلم عليه
بالخلافة، فمضى، فأحضر أصحابه، وأخرج أبا العباس، وبايع الناس له، فلما بلغ أبا
سلمة الخبر جاءهم ركضا حتى لحقهم، فقال له: عجلتم، وأرجو أن يكون خيراً. وصار أبو
العباس إلى المسجد، فخطب وصلى.
ووجه أبو العباس عمه
عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس لقتال مروان، فلقيه بالزاب بالقرب من الموصل،
وإنما كان قصد مروان إلى الزاب لأن بني أمية كانت تروي في ملاحمها أن المسودة لا
يجوز سلطانهم الزاب، فكانوا يتوهمون أنه زاب الموصل، فقصده مروان، وهو يرى أنه لا
يجوزه، وإنما ذلك زاب بأقاصي الغرب، فحاربه عبد الله بن علي، فهزمه، ثم لم يزل في
أثره، وهو منهزم لا يلوي على شيء، حتى أخرجه إلى الجزيرة، ثم أخرجه من الجزيرة إلى
الشام، فجعل لا يمر بجند من أجناد الشام إلا انتهبوه، حتى صار إلى دمشق، وهو مضمر
أن يتحصن بها، فانتهبه أهل دمشق، ووثب عليه من بها من قيس، فدخلها عبد الله بن علي
عنوة، وقتل الوليد بن معاوية بن مروان ابن عبد الملك، خليفة مروان بها، ومضى مروان
إلى فلسطين هارباً، فلحقه عبد الله بن عبد الملك، فأسره عبد الله بن علي، وأسر معه
عبد الله بن يزيد بن عبد الملك، فوجه بهما إلى أبي العباس، فصلبهما بالحيرة.
وقدم صالح بن علي
عاملاً على مصر، وقد هرب مروان إليها، فاتبعه، فألجأه إلى قرية بوصير من كورة
أشمون من الصعيد، فلم يزل مواقفاً له، والحرب بينهما، ثم أرسل إليه مروان: متى
ظفرت بهذا الأمر فأوصيك بالحرم خيراً فأرسل إليه صالح: يا جاهل! إن الحق لنا عليك
في نفسك، ولك علينا في حرمك.
وانصرف عبد الله بن
علي راجعا إلى دمشق وصالح في قتال مروان، ثم قتل مروان في المعركة، وصاحب الجيش
عمر بن إسماعيل الحارثي، وكانت مدة مروان في ولايته إلى أن قتل خمس سنين، وقتل في
ذي الحجة سنة 132، وهو ابن أربع وستين سنة، وقيل: ثمان وستين سنة، وحز رأسه، فلما
قور جاءه هر فأخذ لسانه، وحمل الرأس إلى أبي العباس، فلما وضع بين يديه قال: أيكم
يعرف هذا؟ فقال سعيد بن عمرو بن جعدة: هذا رأس مروان ابن محمد بن مروان بن الحكم،
خليفتنا بالأمس. فأنكر الناس ذلك عليه، فقال أبو العباس: ما أراد الشيخ بهذا القول
إلا الوفاء.
وكان الغالب على
مروان أبو حديدة السلمي، وإسماعيل بن عبد الله القسري، وإسحاق بن مسلم العقيلي،
وعلى شرطة الكوثر بن الأسود الغنوي، وهو الذي قال له يوماً في قتاله: انزل، ويلك!
فقاتل، فأبى أن يفعل، فقال مروان: والله لأسوءنك! فقال: وددت والله أنك تقدر على
ذلك، وكان على حرسه سقلاب مولاه، وحاجبه سليم مولاه.
وكان له من الولد
الذكور أربعة: عبد الملك، وعبد الله، وعبيد الله، ومحمد، وكان عبد الله وعبيد الله
ابنا مروان ليلة قتل مروان توجها نحو الصعيد، ثم صار إلى بلاد النوبة، وتلاحق بهما
جماعة من أصحاب مروان، فصاروا زهاء أربعة آلاف، وتخلف عبد الحميد بن يحيى كاتب
مروان بمصر، واستتر حتى دل عليه صالح بن علي.
وخرج مع عبد الله
وعبيد الله جماعة من نسائهم من البنات والأخوات وبنات العم ماشيات، هائمات على
وجوههن، حتى مر رجل من أهل الشام بصبية ملقاة تنكر، وإذا هي بنت لمروان بنت ست
سنين، فحملها معه حتى دفعها إلى عبد الله بن مروان.
ووافى القوم بلاد
النوبة فأكرمهم عظيم النوبة ثم قالوا: نقر في بعض هذه الحصون التي في بلاد النوبة،
فلعلنا نتخذ منها معقلا، ونقاتل من يلينا من العدو، وندعو إلى طاعتنا لعل الله أن
يرد علينا بعض ما أخذ منا. فقال لهم عظيم النوبة: إن هذه الأغربة، يريد السودان،
كثير عددها، قليل سلبها، وإني لا آمن عليكم أن تصابوا فيقال: أنت قتلتهم. فقالوا:
نحن نكتب لك كتاباً أنا وردنا بلادك، فأكرمت مثوانا، وأحسنت جوارنا، وجهدت ألا
نبرح من عندك، فأبينا حتى خرجنا، ونحن لك شاكرون. ثم خرجوا، فأخذوا في بلاد العدو
فكانوا ربما لقوا الجيش من الحبشة، فقاتلوهم حتى صاروا إلى بجاوة، فلقيهم عظيم
البجة، فقاتلهم، وانصرفوا يريدون اليمن، فمروا في البلاد، وعرض لعبد الله وعبيد
الله طريقان بينهما جبل، فأخذ كل واحد منهما في طريق، وهما يريان أنهما يلتقيان
بعد ساعة، فسارا يومهما ذلك، ثم راما الرجوع فلم يقدرا عليه، وسارا أياماً، ثم لقي
عبيد الله منسراً من مناسر الحبشة، فقاتلهم، وزرقه رجل منهم بمزراق، فقتل عبيد
الله، واستأسر أصحابه، فأخذت الحبشة كل ما معهم، وتركوهم، فمروا في البراري على
وجوههم عراة حفاة، حتى أهلكهم العطش، فكان الرجل يبول في يده ويشربه، ويبول ويعجن
به الرمل ويأكله، حتى لحقوا عبد الله بن مروان وقد ناله من العرى والشدة أكثر مما
نالهم، ومعه عدة من حرمه عراة حفاة ما يواريهن شيء، قد تقطعت أقدامهن من المشي
وشربن البول حتى تقطعت شفاههن، حتى وافوا المندب، فأقاموا بها شهراً، وجمع الناس
لهم شيئاً، ثم خرجوا يريدون مكة في زي الحمالين.
وأقام الحج في أيام
مروان في سنتي 127و128 عبد العزيز بن عمرة بن عبد العزيز، سنة 129 عبد الواحد بن
سليمان بن عبد الملك، ووافى معه الحج أبو حمزة المختار بن عوف الإباضي، صاحب
الأعور عبد الله بن يحيى الكندي، والذي يسمي نفسه طالب الحق، سنة 130 عبد الملك بن
محمد بن مروان، سنة 131 محمد بن عبد الملك بن عطية السعدي، وقيل هي آخر حجة لبني
أمية، ولم يغز في أيام مروان.
وكان الفقهاء في
أيامه: محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أبا الحويرث المرادي، عمرو بن
دينار، صالح بن كيسان، أبا الزناد عبد الرحمن ابن ذكوان، عبد الله بن أبي نجيح،
قيس بن سعد، أبا الزبير محمد بن مسلم، إبراهيم بن ميسرة، عبد الملك بن عمير
الليثي، سلمة بن كميل، جابر بن يزيد الجعفي، غيلان بن جامع المحاربي، أبا بكر بن
نسر بن حرب، يزيد بن عبد الله بن الشخير، سالم الأفطس، عبد الكريم الحنفي.
أيام أبي العباس
السفاحبويع عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكنيته أبو العباس، وأمه
ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان بن الديان الحارثي، يوم الجمعة
لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل: يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة 132، ومن شهور العجم في
تشرين الآخر.
وكانت الشمس يومئذ في
القوس عشر دقائق، والقمر في الدلو إحدى وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمشتري في
العقرب اثنتين وعشرين درجة وأربعين دقيقة، والمريخ في الأسد سبعاً وعشرين درجة،
والزهرة في الميزان ثلاثين درجة، وعطارد في العقرب إحدى عشرة درجة وعشرين دقيقة،
والرأس في الميزان خمساً وأربعين دقيقة، وكانت بيعته في الكوفة في دار الوليد بن
سعد الأزدي. وقيل: إن أبا سلمة إنما أخفى أبا العباس وأهل بيته بها، ودبر أن يصير
الأمر إلى بني علي بن أبي طالب، وكتب إلى جعفر بن محمد كتابا مع رسول له، فأرسل
إليه: لست بصاحبكم، فإن صاحبكم بأرض الشراة، فأرسل إلى عبد الله بن الحسن يدعوه
إلى ذلك، فقال: أنا شيخ كبير وابني محمد أولى بهذا الأمر، وأرسل إلى جماعة بني
أبيه، وقال: بايعوا لابني محمد، فإن هذا كتاب أبي سلمة حفص بن سليمان إلي فقال
جعفر بن محمد: أيها الشيخ! لا تسفك دم ابنك، فإني أخاف أن يكون المقتول بأحجار
الزيت.
وأقام أبو سلمة ينتظر
انصراف رسله إليه، ومر أبو حميد، فلقي غلام أبي العباس، فدله على موضعه، فأتاه
فسلم عليه بالخلافة، ثم خرج فأخبر أصحابه بموضعه، فمضى معه ستة، وهم: أبو الجهم بن
عطية، وموسى بن كعب، وأبو غانم عبد الحميد بن ربعي، وسلمة بن محمد، وأبو شراحيل،
وعبد الله بن بسام، وأبو حميد سابعهم سراً من أبي سلمة، فسلموا على أبي العباس
بالخلافة، وألبسه أبو حميد السواد، وأخرجه، فمضى به إلى المسجد الجامع، وبلغ الخبر
أبا سلمة، فأتى ركضا حتى لحقهم، فقال: إني إنما كنت أدبر استقامة الأمر وإلا فلا
أعمل شيئاً فيه.
وقد قدمنا ذكر بيعة
أبي العباس في أيام مروان، ووصفنا ما عمل من وجه لمحاربة مروان، ووصلنا من الخبر
بذلك إلى قتل مروان ما يغني عن إعادته. وكان من قدم إلى الكوفة من بني هاشم اثنين
وعشرين رجلاً، منهم: داود، وسليمان، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، وعبد الله، وعبد الصمد
بنو علي بن عبد الله بن عباس، وموسى بن داود، وجعفر، ومحمد ابنا سليمان، والفضل،
وعبد الله ابنا صالح، وأبو العباس، ومحمد ابنه، وجعفر، ومحمد ابنا المنصور، وعيسى
بن موسى بن محمد، وعبد الوهاب، ومحمد ابنا إبراهيم، ويحيى بن محمد، والعباس بن
محمد. ولما
بويع أبو العباس صعد المنبر في اليوم الذي بويع فيه، وكان حييا، فارتج عليه، فأقام
مليا لا يتكلم، فصعد داود بن علي، فقام دونه بمرقاة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى
على محمد، وقال: أيها الناس! الآن تقشعت حنادس الفتنة، وانكشف غطاء الدنيا، وأشرقت
أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وعاد السهم إلى النزعة، وأخذ القوس باريها،
ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة بكم، والرحمة لكم، والتعطف
عليكم، ألا وإن ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس لكم أن نسير، فنحكم في الخاصة
والعامة منكم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنه والله أيها الناس! ما وقف هذا الموقف
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أولى به من علي بن أبي طالب، وهذا القائم
خلفي، فاقبلوا، عباد الله، ما آتاكم بشكر، واحمدوه على ما فتح لكم، أبدلكم
بمروان عدو الرحمن،
حليف الشيطان، بالفتى المتمهل الشاب المتكهل، المتبع لسلفه والخلف من أئمته
وآبائه، الذين هدى الله، فبهداهم اقتدى مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، وأبواب
الرحمة، ومفاتيح الخير، ومعادن البركة، وساسة الحق، وقادة العدل. ثم نزل فتكلم أبو
العباس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ووعد من نفسه خيراً ثم نزل.
وولي أبو العباس
الكوفة داود بن علي، فكان أول من ولاه أبو العباس، ووجه بأخيه أبي جعفر إلى خراسان
لأخذ البيعة على أبي مسلم، فصار إلى مرو في ثلاثين فارساً، فلم يحتفل به أبو مسلم،
ولم يلتقه، واستخف به، فانصرف واجدا عليه، وشكاة إلى أبي العباس وأعلمه ما نال
منه، وكثر عليه في بابه، فقال أبو العباس: فما الحيلة فيه، وقد عرفت موضعه من
الإمام ومن إبراهيم، وهو صاحب الدولة والقائم بأمرها؟ وقدم أبو مسلم على أبي
العباس، فأكرمه وأعظمه، ولم يذكر له من أمر أبي جعفر شيئاً. ودخل إليه يوماً من
الأيام، وأبو جعفر جالس معه، فسلم عليه وهو قائم، ثم خرج ولم يسلم على أبي جعفر،
فقال له أبو العباس: مولاك مولاك لم لا تسلم عليه؟ يعني أبا جعفر. فقال: قد رأيته،
ولكنه لا يقضي في مجلس الخليفة حق أحد غيره.
ولما قتل صالح مروان
بن محمد وجه برأسه إلى أبي العباس، وحوى خزائنه وأمواله، وحمل أبا عثمان، ويزيد بن
مروان، ونسوة من آل مروان وبناته، فلما صرن إلى الكوفة أطلق النساء وحبس الرجال،
وأخذ عبد الله بن مروان بمكة، فحمل أيضاً، وحبس مع سائر أهله.
وولي أبو العباس داود
بن علي الحجاز، فقدم، وعامل مروان الوليد ابن عروة بن عطية السعدي مقيم بمكة لم
يعلم بأن الناس بايعوا أبا العباس، فلما علم هرب، وقدم داود فخطب خطبة له مشهورة
ذكرهم فيها ما فضلهم الله به، فظلم من ظلمهم، ثم قال: إنما كانت لنا فيكم تبعات
وطلبات، وقد تركنا ذلك كله، وأنتم آمنون بأمان الله أحمركم وأسودكم، وصغيركم
وكبيركم، وقد غفرنا التبعات، ووهبنا الظلامات، فلا ورب هذه البنية لا نهيج أحداً!
وضرب بيده إلى الكعبة، فبينا هو يخطب إذ قام سديف بن ميمون، فقال: أصلح الله
الأمير! أدننى منك، وأذن لي في الكلام! فقال: هلم! فصعد المنبر حتى كان دون داود
بمرقاة، ثم أقبل على الناس بوجهه، فحمد الله، وصلى على محمد ثم قال: أ يزعم
الضلال، خطئت أعمالهم، إن غير آل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتراثه، ولم،
وبم معاشر الناس، ألكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة، الشركاء في النسب، والورثة
للسلب، مع ضربهم في الفيء لجاهلكم، وإطعامهم في اللاواء جائعكم، وأيمانهم بعد
الخوف سائلكم؟ لم ير مثل العباس بن عبد المطلب، اجتمعت له الأمة بواجب حق الحرمة،
أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبيه، وجلده ما بين عينيه يوم خيبر، لا يرد
له أمراً، ولا يعصي له قسماً. إنكم والله، معشر قريش، ما اخترتم لأنفسكم من حيث
اختار الله لكم طرفة عين قط. ثم نزل، فاستتم داود خطبته ثم نزل.
فلما انقضى الموسم
وجه داود إلى قوم كانوا بمكة من بني أمية، فقتل جماعة منهم، وأوثق جماعة منهم في
الحديد، ووجههم إلى الطائف، فقتلوا هنالك، وحبس خلقاً من الخلق، فماتوا في حبسه،
وصار إلى المدينة ففعل مثل ذلك، ولم يقم بالمدينة إلا شهرين حتى توفي.
وبلغ أبا العباس عن
أبي سلمة الخلال أمور أنكرها، وذكر له تدبيره وما كان عليه، وتأخيره له، والتماسه
صرف الدولة إلى بعض الطالبيين، وكتب إليه أبو مسلم من خراسان أن اقتل أبا سلمة،
فإنه العدو الغاش، الخبيث السريرة، فكتب إليه أبو العباس: أن وجه أنت من يقتله،
وكره أبو العباس أن يوحش أبا مسلم بقتله، أو يوجد سبيلا إلى الاحتجاج به عليه،
فوجه أبو مسلم مراد بن أنس الضبي، فجلس على باب أبي العباس وكان يسمر عنده، فلما
خرج ثار إليه فضرب عنقه. وكان أبو سلمة يسمى وزير آل محمد، وكان أبو مسلم يكتب إليه: للأمير
حفص بن سليمان، وزير آل محمد من أبي مسلم أمين آل محمد. فقال سليمان ابن مهاجر لما
قتل أبو سلمة:
إن الوزير، وزير آل
محمد، ... أودي، فمن يشناك كان وزيرا
ووجه أبو العباس أخاه
أبا جعفر إلى واسط، وكان الحسن بن قحطبة محاصرا ليزيد بن عمر بن هبيرة، وأمره
بمجادته، فحوصر أحد عشر شهراً، وكان معه جماعة من قواد مروان وأصحابه، وممن كان مع
عامر بن ضبارة، ونباتة بن حنظلة، الذين قتلهم قحطبة، وكان يزيد قد استعد لحصار
سنتين، وأدخل الأقوات والعلوفة لعشرين ألف مقاتل، فصدقوه المحاربة، وطلب الأمان
ووجه السفراء، فأجيب إلى ذلك، وكتب له كتاب أمان، وشرط له فيه ما سأل. وختمه أبو
العباس. وخرج ابن هبيرة حتى صار إلى أبي جعفر، فبايع ثم رجع إلى موضعه، وكان يركب
كل يوم في ألف فارس وألف راجل، فقال بعض أصحاب أبي جعفر له: أصلح الله الأمير! إن
ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر. فقال لأبي غسان حاجبه: قل لابن هبيرة فليقلل
من جمعه! فركب إليه في خمسمائة راجل، فقال له الحاجب: كأنك تأتيناً مباهياً، فركب
إليهم في ثلاثين فارساً، وثلاثين راجلاً، فكان أبو جعفر يقول: ما رأيت أنبل من ابن
هبيرة، ولا أتيه، إن كان ليدخل إلي، فيقول: كيف أنت يا هذا، أو حالك، وكيف ما
يأتيك عن صاحبك؟ فإن كنت لأحدثه فيقول: أيها لله أبوك! ثم يتداركها فيقول: أصلح
الله الأمير! إني قريب عهد بإمارة، وكان الرجل يحدثني، فأقول بهذا ونحوه. وقال له
يوماً: حدثني! فقال: لأمحضنك النصيحة محضاً، إن عهد الله لا ينكث وعقدته لا تحل،
وإن إمارتكم هذه جديدة، فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنبوهم مرارتها.
ووجدت كتب لابن هبيرة
إلى محمد بن عبد الله بن حسن يعلمه أن يبايع له، وأن قبله أموالاً وعدة وسلاحاً،
وأن معه عشرين ألف مقاتل، فأنفذت الكتب إلى أبي العباس، فقال أبو العباس: نقض
عهده، وأحدث ما أحل به دمه، فكتب إلى أبي جعفر: أن اضرب عنقه، فإنه غدر، ونكث،
ونقض العهود، وكثرت كتبه بذلك، وكتب أبو مسلم من خراسان يحرض على قتله، ويخبر أن
الأمر لا يستقيم ما كان حيا، وإنه ممن لا يصلح للاستبقاء. وقال أبو جعفر للحسن بن
قحطبة الطائي: أن أمير المؤمنين قد أمر بقتل هذا الرجل، فتول ذلك! فقال له الحسن:
إن قتلته كانت العصبية بين قومي وقومه، والعداوة، واضطرب عليك من بعسكرك من هؤلاء
وهؤلاء، ولكن أنفذ إليه برجل من مضر يقتله. فوجه إليه بخازم بن خزيمة التميمي،
فأتاه في جماعة، فوافاه وهو جالس في رحبة القصر بواسط، فلما رآهم قال:
أقسمت بالله إن في
وجوه القوم لغدرة! فلما دنوا منه قام ابنه داود في وجوههم، فضربه بعضهم بالسيف
فجدله، وصاروا إلى يزيد فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه، ثم تتبعوا قواده وأصحابه،
فقتلوهم عن آخرهم.
وخرج شريك بن شيخ
المهري ببخارى فقال: ما على هذا بايعنا آل محمد، أن نسفك الدماء، ونعمل غير الحق.
فوجه إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي، فقاتله، فقتله.
وخرج أبو محمد
السفياني، وهو يزيد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، بما لديه، وخرج
محمد بن مسلمة بن عبد الملك بحران، وحاصر موسى بن كعب، وكان عامل أبي جعفر، وأبو
جعفر يومئذ عامل الجزيرة، ورماها بالمنجنيق، وحرق أبوابها، وكان ذلك سنة 133.
ثم بلغ محمد بن مسلمة
قتل أبي محمد السفياني وقتل أبي الورد بن كوثر ابن زفر، فانصرف عنها، وتفرق جمعه،
واتبعه موسى بن كعب، فقتل خلقاً من أصحابه، وتعمد عدة مدائن من الجزيرة.
وأقام إسحاق بن مسلم
العقيلي بسميساط سبعة أشهر، وأبو جعفر محاصر له، وقيل: لم يحاصره أبو جعفر، ولكن
عبد الله بن علي حاصره، وكان إسحاق يقول: في عنقي بيعة، فلا أدعها أبداً حتى أعلم
أن صاحبها قد مات، أو قتل.
وأرسل إليه أبو جعفر
يقول: إن مروان قد قتل، فقال: حتى أتبين ذلك، فلما صح عنده أنه قتل طلب الأمان
وأعطيه، وصار مع أبي جعفر، وكان عظيم المنزلة عنده.
وانصرف عبد الله بن
علي إلى فلسطين بالسبب الذي شرحناه من خبره فيما شرحنا من خبر مروان، فلما صار
بنهر أبي فطرس، بين فلسطين والأردن، جمع إليه بني أمية، ثم أمرهم أن يغدوا عليه
لأخذ الجوائز والعطايا، ثم جلس من غد، وأذن لهم، فدخل عليه ثمانون رجلاً من بني
أمية، وقد أقام على رأس كل رجل منهم رجلين بالعمد، وأطرق ملياً، ثم قام العبدي
فأنشد قصيدته التي يقول فيها:
أما الدعاة إلى
الجنان فهاشم ... وبنو أمية من كلاب النار
وكان النعمان بن يزيد
بن عبد الملك جالساً إلى جنب عبد الله بن علي، فقال له: كذبت يا ابن اللخناء! فقال له عبد الله بن علي: بل صدقت يا أبا محمد،
فامض لقولك! ثم أقبل عليهم عبد الله بن علي، فذكر لهم قتل الحسين وأهل بيته، ثم
صفق بيده فضرب القوم رؤوسهم بالعمد حتى أتوا عليهم، فناداه رجل من أقصى القوم:
عبد شمس أبوك وهو
أبونا ... لا نناديك من مكان بعيد
فالقرابات بيننا
واشجات ... محكمات القوى بعقد شديد
فقال:
هيهات! قطع ذلك قتل
الحسين! ثم أمر بهم، فسحبوا، فطرحت عليهم البسط وجلس عليها، ودعا بالطعام، فأكل،
فقال: يوم كيوم الحسين بن علي ولا سواء. وكان قد دخل معهم... قال: رجوت أن ينالوا
خيراً، فنال معهم، فقال عبد الله بن علي:
ومدخل رأسه لم يدنه
أحد ... بين الفريقين حتى لزه القرن
اضربا عنقه. وقدم عبد
الله بن علي دمشق في شهر رمضان سنة 132، فحاصرها، واستغاث الناس، ووجهوا إليه
بيحيى بن بحر يطلب لهم الأمان، فخرج إليه، فسأله الأمان، فأجابه إلى ذلك، فدخل
فنادى في الناس الأمان، فخرج خلق من الخلق، ثم قال له يحيى بن بحر: اكتب لنا، أيها
الأمير، كتاب الأمان، فدعا بدواة وقرطاس، ثم ضرب ببصره نحو المدينة، فإذا بالسور
قد غشيه المسودة، فقال له: قد دخلتها قسراً فقال يحيى: لا والله، ولكن غدراً. فقال عبد الله: لو
لا ما أعرف من مودتك لنا، أهل البيت، لضربت عنقك، إذ استقبلتني بهذا، ثم ندم،
فقال: يا غلام خذ هذا العلم فاركزه في داره، وناد من دخل دار يحيى بن بحر فهو آمن.
فانحشر الناس إليها، فما قتل فيها، ولا في الدور التي تليها أحد.
ونادى المنادي بعد أن
قتل خلق كثير من الخلق: الناس آمنون، إلا خمسة: الوليد بن معاوية، ويزيد بن
معاوية، وأبان بن عبد العزيز، وصالح بن محمد، ومحمد بن زكرياء.
وصار عبد الله بن علي
إلى المسجد الجامع، فخطبهم خطبة مشهورة يذكر فيها بني أمية وجورهم وعداوتهم، وانهم
اتخذوا دين الله هزؤاً ولعباً، ويصف ما استحلوا من المحارم والمظالم والمأثم، وما
ساروا به في أمة محمد من تعطيل الأحكام وازدراء الحدود والاستئثار بالفيء، وارتكاب
القبيح، وانتقام الله منهم، وتسليط سيف الحق عليهم، ثم نزل.
ويقال إن أبا العباس
كتب إليه: خذ بثأرك من بني أمية، ففعل بهم ما فعل، ووجه فنبش قبور بني أمية،
فأخرجهم وأحرقهم بالنار، فما ترك منهم أحداً، ولما صار إلى رصافة أخرج هشام بن عبد
الملك، ووجده في مغارة على سريره، قد طلى بماء يبقيه، فأخرجه، فضرب وجهه بالعمود،
وأقامه بين العقابين فضربه مائة وعشرين سوطا، وهو يتناثر، ثم جمعه فحرقه بالنار.
وقال عبد الله عند ذلك: إن أبي، يعني علي بن عبد الله، كان يصلي يوماً، وعليه إزار
ورداء، فسقط الرداء عنه، فرأيت في ظهره آثار السياط، فلما فرغ من صلاته قلت: يا
أبة! جعلني الله فداءك، ما هذا؟ فقال: إن الأحول، يعني هشاماً، أخذني ظلماً،
فضربني ستين سوطاً، فعاهدت الله إن ظفرت به أن أضربه بكل سوط سوطين.
وخرج حبيب بن مرة
المري بالحوران فبيض ونصب رجلاً من بني أمية فزحف إليه عبد الله بن علي فقتله وفرق
جمعه.
وكان عامل مروان على
إفريقية عبد الرحمن بن حبيب العقبي فقدمها سنة 127 ولم يزل مقيماً بها حتى قتل
مروان فلما علم أهل إفريقية بقتل مروان وثبت عليه جماعة من أهل البلد منهم عقبة بن
الوليد الصدفي من ناحية... وتفرقت بنو أمية بعد قتل مروان فخلف منهم بإفريقية
جماعة فصاروا إلى عبد الرحمن بن حبيب فأقام عبد الرحمن على محاربة أصحاب أبي
العباس فوثب به أخوه إلياس بن حبيب فدعا إلى بني العباس فبايعه الناس وأخذ من صار
إلى إفريقية من بني أمية فحبسهم وكتب بخبرهم إلى أبي العباس.
ووثب أهل الموصل على
عاملهم فانتهبوه وأخرجوه فولى أبو العباس أخاه يحيى بن محمد بن علي الموصل وضم
إليه أربعة آلاف رجل من أهل خراسان فقدمها في سنة 133 فقتل من أهلها خلقا عظيما وقيل إنه اعترض الناس في يوم جمعة فقتل
ثمانية عشر ألف إنسان من صليب العرب ثم قتل عبيدهم ومواليهم حتى أفناهم فجرت
دماؤهم فغيرت ماء دجلة فلم يعرف لأهل الموصل وثوب إلى هذه الغاية.
وولي أبو العباس محمد
بن صول أرمينية فسار إليها في خلق عظيم ومسافر بن كثير متغلب على البلد وكان خليفة
إسحاق بن مسلم العقيلي عامل مروان فحاربه محمد بن صول حتى قتله واستولى على
أرمينية وصد أهل البيلقان إلى قلعة الكلاب وأسلموا المدينة ورئيسها يومئذ ورد بن
صفوان السامي من ولد سامة بن لؤي وجمعوا إليهم لفيفا من الصعاليك وغيرهم بقلعة
الكلاب فوجه إليهم محمد بن صول صالح بن صبيح الكندي فحاصرهم وقتل منهم خلقاً
عظيماً.
ووجه أبو العباس إلى
السند موسى بن كعب التميمي ومنصور بن جمهور متغلب عليها فنفذ موسى في عشرين ألف
مقاتل فصار إلى قندابيل فأقام بها حينا ثم كاتب موسى من كان مع منصور من أصحاب...
وكاتبهم قبائلهم وزحف موسى حتى أتى منصوراً فانهزم منه ومر في مفازة وأدركه فقتله.
وانتقل أبو العباس من
الحيرة فنزل الأنبار واتخذ بها مدينة سماها الهاشمية سنة 134 واشترى من الناس أشرية كثيرة بني فيها وأقطعها أهل بيته وقواده ثم رفع
إليه أهل تلك الأرضين والمنازل انهم لم يقبضوا أثمانها فقال: هذا بناء أسس على غير
تقوى وأمر فضربت مضاربه بظاهرها وبريها حتى استوفى القوم أثمان أرضهم ثم عاد إلى
قصره.
وولى أبو العباس أبا
جعفر أخاه الجزيرة والموصل والثغور وأرمينية وآذربيجان فخرج حتى صار إلى الرقة
واختط الرافقة على شط الفرات وهندسها له أدهم بن محرز فولى الحسن بن قحطبة الطائي
الجزيرة وولى يزيد بن أسيد السلمي أرمينية ثم عزله وولي الحسن بن قحطبة أرمينية
فلم يزل عليها أيام أبي العباس.
وكان سليمان بن هشام
بن عبد الملك قد استأمن إلى أبي العباس فقدم معه بابنين له فأكرمه أبو العباس وبره
وأجلسه وابنيه على النمارق والكراسي فكان أبو العباس يجلس بالعشيات ويأذن لخواصه
وأهل بيته فدخل عليه أبو الجهم ليلة وقد أذن لأهله وخواصه فقال له: إن أعرابيا
أقبل يوضع على ناقته حتى أناخها بالباب وعقلها ثم جاءني وقال: استأذن لي على أمير
المؤمنين فقلت: اذهب وضع عنك ثياب سفرك وعد علي سأستأذن عليه. فقال: إني آليت ألا
أضع عني ثوبا ولا أحل لثاما حتى أنظر إلى وجهه. قال: فهل أنبأك من هو قال: نعم زعم
أنه سديف مولاك فقال: سديف ايذن له فدخل أعرابي كأنه محجن فوقف فسلم عليه بأمره
المؤمنين ثم تقدم فقبل بين يديه ورجليه ثم تأخر فوقف مثله ثم اندفع فقال:
أصبح الملك ثابت
الأساس ... بالبهاليل من بني العباس
يا أمير المطهرين من
الرج ... س ويا رأس منتهى كل رأس
أنت مهدي هاشم وهداها
... كم أناس رجوك بعد إياس
لا تقيلن عبد شمس
عثاراً ... واقطعن كل رقلة وغراس
أفنها أيها الخليفة
وأحسم ... عنك بالسيف شافه الأرجاس
أنزلوها بحيث أنزلها
الل ... ه بدار الهوان والإتعاس
ولقد ساءني وساء
قبيلي ... قربهم من نمارق وكراسي
خوفهم أظهر التودد
منهم ... وبهم منكم كحز المواسي
واذكروا مصرع الحسين
وزيد ... وقتيلاً بجانب المهراس
والقتيل الذي بحران
أمسى ... رهن رمس في غربة وتناسي
نعم كلب الهراش مولاك
لو لا ... حله من حبائل الإفلاس
فقام سليمان بن هشام
فقال: يا أمير المؤمنين إن مولاك هذا يحرضك منذ مثل بين يديك على قتلي وقتل ابني
وقد تبينت والله أنك تريد أن تغتالنا. فقال: لو أردت ذلك ما كان يمنعني منكم على
غير غيلة فأما إذ سبق ذلك إلى قلبك فلا خير فيك. يا أبا الجهم. أخرجه وأخرج ابنيه
فاضرب أعناقهم وأتني برؤوسهم فخرج فضرب أعناقهم وأتاه برؤوسهم.
وقدم عبد الله بن
الحسن بن الحسن على أبي العباس ومعه أخوه الحسن ابن الحسن بن الحسن فأكرمه أبو
العباس وبره وآثره ووصله الصلات الكثيرة ثم بلغه عن محمد بن عبد الله أمر كرهه
فذكر ذلك لعبد الله بن الحسن فقال: يا أمير المؤمنين ما عليك من محمد شيء تكرهه
وقال له الحسن بن الحسن أخو عبد الله بن الحسن: يا أمير المؤمنين! أتتكلم بلسان الثقة والقرابة أم على جهة الرهبة
للملك والهيبة للخلافة فقال: بل بلسان القرابة. فقال: أرأيت يا أمير المؤمنين إن
كان الله قضى لمحمد أن يلي هذا الأمر ثم أجلبت وأهل السموات والأرض معك أكنت
دافعاً عنه قال: لا قال: فإن كان لم يقض ذلك لمحمد ثم أجلب محمد وأهل السموات
والأرض معه أيضرك محمد قال: لا والله ولا القول إلا ما قلت. قال:
فلم تنغص هذا الشيخ
نعمتك عليه ومعروفك عنده قال: لا تسمعني ذاكراً له بعد اليوم.
وبلغ أبا العباس أن
محمد بن عبد الله قد تحرك بالمدينة فكتب إلى عبد الله ابن الحسن في ذلك وكتب في
الكتاب:
أريد حباءه ويريد
قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
فكتب إليه عبد الله
بن الحسن:
وكيف يريد ذاك وأنت
منه ... بمنزلة النياط من الفؤاد
وكيف يريد ذاك وأنت
منه ... وزندك حين يقدح من زناد
وكيف يريد ذاك وأنت
منه ... وأنت لهاشم رأس وهاد
وطفئ أمر محمد في
خلافة أبي العباس فلم يظهر منه شيء وكان متى بلغ أبا العباس عنه شيء ذكر ذلك لعبد
الله فيقول: يا أمير المؤمنين! أنا نحميها بكل قذاة يخل ناظرك منها فيقول: بك أثق
وعلى الله أتوكل. وكان أبو العباس كريماً حليماً جواداً وصولاً لذوي أرحامه. حدثني
محمد بن علي بن سليمان النوفلي عن جده سليمان قال: دخلنا على أبي العباس جماعة من
بني هاشم فأدنانا حتى أجلسنا معه ثم قال: يا بني هاشم! احمدوا الله إذ جعلني فيكم
ولم يجعلني بخيلاً ولا حسوداً. واستأذن أبو مسلم في القدوم فأذن له فقدم من خراسان
في سنة 136 فلما حضر وقت الحج استأذنه فأذن له وحج معه أبو جعفر المنصور فلما خرجا
اشتدت بأبي العباس العلة فقيل له: صير ولاية عهدك إلى أبي جعفر فمات في علته بعد
نفوذه إلى الحج.
وكان الغالب عليه أبو
الجهم بن عطية الباهلي وكان له سمار وجلساء منهم: أبو بكر الهذلي وخالد بن صفوان
وعبد الله بن شبرمة وجبلة بن عبد الرحمن الكندي وكان على شرطته عبد الجبار بن عبد
الرحمن الأزدي وعلى حرسه أبو بكر بن أسد بن عبد الله الخزاعي وحاجبه أبو غسان
مولاه وكان قاضيه عبد الرحمن بن أبي ليلى وابن شبرمة.
ولما اشتدت علته قدم
عليه وفدان أحدهما من السند والآخر من إفريقية فلما بلغه قدومهما قال: أنا ميت بعد
ثلاث. قال عيسى بن علي فقلت: بل يطيل الله بقاءك فقال: حدثني أخي إبراهيم عن أبي
وأبيه عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده: أنه يقدم
علي في مدينتي هذه في يوم واحد وافدان: أحدهما وافد السند والآخر وافد أهل إفريقية
فلا يمضي بعد ذلك ثلاثة أيام حتى أغيب في لحدي ويورث الأمر بعدي. ثم نهض وقال: لا
ترم مكانك حتى أخرج إليك.
قال:
فلم أزل بمكاني حتى
سلم المؤذنون في وقت صلاة العصر بالخلافة فخرج إلى رسوله يأمرني بالصلاة بالناس
فدخلت فلم يخرج إلى أن سلم المؤذنون لوقت صلاة العشاء فخرج إلى رسوله يأمرني
بالصلاة بالناس ففعلت ذلك ثم أتيت مكاني إلى إدراك الليل فلما فرغت من قنوتي خرج
إلي ومعه كتاب معنون: من عبد الله ووليه إلى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم
والأولياء وجميع المسلمين ثم قال: يا عم إذا خرجت نفسي فسجني بثوبي واكتم موتي حتى
يقرأ هذا الكتاب على الناس فإذا قرئ فخذ ببيعة المسمى فيه فإذا بايع الناس فخذ في
أمري وجهزني وصل علي وادفني. فقلت: يا أمير المؤمنين فهل وجدت علة فقال: وأية علة
أقوى من الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما كذبت ولا كذبت ولا
كذبت خذ هذا الكتاب وامض راشداً.
واعتل من ليلته وتوفي
يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 136 وهو ابن ست وثلاثين سنة وقيل:
لم يبلغ تلك السن وذلك أنه ولد في سنة 105 في أيام يزيد بن عبد الملك بن مروان
وصلى عليه إسماعيل بن علي وقيل عيسى بن علي ودفن في الأنبار في قصره وكانت ولايته
أربع سنين وتسعة أشهر وخلف ابنا لم يكن بلغ وابنته ريطة امرأة المهدي التي حرمت
على جميع خلفاء بني هاشم إلا زوجها.
وأقام الحج للناس في
أيامه سنة 132 داود بن علي سنة 133 زياد بن عبيد الله الحارثي سنة 134 عيسى بن
موسى سنة 135 سليمان بن علي.
وغزا بالناس في أيامه
سنة 133 أقبل طاغية الروم وهو قسطنطين حتى أناخ على ملطية فحصرها فصولح عنها وزحف
إليه موسى بن كعب التميمي فلم يكن بينهما لقاء وكتب أبو العباس إلى عبد الله بن
علي يعلمه أن العدو قد كلب بالغفلة عنه وأمره أن ينفذ بالجيوش التي معه فيبث جيوشه
في نواحي الثغور وزحف حتى قطع الدرب ولم يزل يعبى حتى أتاه خبر وفاة أبي العباس
فانصرف.
وكان الفقهاء في
أيامه يحيى بن سعيد الأنصاري ابن أبي طوالة الأنصاري موسى بن عقبة عبد الرحمن بن
حرملة الأسلمي أبا حمزة الثمالي زيد بن أسلم أبا خازم القاضي هشام بن عروة بن
الزبير محمد بن... بن علقمة موسى بن عبيدة الربذي ابن أبي صعصعة ربيعة الرأي عبد
الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب محمد بن إسحاق بن يسار عبد الله بن
طاووس صدقة... يسار حميد بن قيس الأعرج عبد الله بن عثمان بن خثيم عثمان بن الأسود
عبد الملك بن جريج عبد الملك بن عمير الليثي أبا سار النسائي مجالد بن سعيد الأجلح
بن عبد الله الكندي منصور بن المعتمر السلمي مطرف بن طريف الحارثي جابر بن يزيد
الجعفي الحسن بن عمر الفقيمي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الحسن بن عمارة مسعر
بن كدام عبد الجبار بن عباس الهمداني زفر بن الهذيل إسحاق بن سويد العذري أبا بكر
بن نسر بن حرب يونس بن عبيد أبا المعتمر سليمان التيمي عمرو بن عبيد حميد الطويل
مولى خزاعة عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي سالم الأفطس عبد الكريم الحنفي.
أيام أبي جعفر
المنصورهو عبد الله بن محمد بن علي وأمه سلامة البربرية وبويع في اليوم الذي توفي
فيه أبو العباس وهو يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة ومن شهور العجم في
حزيران سنة 136. وكانت الشمس يومئذ في السرطان درجة وعشر دقائق والقمر في الجوزاء
سبع درجات وخمساً وأربعين دقيقة وزحل في الجدي ست عشرة درجة وخمسين دقيقة راجعا
والمشتري في الحمل سبعا وعشرين درجة والمريخ في العقرب تسع عشرة درجة وأربعين
دقيقة والزهرة في الثور خمس عشرة درجة وخمسين دقيقة وعطارد في السرطان إحدى عشرة
درجة والرأس في السرطان درجة وخمسين دقيقة.
وكان أبو جعفر حاجاً
فأخذ له عيسى بن علي البيعة على من حضر من الهاشميين والقواد بالأنبار ووافاه
الخبر بذلك في طريق مكة بعد وفاة أبي العباس بخمسة عشر يوماً فبايع أبو مسلم ومن
حضر من الهاشميين والقواد وكان الذي وافاه بالخبر محمد بن الحصين العبدي فقال: أي
موضع هذا؟ قالوا: موضع يقال له زكية. قال: أمر يزكى إن شاء الله وبويع بالصفية
فقال: أمر يصفو لنا أعداد السنين وحثوا النجاء.
وكان أبو العباس قبل
وفاته قد كتب إلى عبد الله بن علي في غزو الصائفة وأمره بقطع الدرب فلما توفي أبو
العباس كره عيسى بن علي ومن حضر من الأبناء أن يكتبوا إلى عبد الله بن علي فكتبوا
إلى صالح بن علي وهو بمصر يعرفونه الحادثة في أبي العباس وما كان عهد به أبو
العباس لأبي جعفر ومبايعتهم له واجتماعهم عليه وأمره أن يبايع ويصير إلى الشام
فيأخذ البيعة على عبد الله.
وبلغ عبد الله الخبر
وقيل: بعث عيسى بن علي ببيعة المنصور مع أبي غسان يزيد بن زياد حاجب أبي العباس
فلحقه وقد كان قطع الدرب إلى بلاد الروم فرجع حتى صار إلى دلوك من أرض جند قنسرين
فأحضر حميد بن قحطبة الطائي وجماعة من القواد الذين كانوا معه
فقال:
ما تشهدون أن أمير
المؤمنين أبا العباس قال: من خرج إلى مروان فهو ولي عهدي فشهدوا له بذلك. وبايعوا
وبايع أكثر أهل الشام له وكتب إلى عيسى بن علي وغيره يعلمهم مبايعة من قبله من
القواد وأهل الشام له بصحة عهد أبي العباس إليه وتوجه يريد العراق فلما صار إلى
حران وافى موسى ابن كعب عاملاً بها فعرفه شهادة من أشهد الله أن أبا العباس جعله
ولي عهده فلما تحصن بها حاصره أربعين يوماً ثم أعطاه الأمان على أن يخرج عنها
ويخلي بينه وبينها وتوجه يريد العراق.
فقدم أبو جعفر الكوفة
غرة المحرم فنزل الحيرة وصلى بالناس الجمعة ثم شخص إلى الأنبار إلى مدينة أبي
العباس فضم إليه أطرافه وخزائن أبي العباس وبلغه أمر عبد الله بن علي وتوجهه إلى
العراق فقال لأبي مسلم: ليس لعبد الله ابن علي غيري أو غيرك. فكره أبو مسلم ذلك
وقال: يا أمير المؤمنين! إن أمر عبد الله بالشام أقل وأذل وأمر خراسان أمر يجل
خطبه ثم انصرف أبو مسلم إلى منزله وقال لكاتبه: ما أنا وهذان الرجلان. ثم قال: ما
الرأي إلا أن أمضي إلى خراسان وأخلي بين هذين الكبشين فأيهما غلب وكتب إلينا كتبنا
إليه: سمعنا وأطعنا فرأى أنا قد أنعمنا وعملنا له عملاً. فقال له كاتبه: أعيذك
بالله من أن تمكن أهل خراسان من الطعن عليك وأن يروا أنك نقضت أمراً بعد تأكيده.
فقال: ويحك إني نظرت
فيمن قتلت بالسيف صبراً سوى من قتل في المعارك فوجدتهم مائة ألف من الناس فلا قليل
من الله.
فلم يزل به كاتبه حتى
أجاب أبا جعفر إلى الخروج وعسكر في خلق عظيم ثم سار حتى صار إلى الجزيرة، فواقع
عبد الله بن علي عدة وقائع، وكان حميد بن قحطبة الغالب على أمر عبد الله بن علي،
ثم بلغه أن عبد الله يريد قتله، فاحتال حتى صار إلى أبي مسلم، فعظم ذلك على عبد الله
بن علي، وخاف أن يفعل بنظرائه من قواد خراسان الذين معه مثل ذلك.
قال السندي بن شاهك:
سمعت عبد الصمد بن علي يقول: إني عند عبد الله ابن علي إذ دخل حاجبه، وكان عبد
الصمد مع عبد الله بن علي، فقال: رسول أبي مجرم بالباب، فقال: إيذن له، فدخل رجل
كريه الوجه، قبيح المنظر، كثير الشعر، طويل اللسان، عظيم الخلق، كثير حشو الخفنان،
فسلم سلاماً عاماً، ثم قال: إن الأمير أبا مسلم يقول: علام تقاتلني، وأنت تعلم أنه
لا يقاتلك؟ وواقع أبو مسلم عبد الله بن علي بنصيبين، وفرق جمعه، فهرب عبد الله،
وأمر أبو مسلم ألا يعترضه أحد، فصار إلى البصرة إلى أخيه سليمان بن علي، وكان عامل
البصرة، فلم يزل مختفياً عنده.
وبعث أبو جعفر برسل
يحصون ما حصل في يد أبي مسلم من الخزائن والأموال، منهم: إسحاق بن مسلم العقيلي، ويقطين بن موسى، ومحمد بن عمرو النصيبي
التغلبي، فغضب أبو مسلم، وقال أؤتمن على الدماء، ولا أؤتمن على الأموال، وشتم
يقطين بن موسى، فقال يقطين لما رأى ما داخله عليه: امرأتي طالق ثلاثاً إن كان أمير
المؤمنين وجهني إليك إلا مهنئاً بالفتح، فاستخف بإسحاق بن مسلم، ومحمد بن عمرو،
وشتمهما، وتناول أبا جعفر بلسانه حتى ذكر أمه وقال: ويلي على ابن سلامة فانصرف
القوم إلى أبي جعفر فأخبروه الخبر فزاد ذلك فيما في قلبه عليه وولى هشام بن عمرو
العقيلي مكان أبي مسلم فانصرف أبو مسلم وأقبل يريد خراسان مغاضبا لأبي جعفر فمر
بالمدائن وأبو جعفر نازل برومية وبينه وبينه فرسخان فلم يلقه ونفذ لوجهه حتى جاز
حلوان فاتبعه أبو جعفر بعيسى بن موسى وجرير بن عبد الله البجلي ونفر معهما من
الشيعة فلحقوه فعظموا عليه الخطب وقالوا له: إن الأمر لم يبلغ حيث تظن فشاور مالك
بن الهيثم وكان خليفته وقال: ما ترى قال: أرى أن تصير إلى خراسان فتستعتب الرجل
منها وتكتب إليه منها سمعك وطاعتك فإذا فعلت ذلك لم يلحقك لوم وإلا فهو آخر عهدك
بالدنيا إن وقعت عينه عليك. فما زال رسل أبي جعفر حتى فتلوه عن رأيه وأقبل نحو
العراق فلما جاز عقبة حلوان قال لمالك بن الهيثم: ما الرأي قال: الرأي تركته وراء
العقبة. فقال: إني والله لا أقتل إلا بأرض الروم. وقدم على أبي جعفر وهو نازل
برومية في المضارب فقال له: كدت أن تنفذ قبل أن أفضي إليك بما أحتاج إليه. فمكث
يختلف إليه أياماً ثم أتاه يوماً وقد هيأ له أبو جعفر عثمان بن نهيك وكان على حرسه
في عدة وهم: شبيب بن واج وأبو حنيفة وتقدم إلى عثمان فقال: إذا علا صوتي وصفقت
بيدي فاقتلوا العبد.
ودخل أبو مسلم فاجلس
في الحجرة وقيل له: أمير المؤمنين على شغل. فجلس ملياً ثم أذن له وقيل له: انزع
سيفك! فقال: ولم قيل: وما عليك فلم يزالوا به حتى نزع سيفه ثم دخل وليس في البيت
إلا وسادة فجلس عليها ثم قال: يا أمير المؤمنين فعل بي ما لم يفعل بأحد أخذ سيفي
عن عاتقي قال: ومن فعل بك هذا قبحه الله فأقبل أبو مسلم يتكلم فقال له: يا ابن
اللخناء إنك لمستعظم غير العظيم ألست الكاتب إلى تبدأ باسمك على اسمي ألست الذي
كتبت إلى تخطب عمتي آمنة بنت علي وتزعم أنك من ولد سليط بن عبد الله ألست الفاعل
كذا والفاعل كذا وجعل يعد عليه أموراً فلما رأى أبو مسلم ما قد دخله قال: يا أمير
المؤمنين إن قدري أصغر من أن يدخلك كل ما أرى. فعلا صوت أبي جعفر وصفق بيديه فخرج
القوم فضربوه بأسيافهم فصاح: أوه ألا مغيث ألا ناصر وهم يضربونه حتى قتلوه فلما
قتل قال أبو جعفر:
اشرب بكأس كنت تسقى
بها ... أمر في فيك من العلقم
كنت حسبت الدين لا
يقتضي ... كذبت والله أبا مجرم
وكفن في مسح وصير في
جانب المضرب وقيل لأصحابه: اجتمعوا فإن أمير المؤمنين قد أمر أن ينثر عليكم
الدراهم ونثرت عليهم بدرة دراهم فلما أكبوا يلتقطونها طرح عليهم رأس أبي مسلم فلما
نظروا إليه أسقط ما في أيديهم وعرتهم ضعضعة وكان ذلك في شعبان سنة 137 وخرج قوم من
أصحاب أبي مسلم إلى خراسان فصاروا إلى سنباذ وسنباذ بنيسابور فلما بلغه قتل أبي
مسلم أظهر المعصية وخرج يطلب بدمه حتى اضطرب خراسان فوجه أبو جعفر جهور بن مرار
فلقي سنباذ فواقعه فقتله وفرق جمعه.
وبلغ أبا جعفر مكان
عبد الله بن علي عند سليمان بن علي وهو إذ ذاك عامل البصرة فوجه إلى سليمان فأنكر
أن يكون عنده ثم طلب الأمان فكتبه له أبو جعفر على نسخة وضعها ابن المقفع بأغلظ
العهود والمواثيق ألا يناله بمكروه وألا يحتال عليه في ذلك بحيلة وكان في الأمان:
فإن أنا فعلت أو دسست فالمسلمون براء من بيعتي وفي حل من الأيمان والعهود التي
أخذتها عليهم فلما وقف أبو جعفر على هذا قال: من كتبه؟ قيل: ابن المقفع فكان ذلك
سبباً لميتة ابن المقفع.
وقدم سليمان بن علي
من البصرة حتى أخذ الأمان وشخص من البصرة ومعه عيسى بن علي فظهر بهما عبد الله بن
علي فقدما به على أبي جعفر يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة 137
وهو بالحيرة فأقام في منزل عيسى بن علي وحبسه عند عيسى بن موسى وهو ولي عهد ثم
سأله عنه فأخبره أنه قد توفي فوجه إلى عيسى بن علي وإسماعيل وعبد الصمد ابني علي فأحضرهم
وجماعة من بني هاشم وقال لهم: إني كنت دفعت عبد الله بن علي إلى عيسى بن موسى
وأمرته أن يحتفظ به وأن يكرمه ويبره وقد سألته عنه فذكر أنه قد مات فأنكرت تستير
خبر موته عني وعنكم فقال القوم: يا أمير المؤمنين إن عيسى قتله ولو كان عبد الله
مات حتف أنفه ما ترك أن يعلمك ويعلمنا موته فجمع بينه وبينهم فطالبوه بدمه وقال
له: ايت على ما ذكرت من عبد الله ببينة عادلة وإلا أقدتك منه وأحضر الناس لذلك
فلما رأى عيسى تحقيق الأمر عليه قال: أؤخر إلى العشي فأخر فحضر بالعشي وحضر عبد
الله بن علي معه وقال: إنما أردت بما قلت الراحة من حراسته مخافة أن يناله شيء
فيقال لي مثل هذا وقد سلمته صحيحاً سوياً فقال أبو جعفر: بل أردت أن تعرف ما عندنا
فإذا احتملناك فعلت ذلك فأمر أبو جعفر فبنى له بيت في الدار وقال: يكون نصب عيني
ثم أجرى في أساس ذلك البيت الماء فسقط عليه فمات.
وأراد أبو جعفر أن يزيد
في المسجد الحرام وشكا الناس ضيقه وكتب إلى زياد بن عبيد الله الحارثي أن يشتري
المنازل التي تلي المسجد حتى يزيد فيه ضعفه فامتنع الناس من البيع فذكر ذلك لجعفر
بن محمد فقال: سلهم أهم نزلوا على البيت أم البيت نزل عليهم؟ فكتب بذلك إلى زياد
فقال لهم زياد بن عبيد الله ذلك فقالوا: نزلنا عليه فقال جعفر بن محمد: فإن للبيت
فناءه فكتب أبو جعفر إلى زياد بهدم المنازل التي تليه فهدمت المنازل وأدخلت عامة
دار الندوة فيه حتى زاد فيه ضعفه وكانت الزيادة مما يلي دار الندوة وناحية باب بني
جمح ولم يكن مما يلي الصفا والوادي فكان البيت في جانبه وكان ابتداء الأمر به في
سنة 138 وفرغ سنة 140.
وبنى مسجد الخيف بمنى
وصيره على ما هو عليه من السعة ولم يكن بها قبل ذلك وحج أبو جعفر سنة 140 لينظر ما
زيد في المسجد الحرام وقد كان بلغه أن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن تحرك فلما
قدم المدينة طلبه فلم يظفر به فأخذ عبد الله بن حسن بن حسن وجماعة من أهل بيته
فأوثقهم في الحديد وحملهم على الإبل بغير وطاء وقال لعبد الله: دلني على ابنك وإلا
والله قتلتك فقال عبد الله: والله لامتحنت بأشد مما امتحن الله به خليله إبراهيم وإن بليتي لأعظم
من بليته لأن الله عز وجل أمره أن يذبح ابنه وكان ذلك لله عز وجل طاعة فقال:
إن هذا لهو البلاء
العظيم وأنت تريد مني أن أدلك على ابني لتقتله وقتله لله سخط.
وقال أبو جعفر: يا
ابن اللخناء فقال: وإنك لتقول هذا؟ ليت شعري أي الفواطم لخنت يا ابن سلامة؟ أ
فاطمة بنت الحسين أم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جدتي فاطمة بنت
أسد بن هاشم جدة أبي أم فاطمة ابنة عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم جدة جدتي؟ قال:
ولا واحدة من هؤلاء وحمله.
وانصرف أبو جعفر على
طريق الشام فأتى بيت المقدس ثم صار إلى الجزيرة فنزل خارج الرقة وقد كان منصور بن
جعونة الكلابي وثب بها فأسر فأحضره فضرب عنقه ثم صار إلى الحيرة فحبس عبد الله بن
حسن بن حسن وأهل بيته فلم يزالوا في الحبس حتى ماتوا وقد قيل: إنهم وجدوا مسمرين
في الحيطان.
وحدثني أبو عمرو عبد
الرحمن بن السكن عن رجل من آل عبد الله: أن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن كتب
إلى أبيه لما بلغه شدة ما يلقى من الحبس يستأذنه أن يظهر حتى يضع يده في أيديهم
فأرسل إليه عبد الله: إن ظهورك يا بني يقتلك ولا يحييني فأقم بمكانك حتى يرتاح
الله بفرج وأخذ أبو جعفر في بناء الرافقة وكان ابتداؤها في أيام أبي العباس وقال:
أما أنا فلست أنزلها فقيل له: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: كان أبي صار إلى هشام وهو بالرصافة
فجفاه وناله منه ما يكره ثم انصرف وأنا وأخي معه فلما صار إلى هذا الموضع قال لي
ولأخي: أما إنه سيبني أحدكما في هذا الموضع مدينة فقلت له: ثم ما ذا؟ فقال: لا
ينزلها لكن ينزلها ابنه وأنا أعلم أني لا أنزلها ولكن ينزلها ابني محمد يعني
المهدي.
وولي أبو جعفر عبد
الجبار بن عبد الرحمن الأزدي خراسان فاستخلف على الشرطة أخاه عمر بن عبد الرحمن
وقتل المغيرة بن سليمان ومجاشع بن حريث وقصد لشيعة بني هاشم فقتل منهم مقتلة عظيمة
وجعل يتبعهم ويمثل بهم فكتب إليه أبو جعفر يحلف له ليقتلنه فخلع سنة 141 فوجه إليه
أبو جعفر بالمهدي فصار المهدي إلى الري واستعمل على خراسان أسيد بن عبد الله
الخزاعي ووجه معه بالجيوش فلقي عبد الجبار بمرو فهزم عسكره وهرب عبد الجبار فاتبعه
فأسره وبعث به إلى أبي جعفر فوافاه وهو بقصر ابن هبيرة من بغداد على مرحلة فقال له
عبد الجبار لما وافاه: يا أمير المؤمنين قتله كريمة فقال: تركتها وراءك يا ابن
اللخناء وقدمه فضرب عنقه وصلبه فأقام على الخشبة أياماً ثم جاء أخوه عبيد الله بن
عبد الرحمن ليلاً فأنزله ودفنه فبلغ أبا جعفر ذلك فقال: دعوه إلى النار.
وولى أبو جعفر
أرمينية يزيد بن أسيد السلمي وولى آذربيجان يزيد ابن حاتم المهلبي فنقل اليمانية
من البصرة إليها وكان أول من نقلهم وأنزل الرواد بن المثنى الأزدي تبريز إلى البذ
وأنزل مر بن على الطائي نريز... الهمداني الميانج وفرق قبائل اليمن فلم يكن
باذربيجان من نزار أحد إلا الصفر بن الليث العتبي وابن عمه البعيث بن حلبس.
وتحركت الخزر بناحية
أرمينية ووثبوا بيزيد بن أسيد السلمي فكتب إلى أبي جعفر يعلمه أن رأس طرخان ملك
الخزر قد أقبل إليه في خلق عظيم وأن خليفته قد انهزم فوجه إليه أبو جعفر جبريل بن
يحيى البجلي في عشرين ألفاً من أهل الشام وأهل الجزيرة وأهل الموصل فواقع الخزر
فقتل خلق من المسلمين وانهزم جبريل ويزيد بن أسيد حتى أتيا خرس فلما انتهى الخبر
إلى أبي جعفر بما نال وظهور الخزر ودخولهم بلاد الإسلام أخرج سبعة آلاف من أهل
السجون وبعث فجمع من كل بلد خلقاً عظيماً ووجه بهم وبفعله وبنائين فبنى مدينة كمخ
ومدينة المحمدية ومدينة باب واق وعدة مدن جعلها ردا للمسلمين وأنزلها المقاتلة
فردوا الحرب فحاربهم قومهم وقوي المسلمون بتلك المدن وأقام بالبلد ساكناً.
ثم تحركت الصنارية
بأرمينية فوجه أبو جعفر الحسن بن قحطبة عاملاً على أرمينية فحاربهم فلم يكن له بهم
قوة فكتب إلى أبي جعفر بخبرهم وكثرتهم فوجه إليه عامر بن إسماعيل الحارثي في عشرين
ألفاً فلقي الصنارية فقاتلهم قتالاً شديداً وأقام أياماً يحاربهم ثم رزقهم الله
الظفر عليهم فقتل منهم في يوم واحد ستة عشر ألف إنسان ثم انصرف إلى تفليس فقتل من
كان معه من الأسرى ووجه في طلب الصنارية حيث كانوا ثم ولى أبو جعفر أرمينية واضحا
مولاه فلم يزل عليها وعلى آذربيجان خلافة أبي جعفر كلها ووثب أهل طبرستان وأظهروا
الخلع والمعصية وزحفوا في جيوش عظيمة فوجه إليهم المهدي خازم بن خزيمة التميمي
وروح بن حاتم المهلبي فهزموا جيوشهم وفتحت طبرستان سنة 142.
وخرج أبو جعفر في هذه
السنة إلى البصرة يريد الحج فلما صار بالجسر الكبير أتاه الخبر بأن أهل اليمن قد
أظهروا المعصية وأن عبد الله بن الربيع عامل اليمن قد هرب ممن وثب عليه وضعف عنهم
وأن عيينة بن موسى ابن كعب التميمي عامل السند قد عصى وأظهر الخلع فوجه بمعن بن
زائدة الشيباني إلى اليمن وعمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة إلى السند وانصرف أبو
جعفر من البصرة ولم يحج.
وقدم معن بن زائدة
اليمن فقتل من بها قتلاً فاحشاً وأقام بها تسع سنين وكان موسى بن كعب التميمي لما
انصرف عن بلاد السند خلف ابنه عيينة بن موسى فخالف عليه قوم ممن كان معه من ربيعة
واليمن فقتل عامتهم وأظهروا المعصية فوجه أبو جعفر عمر بن حفص هزارمرد إلى السند
فلم يسلم عيينة ومنعه من الدخول فأقام بالديبل وكان معه عقبة بن مسلم وحاربه عمر
بن حفص وكان أصحاب عيينة يستأمنون إلى عمر فطلب عيينة الصلح فصالحه وأخرجه مع رسله
وبعث به إلى المنصور.
وأقام عمر بن حفص
بالمنصورة ومضى عيينة مع رسله حتى إذا كان في بعض الطريق هرب من الرسل ومضى يريد
سجستان حتى دنا من الرخج فضربه قوم من اليمانية فقتلوه وذهبوا برأسه إلى المنصور.
وأقام عمر بن حفص
بالسند سنتين ثم عزله أبو جعفر وولى هشام بن عمرو التغلبي فصار إلى المنصورة فأقام
بها ووجه إلى ناحية الهند بجيش فغنموا وأصابوا رقيقا وقيل لهشام: إن المنصورة لا
تحملك والملتان بلاد واسعة ومنها معرى فسار إليها فاستخلف على المنصورة أخاه بسطام
بن عمرو فلما قرب من الملتان خرج صاحبها إليه في خلق ليرده والتقيا فكانت بينهما
وقعة عظيمة ثم انهزم صاحب الملتان وظفر هشام ونزل المدينة وسبى سبياً كثيراً ثم
عمل السفن وحملها على نهر السند حتى القندهار ففتحها وسبى وهدم البد وبنى موضعه
مسجداً ثم قدم إلى المنصور بما لم يقدم به أحد من السند فلم يقم بالعراق إلا
قليلاً حتى مات فولى المنصور معبد بن الخليل التميمي فكان محموداً في البلد.
وصار أبو جعفر إلى
بغداد سنة 144 فقال: ما رأيت موضعا أصلح لبناء مدينة من هذا الموضع بين دجلة
والفرات وشريعة البصرة والأبلة وفارس وما والاها والموصل والجزيرة والشام ومصر
والمغرب ومدرجة الجبل وخراسان فاختط مدينته المعروفة بمدينة أبي جعفر في الجانب
الغربي من دجلة وجعل لها أربعة أبواب بابا سماه باب خراسان شرع على دجلة وبابا
سماه باب البصرة شرع على الصراة التي تأخذ من الفرات وتصل إلى دجلة وبابا سماه باب
الكوفة وبابا سماه باب الشام وعلى كل باب من هذه الأبواب مجالس وقباب مذهبة يصعد
إليها على الخيل وجعل عرض السور من سفل سبعين ذراعاً وضرب على سائر بغداد سوراً
وجد في البناء وأحضر المهندسين والبنائين والفعلة من كل بلد وأقطع مواليه وقواده
القطائع داخل المدينة فدروب المدينة تنسب إليهم وأخذهم بالبناء وأقطع آخرين على
أبواب المدينة وأقطع الجند أرباض المدينة وأقطع أهل بيته الأطراف وأقطع ابنه
المهدي وجماعة من أهل بيته ومواليه وقواده.
وشخص المهدي من
خراسان منصرفاً إلى العراق في هذه السنة وهي سنة 144 فخرج أبو جعفر لاستقباله
بنهاوند وقدم فصار إلى الكوفة فنزل الحيرة والمدينة التي بناها المنصور وسماها
الهاشمية فأقام المهدي أياماً ثم ابتنى بريطة بنت أبي العباس بالحيرة.
وبلغ المنصور أن محمد
بن عبد الله بن حسن بن حسن قد تحرك بالمدينة فكاتبه أهل البلدان فخرج حاجا ولم
يدخل المدينة في منصرفه وصار إلى الربذة فأتي بجماعة من العلويين ومعهم محمد بن
عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو أخو عبد الله بن حسن لأمه فسألهم عن محمد بن عبد
الله بن حسن بن حسن فقالوا: ما نعلم له موضعا ولا نعرف له خبراً فقال لمحمد بن عبد
الله بن عمرو بن عثمان: أقطعتك ووصلتك وفعلت وفعلت ولم أؤاخذك بذنوب أهل بيتك ثم
تستميل على عدوي وتطوي أمره عني ثم أمر به فضرب ضرباً شديداً وطيف به بالربذة على
حمار وأشخص القوم جميعاً على أقتاب بغير وطاء.
وانصرف أبو جعفر من
حجه فصار إلى بغداد ونزل مدينته المعروفة بباب الذهب سنة 145 وكانت الأسواق داخل
المدينة فأخرجها إلى الكرخ ولم يقر أبو جعفر إلا أياماً حتى أتاه الخبر بخروج محمد
بن عبد الله بن حسن بن حسن وظهور أمره فرجع إلى الكوفة فأقام بقصر ابن هبيرة بين
الكوفة وبغداد أياماً وولي رياح بن عثمان بن حيان المري المدينة وقال: ما وجدت لهم
غيرك ولا أعلم لهم سواك فلما قدم رياح المدينة قام على المنبر فخطب خطبة له مشهورة
يقول فيها: يا أهل المدينة أنا الأفعى ابن الأفعى ابن عثمان بن حيان وابن عم مسلم
بن عقبة المبيد خضراكم المفني رجالكم والله لأدعها بلقعاً لا ينبح فيها كلب.
فوثب عليه قوم منهم
وكلموه وقالوا: والله يا ابن المجلود حدين لتكفن أو لنكفنك عن أنفسنا فكتب إلى أبي
جعفر يخبره بسوء طاعة أهل المدينة فأرسل أبو جعفر إلى رياح رسولاً وكتب معه كتاباً
إلى أهل المدينة يأمره أن يقرأه عليهم وكان في الكتاب: أما بعد يا أهل المدينة فإن
واليكم كتب إلي يذكر غشكم وخلافكم وسوء رأيكم واستمالتكم على بيعة أمير المؤمنين
وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنزعوا ليبدلنكم بعد امنكم خوفا وليقطعن البر
والبحر عنكم وليبعثن عليكم رجالاً غلاظ الأكباد بعاد الأرحام بنو قعر بيوتكم
يفعلون ما يؤمرون والسلام.
فصعد رياح المنبر
وقرأ الكتاب فلما بلغ: يذكر غشكم صاحوا من كل جانب: كذبت يا ابن المجلود حدين
ورموه بالحصى وبادر المقصورة فأغلقها فدخل دار مروان ودخل عليه أيوب بن سلمة بن
عبد الله بن الوليد المخزومي فقال: أصلح الله الأمير إنما يصنع هذا رعاع الناس
فاقطع أيديهم وأجلد ظهورهم فقال له بعض من حضر من بني هاشم: لا نرى هذا ولكن أرسل
إلى وجوه الناس وغيرهم من أهل المدينة فاقرأ عليهم كتاب المنصور فجمعهم وقرأ عليهم
كتاب المنصور فوثب حفص بن عمر بن عبد الله بن عوف الزهري وأبو عبيدة بن عبد الرحمن
بن الأزهر هذا من ناحية وهذا من ناحية فقالا لرياح: كذبت والله ما أمرتنا فعصيناك
ولا دعوتنا فخالفناك ثم قالا للرسول: أتبلغ أمير المؤمنين عنا قال: ما جئت إلا
لذلك قالا: فقل له: أما قولك إنك تبدل المدينة وأهلها بالأمن خوفاً فإن الله عز
وجل وعدنا غير هذا قال الله عز وجل: وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا
يشركون بي شيئاً فنحن نعبده لا نشرك به شيئاً.
وظهر محمد بن عبد
الله بن حسن بن حسن بالمدينة مستهل رجب سنة 145 فاجتمع معه خلق عظيم وأتته كتب أهل
البلدان ووفودهم فأخذ رياح ابن عثمان المري عامل أبي جعفر فأوثقه بالحديد وحبسه
وتوجه إبراهيم ابن عبد الله بن حسن بن حسن إلى البصرة وقد اجتمع جماعة فأقام
مستترا وهو يكاتب الناس ويدعوهم إلى طاعته فلما بلغ أبا جعفر أراد الخروج إلى
المدينة ثم خاف أن يدع العراق مع ما بلغه من أمر إبراهيم فوجه عيسى بن موسى
الهاشمي ومعه حميد بن قحطبة الطائي في جيش عظيم فصار إلى المدينة وخرج محمد إليه في
أصحابه فقاتلهم في شهر رمضان ومضى أصحابه إلى الحبس فقتل رياح بن عثمان.
وكانت أسماء ابنة عبد
الله بن عبيد الله بن العباس بالمدينة وكانت معادية لمحمد بن عبد الله فوجهت بخمار
أسود قد جعلته على قصبة مع مولى لها حتى نصبه على مئذنة المسجد ووجهت بمولى لها
يقال له مجيب العامري إلى عسكر محمد فصاح: الهزيمة الهزيمة قد دخل المسودة المدينة فلما رأى الناس العلم الأسود
وانهزموا وأقام محمد يقاتل حتى قتل.
فلما قتل محمد بن عبد
الله بن حسن وجه عيسى بن موسى كثير بن الحصين العبدي إلى المدينة فدخلها فتتبع
أصحاب محمد فقتلهم وانصرف إلى العراق وكان إبراهيم بن عبد الله قصد إلى الكوفة وهو
لا يشك أن أهل الكوفة يثبون معه بأبي جعفر فلما صار بالكوفة لم يجد ناصراً وبلغ
أبا جعفر خبره فوضع الأرصاد والحرس بكل موضع فرام الخروج فلم يقدر فعلم أنه قد
أخطأ فأعمل الحيلة وكان مع إبراهيم رجل يقال له سفيان بن يزيد العمي فصار إلى أبي
جعفر فقال له: يا أمير المؤمنين تؤمنني وأدلك على إبراهيم بعد أن أدفعه إليك فقال:
أنت آمن وأين هو قال: بالبصرة فوجه معي برجل تثق به وحملني على دواب البريد واكتب
إلى عامل البصرة حتى أدله عليه فيقبض عليه فوجه معه بأبي سويد صاحب طاقات أبي سويد
ببغداد في باب الشام فخرج ومعه غلام عليه جبة صوف وعلى عنقه سفرة فيها طعام حتى
ركب البريد معه أبو سويد وذلك الغلام فلما صار إلى البصرة قال سفيان لأبي سويد
انتظرني حتى أعرف خبر الرجل ومضى فلم يعد وكان الغلام الذي عليه الجبة الصوف
إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن فلما أبطأ صار أبو سويد إلى سفيان بن معاوية بن
يزيد بن المهلب وكان عامل الناحية فقال له: أين الرجل قال: لا أدري فكتب إلى أبي
جعفر فعلم أنه إبراهيم وأنها حيلة.
وخرج إبراهيم بن عبد
الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب بالبصرة وقد بايع أهلها وكان خروجه في أول
شهر رمضان فقصد دار الإمارة والأمير سفيان بن معاوية المهلبي فتحصن منه في القصر
ثم طلب الأمان فأمنه إبراهيم فخرج سفيان بن معاوية وأسلم البلد فقبض إبراهيم على
بيت المال وغيره.
وكان في البلد جعفر
ومحمد ابنا سليمان بن علي فخرجا إلى ميسان فأقاما هناك متحصنين في خندق ووجه
إبراهيم بن عبد الله إلى الأهواز المغيرة بن الفزع السعدي فأخرج محمد بن الحصين
عاملها وغلب على البلد ووجه يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن
الحارث بن عبد المطلب إلى فارس فدخلها وأخرج عنها إسماعيل بن علي ووجه هارون ابن
سعد العجلي إلى واسط واستولى على ما حولها ووجه برد بن لبيد اليشكري إلى كسكر فغلب
عليها.
وخرج إبراهيم من
البصرة واستخلف نميلة بن مرة الأسعدي وكان قد أحصى ديوانه فكانوا ستين ألفاً فخرج
من البصرة في أول ذي القعدة فأخذ على كسكر يقصد المنصور وكان أبو جعفر قد كتب إلى
عيسى بن موسى يأمره بسرعة القدوم فلما وصله قال له: يا أبا موسى أنت أولى بالفتح
من جعفر ومحمد ابني سليمان فأنفذ ليكمل الله الظفر على يديك فخرج في ثمانية عشر
ألفاً من الجند وشيعة أبي جعفر وكتب إلى جعفر ومحمد ابني سليمان ابن علي أن يصيرا
معه.
وزحف إبراهيم حتى صار
إلى قرية يقال لها باخمرا وصار عيسى بن موسى إلى قرية يقال لها سحاً وقدم حميد بن
قحطبة الطائي للقتال والتحمت الحرب وكانت أشد حرب والدائرة على عيسى بن موسى حتى
شك الناس في علو إبراهيم وظفره ثم إن سلم بن قتيبة الباهلي خرج على أصحاب إبراهيم من
ناحية بخيل فتوهموا كمينا فانهزموا وبقي إبراهيم في أربعمائة من الزيدية يحارب أشد
محاربة وكان إبراهيم يدعو إلى أخيه محمد فلما قتل محمد دعا إلى نفسه.
وحدثني رجل من
القحطانية قال: أخبرني... قال: رأيت إبراهيم في اليوم الذي واقعه عيسى على بغلة
دهماء وسديف بن ميمون آخذ بثفر بغلته وهو يقول:
خذها أبا إسحاق
مليتها ... في سيرة ترضى وعمر طويل
وظهر إبراهيم ظهوراً
شديداً حتى هزم العسكر مرة بعد أخرى وزحف حتى قرب من الكوفة وحتى دعا أبو جعفر
بنجائبه ليصير إلى بغداد وكان العلو في إبراهيم حتى أنه لم يشك أنه يدخل الكوفة.
وكان أبو جعفر لا
ينام في تلك الليالي وحمل إليه امرأتان فاطمة بنت محمد الطلحية وأم الكريم بنت عبد
الله من ولد خالد بن أسيد فوجه بهما إلى بغداد ولم يكشف لهما كشفاً.
ولما أن هزم أصحاب
إبراهيم قام يحارب أشد حرب في أربعمائة من أصحابه إلى أن قتل وأخذ رأسه فوجه به إلى
أبي جعفر وهو بالكوفة فوضع بين يديه وأذن للناس فجعلوا يدخلون فينالون من إبراهيم
وأخيه وأهله حتى دخل جعفر بن حنظلة البهراني فقال: أعظم الله أجرك يا أمير
المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك فسر بذلك أبو جعفر وقال: أبا خالد
مرحباً وأهلاً هاهنا فعلم الناس أنه قد سرته مقالته فقالوا مثل قوله.
وأتاه الحسن بن زيد
فعرض عليه الرأس فلما رآه استنقع لونه وتغير وجهه فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد قتلته صواما قواماً وما كنت أحب أن تبوء
بإثمه فقال له رجل من أهله: كأنك تزري على أمير المؤمنين في قتله فقال: كأنك أردت
مني أن أكذب عليه وقد صار إلى الله فقال أبو جعفر: والله ما كنت أنتظر إلا أن يدخل
صاحبك من ذلك الباب فأدعو بك فأضرب عنقك واخرج من الباب الآخر فقال له: أو كنت
أسبقك إلى ذلك.
وانصرف أبو جعفر بعد
قتل إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بثلاثة أشهر فنزل مدينة بغداد نزول مستوطن
في شهر ربيع الأول سنة 146 وكان ذلك من شهور العجم في تموز وأشخص المهدي إلى
خراسان عاملاً عليها ومعه وجوه الجند والصحابة فاجتمع قواد خراسان إلى أبي جعفر
وذكروا له فعال المهدي في نبل أخلاقه ومدحوه وسألوه أن يصير إليه تولية العهد من
بعده فكتب إلى عيسى بن موسى وهو بالكوفة يعلمه ما قد وقع بقلوب أهل خراسان وغيرهم
من هذا الأمر وكان عيسى بن موسى يقول: إن له ولاية العهد بعد أبي جعفر فلما ورد
عليه كتاب أبي جعفر بما اجتمع عليه القواد وأهل خراسان من تصيير ولاية العهد من
بعده للمهدي وأشار عليه بأن يسبق إلى ذلك كتب إليه عيسى يعظم عليه هذا الأمر ويذكر
له ما في نكث العهود ونقض الأيمان وأنه لا يأمن أن يفعل الناس هذا في بيعته وبيعة
ابنه وجرت بينهما مراسلات. وقدم عيسى بغداد فوثب به الجند يوماً بعد يوم وصاروا
إلى بابه حتى خاف على نفسه فلما رأى ذلك رضي وسلم فبايع المنصور بولاية العهد
لابنه المهدي سنة 147 ولم يبق أحد إلا دخل في البيعة وجعل لعيسى ولاية العهد بعد
المهدي والمهدي يومئذ بخراسان وأتته كتب أبيه بالبيعة له فبايع من معه من القواد
وأهل خراسان جميعاً خلا باذغيس فإنه خالف بها استاذسيس فادعى النبوة وصحبه على ذلك
خلق كثير فوجه إليه المهدي خازم بن خزيمة التميمي فحاربه ففض جموعه فأسره وحمله
إلى أبي جعفر إلى بغداد فقتله وفي هذه السنة كان انقضاض الكواكب.
؟وفاة أبي عبد الله جعفر بن محمد وآدابه
وتوفي أبو عبد الله
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه أم فروة بنت القاسم بن
محمد بن أبي بكر بالمدينة سنة 148 وله ست وستون سنة وكان أفضل الناس وأعلمهم بدين
الله وكان من أهل العلم الذين سمعوا منه إذا رووا عنه قالوا: أخبرنا العالم.
قال سفيان: سمعت
جعفراً يقول: الوقوف عند كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة وترك حديث لم نروه
أفضل من روايتك حديثاً لم تحصه إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً فما وافق
كتاب الله فخذوه وما خالفه فدعوه.
وقال جعفر: ثلاثة يجب
لهم الرحمة: غني افتقر وعزيز قوم ذل وعالم تلاعب به الجهال.
وقال:
من أخرجه الله من ذل
المعاصي إلى عز التقوى أغناه الله بغير مال وأعزه الله بغير عشيرة ومن خاف الله
أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء ومن رضي من الله
باليسير من الرزق رضي منه باليسير من العمل ومن لم يستح من طلب الحلال خفت مؤونته
ونعم أهله ومن زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه فأطلق لسانه من أمور الدنيا
دائها ودوائها وأخرجه منها سالماً.
وروي أنه قال لما
نزلت على رسول الله: لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم الآية قال: ومن لم
يتعز بعزاء رسول الله صلى الله عليه وسلم تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ومن اتبع
طرفة ما في أيدي الناس طال همه ولم يشف غيظه ومن لم ير الله عليه نعمة إلا في كل
مأكل ومشرب فقد قصر عمره ودنا عذابه وقال: ما أنعم الله على عبد نعمة فعرفها بقلبه
وشكرها بلسانه إلا ما أعطي خير مما أخذ.
وقال:
إن مما ناجى الله عز
وجل به موسى: يا موسى لا تنسني على حال ولا تفرح بكثرة المال فإن نسياني يميت
القلب وعند كثرة المال تكثر الذنوب يا موسى كل زمان يأتي بالشدة بعد الشدة
وبالرخاء بعد الرخاء والملك بعد الملك وملكي قائم لا يزول ولا يخفى على شيء في
الأرض ولا في السماء وكيف يخفى على ما كان ابتداؤه مني وكيف لا تكون همتك فيما
عندي وأنت ترجع لا محالة إلي.
وقال:
خلتان من لزمهما دخل
الجنة فقيل: وما هما قال: احتمال ما تكره إذا أحبه الله وترك ما تحب إذا كرهه الله
فقيل له: من يطيق ذلك فقال: من هرب من النار إلى الجنة.
وقال:
فعل المعروف يمنع
ميتة السوء والصدقة تطفئ غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر وتنفي الفقر وقول لا
حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة.
وقال:
ما توسل إلي أحد
بوسيلة ولا تذرع بذريعة هي أحب إلي ولا أقرب مني من يد أسلفته إياها أتبع بها
أختها لأحسن ريها وحفظها إذا كان منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل وما سمحت نفسي
برد بكر من الحوائج وقال: أوحى الله إلى موسى بن عمران: أدخل يدك في فم التنين إلى
المرفق فهو خير لك من مسألة من لم يكن للمسألة بمكان.
وقال:
لا تخالطن من الناس
خمسة: الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك والكذاب فإن كلامه كالسراب يقرب منك البعيد
ويباعد منك القريب والفاسق فإنه يبيعك بأكلة أو شربه والبخيل فإنه يخذلك أحوج ما
تكون إليه والجبان فإنه يسلمك ويتسلم الدية. وقال: المؤمنون يألفون ويؤلفون ويغشى
رحلهم.
وقال:
من غضب عليك ثلاث
مرات فلم يقل فيك سوءاً فاتخذه لك خلاً ومن أراد أن تصفو له مودة أخيه فلا يمارينه
ولا يمازجنه ولا يعده ميعاداً فيخلفه.
وكان لجعفر بن محمد
من الولد إسماعيل وعبد الله ومحمد وموسى وعلي والعباس.
قال إسماعيل بن علي
بن عبد الله بن عباس: دخلت على أبي جعفر المنصور يوماً وقد اخضلت لحيته بالدموع
فقال لي: ما علمت ما نزل بأهلك فقلت: وما ذلك يا أمير المؤمنين قال: فإن سيدهم وعالمهم
وبقية الأخيار منهم توفي فقلت: ومن هو يا أمير المؤمنين قال: جعفر بن محمد فقلت:
أعظم الله أجر أمير المؤمنين وأطال لنا بقاءه فقال لي: إن جعفراً كان ممن قال الله
فيه: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا وكان ممن اصطفى الله وكان من
السابقين بالخيرات.
وكان إسماعيل بن علي
من خيار بني هاشم وأفاضلهم ولاه أبو جعفر المنصور فارس وقد خرج مهلهل الحروري بها
فلقيه في جمع فقتله وهزم عسكره وأسر من أصحابه أربعمائة وكان عبد الصمد أخوه معه
فقال: أصلح الله الأمير اضرب أعناقهم فقال له إسماعيل بن علي: إن أول من علم قتال
أهل القبلة علي بن أبي طالب ولم يكن يقتل أسيراً ولا يتبع منهزماً ولا يجهز على
جريح.
وكان صالح بن علي بن
عبد الله بن عباس يتولى لأبي جعفر قنسرين والعواصم فبلغه كثرة عدده ومواليه فخافه
فكتب إليه في القدوم عليه فكتب: أنه شديد العلة فلم يقبل ذلك وكان قد سل فصار إلى
بغداد فلما رآه أبو جعفر صرفه ولم يأمر له بصلة ولا بر فقال: إن أمير المؤمنين يئس
مني ففعل هذا بي والله يحيى العظام وهي رميم فلما صار إلى عانات من كور الفرات مات
وكان نظير أبي جعفر في السن.
وولي أبو جعفر أهل
بيته البلدان فولى إسماعيل بن علي فارس وسليمان ابن علي البصرة وعيسى بن موسى
الكوفة وصالح بن علي قنسرين والعواصم والعباس بن محمد الجزيرة وعبد الله بن صالح
حمص والفضل بن صالح دمشق ومحمد بن إبراهيم الأردن وعبد الوهاب بن إبراهيم فلسطين
والسري بن عبد الله بن تمام بن العباس بن عبد المطلب مكة وجعفر بن سليمان المدينة
ويحيى بن محمد الموصل ثم صرفه وولي ابنه جعفراً وصير معه هشام بن عمرو.
وكان عماله من العرب
يزيد بن حاتم المهلبي ومحمد بن الأشعث الخزاعي وزياد بن عبيد الله الحارثي ومعن بن
زائدة الشيباني وخازم بن خزيمة التميمي وعقبة بن سلم الهنائي ويزيد بن أسيد السلمي
وروح بن حاتم المهلبي والمسيب بن زهير الضبي وعمر بن حفص المهلبي والحسن بن قحطبة
الطائي وسلم بن قتيبة الباهلي وجعفر بن حنظلة البهراني والربيع بن زياد الحارثي
وهشام بن عمرو التغلبي فكان ينقل هؤلاء في أعماله لثقته بهم واعتماده عليهم وكان
عماله من مواليه: عمارة بن حمزة ومرزوقا أبا الخصيب وواضحا ومنارة والعلاء ورزينا
وغزوان وعطية وصاعداً ومريداً وأسداً والربيع.
وكتب المنصور إلى معن
بن زائدة الشيباني وهو على اليمن سنة 151 أن يقدم فاستخلف ابنه زائدة على اليمن
وقدم على أبي جعفر وكان معن قد أسن فقال له أبو جعفر: كبرت سنك يا معن قال: في
طاعتك يا أمير المؤمنين قال وإنك لتتجلد قال على أعدائك قال وإن فيك لبقية قال هي
لك فأنفذه إلى خراسان والمهدي بها فانصرف المهدي وأقام معن لقتال من هناك من
الخوارج حتى قتل منهم خلقا عظيما وأفناهم فلما رأوا انهم لا قوة لهم بمحاربته استعملوا
الحيلة وكان يبني دارا له ببست فدخل بعضهم في هيئة البنائين ثم صيروا السيوف في
طنان القصب فأقاموا أياما فلما توسطوا الدار أخرجوا السيوف ثم حملوا عليه وهو في
رداء فقتلوه فتجرد يزيد بن مزيد ابن أخيه فقتل من الخوارج خلقاً عظيماً حتى جرت
دماؤهم كالنهر ثم شخص إلى بغداد واتبعه الشراة وكان يركب في موكب ضخم من موالي عمه
وعشيرته فلم يظفروا له بغرة حتى صار على الجسر ببغداد فشدوا عليه فترجل فقتل منهم
خلقاً عظيماً وضربوه ضربات بالسيوف وكانت وقعة جليلة وقتل من الخوارج قتالاً
عظيماً وأمن الناس فلا يعلم أن الخوارج دخلت قط بغداد ظاهراً فقتلت أحداً إلا ذلك
اليوم وأقام زائدة بن معن بن زائدة خليفة أبيه باليمن حتى قتل أبوه واستعمل
المنصور مكانه الحجاج بن منصور ثم صرفه فاستعمل مكانه يزيد بن منصور.
وخالف أهل اليمامة
والبحرين سنة 152 وقتلوا أبا الساج عامل أبي جعفر عليهم فوجه عليهم عقبة بن سلم
الهنائي فقتل من بها من ربيعة مجازاة لما فعل معن باليمن وقال لو كان معن على فرس
جواد وأنا على حمار أعرج لسبقته إلى النار وسبى العرب والموالي.
وقدم على عقبة رسول
ببشارة من عند المنصور فقال له عقبة ما عندي مال فأعطيك إلا أنني أعطيك ما قيمته خمسمائة
ألف درهم قال وما ذاك قال أدفع إليك خمسين رجلاً من ربيعة فتنطلق بهم فإذا صرفت
إلى البصرة أظهرت أنك تريد ضرب أعناقهم وصلبهم على أبواب أعداء أمير المؤمنين فإنك
لا تشير إلى أحد إلا افتدى منك بعشرة آلاف درهم قال قد رضيت فدفعهم إليه فقدم بهم
البصرة ووقف بهم في المربد وأظهر أنه يريد ضرب أعناقهم وصلبهم فاجتمع الناس حتى
كادت تكون فتنة وسوار ابن عبد الله قاضي البصرة يومئذ فأرسل إلى الرسول فأحضره ثم
وجه فحبس القوم وقال تمسك عنهم حتى آمرك وكتب إلى المنصور بخبرهم وعظم عليه الخطب
منهم وكتب إليه أنه قد عفا عنهم وجزاه الخير.
وقتل إلياس بن حبيب
الفهري عامل إفريقية فولى أبو جعفر حبيب بن عبد الرحمن بن حبيب ابن أخي إلياس
فأقام بها مدة ووثب رجل يقال له عاصم بن جميل الإباضي فقتله وكثرت الإباضية
بإفريقية وولت عليهم أبا الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري فاستفحل أمره وغلب على
البلد فولى أبو جعفر محمد بن الأشعث الخزاعي فقدم طرابلس وزحف إليه أبو الخطاب من
القيروان فحاربه فقتله محمد بن الأشعث ووجه برأسه إلى أبي جعفر.
وصار محمد بن الأشعث
إلى القيروان فلم يقم إلا يسيرا حتى خرج عليه هاشم بن أشتاخنج الخراساني وضافره من
بالبلد من الجند وأهل خراسان فأخرجوه عن البلد وولوا عليهم رجلاً يقال له عيسى بن
موسى الخراساني وانصرف ابن الأشعث إلى العراق.
وكتب أبو جعفر إلى
الأغلب بن سالم التميمي بولاية البلد فوثب أهل إفريقية فنحوا الأغلب بن سالم وولوا
الحسن بن حرب فلما بلغ أبا جعفر الخبر كره اضطراب البلد وكتب إلى الحسن بن حرب
بولاية البلد فلما سكن البلد ولي عمر بن حفص المهلبي هزارمرد فقدم البلد فلم يقم
إلا يسيراً حتى وثب به يعقوب بن تميم الكندي المعروف بأبي حاتم ومعه أهل البلد
فحاصره بالقيروان فلم يزل محاصراً حتى قتل سنة 153 وغلب على البلد أبو حاتم يعقوب
بن تميم الإباضي.
وولى أبو جعفر يزيد
بن حاتم المهلبي المغرب سنة 154 وخرج يشيعه حتى أتى بيت المقدس فأمره بالنفوذ
وانصرف أبو جعفر فاستنفر الشامات والجزيرة وقدم يزيد بن حاتم مصر فأقام بها يسيراً
ثم شخص إلى إفريقية فصار إلى طرابلس في خلق عظيم وزحف إليه أبو حاتم الإباضي
فالتقيا بطرابلس فقاتله وقامت الحرب بينهما أياماً فقتل أبو حاتم وخلق عظيم من
أصحابه وقدم يزيد بن حاتم القيروان سنة 155ونادى في الناس جميعاً بالأمان ولم يزل
مقيماً على البلد خلافة أبي جعفر وخلافة المهدي وخلافة موسى وبعض خلافة الرشيد.
وتحرك أهل الطالقان
فوجه إليهم عمر بن العلاء ففتح الطالقان ودنباوند وديلمان وسبى من الديلم سبايا
كثيرة ثم صار إلى طبرستان فلم يزل مقيماً بها خلافة المنصور.
ووجه المنصور الليث
مولى أمير المؤمنين إلى فرغانة وملكها يومئذ فتران بن افراكفون ومنزله مدينة يقال
لها كاشغر فحاربهم محاربة شديدة حتى طلب ملك فرغانة الصلح فصالحهم على مال كثير
وأوفد ملك فرغانة رجلاً من أصحابه يقال له باتيجور فعرض عليه الإسلام فأبى فلم يزل
محبوساً إلى أيام المهدي وقال لا أخون الملك الذي وجهني.
وبنى أبو جعفر مدينة
المصيصة وكانت حصنا صغيرا قيل إن عبد الله ابن عبد الملك بن مروان كان بناه وكانت
الروم تطرقهم في كل وقت فتستبيح ذلك الموضع فبنى عليها السور وجعل عليها الخندق
وأسكنها المقاتلة وحمل إليها أهل المحابس وكان الذي تولى بناءها العباس بن محمد
وصالح بن علي وأخذ أبو جعفر أموال الناس حتى ما ترك عند أحد فضلاً وكان مبلغ ما
أخذ لهم ثمانمائة ألف ألف درهم وكان يقول لأهل بيته إني لأجهل موضعي حتى أحذر منكم
لأنه ما فيكم إلا عم وأخ وابن عم وابن أخ فأنا أراعيكم ببصري واهتم بكم بنفسي
فالله الله في أنفسكم فصونوا وفي أموالكم فاحتفظوا بها وإياكم والإسراف فيوشك أن
تصيروا من ولد ولدي إلى من لا يعرف الرجل حتى يقول له من أنت؟ وكان يقول الملوك
ثلاثة فمعاوية وكفاه زيادة وعبد الملك وكفاه حجاجه وأنا ولا كافي لي.
وكان يقول من قل ماله
قل رجاله ومن قل رجاله قوي عليه عدوه ومن قوي عليه عدوه اتضع ملكه ومن اتضع ملكه
استبيح حماه.
وقال يوماً لأصحابه
إن هذا الملك أفضى إلي وأنا حنيك السن قد حلبت هذا الدهر أشطره وزاحمت المشاة في
الأسواق وشاهدتهم في المواسم وغازيتهم في المغازي فو الله ما أحب أن أزداد بهم
خبرا على أني أحب أن أعلم ما أحدثوا بعدي منذ تواريت عنهم بهذه الجدارات وتشاغلت
عنهم بأمورهم مع إني والله ما لمت نفسي أن أكون قد أذكيت العيون عليهم حتى أتتني
أخبارهم وهم في منازلهم.
وحدثني بعض أشياخنا
قال إن أبا جعفر يوماً ليخطب ويذكر الله إذ قام إليه رجل فقال أذكرك من تذكر يا
أمير المؤمنين به فقال سمعاً سمعاً لمن قبل عن الله وذكر به وأعوذ بالله أن تأخذني
العزة بالإثم لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين وأنت أيها القائل ما الله أردت بها
وإنما أردت أن يقال قام وقال وعوقب فصبر وأهون بقائلها لو هممت فاهتبلها ويلك إذ
غفرت وإياك وإياكم أيها الناس وأختها فإن الحكمة علينا نزلت ومن عندنا فصلت وردوا
الأمر إلى أهله تصدروه كما أوردوه ثم عاد إلى الموضع من الخطبة.
وحج أبو جعفر في
خلافته خمس حجج سنة 140 و141 و147 و152 و158 فلم يتم الحج وهلك في أول العشر فأقام
الحج إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي.
وقال أبو جعفر لما
حضرته الوفاة لمواليه إني كنت رأيت في المنام قبل أن يفضي هذا الأمر إلينا كانا في
المسجد الحرام إذ خرج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت ومعه لواء فقال أين عبد
الله فقمت أنا وأخي وعمي فسبقنا أخي يعني أبا العباس فأخذ اللواء فخطا به خطوات
أحصيها وأعدها ثم سقط وسقط اللواء من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
رجع إلى موضعه فقال أين عبد الله فقمت أنا وعمي فزحمت عمي فألقيته وتقدمت فأخذت
اللواء فخطوت به خطوات أحصيها وأعدها ثم سقطت وسقط اللواء من يدي وقد انقضت تلك
الخطأ وأنا ميت في يومي.
ومات لثلاث خلون من
ذي الحجة سنة 158 وهو ابن 68 سنة ودفن ببئر ميمون وصلى عليه ابنه صالح فكانت
ولايته 22 سنة وخلف من الولد الذكور ستة محمداً المهدي وأمه أم موسى بنت منصور
الحميريه وصالحا ويعقوب وأمهما الطلحية... وكان ابنه جعفر الأكبر قد توفي في حياته
وأمه أم موسى بنت منصور الحميريه.
وكان الغالب عليه أبو
أيوب الخوزي وكان أبو أيوب كاتباً لسليمان ابن حبيب المهلبي الذي كان أبو جعفر
عامله في أيام بني أمية فعتب على أبي جعفر فأمر بضربه وحبسه فتخلصه أبو أيوب فحفظ
ذلك له فاستوزره ثم سخط عليه وقتله واستصفى ماله وقتله سنة 154 ولم يعرف أن أحداً
غلب عليه بعد وكان له سمار منهم هشام بن عمرو التغلبي وعبد الله بن الربيع الحارثي
وإسحاق بن مسلم العقيلي والحارث بن عبد الرحمن الحرشي وكان أول من ولي القضاة
الأمصار من قبله وكان يوليهم أصحاب المعاون وكان قضاته عثمان بن عمر التميمي ويحيى
بن سعيد الأنصاري ثم عبد الله بن صفوان الجمحي وعلى الكوفة شريك بن عبد الله
النخعي وعلى البصرة عمر بن عامر السلمي ثم سوار بن عبد الله العنبري وعلى مصر عبد
الله بن لهيعة الحضرمي وعلى شرطة عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي إلى أن عزله
وولاه خراسان واستعمل أخاه عمر بن عبد الرحمن ثم عزله لما عصى أخوه وفتك به
واستعمل موسى بن كعب التميمي ثم المسيب ابن زهير الضبي وكان في أول أمره خليفة
موسى بن كعب ثم مات موسى وكان كعب بن مالك على حرسه ثم عثمان بن نهيك ثم استعمل
مكانه أبا العباس الطوسي وكان حاجبه عيسى بن روضة مولاه ثم حجبه الربيع مولاه وغلب
على أكثر أموره.
وأقام الحج للناس في
أيامه في سنة 136 إسماعيل بن علي وقيل أبو جعفر وكان معه أبو مسلم سنة 137 إسماعيل
بن علي سنة 138 فضل بن صالح ابن علي سنة 139 وهو عام الخصب العباس بن محمد بن علي
سنة 140 أبو جعفر المنصور سنة 141 صالح بن علي وهو على دمشق وحمص وقنسرين سنة 142
إسماعيل بن علي سنة 143 عيسى بن موسى بن محمد ابن علي سنة 144 أبو جعفر المنصور
سنة 145 السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس بن عبد المطلب سنة 146 عبد الوهاب
بن إبراهيم بن محمد بن علي سنة 147 أبو جعفر المنصور سنة 148 جعفر ابنه سنة 149
محمد بن إبراهيم بن علي سنة 150 عبد الصمد بن علي سنة 151 محمد بن إبراهيم سنة 152
أبو جعفر المنصور سنة 153 المهدي وهو ولي عهد أبيه سنة 154
محمد بن إبراهيم سنة
155 عبد الصمد بن علي سنة 156 العباس بن محمد سنة 157 إبراهيم بن يحيى بن محمد بن
علي سنة 158 خرج أبو جعفر يريد الحج فمات وأقام الحج إبراهيم. وغزا بالناس في
أيامه سنة 138 صالح بن علي على جند الشام والعباس بن محمد بن علي على خراسان ولم
يغز بلاد الروم منذ غزا الغمر بن يزيد في سنة 152 إلى هذه الغاية وأقام صالح بن
علي واليا على الشام والثغور وهو يغزي بلاد الروم أمراء من قبله عليهم ابنه الفضل
بن صالح وغيره سنة 142 العباس بن محمد سنة 143 العباس أيضاً سنة 145 حميد بن قحطبة سنة 146
محمد بن إبراهيم سنة 147 السري بن عبد الله بن الحارث سنة 148 الفضل بن صالح سنة
149 يزيد بن أسيد سنة 155 يزيد بن أسيد سنة 157 زفر بن عاصم الهلالي.
وكان الفقهاء في
زمانه يحيى بن سعيد الأنصاري محمد بن عبد الرحمن بن أبي طوالة هشام بن عروة بن
الزبير محمد بن عمر بن علقمة موسى ابن عبيدة بن أبي صعصعة ربيعة الرأي وهو ابن أبي
عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عثمان بن الأسود حنظلة بن أبي سفيان عبد
الملك بن جريج عبد العزيز بن أبي الرواد إبراهيم بن يزيد محمد يزيد الأتدي أبا سار
البشاري واسمه هرار بن مرة سليمان بن مهران الكاهلي الحسن بن عبد الله النخعي أبا
حيان يحيى بن سعيد التيمي مجالد بن سعيد محمد بن السائب الكلبي الأجلح بن عبد الله
الكندي البرا بن أبي زائدة الهمداني يونس بن أبي إسحاق السبيعي الحسن بن عمر
الفقيمي محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى الحجاج بن أرطأة أبا حنيفة النعمان بن
ثابت محمد بن عبد الله العرزمي الحسن بن عمارة مسعر بن كدام أبا حمزة الثمالي
سفيان بن سعيد الثوري عبد الجبار بن عباس الهمداني يحيى بن سلمة بن كهيل عبد الله
بن عون المزني خالد بن مهران أبا المعتمر سليمان التيمي عمرو بن عبيد سوار بن عبد
الله أبا الأشهب العطاردي حميد الطويل شعبة بن الحجاج العبدي حماد بن سلمة حماد بن
زيد عبد الله بن محرر عمرو بن قيس الكندي الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو غالب بن عبد
الله العقيلي.
؟؟
أيام المهديوهو محمد
بن عبد الله المنصور وأمه أم موسى بنت منصور بن عبد الله بن ذي سهم بن يزيد
الحميري وبويع في اليوم الذي توفي فيه المنصور وأخذ الربيع له البيعة بمكة على من
حضر من الهاشميين والقواد وكان صالح بن المنصور حاضرا وموسى بن المهدي فأنفذ إليه
الخبر مع منارة مولى أبي جعفر ووصيته فسار منارة اثني عشر يوماً إلى بغداد والمهدي
بها فأحضر القواد والهاشميين والصحابة فبايعوا.
وكانت الشمس يومئذ في
الميزان أربعا وعشرين درجة وخمسين دقيقة والقمر في الجوزاء عشرين درجة وخمسين
دقيقة وزحل في الميزان ثماني عشرة درجة وخمسين دقيقة والمشتري في الجدي سبع عشرة
درجة وأربعين دقيقة والمريخ في الجوزاء خمس درجات وأربعين دقيقة راجعا والزهرة في
الميزان خمساً وعشرين درجة وأربعين دقيقة وعطارد في العقرب ثماني عشرة درجة وعشر
دقائق والرأس في الثور تسع درجات وعشر دقائق.
وقرأ المهدي وصية أبي
جعفر وكانت نسختها بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد عبد الله أمير المؤمنين إلى
المهدي محمد ابن أمير المؤمنين ولي عهد المسلمين حين أسند وصيته إليه بعده
واستخلفه على الرعية من المسلمين وأهل الذمة وحرم الله وخزائنه وأرضه التي يورثها
من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين إن أمير المؤمنين يوصيك بتقوى الله في البلاد
والعمل بطاعته في
العباد ويحذرك الحسرة
والندامة والفضيحة في القيامة قبل حلول الموت وعاقبة الفوت حين تقول رب لو لا
أخرتني إلى أجل قريب هيهات أين منك المهل وقد انقضى عنك الأجل وتقول رب ارجعني
لعلي أعمل صالحاً فحينئذ ينقطع عنك أهلك ويحل بك عملك فترى ما قدمته يداك وسعت فيه
قدماك ونطق به لسانك واستركبت عليه جوارحك ولحظت له عينك وانطوى عليه غيبك فتجزي
عليه الجزاء الأوفى إن شرا فشرا وإن خيراً فخيراً فلتكن تقوى الله من شأنك وطاعته
من بالك استعن بالله على دينك وتقرب به إلى ربك ونفسك فخذ منها ولا تجعلها للهوى
ولن تعمل الشر قامعا فليس أحد أكثر وزراً ولا أعز إثماً ولا أعظم مصيبة ولا أجل
رزيئة منك لتكاثف ذنوبك وتضاعف أعمالك إذ قلدك الله الرعية تحكم فيهم بمثل الذرة
فيقتضون منك أجمعون وتكافي على أفعال ولاتك الظالمين فإن الله يقول إنك ميت وإنهم
ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون فكأني بك وقد أوقفت بين يدي الجبار
وخذلك الأنصار وأسلمك الأعوان وطوقت الخطايا وقرنت بك الذنوب وحل بك الوجل وقعد بك
الفشل وكلت حجتك وقلت حيلتك وأخذت منك الحقوق وأقتاد منك المخلوق في يوم شديد هوله
عظيم كربه تشخص فيه الأبصار لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع
فما عسيت أن يكون حالك يومئذ إذا خاصمك الخلق واستقضى عليك الحق إذ لا خاصة تنجيك
ولا قرابة تحميك تطلب فيه التباعة ولا تقبل فيه الشفاعة ويعمل فيه بالعدل ويقضي
فيه بالفضل قال الله لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب فعليك بالتشمير لدينك
والاجتهاد لنفسك فافكك عنقك وبادر يومك واحذر غدك واتق دنياك فإنها دنيا غادرة
موبقة ولتصدق لله نيتك وتعظم إليه فاقتك وليتسع إنصافك وينبسط عدلك ويؤمن ظلمك
وواس بين الرعية في الاحتكام واطلب بجهدك رضي الرحمن وأهل الدين فليكونوا أعضادك
وأعط حظ المسلمين من أموالهم ووفر لهم فيأهم وتابع أعطياتهم عليهم وعجل بنفقاتهم
إليهم سنة سنة وشهرا شهراً وعليك بعمارة البلاد بتخفيف الخراج واستصلح الناس
بالسيرة الحسنة والسياسة الجميلة وليكن أهم أمورك إليك تحفظ أطرافك وسد ثغورك وإكماش
بعوثك وارغب إلى الله عز وجل في الجهاد والمحاماة عن دينه وإهلاك عدوه بما يفتح
الله على المسلمين ويمكن لهم في الدين وابذل في ذلك مهجتك ونجدتك ومالك وتفقد
جيوشك ليلك ونهارك واعرف مراكز خيلك ومواطن رحلك وبالله فليكن عصمتك وحولك وقوتك
وعليه فليكن ثقتك واقتدارك وتوكلك فإنه يكفيك ويغنيك وينصرك وكفى به مؤيداً
ونصيراً وأمره بعد ذلك بأمور يطول الكتاب بها فاقتصرنا على صدر الوصية.
وأظهر جزعاً شديداً
على المنصور ووردت الوفود عليه يعزونه فجعل كل قوم يقولون بما أمكنهم حتى دخل شبيب
بن شيبة فعزاه ثم قال يا أمير المؤمنين إن الله لم يرض لك إذ قسم لك الدنيا إلا
بأسناها وأرفعها فلا ترض لنفسك من الآخرة إلا بمثل ما رضي الله لك من الدنيا وعليك
بتقوى الله فإنها عليكم نزلت ومنكم أخذت وإليكم ردت.
وقدم الربيع مستهل
المحرم ومعه مفاتيح الخزائن فجلس المهدي للناس في النصف من المحرم وأمر الربيع
فأحضر دفتر القبوض ووجه إلى كل من كان أبو جعفر قبض شيئاً من ماله فأحضره وأقبل
عليهم فقال إن أمير المؤمنين المنصور كان بما حمله الله من أموركم وقلده من
رعايتكم يدبر عليكم كما يدبر الوالد البر على ولده وكان أنظر لكم منكم لأنفسكم
وكان يحفظ عليكم ما لا تحفظون على أنفسكم فحرس لكم من أموالكم ما لم يأمن ذهابه
وهذه أموالكم مبارك لكم فيها فخللوا أمير المؤمنين من إبطائها عنكم ثم أمر بإخراج
من في المحابس من الطالبيين وغيرهم من سائر الناس فأطلقهم وأمر لهم بجوائز وصلات
وأرزاق داره ثم أطلق سائر الناس ولم يطلق أحداً إلا وكساه ووصله على قدره حتى بلغ
إلى عبد الله بن مروان وكان في الحبس من أيام أبي العباس فأمر بتخلية سبيله وأعطاه
عشرة آلاف درهم فقال له عيسى بن علي إن في أعناقنا بيعة له وقد كان هذا الرجل ولي
عهد أبيه وأنت أعلم وقد كان وهب لكاتبي جوهراً قيمته ثلاثون ألفاً.
وكان سبب الجوهر الذي
ذكره عيسى أن امرأة عبد الله بن مروان وهي أم يزيد قدمت الكوفة رجاء أن تجد من
تكلمه في زوجها وقيل لها لو كلمت عيسى بن علي فجاءت إلى كاتبه عباس بن يعقوب
فكلمته ووهبت له جوهراً كان بقي عندها وسألته أن يكلم عيسى فيتكلم فيه فأخذ الجوهر
ولم يكلمه فقال عبد الله بن الربيع الحارثي لما فعل المهدي ما فعل من رد الأموال
وإطلاق المحبسين وأمن الخائفين وصلات المعدمين سمعت المنصور يقول للمهدي لما ودعه
عند خروجه إلى مكة إني تركت الناس ثلاثة أصناف فقيراً لا يرجو إلا غناك وخائفاً لا
يرجو إلا أمنك ومسجونا لا يرجو الفرج إلا منك فإذا وليت فأذقهم طعم الرفاهية لا
تمدد لهم كل المد.
ودخل الحارث بن عبد
الرحمن إلى المهدي فذكر ما حضر من أمر المنصور ومكر الربيع وقال لقد رأيت من
تدبيره ما لا يهتدي إليه أحد قال وما ذاك قال لما توفي المنصور صير الربيع صالحا
أخاك في صدر المجلس وقدمه على جميع من حضر فلما دفن قدم ابنك موسى وقال لأخيك كنت
أولى بالتقدم لغيبة أخيك المهدي فلما صار أبوك تحت الأرض وولي الأمر أبو هذا كان
أولى بالتقدم منك فقال المهدي إن ساس الملك أحد فليسسه مثل الربيع.
وخلع المهدي عيسى بن
موسى من ولاية العهد واشترى ذلك بعشرة آلاف ألف درهم وبايع لابنه موسى بولاية
العهد من بعده سنة 159 ثم بايع لابنه هارون بولاية العهد بعد موسى.
وحج المهدي سنة 160
فجرد الكعبة وكساها القباطي والخز والديباج وطلى جدرانها بالمسك والعنبر من أعلاها
إلى أسفلها وكانت الكعبة في جانب المسجد لم تكن متوسطة فهدم حيطان المسجد الحرام
وزاد فيه زيادات واشترى من الناس دورهم ومنازلهم وأحضر الصناع والمهندسين من كل
بلد وكتب إلى واضح مولاه وعامله على مصر في حمل الأموال إلى مكة واتخاذ الآلات وما
يحتاج إليه من الذهب والفسيفساء وسلاسل القناديل والخروج بها حتى يسلمها إلى يقطين
بن موسى ومحمد بن عبد الرحمن وصير الكعبة في الموسط وزاد مما يلي الكعبة إلى باب
الصفا تسعين ذراعا ومن الكعبة إلى باب بني شيبة ستين ذراعا وصير ذرعه مكسرا مائة
ألف ذراع وعشرين ألف ذراع وطول المسجد من باب بني جمح إلى باب بني هاشم إلى العلم الأخضر
أربعمائة ذراع وأربع أذرع وفيه من الأساطين مما حمل في البحر من مصر أربعمائة
وأربع وثمانون أسطوانة طول كل أسطوانة عشر أذرع وصير فيه أربع مائة طاق وثمانية
وتسعين طاقاً وجعل في المسجد الأبواب ثلاثة وعشرين باباً فكان المهدي آخر من زاد
في المسجد الحرام وبنى العلمين اللذين يسعى بينهما وبين الصفا والمروة وبينهما من
الذرع مائة واثنتا عشرة ذراعاً فصار بين الصفا والمروة لما أخرج المسجد إلى الموضع
الذي هو فيه الساعة سبعمائة وأربع وخمسون ذراعاً ووسع المسجد الذي لرسول الله وزاد
فيه مثل ما كان عليه وحمل إليه عمد الرخام والفسيفساء والذهب ورفع سقفه وألبس خارج
القبر الرخام.
وبنى الثغر المعروف
بالحدث سنة 163 وكان فيه دفع للعدو وتسديد وذلك أن الروم أغاروا على مرعش فسبوا
وقتلوا خلقا فلما بنى المهدي الحدث عظم ارتفاق أهل الثغور به وأغزى هارون ابنه في
هذه السنة ومعه جماعة من القواد والجند وخرج يشيعه إلى جيحان ففتح هارون في تلك
الغزاة سمالو وعدة حصون ثم أغزاه سنة 164 فبلغ إلى القسطنطينية فطلب منه الروم الصلح فصالحهم وانصرف.
وعزل عقبة بن سلم
الهنائي عن اليمامة والبحرين لما بلغه من قتله ما قتل من ربيعة وقال لا يراني الله
أبوء بإثمه ولا أرضي فعله فلما قدم عقبة بن سلم لقيه الحسن بن قحطبة وقال له يا
عقبة أدخلت نفسك النار فقال ما أنصفتنى يا أبا الحسن أدخلت نفسي النار لأنفي عنك
العار.
وقدم غلام من أهل
اليمامة من ربيعة كان عقبة بن سلم قتل أباه وعمه وخالين له وخمسة إخوة فوقف له على
باب المهدي فلما جاز عقبة في موكبه ضربه بسكين مسمومة فقتله وأخذ الغلام إلى
المهدي فسأله عن قصته فقصها عليه فأراد تخليته فتكلم القواد وقالوا والله ما فيه
درك من عقبة ولكنه إن ترك وثب كل يوم كلب من الكلاب على قائد فقتله فأمر المهدي
بضرب عنقه. واضطربت خراسان وتحركت السغد وفرغانة وخرج يوسف البرم وهو رجل من موالي
ثقيف ببخارى يدعو الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاتبعه على ذلك خلق
من الناس
فحارب السلطان وخرج
أحمد بن أسد إلى فرغانة ففتح حتى وصل إلى كاسان وهي المدينة التي ينزلها الملك
وكان يزيد بن مزيد الشيباني يحارب يحيى الشاري فكتب إليه المهدي أن ينكفئ فيمن معه
إلى يوسف البرم فلقيه فكانت بينهما وقعات عدة ثم هزمه يزيد فرفع علما أحمر وأمن من
يصير تحته فصار أصحاب يوسف كلهم تحته وأسر يوسف فحمله إلى المهدي فلما دخل إليه
كلمه بكلام غليظ فشتمه المهدي فقال لبئس ما أدبك أهلك فضرب عنقه وصلبه.
وكتب إلى عمر بن
العلاء وكان بطبرستان أن يصير إلى جرجان فيخرج من بها من المحمرة بعد أن يدعوهم
إلى الطاعة فصار إلى جرجان ففرق جمع المحمرة وقتل عبد القاهر وفض الجمع.
ووجه المهدي رسلاً
إلى الملوك يدعوهم إلى الطاعة فدخل أكثرهم في طاعته فكان منهم ملك كابل شاه يقال
له حنحل وملك طبرستان الإصبهبذ وملك السغد الإخشيد وملك طخارستان شروين وملك
باميان الشير وملك فرغانة فرنران وملك أسروشنه أفشين وملك الخرلخية جيغويه وملك
سجستان رتبيل وملك الترك طرخان وملك التبت حهورن وملك السند الرأي وملك الصين بغبور
وملك الهند وأبراح وهو فور وملك التغزغز خاقان.
واستعمل المهدي روح
بن حاتم المهلبي على السند فقدمها والزط قد تحركوا بها فلم يقم إلا يسيراً حتى عزل
وولي نصر بن محمد بن الأشعث الخزاعي ثم ضمت السند إلى محمد بن سليمان بن علي
الهاشمي واستعمل عليها عبد الملك بن شهاب المسمعي فولى أقل من عشرين يوماً وردت
السند إلى نصر بن محمد بن الأشعث الخزاعي ثم استعمل المهدي الزبير بن العباس من
ولد قثم بن العباس بن عبد المطلب ولم يبلغ البلد فاستعمل المهدي بمصبح ابن عمرو
التغلبي وكانت العصبية بالسند أول ما وقعت فاستعمل ليث بن طريف مولاه فقدم
المنصورة فأقام بها شهراً والزط قد كثروا فجرد عليهم السيف فأفناهم.
وشخص المهدي إلى
البصرة سنة 165 يريد الحج فخبر بقلة الماء في الطريق فأقام وبلغه أن أمر السند قد
اضطرب فوجه إلى الليث بجيش من البصرة وسار راجعاً إلى بغداد.
وخرج يريد الشام
وعسكر بالبردان فأتاه الخبر بوفاة عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس فانصرف إلى
بغداد حتى حضر جنازته ومشى فيها ثم رجع إلى معسكره.
وخرج حتى صار إلى
الثغر ثم صار إلى بيت المقدس فأقام أياماً وانصرف فلما صار بجند قنسرين لقيته تنوخ
بالهدايا وقالوا نحن أخوالك يا أمير المؤمنين فقال من هؤلاء قيل تنوخ حي ينتمي إلى
قضاعة ووصف له حالهم وكثرة عددهم وقيل له إنهم كلهم نصارى فقال لا أرضاكم أنتم إلى
خؤولتي وارتد منهم رجل فضرب عنقه فخافوا فثبتوا على الإسلام.
وتوفي عيسى بن موسى
سنة 167 فولى المهدي ابنه موسى بن عيسى الكوفة وما كان إلى أبيه من الأعمال.
وتوفي يزيد بن منصور
الحميري خال المهدي وكان عامل أبي جعفر على اليمن فاستعمل المهدي مكانه رجاء بن
سلام بن روح بن زنباع الجذامي ثم ولي علي بن سليمان بن علي وهو الذي كتب إليه في
إشخاص الغطريف ابن عطاء أخي الخيزران أم موسى وهارون ابنيه وكان الغطريف غلاماً
لرجل من أهل جرش فأعتقه وكان يؤاجر نفسه بنطر كروم فبعث إلى عامله على جرش في حملة
فوجده في كرم عليه جبة صوف فكساه وحباه وحمله إلى المهدي فرفع منزله ثم صرف علياً
وولي عبد الله بن سليمان ثم صرفه وولي منصور بن يزيد بن منصور الحميري ثم صرفه
وولي عبد الله بن سليمان بن علي وصرفه وولي سليمان بن يزيد الحارثي ثم عبد الله بن
محمد بن إبراهيم الزينبي وهو ابن بنت سليمان ثم إبراهيم بن سليمان العبدي ثم
الغطريف بن عطاء خال موسى وهارون ثم الربيع بن عبد الله الحارثي.
وأمر المهدي بجباية
أسواق بغداد وجعل عليها الأجرة وجعل سعيد الحرشي بذلك فكان أول ما جبيت أسواق
بغداد للمهدي فيقال إنه قام إليه رجل فقال عندي نصيحة يا أمير المؤمنين فقال لمن
نصيحتك هذه لنا أم للعامة أم لنفسك قال لك يا أمير المؤمنين قال ليس الساعي أعظم
عورة ولا
أفحش لؤما من قابل
سعايته ولن تخلو من أن تكون حاسد نعمه فلا نشفي غيظك أو عدوا فلا نعاقب لك عدوك ثم
أقبل على الناس فقال لأعلمن ما تنصح لنا متنصح إلا بما لله فيه رضي وللمسلمين صلاح
فإنما لنا الأبدان وليس لنا القلوب من استتر عنا لم نكشفه ومن أبدانا طلبنا توبته
ومن أخطأ علينا أقلناه عثرته إني أرى التأديب بالصفح أبلغ منه بالعقوبة والسلامة
مع العفو أكثر منها مع العاجلة والقلوب لا تبقى لوال لا يعطف إذا استعطف ولا يعفو
إذا قدر ولا يغفر إذا ظفر ولا يرحم إذا استرحم من قلت رحمته واشتدت سطوته وجب مقته
وكثر مبغضوه. وكان المهدي قد ألح في طلب الزنادقة وقتلهم حتى قتل خلقا كثيراً
فبلغه أن صالح بن أبي عبيد الله كاتبه زنديق فأحضره فلما صح عنده أمره استتابه
فقال لا رغبة عما أنا عليه ولا حاجة في غيره فأمر المهدي أبا عبيد الله أباه أن
يقوم فيضرب عنقه فقام فأخذ السيف ثم دنا من ابنه فلما رفعه رجع فقال يا أمير
المؤمنين إني قمت سامعاً مطيعاً وأنه أدركني ما يدرك الرجل في ولده فأمره فجلس ثم
أمر بضرب عنقه بين يديه ثم أملى عليه كتاباً وهو ينظر إلى ابنه مقتولاً ثم قال إن
كنت كرهت قتل عدو لله كافر به فأبعدك الله فلما قام أبو عبيد الله قال بعض الجلساء
ما أحسب هذا يطيب قلبه أبدا فقال كذلك والله أظنه وإنه لقريب من ابنه ثم كانت
السخطة عليه وصير مكانه يعقوب بن داود وأتى بصالح بن عبد القدوس فاستتابه فتاب
فلما خرج من عنده ذكر له قوله:
والشيخ لا يترك
أخلاقه ... حتى يواري في ثرى رمسه
قال وإنك لتقول هذا
فرده فضرب عنقه ولم يستتبه ووثب أهل الحوف بمصر سنة 168 فخرج إليهم موسى بن مصعب
وكان العامل بها فقاتلهم قتالاً شديداً وكان صاحب علمه هاشم بن عبد الرحمن ابن
معاوية بن حديج السكوني فنكس العلم وانهزم ومال أهل الخوف على موسى بن مصعب فقتلوه
فولى المهدي الفضل بن صالح الهاشمي فلم يرد البلد إلا بعد وفاة المهدي.
وكان الغالب على
المهدي صدر خلافته معاوية بن عبد الله المعروف بأبي عبيد الله مولى الأشعريين ثم
وقف منه على خيانة وصير مكانه يعقوب بن داود وكان يعقوب جميل المذهب ميمون النقيبة
محباً للخير كثير الفضل حسن الهدى ثم عزله وسخط عليه فحبسه فلم يزل محبوساً حتى مات
المهدي وصير مكانه محمد بن الليث صاحب البلاغة.
وكان علي بن يقطين
والحسن بن راشد يغلبان على أموره وكان على شرطته نصر بن مالك ثم مات نصر فولى أخاه
حمزة بن مالك ثم عزله وولي عبد الله بن مالك وكان على حرسه محمد بن إبراهيم ثم
عزله واستعمل مكانه أبا العباس الطوسي وكان حاجبه الربيع مولاه وكان قضاته ابن
علاثة العقيلي وعافية بن يزيد الأزدي وعلى الكوفة شريك بن عبد الله وعلى البصرة
عبيد الله بن الحسن العنبري وعلى المدينة عبد الله بن محمد بن عمران التيمي وكان
أول قاض قضى بها من قبل خليفة وعلى مصر عبد الله بن لهيعة الحضرمي ثم استعمل ابن
اليسع الكندي من أهل الكوفة ثم غوث بن سليمان الحضرمي من أهل مصر ثم المفضل بن
فضالة القتباني.
وأصاب الناس في آخر
سنة 168 ودخول سنة 169 وباء وموت كثير وظلمة وتراب أحمر كانوا يجدونه في فرشهم
وعلى وجوههم.
وخرج المهدي من بغداد
لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة 169 إلى الجبل فنزل قرية يقال لها الرذ من أرض
ماسبذان وخرج يتصيد فأقام سائر يومه يطرد واتبعت الكلاب ظبياً وأمعن في الطلب
واقتحم الظبي باب خربة ومرت الكلاب واقتحم به الفرس في أثره فصدمه باب الخربة وحمل
إلى مضاربه فتوفي لثمان بقين من المحرم سنة 169 وهو ابن ثمان وأربعين. وحكي أنه
أصبح ذات يوم فقال لعلي بن يقطين ولجماعة جلسائه أصبحت اليوم جائعا فأتي بخبز ولحم
بارد فأكله وأكل القوم معه ثم قال إني داخل هذا البهو فنائم فيه فلا تنبهوني حتى
انتبه فدخل فنام ونام القوم في الرواق فما راعهم إلا بكاؤه فتبادروا إليه وسألوه
عن حاله فقال أرأيتم ما رأيت قالوا ما رأينا شيئاً قال رأيت شيخاً لو رأيته بين
مائة ألف لعرفته وهو آخذ بعضادة البهو وهو يقول:
كأني بهذا القصر قد
باد أهله ... وأوحش منه ركنه ومنازله
وصار عميد القصر من
بعد بهجة ... وملك إلى قبر علته جنادله
فلم يبق إلا ذكره
وحديثه ... تنادى عليه معولات حلائله
فلم يلبث بعد ذلك إلا
عشرة أيام حتى توفي وكانت خلافته عشر سنين وشهرا واثنين وعشرين يوماً وصلى عليه
ابنه علي بن ريطة ودفن بالرذ وخلف من الولد الذكور ثمانية موسى وهارون وعليا وعبيد
الله وإسحاق ويعقوب وإبراهيم ومنصوراً.
وأقام الحج للناس في
أيامه سنة 159 يزيد بن منصور الحميري سنة 160 المهدي وأمر بالتوسعة في المسجد
الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 161 موسى ابن المهدي سنة 162
إبراهيم بن جعفر بن أبي جعفر سنة 163 علي بن المهدي وأمه ريطة بنت أبي العباس سنة
164 خرج المهدي يريد الحج فسار من الكوفة أربع مراحل ومعه خلق عظيم فعطش الناس
وبلغه قلة الماء في الطريق فرجع من العقبة وحج بالناس صالح بن أبي جعفر سنة 165
صالح بن أبي جعفر سنة 166 محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي سنة 167 إبراهيم بن يحيى بن محمد بن
علي سنة 168 علي بن المهدي.
وغزا بالناس في أيامه
سنة 159 جاءت الروم إلى سميساط فسبوا خلقاً كثيراً فوجه إليهم صغيراً مولاه
فاستنقذ المسلمين وغزا بالناس العباس ابن محمد فبلغ أنقرة سنة 160 غزا ثمامة بن
الوليد العبسي سنة 161 غزا عيسى بن علي ولقيه جيش الروم فحاصروه سنة 162 الحسن بن
قحطبة الطائي سنة 163 هارون بن المهدي ففتح سمالو سنة 164 هارون أيضاً فبلغ خليج
القسطنطينية سنة 166 ثمامة بن الوليد سنة 167 الفضل بن صالح سنة 168 محمد بن
إبراهيم.
وكان الفقهاء في
أيامه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب إبراهيم بن محمد بن أبي الحسن سعيد بن عبد
العزيز الجمحي عبد العزيز بن أبي حازم عبد الحميد المدني يونس بن أبي إسحاق
السبيعي الحجاج بن أرطأة النخعي سفيان بن سعيد الثوري شريك بن عبد الله النخعي
يحيى بن سلمة بن كهيل سلمة الأحمر إبراهيم بن سعد الزهري أبا مخنف لوط بن يحيى
سفيان ابن الحسن الحماني جعفر بن عتاب يحيى بن أبي زائدة علي بن مسهر محمد بن
مروان السدي زياد بن الطفيل عبد الرحمن بن مالك مالك بن الفضيل أبا محمد بن...
محمد بن جابر اليمامي أبا الأشهب جعفر بن حيان العطاردي سلمة بن علقمة سعيد بن
إياس خالد بن دينار جرير بن حازم الأزدي شعبة بن الحجاج حماد بن سلمة مهدي بن
ميمون موسى ابن علي بن رباح عبد الله بن لهيعة جعفر بن الغطريف بقية بن الوليد
الحمصي عبد السلام بن عبد الملك الدمشقي.
أيام موسى بن
المهديوبويع لموسى الهادي بن محمد المهدي وأمه أم ولد يقال لها الخيزرانة بماسبذان
وكان غائباً بجرجان وأخذ له أخوه هارون البيعة وكتب إليه بالخبر فوافاه الرسول وهو
نصير الوصيف بعد وفاة أبيه بثمانية أيام وكانت الشمس يومئذ في الأسد سبع عشرة درجة
والقمر في الأسد اثنتين وعشرين درجة وثلاثين دقيقة وزحل في الدلو درجة وأربعين
دقيقة راجعاً والمشتري في العقرب أربع عشرة درجة وثلاثين دقيقة والمريخ في السرطان
ثمانياً وعشرين درجة وخمسين دقيقة والزهرة في السنبلة ثماني درجات وثلاثين دقيقة
وعطارد في السنبلة تسع درجات وخمسين دقيقة والرأس في الميزان تسعاً وعشرين درجة
وخمس عشرة دقيقة.
وارتحل من جرجان بعد
ثلاثة أيام إلى العراق فنزل بعيساباذ وكان المهدي بنى هذا الموضع فاستتمه موسى
وكان به منزلة وولي الغطريف بن عطاء خاله خراسان وأعمالها فقدم خراسان وكانت هادئه
الأمور ساكنة والملوك في الطاعة فظهر منه أمور قبيحة وضعف شديد فاضطربت البلاد
وتحرك جماعة من الطالبيين وصاروا إلى ملوك النواحي فقبلوهم ووعدوهم بالنصر
والمعونة وذلك أن موسى ألح في طلب الطالبيين وأخافهم خوفا شديدا وقطع ما كان
المهدي يجريه لهم من الأرزاق والأعطيه وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم فلما اشتد
خوفهم وكثر من يطلبهم ويحث عليهم عزم الشيعة وغيرهم إلى الحسين بن علي بن الحسن بن
الحسن بن علي وكان له مذهب جميل وكمال ومجد وقالوا له أنت رجل أهل بيتك وقد ترى ما
أنت وأهلك
وشيعتك فيه من الخوف
والمكروه فقال وإني وأهل بيتي لا نجد ناصرين فننتصر فبايعه خلق كثير ممن حضر
الموسم فقال لهم إن الشعار بيننا أن ينادي رجل من رأى الجمل الأحمر فما وافاه إلا
أقل من خمسمائة وكان ذلك في سنة 169 بعد انقضاء الموسم فلقيه سليمان بن أبي جعفر
والعباس بن محمد بن علي وموسى بن عيسى بفخ فانهزم ومن كان معه وافترقوا وقتل
الحسين بن علي وجماعة من أهله وهرب خاله إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن
علي فصار إلى المغرب فغلب على ناحية تتاخم الأندلس يقال لها فاس فاجتمعت عليه كلمة
أهلها.
فذكر أهل المغرب أن
موسى وجه إليه من اغتاله بسم في مسواك فمات وصار إدريس بن إدريس مكانه وولده بها
إلى هذه الغاية يتوارثون تلك المملكة واضطربت اليمن على الربيع بن عبد الله
الحارثي مولى موسى فاستعمل الحصين بن كثير العبدي ثم صرفه واستعمل مكانه أيوب بن
جعفر الهاشمي ثم رد الربيع بن عبد الله الحارثي على البلد خلا صنعاء فلم تزل
البلاد مضطربة أيام موسى كلها.
وقدم الفضل بن صالح
مصر فلم يهج أحداً من أهل الحوف الذين قتلوا موسى بن مصعب عامل المهدي فسكنهم وكف
عن طلبهم فلم يقم إلا يسيرا حتى خرج دحية بن الأصبغ بن عبد العزيز بناحية أهناس من
قرى صعيد مصر في خلق عظيم فقطع الطريق وأخاف السبيل ثم تغلب فجبى الخراج فوجه
الفضل بن صالح بقائد يعرف بسفيان ورجل من أهل الفيوم يعرف بعبد الله بن علي
المرادي فلقيا دحية بموضع يقال له صحراء بويط وناوشاه الحرب فانهزم دحية فدخل
قرموساً وهو الأتون الذي يعمل فيه الفخار فأخذاه أسيراً وأتيا به الفضل فضرب عنقه
وصلبه وبعث برأسه إلى موسى.
وشجرت بين موسى وبين
أخيه الوحشة فعزم على خلعه وتصيير ابنه جعفر ولي العهد ودعا القواد إلى ذلك فتوقف
عامتهم وأشاروا عليه أن لا يفعل وسارع بعضهم وقووا عزيمته في ذلك وأعلموه أن الملك
لا يصلح أن صار إلى هارون فكان ممن سعى في خلعه أبو هريرة محمد بن فروخ الأزدي
القائد ؟؟؟؟نقص صفحة 406
أيام هارون
الرشيدوولي هارون الرشيد بن محمد المهدي وأمه الخيزران في اليوم الذي توفي فيه
أخوه موسى وهو لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة 170 ومن شهور العجم في أيلول.
وكانت الشمس يومئذ في
السنبلة عشرين درجة والقمر في الحوت خمساً وعشرين درجة وخمسين دقيقة وزحل في الدلو
إحدى عشرة درجة راجعاً والمشتري في القوس سبع عشرة درجة والمريخ في القوس ثمانياً
وعشرين درجة وعشر دقائق والزهرة في السنبلة خمس درجات وأربعين دقيقة والرأس في
الميزان ثماني درجات وست دقائق.
وولد المأمون في
الليلة التي استخلف فيها الرشيد فبشر به فلذلك سماه المأمون وولد محمد بن هارون
بعده بستة أشهر ووجه موسى بن عيسى في الليلة التي ولي فيها ليقيم الحج للناس ثم
بدا له في الخروج فخرج هو فلحقه في الطريق فأقام الحج وأعطى أهل مكة والمدينة
عطايا كثيرة وفرق فيهم أموالاً ثم انصرف فصار إلى قبر المهدي بماسبذان فتصدق عنده
بأموال عظيمة وجعلها رسما في كل سنة.
وولي الفضل بن يحيى خراسان
فشخص إليها وقد خالف أهل الطالقان فافتتح الطالقان وزحف صاحب الترك في خلق عظيم
ولقي عسكر الفضل والتحمت بينهما الحرب فضرب وجه صاحب الترك فاستنام واستباح الفضل
عسكره وغنم أمواله وفيه يقول الشاعر:
للفضل يوم الطالقان
وقبله ... يوم أناخ به على خاقان
ما مثل يوميه اللذين
تواليا ... في غزوتين تواليا يومان
وكان يحيى بن عبد
الله بن الحسن بن الحسن قد هرب إلى خراسان ودخل أرض الديلم فكتب هارون إلى صاحب
الديلم يطلبه منه ويتهدده فطلبه فلما رأى يحيى ذلك طلب الأمان من الفضل فأمنه
وحمله إلى الرشيد فحبسه فلم يزل محبوساً حتى مات.
وقيل إن الموكل به
منعه من الطعام أياماً فمات جوعاً.
وخبرني رجل من موالي
بني هاشم قال: كنت محبوساً في الدار التي فيها يحيى بن عبد الله فكنت إلى جانب
البيت الذي هو فيه فربما كلمني من خلف حائط قصير فقال لي يوماً: إني قد منعت
الطعام والشراب منذ تسعة أيام فلما كان اليوم العاشر دخل الخادم الموكل به ففتش
البيت ثم نزع عنه ثيابه ثم حل سراويله فإذا بأنبوبة قصب شدها في باطن فخذه فيها
سمن بقر كان يلحس منه الشيء بعد الشيء يقيم برمقه فلما أخذها لم يزل يفحص برجله
حتى مات.
فحدثني أبو جميل قال:
خرجت إلى البصرة في أيام المأمون فركب معنا في السفينة خادم فكان يخبرنا أنه من
خدم الرشيد ثم حدثنا بحديث يحيى بن عبد الله وأنه الذي تولى قتله بمثل ما تقدم
ذكره فلما كان في الليل قام إليه رجل كان في السفينة فدفعه في الماء والسفينة تسير
فغرقه.
وبايع هارون لابنه
محمد بالعهد من بعده سنة 175 ومحمد ابن خمس سنين وأعطى الناس على ذلك عطايا جمة
وأخرج محمداً إلى القواد فوقف على وسادة فحمد الله وصلى على نبيه وقام عبد الصمد
بن علي فقال: أيها الناس لا يغرنكم صغر السن فإنها الشجرة المباركة أصلها ثابت
وفرعها في السماء وجعل الرجل من بني هاشم يقول في ذلك حتى انقضى المجلس ونثرت
عليهم الدراهم والدنانير وفار المسك وبيض العنبر.
واستعمل هارون على
السند سالما اليونسي مولى إسماعيل بن علي مكان الليث مولى أمير المؤمنين فأحسن
السيرة ولم يلبث أن ولي إسحاق بن سليمان ابن علي الهاشمي وقدم البلد وكان عفيفا ثم
عزله وولى طيفور بن عبد الله ابن منصور الحميري فهاجت بين اليمانية والنزارية حرب
فوجه جابر بن الأشعث الطائي على غربي النهر ومكران ثم ولى سعيد بن سلم بن قتيبة
فوجه أخاه كثير بن سلم فأساء السيرة وكان مذموما وصير الرشيد السند إلى عيسى بن
جعفر بن المنصور فبعث إليها محمد بن عدي الثعلبي فلما قدم بدأ بالعصبية والتحامل
وضرب القبائل بعضها ببعض وخرج من المنصورة يريد الملتان فلقيه أهلها فقاتلوه
فهزموه ونهبوا ما معه من السلاح وفر منهزما لا يلوي على شيء حتى صار إلى المنصورة
والتحمت العصبية بين اليمانية والنزارية واتصلت فولى الرشيد عبد الرحمن...
ثم ولى أيوب بن جعفر
بن سليمان ثم ولى داود بن يزيد بن حاتم المهلبي سنة 184 فوجه إليها أخاه المغيرة فرفعت النزارية رؤوسهم وعزموا على أن يقسموا
البلاد أرباعا: ربعا لقريش وربعا لقيس وربعا لربيعة ويخرجوا اليمانية.
ولما قدم المغيرة
أغلق أهل المنصورة الأبواب ومنعوه الدخول إلا أن يعاهدهم ألا يستعمل فيهم العصبية
أو يخرجوا جميعاً عن المدينة ويدخلها فخرج من به رمق ودخلها المغيرة فتحامل على
النزارية فقاتلوه فهزموه وسار داود بن يزيد لما بلغه الخبر حتى قدم البلد فجرد
فيهم السيف فقتل من النزارية خلقاً عظيماً وصار إلى المنصورة فأقام يقاتلهم عشرين
يوماً ولم تزل الحروب بينهم عدة شهور ففتحها ثم سار إلى سائر مدن السند فلم يزل
يفتح ويخرب إلى أن استقامت له البلاد.
وولى هارون سليمان بن
أبي جعفر دمشق فوثب به أهلها بسبب القلة البلور التي كانت في محرابهم فأخرجوه
وانتهبوا كل ما كان معه.
وخرج رجل من بني مرة
يقال له عامر بن عمارة ويكنى أبا الهيذام بحوران من أرض دمشق فقتل اليمانية وذلك
في سنة 176 فوجه إليهم الرشيد السندي وجماعة من القواد فقتل أبو الهيذام وفرق جمعه.
وخرج هارون يريد
الشام فلما بلغه قتل أبي الهيذام مضى إلى الثغر فأغزى هرثمة بن أعين بلاد الروم
وأمر ببناء طرسوس في سنة 171 فأحكم بناءها وجعل لها خمسة أبواب وحولها سبعة
وثمانين برجا ولها نهر عظيم يشق في وسطها عليه القناطر المعقودة وكان ابتداء
بنائها على يد أبي سليمان مولاه ثم انصرف إلى العراق يريد الحج واستخلف على
الشامات والجزيرة جعفر بن يحيى بن خالد فظهرت العصبية بحمص فصعد جعفر بن يحيى
منبرها فخطب وحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد وقال: يا أهل الشام! أحذركم عواقب
البطر ووبال ما لا يشكر من النعم وملمة كل خطب يدفع إلى ندم فإن السعيد من سعد
بغيره والشقي من شقي بنفسه وأتعظ به غيره والمغبون من غبن عقله والمفتون من فتن في
دينه والمحزوم من حزم حظه من ربه والخاسر من باع آخرته بدنياه وآجله بعاجلة وإنما
يخشى الله من عباده العلماء ولم يعط الله من عباده إلا أولي البهاء...في كلام كثير.
وخرج الوليد بن طريف
الحروري بالجزيرة سنة 179 وكان عبد الملك ابن صالح يتولاها ويتولى بعض الشام فحصره
الوليد بالرقة فوجه الرشيد موسى بن خازم التميمي في جيش فهزمه الوليد فوجه بمعمر
بن عيسى العبدي فكانت بينهما وقائع ثم مات معمر وهو في محاربته فتوجه إليه يزيد بن
مزيد الشيباني فواقعه يوماً واحداً ثم قال له في اليوم الثاني: ابرز يا وليد ولا
يقتل الناس بيني وبينك! فبرز له فقتله يزيد واحتز رأسه وبعث به إلى الرشيد وتفرق
أصحابه ثم اجتمعت طائفة منهم مع رجل يقال له خراشة فمالوا نحو الجزيرة مما يلي
ديار ربيعة.
ولم يزل يزيد بن حاتم
المهلبي على إفريقية منذ أيام المنصور إلى أيام الرشيد ثم توفي واستخلف على
إفريقية ابنه داود بن يزيد بن حاتم فلم يقم فيهم بالعدل وقاتلوه فهزموه فولى
الرشيد روح بن حاتم المهلبي فقدم البلد فسكنهم ثم مات فولى الرشيد نصر بن حبيب
المهلبي ثم عزله وولى الفضل بن روح فثار عليه عبد الله بن الجارود واجتمع معه أهل
المغرب فحاربوه فقتلوا عساكره وظفروا به فحبسوه وأصحابه.
وغلب على البلد عبد
الله بن الجارود فطلب الأمان وسأل أن يقضي له حوائج سماها فأجابوه إلى كل ما سأل
وانصرفوا إلى الرشيد بخبره.
ووجه الرشيد هرثمة بن
أعين إلى الشام ومصر والمغرب يتقراها ويصلحها فلم يزل يمر ببلد بلد فيصلح ما يريد
إصلاحه حتى صار إلى مصر في سنة 179 وقد كانوا وثبوا على عاملهم وصار هرثمة إلى
المغرب فلما بلغ طرابلس من أرض المغرب أعطى جندها أرزاقهم الفائتة وآمنهم جميعاً
حتى قدم القيروان سنة 179 فآمن الناس وسكنهم.
وخرج عليه قوم في
ناحية من النواحي، فوجه إليهم جيشاً ففرقهم، وأقام هرثمة حتى أصلحها ثم عاد إلى
مصر، فأقام بها حتى استقامت أحوالها، وحمل من رأى حملة منها ثم انصرف.
وولى الرشيد إفريقية
محمد بن مقاتل العكي فثار عليه تمام بن تميم التميمي حتى حصره في القيروان، ثم فتح
أهل القيروان الباب لتمام فدخل المدينة، وطلب محمد بن مقاتل الأمان فأمنه، وخرج
ابن مقاتل إلى العراق وتغلب تمام على البلد، ثم ثار عليه أهل خراسان وأهل الشام،
فحاربوه، فانهزم منهم. وقدم إبراهيم بن الأغلب فولاه أهل المغرب عليهم، فضبط
عليهم، وبلغ الرشيد ذلك، فكتب إليه بعهده على إفريقية وبعث إليه بالعهد مع يحيى
ابن موسى الكندي.
وكان إبراهيم بن
الأغلب بن سالم أحد الجند الذين أخرجوا من مصر إلى إفريقية، وكان يتولى شرطة صاحب
إفريقية فلما توفي ابن مقاتل واستخلف إبراهيم على البلد ضبطه وحسنت طاعة أهله وكان
يحمل إلى صاحب إفريقية من مصر، في كل سنة، ستمائة دينار فكتب إبراهيم بن الأغلب
إلى الرشيد يعلمه أنه يقوم بالبلد بغير مال فولاه إياه، فدام أمره وأمر ولده إلى
هذه الغاية. وكان الرشيد ولى اليمن العباس بن سعيد مولاه، فضج منه أهل اليمن، وحكي
عنه مذاهب قبيحة، فصرفه الرشيد وولى مكانه إبراهيم بن محمد ابن إبراهيم الإمام ثم
صرفه، وولى عبد الله بن مصعب الزبيري ثم صرفه، وولى أحمد بن إسماعيل بن علي مكانه،
ثم صرفه، وولى حماداً البربري مولاه فجار على أهل اليمن وغلظ عليهم.
ووثب الهيصم بن عبد
المجيد الهمداني باليمن سنة 179، وغلب عليها، فكان معقلة بجبل يقال له مسور، وكان
معه عمر بن أبي خالد الحميري مقيما بعشتان، وكان معه الصباح بناحية يقال لها حراز،
فلقوا حماداً البربري فكانت بينهما وقائع قتل فيها نيف وعشرون ألفاً من الناس،
وأسر حماد عمر بن أبي خالد فوجه به إلى الرشيد واتصلت الحرب بينه وبين الهيصم تسع
سنين، ثم صار إلى حماد رجل من أهل البلد، فأعلمه أن الهيصم قد نزل من قلعته وصار
إلى قرية من القرى متنكرا يتجسس الأخبار فوجه معه إلى تلك القرية بقائد يقال له
حراد فأخذ الهيصم فقال الهيصم: والله إن القتل لشيء ما أنكره، وما خلقت الرجال إلا
للموت والقتل. فحمله حماد على جمل، وأدخله إلى صنعاء، ثم وجه به إلى الرشيد فأنشده
في شعر طويل:
فشفاء ما لا تشتهي
... ه النفس تعجيل الفراق
فدعا بالهيصم فأمر
بضرب عنقه، وانحرف حماد البربري إلى صباح فضرع صباح إلى الأمان فأعطاه الأمان
وقيل: لم يعطه إياه، ولكنه أسره ووجه به إلى الرشيد مع ستمائة رجل من أصحاب الهيصم
فضرب أعناقهم جميعاً، وصلب الهيصم وصباحا معا، وأقام حماد البربري على اليمن ثلاث
عشرة سنة، وسام أهلها سوء العذاب، حتى صاح قوم منهم بالرشيد وهو بمكة: نحن نعوذ
بالله وبك، يا أمير المؤمنين! اعزل عنا حماداً البربري إن كنت تقدر. فقال: لا ولا كرامة.
وكان حماد عبدا
لهارون فأعتقه في أول خلافته ثم عزل الرشيد حمادا واستعمل مكانه عبد الله بن مالك
فلم يزل في البلد محمود السيرة جميل المذهب حتى توفي هارون.
وفاة موسى بن
جعفروتوفي موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه أم ولد،
يقال لها حمدة سنة 183، وسنة ثمان وخمسون سنة وكان ببغداد في حبس الرشيد قبل
السندي بن شاهك فأحضر مسروراً الخادم وأحضر القواد والكتاب والهاشميين والقضاة ومن
حضر ببغداد من الطالبيين، ثم كشف عن وجهه، فقال لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعرفه حق
معرفته، هذا موسى بن جعفر. فقال هارون: أ ترون أن به أثرا وما يدل على اغتيال؟ قالوا: لا! ثم غسل
وكفن وأخرج ودفن في مقابر قريش في الجانب الغربي.
وكان موسى بن جعفر من
أشد الناس عبادة، وكان قد روى عن أبيه. قال الحسن بن أسد: سمعت موسى بن جعفر يقول: ما أهان الدنيا قوم قط إلا هناهم الله إياها
وبارك لهم فيها، وما أعزها قوم قط إلا نغصهم الله إياها.
وقال: إن قوماً
يصحبون السلطان يتخذهم المؤمنون كهوفاً، فهم الآمنون يوم القيامة إن كنت لأرى
فلاناً منهم.
وذكر عنده بعض
الجبابرة فقال: أما والله لئن عز بالظلم في الدنيا ليذلن بالعدل في الآخرة. وقيل
لموسى بن جعفر وهو في الحبس: لو كتبت إلى فلان يكلم فيك الرشيد؟ فقال: حدثني أبي
عن آبائه أن الله عز وجل أوحى إلى داود: يا داود! إنه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني عرفت ذلك منه إلا وقطعت
عنه أسباب السماء وأسخت الأرض من تحته.
وقال موسى بن جعفر:
حدثني أبي أن موسى بن عمران قال: يا رب! أي عبادك شر؟ قال: الذي يتهمني. قال يا رب وفي عبادك من يتهمك؟ قال: نعم! الذي يستجيرني،
ثم لا يرضى بقضائي. وكان له من الولد ثمانية عشر ذكراً، وثلاث وعشرون بنتاً،
فالذكور: على الرضا وإبراهيم والعباس والقاسم، وإسماعيل وجعفر وهارون والحسن وأحمد
ومحمد وعبيد الله وحمزة وزيد وعبد الله وإسحاق والحسين والفضل وسليمان وأوصى موسى
بن جعفر ألا تتزوج بناته فلم تتزوج واحدة منهن إلا أم سلمة، فإنها تزوجت بمصر،
تزوجها القاسم ابن محمد بن جعفر بن محمد فجرى في هذا بينه وبين أهله شيء شديد، حتى
حلف أنه ما كشف لها كنفا، وأنه ما أراد إلا أن يحج بها.
وبايع الرشيد لابنه
المأمون بعد محمد بولاية العهد في هذه السنة، وهي سنة 183، وأخذت له البيعة على
الناس كلهم حتى أهل الأسواق، فكان بين البيعة للمأمون والبيعة لمحمد ثماني سنين،
وكان يبعث بالمأمون وبمحمد إلى الفقهاء والمحدثين فيسمعان منهم، ويحضر لهما أهل
الكلام والنظر فكان محمد بطيء الحفظ، وكان المأمون سريع الحفظ.
وأخذ الرشيد العمال
والتناة والدهاقين وأصحاب الضياع والمبتاعين للغلات والمقبلين وكان عليهم أموال
مجتمعة، فولى مطالبتهم عبد الله بن الهيثم بن سام فطالبهم بصنوف من العذاب، وكان
سنة 184.
واعتل الرشيد في تلك
السنة علة شديدة أشفى منها، فدخل إليه الفضيل بن عياض فرأى الناس يعذبون في الخراج
فقال: ارفعوا عنهم، إني سمعت رسول الله يقول: من عذب الناس في الدنيا عذبه الله
يوم القيامة فأمر بأن يرفع العذاب عن الناس، فارتفع العذاب من تلك السنة.
وأقام الرشيد
بالرافقة حتى بناها وكان مقامه بها سنة 186، وحج في تلك السنة، ومعه محمد والمأمون
وجلة بني هاشم والقواد والكتاب فلم يتخلف منهم أحد له ذكر وقدر، وقدم الرشيد
المدينة فأعطى أهل المدينة ثلاثة أعطية وكسي كثيرة، ثم صار إلى مكة، فلم يفعل مثل
ذلك.
ولما صار إلى مكة صعد
المنبر فخطب، ثم نزل فدخل البيت، ودعا بمحمد والمأمون فأملى على محمد كتاب الشرط
على نفسه وكتب محمد الكتاب، وأحلفه على ما فيه، وأخذ عليه العهود والمواثيق وفعل
بالمأمون مثله، وأخذ عليه مثل ذلك وكان نسخة الكتاب الذي كتبه محمد بخطه: بسم الله
الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين كتبه محمد بن هارون في صحة
من بدنه وعقله وجواز من أمره. إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد من بعده، وجعل
لي البيعة في رقاب المسلمين جميعاً، وولي أخي عبد الله ابن أمير المؤمنين العهد
والخلافة وجميع أمور المسلمين بعدي برضى مني وتسليم، طائعا غير مكره، وولاه خراسان
بثغورها وكورها، وأجنادها وخراجها وطرازها وبريدها وبيوت أموالها وصدقاتها وعشرها
وعشورها، وجميع أعمالها في حياته وبعد موته، وشرطت لعبد الله أخي على الوفاء بما
جعل له هارون أمير المؤمنين من البيعة والعهد والولاية والخلافة وأمور المسلمين
بعدي، وتسليم ذلك له وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها، وما أقطعه هارون أمير
المؤمنين من قطيعة وجعل له من عقده أو ضيعة من ضياعه وعقده أو ابتاع من الضياع
والعقد وما أعطاه في حياته من مال، أو حلي، أو جوهر، أو متاع، أو كسوة، أو رقيق
قليلاً أو كثيراً، فهو لعبد الله ابن أمير المؤمنين أخي، موفرا عليه مسلماً له.
وقد عرفت ذلك كله شيئاً شيئاً باسمه وأصنافه ومواضعه أنا وأخي عبد الله بن هارون
فإن اختلفنا في شيء منه، فالقول فيه قول عبد الله أخي لا انتقصه صغيراً ولا كبيراً
من ماله، ولا من ولايته خراسان وأعمالها، ولا أعزله عن شيء منها، ولا أستبدل به
غيره، ولا أخلعه ولا أقدم عليه في العهد والخلافة أحداً من الناس جميعاً، ولا أدخل
عليه مكروها في نفسه ولا دمه، ولا خاص ولا عام من أموره وولايته ولا أمواله، ولا
قطائعه ولا عقده ولا أغير عليه شيئاً بسبب من الأسباب، ولا آخذ أحداً من كتابه
وعماله وولاة أموره ممن صحبه وأقام معه، بمحاسبة في ولاية خراسان وأعمالها وغيرها
مما ولاه هارون أمير المؤمنين في حياته وصحته من الجباية والأموال والطراز والبريد
والصدقات والعشر والعشور وغير ذلك من ولايتها ولا آمر بذلك أحداً، ولا أرخص فيه
لغيري، ولا أحدث نفسي فيه بشيء أمضيه عليه، ولا ألتمس قطيعته ولا أنقص شيئاً مما
جعل له هارون أمير المؤمنين وأعطاه في حياته، وخلافته وسلطانه من جميع ما سميت في
كتابي هذا، وأخذ له علي وعلى جميع الناس البيعة ولا أرخص لأحد من الناس كلهم في
خلعه، ولا مخالفته، ولا أسمع من أحد من البرية في ذلك قولاً، ولا أرضى به في سر
ولا علانية، ولا أغمض عليه، ولا أتغافل عنه، ولا أقبل من بر من العباد ولا فاجر
ولا صادق ولا كاذب ولا ناصح ولا غاش ولا قريب، ولا بعيد، ولا أحد من ولد آدم ذكراً
وأنثى مشورة ولا حيلة، ولا مكيدة في شيء من الأمور سرها وعلانيتها وحقها وباطلها
وباطنها وظاهرها، ولا سبب من الأسباب أريد بذلك إفساد شيء مما أعطيت عبد الله بن
هارون أمير المؤمنين من نفسي وشرطت في كتابي هذا علي، وأوجبت على نفسي، وشرطت
وسميت، وإن أراد أحد من الناس شراً، أو مكروهاً، أو خلعاً أو محاربة، أو الوصول
إلى نفسه ودمه، أو حرمه، أو ماله، أو سلطانه أو ولايته جميعاً، أو فرادى مسرين ذلك
أو مظهرين له، أن أنصره وأحوطه وأدفع عنه، كما أدفع عن نفسي، ومهجتي، ودمي، وشعري،
وبشري، وحرمي وسلطاني وأجهز الجنود إليه، وأعينه على كل من أعنته وخالفه ويكون
أمري وأمره في ذلك واحداً أبداً ما كنت حيا، ولا أخذله، ولا أسلمه، ولا أتخلى عنه.
وأن حدث بهارون حدث
الموت، وأنا وعبد الله بحضرة أمير المؤمنين، أو أحدنا، أو كنا غائبين عنه، مجتمعين
كنا أو مفترقين، وليس عبد الله بن هارون في ولايته بخراسان، فعلي لعبد الله بن
هارون، أمير المؤمنين، أن أمضيه إلى خراسان، وأسلم له ولايتها وأعمالها كلها،
وجنودها، ولا أعوقه عنها، ولا أحبسه قبلي، ولا في شيء من البلدان دون خراسان،
وأعجل إشخاصه إليها والياً عليها وعلى جميع أعمالها، مفرداً بها، مفوضاً إليه
أعمالها كلها، وأشخص معه جميع من ضم إليه أمير المؤمنين من قواده، وجنوده،
وأصحابه، وكتابه، ومواليه، وخدمه، ومن تبعه من صنوف الناس بأموالهم وأهليهم، ولا
أحبس عنه أحداً منهم، ولا أشرك معه في شيء منها أحداً، ولا أبعث إليه أميناً، ولا
كاتباً، ولا بنداراً، ولا أضرب على يديه في قليل وكثير.
وأعطيت أمير المؤمنين
هارون وعبد الله بن هارون، على ما شرطت لهما على نفسي من جميع ما سميت وكتبت في
كتابي هذا، عهد الله، وميثاقه، وذمة أمير المؤمنين وذمتي، وذمم آبائي، وذمم
المؤمنين، وأشد ما أخذ الله على النبيين، والمرسلين، وخلقه أجمعين، من عهوده
ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله بالوفاء بها ونهى عن نقضها وتبديلها،
فإن أنا نقضت شيئاً مما شرطت لهارون ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين، أو بدلت،
أو حدثت في نفسي أن أنقض شيئاً مما أنا عليه، أو قبلت من أحد من الناس، فبرئت من
الله، من ولايته، ومن دينه، ومن محمد رسول الله، ولقيت الله يوم القيامة كافرا به
ومشركا، وكل امرأة هي في اليوم لي، أو تزوجتها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثاً البتة،
طلاق الحرج والسنة، وعلى المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة نذرا واجبا في
عنقي، حافيا راجلا، لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك، وكل مال هو لي اليوم، أو
أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة الحرام، وكل مملوك هو لي اليوم أو أملكه إلى
ثلاثين سنة أحرار لوجه الله عز وجل، وكل ما جعلت لأمير المؤمنين ولعبد الله ابن
أمير المؤمنين، وكتبته، وشرطته لهما، وحلفت عليه، وسميت في كتابي هذا، لازم لي
الوفاء به، ولا أضمر غيره ولا أنوي إلا إياه، فإن أضمرت، أو نويت غيره، فهذه
العهود والأيمان كلها لازمة لي، واجبة علي، وقواد أمير المؤمنين، وجنوده، وأهل
الآفاق والأمصار، وعوام المسلمين براء من بيعتي، وخلافتي، وعهدي، وهم في حل من
خلعي، وإخراجي من ولايتي عليهم، حتى أكون سوقة من السوق، وكرجل من عرض الناس، ولا
حق لي عليهم، ولا ولاية، ولا بيعة لي في أعناقهم، وهم في حل من الأيمان التي
أعطوني، وبراء من تبعتها ووزرها في الدنيا والآخرة، وكتبه محمد ابن هارون بخطه.
شهد سليمان ابن أمير
المؤمنين المنصور، وعيسى بن جعفر، وجعفر بن جعفر، وعبيد الله بن المهدي، وجعفر بن
موسى أمير المؤمنين، وإسحاق بن عيسى بن علي، وعيسى بن موسى ابن أمير المؤمنين،
وإسحاق بن موسى أمير المؤمنين، وأحمد بن إسماعيل بن علي، وسليمان بن جعفر بن
سليمان، وعيسى بن صالح بن علي، وداود بن عيسى بن موسى، وداود بن سليمان بن جعفر،
ويحيى ابن عيسى بن موسى، ويحيى بن خالد، وخزيمة بن خازم، وهرثمة بن أعين، وعبد
الله بن الربيع، والفضل بن الربيع، والعباس بن الفضل، والقاسم بن الربيع، ودقاقة
بن عبد العزيز، وسليمان بن عبد الله بن الأصم... ومحمد بن عبد الرحمن قاضي مكة
وعبد الكريم الحجبي وإبراهيم بن عبد الرحمن الحجبي، وأبان مولى أمير المؤمنين،
والحارث مولى أمير المؤمنين، وخالد مولى أمير المؤمنين، ومحمد بن منصور، وإسماعيل
بن صبيح.
وكتب في ذي الحجة سنة
186 نسخة الشرط الذي كتبه عبد الله ابن أمير المؤمنين بخطه في البيت: بسم الله
الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بن
هارون أمير المؤمنين في صحة من عقله، وجواز من أمره، وصدق نيته فيما كتب في كتابه
هذا، ومعرفته بما فيه من الفضل والصلاح له، ولأهل بيته، وجماعة المسلمين: إن أمير
المؤمنين ولاني العهد والخلافة، وجميع أمور المسلمين في سلطانه بعد أخي محمد بن
هارون أمير المؤمنين، وولاني في حياته، وبعد موته ثغور خراسان، وكورها، وجميع
أعمالها من الصدقات
والعشر والعشور
والبريد، والطراز، وغير ذلك، واشترط لي على محمد ابن هارون أمير المؤمنين الوفاء
بما عقد لي من الخلافة، والولاية للعباد والبلاد بعده، وولاية خراسان، وجميع
أعمالها، لا يعرض لي في شيء مما أقطعني أمير المؤمنين، أو ابتاع لي من الضياع،
والعقد، والدور، والرباع، أو ابتعت لنفسي من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين هارون
من الأموال، والجوهر، والكساء، والمتاع، والدواب، في سبب محاسبة لأصحابي، ولا يتبع
لأحد منهم أبدا، ولا يدخل علي، ولا على أحد كان معي ومني، ولا عمالي ولا كتابي،
ومن استعنت به من جميع الناس، مكروها في نفس، ولا دم، ولا شعر، ولا بشر، ولا مال،
ولا صغير، ولا كبير، فأجابه إلى ذلك، وأقر به، وكتب بذلك كتاباً، وكتبه على نفسه،
ورضي به هارون أمير المؤمنين، وعرف صدق نيته، فشرطت لعبد الله هارون أمير
المؤمنين، وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد ابن أمير المؤمنين، وأطيعه ولا أعصيه،
وأنصحه ولا أغشه، وأوفي ببيعته وولايته، ولا أغدر، ولا أنكث، وأنفذ كتبه وأموره،
وأحسن مؤازرته ومكانفته، وأجاهد عدوه في ناحيتي ما وفى لي بما شرط لي ولعبد الله
هارون أمير المؤمنين، ورضي لي به، وقبلته ولا انتقص شيئا من ذلك، ولا انتقص أمراً
من الأمور التي شرطها لي عليه أمير المؤمنين، فإن احتاج محمد ابن أمير المؤمنين
إلى جند، وكتب إلي يأمرني بإشخاصهم إليه، أو إلى ناحية من النواحي، أو عدو من
أعدائه خالفه، وأراد نقص شيء من سلطانه الذي أسنده هارون أمير المؤمنين إلينا،
وولاناه، أن أنفذ أمره، ولا أخالفه، ولا أقصر في شيء كتب به إلي، وإن أراد محمد
ابن أمير المؤمنين أن يولي رجلاً من ولده العهد من بعدي، فذلك له ما وفى بما جعل
لي أمير المؤمنين هارون، واشترط لي عليه، وشرطه على نفسه في أمري، وعلى إنفاذ ذلك،
والوفاء به، ولا أنقض ذلك، ولا أغيره، ولا أبدله، ولا أقدم قبله أحداً من ولدي،
ولا قريباً، ولا بعيداً من الناس أجمعين، إلا أن يولي هارون أمير المؤمنين أحداً
من ولده العهد بعدي، فيلزمني ومحمدا الوفاء بذلك.
وجعلت لأمير المؤمنين
هارون ولمحمد ابن أمير المؤمنين على الوفاء بما شرطت وسميت في كتابي هذا، ما وفى
لي محمد ابن أمير المؤمنين بجميع ما اشترط لي هارون أمير المؤمنين في نفسي، وما أعطاني
أمير المؤمنين من جميع الأشياء المسماة في الكتاب الذي كتبه له، وعلى عهد الله
وميثاقه، وذمة أمير المؤمنين وذمتي، وذمم آبائي، وذمم المؤمنين، وأشد ما أخذ الله
على النبيين والمرسلين، وخلقه أجمعين، من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي
أمر الله بالوفاء بها، فإن أنا نقضت شيئاً مما شرطت وسميت في كتابي هذا، أو غيرت،
أو بدلت، أو نكثت، أو غدرت، فبرئت من الله، ومن ولايته، ومن دينه ومن محمد رسول
الله، ولقيت الله يوم القيامة كافراً به مشركاً، وكل امرأة هي اليوم لي، أو
أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثاً البتة، طلاق الحرج، وكل مملوك لي اليوم، أو
أملكه إلى ثلاثين سنة، أحرار لوجه الله، وعلى المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة
ثلاثين حجة نذراً واجباً علي، وفي عنقي، حافياً راجلاً، لا يقبل الله مني إلا
الوفاء به، وكل مال هو لي اليوم، أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة، وكل ما
جعلت لعبد الله هارون أمير المؤمنين وشرطت في كتابي هذا لازم لي لا أضمر غيره ولا
أنوي سواه.
وشهد الشهود الذين
شهدوا على أخيه محمد ابن أمير المؤمنين، وأقام الرشيد الحج لناس، وأمر بتعليق هذين
الكتابين، فعلقا أيام الموسم على باب الكعبة، وقرئا على الناس عدة مرار، وجعلا في
الكعبة.
وانصرف الرشيد، فنزل
الحيرة، فأقام أياماً، ثم مضى على طريق البرية، فنزل بموضع من الأنبار يقال له
الحرف، بدير يقال له العمر، وأقام يومه، وقتل جعفر بن يحيى بن خالد وزيره في تلك
الليلة بغير أمر متقدم قبل ذلك، وأصبح، فحمله إلى بغداد، فقطع ثلاث قطع، وصلب على
جسر بغداد، ولبغداد يومئذ ثلاثة جسور، وحبس يحيى بن خالد بن برمك وولده وأهل بيته،
واستصفى أموالهم، وقبض ضياعهم، وقال: لو علمت يميني بالسبب الذي له فعلت هذا
لقطعتها، وأكثر الناس في أسباب السخط عليهم مختلفون.
وحدث إسماعيل بن صبيح
قال: بعث إلى الرشيد يوماً، وهو ببغداد، فدخلت، فلم أر في المقاصير والأروقة
أحداً، حتى انتهيت إليه، فقال: يا إسماعيل! هل رأيت في الدار أحداً؟ فقلت: لا،
والله! قال: فطف المجالس والأروقة والمقاصير! فطفت فلم أجد أحداً، فقال: عد ثالثة
فعدت، ثم قال: خذ ذلك الكرسي! فأخذته، وخرج وفي يده عمود حتى صار إلى وسط الصحن،
ثم قال: ضع الكرسي! فوضعته، فجلس عليه، والعمود في يده، ثم قال: اجلس! فأوحشت نفسي
خيفة، وجلست، فقال: إني أريد أن أفشي إليك سراً، والله لئن سمعته من أحد من الناس
لأضربن عنقك! فتراجعت نفسي، وقلت: إن كنت يا أمير المؤمنين قلته لأحد، أو تقوله،
فلا حاجة بي إليه. فقال: ما قلته لأحد، ولا أقوله، إني أريد أن أوقع بال برمك
إيقاعاً ما أوقعه بأحد، وأجعلهم أحدوثة ونكالا إلى آخر الأبد. فقلت: وفقك الله، يا
أمير المؤمنين، وأرشد أمرك! ثم قام، فعاد، وأخذت الكرسي، فرددته، وقلت: إنما أراد
أن يعرف ما عندي فيهم، فبعث بي إليهم، وكان يفعل ذلك كثيراً، ثم حال الحول، وحال
حول ثان، ثم حال ثالث، فلما كان رأس الحول الرابع قتلهم، وكان قتل جعفر في صفر سنة
188 بدير العمر، وكان يحيى بن خالد قد نزل هذا الدير منصرفاً من الحج، قبل أن يحل
بهم الأمر بحول كامل، فدخل إلى الدير الذي قتل ابنه جعفر فيه، فطافه، فظهر له قس،
فقال له: مذ كم بنيت هذه البيعة؟ فقال: مذ ستمائة سنة، وهذا قبر صاحبها، فوقف على
قبر عليه كتابه فقرأها، فإذا عليه:
إن بني المنذر عام
انقضوا ... بحيث شاد البيعة الراهب
تنفح بالمسك ذفاريهم
... وعنبر يقطبه القاطب
والقطن والكتان
أثوابهم ... لم يجنب الصوف لهم جانب
فأصبحوا حشاً لدود
الثرى ... والدهر لا يبقى له صاحب
أضحوا وما يرجو لهم
راغب ... خيراً ولا يرهبهم راهب
كأنما جنتهم لعنة ...
سار إلى بين بها راكب
قال:
فتغير وجه يحيى،
وقال: أعوذ بالله من شرك، يا قس! فغاب القس بين عينيه، فطلبه فلم يقدر عليه. وأقام
يحيى وولده في الحبس عدة سنين، وكتب يحيى إلى الرشيد يستعطفه ويذكر له حرمته
وتربيته، فوقع على ظهر رقعته: إنما مثلك يا يحيى ما قال الله عز وجل: وضرب الله
مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله،
فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
وأغزى الرشيد ابنه
القاسم الصائفة في هذه السنة، وهي سنة 188، ومعه عبد الملك بن صالح الهاشمي، وعلى
أمره إبراهيم بن عثمان بن نهيك، فحاصر حصن سنان وقرة، وأصاب الناس جوع شديد، وعوز،
وغلاء، وطلب الروم الصلح على أن يدفعوا إليه ثلاثمائة وعشرين مسلما، فقبل، وانصرف،
وأخذ الرشيد أحمد بن عيسى بن يزيد العلوي، فحبسه بالرافقة سنة 188، فهرب أحمد بن
عيسى من الحبس، وصار إلى البصرة، وكان يكاتب الشيعة يدعوهم إلى نفسه، فأذكى الرشيد
عليه العيون، وجعل لمن جاء به الأموال، فلم يقدر عليه، فأخذ حاضر صاحبه، والمدبر
لأمره، فحمل إلى الرشيد، فلما صار ببغداد، وهو بباب الكرخ، قال: أيها الناس أنا
حاضر صاحب أحمد بن عيسى بن يزيد العلوي، وقد أخذني السلطان، فمنعه الموكلون به من
الكلام، فلما دخل على الرشيد سأله عنه وتهدده، فقال: والله لو كان تحت قدمي هذه ما
رفعتها عنه، وأغلظ في الجواب، وقال: أنا شيخ قد جاوزت التسعين، أفأختم عملي بأن
أدل على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقتل؟ فأمر الرشيد، فضرب حتى مات،
وصلب ببغداد، وطفى أحمد بن عيسى، ولم يعرف خبره بعد ذلك.
وحبس الرشيد عبد
الملك بن صالح بن علي الهاشمي في هذه السنة، وهي سنة 188، وذلك أن ابنه عبد
الرحمن، وكاتبه قمامة بن يزيد، وكان مولى لعبد الملك، رفعا عنه أنه يؤهل نفسه
للخلافة، وأنه يراسل رؤساء القبائل والعشائر بالشام والجزيرة، وكان نبيلاً،
فصيحاً، حسن البيان، فقال: ما سبب حبسي؟ فإن كان لذنب اعترفت به، أو لبلاغ تنصلت
منه، فأحضره الرشيد، فقال: هذا ابنك عبد الرحمن يذكر ما كنت تدبره من المعصية
والشقاق. فقال: ليس يخلو ابني أن
يكون مأموراً
معذوراً، أو عدواً محذوراً، وقد قال الله تعالى: إن من أزواجكم وأولادكم عدواً
لكم، فاحذروهم، قال: فهذا قمامة بن يزيد كاتبك يذكر مثل ذلك، وقد سأل أن يجمع بينه
وبينك. قال: من كذب علي، وأشاط بدمي لغير مأمون أن يبهتني.
وحدثني بعض أشياخنا
قال: أخرج الرشيد يوماً عبد الملك بن صالح بن علي فأقبل عليه، فقال: كأني أنظر إلى
شؤبوبها قد همع، وإلى عارضها قد لمع، وإلى الوعيد قد أوري نارا، فأقلع عن براجم
بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم، فمهلاً مهلاً بني هاشم! لا تستوعروا السهل وتستسهلوا
الوعر، ولا تبطروا النعم وتستجلبوا النقم، فعن قليل يذم ذو الحكم رأيه، وينكص ذو
الحزم على عقبيه، وتستبدلون الذل بعد العز، والخوف بعد الأمن. فقال عبد الملك:
أفذا أتكلم أم توأماً، يعني واحدا أو اثنين؟ فقال: بل فذا! قال: فخف الله فيما
ولاك، وأحفظه في رعاياك التي استرعاك، ولا تجعل الكفر موضع الشكر، ولا العقاب بدل
الثواب، ولا تقطع رحمك التي أوجب الله عليك، وألزمك حقها، ونطق الكتاب بأن عقوقها
كفر، واردد الحق على محقه، ولا تصرف الحق إلى غير أهله، فلقد جمعت عليك الألسن بعد
افتراقها، وسكنت القلوب بعد نفارها، وشددت أواخي ملكك بأشد من ركن يلملم، فكنت كما
قال أخو بني جعفر بن كلاب:
ومقام ضيق فرجته ...
بلساني وبياني وجدل
لو يقوم الفيل أو
فياله ... زل عن مثل مقامي وزحل
قال:
ثم خرج، فأتبعه
الرشيد بصره، وقال: أما والله لو لا الإبقاء على بني هاشم لضربت عنقك. وخرج هارون
الرشيد إلى الري سنة 189، فلما صار بقرماسين بايع لابنه القاسم بولاية العهد بعد
المأمون، وكان بين البيعة للمأمون وبيعة القاسم ست سنين، ثم سار حتى نزل الري وكتب
إلى محمد ابنه، وكان ببغداد، يأمره بالخروج إلى الري والقيام بما خلف بها وكتب إلى
بنداد هرمز، صاحب طبرستان، فخرج، وشروين صاحب طخارستان، فخرج بنداد هرمز على يدي
هرثمة بن أعين، وأخرج ابنه قارون، فصيره في معسكر الرشيد، فانصرف الرشيد من الري،
واستخلف عبد الله بن مالك الخزاعي على قومس، وطبرستان، ودنباوند، وسار إلى بغداد،
فمر بها نهاراً ولم ينزلها، فلما صار إلى الجسر أمر بتحريق جثة جعفر بن يحيى وقتل
الوليد بن جشم، وولى الرشيد علي بن عيسى بن ماهان خراسان مكان منصور بن يزيد بن
منصور الحميري سنة 189، وضم إليه جماعة من القواد فيهم: رافع بن الليث الليثي،
وأمره أن لا يستعمله على بلد قاصيا، فلما قدم علي بن عيسى خراسان استعمل رافع بن
الليث على سمرقند، فلم يحل عليه الحول حتى خلع، ونادى بالمعصية، وحارب.
وبلغ الرشيد أن ذلك
عن تدبير من علي بن عيسى، فوجه هرثمة بن أعين في أربعة آلاف كأنه مدد لعلي بن
عيسى، حتى دخل المدينة، ثم صار إلى دار الإمارة، وأدخل الجند الذين معه الدار،
وأخرج الكتاب فدفعه إلى علي بن عيسى فلما قرأه قال: أسامع أنت مطيع؟ قال: نعم فدعا بقيد ثقيل، فقيده، ثم أخرجه من ساعته،
وخرج معه، حتى جاز من عمل مرو، وبعث به مع رسل من قبله إلى الرشيد وأمر الرشيد
بحبسه وحبس ولده، وقبض أمواله، فلم يزل محبوسا حتى مات الرشيد.
وكانت أرمينية قد
انتقضت بعد وفاة المهدي، فلم تزل منتقضة أيام موسى، فلما ولى الرشيد خزيمة بن خازم
التميمي أرمينية قام بها سنة وشهرين، وضبطها، وصلحت البلاد، وأعطي أهلها الطاعة،
ثم ولى الرشيد يوسف بن راشد السلمي مكان خزيمة بن خازم، فنقل إلى البلد جماعة من
النزارية، وكان الغالب على أرمينية اليمانية، فكثرت النزارية في أيام يوسف، ثم ولى
يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني، فنقل إليها ربيعة من كل ناحية حتى هم اليوم
الغالبون عليها، وضبط البلد أشد ضبط، حتى لم يكن به أحد يتحرك، ثم ولى عبد الكبير
بن عبد الحميد من ولد زيد بن الخطاب العدوي، وكان منزله حران، فصار إليها في جماعة
من أهل ديار مضر، ولم يقم إلا أربعة أشهر حتى صرف، وولى الفضل بن يحيى بن خالد
البرمكي، فسار إليها بنفسه، فلما قدم توجه إلى ناحية الباب والأبواب، فغزا قلعة
حمزين، فهزمه أهل حمزين، فانصرف ما يلوي على شيء حتى أتى العراق، واستخلف على
البلد عمر بن أيوب الكناني.
=========
===
مجلد 1. من كتاب
: البيان والتبيين
المؤلف : أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الكريم وسلم عونك اللهم وتيسيرك
اللهم إنا
نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن
كما نعوذ بك من العجب بما نحسن ونعوذ بك من السلاطة والهذر كما نعوذ بك من العي
والحصر وقديما تعوذوا بالله من شرهما وتضرعوا الى الله في السلامة منهما
وقد قال النمر بن تولب
( أعذني رب من حصر وعي ... ومن نفس أعالجها علاجا )
وقال الهذلي
( ولا حصر بخطبته ... اذا ما عزت الخطب )
وقال مكي بن سوادة
( حصر مسهب جري جبان ... خير عي الرجال عي سكوت )
وقال الاخر
( مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع )
ومما ذموا به العي قوله
( وما بي من عي ولا أنطق الخنا ... إذا جمع الأقوام في
الخطب محفل )
وقال الراجز وهو يمتدح بدلوه
( علقت يا حارث عند الورد ... بجابىء لا رفل التردي )
( ولا عيي بابتناء المجد ... )
وهذا كقول بشار الاعمى
( وعي الفعال كعي المقال ... وفي الصمت عي كعي الكلم )
وهذا المذهب شبيه بما ذهب اليه شتيم بن خويلد في قوله
( ولا
يشعبون الصدع بعد تفاقم ... وفي رفق أيديكم لذي الصدع شاعب )
وهذا كقول زبان بن سيار
( ولسنا كأقوام أجدوا رياسة ... يرى مالها أولا يحس
فعالها )
( يريغون في الخصب الأمور ونفعهم ... قليل إذ الأموال
طال هزالها )
( وقلنا بلا عي وسسنا بطاقة ... إذ النار نار الحرب طال
اشتعالها )
لانهم يجعلون العجز والعي من الخرق كانا في الجوارح أو
في الألسنة وقال ابن أحمر الباهلي
( لو كنت ذا علم علمت وكيف لي ... بالعلم بعد تدبر الأمر )
وقالوا في الصمت كقولهم في النطق قال أحيحة بن الجلاح
( والصمت أحسن بالفتى ... ما لم يكن عي يشينه )
( والقول ذو خطل اذا ... ما لم يكن لب يعينه )
وقال محرز بن علقمة
( لقد وارى المقابر من شريك ... كثير تحلم وقليل عاب )
( صموتا في المجالس غير عي ... جديرا حين ينطق بالصواب )
وقال مكي بن سوادة
( تسلم بالسكوت من العيوب ... فكان السكت أجلب للعيوب )
( ويرتجل الكلام وليس فيه ... سوى الهذيان من حشد الخطيب )
وقال آخر
( جمعت صنوف العي من كل وجهة ... وكنت حريا بالبلاغة من
كثب )
( أبوك معم في الكلام ومخول ... وخالك وثاب الجراثيم في
الخطب )
وقال حميد بن ثور الهلالي
( أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو
قائل )
( فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم
باقل )
سحبان مثل في البيان وباقل مثل في العي ولهما أخبار وقال
آخر
( ماذا رزئنا منك أم الأسود ... من رحب الصدر وعقل متلد )
( وهي صناع باللسان واليد ... )
وقال اخر
( لو
صحبت شهرين دأبا لم تمل ... وجعلت تكثر قول لا و بل )
( حبك للباطل قدما قد شغل ... كسبك عن عيالنا قلت أجل )
( تضجرا مني وعيا بالحيل ... )
قال وقيل لبزرجمهر بن البختكان الفارسي أي شيء أستر للعي
قال عقل يجمله قالوا فان لم يكن له عقل قال فمال يستره قالوا فان لم يكن له مال
قال فاخوان يعبرون عنه قالوا فان لم يكن له اخوان يعبرون عنه قال فيكون ذا صمت
قالوا فان لم يكن ذا صمت قال فموت وحي خير له من ان يكون في دار الحياة
وسأل الله موسى ( ص ) حين بعثه الى فرعون بابلاغ رسالته
والابانه عن حجته والافصاح عن أدلته فقال حين ذكر العقدة التي كانت في لسانه
والحبسة التي كانت في بيانه ( واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ) وأنبأنا الله
تبارك وتعالى عن تعلق فرعون بكل سبب واستراحته الى كل شغب ونبهنا بذلك على مذهب كل
جاحد معاند وعلى كل مختال مكايد حين خبرنا بقوله ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين
ولا يكاد يبين ) وقال موسى عليه السلام ( وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فارسله معي
رداء يصدقني ) وقال ( ويضيق صدري ولا ينطلق لساني ) رغبة منه في غاية الافصاح بالحجة
والمبالغة في وضوح الدلالة لتكون الاعناق اليه أسرع وان كان قد يأتى من وراء
الحاجة ويبلغ افهامهم على بعض المشقة ولله عز و جل ان يمتحن عباده بما يشاء من
التخفيف والتثقيل ويبلو أخبارهم كيف أحب من المكروه والمحبوب ولكل زمان ضرب من
المصلحة ونوع من المحنة وشكل من العبادة ومن الدليل على ان الله عز و جل حل تلك
العقدة وأطلق ذلك التعقيد والحبسة قوله ( رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة
من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هرون أخي اشدد به أزري وأشركه في
أمري ) الى قوله ( قد أوتيت سؤالك يا موسى ) فلم تقع الاستجابة على شيء من دعائه
دون شيء لعموم الخبر
وذكر الله تعالى جميل بلائه في تعليم البيان وعظيم نعمته
في تقويم اللسان فقال ( الرحمن علم القران خلق الانسان علمه البيان ) وقال ( هذا
بيان
للناس )
ومدح القرآن بالبيان والافصاح وبحسن التفصيل والايضاح وبجودة الافهام وحكمة الابلاغ
وسماه فرقانا وقال ( عربي مبين ) وقال ( وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا ) وقال ( ونزلنا
عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) وقال ( وكل شيء فصلناه تفصيلا )
وذكر الله تعالى لنبيه حال قريش في بلاغة المنطق ورجاحة
الأحلام وصحة العقول وذكر العرب وما فيها من الدهاء والنكراء والمكر ومن بلاغة
الالسنة واللدد عند الخصومة فقال ( اذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ) وقال (
لتنذر به قوما لدا ) وقال ( ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ) وقال (
أالهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ) ثم ذكر خلابة ألسنتهم
واستمالتهم الاسماع بحسن منطقهم فقال ( وإن يقولوا تسمع لقولهم ) ثم قال ( ومن الناس من
يعجبك قوله في الحياة الدنيا ) مع قوله ( وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك
الحرث والنسل ) وقال الشاعر في قوم يحسنون في القول ويسيئون في العمل قال ابو حفص
أنشدني الاصمعي للمكعبر الضبي
( كسالى اذا لاقيتهم غير منطق ... يلهى به المحروب وهو
عناء )
وقيل لذوهمان ما تقول في خزاعة قال جوع وأحاديث وفي شبيه
بهذا المعنى قال أفنون بن صريم التغلبي
( لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... غذي قيل ولقمان وذي
جدن )
( لما وقوا بأخيهم من مهولة ... أخا السكون ولا حادوا عن
السنن )
( أنى جزوا عامرا سوءا بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوأى
من الحسن )
( أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنف أذا ما
ضن باللبن )
ورئمان أصله الرقة والرحمة والرؤم أرق من الرؤف فقال
رئمان أنف كأنها تبر ولدها بأنفها وتمنعه اللبن
ولأن العرب تجعل الحديث والبسط والتأنيس والتلقي بالبشر
من حقوق القرى ومن تمام الأكرام وقالوا تمام الضيافة الطلاقة عند أول وهلة واطالة
الحديث عند المؤاكلة وقال شاعرهم وهو حاتم الطائي
( سلي الجائع الغرثان يا أم منذر ... اذا ما أتاني بين
ناري ومجزري )
( هل
ابسط وجهي انه أول القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري )
وقال الاخر
( إنك يا ابن جعفر خير فتى ... وخيرهم لطارق اذا أتى )
( ورب نضو طرق الحي سرى ... صادف زادا وحديثا ما اشتهى )
( إن الحديث جانب من القرى ... )
وقال الآخر
( لحافي لحاف الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال
مقنع )
( أحدثه ان الحديث من القرى ... وتعلم نفسي انه سوف يهجع )
ولذلك قال عمرو بن الاهتم
( فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا ... فهذا مبيت صالح وصديق )
وقال الاخر
( أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحل جديب )
( و ما الخصب للأضياف ان يكثر القرى ... ولكنما وجه
الكريم خصيب )
ثم قال الله تبارك وتعالى في باب اخر من صفة قريش والعرب
( أم تأمرهم أحلامهم بهذا ) وقال ( فاعتبروا يا أولي الالباب ) وقال ( أنظر كيف
ضربوا لك الأمثال ) وقال ( وان كان مكرهم لتزول منه الجبال ) وعلى هذا المذهب قال ( وان يكادوا الذين
كفروا ليزلقونك بأبصارهم ) وقد قال الشاعر
( يتقارضون اذا التقوا في موقف ... نظرا يزيل مواقع
الأقدام )
وقال تبارك وتعالى ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه
ليبين لهم ) لان مدار الامر على البيان والتبيين وعلى الافهام والتفهيم وكلما كان
اللسان أبين كان أحمد كما انه كلما كان القلب أشد استبانة كان أحمد والمفهم لك
والمتفهم عنك شريكان في الفضل إلا أن المفهم افضل من المتفهم وكذلك المعلم والمتعلم
هكذا ظاهر هذه القضية وجمهور هذه الحكومة إلا في الخاص
الذي لا يذكر والقليل الذي لا يشهر
وضرب الله مثلا لعي اللسان ورداءة البيان حين شبه أهله
بالنساء والولدان
وقال
تعالى ( أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) ولذلك قال النمر بن تولب
( وكل خليل عليه الرعاث ... والحبلات ضعيف ملق )
وليس حفظك الله مضرة سلاطة اللسان عند المنازعة وسقطات
الخطل يوم اطالة الخطبة بأعظم مما يحدث عن العي من اختلال الحجة وعن الحصر من فوت
درك الحاجة والناس لا يعيرون الخرس ولا يلومون من استولى على بيانه العجز وهم
يذمون الحصر ويؤنيون العي فان تكلفا مع ذلك مقامات الخطباء وتعاطيا مناظرة البلغاء
تضاعف عليهما الذم وترادف عليهما التأنيب ومماتنة العي الحصر للبليغ المصقع في
سبيل مماتنة المنقطع المفحم للشاعر المفلق وأحدهما ألوم من صاحبة والالسنة اليه
أسرع وليس اللجلاج والتمتام الالثغ والفأفاء وذو الحبسة والحكلة والرتة وذو اللفف
والعجلة في سبيل الحصر في خطبته والعي في مناضلة خصومه كما ان سبيل المفحم عند
الشعراء والبكىء عند الخطباء خلاف سبيل المسهب الثرثار والخطل المكثار
ثم اعلم ابقاك الله ان صاحب التشديق والتقعير والتقعيب
من الخطباء والبلغاء مع سماحة التكلف وشنعة التزيد أعذر من عي يتكلف الخطابة ومن
حصر يتعرض لاهل الاعتياد والدربة ومدار اللائمة ومستقر المذمة حيث رأيت بلاغة
يخالطها التكلف وبيانا يمازحه التزيد الا ان تعاطي الحصر المنقوص مقام الدرب التام
اقبح من تعاطي البليغ الخطيب ومن تشادق الاعرابي القح وانتحال المعروف ببعض
الغزارة في المعاني والالفاظ وفي التحبير والارتجال انه البحر الذي لا ينزح والغمر
الذي لا يسبر أيسر من انتحال الحصر المنخوب أنه في مسلاخ التام الموفر والجامع
المحكك وان كان رسول الله قد قال ( أياي والتشادق ) وقال ( أبغضكم الي الثرثارون
المتفيهقون ) وقال ( من بدا جفا ) وعاب الفدادين والمتزيدين في جهارة الصوت
وانتحال سعة الاشداق ورحب الغلاصم وهدل الشفاه وأعلمنا ان ذلك في أهل الوبر أكثر
وفي اهل المدر أقل فاذا عاب المدري بأكثر مما عاب به الوبري فما ظنك بالمولد
القروي والمتكلف البلدي فالحصر المتكلف والعي المتزيد ألوم
من البليغ
المتكلف لاكثر مما عنده وهو أعذر لان الشبهة الداخلة عليه اقوى فمن أسوأ حالا
أبقاك الله ممن يكون ألوم من المتشدقين ومن الثرثارين المتفيهقين وممن ذكره النبي
نصا وجعل النهي عن مذهبه مفسرا وذكر مقته له وبغضه اياه
ولما علم واصل بن عطاء انه ألثغ فاحش اللثغ وأن مخرج ذلك
منه شنيع وأنه اذ كان داعية مقالة ورئيس نحلة وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل
وزعماء الملل وأنه لابد من مقارعة الابطال ومن الخطب الطوال وان البيان يحتاج الى
تمييز وسياسة والى ترتيب ورياضة والى تمام الالة وإحكام الصنعة والى سهولة المخرج
وجهارة المنطق وتكميل الحروف واقامة الوزن وان حاجة المنطق الى الطلاوة والحلاوة
كحاجته الى الجلالة والفخامة وان ذلك من اكبر ما تستمال به القلوب وتنثني اليه
الاعناق وتزين به المعاني
وعلم واصل انه ليس معه ما ينوب عن البيان التام واللسان
المتمكن والقوة المتصرفة كنحو ما أعطى الله نبيه موسى صلوات الله عليه من التوفيق
والتسديد مع لباس التقوى وطابع النبوة ومع المحبة والاتساع في المعرفة ومع هدي
النبيين وسمت المرسلين وما يغشيهم الله به من القبول والمهابة ولذلك قال بعض شعراء
النبي
( لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تنبيك
بالخبر )
ومع ما أعطى الله موسى عليه السلام من الحجة البالغة ومن
العلامات الظاهرة والبرهانات الواضحة الى ان حل الله تلك العقدة ورفع تلك الحبسة
وأسقط تلك المحنة ومن اجل الحاجة الى حسن البيان وإعطاء الحروف حقوقها من الفصاحة
رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقة فلم يزل يكابد ذلك
ويغالبه ويناضله ويساجله ويتأنى لستره والراحة من هجنته حتى انتظم له ما حاول
واتسق له ما أمل ولولا استفاضة هذا الخبر وظهور هذه الحال حتى صار لغرابته مثلا
ولظرافته معلما لما استجزنا الاقرار به والتأكيد له ولست اعني خطبه المحفوظة
ورسائله المخلدة لان ذلك يحتمل الصنعة وإنما عنيت محاجة الخصوم ومناقلة الاكفاء
ومفاوضة الاخوان
واللثغة
في الراء تكون بالغين والذال والياء والغين أقلها قبحا وأوجدها في كبار الناس
وبلغائهم وأشرافهم وعلمائهم
وكانت لثغة محمد بن شبيب المتكلم بالغين فاذا حمل على
نفسه وقوم لسانه أخرج الراء وقد ذكر ذلك أبو الطروق الضبي فقال
( عليم بابدال الحروف وقامع ... لكل خطيب يقلب الحق
باطله )
وكان واصل بن عطاء قبيح اللثغة شنيعها وكان طويل العنق
جدا وفيه قال بشار الاعمى
( مالي أشايع غزالا له عنق ... كنقنق الدو إن ولى وان
مثلا )
( عنق الزرافة ما بالي وبالكم ... أتكفرون رجالا أكفروا
رجلا )
فلما هجا واصلا وصوب رأي إبليس في تقديم النار على الطين
وقال
( الارض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت
النار )
وكان واصل بن عطاء غزالا وزعم ان جميع المسلمين كفروا
بعد وفاة رسول الله فقيل له وعلي أيضا فأنشد
( وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذى لا تصحبينا )
قال واصل بن عطاء عند ذلك أما لهذا الملحد الاعمى المشنف
المتكنى بأبي معاذ من يقتله أما والله لولا ان الغيلة سجية من سجايا الغالية لبعثت
اليه من يبعج بطنه على مضجعه ويقتله في جوف منزله وفي يوم حفله ثم كان لا يتولى
ذلك منه إلى عقيلي او سدوسي
قال اسمعيل بن محمد الانصاري وعبد الكريم بن روح الغفاري
قال أبو حفص عمر بن أبي عثمان الشمري الا تريان كيف تجنب الراء في كلامه هذا
وأنتما للذي تريان من سلامته وقلة ظهور التكلف فيه لا تظنان به التكلف مع امتناعه
من حرف كثير الدوران في الكلام ألا تريان انه حين لم يستطع ان يقول بشار وابن برد
والمرعث جعل المشنف بدلا من المرعث والملحد بدلا من الكافر وقال إن الغيلة سجية من
سجايا الغالية ولم يذكر المنصورية ولا المغيرية لمكان الراء وقال لبعثت اليه من
يبعج بطنه ولم يقل لأرسلت اليه وقال على مضجعه ولم يقل على فراشه
وكان اذا أراد ان يذكر البر قال القمح والحنطة والحنطة
لغة كوفية
والقمح
لغة شامية هذا وهو يعلم أن لغة من قال بر أفصح من قال قمح او حنطة
قال المتنخل الهذلي
( لا در دري ان أطعمت نازلهم ... قرف الحني وعندي البر
مكنون )
وقال أمية بن أبي الصلت في مديح عبد الله بن جدعان
( له داع بمكة مشمعل ... واخر فوق دارته ينادي )
( الى ردح من الشيزى عليها ... لباب البر يلبك بالشهاد )
وقال بعض القرشيين يذكر قيس بن معد يكرب ومقدمه مكة في
كلمة له
( قيس أبو الاشعث بطريق اليمن ... لا يسأل السائل عنه
ابن من )
( أشبع آل الله من بر عدن ... )
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أترون اني لا اعرف رقيق
العيش لباب البر بصغار المعزى وسمع الحسن رجلا يعيب الفالوذق فقال لباب البر بلعاب
النحل بخالص السمن ما عاب هذا مسلم وقالت عائشة رضي الله عنها ما شبع رسول الله من
هذه البرة السمراء حتى فارق الدنيا
وأهل الامصار انما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من
العرب ولذلك تجد الاختلاف في ألفاظ أهل الكوفة والبصرة والشام ومصر
حدثني أبو سعيد عبد الكريم بن روح قال قال أهل مكة لمحمد
بن المناذر الشاعر ليست لكم معاشر اهل البصرة لغة فصيحة انما الفصاحة لنا أهل مكة
فقال ابن المناذر أما ألفاظنا فأحكى الالفاظ للقران وأكثرها له موافقه فضعوا
القران بعد هذا حيث شئتم أنتم تسمون القدر برمة وتجمعون البرمة على برام ونحن نقول
قدر ونجمعها على قدور وقال الله عز و جل ( وجفان كالجواب وقدور راسيات ) وأنتم
تسمون البيت اذا كان فوق البيت علية وتجمعون هذا الاسم على علالي ونحن نسميه غرفة
ونجمعها على غرفات وغرف وقال الله تبارك وتعالى ( غرف من فوقها غرف مبنية ) وقال ( وهم
في الغرفات امنون ) وأنتم تسمون الطلع الكافور والاغريض ونحن نسميه الطلع وقال
الله عز و جل ( ونخل طلعها هضيم
) فعد عشر كلمات لم أحفظ أنا منها الا هذا
الا ترى ان أهل المدينة لما نزل فيهم ناس من الفرس في
قديم الدهر علقوا
بألفاظ من
ألفاظهم ولذلك يسمون البطيخ الخربز ويسمون السميط الروذق ويسمون المصوص المزوز
ويسمون الشطرنج الاشترنج الى غير ذلك من الاسماء
وكذا أهل الكوفة فانهم يسمون المسحاة بال وبال بالفارسية
ولو علق ذلك لغة اهل البصرة - اذ نزلوا بأدنى بلاد فارس وأقصى بلاد العرب - كان
ذلك أشبه اذ كان اهل الكوفة قد نزلوا بأدنى بلاط النبط وأقصى بلاد العرب ويسمي أهل
الكوفة الحوك باذروج والباذروج بالفارسية والحوك كلمة عربية
وأهل البصرة إذا التقت أربع طرق يسمونها مربعة ويسميها
أهل الكوفة الجهار سو والجهار سو بالفارسية ويسمون السوق أو السويقة وازار والوازار
بالفارسية ويسمون القثاء خيارا والخيار فارسية ويسمون المجذوم ويذي بالفارسية
وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها وغيرها أحق بذلك
منها ألا ترى ان الله تبارك وتعالى لم يذكر في القران الجوع إلا في موضع العقاب او
في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال
القدرة والسلامة وكذلك ذكر المطر لانك لا تجد القرآن يلفظ به الا في موضع الانتقام
والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث ولفظ القرآن الذي عليه
نزل انه اذا ذكر الابصار لم يقل الاسماع واذا ذكر سبع سموات لم يقل الارضين الا
تراه لا يجمع الارض أرضين ولا السمع أسماعا والجاري على أفواه العامة غير ذلك لا
يتفقدون من الالفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال وقد زعم بعض القراء انه لم
يجد ذكر لفظ النكاح في القرآن إلا في موضع التزويج
والعامة ربما استخفت أقل اللغتين وأضعفهما وتستعمل ما هو
أقل في أصل اللغة استعمالا وتدع ما هو اظهر واكثر ولذلك صرنا نجد البيت من الشعر
قد سار ولم يسر ما هو أجود منه وكذلك المثل السائر وقد يبلغ الفارس والجواد الغاية
في الشهرة ولا يرزق ذلك الذكر والتنويه بعض من هو أولى بذلك منه ألا ترى ان العامة
ابن القرية أشهر عندها في الخطابة من سحبان وائل وعبيد الله ابن الحر أذكر عندهم
في الفروسية من زهير بن ذؤيب وكذلك مذهبهم في
عنترة بن
شداد وعتيبة بن الحارث بن شهاب وهم يضربون المثل بعمرو بن معد يكرب ولا يعرفون
بسطام بن قيس
وفي القران معان لا تكاد تفترق مثل الصلاة والزكاة
والجوع والخوف والجنة والنار والرغبة والرهبة والمهاجرين والانصار والجن والانس
قال قطرب أنشدني ضرار بن عمرو قول الشاعر في واصل
( ويجعل البر قمحا في تصرفه ... وجانب الراء حتى احتال
للشعر )
( ولم يطق مطرا والقول يعجله ... فعاد بالغيث اشفاقا من
المطر )
قال وسألت عثمان البري كيف كان واصل يصنع في العدد وكيف
كان يصنع بعشرة وعشرين وأربعين وكيف كان يصنع بالقمر والبدر ويوم الاربعاء وشهر
رمضان وكيف كان يصنع بالمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الآخرة ورجب
فقال مالي فيه قول الا ما قال صفوان
( ملقن ملهمم فيما يحاوله ... جم خواطره جواب آفاق )
وأنشدني ديسم قال أنشدني ابو محمد اليزيدي
( وخلة اللفظ في اليا آت إن فقدت ... كخلة اللفظ اللامات
والألف )
( وخصلة الراء فيها غير خافية ... فاعرف مواقعها في
القول والصحف )
يزعم ان هذه الحروف اكثر تردادا من غيرها والحاجة اليها
أشد واعتبر ذلك بأن تأخذ عدة رسائل وعدة خطب من جملة خطب الناس ورسائلهم فانك متى
حصلت جميع حروفها وعددت كل شكل على حدة علمت ان هذه الحروف الحاجة اليها أشد
ذكر ما جاء في تلقيب واصل بالغزال ومن نفي ذلك عنه
قال ابو
عثمان فمن ذلك ما أخبرنا به الاصمعي قال أنشدني المعتمر بن سليمان لاسحق بن سويد
العدوي
( برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم وابن باب )
( ومن قوم اذا ذكروا عليا ... يردون السلام على السحاب )
( ولكني أحب بكل قلبي ... وأعلم أن ذاك من الصواب )
( رسول الله والصديق حبا ... به أرجو غدا حسن الماب )
وفي ذلك قال بشار
( مالي
أشايع غزالا له عنق ... كنقيق الدو إن ولى وإن مثلا )
ومن ذلك قول معدان السميطى
( يوم تشفى النفوس من يعصر اللؤم ... م ويثنى بسامة
الرحال )
( وعدي وتيمها وثقيف ... وأمي وتغلب وهلال )
( لا حرور ولا النوائب تنجو ... لا ولا صحب واصل الغزال )
وكان بشار كثير المديح لواصل بن عطاء قبل ان يدين
بالرجعة ويكفر جميع الامة وكان قد قال في تفضيله على خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة
والفضل ابن عيسى يوم خطبوا عند عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي العراق
( أبا حذيفة قد أوتيت معجبة ... من خطبة بدهت من غير
تقدير )
( وإن قولا يروق الخالدين معا ... لمسكت مخرس عن كل
تجبير )
لأنه كان مع ارتجاله الخطبة التي نزع منها الراء كانت مع
ذلك أطول من خطبهم وقال بشار
( تكلفوا القول والاقوام قد حفلوا ... وحبروا خطبا ناهيك
من خطب )
( فقام مرتجلا تغلي بداهته ... كمرجل القين لما حف
باللهب )
( وجانب الراء لم يشعر به أحد ... قبل التصفح والإغراق
في الطلب )
وقال في كلمة له يعني تلك الخطبة
( فهذا بديه لا كتحبير قائل ... اذا ما أراد القول زوره
شهرا )
فلما انقلب عليهم بشار ومقاتله لهم بادية هجوه ونفوه فما
زال غائبا حتى مات عمرو بن عبيد وقال صفوان الانصاري
( متى كان غزال له يا ابن حوشب ... غلام كعمرو او كعيسى
بن حاضر )
( أما كان عثمان الطويل بن خالد ... أو القرم حفص نهية
للمخاطر )
( له خلف شعب الصين في كل ثغرة ... الى سوسها الاقصى
وخلف البرابر )
( رجال دعاة لا يفل عزيمهم ... تهكم جبار ولا كيد ماكر )
( إذا قال مروا في الشتاء تطاوعوا ... وإن كان صيفا لم
يخف شهر ناجر )
( بهجرة أوطان وبذل وكلفة ... وشدة أخطار وكد المسافر )
( فأنجح مسعاهم وأثقب زندهم ... وأورى بفلج للمخاصم قاهر )
( وأوتاد أرض الله في كل بلدة ... وموضع فتياها وعلم
التشاجر )
( وما
كان سحبان يشق غبارهم ... ولا الشدق من حيي هلال بن عامر )
( ولا الناطق النخار والشيخ دغفل ... إذا وصلوا أيمانهم
بالمخاصر )
( ولا القالة الأعلون رهط مكحل ... اذا نطقوا في الصلح
بين العشائر )
( بجمع من الجفين راض وساخط ... وقد زحفت براؤهم للمحاضر )
( تلقب بالغزال واحد عصره ... فمن لليتامى والقبيل
المكاثر )
( ومن لحرري وآخر رافض ... وآخر مرجي وآخر حائر )
( وأمر بمعروف وانكار منكر ... وتحصين دين الله من كل
كافر )
( يصيبون فصل القول في كل منطق ... كما طبقت في العظم
مدية جازر )
( تراهم كأن الطير فوق رؤوسهم ... على عمة معروفة في
المعاشر )
( وسيماهم معروفة في وجوههم ... وفي المشي حجاجا وفوق
الاباعر )
( وفي ركعة تأتي على الليل كله ... وظاهر قول في مثال
الضمائر )
( وفي قص هداب وإحفاء شارب
وكور على شيب يضيء لناظر )
( وعنفقه مصلومة ولنعله ... قبالان في ردن رحيب الخواطر )
( فتلك علامات تحيط بوصفهم ... وليس جهول القوم في جرم
خابر )
وفي واصل يقول صفوان
( فما مس دينارا ولا صر درهما ... ولا عرف الثوب الذي هو
قاطعة )
وفيه يقول اسباط بن واصل الشيباني
( وأشهد ان الله سماك واصلا ... وأنك ميمون النقيبة
والشيم )
ولما قام بشار يعذر ابليس في ان النار خير من الارض وذكر
واصلا بما ذكره قال صفوان
( زعمت بأن النار أكرم عنصرا ... وفي الارض تحيا
بالحجارة والزند )
( ويخلق في أرحامها وأرومها ... أعاجيب لا تحصى بخط ولا
عقد )
( وفي القعر من لج البحار منافع ... من اللؤلؤ المكنون
والعنبر الورد )
( كذلك سر الارض في البحر كله ... وفي الغيضة الغناء
والجبل الصلد )
( ولا بد من أرض لكل مطهر ... وكل سبوح في الغمائر من جد )
( كذاك وما ينساح في الارض ماشيا ... على بطنه مشي
المجانب للقصد )
( ويسري على جلد يقيم حزوزه ... تعمج ماء السيل في صبب
حرد )
( وفي
قلل الاجبال خلف مقطم ... زبرجد أملاك الورى ساعة الحشد )
( وفي الحرة الرجلاء تلقى معادنا ... لهن مغارات تبجس
بالنقد )
( من الذهب الإبريز والفضة التي ... تروق وتصبي ذا
القناعة والزهد )
( وكل فلز من نحاس وآنك ... ومن زئبق حي ونوشادر يسدي )
( وفيها زرانيخ ومكر ومرتك ... ومن مرقشيشا غير كاب ولا
مكدي )
( وفيها ضروب القار والشب والنهى ... وأصناف كبريت
مطاولة الوقد )
( ترى العرق منها في المقاطع لائحا ... كما قدت الحسناء
حاشية البرد )
( ومن إثمد جون وكلس وفضة ... ومن توتياء في معادنه هندي )
( وفي كل أغوار البلاد معادن ... وفي ظاهر البيداء من
مستوى نجد )
( وكل يواقيت الانام وحليها ... من الارض والاحجار فاخرة
المجد )
( وفيها مقام الخل والركن والصفا ... ومستلم الحجاج من
جنة الخلد )
( وفي صخرة الخضر التي عند حوتها ... وفي الحجر المهمى
لموسىعلىعمد )
( وفي الصخرة الصماء تصدع آية ... لأم فصيل ذي رغاء وذي
وجد )
( مفاخر للطين الذى كان أصلنا ... ونحن بنوه غير شك ولا
جحد )
( فذلك تدبير ونفع وحكمة ... وأوضح برهان على الواحد
الفرد )
( أتجعل عمرا والنطاسي واصلا ... كأتباع ديصان وهم قمش
المد )
( وتفخر بالميلاد والعلج عاصم ... وتضحك من جيد الرئيس
أبي جعد )
( وتحكي لدى الأقوام شنعة رأيه ... لتصرف أهواء النفوس
الى الرد )
وسميته الغزال في الشعر مطنبا ومولاك عند الظلم قصته
مردى
يقول ان مولاك ملاح لان الملاحين اذا تظلموا رفعوا
المرادى
( فيا ابن حليف الطين واللؤم والعمى ... وأبعد خلق الله
من طرق الرشد )
( أتهجوا أبا بكر وتخلع بعده ... عليا وتعزو كل ذاك الى
برد )
( كأنك غضبان على الدين كله ... وطالب ذحل لا يبيت على
حقد )
( رجعت الىالامصار من بعد واصل ... وكنت شريدا في
التهائم والنجد )
( أتجعل ليلى الناعطية نحلة ... وكل عريق في التناسخ
والرد )
( عليك بدعد والصدوف وفرتني ... وحاضنتي كسف وزاملتي هند )
( تواثب أقمارا وأنت مشوة ... وأقرب خلق الله من شبه
القرد )
ولذلك قال
فيه حماد عجرد بعد ذلك
( ويا أقبح من قرد ... اذا ما عمى القرد )
ويقال انه لم يجزع من شيء قط جزعه من هذا البيت وذكره
الشاعر وذكر أخويه لامه فقال
( لقد ولدت أم الأكيمة أعرجا ... واخر مقطوع القفا ناقص
العضد )
وكانوا ثلاثة مختلفي الاباء والأم واحدة وكلهم ولد زمنا
ولذلك قال بعض من يهجوه
( اذا دعاه الخال أقعى ونكص ... وهجنة الإقراف فيه
بالخصص )
وقال الشاعر
( لا تشهدن بخارجي مطرف ... حتى ترى من نجله أفراسا )
وقال صفوان الانصاري في بشار وأخويه وكان يخاطب أمهم
( ولدت خلدا وذيخا في تشتمه ... وبعده خزرا يشتد في
العضد )
( ثلاثة من ثلاث فرقوا فرقا ... فاعرف بذلك عرق الخال من
ولد )
وقال بعد ذلك سليمان الاعمى أخو مسلم بن الوليد الانصاري
الشاعر في اعتذار بشار لابليس وهو يخبر عن كرم خصال الارض
( لابد للأرض ان طابت وان خبثت ... من ان تحيل اليها كل
مغروس )
( وتربة الأرض ان جيدت وان قحطت ... فحملها أبدا في إثر
منفوس )
( وبطنها بفلز الارض ذو خبر ... بكل جوهرة في الارض
مرموس )
( وكل آنية عمت مرافقها ... وكل منتقد فيها وملبوس )
( وكل ماعونها كالملح مرفقة ... وكلها مضحك من قول ابليس )
وقال بعض خلفاء بغداد
( عجبت من ابليس في كبره ... وخبث ما أبداه من نيته )
( تاه على ادم في سجدة ... وصار قوادا لذريته )
وذكره بهذا المعنى سليمان أخو مسلم الانصاري فقال
( يأبى السجود له من فرط نخوته ... وقد تحول في مسلاخ
قواد )
وقال صفوان في شأن واصل وبشار وفي شأن النار والطين في
كلمة له
( وفي جوفها للعبد أستر منزل ... وفي ظهرها يقضي فرائضه
العبد )
( تمج
لفاظ الملح مجا وتصطفي ... سبائك لا تصدى وان قدم العهد )
( وليس بمحص كنه ما في بطونها ... حساب ولا خط و ان بلغ
الجهد )
( فسائل بعبد الله في يوم حفله ... وذاك مقام لا يشاهده
وغد )
( أقام شبيبا وابن صفوان قبله ... بقول خطيب لا يجانبه
القصد )
( وقام ابن عيسى ثم قفاه واصل ... فأبدع قولا ما له في
الورى ند )
( فما نقصته الراء اذ كان قادرا ... على تركها واللفظ
مطرد سرد )
( ففضل عبد الله خطبة واصل ... وضوعف في قسم الصلات له
الشكد )
( فأقنع كل القوم شكر حبائهم ... وقلل ذاك الضعف في عينه
الزهد ) وقد كتبنا احتجاج من زعم ان واصل بن عطاء كان غزالا واحتجاج من دفع ذلك
عنه ويزعم هؤلاء أن قول الناس واصل الغزال كما يقال خالد الحذاء وكما يقولون هشام
الدستواني وانما قيل ذلك لان الاباضية كانت تبعث اليه من صدقاتها بثياب دستوانية
فكان يكسوها الاعراب الذين يكونون بالحباب فأجابوه الى وقول الاباضية وكانوا قبل
ذلك لا يزوجون الهجناء فأجابوه الى التسوية وزوجوا هجينا فقال الهجين في ذلك
( إنا وجدنا دستوانينا ... الصائمين المتبعدينا )
( أفضل منكم حسبا ودينا ... أخزى الاله المتكبرينا )
( أفيكم من ينكح الهجينا ... )
وإنما قيل ذلك لواصل لكثرة جلوسه في سوق الغزالين الى
أبي عبد الله مولى قطن الهلالي وكذلك كانت حال خالد الحذاء الفقيه وكما قالوا أبو
مسعود البدري لانه كان نازلا على ذلك الماء وكما قالوا أبو مالك السدي لانه كان
يبيع الخمر في سدة المسجد
وهذا الباب مستقصى في كتاب الاسماء والكنى وقد ذكرنا
جملة منه في أنباء السرارى والمهيرات
قال أبو عثمان
ذكر الحروف التي تدخلها اللثغة وما يحضرني منها
وهي أربعة أحرف القاف والسين واللام والراء فأما التي هي على الشين المعجمة فذلك شيء لا يصورة الخط لانه ليس من الحروف المعروفة
وانما هو
مخرج من المخارج والمخارج لا تحصى ولايوقف عليها وكذلك القول في حروف كثيرة من
حروف لغات العجم وليس ذلك في شيء اكثر منها في لغة الخوز وفي سواحل البحر من أسياف
فارس ناس كثير كلامهم شبيه بالصفير فمن يستطيع ان يصور كثيرا من حروف الزمزمة وهي
الحروف التي تظهر من فم المجوسي اذا ترك الافصاح عن معانيه واخذ في باب الكناية
وهو على الطعام
فاللثغة التي تعرض للسين تكون ثاء كقوله لابي يكسوم أبي
يكثوم وكما يقولون بثرة اذا أرادوا بسرة وباثم الله إذا أرادوا بسم الله
والثانية اللثغة التي تعرض للقاف فان صاحبها يجعل القاف
طاء فاذا اراد أن يقول قلت له قال طلت له وأراد أن يقول قال لي قال طال لي
وأما اللثغة التي تقع في اللام فان من أهلها من يجعل
اللام ياء فيقول بدل قوله اعتللت اعتييت وبدل جمل جمي وآخرون يجعلون اللام كافا
كالذي عرض لعمر أخى هلال فانه كان اذا اراد ان يقول ما العلة في هذا قال ما اكعكة
في هذا
فاما اللثغة التي تقع في الراء فان عددها يضعف على عدد
لثغة اللام لان الذي يعرض لها أربعة أحرف فمنهم من اذا أراد ان يقول عمرو قال عمي
فيجعل الراء ياء ومنهم من اذا أراد ان يقول عمرو قال عمغ فيجعل الراء غينا ومنهم
من اذا أراد ان يقول عمرو قال عمذ فيجعل الراء ذالا واذا أنشد قول الشاعر
( وأستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد )
قال
( واستبدت مذة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد )
فمن هؤلاء علي بن جنيد بن فريدى
ومنهم من يجعل الراء ظاء معجمة فيقول اذا أنشد هذا البيت
( واستبدت مرة واحدة ... انما العاجز من لا يستبد )
قال
( واستبدت مظة واحدة ... انما العاجز من لا يستبد )
ومنهم من يجعل الراء غينا معجمة فاذا اراد ان ينشد هذا
البيت
( واستبدت
مرة واحدة ... انما العاجز من لا يستبد
)
قال
( واستبدت مغة واحدة ... انما العاجز من لا يستبد )
كما أن الذي لثغته بالياء اذا اراد ان يقول واستبدت مرة
واحدة قال واستبدت مية واحدى
وأما اللثغة الخامسة التي كانت تعرض لواصل بن عطاء
وسليمان بن يزيد العدوي الشاعر فليس الى تصويرها سبيل وكذلك اللثغة التي تعرض في
الشين كنحو ما كان لمحمد بن الحجاج كاتب داود بن محمد كاتب أم جعفر فان تلك ايضا
ليس لها صورة في الخط ترى بالعين وانما يصورها اللسان وتتأدى الى السمع وربما
اجتمعت في الواحد لثغتان في حرفين كنحو لثغة شوشي صاحب عبد الله بن خالد الاموي
فانه كان يجعل اللام ياء والراء ياء قال مرة موياي ويي ايي يريد مولاي ولي الري
واللثغة في الراء اذا كانت بالياء فهي أحقرهن وأوضعهن
لذي المروءة ثم التي على الظاء ثم التي على الذال فأما التي على الغين فهي أيسرهن
ويقال ان صاحبها لو جهد نفسه جهده وأخذ لسانه وتكلف مخرج الراء على حقها والافصاح
بها لم يكن بعيدا من ان تجيبه الطبيعة ويؤثر فيها ذلك التعهد أثرا حسنا وقد كانت
لثغة محمد بن شبيب المتكلم بالغين وكان اذا شاء ان يقول عمر ولعمري وما أشبه ذلك
على الصحة قاله ولكنه كان يستثقل التكلف والتهيؤ لذلك فقلت له اذا لم يكن المانع
إلا هذا العذر فلست أشك أنك لو احتملت هذا التكلف والتتبع شهرا واحدا ان لسانك كان
يستقيم
أما من يعتريه اللثغ في الضاد ربما اعتراه أيضا في الصاد
والراء حتى اذا أراد ان يقول مضر قال مضى فهذا وأشباهه لاحقون بشوشي
وزعم ناس من العوام أن موسى صلوات الله وسلامه عليه كان
ألثغ ولم يقفوا من الحروف التي كانت تعرض له في شيء بعينه فمنهم من جعل ذلك خلقة
ومنهم من زعم أنه انما اعتراه حين قالت اسية بنت مراحم امرأة فرعون لفرعون لا تقتل
طفلا لا يفرق الجمر من التمر فلما دعا له فرعون بهما جميعا تناول جمرة فأهوى بها
الى فيه فاعتراه من ذلك ما اعتراه
وأما اللثغة في الراء فتكون في الياء والذال والغين وهي
اقلها قبحا
وأوجدها
في ذي الشرف وكبار الناس وبلغائهم وأشرافهم وعلمائهم وكانت لثغة محمد بن شبيب
المتكلم بالغين فاذا حمل على نفسه وقوم لسانه اخرج الراء على الصحة فتأتى له ذلك
وكان يدع ذلك استثقالا أنا سمعت ذلك منه قال وكان الواقدي يروي عن بعض رجاله ان
لسان موسى عليه السلام كانت عليه شامة فيها شعرات وليس يدل القران على شيء مما
قالوا لانه ليس في قوله ( واحلل عقدة من لساني ) دليل على شيء دون شيء
قال الاصمعي اذا تتعتع اللسان في التاء فهو تمتام واذا
تتعتع في الفاء فهو فأفاء وانشد لرؤبة بن العاج
( ياحمد ذاك المنطق التمتام ... كأن وسواسك في اللمام )
( حديث شيطان بني همام ... )
وبعضهم ينشد يا حمد ذات المنطق النمنام وليس ذاك بشيء
وانما ذلك كما قاله ابو الزحف
( لست بفأفاء ولا تمتام ... ولا كثير الهجر في المنام )
وانشد أيضا للخولاني في كلمة له
( إن السياط تركن لاستك منطقا ... كمقالة التمتام ليس
بمعرب )
فجعل الخولاني التمتام غير معرب عن معناه ولا مفصح
بحاجته
وقال أبو عبيدة اذا أدخل الرجل بعض كلامه في بعض فهو ألف
وقيل بلسانه لفف وأنشدني لابي الزحف الراجز
( كأن فيه لففا اذا نطق ... من طول تحبيس وهم وأرق )
كأنه لما جلس وحده ولم يكن له من يسلمه وطال عليه ذلك
أصابه لفف في لسانه وكان يزيد بن جابر قاضي الازارقة بعد المقعطل يقال له الصموت
لانه لما طال صمته ثقل عليه الكلام فكان لسانه يلتوي ولا يكاد يبين وأخبرني محمد
بن الجهم أن مثل هذا اعتراه أيام محاربة الزط من طول التفكر ولزوم الصمت قال
وأنشدني الاصمعي
( حديث بني زط اذا ما لقيتهم ... كنزو الدبى في العرفج
المتقارب )
قال ذلك حين كان في كلامهم عجلة وقال سلمة بن عياش
( كأن بني رالان اذا جاء جمعهم ... فراريج يلقى بينهن
سويق )
فقال ذلك
لرقة أصواتهم وعجلة كلامهم وقال اللهبي في اللجلاج
( ليس خطيب القوم باللجلاج ... ولا الذي يزحل كالهلباج )
( ورب بيداء وليل داج ... هتكته بالنص والإدلاج )
وقال محمد بن سلام الجمحي كان عمر بن الخطاب رضى الله
تعالى عنه اذا رأى الرجل يتلجلج في كلامه قال خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد
ويقال في لسانه حبسة اذا كان الكلام يثقل عليه ولم يبلغ حد الفأفاء والتمتام ويقال
في لسانه لكنة اذا أدخل بعض حروف العجم في حروف العرب وجذبت لسانه العادة الاولى
الىالمخرج الاول فاذا قالوا في لسانه حكله فانما يذهبون الى نقصان الة المنطق وعجز
أداة اللفظ حتى لا تعرف معانيه الا بالاستدلال وقال رؤية بن العجاج
( لو أنني أوتيت علم الحكل ... علم سليمان كلام النمل )
وقال محمد بن ذؤيب في مديح عبد الملك بن صالح
( ويفهم قول الحكل لو أن ذرة ... تساود أخرى لم يفته
سوادها )
وقال التيمي في هجائه لبني تغلب
( ولكن حكلا لا تبين ودينها ... عبادة أعلاج عليها
البرانس )
قال سحيم بن حفص في الخطيب الذى تعرض له النحنحة والسعلة
وذلك اذا انتفخ سحره وكبا زنده ونبا حده فقال
( نعوذ بالله من الإهمال ... ومن كلال الغرب في المقال )
( ومن خطيب دائم السعال ... )
وأنشدني الاعرابي
( إن زيادا ليس بالبكي ... ولا بهياب كثير العي )
وأنشدني بعض أصحابنا
( ناديت هيذان والابواب مغلقة ... ومثل هيذان سني فتحة
الباب )
( كالهندواني لم يفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجاب )
وقال الآخر
( اذا الله سني عقد شيء تيسرا ... )
وقال بشر بن معمر في مثل ذلك
( ومن
الكبائر مقول متتعتع ... جم التنحنح متعب ميهور )
وذلك أنه شهد ريسان أبا بجير بن ريسان يخطب وقد شهدت انا
هذه الخطبة ولم أر جبانا قط أجرأ منه ولا جريئا قط أجبن منه
وقال الاشل الازرقي - من بعض اخوال عمران بن حطان الصفري
القعدي - في زيد بن جندب الايادي خطيب الازارقة واجتمعا في بعض المحافل فقال بعد
ذلك الاشل البكري
( نحنح زيد وسعل ... لما رأى وقع الأسل )
( ويل امه اذا ارتجل ... ثم أطال واحتفل )
وقد ذكر الشاعر زيد بن جندب الايادي الخطيب الازرقي في
مرثيته لابي داود بن جرير الايادي حيث ذكره بالخطابة وضرب المثل بخطباء إياد فقال
( كقس أياد أو لقيط بن معبد ... وعذرة والمنطيق زيد بن
جندب )
وزيد بن جندب هو الذي يقول في الاختلاف الذي وقع بين
الازارقة
( قل للمحلين قدقرت عيونكم ... بفرقة القوم والبغضاء
والهرب )
( كنا اناسا على دين ففرقنا ... فرع الكلام وخلط الجد
باللعب )
( ما كان أغنى رجالا ضل سعيهم ... عن الجدال وأغناهم عن
الخطب )
( إني لأهونكم في الارض مضطربا ... مالي سوى فرسي والرمح
من نشب )
وأما عذرة المذكور في البيت الاول فهو عذرة بن حجرة
الخطيب الايادي ويدل على قدرة فيهم وعلى قدرة في اللسن والخطب قول شاعرهم
( وأي فتى صبر على الأين والظما ... اذا اعتصروا بلوح
ماء فظاظها )
( إذا ضرجوها ساعة بدمائها ... وحل عن الكوماء عقد
شظاظها )
( فانك ضحاك الىكل صاحب ... وأنطق من قس غداة عكاظها )
( إذا شعب المولى مشاعب معشر ... فعذرة فيها اخذ بكظاظها )
فلم يضرب هذا الشاعر الايادي المثل لهذا الخطيب الايادي
الا برجل من خطباء إياد وهو قس بن ساعدة ولم يضرب صاحب مرثية أبي داود بن جرير
الايادي المثل الا بخطباء اياد فقط ولم يفتقر الى غيرهم حيث قال في عذرة بن حجرة
( كقس إياد او لقيط بن معبد ... وعذرة والمنطيق زيد بن
جندب )
واول هذه
المرثية قوله
( نعى ابن جرير جاهل بمصابه ... فعم نزارا بالبكا
والتحوب )
( نعاه لنا كالليث يحمي عرينه ... وكالبدر يغشى ضوؤه كل
كوكب )
( وأصبر من عود وأهدى اذاسرى ... من النجم في داج من
الليل غيهب )
( واضرب من حد السنان لسانه ... وأمضى من السيف الحسام
المشطب )
( زعيم نزار كلها وخطيبها ... اذا قال طأطا رأسه كل مشغب )
( سليل قروم سادة ثم قالة ... يبزون يوم الجمع أهل
المحصب )
( كقس إياد او لقيط بن معبد ... وعذرة والمنطيق زيد بن
جندب )
في كلمة له طويلة وإياهم غنى الشاعر بقوله
( يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة
الرقباء )
قال أخبرني محمد بن عباد بن كاسب كاتب زهير ومولى بجيلة
من سبى دابق وكان شاعرا راوية وطلابة للعلم علامة قال سمعت ابا دواد بن جرير يقول
وقد جرى شيء من ذكر الخطب وتحبير الكلام واقتضابه وصعوبة ذلك المقام وأهواله فقال
تخليص المعاني رفق والاستعانة بالغريب عجز والتشادق من غير أهل البادية بغض والنظر
في عيون الناس عي ومس اللحية هلك والخروج مما بني عليه اول الكلام اسهاب وسمعته
يقول رأس الخطابة الطبع وعمودها الدربة وجناحاها رواية الكلام وحليها الاعراب
وبهاؤها تخير اللفظ والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه وانشداني بيتا له في صفة خطباء
اياد وهو قوله
( يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة
الرقباء )
فذكر المبسوط في موضعه والمحذوف في موضعه والموجز
والكناية والوحي باللحظ ودلالة الاشارة وأنشدني له الثقة في كلمة له معروفة
( الجود أخشن مسا يا بني مطر ... من أن تبز كموه كف
مستلب )
( ما أعلم الناس أن الجود مدفعة ... للذم لكنه يأتي على
النشب )
قال ثم لم يحفل بها فادعاها مسلم بن الوليد الانصاري او
ادعيت له وكان احد من يجيد قريض الشعر وتحبير الكلام
وفي الخطباء من يكون شاعرا ويكون إذا تحدث او وصف او
احتج
بليغا
مفوها بينا وربما كان خطيبا فقط وشاعرا فقط وبين اللسان فقط
ومن الشعراء الخطباء الأبيناء الحكماء قس ين ساعدة
الأيادي والخطباء كثير والشعراء اكثر منهم ومن يجمع الخطابة والشعر قليل
ومنهم عمرو بن الاهتم المنقري وهو المكحل قالوا كأن شعره
في مجالس الملوك حلل منشرة قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل للاوسية اي منظر
احسن قالت قصور بيض في حدائق خضر فأنشد عند ذلك عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه
بيت عدي بن زيد العبادي
( كدمى العاج في المحاريب أو كالبيض في الروض زهره
مستنير )
قال فقال قسامة بن زهير كلام عمرو بن الاهتم انق وشعره
احسن هذا وقسامة أحد أبيناء العرب
ومن الخطباء الشعراء البعيث المجاشعي واسمه خداش بن بشر
بن لبيد
ومن الخطباء الشعراء الكميت بن زيد الاسدي وكنيته ابو
المستهل
ومن الخطباء الشعراء الطرماح بن حكيم الطائي وكنيته ابو
نفر
قال القاسم بن معن قال محمد بن سهل راوية الكميت أنشدت
الكميت قول الطرماح
( اذا قبضت نفس الطرماح أخلقت ... عرى المجد واسترخى
عنان القصائد )
فقال الكميت إي والله وعنان الخطابة والرواية
قال ابو عثمان الجاحظ ولم ير الناس اعجب حالا من الكميت
والطرماح وكان الكميت عدنانيا عصبيا وكان الطرماح قحطانيا عصبيا وكان الكميت شيعيا
من الغالية وكان الطرماح خارجيا من الصفرية وكان الكميت يتعصب لأهل الكوفة وكان
الطرماح لأهل الشام وبينهما مع ذلك من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين قط ثم
لم يجر بينهما صرم ولا جفوة ولا إعراض ولا شيء مما تدعو هذه الخصال اليه ولم ير
الناس مثلهما إلا ما ذكروا من حال عبد الله بن زيد الاباضي وهشام بن الحكم الرافضي
فانهما صارا الى المشاركة بعد الخلطة والمصاحبة وقد كانت الحال بين خالد بن صفوان
وشبيب بن شيبة الحال التي تدعو الى المفارقة بعد المناقشة والمحاسدة للذي اجتمع
فيهما من اتفاق الصناعة والقرابة والمجاورة فكان يقال لولا أنهما أحلم تميم
لتباينا تباين
النمر
والأسد وكذلك كانت حال هشام بن حكم الرافضي وعبد الله بن زيد الاباضي إلا انهما
فضلا على سائر المتضادين بما صارا اليه من الشركة في جميع تجارتهما وذكر خالد بن
صفوان شبيب بن شيبة فقال ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية فلم يعارضه شبيب
وتدل كلمة خالد هذه على أنه يحسن ان يسب سب الاشراف
ومن الخطباء الشعراء عمران بن حطان وكنيته ابو شهاب احد
بني عمرو بن شيبان اخوة سدوس
فمن بني عمرو بن شيبان مع قلتهم من العلماء والخطباء
والشعراء
عمران بن حطان رئيس القعدة من الصفرية وصاحب فتياهم
ومقرعهم عند اختلافهم
ومنهم دغفل بن حنظلة النسابة الخطيب العلامة
ومنهم القعقاع بن شور
وسنذكر شأنهم اذا انتهينا الى موضع ذكرهم ان شاء الله
تعالى
ومن الخطباء الشعراء نصر بن سيار أحد بني ليث بن بكر
صاحب خراسان وهو يعد في أصحاب الولايات وفي الحروب وفي التدبير وفي العقل وشدة
الرأي
ومن الخطباء الشعراء زيد بن جندب الأيادي وقد ذكرنا شأنه
ومن الخطباء الشعراء عجلان بن سحبان الباهلي وسحبان هذا
هو سحبان وائل وهو خطيب العرب
ومن الخطباء الشعراء العلماء وممن قد تنافر اليه الاشراف
أعشى همدان
ومن الشعراء الخطباء عمران بن عصام العرني وهو الذي أشار
على عبد الملك بخلع أخيه عبد العزيز والبيعة للوليد بن عبد الملك في خطبته
المشهورة وقصيدته المذكورة وهو الذي لما بلغ عبد الملك بن مروان قتل الحجاج له قال
ولم قتله ويله هلا رعى قوله فيه
( وبعثت من ولد الاغر معتب ... صقر يلوذ حمامه بالعرفج )
( فاذا طبخت بناره أنضجتها ... وإذا طبخت بغيرها لم ينضج )
( وهو الهزبر إذا أراد فريسة ... لم ينجها منه صياح
الهجهج )
ومن خطباء
الامصار وشعرائهم والمولدين منهم بشار الأعمى وهو بشار ابن برد وكنيته ابو معاذ
كان من احد موالي بني عقيل فان كان مولى أم ظباء على ما يقول بنو سدوس وما ذكره
حماد عجرد فهو من موالي بني سدوس ويقال انه من أهل خراسان نازلا في بني عقيل وله
مديح كثير في فرسان أهل خراسان ورجالاتهم وهو الذي يقول
( من خراسان وبيتي في الذرى ... ولدى المسعاة فرعي قد
سبق )
ويقول
( وإني لمن قوم خراسان دارهم ... كرام وفرعي فيهم ناضر
بسق )
وكان شاعرا راجزا سجاعا خطيبا صاحب منثور ومزدوج وله
رسائل معروفة وأنشد عقبة بن رؤبة عقبة بن سلم رجزا يمتدحه فيه وبشار حاضر فأظهر
بشار استحسان الارجوزة فقال عقبة بن رؤبة هذا طراز يا أبا معاذ لا تحسنه فقال
بشارألمثلي يقال هذا الكلام أنا والله أرجز منك ومن أبيك ومن جدك ثم غدا على عقبة
بن سلم بأرجوزته التي أولها
( يا طلل الحي بذات الصمد ... بالله خبر كيف كنت بعدي )
وهي التي يقول فيها
( إسلم وحييت أبا الملد ... لله أيامك في معد )
وفيها يقول
( الحر يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الرد )
ويقول فيها
( وصاحب كالدمل الممد ... حملته في رقعة من جلدي )
( وما وراء رغبتي من زهدي ... )
أي لم أره زهدا فيه ولا رغبة ذهب الى قول الشاعر
( لقد كنت في قوم عليك أشحة ... بنفسك لولا أن من طاح
طائح )
( يودون لو خاطوا عليك جلودهم ... ولا تدفع الموت النفوس
الشحائح )
والمطبوعات على الشعر من المولدين بشار العقيلي والسيد
الحميري وأبو العتاهية وابن ابي عيينة وقد ذكر الناس في هذا الباب يحيى بن نوفل
وسلما الخاسر وخلف بن خليفة وأبان بن عبد الحميد اللاحقي أولى بالطبع من هؤلاء
وبشار أطبعهم كلهم
ومن
الخطباء الشعراء وممن يؤلف الجيد ويصنع المناقلات الحسان ويؤلف الشعر والقصائد
الشريفة مع بيان عجيب ورواية كثيرة وحسن دل وإشارة عيسى بن يزيد بن دأب احد بني
ليث بن بكر وكنيته ابو الوليد
ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد
والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن كلثوم بن عمرو العتابي وكنيته ابو عمرو وعلى
ألفاظه وحذوه ومثاله في البديع يقول جميع من يتكلف مثل ذلك من شعراء المولدين كنحو
منصور النمري ومسلم بن الوليد الانصاري وأشباههما وكان العتابي يحتذي حذو بشار في
البديع ولم يكن في المولدين أصوب بديعا من بشار وابن هرمة والعتابي من ولد عمرو بن
كلثوم ولذلك قال
( إني امرؤ هدم الإقتار مأثرتي ... واجتاح ما بنت الايام
من خطري )
( أيام عمرو بن كلثوم يسوده ... حيا ربيعة والأفناء من
مضر )
( أرومة عطلتني من مكارمها ... كالقوس عطلها الرامي من
الوتر )
ودل في هذه القصيدة على انه كان قصيرا قوله
( نهى ظراف الغواني عن مواصلتي ... ما يفجأ العين من
شيبي ومن قصري )
ومن الخطباء الشعراء الذين جمعوا الشعر والخطب والرسائل
الطوال والقصار والكتب الكبار المجلدة والسير الحسان المولدة والاخبار المدونة سهل
بن هرون بن راهيبوني الكاتب صاحب كتاب ثعلة وعفرة في معارضة كتاب كليلة ودمنة
وكتاب الأخوان وكتاب المسائل وكتاب المخزومي والهذلية وغير ذلك من الكتب
ومن الخطباء الشعراء على بن ابرهيم بن جبلة بن مخرمة ولا
أعلمه يكنى الا أبا الحسن
وسنذكر كلام قس بن ساعدة وشأن لقيط بن معبد وهند بنت
الخس وجمعة بنت حابس وخطباء إياد اذا صرنا الى ذكر خطباء القبائل ان شاء الله
ولإياد وتميم في الخطب خصلة ليست لأحد من العرب لأن رسول
الله هو الذي روى كلام قس بن ساعدة وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته وهو الذي
رواه
لقريش والعرب وهو الذي عجب من حسنه وأظهر من تصويبه وهذا إسناد تعجز عنه الاماني
وتنقطع دونه الامال وإنما وفق الله ذلك الكلام لقس ين ساعدة لاحتجاجه للتوحيد
ولاظهاره معنى الاخلاص وإيمانه بالبعث ولذلك كان خطيب العرب قاطبة
وكذلك ليس لأحد في ذلك مثل الذي لبني تميم لأن رسول الله
لما سأل عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر قال مانع لحوزته مطاع في أذينه فقال
الزبرقان أما إنه قد علم أكثر مما قال لكنه حسدني شرفي فقال عمرو أما لئن قال ما
قال فوالله ما علمته إلا ضيق الصدر زمر المروءة لئيم الخال حديث الغنى فلما رأى
انه خالف قوله الاخر قوله الاول ورأى الانكار في عين رسول الله قال يا رسول الله
رضيت فقلت أحسن ما علمت وغضبت فقلت أقبح ما علمت وما كذبت في الاولى ولقد صدقت في
الاخرة فقال النبي عند ذلك إن من البيان لسحرا
فهاتان الخصلتان خصت بهما إياد وتميم دون سائر القبائل
ودخل الأحنف بن قيس على معاوية بن أبى سفيان فأشار له
الى الوساد فقال له اجلس فجلس على الارض فقال معاوية ما منعك يا احنف من الجلوس
على الوساد فقال يا أمير المؤمنين إن فيما أوصى به قيس بن عاصم المنقري ولده أن
قال لا تغش السلطان حتى يملك ولا تقطعه حتى ينساك ولا تجلس له على فراش ولا وساد
واجعل بينك وبينه مجلس رجل او رجلين فانه عسى ان يأتي من هو أولى بذلك المجلس منك
فتقام له فيكون قيامك زيادة له ونقصا عليك حسبي بهذا المجلس يا أمير المؤمنين لعله
ان يأتي من هو أولى بذلك المجلس مني فقال معاوية لقد أوتيت تميم الحكمة مع رقة
حواشي الكلام وأنشأ يقول
( ياأيها السائل عما مضى ... وعلم هذا الزمن العائب )
( ان كنت تبغي العلم أو أهله ... أو شاهدا يخبر عن غائب )
( فاعتبر الارض بسكانها ... واعتبر الصاحب بالصاحب )
وذهب الشاعر في مرثية أبي دؤاو في قوله
( وأصبر من عود وأهدى اذا سرى ... من النجم في داج من
الليل غيهب )
هذا شبيه
بقول جبار بن سليمان بن مالك بن حعفر بن كلاب حين وقف على قبر عامر بن الطفيل فقال
كان والله لا يضل حتى يضل النجم ولا يعطش حتى يعطش البعير ولا يهاب حتى يهاب السيل
وكان والله خير ما يكون حين لا تظن نفس بنفس خيرا
وكان زيد بن جندب أشغى أقلح ولولا ذلك لكان أخطب العرب
قاطبة وقال عبيدة بن هلال اليشكري في هجائه له
( أشغى عفنباة وناب ذوعصل ... وقلح باد وسن قد نصل )
وقال عبيدة أيضا فيه
( ولفوك أشنع حين تنطق فاغرا ... من في قريح قد أصاب
بريرا )
وقال الكميت
( تشبه بالهمام اثارها ... مشافر قرحا أكلن البريرا )
وقال أخو النمر بن تولب في شنعة أشداق الجمل
( كم ضربة لك تحكي فاقراسية ... من المصاعب في أشداقه
شنع )
وفي الخطباء من كان أشغى ومن كان أروق ومن كان أشدق ومن
كان أضجم ومن كان أفقم
القراسية بعير أضجم والضجم اعوجاج في الفم والفقم مثله
والروق ركوب السن الشفة وفي كل ذلك روينا الشاهد والمثل
وروى الهيثم بن عدي عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن
عمير قال قدم علينا الاحنف الكوفة مع مصعب بن الزبير فما رأيت خصلة تذم في رجل إلا
وقد رأيتها فيه كان أصلع الرأس أحجن الانف أغضف الاذن متراكب الاسنان أشدق مائل
الذقن ناتىء الوجنة باخق العين خفيف العارضين أحنف الرجلين ولكنه اذا تكلم جلى عن
نفسه
ولو استطاع الهيثم ان يمنعه البيان أيضا لمنعه ولولا انه
لم يجد بدا من ان يجعل له شيئا على حال لما أقر بأنه اذا تكلم جلى عن نفسه
وقولنا في كلمته هذه كقول هند بنت عتبة حين أتاها نعي
يزيد بن أبي سفيان وقال لها بعض المعزين إنا لنرجو ان يكون في معاوية خلف من يزيد
فقالت هند ومثل معاوية لا يكون خلفا من أحد فوالله لو جمعت العرب من
أقطارها
ثم رمى به فيها لخرج من أي أعراضها شاء ولكنا نقول المثل الاحنف يقال إلا انه اذا
تكلم جلى عن نفسه
ثم رجع بنا القول الى الكلام الاول فيما يعتري اللسان من
ضروب الآفات
قال ابن الاعرابي طلق أبو رمادة امرأته حين وجدها لثغاء
وخاف ان تجيئه بولد ألثغ فقال
( لثغاء تأتي بحيفس ألثغ ... تميس في الموشي والمصبغ )
وأنشد ابن الاعرابي كلمة جامعة لكثير من هذه المعاني وهو
قول الشاعر
( أسكت ولا تنطق فأنت حبحاب ... كلك ذو عيب وأنت عياب )
( إن صدق القوم فأنت كذاب ... أو نطق القوم فأنت هياب )
( أو سكت القوم فأنت قبقاب ... أو أقدموا يوما فأنت وجاب )
وأنشدني
( ولست يزميجة في الفراش ... وجابة يحتمي أن يجيبا )
( ولا ذي قلازم عند الحياض ... اذا ما الشريب اراب
الشريبا )
وأنشدني
( رب غريب ناصح الجيب ... وابن أب متهم الغيب )
( ورب عياب له منظر ... مشتمل الثوب على العيب )
وأنشد
( وأجرا من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب )
وقال سهل بن هرون لو عرف الزنجي فرط حاجته الى ثناياه في
اقامة الحروف وتكميل جميل البيان لما نزع ثناياه
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سهيل بن عمرو الخطيب
يا رسول الله إنزع ثنيتيه السفليين حتى يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا أبدا وانما
قال ذلك لأن سهيلا كان أعلم من شفته السفلى
وقال خلاد بن يزيد الارقط خطب الجمحي خطبة نكاح أصاب
فيها معانى الكلام وكان في كلامه صفير يخرج من موضع ثناياه المنزوعة فأجابه زيد بن
على بن الحسين بكلام في جودة كلامه الا انه فضله بحسن المخرج والسلامة من الصفير
فذكر عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر سلامة لفظ زيد بسلامة
أسنانه
فقال في كلمة له
( قلت قوادحها وتم عديدها ... فله بذاك مزية لا تنكر )
ويروى
( صحت مخارجها وتم حروفها ... )
وزعم يحيى بن نجيم بن معاوية بن زمعة احد رواة أهل
البصرة قال قال يونس بن حبيب في تأويل قول الاحنف بن قيس
( أنا ابن الزافرية أرضعتني ... بثدي لا أجد ولا وخيم )
( أتمتني فلم تنقص عظامي ... ولا صوني اذا اصطك الخصوم )
قال انما عنى بقوله عظامي أسنانه التي في فمه وهي التي
اذا تمت تمت الحروف وقال يونس وكيف يقول مثله أتمتني فلم تنقص عظامي وهو يريد
بالعظام عظام اليدين والرجلين وهو أحنف من رجليه جميعا مع قول الحتات له والله
لانك ضئيل وان أمك لورهاء وكان أعرف بمواقع العيوب وأبصر بدقيقها وجليلها وكيف
يقول ذلك وهو نصب عيون الاعداء والشعراء والاكفاء وهو أنف مضر الذي تعطس عنه وأبين
العرب والعجم قاطبة
قالوا ولم يتكلم معاوية على منبر جماعة مذ سقطت ثناياه
في الطست
قال أبو الحسن وغيره لما شق على معاوية سقوط مقادم فمه
قال له يزيد بن معن السلمي واية ما بلغ أحد سنك الا أبغض بعضه بعضا ففوك أهون
علينا من سمعك وبصرك فطابت نفسه
وقال أبو الحسن المدايني لما شد عبد الملك اسنانه بالذهب
قال لولا المنابر والنساء ما باليت متى سقطت
قال وسألت مباركا الزنجي الفاشكار ولا أعلم زنجيا بلغ في
الفشكرة مبلغه فقلت له لم ينزع الزنجي ثناياه ولم يحدد ناس منهم أسنانهم فقال أما
أصحاب التحديد فللقتال والنهش ولانهم يأكلون لحوم الناس ومتى حارب ملك ملكا فأخذه
قتيلا أو اسيرا أكله وكذلك اذا حارب بعضهم بعضا أكل الغالب منهم المغلوب
وأما أصحاب القلع فانهم قالوا نظرنا الى مقادم أفواه
الغنم فكر هنا ان تشبه مقادم أفواهنا مقادم أفواه الغنم فكم تظنهم حفظك الله فقدوا
من المنافع العظام بفقد تلك الثنايا
وفي هذا
كلام يقع في كتاب الحيوان وقال أبوالهندى في اللثغ
( سقيت أبا المطرح إذا تأنى ... وذو الرعثات منتصب يصيح )
( شرابا يهرب الذبان عنه ... ويلثغ حين يشربه الفصيح )
وقال محمد بن الرومي مولى أمير المؤمنين قد صحت التجربة
وقامت العبرة على ان سقوط جميع الاسنان أصلح في الابانة عن الحروف منه اذا سقط
اكثرها وخالف احد شطريها الشطر الاخر
وقد رأينا تصديق ذلك في أفواه قوم شاهدهم الناس بعد ان
سقط جميع اسنانهم وبعد ان بقي منها الثلث او الربع فممن سقط جميع اسنانه وكان معنى
كلامه مفهوما الوليد بن هشام القحذمي صاحب الاخبار ومنهم ابو سفيان والعلاء بن
لبيد التغلبي وكان ذا بيان ولسن وكان عبيد الله بن ابي غسان ظريفا يصرف لسانه كيف
أحب وكان الالحاح على القيس قد برد اسنانه حتى كان لايرى احد منها شيئا الا ان
تطلع في لحم اللثة وفي أصول منابت الاسنان وكان سفيان بن الابرد الكلي كثيرا ما
يجمع بين القار والحار فتساقطت اسنانه جميعا وكان مع ذلك خطيبا بينا
وقال اهل التجربة اذا كان في اللحم الذي فيه مغارز
الاسنان تشمير وقصر سمك ذهبت الحروف وفسد البيان واذا وجد اللسان من جميع جهاته
شيئا يقرعه ويصكه ولم يمر في هواء واسع المجال وكان لسانه يملأ جوبة فمه لم يضره
سقوط اسنانه الا بالمقدار المغتفر والجزء المحتمل ويؤكد ذلك قول صاحب المنطق فانه
زعم في كتاب الحيوان أن الطائر والسبع والبهيمة كلما كان لسانه الواحد منها اعرض
كان أفصح وأبين وأحكى لم يلفن ولما يسمع كنحو الببغاء والغداف وغراب البين وما
أشبه ذلك وكالذي يتهيأ من أفواه السنانير اذا تجاوبت من الحروف المقطعة المشاركة
لمخارج حروف الناس فاما الغنم فليس يمكنها ان تقول الا ماء والميم والباء أول ما
يتهيأ في افواه الاطفال كقولهم ماما وبابا لانهما خارجان من عمل اللسان وانهما
يظهران بالتقاء الشفتين وليس شيء من الحروف أدخل في باب النقص والعجز من فم الاهتم
من الفاء والسين اذا كانا في وسط الكلمة فاما الصاد فليس تخرج الا من الشدق الايمن
الا ان يكون المتكلم أعسر يسرا مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان
يخرج
الضاد من اي شدقيه شاء فأما الايمن والاعسر والاضبط فليس يمكنهم ذلك الا
بالاستكراه الشديد وكذلك الانفاس مقسومة المنخرين فحالا يكون الاسترواح ودفع
البخار من الجوف من الشق الايمن وحالا يكون من الشق الايسر ولا يجتمعان على ذلك في
وقت الا ان يستكره ذلك مستكره او يتكلفه متكلف فاما اذا ترك أنفاسه على سجيتها لم
يكن الا كما قالوا
وقالوا الدليل على ان من سقط جميع أسنانه ان عظم اللسان
نافع له قول كعب بن جعيل ليزيد بن معاوية حين أمره بهجاء الانصار فقال أر ادي انت
الى الكفر بعد الايمان لا أهجو قوما نصروا رسول الله وآووه ولكني سأدلك على غلام
في الحي كافر كان لسانه لسان ثور يعني الاخطل وجاء في الحديث ( أن الله تبارك
وتعالى يبغض الرجل يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة الخلى بلسانها ) قالوا ويدل على
ذلك قول حسان بن ثابت حين قال له النبي
( مابقي من لسانك ) فاخرج لسانه حتى قرع بطرفه طرف
أرنبته ثم قال والله إني لو وضعته على صخر لفلقه او على شعر لحلقه وما يسرني به
مقول من معد وأبوالسمط مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن ابي حفصة وأبوه وابنه في
نسق واحد يقرعون باطراف ألسنتهم اطراف انفهم
وتقول الهند لولا ان الفيل مقلوب اللسان لكان أنطق من كل
طائر يتهيأ في لسانه كثير من الحروف المقطعة المعروفة
وقد ضرب الذين يزعمون أن ذهاب جميع الاسنان أصلح في
الابانة عن الحروف من ذهاب الشطر او الثلثين في ذلك مثلا فقالوا الحمام المقصوص
جناحاه جميعا اجدر ان يطير من الذي يكون احدهما وافرا والاخر مقصوصا قالوا وعلة
ذلك التعديل والاستواء واذا لم يكن كذلك ارتفع احد شقيه وانخفض الاخر فلم يجذف ولم
يطر والقطا من الطير قد يتهيأ من أفواهها ان تقول قطا قطا وبذلك سميت ويتهيأ من
أفواه الكلاب العينات والفا ات والواوات كنحو قولها وو وو وكنحو قولها عف عف قال
الهيثم بن عدي قيل لصبي من أبوك قال وو وو لان أباه كان يسمى كلبا
ولكل لغة حروف تدور في أكثر كلامها كنحو استعمال الروم
للسين
واستعمال
الجرامقة للعين قال الاصمعي ليس للروم ضاد ولا للفرس ثاء ولا للسريان دال
ومن ألفاظ العرب ألفاظ تنافر وإن كانت مجموعة في بيت شعر
لم يستطع المنشد إنشادها الا ببعض استكراه فمن ذلك قول الشاعر
( وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر )
ولما رأى من لا علم له أن أحدا لا يستطيع ان ينشد هذين
البيتين ثلاث مرات في نسق واحد فلا يتتعتع ولا يتلجلج وقيل لهم ان ذلك انما اعتراه
اذ كان من أشعار الجن صدقوا بذلك
ومن ذلك قول ابن بشير في أحمد بن يوسف حين أستبطأه
( هل معين على البكا والعويل ... أم معز على المصاب
الجليل )
( ميت مات وهو في ورق العيش ... مقيم به وظل ظليل )
( في عداد الموتى وفي غامر الدنيا ... أبو جعفر أخي
وخليلي )
( لم يمت ميتة الوفاة ولكن ... مات من كل صالح وجميل )
( لا أذيل الآمال بعدك إني ... بعدها الآمال حق بخيل )
( كم لها موقفا بباب صديق ... رجعت من نداه بالتعطيل )
ثم قال
( لم يضرها والحمد لله شيء ... وانثنت نحو عرف نفس زهول )
فتفقد النصف الاخير من هذا البيت فانك ستجد بعض ألفاظه
يتبرأ من بعض وأنشدني أبو العاصي قال أنشدني خلف الاحمر في هذا المعنى
( وبعض قريض القوم أولاد علة ... يكد لسان الناطق
المتحفظ )
وقال ابو العاصي أنشدني في ذلك ابو البيداء الرياحي
( وشعر كبعر الكبش فرق بينه ... لسان دعي في القريض دخيل )
أما قول خلف وبعض قريض القوم أولاد علة فانه يقول اذ كان
الشعر مستكرها وكانت الفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلا لبعض كان بينها من
التنافر ما بين أولاد العلات واذا كانت الكلمة ليس موقعها الى جنب أختها مرضيا
موافقا كان اللسان عند إنشاء ذلك الشعر مؤونة واجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء
سهل المخارج فيعلم بذلك أنه أفرغ إفراغا جيدا وسبك
سبكا
واحدا فهو يجري على اللسان كما يحري على الدهان
وأما قوله كبعر الكبش فانما ذهب إلى ان بعر الكبش يقع
متفرقا غير مؤتلف ولا متجاور وكذلك حروف الكلام وأجزاء الشعر من البيت تراها متفقة
لمسا ولينة المعاطف سهلة وتراها مختلفة متباينة ومتنافرة مستكرهة تشق على اللسان
وتكده والاخرى تراها سهلة لينة ورطبة مؤاتية سلسة النظام خفيفة على اللسان حتى كأن
البيت بأسره كلمة واحدة وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد
قال سحيم بن حفص قالت بنت الحطيئة للحطيئة تركت قوما
كراما ونزلت في بني كليب بعر الكبش فعابتهم بتفرق بيوتهم فقيل لهم فأنشدونا بعض ما
لا تتنافر أجزاؤه ولا تتباين ألفاظه فقالوا قال الثقفي
( من كان ذا عضد يدرك ظلامته ... إن الذليل الذي ليست له
عضد )
( تنبو يداه اذا ما قل ناصره ... ويأنف الضيم إن أثرى له
عدد )
وأنشدوا
( رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشية أرام الكناس
رميم )
( رميم التي قالت لجارات بيتها ... ضمنت لكم أن لا يزال
يهيم )
( ألا رب يوم لو رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال
قديم )
وأنشدوا
( ولست بزميجة في الفراش ... وجابة يحتمي ان يجيبا )
( ولا ذي قلازم عند الحياض ... اذا ما الشريب أراب
الشريبا )
قال نوفل بن سالم لرؤبة بن العجاج يا أبا الجحاف مت متى
شئت قال وكيف ذلك قال رأيت عقبة بن رؤبة ينشد رجزا أعجبني قال إنه يقول لو كان
لقوله قران وقال الشاعر
( مهاربة مناجبة قران ... منادبة كأنهم الأسود )
وأنشد ابن الاعرابي
( وبات يدرس شعرا لا قران له ... قد كان ثقفه حولا فما
زادا )
وقال بشار
( فهذا بديه لا كتحبير قائل ... اذا ما أراد القول زوره
شهرا )
فهذا في
افتراق الالفاظ فاما افتراق الحروف فان الجيم لا تقارن الظاء ولا القاف ولا الطاء
ولا الغين بتقديم ولا تأخير والزاي لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال
بتقديم ولا تأخير
وهذا باب كثير وقد يكتفى بذكر القليل حتى يستدل به على
الغاية التي اليها يجري
وقد يتكلم المغلاق الذي نشأ في سواد الكوفة بالعربية
المعروفة ويكون لفظه متخيرا فاخرا ومعناه شريفا كريما ويعلم مع ذلك السامع لكلامه
ومخارج حروفه أنه نبطي وكذلك اذا تكلم الخراساني على هذه الصفة فانك تعرف مع
اعرابه وتخير ألفاظه في مخرج كلامه أنه خراساني وكذلك إن كان من كتاب الأهواز ومع
هذا إنا نجد الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم لا يغادر من
ذلك شيئا وكذلك تكون حكايته للخراساني والاهوازي والزنجي والسندي والحبشي وغير ذلك
نعم حتى نجده كأنه اطبع منهم فأما اذا حكى كلام الفأفاء فكأنما قد جمعت كل اطرافه
في كل فأفاء في الارض في لسان واحد كما أنك تجده يحكي الأعمى بصور ينشئها لوجهه
وعينه وأعضائه لا تكاد تجد من ألف اعمى واحدا يجمع ذلك كله فكأنه قد جمع جميع طرف
حركات العميان في أعمى واحد
ولقد كان أبو دبوبة الزنجي مولى آل زياد يقف بباب الكوخ
بحضرة المكارين فينهق فلا يبقى حمار مريض ولا هرم حسير ولا متعب بهير إلا نهق وقبل
ذلك تسمع نهيق الحمار على الحقيقة فلا تنبعث لذلك ولا يتحرك منها متحرك حتى كان
ابو دبوبة يحركه وكأنه قد جمع جميع الصور التي تجمع نهيق الحمار فجعلها في نهيق
واحد وكذلك في نباح الكلاب ولذلك زعمت الاوائل ان الانسان انما قيل له العالم
الصغير سليل العالم الكبير لانه يصور بيده كل صورة ويحكي بفمه كل حكاية ولانه يأكل
النبات كما تأكل البهائم ويأكل الحيوان كما تأكل السباع وان فيه من أخلاق جميع
اجناس الحيوان أشكالا وانما تهيأ وأمكن الحاكية بجميع مخارج الامم لما أعطى الله
الانسان من الاستطاعة والتمكن وحين فضله على جميع الحيوان بالمنطق والعقل
والاستطاعة فبطول استعمال التكلف ذلت لذلك جوارحه ومتى ترك شمائله
ولسانه
على سجيتها كان مقصورا بعادة المنشأ على الشكل الذي لم يزل فيه
وهذه القضية مقصورة على هذه الجملة من مخارج الالفاظ
وصور الحركات والسكون فاما حروف الكلام فان حكمها اذا تمكنت في الالسنة خلاف هذا
الحكم ألا ترى ان السندي اذا جلب كبيرا فانه لا يستطيع الا أن يجعل الجيم زايا ولو
أقام في عليا تميم وسفلى قيس وبين عجز هوازن خمسين عاما وكذلك النبطي القح خلاف
المغلاق الذي نشأ في بلاد النبط لان النبطي القح يجعل الزاي سينا فاذا أراد ان
يقول زورق قال سورق ويجعل العين همزة فاذا أراد ان يقول مشمعل قال مشمئل والنخاس
يمتحن لسان الجارية اذا ظن أنها رومية وأهلها يزعمون أنها مولدة بان تقول ناعمة
وتقول شمس ثلاث مرات متواليات
والذي يعتري اللسان مما يمنع من البيان أمور منها اللثغة
التي تعتري الصبيان الى ان ينشأوا وهو خلاف ما يعتري الشيخ الهرم الماج المسترخي
الحنك المرتفع اللثة وخلاف ما يعتري أصحاب اللكن من العجم ومن نشأ من العرف مع
العجم
فمن اللكن ممن كان خطيبا أو شاعرا أو كاتبا داهيا زياد
بن سلمى ابو امامة وهو زياد الاعجم قال ابو عبيدة كان ينشد قوله
( فتى زاده السلطان في الود رفعة ... إذا غير السلطان كل
خليل )
قال كان يجعل السين شينا والطاء تاء فيقول
( فتى زاده الشلتان في الود رفعة ... )
ومنهم سحيم عبد بني الحسحاس قال له عمر بن الخطاب رضي
الله تعالى عنه وانشده قصيدته التي أولها
( عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والاسلام
للمرء ناهيا )
لو كان شعرك كله مثل هذا لأجزتك
قال ما سعرت يريد ما شعرت فجعل الشين المعجمة سينا غير
معجمة
ومنهم عبيد
الله بن زياد والي العراق قال لهانيء بن قبيصة أهروري سائر اليوم يريد أحروري
ومنهم صهيب بن سنان النمري صاحب رسول الله كان يقول إنك
لهائن يريد انك لخائن وصهيب بن سنان يرتضخ لكنه رومية وعبيد الله ابن زياد يرتضخ
لكنة فارسية وقد اجتمعا على جعل الحاء هاء وازدا نقاذار لكنته نبطية وكان مثلهما
في جعل الحاء هاء وبعضهم يروي أنه أملي على كاتب له فقال اكتب الهاصل ألف كر
فكتبها الكاتب بالهاء كما لفظ بها فأعاد عليه كلام فأعاد عليه الكاتب فلما فطن
لاجتماعهما على الجهل قال أنت لا تهسن ان تكتب وأنا لا أهسن ان أملى فاكتب الجاصل
الف كر فكتبها بالجيم معجمة
ومنهم ابو مسلم صاحب الدعوة كان جيد الالفاظ جيد المعاني
وكان اذا أراد ان يقول قلت له قال كلت له فشارك في تحويل القاف كافا عبيد الله بن
زياد كذلك خبرنا ابو عبيدة وانما اتى عبيد الله بن زياد في ذلك انه نشأ في
الأساورة عند شيرويه الاسواري زوج أمه مرجانة وقد كان في ال زياد غير واحد يسمى
شيرويه قال وفي دار شيرويه عاد على بن ابي طالب كرم الله وجهه زيادا في علة كانت
به
فهذا ما حضرنا من لكنة البلغاء والشعراء والرؤساء فاما
لكنة العامة ومن لم يكن له حظ في المنطق فمثل قيل مولى زياد فانه مرة قال لزياد
أهدوا الينا همار وهش يريد حمار وحش قال زياد وأي شيء تقول ويلك قال أهدو الينا
أيرا يريد عيرا فقال زياد الاول أهون وقالت أم ولد لجرير بن الخطفى لبعض ولدها وقع
الجردان في عجان أمكم أبدلت الذال دالا من الجرذان وضمت الجيم وجعلت العجين عجانا
قال بعض الشعراء في أم ولد له يذكر لكنتها
( أكثر ما أسمع منها في السحر ... تذكيرها الانثى وتأنيث
الذكر )
( والسوأة السواء في ذكر القمر ... )
لانها كانت اذا أرادت ان تقول القمر قالت الكمر وقال ابن
عباد ركبت عجوز سندية جملا فلما مشى تحتها متخلعا كهيئة حركة الجماع فقالت
هذا الذمل
يذكرنا بالسر تريد أنه يذكرها بالوطء فجعلت الشين سينا والجيم ذالا وهذا كثير
وباب اخر من اللكنة كما قيل للنبطي لم ابتعت هذه الأتان
قال أركبها وتلد لي فقد جاء بالمعنى بعينه ولم يبدل الحروف بغيرها ولا زاد فيها
ولا نقص ولكنه فتح المكسور حين قال تلد لي ولم يقل تلد لي والصقلي يجعل الذال
المعجمة دالا في الحروف
باب البيان
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
قال بعض
جهابذة الألفاظ ونقاد المعانى المعانى القائمة في صدور العباد المتصورة في أذهانهم
المتخلجة في نفوسهم والمتصلة بخواطرهم والحادثة عن فكرهم مستورة خفية وبعيدة وحشية
ومحجوبة مكنونة وموجودة في معنى معدومة لا يعرف الانسان ضمير صاحبه ولا حاجة أخيه
وخليطه ولا معنى شريكه والمعاون له على أموره وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه الا
بغيره - وانما تحيا تلك المعاني في ذكرهم لها واخبارهم عنها واستعمالهم اياها -
وهذه الخصال هي التي تقر بها من الفهم وتجلبها للعقل وتجعل الخفي منها ظاهرا
والغائب شاهدا والبعيد قريبا وهي التي تخلص الملتبس وتحل المنعقد وتجعل المهمل
مقيدا والمقيد مطلقا والمجهول معروفا والوحشي مألوفا والغفل موسوما والموسوم
معلوما وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الاشارة وحسن الاختصار ودقة المدخل يكون اظهار
المعنى وكلما كانت الدلالة أوضح وافصح وكانت الاشارة ابين وانور كان انفع وأنجع
والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله تبارك وتعالى يمدحه
يدعو اليه ويحث عليه وبذلك نطق القران وبذلك تفاخرت العرب وتفاضلت وأصناف الاعجام
والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب
دون الضمير حتى يفضي السامع الى حقيقته ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان
ومن اي جنس كان ذلك الدليل لان مدار الامر والغاية التي
اليها
يجرى القائل والسامع انما هو الفهم والافهام فبأي شيء بلغت الافهام وأوضحت عن
المعنى فذاك هو البيان في ذلك الموضع
ثم اعلم حفظك الله ان حكم المعاني خلاف حكم الالفاظ لان
المعاني مبسوطة الى غير غاية وممتدة الى غير نهاية وأسماء المعاني مقصورة معدودة
ومحصلة محدودة وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا
تنقص ولا تزيد أولها اللفظ ثم الاشارة ثم العقد ثم الخط ثم الحال وتسمى نصبة
والنصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الاصناف ولا تقصر عن تلك الدلالات
ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها
وحلية مخالفة لحلية أختها وهي التي تكشف لك عن اعيان المعاني في الجملة ثم عن
حقائقها في التفسير وعن أجناسها واقدارها وعن خاصها وعامها وعن طبقاتها في السار
والضار وعما يكون منها لغوا بهرجا وساقطا مطرحا
قال ابو عثمان وكان في الحق ان يكون هذا الباب في اول
هذا الكتاب ولكنا أخرناه لبعض التدبير
وقالوا البيان بصر والعي عمى كما ان العلم بصر والجهل
عمى والبيان من نتاج العلم والعي من نتاج الجهل وقال سهل بن هرون العقل رائد الروح
والعلم رائد العقل والبيان ترجمان العلم وقال صاحب المنطق حد الانسان ألحي الناطق
المبين وقالوا حياة المروءة الصدق وحياة الروح العفاف وحياة الحلم العلم وحياة
العلم البيان وقال يونس بن حبيب ليس لعي مروءة ولا لمنقوص البيان بهاء ولوحك
بيافوخه عنان السماء وقالوا شعر الرجل قطعة من كلامه وظنه قطعة من علمه واختياره
قطعة من عقله وقال ابن التوام الروح عماد البدن والعلم عماد الروح والبيان عماد
العلم
قد قلنا في الدلالة باللفظ فأما الاشارة فباليد وبالرأس
وبالعين والحاجب والمنكب اذاتباعد الشخصان وبالثوب وبالسيف وقد يتهدد رافع السوط
والسيف فيكون ذلك زاخرا رادعا ويكون وعيدا وتحذيرا
والاشارة واللفظ شريكان ونعم العون هي له ونعم الترجمان
هي عنه وما اكثر ما تنوب عن اللفظ وما تغني عن الخط
وبعد فهل
تعدو الاشارة ان تكون ذات صورة معروفة وحلية موصوفة على اختلاف في طبقاتها
ودلالتها وفي الاشارة بالطرف والحاجب وغير ذلك من الجوارح مرفق كبير ومعونة حاضرة
في أمور يسرها الناس من بعض ويخفونها من الجليس وغير الجليس ولولا الاشارة لم
يتفاهم الناس معنى خاص الخاص ولجهلوا هذا الباب البتة ولولا ان تفسير هذه الكلمة
يدخل في باب صناعة الكلام لفسرتها لكم وقد قال الشاعر في دلالات الاشارة
( أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة مذعور ولم
تتكلم )
( فأيقنت ان الطرف قد قال مرحبا ... وأهلا وسهلا بالحبيب
المتيم )
وقال الآخر
( وللقلب على القلب دليل حين يلقاه ... )
( وفي الناس من الناس مقاييس وأشباه ... )
( وفي العين غنى للمرء أن تنطق أفواه ... )
وقال الاخر
( ومعشر صيد ذوي تجلة ... ترى عليهم للندى أدلة )
وقال الآخر
( ترى عينها عيني فتعرف وحيها ... وتعرف عيني ما به
الوحي يرجع )
وقال الاخر
( وعين الفتى تبدي الذي في ضميره ... وتعرف بالنجوى
الحديث المغمسا )
وقال الآخر
( ألعين تبدي الذي في نفس صاحبها ... من المحبة او بغض
اذا كانا )
( والعين تنطق والأفواه صامته ... حتى ترى من ضمير القلب
تبيانا )
هذا ومبلغ الاشارة أبعد من مبلغ الصوت فهذا ايضا باب
تتقدم فيه الاشارة الصوت والصوت هو الة اللفظ وهو الجوهر الذي يقوم به التقطيع وبه
يوجد التأليف ولن تكون حركات اللسان لفظا ولا كلاما موزونا ولا منثورا الا بظهور
الصوت ولا تكون الحروف كلاما الا بالتقطيع والتأليف وحسن الاشارة باليد والرأس من
تمام حسن البيان باللسان مع الذي يكون
مع
الاشارة من الدل والشكل والتفتل والتثني واستدعاء الشهوة وغير ذلك من الامور
قد قلنا في الدلالة بالاشارة فأما الخط فما ذكر الله
تبارك وتعالى في كتابه من فضيلة الخط والانعام بمنافع الكتاب قوله لنبيه ( إقرأ
وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم ) وأقسم به في كتابه المنزل
على نبيه المرسل حيث قال ( ن والقلم وما يسطرون ) ولذلك قالوا القلم احد اللسانين
كما قالوا قلة العيال احد اليسارين وقالوا القلم أبقى أثرا واللسان اكثر هذرا وقال
عبد الرحمن بن كيسان استعمال القلم أجدر ان يحض الذهن على تصحيح الكتاب من استعمال
اللسان على تصحيح الكلام وقالوا اللسان مقصور على القريب الحاضر والقلم مطلق في
الشاهد والغائب وهو للغابر الكائن مثله للقائم الراهن والكتاب يقرأ بكل مكان ويدرس
في كل زمان واللسان لا يعدو سامعه ولا يتجاوزه الى غيره
وأما القول في العقد وهو الحساب دون اللفظ والخط فالدليل
على فضيلته وعظم قدر الانتفاع به قول الله عز و جل ( فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس
والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ) وقال جل وتقدس ( الرحمن علم القرآن خلق
الانسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان ) وقال تبارك وتعالى ( هو الذي جعل الشمس
ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا
بالحق ) وقال تبارك وتعالى ( وجعلنا الليل والنهار ايتين فمحونا اية الليل وجعلنا
آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ) والحساب
يشتمل على معان كثيرة ومنافع جليلة ولولا معرفة العباد بمعنى الحساب في الدنيا لما
فهموا عن الله عز و جل ذكره معنى الحساب في الاخرة
وفي عدم اللفظ وفساد الخط والجهل بالعقد فساد جل النعم
وفقدان جمهور المنافع واختلال كل ما جعله الله عز و جل لنا قواما ومصلحة ونظاما
واما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير
اليد وذلك ظاهر في خلق السموات والارض وفي كل صامت وناطق وجامد ونام ومقيم وظاعن
وزائد وناقص فالدلالة التي في الموات الجامد كالدلالة التي في
الحيوان
الناطق فالصامت ناطق من جهة الدلالة والعجماء معربة من جهة البرهان ولذلك قال
الاول سل الارض فقل من أجرى أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك فان لم تجبك حوارا
أجابتك اعتبارا وقال بعض الخطباء أشهد ان السموات والارض آيات دالات وشواهد قائمات
كل يؤدي عنك الحجة ويعرب عنك بالربوبية موسومة باثار قدرتك ومعالم تدبيرك التي
تجليت بها لخلقك فأوصلت الى القلوب من معرفتك ما انسها من وحشة الفكر ورجم الظنون
فهي على اعترافها لك وذلها اليك شاهدة بأنك لا تحيط بك الصفات ولا تحدك الاوهام
وان حظ المفكر فيك الاعتراف لك وقال خطيب من الخطباء حين قام على سرير الاسكندر
وهو ميت الاسكندر كان أمس انطق منه اليوم وهو اليوم أوعظ منه امس ومتى دل الشيء
على معنى فقد أخبر عنه وان كان صامتا وأشار اليه وان كان ساكتا
وهذاالقول شائع في جميع اللغات ومتفق عليه مع افراط
الاختلافات وأنشد ابو الرديني العكلي في تنسم الذئب للريح واستنشاقه واسترواحه
( يستخبر الريح اذا لم يسمع ... بمثل مقراع الصفا الموقع )
وقال عنبرة بن شداد العبسي وجعل نعيب الغراب خبرا للزاجر
( حرق الجناح كأن لحبي رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع )
وقال الراعي
( ان السماء وان الريح شاهدة ... والارض تشهد والأيام
والبلد )
( لقد جزيت بني بدر ببغيهم ... يوم الهباءة يوما ما له
قود )
وقال نصيب في هذا المعنى يمدح سليمان بن عبد الملك
( أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك
قارب )
( قفوا خبرونا عن سليمان إنني ... لمعروفه من آل ودان
طالب )
( فعاجوا فأثنوا بالذي انت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك
الحقائب )
وهذا كثير جدا
بسم الله الرحمن الرحيم
قال علي
بن أبى طالب كرم الله وجهه قيمة كل انسان ما يحسن
فلو لم نقف من هذا الكتاب الا على هذه الكلمة لوجدناها
كافية شافية
ومجزية
مغنية بل لوجدناها فاضلة على الكفاية وغير مقصرة عن الغاية
وأحسن الكلام ما كان قليلة يغنيك عن كثيرة ومعناه في
ظاهر لفظه وكان الله عز و جل قد ألبسه من الجلالة وغشاه من نور الحكمة على حسب نية
صاحبه وتقوى قائله فاذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا وكان صحيح الطبع بعيدا من
الاستكراه ومنزها عن الاختلال مصونا عن التكلف صنع في القلب صنيع الغيث في التربة
الكريمة ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة ونفذت من قائلها على هذه الصفة اصحبها
الله من التوفيق ومنحها من التأييد ما لا يمتنع من تعظيمها به صدور الجبابرة ولا
يذهل عن فهمها عقول الجهلة
وقد قال عامر بن عبد القيس الكلمة اذا خرجت من القلب
وقعت في القلب واذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان
قال الحسن رضي الله تعالى عنه وسمع متكلما يعظ فلم تقع
موعظته بموضع من قلبه ولم يرق عندها يا هذا ان بقلبك لشرا او بقلبي وقال علي بن
الحسين ابن علي رضي الله عنهم لوكان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الاستبانة
وجملة الحال في صواب التبيين لأعربوا عن كل ما تخلج في صدورهم ولوجدوا من برد
اليقين ما يغنيهم عن المنازعة الى كل حال سوى حالهم وعلى ان درك ذلك كان يعدمهم في
الايام القليلة العدة والفكرة القصيرة المدة ولكنهم من بين مغمور بالجهل ومفتون
بالعجب ومعدول بالهوى عن باب التثبت ومصروف بسوء العادة عن تفضيل التعلم وقد جمع
محمد بن على بن الحسين صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين فقال صلاح شأن جميع
التعايش والتعاشر ملء مكيال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل فلم يجعل لغير الفطنة نصيبا من
الخير ولا حظا في الصلاح لان الانسان لا يتغافل إلا عن شيء قد فطن له وعرفه
وذكر هذه الثلاثة الاخبار ابراهيم بن داحة عن محمد بن
عمير وذكرها صالح بن علي الافقم عن محمد بن عمير وهؤلاء جميعا من مشايخ الشيع وكان
ابن عمير أغلاهم
وأخبرني ابراهيم بن السندى عن علي بن صالح الحاجب عن
العباس بن محمد قال قيل لعبد الله بن عباس أنى لك هذا العلم قال قلب عقول
ولسان
سؤول وقد رووا هذا الكلام عن دغفل بن حنظلة العلامة وعبد الله أولى به منه والدليل
على ذلك قول الحسن ان اول من عرف بالبصرة ابن عباس صعد المنبر فقرأ سورة البقرة
ففسرها حرفا حرفا وكان مثجا يسيل غربا
أخبرنا هشام بن حسان وغيره قال قيل للحسن يا أبا سعيدان
قوما زعموا انك تذم ابن عباس قالوا فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال ان ابن عباس كان
من الاسلام بمكان وان ابن عباس كان من العلم بمكان وكان والله له لسان سؤول وقلب
عقول وكان والله مثجا يسيل غربا
قالوا وقال علي بن عبد الله بن عباس من لم يجد مس نقص
الجهل في عقله وذل المعصية في قلبه ولم يستبن موضع الخلة في لسانه عند كلال حده عن
حد خصمه فليس ممن يفزع عن ريبة ولا يرغب عن حال معجزة ولا يكترث لفصل ما بين حجة
وشبهة قالوا وذكر محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بلاغة بعض أهله فقال اني لأكره
ان يكون مقدار لسانه فاضلا عن مقدار علمه كما أكره ان يكون مقدار علمه فاضلا على
مقدار عقله
وهذا كلام شريف نافع فاحفظوا لفظه وتدبروا معناه
ثم اعلموا ان المعنى الحقير الفاسد والدنيء الساقط يعشش
في القلب ثم يبيض ثم يفرخ فاذا ضرب بجرانه ومكن لعروقه استفحل الفساد وبزل وتمكن
الجهل وفرخ فعند ذلك يقوى داؤه ويمتنع دواؤه اللفظ الهجين الردي والمستكره الغبي
أعلق باللسان وآلف للسمع وأشد التحاما بالقلب من اللفظ النبيه الشريف والمعنى
الرفيع الكريم ولو جالست الجهال والنوكى والسخفاء والحمقى شهرا فقط لم تنق من
أوضار كلامهم وخبال معانيهم بمجالسة أهل البيان والعقل دهرا لان الفساد أسرع الى
الناس وأشد التحاما بالطبائع والانسان بالتعلم والتكلف وبطول الاختلاف الى العلماء
ومدارسة كتب الحكماء يجود لفظه ويحسن أدبه وهو لا يحتاج في الجهل الى اكثر من ترك
التعلم وفي فساد البيان الى اكثر من ترك التخير
ومما يؤكد قول محمد بن علي بن عبد الله بن عباس قول بعض
الحكماء حين قيل له متى يكون الادب شرا من عدمه قال اذا كثر الادب ونقصت
القريحة
وقد قال بعض الأولين من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خصال
الخير عليه وهذا كله قريب بعضه من بعض
وذكر المغيرة بن شعبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال
كان والله أفضل من ان يخدع وأعقل من ان يخدع وقال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس
كفاك من علم الدين ان تعلم ما لا يسع جهله وكفاك من علم الادب ان تروي الشاهد
والمثل وكان عبد الرحمن بن اسحق القاضي يروي عن جده ابراهيم بن سلمة قال سمعت أبا
مسلم يقول سمعت الامام ابراهيم بن محمد يقول يكفي من حظ البلاغة ان لا يؤتى السامع
من سوء إفهام الناطق ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع
قال ابو عثمان واما انا فأستحسن هذا القول جدا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولا حول ولا قوة الا بالله وصلى الله على سيدنا
محمد خاصة وعلى الانبياء عامة
أخبرني أبو الزبير كاتب محمد بن حسان وحدثني محمد بن
أبان - ولا أدري كاتب من كان - قالا قيل للفارسي ما البلاغة قال معرفة الفصل من
الوصل وقيل لليوناني ما البلاغة قال تصحيح الاقسام واختيار الكلام وقيل للرومي ما
البلاغة قال حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الاطالة وقيل للهندي ما
البلاغة قال وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الاشارة وقال بعض اهل الهند جماع
البلاغة البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة ثم قال ومن البصر بالحجة والمعرفة
بمواضع الفرصة ان تدع الافصاح بها الى الكناية عنها اذ كان الافصاح أوعر طريقة
وربما كان الاضراب عنها صفحا أبلغ في الدرك وأحق بالنظر
وقال مرة جماع البلاغة التماس حسن الموقع والمعرفة
بساعات القول وقلة الحرف بما التبس من المعاني او غمض وبماشرد عليك من اللفظ او
تعذر ثم قال وزين ذلك كله وبهاؤه وحلاوته وسناؤه ان تكون الشمائل موزونة والالفاظ
معدلة واللهجة نقية فان جامع ذلك السن والسمت والجمال وطول الصمت فقد ثم كل التمام
وكمل كل الكمال
وخالف
عليه سهل بن هرون وكان سهل في نفسه عتيق الوجه حسن الاشارة بعيدا من الفدامة معتدل
القامة مقبول الصورة يقضى له بالحكمة قبل الخبرة وبرقة الذهن قبل المخاطبة وبدقة
المذهب قبل الامتحان وبالنبل قبل التكشف فلم يمنعه ذلك ان يقول ما هو الحق عنده
وان أدخل ذلك على حاله النقص قال سهل بن هرون لو ان رجلين خطبا او تحدثا او احتجا
او وصفا وكان احدهما جميلا جليلا بهيا جسيما نبيلا وذا حسب شريفا وكان الاخر قليلا
قميئا وباذ الهيئة دميما وخامل الذكر مجهولا ثم كان كلاهما في مقدار واحد من
البلاغة وفي وزن واحد من الصواب لتصدع عنهما الجمع وعامتهم تقضي للقليل الدميم على
النبيل الجسيم وللباذ الهيئة على ذي الهيئة ولشغلهم التعجب منه عن مساواة صاحبة ولصار
التعجب منه سببا للعجب به ولكان الاكثار في شأنه علة للاكثار في مدحه لان النفوس
كانت له أحقر ومن بيانه أيأس ومن حسده أبعد فاذا هجموا منه على ما لم يحتسبوه وظهر
منه خلاف ما قدروه تضاعف حسن كلامه في صدورهم وكبر في عيونهم لأن الشيء من غير
معدنه أغرب وكلما كان أغرب كان ابعد في الوهم وكلما كان أبعد في الوهم كان اظرف
وكلما كان اظرف كان أعجب وكلما كان اعجب كان ابدع وانما ذلك كنوادر كلام الصبيان
وملح المجانين فان ضحك السامعين من ذلك أشد وتعجبهم به اكثر والناس موكلون بتعظيم
الغريب واستطراف البديع وليس لهم في الموجود الراهن المقيم وفيما تحت قدرتهم من
الرأي والهوى مثل الذي معهم في الغريب القليل وفي النادر الشاذ وكل ما كان في ملك
غيرهم وعلى ذلك زهد الجيران في عالمهم الاصحاب في الفائدة من صاحبهم وعلى هذه
السبيل يستطرفون القادم عليهم ويرحلون الىالنازح عنهم ويتركون من هو أعم نفعا
واكثر في وجوه العلم تصرفا وأخف مؤونة واكثر فائدة
ولذلك قدم بعض الناس الخارجي على العريق والطارف على
التليد وكانوا يقولون اذا كان الخليفة بليغا والسيد خطيبا فإنك تجد جمهور الناس
وأكثر الخاصة فيهما على أمرين إما رجلا يعطي كلامهما من التعظيم والتفضيل والاكبار
والتبجيل على قدر حالهما في نفسه وموقعهما من قلبه وإما رجلا تعرض له
التهمة
لنفسه فيهما والخوف من ان يعطى تعظيمه لهما يوهمه من صواب قولهما وبلاغة كلامهما
ما ليس عندهما حتى يفرط في الاشفاق ويسرف في التهمة فالأول يزيد في حقه للذي له في
نفسه والاخر ينقصه من حقه لتهمته ولإشفاقه من ان يكون مخدوعا في أمره فاذا كان
الحب يعمي عن المساوىء فالبغض يعمي عن الحقائق والمحاسن وليس يعرف حقائق مقادير
المعاني ومحصول حدود لطائف الامور الا عالم حكيم او معتدل الاخلاط عليم والا القوى
المنة لوثيق العقدة والذي لا يميل مع ما يستميل الجمهور الاعظم والسواد الاكثر
وكان سهل بن هرون شديد الاطناب في وصف المأمون في
البلاغة والجهارة وبالحلاوة والفخامة وجودة اللهجة والطلاوة
واذا صرنا الى ذكر ما يحضرنا من تسمية خطباء بني هاشم
وبلغاء رجال القبائل قلنا في وصفهما على حسب حالهما والفرق الذي بينهما ولاننا عسى
ان نذكر حملة اسماء خطباء الجاهليين والاسلاميين والبدويين والحضريين وبعض ما
يحضرنا من صفاتهم وأقدارهم ومقاماتهم وبالله التوفيق
ثم رجع بنا القول الى ذكر الاشارة وروى ابو شمر عن معمر
أبي الاشعث خلاف القول الاول في الاشارة والحركة عند الخطبة وعند منازعة الرجال
ومناقلة الاكفاء
وكان ابوشمر اذا نازع لم يحرك يديه ولا منكبيه ولم يقلب
عينيه ولم يحرك رأسه حتى كأن كلامه انما يخرج من صدع صخرة وكان يقضي على صاحب
الاشارة بالافتقار الى ذلك وبالعجز عن بلوغ ارادته وكان يقول ليس من المنطق ان
تستعين عليه بغيره حتى كلمة ابرهيم بن سيار النظام عند ايوب بن جعفر فاضطره بالحجة
وبالزيادة في المسألة حتى حرك يديه وحل حبوته وحبا اليه حتى أخذ بيديه ففي ذلك
اليوم انتقل ايوب من قول ابي شمر الى قوم ابرهيم
وكان الذي غر أبا شمر وموه له هذا الرأي ان اصحابه كانوا
يستمعون منه ويسلمون له ويميلون اليه ويقبلون كل ما يورده عليهم ويثبته عندهمم
فلما طال عليه توقيرهم له وترك مجاذبتهم إياه وخفت مؤونة الكلام عليه نسي حال
منازعة الاكفاء ومجاذبة الخصوم وكان شيخا وقورا وزميتا ركينا وكان
ذا تصرف
في العلم ومذكورا بالفهم والحلم
قال معمر ابو الاشعث قلت لبهلة الهندي - ايام اجتلب يحيى
بن خالد اطباء الهند مثل منكة وبازيكر وقلبرقل وسندباذ وفلان وفلان - ما البلاغة
عند اهل الهند قال بهلة عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة لا أحسن ترجمتها لك ولم أعالج
هذه الصناعة فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها وتلخيص لطائف معانيها قال ابو الاشعث
فلقيت بتلك الصحيفة التراجمة فاذا فيها
اول البلاغة اجتماع الة البلاغة وذلك ان يكون الخطيب
رابط الجأش ساكن الجوارح قليل اللحظ متخير اللفظ لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة
ولا الملوك بكلام السوقة ويكون في قواه فضل للتصرف في كل طبقة ولا يدقق المعاني كل
التدقيق ولا ينقح الالفاظ كل التنقيح ولا يصفيها كل التصفية ولا يهذبها غاية
التهذيب ولا يفعل ذلك حتى يصادف حكميا او فيلسوفا عليما ومن قد تعود حذف فضول
الكلام واسقاط مشتركات الالفاظ قد نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة
لا على جهة الاعتراض والتصفح وعلى جهة الاستطراف والتظرف
وقال من علم حق المعنى ان يكون الاسم له طبقا وتلك الحال
له وفقا ويكون الاسم له لا فاضلا ولا مفضولا ولا مقصرا ولا مشتركا ولا مضمنا ويكون
مع ذلك ذاكرا لما عقد عليه اول كلامه ويكون تصفحه لمصادره في وزن تصفحه لموارده
ويكون لفظه مؤنقا ولهول تلك المقامات معاودا ومدار الامر على إفهام كل قوم بقدر
طاقتهم والحمل عليهم على اقدار منازلهم وان تواتيه الته وتتصرف معه أداته ويكون في
التهمة لنفسه معتدلا وفي حسن الظن بها مقتصدا فانه ان تجاوز مقدارالحق في التهمة
لنفسه ظلمها فأودعها ذلة المظلومين وان تجاوز الحق في مقدار حسن الظن بها أمنها
فأودعها تهاون الآمنين ولكل ذلك مقدار من الشغل ولكل شغل مقدار من الوهن ولكل وهن
مقدار من الجهل
وقال ابراهيم بن هانيء - وكان ماجنا خليعا كثير العبث
متمردا - ولولا ان كلامه هذا الذي أراد به الهزل يدخل في باب الجد لما جعلته صلة
الكلام
الماضي
وليس في الارض لفظ يسقط البتة ولا معنى يبور حتى لا يصلح لمكان من الاماكن قال
ابرهيم بن هانيء من تمام الة القصص ان يكون القاص اعمى ويكون شيخا بعيد مدى الصوت
ومن تمام الة الزمر ان تكون الزامرة سوداء ومن تمام آلة المغني ان يكون فاره
البرذون براق الثنايا عظيم الكبر سيء الحلق ومن تمام الة الخمار ان يكون ذميا
ويكون اسمه أذين او مازيار او ازدانقاذار او ميشا او شلوما ويكون أرقط الثياب
مختوم العنق ومن تمام الة الشعر ان يكون الشاعر اعرابيا ويكون الداعي الى الله
صوفيا ومن تمام الة السؤدد ان يكون السيد ثقيل السمع عظيم الرأس
ولذلك قال ابن سنان الجديدي لراشد بن سلمة الهذلي ما أنت
بعظيم الرأس ولا ثقيل السمع فتكون سيدا ولا بأرسح فتكون فارسا وقال شبيب بن شيبة
الخطيب لبعض فتيان بني منقر والله مامطلت مطل الفرسان ولا فتقت فتق السادة
قال الشاعر
( تقلب رأسا لم يكن رأس سيد ... وكفا ككف الضب او هي
احقر )
فعاب صغر رأسه وصغر كفه كما عاب الشاعر كف عبد الله بن
مطيع العدوي حين وجدها غليظة جافية فقال
( دعا ابن مطيع للبياع فجئنه ... الى بيعة قلبي لها غير
آلف )
( فناولني خشناء لما لمستها ... بكفي ليست من اكف
الخلائف )
وهذا باب يقع في كتاب الجوارح مع ذكر البرص والعرج والعسر
والادر والفلج والحدب والقرع وغير ذلك من علل الجوارح وهو وارد عليكم بعد هذا
الكتاب ان شاء الله تعالى
وقال ابرهيم بن هانيء ومن تمام آلة الحارس ان يكون زميتا
قطوبا أبيض اللحية أقنى أجنى وصاحب تكلم بالفارسية
وأخبرني ابراهيم بن السندى قال دخل العمانى الراجز على
الرشيد لينشده شعرا وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج فقال إياك ان تنشدني الا وعليك
عمامة عظيمة الكور وخفان دمالقان قال إبراهيم قال ابو نصر فبكر عليه من الغد وقد
تزيا بزي الاعراب فأنشده ثم دنا منه فقبل يده وقال يا أمير
المؤمنين
قد والله أنشدت مروان ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته وأنشدت يزيد بن الوليد
وإبراهيم بن الوليد ورأيت وجوههما وقبلت أيديهما وأخذت جوائزها وأنشدت السفاح
ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته وأنشدت المهدى ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت
جائزته وأنشدت الهادي ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته هذا الى كثير من أشباه
الخلفاء وكبار الامراء والسادة الرؤساء ولا والله ان رأيت فيهم أبهى منظرا ولا
أحسن وجها ولا انعم كفا ولا اندى راحة منك يا أمير المؤمنين ووالله لو ألقى في
روعي أني أتحدث عنك ما قلت لك ما قلت فأعظم له الجائزة على شعره وأضعف له على
كلامه وأقبل عليه فبسطه حتى تمنى والله جميع من حضر انهم قاموا ذلك المقام
ثم رجع بنا القول الى الكلام الاول قال ابن الاعرابي قال
معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عياش العبدي ما هذه البلاغة التي فيكم قال شيء تجيش
به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا فقال له رجل من عرض القوم يا أمير المؤمنين هم
بالبسر والرطب أبصر منهم بالخطب فقال له صحار أجل والله انا لنعلم ان الريح لتنفخه
وان البرد ليعقده وان القمر ليصبغه وان الحر لينضجه فقال له معاوية ما تعدون
البلاغة فيكم قال الايجاز قال له معاوية وما الايجاز قال له صحار ان تجيب فلا
تبطىء وأن تقول فلا تخطىء فقال معاوية او كذلك تقول قال صحار أقلني يا أمير
المؤمنين لا تبطىء ولا تخطىء
وشأن عبد القيس عجيب وذلك انهم بعد محاربة أياد تفرقوا
فرقتين ففرقة وقعت بعمان وشق عمان وفيهم خطباء العرب وفرقة وقعت الى البحرين وشق
البحرين وهم من أشعر قبيلة في العرب ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي
معدن الفصاحة وهذا عجب ومن خطبائهم المشهورين صعصعة بن صوحان وزيد بن صوحان وشيخان
بن صوحان ومنهم صحار بن عياش وصحار بن شيعة عثمان وبنو صوحان من شيعة علي ومنهم
مصقلة بن رقبة ورقبة بن مصقلة وكرب بن رقبة
واذا صرنا الى ذكر الخطباء والنسابين ذكرنا من كلام كل
واحد منهم بقدر
ما يحضرنا
وبالله التوفيق
قال لي ابن الاعرابي قال لي المفضل بن محمد الضبي قلت
لأعرابي منا ما البلاغة قال الايجاز في غير عجز والاطناب في غير خطل قال ابن
الاعرابي فقلت للمفضل ما الايجاز عندك قال حذف الفضول وتقريب البعيد قال ابن
الاعرابي قيل لعبد الله بن عمر لو دعوت الله لنا بدعوات فقال اللهم ارحمنا وعافنا
وارزقنا فقال رجل لو زدتنا يا أبا عبد الرحمن فقال نعوذ بالله من الاسهاب
باب ذكر ناس من البلغاء والخطباء والانبياء والفقهاء والامراء ممن لا
يكاد يسكت
مع قلة الخطأ والزلل
منهم زيد بن صولجان
ومنهم ابو وائلة إياس بن معاوية المزني القاضي وصاحب
الركن والمعروف بحودة الفراسة ولكثرة كلامه قال له عبد الله بن شبرومة أنا وأنت لا
نتفق انت لا تشتهي ان تسكت وانا لا اشتهي ان اسمع واتى حلقة من حلق قريش في مسجد
دمشق فاستولى على المجلس ورأوه احمر دميما باذ الهيئة قشيفا فاستهانوا به فلما
عرفوه اعتذروا اليه وقالوا الذنب مقسوم بيننا وبينك اتيتنا في زي مسكين تكلمنا
بكلام الملوك ورأيت ناسا يستحسنون جواب إياس حين قيل له ما فيك عيب غير انك معجب
بقولك قال أفأعجبكم قولي قالوا نعم قال فانا احق بان اعجب بما اقول وبما يكون مني
منكم
والناس حفظك الله لم يضعوا ذكر العجب في هذا الموضع
والمعيب عند الناس ليس هو الذي يعرف ما يكون منه من الحسن والمعرفة لا تدخل في باب
التسمية بالعجب والعجب مذموم وقد جاء في الحديث ( ان المؤمن من ساءته سيئته وسرته
حسنته ) وقيل لعمر فلان لا يعرف الشر قال ذلك أجدر ان يقع فيه وانما العجب اسراف
الرجل في السرور بما يكون منه والافراط في استحسانه حتى يظهر ذلك منه في لفظه وفي
شمائله وهو كالذي وصف به صعصعة بن صوحان المنذر بن الجارود عند علي بن ابي طالب
كرم الله وجهه فقال أما والله انه مع ذلك لنظار في عطفيه تفال في شراكيه
تعجبه
حمرة برديه
قال ابو الحسن قيل لاياس ما فيك عيب الا كثرة الكلام قال
فتسمعون صوابا أم خطأ قالوا بل صوابا قال فالزيادة من الخير خير وليس كما قال
للكلام غاية ولنشاط السامعين نهاية وما فضل عن مقدار الاحتمال ودعا إلى الاستثقال
والملال فذلك الفاضل هو الهذر وهوالخطل وهو الاسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه
وذكر الاصمعي ان عمر بن هبيرة لما أراده على القضاء قال إني لا اصلح له قال وكيف
ذاك قال لاني عيي ولأني دميم ولأني حديد قال ابن هبيرة أما الحدة فان السوط يقومك
وأما الدمامة فاني لا اريد ان أحاسن بك احدا وأما العي فقد عبرت عما تريد فان كان
إياس عند نفسه عييا فذاك أجدر ان يهجر الاكثار وبعد هذا فما نعلم أحدا رمى أياسا
بالعي وإنما عابوه بالاكثار وذكر صالح بن سليمان عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن
الحارث قال ما رأيت عقول الناس إلا قريبا بعضها من بعض إلا ما كان من عقل الحجاج
بن يوسف وإياس بن معاوية فان عقولهما كانت ترجح على عقول الناس كثيرا وقال قائل
لاياس لم تعجل بالقضاء فقال له إياس كم لكفك من اصبع قال خمس قال عجلت قال لم يعجل
من قال بعد ما قتل الشيء علما ويقينا قال إياس فهذا هو جوابي لك وكان كثيرا ما
ينشد قول النابغة الجعدي
( أبى لي البلاء واني امروء ... إذا ما تبينت لم أرتب )
قال ومدح سلمة بن عياص سوار بن عبد الله بمثل ما وصف به
إياس نفسه حين قال
( وأوقف عند الأمر ما لم يبن له ... وأمضى أذا ما شك ما
كان ماضيا )
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى الى عدي بن
أرطاة ان قبلك رجلين من مزينة فول أحدهما قضاء البصرة يعني بكر بن عبد الله المزني
وإياس بن معاوية فقال بكر والله ما أحسن القضاء فان كنت صادقا فما يحل لك ان
توليني وان كنت كاذبا انها لأحراهما وكانوا اذا ذكروا البصرة قالوا شيخها الحسن
وفتاها بكر وقال إياس بن معاوية لست بخب والخب لا يخدعني ولا يخدع ابن سيرين وهو
يخدع أبي ويخدع الحسن ودخل الشام
وهو غلام
فتقدم خصما له - وكان الخصم شيخا كبيرا - الى بعض قضاة عبد الملك بن مروان فقال
له القاضي أتتقدم شيخا كبيرا قال الحق اكبر منه قال أسكت قال فمن ينطق بحجتي قال
لا أظنك تقول حقا حتى تقوم قال لا إله إلا الله أحقا هذا أم باطل فقام القاضي فدخل
على عبد الملك من ساعته فخبره بالخبر فقال عبد الملك اقض حاجته الساعة وأخرجه من
الشام لا يفسد علي الناس فاذا كان من إياس وهو غلام يخاف على جماعة أهل الشام فما
ظنك به وقد كبرت سنه وعض ناجذه
وجملة القول في إياس انه كان مفاخر مضر ومن مقدمي القضاة
وكان فقيه البدن رقيق المسلك في الفطن وكان صادق الحدس نقابا وعجيب الفراسة ملهما
وكان عفيف الطعم كريم المدخل والشيم وجيها عند الخلفاء مقدما عند الاكفاء وفي
مزينة خير كثير
ثم رجعنا الى القول الاول ومنهم ربيعة الرأي وكان لا
يكاد يسكت قالوا وتكلم يوما فأكثر وأعجب بالذي كان منه فالتفت الى اعرابي كان عنده
فقال يا اعرابي ما تعدون العي فيكم قال ما كنت فيه منذ اليوم وكان يقول الساكت بين
النائم والاخرس
ومنهم عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي ومحمد بن حفص هو
ابن عائشة ثم قيل لعبيد الله بن أبي عائشة وكان كثير العلم والسماع متصرفا في
الخبر والاثر وكان من أجود قريش وكان لا يكاد يسكت وهو في ذلك كثير الفوائد وكان
أبوه محمد بن حفص عظيم الشأن كثير العلم بعث اليه ميخاب خليفته في بعض الامر فأتاه
في حلقته في المسجد فقال له في بعض كلامه أبو من أصلحك الله فقال له هلا عرفت هذا
قبل مجيئك وان كان لا بد لك من هذا فاعترض من شئت فاسأله فقال له اني أريد ان
تخليني قال أفي حاجة لك أم في حاجة لي قال بل في حاجة لي قال فالقني في المنزل قال
فان الحاجة لك قال ما دون اخواني ستر
ومنهم محمد بن مسعر العقيلي وكان كريما كريم المجالسة
يذهب مذهب النساك وكان جوادا مر صديق له من بني هاشم بقصر له وبستان نفيس فبلغه
انه استحسنه فوهبه له
ومنهم
أحمد بن المعذل بن غيلان كان يذهب مذهب مالك وكان ذا بيان وتبحر في المعاني وتصرف
في الالفاظ
وممن كان يكثر الكلام جدا الفضل بن سهل ثم الحسن بن سهل
في أيامه وحدثني محمد بن الجهم ودؤاد بن أبي دؤاد قالا جلس الحسن بن سهل في مصلى
الجماعة لنعيم بن حازم فأقبل نعيم حافيا حاسرا وهو يقول ذنبي أعظم من السماء ذنبي
أعظم من الهواء ذنبي أعظم من الماء قالا فقال الحسن بن سهل على رسلك تقدمت منك
طاعة وكان آخر أمرك الى توبة وليس للذنب بينهما مكان وليس ذنبك في الذنوب بأعظم من
عفو أمير المؤمنين في العفو
ومن هؤلاء علي بن هشام وكان لا يسكت ولا أدرى كيف كان
كلامه
قال وحدثني مهدى بن ميمون قال حدثنا غيلان بن جرير قال
كان مطرف بن عبد الله يقول لا تطعم طعامك من لا يشتهيه يقول لا تقبل بحديثك على من
لا يقبل عليك بوجهه وقال عبد الله بن مسعود حدث الناس ما حدجوك باسماعهم ولحظوك
بأبصارهم فإذا رأيت منهم فترة فأمسك قال وجعل السماك يوما يتكلم وجارية له حيث
تسمع كلامه فلما انصرف اليها قال لها كيف سمعت كلامي قالت ما أحسنه لولا انك تكثر
ترداده فقال أردده حتى يفهمه من لم يفهمه قالت الى ان يفهمه من لم يفهمه قد ملة من
فهمه قال عباد بن عوام عن شعبة عن قتادة قال مكتوب في التوراة لا يعاد الحديث
مرتين وسفيان بن عيينه عن الزهري قال إعادة الحديث أشد من نقل الصخر وقال بعض
الحكماء من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤونة الاستماع منك
وجملة القول في الترداد انه ليس فيه حد ينتهي اليه ولا
يؤتى الى وصفه وانما ذلك على قدر المستمعين له ومن يحضرة من العوام والخواص وقد رأينا
الله عز و جل ردد ذكر قصة موسى وهود وهرون وشعيب وابراهيم ولوط وعاد وثمود وكذلك
ذكر الجنة والنار وأمور كثيرة لانه خاطب جميع الامم من العرب وأصناف العجم واكثرهم
غبي غافل او معاند مشغول الفكر ساهي القلب واما حديث القصص والرقة فاني لم أر احدا
يعيب ذلك وما سمعناه بأحد من الخطباء كان يرى إعادة بعض الالفاظ وترداد المعاني
عيا إلا ما كان من النخار بن أوس العذري فانه كان إذا تكلم في الحمالات وفي الصفح
والاحتمال
وصلاح ذات البين وتخويف الفريقين من التفاني والبوار كان ربما ردد الكلام علىطريق
التهويل والتخويف وربما حمى فنخر
قال ثمامة بن أشرس كان جعفر بن يحيى أنطق الناس قد جمع
الهدوء والتمهل والجزالة والحلاوة وإفهاما يغنيه عن الاعادة ولو كان في الارض ناطق
يستغني بمنطقه عن الاشارة لاستغنى جعفر عن الاشارة كما استغنى عن الاعادة وقال مرة
ما رأيت احدا كان لا يتحبس ولا يتلجلج ولا يتنحنح ولا يرتقب لفظا قد استدعاه من
بعد ولا يلتمس التخلص الى معنى قد تعصى عليه طلبه اشد اقتدارا ولا أقل تكلفا من
جعفر بن يحيى وقال ثمامة قلت لجعفر بن يحيى ما البيان قال ان يكون الاسم يحيط
بمعناك ويجلي عن مغزاك وتخرجه من الشركة ولا تستعين عليه بالفكرة والذي لابد منه
ان يكون سليما من التكلف بعيدا من الصنعة بريئا من التعقيد غنيا عن التأويل
وهذا هو تأويل قول الأصمعي البليغ من طبق المفصل وأغناك
عن المفسر
خبرني جعفر بن سعيد رضيع أيوب بن جعفر وحاجبه قال ذكرت
لعمرو ابن مسعدة توقيعات جعفر بن يحيى قال قد قرأت لأم جعفر توقيعات في حواشي
الكتب وأسافلها فوجدتها أجود اختصارا وأجمع للمعاني قال ووصف اعرابي أعرابيا
بالايجاز والاصابة فقال كان والله يضع الهناء مواضع النقب يظنون انه نقل قول دريد
بن الصمة في الخنساء بنت عمرو بن الشريد الى ذلك الموضع وكان دريد قال فيها
( ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم طالي أينق جرب )
( متبذلا تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب )
ويقولون في إصابة عين المعنى بالكلام الموجز فلان يفل
المحز ويصيب المفصل وأخذوا ذلك من صفة الجزار الحاذق فجعلوه مثلا للمصيب الموجز
وأنشدني ابو قطن الغنوي وهو الذي يقال له شهيد الكرم وكان أبين من رأيته من أهل
البدو والحضر
( فلو
كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... علي لمخلوق من الناس درهما )
( ولكنني مولى قضاعة كلها ... فلست أبالي ان أدين وتغرما )
( أولئك قوم بارك الله فيهم ... على كل حال ما أعف وأكرما )
( جفاة المحز لا يصيبون مفصلا ... ولا يأكلون اللحم إلا
تخذما )
يقول هم ملوك وأشباه الملوك ولهم كفاة فهم لا يحسنون
إصابة المفصل وأنشد أبو عبيدة في مثل ذلك
( وصلع الرؤوس عظام البطون ... جفاة المحز غلاظ القصر )
وكذلك
( ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم )
وقال الآخر وهو ابن الزبعري
( وفتيان صدق حسان الوجوه ... لا يجدون لشيء ألم )
( من آل المغيرة لا يشهدون ... عند المجازر لحم الوضم )
وقال الراعي في المعنى الاول
( فطبقن عرض القف حتى لقينه ... كما طبقت في العظم مدية
جازر )
وأنشد الاصمعي
( وكف فتى لم يعرف السلخ قبلها ... تجور يداه في الأديم
وتجرح )
وأنشد الأصمعي
( لا يمسك العرف إلا ريث يرسله ... ولا يلاطم عند اللحم
في السوق )
وقد فسر ذلك لبيد بن ربيعة وبينه وضرب المثل به حيث قال
في الحكم بين عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة
( ياهرم ابن الاكرمين منصبا ... إنك قد أوتيت حكما معجبا )
( فطبق المفصل واغنم طيبا ... )
يقول أحكم بين عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة بكلمة فصل
وبأمر قاطع فتفصل بها بين الحق والباطل كما يفصل الجزار الحاذق مفصل العظمين وقد
قال الشاعر في هرم
( قضى هرم يوم المريرة بينهم ... قضاء امرىء بالأولية
عالم )
( قضى ثم ولى الحكم من كان أهله ... وليس ذنابى الريش
مثل القوادم )
ويقال في
الفحل اذا لم يحسن الضراب جمل عياياء وجمل طباقاء وقالت امرأة في الجاهلية تشكو
زوجها زوجي عياياء طباقاء وكل داء له دواء حتى جعلوا ذلك مثلا للعي الفدم الذي لا
يتجه للحجة وقال الشاعر
( طباقاء لم يشهد خصوما ولم يقد ... ركابا الى اكوارها
حين تعكف )
وذكر زهير بن ابي سلمى الخطل فعابه فقال
( وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو
قائله )
( عبأت له حلما وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد
مقاتله )
وقال الشاعر
( شمس اذا خطل الحديث أوانس ... يرقبن كل مجذر تنبال )
وقال ابو الاسود الدؤلي - واسم ابي الاسود ظالم بن عمرو
- وكان من المقدمين في العلم
( وشاعر سوء يهضب القول ظالما ... كما اقتم أعشى مظلم
الليل حاطب )
وأنشد
( أعوذ بالله الاعز الاكرم ... من قولي الشيء الذي لم
أعلم )
( تخبط الاعمى الضرير الأيهم ... )
وقال ابرهيم بن هرمة في تطبيق المفصل وتلحق هذه بمعاني
اخواتها قبل
( وعميمة قد سقت فيها عائرا ... غفلا وفيها عائرا موسوم )
( طبقت مفصلها بغير حديدة ... فرأى العدو عناي حيث أقوم )
وهذه الصفات التي ذكرها ثمامة بن أشرس فوصف بها جعفر بن
يحيى كان ثمامة بن أشرس قد انتظمها لنفسه واستولى عليها دون جميع أهل عصره وما
علمت انه كان في زمانه قروي ولا بلدي كان بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف
ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه وكان لفظه في وزن اشارته
ومعناه في طبقة لفظه ولم يكن لفظه الى سمعك باسرع من معناه الى قلبك قال بعض
الكتاب معاني ثمامة الظاهرة في الفاظه الواضحة في مخارج كلامه كما وصف الخزيمي شعر
نفسه في مديح أبي دلف حيث يقول
( له كلم فيك معقولة ... الى القلوب كركب وقوف )
وأول هذه القصيدة
( أبا
دلف دلفت حاجتي ... اليك وما خلتها بالدلوف )
ويظنون ان الخزيمي إنما احتذى في هذا البيت على أيوب بن
القرية حين قال له بعض السلاطين ما أعددت لهذا الموقف قال ثلاثة حروف كأنهن ركب
وقوف دنيا وآخرة ومعروف
وحدثني صالح بن خاقان قال قال شبيب بن شيبة الناس موكلون
بتفضيل جودة الابتداء وبمدح صاحبه وأنا موكل بتفضيل جودة القطع وبمدح صاحبه وحظ
جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة ارفع من حظ سائر البيت ثم قال شبيب فان ابتليت
بمقام لا بد لك فيه من الاطالة فقدم إحكام البلوغ في طلب السلامة من الخطل قبل
التقدم في إحكام البلوغ في شرف التجويد وإياك ان تعدل بالسلامة شيئا فان قليلا
كافيا خير من كثير غير شاف
ويقال انهم لم يروا قط خطيبا بلديا الا وهو في اول تكلفه
لتلك المقامات كان مستثقلا مستصلفا ايام رياضته كلها الى ان يتوقح وتستجيب له
المعاني ويتمكن من الالفاظ إلا شبيب بن شيبة فانه ابتدأ بحلاوة ورشاقة وسهولة
وعذوبة فلم يزل يزداد منها حتى صار في كل موقف يبلغ بقليل الكلام مالا يبلغه
الخطباء المصاقع بكثيرة قالوا ولما مات شبيب بن شيبة أتاهم صالح المري أو بعض من
اتاهم للتعزية فقال رحمه الله على أديب الملوك وجليس الفقراء وأخي المساكين وقال
الراجز
( اذا غدت سعد على شبيبها ... على فتاها وعلى خطيبها )
( من مطلع الشمس الى مغيبها ... عجبت من كثرتها وطيبها )
حدثني صديق لي قال قلت للعتابي ما البلاغة قال كل من
أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ فاذا اردت اللسان الذي
يروق الالسنة ويفوق كل خطيب باظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل في صورة الحق قال
فقلت له قد عرفت الاعادة و الحبسة فما الاستعانة قال أما تراه اذا تحدث قال عند
مقاطع كلامه يا هناه ويا هذا وياهيه واسمع مني واستمع ألي وافهم عني أولست تفهم او
لست تعقل فهذا كله وما أشبهه عي وفساد
قال عبد الكريم بن روح الغفاري حدثني عمر الشمري قال قيل
لعمرو
ابن عبيد
ما البلاغة قال ما بلغ بك الجنة وعدل بك عن النار وما بصرك مواقع رشدك وعواقب غيك
قال السائل ليس هذا اريد قال من لم يحسن ان يستمع ومن لم يحسن القول قال ليس هذا
اريد قال قال النبي إنا معشر الانبياء بكاء
اي قليلو الكلام ومنه قيل رجل بكى وكانوا يكرهون ان يزيد
منطق الرجل على عقله
قال السائل ليس هذا أريد قال كانوا يخافون من فتنة القول
ومن سقطات الكلام مالا يخافون من فتنة السكوت ومن سقطات الصمت قال السائل ليس هذا
أريد قال عمرو فكأنك إنما تريد تحبير اللفظ في حسن الإفهام قال نعم قال انك ان
اردت تقرير حجة الله في عقول المتكلمين وتخفيف المؤونة على المستمعين وتزيين تلك
المعاني في قلوب المريدين بالالفاظ المستحسنة في الاذان المقبولة عند الاذهان رغبة
في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة كنت
قد أوتيت فصل الخطاب واستوجبت على الله جزيل الثواب
قلت لعبد الكريم من هذا الذي صبر له عمرو هذا الصبر قال
قد سألت عن ذلك أبا حفص فقال ومن كان يجترىء عليه هذه الجرأة الا حفص ابن سالم
قال عمر الشمري كان عمرو بن عبيد لا يكاد يتكلم فان تكلم
لم يكد يطيل وكان يقول لا خير في المتكلم اذا كان كلامه لمن شهده دون نفسه واذا
طال الكلام عرضت للمتكلم أسباب التكلف ولا خير في شيء يأتيك به التكلف
وقال بعضهم
- وهو من أحسن ما اجتبيناه ودوناه - لا يكون الكلام
يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه فلا يكون لفظه الى سمعك أسبق
من معناه الى قلبك
وكان موسى بن عمران يقول لم أر انطق من ايوب بن جعفر
ويحيى بن خالد وكان ثمامة يقول لم أر انطق من جعفر بن يحيى بن خالد وكان سهل بن
هرون يقول لم أر انطق من المأمون أمير المؤمنين وقال ثمامة
سمعت جعفر
بن يحيى يقول لكتابه ان استطعتم ان يكون كلامكم كله مثل التوقيع فافعلوا وسمعت أبا
العتاهية يقول لو شئت ان يكون حديثي كله شعرا موزونا لكان وقال اسحق بن حسان بن
فوهة لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع احد قط سئل ما البلاغة قال البلاغة اسم
جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة فمنها ما يكون في السكوت ومنها ما يكون في الاستماع
ومنها ما يكون في الاشارة ومنها ما يكون في الحديث ومنها ما يكون في الاحتجاج
ومنها ما يكون جوابا ومنها ما يكون ابتداء ومنها ما يكون شعرا ومنها ما يكون سجعا
وخطبا ومنها ما يكون رسائل فعامة ما يكون من هذه الابواب الوحي فيها والاشارة الى
المعنى والايجاز هو البلاغة فأما الخطب بين السماطين وفي اصلاح ذات البين فالاكثار
في غير خطل والاطالة في غير املال وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك كما ان خير
ابيات الشعر البيت الذي اذا سمعت صدره عرفت قافيته
كأنه يقول فرق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد
وخطبة الصلح وخطبة المواهب حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه فانه لا خير
في كلام لا يدل على معناك ولا يشير الى مغزاك والى العمود الذي اليه قصدت والغرض
الذي اليه نزعت
قال فقيل له فان مل المستمع الاطالة التي ذكرت انهاحق
ذلك الموقف قال اذا أعطيت كل مقام حقه وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام وأرضيت
من يعرف حقوق الكلام فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو فانه لا يرضيهما شيء
وأما الجاهل فلست منه وليس منك ورضا جميع الناس شيء لا تناله وقد كان يقال رضا الناس
شيء لا ينال
قال والسنة في خطبة النكاح ان يطيل الخاطب ويقصر المجيب
ألا ترى الى قيس بن خارجة بن سنان لما ضرب بصفيحة سيفه مؤخرة راحلتي الحاملين في
شأن حمالة داحس والغبراء وقال مالي فيها ايها العشمتان قالا بل ما عندك قال عندي
قرى كل نازل ورضا كل ساخط وخطبة من لدن تطلع الشمس الى ان تغرب آمر فيها بالتواصل
وانهى فيها عن التقاطع
قالوا فخطب يوما الى الليل فما أعاد فيها كلمة ولا معنى
فقيل لابي
يعقوب هلا أكتفي بالامر بالتواصل عن النهي عن التقاطع او ليس الامر بالصلة هو
النهي عن القطيعة قال او ما علمت ان الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل
الافصاح والتكشف
قال وسئل ابن المقفع عن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ما يتصعدني كلام كما تصعدني خطبة النكاح قال ما أعرفه الا ان يكون اراد قرب الوجوه
من الوجوه ونظر الحداق من قرب في اجواف الحداق ولانه اذا كان جالسا معهم كانوا
كأنهم نظراء وأكفاء واذا علا المنبر صاروا سوقة ورعية وقد ذهب ذاهبون الى ان تأويل
قول عمر يرجع الى ان الخطيب لا يجد بدا من تزكية الخاطب فلعله كره ان يمدحه بما
ليس فيه فيكون قد قال زورا وغر القوم من صاحبه ولعمري ان هذا التأويل ليجوز اذا
كان الخطيب موقوفا على الخطابة فأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأشباهه من الأئمة
الراشدين رضوان الله تعالى عليهم اجمعين فلم يكونوا ليتكلفوا ذلك الا فيمن يستحق
المدح
وروى ابو مخنف عن الحارث الاعور قال والله لقد رأيت عليا
وانه لخطب قاعدا كقائم ومحاربا كمسالم يريد بقوله قاعدا خطبة النكاح
وقال الهيثم بن عدي لم تكن الخطباء تخطب قعودا الا في
خطبة النكاح
وكانوا يستحسنون ان يكون في الخطب يوم الحفل وفي الكلام
يوم الجمع اي من القران فان ذلك مما يورث الكلام البهاء والوقار والرقة وحسن
الموقع قال الهيثم قال عمران بن حطان ان اول خطبة خطبتها عند زياد - او قال عند
ابن زياد - فأعجب بها زياد وشهدها عمي وأبي ثم اني مررت ببعض المجالس فسمعت رجلا
يقول لبعضهم هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القران
واكثر الخطباء لا يتمثلون في خطبهم الطوال بشيء من الشعر
ولا يكرهونه في الرسائل الا ان تكون الى الخلفاء وسمعت مؤمل بن خاقان - وذكر في
خطبته تميم بن مر - فقال ان تميما له الشرف القديم العود والعز الاقعس والعدد
الهيضل وهي في الجاهلية القدام والذروة والسنام وقد قال الشاعر
( فقلت
له وأنكر بعض شأني ... ألم تعرف رقاب بني تميم )
وكان المؤمل وأهله يخالفون جمهور بني سعد في المقالة
فلشدة تحدبه على سعد وشفقته عليهم كان يناضل عند السلطان كل من سعى على أهل
مقالتهم وان كان قوله خلاف قولهم حدبا عليهم وكان صالح المري القاص العابد البليغ
كثيرا ما ينشد في قصصه وفي واعظه هذا البيت
( فبات يروي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل )
وأنشد الحسن في مجلسه وفي قصصه وفي مواعظه
( ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الاحياء )
وأنشد عبد الصمد بن الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي
الخطيب القاص الشجاع إما في قصصه وإما في خطبه رحمه الله سبحانه وتعالى
( أرض تخيرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أم دؤاد )
( جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد )
( فأرى النعيم وكل ما يلهى به ... يوما يصيرإلى بلى
ونفاد )
وقال ابوالحسن خطب عبد الله بن الحسن على منبر البصرة في
العيد فأنشد في خطبته
( أين الملوك التي عن حظها غفلت ... حتى سقاها بكأس
الموت ساقيها )
( تلك المدائن بالآفاق خالية ... أمست خلاء وذاق الموت
باليها )
وكان مالك بن دينار يقول في قصصه ما أشد فطام الكبير
وهو كما قال القائل
( وتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم )
ومثله ايضا قول صالح بن عبد القدوس
( والشيخ لا يترك اخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه )
( اذا ارعوى عاد الى جهله ... كذي الضنى عاد الى نكسه )
قال كلثوم بن عمرو العتابي
( وكنت امرأ لو شئت ان تبلغ المدى ... بلغت بأدنى نعمة
تستديمها )
( ولكن فطام النفس أثقل محملا ... من الصخرة الصماء حين
ترومها )
وكانوا يمدحون الجهير الصوت ويذمون الضئيل الصوت ولذلك
تشادقوا
في الكلام
ومدحوا سعة الفم وذموا صغر الفم حدثني محمد بن بشير الشاعر قيل لاعرابي ما الجمال
قال القامة وضخم الهامة ورحب الشدق وبعد الصوت وسأل جعفر بن سليمان أبا المخش عن
ابنه المخش وكان جزع عليه جزعا شديدا قال صف لي المخش فقال كان أشدق خرطمانيا
سائلا لعابه كأنما ينظر من قلتين كأن ترقوته بوان او خالفة كأن منكبه كركرة جمل
ثقال فقأ الله عيني ان كنت رأيت قبله او بعده مثله قال وقلت لاعرابي ما الجمال قال
غؤور العينين واشراف الحاجبين ورحب الشدقين
قال دغفل بن حنظلة النسابة والخطيب العلامة حين سأله
معاوية عن قبائل قريش فلما انتهى الى بني مخزوم قال معزى مطيرة عليها قشعريرة الا
بني المغيرة فان فيهم تشادق الكلام ومصاهرة الكرام
وقال الشاعر في عمرو بن سعيد الاشدق
( تشادق حتى مال بالقول شدقه ... وكل خطيب لا أبالك أشدق )
وأنشد ابو عبيدة
( وصلع الرؤوس عظام البطون ... رحاب الشداق طوال القصر )
وتكلم يوما عند معاوية الخطباء فأحسنوا فقال والله
لأرمينهم بالخطيب الأشدق قم يا يزيد فتكلم
وهذا القول وغيره من الاخبار والاشعار حجة لمن زعم أن
عمرو بن سعيد لم يسم الاشدق للفقم ولا للقوة وقال يحيى بن نوفل في خالد بن عبد
الله القسري
( بل السراويل من خوف ومن وهل ... واستطعم الماء لماجد
في الهرب )
( وألحن الناس كل الناس قاطبة ... وكان يولع بالتشديق في
الخطب )
ويدلك على تفضيلهم سعة الاشداق وهجائهم ضيق الافواه قول
الشاعر
( لحا الله أفواه الدبى من قبيلة ... إذا ذكرت في
النائبات أمورها )
وقال الآخر
( وأفواه الدبى حاموا قليلا ... وليس أخو الحماية
كالضجور )
وإنما شبه أفواههم بأفواه الدبى لصغر أفواههم وضيقها
وعلى ذلك المعنى هجا عبدة بن الطبيب حيي بن هزال وابنيه فقال
( تدعو
بنيك عبادا وجرثمة ... يافأرة شجها في الحجر محفار )
وقد كان العباس بن عبد المطلب جهيرا جهير الصوت وقد مدح
بذلك وقد نفع الله المسلمين بجهارة صوته يوم حنين حين ذهب الناس عن رسول الله
فنادى العباس يا أصحاب سورة البقرة هذا رسول الله فتراجع القوم وأنزل الله عز و جل
النصرة وأتى بالفتح
اخبرني ابن الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال
كان قيس ابن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف يمكو حول البيت فيسمع ذلك من حراء قال
الله تعالى ( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ) فالتصدية التصفيق والمكاء التصفير او
شبيه بالصفير ولذلك قال عنترة
( وحليل غانية تركت مجدلا ... تمكو فريصته كشدق الاعلم )
وقال العجير السلولي في شدة الصوت
( ومنهن قرعى كل باب كأنما ... به القوم يرجون الأذين
نشور )
( فجئت وخصمي يصرفون نيوبهم ... كما قصبت بين الشفار
جزور )
( لدى كل موثوق به عند مثلها ... له قدم في الناطقين
خطير )
( جهير وممتد العنان مناقل ... بصير بعورات الكلام خبير )
( فظل رداء العصب ملقى كأنه ... سلى فرس تحت الرجال عقير )
( لو ان الصخور الصم يسمعن صلقنا ... لرحن وفي اعراضهن
فطور )
وقال مهلهل
( ولولا الريح اسمع أهل نجد ... صليل البيض تقرع بالذكور )
وفي شدة الصوت يقول الاعشى في وصفه الخطيب بذلك
( فيهم الخصب والسماحة والنجدة ... جمعا والخاطب الصلاق )
وقال بشار بن برد في ذلك ويهجو بعض الخطباء
( ومن عجب الايام ان قمت ناطقا ... وأنت ضئيل الصوت
منتفخ السحر )
ووقع بين فتى من النصارى وبين ابن فهريز كلام فقال له
الفتى ما ينبغي ان يكون في الارض رجل واحد أجهل منك وكان ابن فهريز في نفسه اكثر
الناس علما وأدبا وكان حريصا على الجثلقة فقال للفتى وكيف حللت عندك هذا المحل قال
لانك تعلم انا لا نتخذ الجاثليق الا مديد القامة وأنت
قصير
القامة ولا نتخذه الا جهير الصوت جيد الخلق وأنت دقيق الصوت رديء الخلق ولا نتخذه
الا وهو وافر اللحية عظيمها وانت خفيف اللحية صغيرها وانت تعلم أنا لا نختار
للجثلقة الا رجلا زاهدا في الرياسة وأنت أشد الناس عليها كلبا وأظهرهم لها طلبا
فكيف لا تكون أجهل الناس وخصالك هذه كلها تمنع من الجثلقة وأنت قد شغلت في طلبها
بالك وأسهرت فيها ليلك وقال ابو الحجناء في شدة الصوت
( إني اذا ما زبب الاشداق ... والتج حولى النقع واللقلاق )
( ثبت الجنان مرجم وداق ... )
وجاء في الحديث من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه وقي الشر
يعني لسانه وبطنه وفرجه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بواكي خالد بن الوليد
ابن المغيرة وما عليهن يرقن من دموعهن على ابي سليمان مالم يكن نقع او لقلقه وجاء
في الاثر ليس منا من حلق او صلق او سلق او شق
ومما مدح به العماني هرون الرشيد بالقصيد دون الرجز قوله
( جهير العطاس شديد النياط ... جهير الرواء جهير النغم )
( ويخطو على الأين خطو الظليم ... ويعلو السماط بجسم عمم )
وكان الرشيد اذا طاف بالبيت جعل لازاره ذنبين عن يمين
وشمال ثم طاف بأوسع من خطو الظليم وأسرع من رجع يد الارنب وقد اخبرني ابرهيم ابن
السندي بمحصول ذرع ذلك الخطو الا اني احسبه فراسخ فيما رأيته يذهب اليه قال
ابراهيم - ونظر اليه اعرابي في تلك الحال والهيئة - فقال خطو الظليم ريع ممسى فانشمر
وحدثني ابراهيم السندى قال ما أتى عبد الملك بن صالح وفد
الروم وهو في البلاد أقام على رأسه رجالا في السماطين لهم قصر وهام ومناكب وأجسام
وشوارب وشعور فبينا هم قيام يكلمونه ومنهم رجل وجهه في قفا البطريق اذ عطس عطسة
ضئيلة فلحظه عبد الملك فلم يدر أي شيء أنكر منه فلما مضى الوفد قال له ويلك هلا اذ
كنت ضيق المنخر كز الخيشوم أتبعتها بصيحة تخلع بها قلب العلج
وفي تفصيل الجهازة يقول شبة بن عقال بعقب خطبته عند
سليمان بن علي
ابن عبد
الله بن عباس
( ألا ليت أم الجهم والله سامع ... ترى حيث كانت بالعراق
مقامي )
( عشية بذ الناس جهري ومنطقي ... وبذ كلام الناطقين
كلامي )
وقال طحلاء يمدح معاوية بالجهارة وبجودة الخطبة
( ركوب المنابر وثابها ... معن بخطبته مجهر )
( تريع اليه هوادي الكلام ... اذا ضل خطبته المهذر )
وزعموا ان أبا عطية عفيفا النصري في الحرب التي كانت بين
ثقيف وبين بني نصر لما رأى الخيل بعقوتة يومئذ وأيس نادى يا صباحاه أتيتم يا بني
نصر فألقت الحبالى أولادها من شدة صوته قالوا فقال ربيعة بن مسعود يصف تلك الحرب
وصوت عفيف
( عقاما ضروسا بين عوف ومالك ... شديدا لظاها تترك الطفل
أشيبا )
( وكانت جعيل يوم عمرو أراكة ... أسود الغضا غادرن لحما
متربا )
( ويوم بمكروثاء شدت معتب ... بغاراتها قد كان يوما
عصبصبا )
( فأسقط أحبال النساء بصوته ... عفيف وقد نادى بنصر
فطربا )
وكان أبو عروة - الذي يقال له ابو عروة السباع - يصيح
بالسبع وقد احتمل الشاة فيخليها ويذهب هاربا على وجهه فضرب به الشاعر المثل وهو
النابغة الجعدي فقال
( وأزجر الكاشح العدو اذا اغتابك ... عندي زجرا على أضم )
( زجر أبي عروة السباع اذا ... أشفق ان يلتبسن بالغنم )
وأنشد ابو عمرو الشيباني لرجل من الخوارج بصف صيحة شبيب
بن يزيد ابن نعيم قال ابو عبيدة وأبو الحسن كان شبيب يصيح في جنبات الجيش اذا أتاه
فلا يلوي أحد على أحد وقال الشاعر فيه
( إن صاح يوما حسبت الصخر منحدرا ... والريح عاصفة
والموج يلتطم )
قال أبو العاصي أنشدني ابو محرز خلف بن حيان - وهو خلف
الاحمر مولى الاشعريين - في عيب التشادق
( له حنجر رحب وقول منقح ... وفصل خطاب ليس فيه تشادق )
( اذا كان صوت المرء خلف لهاته ... وأنحى بأشداق لهن
شقاشق )
( وقبقب
يحكي مقرما في هبابه ... فليس بمسبوق ولا هو سابق )
وقال الفرزدق شقاشق بين اشداق وهام
وأنشد خلف
( وما في يديه غير شدق يميله ... وشقشقة خرساء ليس لها
تعب )
( متى رام قولا خالفته سجية ... وضرس كقعب القين ثلمه
الشعب )
وأنشد أبوعمر بن العلاء
( وجائت قريش قريش البطاح ... هي العصب الأول الداخله )
( يقودهم الفيل والزندبيل ... وذو الضرس والشفة المائلة )
وقال الشاعر في خالد بن سلمة المخزومي الخطيب
( فما كان قائلهم دغفل ... ولا الحيقطان ولا ذو الشفه )
وأنشد أصحابنا
( وقافية لجلجتها فرددتها ... لذي الضرس لو أرسلتها قطرت
دما )
وقال الفرزدق أنا عند الناس أشعر العرب ولربما كان نزع
ضرس أيسر علي من ان اقول بيت شعر
وأنشدنا منيع
( فجئت ووهب كالخلاة تضمها ... الى الشدق أنياب لهن صريف )
( فقعقعت لحيى خالد واهتضمته ... بحجة خصم بالخصوم عنيف )
وقال ابو يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير سئل الحارس
بن ابي ربيعة عن علي بن ابي طالب كرم الله وجهه فقال كم كان له ما شئت من ضرس قاطع
في العالم بكتاب الله والفقه في السنة والهجرة الى الله ورسوله والبسطة في العشيرة
والنجدة في الحرب والبذل للماعون قال الاخر
( ولم تلفني فها ولم تلف حجتي ... ملجلجة أبغي لها من
يقيمها )
( ولا بت أزجيها قضيبا وتلتوى ... أراوغها طورا وطورا
أضيمها )
وأنشدني ابو الرديني العكلي
( فتى كان يعلو مفرق الحق قوله ... اذا الخطباء الصيد
عضل قيلها )
وقيل الخزيمى في تشادق علي بن الهيثم
( يا علي بن هيثم يا سماقا ... قد ملات الدنيا علينا
بقاقا )
( خل لحييك يسكنان ولاتضرب ... رب على تغلب بلحييك طاقا )
( لا
تشادق اذا تكلمت واعلم ... ان للناس كلهم أشداقا )
وكان على بن الهيثم جوادا بليغ اللسان والقلم
قال لي ابو يعقوب الخزيمي ما رأيت كثلاثة رجال يأكلون
الناس أكلا حتى اذا رأوا ثلاثة رجال ذابوا كما يذوب الملح في الماء او الرصاص عند
النار
كان هشام بن الكلبي علامة نسابة وراوية للمثالب عيابة
فاذا رأى الهيثم ابن عدي ذاب كما يذوب الرصاص عند النار وكان الهيثم بن عدي مفقعا
نيا صاحب تفقيع وتقعير ويستولي على كلام اهل المجلس لا يحفل بشاعر ولا بخطيب
فاذارأى موسى الضبي ذاب كما يذوب الرصاص عند النار وكان علويه المغني احد الناس في
الرواية وفي الحكاية وفي صنعة الغناء وجودة الضرب وفي الاطراب وحسن الخلق فاذا رأى
مخارقا ذاب كما يذوب الرصاص عند النار
ثم رجع بنا القول الى ذكر التشديق وبعد الصوت قال ابو
عبيدة كان عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب رديفا للملوك ورحالا اليهم وكان يقال له
عروة الرحال فكان يوم أقبل مع ابن الجون يريد بني عامر فلما انتهى الى واردات مع
الصبح قال له عروة انك قد عرفت طول صحبتي لك ونصيحتي اياك فأذن لي فأهتف بقومي
هتفة قال نعم وثلاثا فقام فنادى يا صاحباه ثلاث مرات قال فسمعنا شيوخنا يزعمون انه
اسمع اهل الشعب فتلببوا للحرب وعسبوا الربايا ينظرون من أين يأتي القوم قالوا
وتقول الروم لولا ضجة أهل رومية وأصواتهم لسمع الناس جميعا صوت وجوب القرص في
المغرب
وأعيب عندهم من دقة الصوت وضيق مخرجه وضعف قوته ان يعترض
الخطيب البهر والارتعاش والرعدة والعرق قال ابو الحسن قال سفيان بن عيينة تكلم
صعصعة عند معاوية فعرق قال معاوية بهرك القول فقال صعصعة ان الجياد نضاحة بالماء
والفرس إذا كان سريع العرق وكان هشا كان ذلك عيبا وكذلك
هو في الكثرة واذا ابطأ ذلك وكان قليلا قيل قد كبا وهو فرس كاب وذلك عيب ايضا
وأنشدني ابن الاعرابي لابي مسمار العكلي في شبيه بذلك
قوله
( لله در
عامر اذا نطق ... في حفل إملاك وفي تلك الحلق )
( ليس كقوم يعرفون بالشدق ... من خطب الناس ومما في
الورق )
( يلفقون القول تلفيق الخلق ... من كل نضاح الذفارى
بالعرق )
( اذا رمته الخطباء بالحدق ... )
وانما ذكر خطب الاملاك لانهم يذكرون انه يعرض للخطيب
فيها من الحصر اكثر مما يعرض لصاحب المنبر ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى
عنه ما يتصعدني كلام كما تتصعدني خطبة النكاح وقال العماني
( لاذفر هش ولا بكاب ... ولا بلجلاج ولا هياب )
وقال الكميت بن زيد وكان خطيبا ان للخطبة صعداء وهي على
ذي اللب أرمى
وقولهم أرمى وأربى سواء يقال فلان قد أرمي على المائة
وأربى ولم أر الكميت افصح عن هذا المعنى ولا تخلص الى خاصته وانما يجترىء علىالخطبة
الغمر الجاهل الماضي الذي لا يثنيه شيء او المطبوع الحاذق الواثق بغزارته واقتدراه
فالثقة تنفي عن قلبه كل خاطر يورث اللجلجة والنحنحة والانقطاع والبهر والعرق
قال عبيد الله بن زياد وكان خطيبا على لكنة كانت فيه نعم
الشيء الامارة لولا قعقعة البرد والتشدق للخطب وقيل لعبد الملك بن مروان عجل عليك
الشيب يا أمير المؤمنين قال وكيف لا يعجل على وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة
مرة او مرتين
يعني خطبة الجمعة وبعض ما يعرض من الامور قال بعض
الكلابيين
( وإذا خطبت على الرجال فلا تكن ... خطل الكلام تقوله
محتالا )
( واعلم بأن من السكوت إبانة ... ومن التكلم ما يكون
خبالا )
كلام بشر بن المعتمر
حين مر
بابرهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب وهو يعلم فتيانهم الخطابة فوقف بشر فظن
ابرهيم أنه إنما وقف ليستفيد او ليكون رجلا من النظارة فقال بشر أضربوا عما قال
صفحا واطووا عنه كشحا
ثم دفع اليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه وكان أول ذلك
الكلام
خذ من
نفسك ساعة نشاطك وفراع بالك واجابتها إياك فان قليل تلك الساعة اكرم جوهرا وأشرف
حسبا واحسن في الاسماع وأحلى في الصدور وأسلم من فاحش الخطأ وأجلب لكل عين وغرة من
لفظ شريف ومعنى بديع واعلم ان ذلك اجدى عليك مما يعطيك [ يومك الاطول بالكد
والمطاولة والمجاهدة وبالتكلف والمعاودة ومهما اخطأك لم يخطئك ان يكون مقبولا قصدا
وخفيفا على اللسان سهلا وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه وإياك والتوعر فان
التوعر يسلمك الى التعقيد والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك ومن أراد
معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما فان حق المعنى الشريف اللفظ الشريف ومن حقهما ان
تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما وعما تعود من اجله الى ان تكون اسوأ حالا منك قبل ان
تلتمس اظهارهما وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما وكن في ثلاث منازل فان أولى
الثلاث ان يكون لفظك رشيقا عذبا وفخما سهلا ويكون معناك ظاهرا مكشوفا وقريبا
معروفا إما عند الخاصة ان كنت للخاصة قصدت وإما عند العامة ان كنت للعامة أردت
والمعنى ليس يشرف بان يكون من معاني الخاصة وكذلك ليس يتضع بان يكون من معاني
العامة وإنما مدار الشرف على الصواب واحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل
مقام من المقال وكذلك اللفظ العامي والخاصي فان امكنك ان تبلغ من بيان لسانك
وبلاغة قلمك ولطف مداخلك واقتدارك على نفسك على ان تفهم العامة معاني الخاصة
وتكسوها الالفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء ولا تجفو عن الاكفاء فانت البليغ
التام
قال بشر فلما قرئت على ابراهيم قال لي أنا احوج الىهذا
من هؤلاء الفتيان
قال ابو عثمان اما انا فلم أر قط امثل طريقة في البلاغة
من الكتاب فانهم قد التمسوا من الالفاظ ما لم يكون متوعرا وحشيا ولا ساقطا سوقيا
واذا سمعتموني أذكر العوام فاني لست أعني الفلاحين والحشوة والصناع والباعة ولست
أعني الاكراد في الجبال وسكان الجزائر في البحار ولست أعني من الامم مثل اليبر
والطيلسان ومثل موقان وجيلان ومثل
الزنج
وأمثال الزنج وانما الامم المذكورون من جميع الناس أربع العرب وفارس والهند والروم
والباقون همج وأشباه الهمج وأما العوام من اهل ملتنا ودعوتنا ولغتنا وادبنا
واخلاقنا فالطبقة التي عقولها واخلاقها فوق تلك الامم ولم يلبغوا منزلة الخاصة منا
على ان الخاصة تتفاضل في الطبقات أيضا
ثم رجع بنا القول الى بقية كلام بشر بن المعتمر والى ما
ذكر من الاقسام قال بشر
فان كانت المنزلة الاولى لا تواتيك ولا تعتريك ولا تسنح
لك عند اول نظرك وفي اول تكلفك وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تصر الى قرارها والى
حقها من اماكنها المقسومة لها والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها ولم تصل
بشكلها وكانت قلقة في مكانها نافرة من موضعها فلا تكرهها على اغتصاب الاماكن
والنزول في غير اوطانها فانك اذا لم تتعاط قرض الشعر الموزون ولم تتكلف اختيار
الكلام المنثور لم يعبك بترك ذلك احد وان انت تكلفتها ولم تكن حاذقا مطبوعا ولا
محكما لسانك بصيرا مما عليك او مالك عابك من انت اقل عيبا منه ورأى من هو دونك انه
فوقك فان ابتليت بان تتكلف القول وتتعاطى الصنعة ولم تسمح لك الطباع في اول وهلة
وتعصى عليك بعد إجالة الفكرة فلا تعجل ولا تضجر ودعه بياض يومك أوسواد ليلك وعاوده
عند نشاطك وفراغ بالك فانك لا تعدم الاجابة والمواتاة ان كانت هناك طبيعة او جريت
من الصناعة على عرق فان تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض ومن غير طول اهمال
فالمنزلة الثالثة ان تتحول من هذه الصناعة الى اشهى الصناعات اليك واخفها عليك
فانك لم تشتهه ولم تنازع اليه الا وبينكما نسب والشيء لا يحن الا الى ما يشاكله
وان كانت المشاكلة قد تكون في طبقات لان النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة ولا
تسمح بمخزونها مع الرهبة كما تجود به مع المحبة والشهوة فهكذا هذا
وقال ينبغي للمتكلم ان يعرف اقدار المعاني ويوازن بينها
وبين اقدار المستمعين وبين اقدار الحالات فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما ولكل حالة
من ذلك مقاما حتى يقسم اقدار الكلام على اقدار المعاني ويقسم
اقدار
المعاني على اقدار المقامات واقدار المستمعين على اقدار تلك الحالات فان كان
الخطيب متكلما تجنب الفاظ المتكلمين كما انه ان عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفا
او مجيبا او سائلا كان اولى الالفاظ به الفاظ المتكلمين اذ كانوا لتلك العبارات
أفهم والى تلك الالفاظ أميل واليها أحن وبها أشغف ولان كبار المتكلمين ورؤساء
النظارين كانوا فوق اكثر الخطباء وابلغ من كثير من البلغاء وهم تخيروا تلك الالفاظ
لتلك المعاني وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الاسماء وهم اصطلحوا على تسمية ما
لم يكن له في لغة العرب اسم فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف وقدوة لكل تابع ولذلك
قالوا العرض والجوهر وأيس وليس وفرقوا بين البطلان والتلاشي وذكروا الهذية والهوية
والماهية واشباه ذلك وكما وضع الخليل ابن احمد لاوزان القصيد وقصار الارجاز القابا
لم تكن العرب تتعارف تلك الاعاريض بتلك الالقاب وتلك الاوزان بتلك الاسماء كما ذكر
الطويل والبسيط والمديد والوافر والكامل واشباه ذلك وكما ذكر الاوتاد والاسباب
والخرم والزحاف وقد ذكرت العرب في أشعارها السناد والاقواء والاكفاء ولم اسمع
الايطاء وقالوا في القصيد والرجز والسجع والخطب وذكروا حروف الروي والقوافي وقالوا
هذا بيت وهذا مصراع وقد قال جندل الطهوي حين مدح شعره
( لم أقو فيهن ولم أساند ... )
وقال ذو الرمة
( وشعر قد أرقت له غريب ... أجانبه المساند والمحالا )
وقال أبو حزام العكلي
( بيوتا نصبنا لتقويمها ... جذول الربيئين في المربأه )
( بيوتا على الهالها سجحة ... بغير السناد ولا المكفأه )
وكما سمى النحويون فذكروا الحال والظرف وما أشبه ذلك
لانهم لو لم يضعوا هذه العلامات لم يستطيعوا تعريف القرويين وأبناء البلديين علم
العروض والنحو
وكذلك أصحاب الحساب قد اجتلبوا اسماء وجعلوها علامات
للتفاهم
قالوا
وقبيح بالخطيب ان يقوم بخطبة العيد او يوم السماطين او على منبر جماعة او في سدة
دار الخلافة او في يوم جمع وحفل إما في اصلاح بين العشائر واحتمال دماء القبائل
واستلال تلك الضغائن والسخائم فيقول كما قال بعض من خطب على منبر ضخم الشان رفيع
المكان ثم ان الله عز و جل بعد ان أنشأ الخلق وسواهم ومكن لهم لاشاهم فتلاشوا
ولولا ان المتكلم افتقر الى ان يلفظ بالتلاشي لكان ينبغي ان يؤخذ فوق يده وخطب آخر
في وسط دار الخلافة فقال في خطبته واخرجه الله من باب الليسية فأدخله في باب
الايسية وقال مرة اخرى في خطبة له هذا فريق ما بين السار والضار والدفاع وقال مرة
اخرى فدل ساتره على غامره ودل غامره على منحله فكاد ابرهيم ابن السندى يطير شفقا
ويتقد غيظا هذا وابراهيم من المتكلمين والخطيب لم يكن من المتكلمين
وانما جازت هذه الالفاظ في صناعة الكلام حين عجزت
الاسماء عن اتساع المعاني وقد تحسن أيضا ألفاظ المتكلمين في مثل شعر ابي نواس وفي
كل ما قالوه على جهة التظرف والتملح كقول أبي نواس
( وذات خد مورد ... قوهية المتجرد )
( تأمل العين منها ... محاسنا ليس تنفد )
( فبعضها قد تناهى ... وبعضها يتولد )
( والحسن في كل عضو ... منها معاد مردد )
وكقوله
( يا عاقد القلب مني ... هلا تذكرت حلا )
( تركت قلبي قليلا ... من القليل أقلا )
( يكاد لا يتجزا ... أقل في اللفظ من لا )
وقد يتلمح الاعرابي بان يدخل في شعره شيئا من كلام
الفارسية كقول العماني للرشيد في قصيدته التي مدحه فيها
( من يلقه من بطل مسرند ... في زغفة محكمة بالسرد )
( يجول بين رأسه والكرد ... )
يعني العنق ويقول فيه أيضا
( لما
هوى بين غياض الاسد ... وصار في كف الهزبر الورد )
( آلى يذوق الدهر آب سرد ... )
وكقول الاخر
( وولهني وقع الأسنة والقنا ... وكافر كوبات لها عجز قفد )
( بأيدي رجال ما كلامي كلامهم ... يسومونني مردا وما أنا
والمرد )
ومثل هذا موجود في شعر العذافر الكندي وغيره ويجوز أيضا
ان يكون الشعر مثل شعر الحروشاذ وأسود بن أبي كريمة كما قال يزيد بن ربيعة ابن
مفرغ
( آب ست نبيذ است ... عصارات زبيب است )
( سمية روسبيد است ... )
وقال أسود بن أبي كريمة
( لزم الغرام ثوبي ... بكرة في يوم سبت )
( فتمايلت عليهم ... ميل زنكي بمست )
( قد حسا الداذي صرفا ... او عقارا بايخست )
( ثم كفتم ذو زياد ... ويحكم ان خر كفت )
( إن جلدي دبغته ... أهل صنعاء بحفت )
( وأبو عمرة عندي ... ان كور يذنمست )
( جالس اندر مكناد ... ايا عمد بنهشت )
وكما لا ينبغي ان يكون اللفظ عاميا ساقطا سوقيا فكذلك لا
ينبغي ان يكون غريبا وحشيا الا ان يكون المتكلم بدويا اعرابيا فان الوحشي من
الكلام يفهمه الوحشي من الناس كما يفهم السوقي رطانة السوقي
وكلام الناس في طبقات كما ان الناس أنفسهم في طبقات فمن
الكلام الجزل والسخيف والمليح والحسن والقبيح والسميح والخفيف والثقيل وكله عربي
وبكل قد تكلموا وبكل قد تمادحوا وتعايبوا قال زعم زاعم أنه لم يكن في كلامهم تفاضل
ولا بينهم في ذلك تفاوت فلم ذكروا الغيبي والبكي والحصر والمفحم والخطل والمسهب
والمتشدق والمتفهق والمهماز والثرثار والمكثار والمهماز ولم ذكروا الهجر والهذر
والهذيان
والتخليط وقالوا رجل تلقاعة وتلهاعة وفلان يتلهيع في خطبته وقالوا فلان يخطىء في
جوابه ويحيل في كلامه ويناقض في خبره ولولا ان هذه الامور قد كانت تكون في بعضهم
دون بعض لما سمي ذلك البعض والبعض الآخر بهذه الاسماء
وانا أقول انه ليس في الارض كلام هو أمتع ولا أنفع ولا
انق ولا ألذ في الاسماع ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة ولا أفتق للسان ولا أجود
تقويما للبيان من طول استماع حديث الاعراب الفصحاء العقلاء والعلماء البلغاء وقد
أصاب القوم في عامة ما وصفوا الا أني ازعم ان سخيف الالفاظ مشاكل لسخيف المعاني
وقد يحتاج الى السخيف في بعض المواضع وربما أمتع بأكثر من امتاع الجزل الفخم ومن
الالفاظ الشريفة الكريمة المعاني كما ان النادرة الباردة جدا قد تكون أطيب من النادرة
الحارة جدا وانما الكرب الذي يخيم على القلوب ويأخذ بالأنفاس النادرة الفاترة التي
لا هي حارة ولا هي باردة وكذلك الشعر الوسط والغناء الوسط وانما الشأن في الحار
جدا والبارد جدا
وكان محمد بن عباد بن كاسب يقول والله لفلان أثقل من مغن
وسط وأبغض من ظريف وسط
ومتى سمعت حفظك الله بنادرة من كلام الاعراب فاياك وان
تحكيها الا مع إعرابها ومخارج ألفاظها فانك ان غيرتها بان تلحن في اعرابها
وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير وكذلك
اذا سمعت بنادرة من نوادر العوام وملحة من ملح الحشوة والطغام فاياك وأن تستعمل
فيها الاعراب او ان تتخير لها لفظا حسنا او تجعل لها من فيك مخرجا سريا فان ذلك
يفسد الامتاع بها ويخرجها من صورتها ومن الذي أريدت له ويذهب استطابتهم اياها
واستملاحهم لها
ثم اعلم ان اقبح اللحن لحن اصحاب التقعير والتقعيب
والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم وأقبح من ذلك لحن الاعاريب النازلين على طرق
السابلة وبقرب مجامع الاسواق ولاهل المدينة السنة ذلقة والفاظ حسنة وعبارة جيدة
واللحن في عوامهم فاش وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب
واللحن من
الجواري الظراف ومن الكواعب النواهد ومن الشواب الملاح ومن ذوات الخدور الغرائر
أيسر وربما استملح الرجل ذلك منهن ما لم تكن الجارية صاحبة تكلف ولكن اذا كان
اللحن سجية سكان البلد وكما يستملحون اللثغاء اذا كانت حديثة السن ومقدودة مجدولة
فاذا أسنت واكتهلت تغير ذلك الاستملاح وربما كان اسم الجارية غليم وصبية وما اشبه
ذلك فاذا صارت كهلة جزلة وعجوزا شهلة وحملت اللحم وتراكم عليها الشحم وصار بنوها
رجالا وبناتها نساء فما أقبح حينئذ ان يقال لها يا غليم كيف أصبحت ويا صبية كيف
أمسيت ولأمر ما كنت العرب البنات فقالوا فعلت ام الفضل وقالت ام عمرو وذهبت ام
حكيم نعم حتى دعاهم ذلك الى التقدم في تلك الكنى
وقد فسرنا ذلك كله في كتاب الاسماء والكنى والالقاب
والانباز
وقد قال مالك بن أسماء في استملاح اللحن من بعض نسائه
( أمغطى مني على بصري للحب ... ام أنت أكمل الناس حسنا )
( وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا )
( منطق صائب وتلحن أحيانا ... وأحلى الحديث ما كان لحنا )
وهم يمدحون الحذق والرفق والتخلص الى حبات القلوب والى
إصابة عيون المعاني ويقولون أصاب الهدف اذا أصاب الحق في الجملة ويقولون قرطس فلان
وأصاب القرطاس اذا كان أجود اصابة من الاول فاذا قالوا رمى فاصاب الغرة وأصاب عين
القرطاس فهو الذي ليس فوقه أحد ومن ذلك قولهم فلان يفل المحز ويصيب المفصل ويضع
الهناء مواضع النقب وقال زرارة بن جزء حين أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتكلم
عنده ورفع حاجته اليه
( أتيت أبا حفص ولا يستطيعه ... من الناس الا كالسنان
طرير )
( فوفقني الرحمن لما لقيته ... وللباب من دون الخصوم
صرير )
( قروم غيارى عند باب ممنع ... تنازع ملكا يهتدي ويجور )
( فقلت له قولا أصاب فؤاده ... وبعض كلام القائلين غرور )
وفي شبيه ذلك يقول عبد الرحمن بن حسان حيث يقول
( رجال
أصحاء الجلود من الخنا ... وألسنة معروفة أين تذهب )
وفي اصابة فص الشيء وعينه يقول ذو الرمة في مديح بلال بن
أبي بردة الاشعري
( تناخي عند خير فتى يمان ... اذا النكباء عارضت الشمالا )
( وخيرهم مآثر أهل بيت ... وأكرمهم وإن كرموا فعالا )
( وأبعدهم مسافة غور عقل ... إذا ما الأمر في الشبهات
عالا )
( ولبس بين أقوام فكل ... أعد له الشغازب والمحالا )
( وكلهم ألد له كظاظ ... أعد لكل حال القوم حالا )
( فصلت بحكمة فأصبت منها ... فصوص الحق فانفصل انفصالا )
وكان ابو سعيد الراي وهو شرشير المدني يعيب أبا حنيفة
فقال الشاعر
( عندي مسائل لا شرشير يحسنها ... عند السؤال ولا أصحاب
شرشير )
( ولا يصيب فصوص الحق تعلمه ... إلا حنيفية كوفية الدور )
ومما قالوا في الايجاز وبلوغ المعاني بالالفاظ اليسيرة
قال ثابت بن قطنة
( مازلت بعدك في هم يجيش به ... صدري وفي نصب قد كاد
يبليني )
( إني تذكرت قتلى لو شهدتهم ... في غمرة الموت لم يصلوا
بها دوني )
( لا أكثر القول فيما يهضبون به ... من الكلام قليل منه
يكفيني )
وقال رجل من طيء ومدح كلام رجل فقال هذا كلام يكتفي
بأولاه ويشتفي بآخره وقال ابو وجرة السعدي من سعد بن بكر يصف كلام رجل
( يكفي قليل كلامه وكثيره ... ثبت اذا طال النضال مصيب )
ومن كلامهم الموجز في أشعارهم قول العكلي في صفة قوس
( في كفه معطية منوع ... موثقة صابرة جزوع )
وقال الاخر ووصف سهم رام أصاب حمارا فقال
( حتى نجا من جوفه ومانجا ... )
وقال الآخر وهويصف ذئبا
( أطلس يخفي شخصه غبارة ... في شدقه شفرته وناره )
( وهو الخبيث عينه فراره ... بهم بنى محارب مزدارة )
ووصف
الآخر نا قة فقال خرقاء إلا أنها صناع
وقال الآخر ووصف سهما صاردا
( ألقى على مفطوحا ... غادر داء ونجا صحيحا )
وقال الآخر
( إنك يا ابن جعفر لا تفلح ... الليل أخفى والنهار أفضح )
وقالوا في المثل الليل أخفى للويل
وقال رؤبة يصف حمارا
( حشرج في الجوف سحيلا أو سهق ... حتى يقال ناهق وما نهق )
وقال بعض ولد العباس بن مرداس السلمى في فرس أبي الاعور
السلمى
( جاء كلمح البرق جاش ناظره ... يسبح أولاه ويطفو آخره )
فيما يمس الارض منه حافرة
وقال الآخر
( إن سرك الأهون فابدأ بالأشد )
وقال العجاج
( يمكن السيف إذا الرمح انأطر ... من هامة الليث إذا
الليث هتر )
( كجمل البحر إذا خاض جسر ... غوارب اليم اذا اليم هدر )
( حتى يقال جاسر وما جسر ... )
وقال الآخر
( يا دار قد غيرها بلاها ... كأنما بقلم محاها )
( أخر بها عمران من بناها ... وكر ممساها على مغناها )
( وطفقت سحابة تغشاها ... تبكي على عراصها عيناها )
قوله أخر بها عمران من بناها يقول عمرها بالخراب وأصل
العمران مأخوذ من العمر وهو البقاء فاذا بقي الرجل في داره فقد عمرها فيقول ان مدة
بقائه فيها أبلت منها لان الايام مؤثرة في الاشياء بالنقص والبلاء فلما بقي الخراب
بها وقام مقام العمران في غيرها سمي بالعمران
وقال غيره
( يا عجل الرحمن بالعذاب ... لعامرات البيت بالخراب )
يعني الفأر يقول هذا عمرانها كما يقول الرجل ما نرى من
خيرك
ورفدك الا
ما يبلغنا من خطبك علينا وفتك في أعضادنا وقال الله عزوجل ( هذا نزلهم يوم الدين )
والعذاب لا يكون نزلا ولكنه لما أقام العذاب لهم في موضع النعيم لغيرهم سمي باسمه
وقال الآخر
( فقلت أطعمني عمير تمرا ... فكان تمري كهرة وزبرا )
والتمر لا يكون كهرة وزبرا ولكنه على ذا وقال الله عز و
جل ( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ) وليس في الجنة بكرة ولا عشي ولكن على مقدار
البكر والعشيات وعلى هذا قول الله عز و جل ( وقال الذين في النار لخزنة جهنم ) والخزنة الحفظة
وجهنم لا يضيع منها شيء فيحفظ ولا يختار دخولها انسان فيمنع منها ولكن لما قامت
الملائكة مقام الحافظ الخازن سميت به
وقال أبو عمرو بن العلاء اجتمع ثلاثة من الرواة فقال لهم
قائل أي نصف بيت شعر أحكم وأوجز فقال أحدهم قول حميد بن ثور الهلالي
( وحسبك داء أن تصح وتسلما ... )
ولعل حميدا أخذه عن النمر بن تولب قال النمر
( يحب الفتى طول السلامة والغنى ... فكيف ترى طول
السلامة يفعل )
وقال أبو العتاهية أسرع في نقض أمر تمامه
ذهب الى كلام الاول كل ما أقام شخص وكل ما ازداد نقص ولو
كان الناس يميتهم الداء إذا لأعاشهم الدواء
وقال الثاني من الرواة الثلاثة بل قول أبي خراش الهذلي
( نوكل بالأدنى وإن حل ما يمضي ... )
وقال الثالث بل قول أبي ذؤيب الهذلي
( وإذا ترد إلى قليل تقنع ... )
فقال قائل هذا من مفاخر هذيل ان يكون ثلاثة من الرواة لم
يصيبوا في جميع أشعار العرب إلا ثلاثة أنصاف إثنان منها لهذيل وحدها فقيل لهذا
القائل إنما كان الشرط ان يأتوا بثلاثة أنصاف مستغنيات بأنفسها والنصف الذي لأبي
ذؤيب لا يستغني بنفسه ولا يفهم السامع معنى هذا النصف حتى يكون موصولا بالنصف
الاول لانك إذا أنشدت رجلا لم يسمع بالنصف الاول
وسمع وإذا
ترد الى قليل تقنع قال ومن هذه التي ترد الى قليل فتقنع وليس المضمن كالمطلق وليس
هذا النصف مما رواه هذا العالم وانما الرواية قوله
( والدهر ليس بمعتب من يجزع ... )
ومما مدحوا به الايجاز والكلام الذي كالوحي والاشارة قول
أبي دؤاد ابن جرير الايادي
( يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة
الرقباء )
فمدح كما ترى الاطالة في موضعها والحذف في موضعه
ومما يدل على شغفهم وكلفهم وشدة حبهم للفهم والافهام قول
الاسدي في صفة كلام رجل نعت له موضعا من تلك السباسب التي لا أمارة فيها بأقل
اللفظ وأوجزه فوصف أيجاز الناعت وسرعة فهم المنعوت له فقال
( بضربة نعت لم تعد غير أنني ... عقول لأوصاف الرجال
ذكورها )
وهو كقولهم لابن عباس أنى لك هذا العلم قال قلب عقول
ولسان سؤول وقد قال الراجز
( ومهمهين فدفدين مرتين ... جبتهما بالنعت لا بالنعتين )
وقالوا في التحذير من ميسم الشعر ومن شدة وقع اللسان ومن
بقاء أثره على الممدوح والمهجو قال امرؤ القيس بن حجر
( ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد )
وقال طرفة
( بحسام سيفك او لسانك والكلم ... الأصيل كأرغب الكلم )
قال وأنشدني محمد بن زياد
( لحوت شماسا كما تلحى العصي ... سبا لو أن السب يدمي
لدمي )
( من نفر كلهم نكس دني ... محامد الرذل مشاتيم السري )
( مخابط العكم مواديع المطي ... متارك الرفيق بالخرق
النطي )
وانشد محمد بن زياد
( تمنى أبو العفاق عندي هجمة ... تسهل مأوى ليلها
بالكلاكل )
( ولا عقل عندي غير طعن نوافز ... وضرب كأشداق الغصال
الهوادل )
( وسب
يود المرء لو مات قبله ... كصدع الصفا فلقته بالمعلول )
وقال طرفة
( رأيت القوافي يتلجن موالجا ... تضايق عنها ان تولجها
الإبر )
وقال الأخطل
( حتى أقروا وهم مني على مضض ... والقول ينفذ مالا تنفذ
الإبر )
وقال العماني
( إذ هن في الريط وفي الموادع ... ترمى اليهن كبذر
الزارع )
وقالوا الحرب أولها شكوى وأوسطها نجوى واخرها بلوى وكتب
نصر بن سيار الى ابن هبيرة أيام تحرك أمير السواد بخراسان
( أرى خلل الرماد وميض جمر ... فيوشك ان يكون له اضطرام )
( فان النار بالعودين تذكى ... وان الحرب أولها كلام )
( فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام )
( فان كانوا لحينهم نياما ... فقل قوموا فقد حان القيام )
وقال بعض المولدين
( إذا نلت العطية بعد مطل ... فلا كانت وان كانت جزيله )
( وسقيا للعطية ثم سقيا ... اذا سهلت وان كانت قليله )
( وللشعراء ألسنة حداد ... على العورات موفيه دليله )
( ومن عقل الكريم اذا اتقاهم ... وداراهم مداراة جميله )
( اذا وضعوا مكاذبهم عليه ... وان كذبوا فليس لهن حيله )
وقالوا مذاكرة الرجال تلقيح لألبابها ومما قالوا في صفة
اللسان قول الاسدي أنشدنيها ابن الأعرابي
( وأصبحت أعددت للنائبات ... عرضا بريئا وعضبا صقيلا )
( ووقع لسان كحد السنان ... ورمحا طويل القناة عسولا )
وقال الأعشى
( أدافع عن أعراضكم وأعيركم ... لسانا كمقراض الخفاجي
ملحبا )
وقال ابن هرمة
( قل للذي ظل ذا لونين يأكلني ... لقد خلوت بلحم عارم
البشم )
( إياك
لا ألزمن لحييك من لجم ... نكلا ينكل قراصا من اللجم )
( إني امرؤ لا أصوغ الحلي تعمله ... كفاي لكن لساني صائغ
الكلم )
وقال الراجز
( إني بغيت الشعر وابتغاني ... حتى وجدت الشعر في مكاني )
( في عيبة مفتاحها لساني ... )
وأنشد
( إني وإن كان إزاري خلقا ... وبردتاي سملا قد أخلقا )
( قد جعل الله لساني مطلقا ... )
بسم الله الرحمن الرحيم
معنى البلاغة
قال أبو
عثمان والعتابي حين زعم أن كل من أفهمك حاجته فهو بليغ لم يعن أن كل من أفهمنا من
معاشر المولدين والبلديين قصده ومعناه بالكلام الملحون والمعدول عن جهته والمصروف
من حقه انه محكوم له بالبلاغة كيف كان بعد ان نكون قد فهمنا عنه معنى كلام النبطي
الذي قيل له لم اشتريت هذه الأتان قال أركبها وتلد لي وقد علمنا ان معناه كان
صحيحا وقد فهمنا قول الشيخ الفارسي حين قال لاهل مجلسه ما من شر من دين وانه قال
حين قيل له ولم ذاك يا أبا فلان قال من جرى يتعلقون وما نشك انه قد ذهب مذهبا وانه
كما قال معنى قول أبي الجهير الخرساني النخاس حين قال له الحجاج أتبيع الدواب
المعيبة من جند السلطان قال شريكاتنا في هوازها وشريكاتنا في مداينها وكما تجيء
تكون قال الحجاج ما تقول ويلك فقال بعض من قد كان اعتاد سماع الخطأ وكلام العلوج
بالعربية حتى صار يفهم مثل ذلك يقول شركاؤنا بالاهواز والمدائن يبعثون الينا بهذه
الدواب فنحن نبيعها على وجوهها وقلت لخادم لي في اي صناعة أسلم هذا الغلام قال
أصحاب سند نعال يريد في اصحاب النعال السندية وكذلك قول الكاتب المغلاق للكاتب
الذي دونه اكتب لي قل حطين وريحني منه
فمن زعم ان البلاغة ان يكون السامع يفهم معنى القائل جعل
الفصاحة واللكنة والخطأ والصواب والاغلاق والابانة والملحون والمعرب كله سواء وكله
بيانا وكيف يكون ذلك كله بيانا ولولا طول مخالطة السامع للعجم وسماعه
للفاسد من
الكلام لما عرفه ونحن لم نفهم عنه الا للنقص الذي فينا وأهل هذه اللغة وأرباب هذا
البيان لا يستدلون على معاني هؤلاء بكلامهم كما لا يعرفون رطانة الرومي والصقلبي
وان كان هذا الاسم انما يستحقونه بأنا نفهم عنهم كثيرا من حوائجهم فنحن قد نفهم من
حمحمة الفرس كثيرا من حاجاته ونفهم بضغاء السنور كثيرا من ارادته وكذلك الكلب
والحمار والصبي الرضيع وانما عنى العتابي إفهامك العرب حاجتك على مجرى كلام
الفصحاء وأصحاب هذه اللغة لا يفقهون قول القائل منها
مكرة أخاك لا بطل وإذا عز أخاك فهن
ومن لم يفهم هذا لم يفهم قولهم ذهبت الى أبو زيد ورأيت
أبي عمرو ومتى وجد النحويون اعرابيا يفهم هذا وأشباهه بهرجوه ولم يسمعوا منه لأن
ذلك يدل على طول إقامته في الدار التي تفسد اللغة وتنقص البيان لأن تلك اللغة انما
انقادت واستوت واطردت وتكاملت بالخصال التي اجتمعت لها في تلك الجزيرة وفي تلك
الجيرة ولفقد الخطأ من جميع الامم ولقد كان بين يزيد بن كثوة يوم قدم علينا البصرة
وبينه يوم مات بون بعيد على انه قد كان وضع منزله في اخر موضع الفصاحة وأول موضع
العجمة وكان لا ينفك من رواة ومذاكرين
وزعم أصحابنا البصريون عن ابي عمرو بن العلاء انه قال لم
أر قرويين أفصح من الحسن والحجاج وكان ما زعموا لا يبرئهما من اللحن وزعم أبو
العاصي انه لم ير قرويا قط لا يلحن في حديثه وفيما يجري بينه وبين الناس إلا ما
تفقده من أبي زيد النحوي ومن ابي سعيد المعلم
وقد روى أصحابنا ان رجلا من البلدتين قال لاعرابي كيف
أهلك قالها بكسر اللام قال صلبا لانه أجابه على فهمه ولم يعلم انه أراد المسألة عن
أهله وعياله وسمعت ابن بشير وقال له المفضل العنبري اني عثرت البارحة بكتاب وقد
التقطته وهو عندي وقد ذكروا ان فيه شعرا فان أردته وهبته لك قال ابن بشير اريده ان
كان مقيدا قال والله ما أدري أكان مقيدا او مغلولا ولو عرف التقييد لم يلتفت الى
روايته وحكى الكسائي انه قال لغلام بالبادية من خلقك وجزم القاف فلم يدر ما قال
ولم يجبه
فرد عليه السؤال فقال الغلام لعلك تريد من خلقك وكان بعض الاعراب اذا سمع رجلا يقول
نعم في الجواب قال نعم وشاء لان لغته نعم وقيل لعمر بن لجاء قل إنا من المجرمين
منتقمون قال إنا من المجرمون منتقمين وأنشد الكسائي كلاما دار بينه وبين بعض فتيان
البادية فقال
( عجبا ما عجب أعجبني ... من غلام حكمي أصلا )
( قلت هل أحسنت ركبا نزلوا ... حضنا ما دونه قال هلا )
( قلت بين ما هلا هل تزلوا ... قال حوبا ثم ولى عجلا )
( لست أدري عندها ما قال لي ... أنعم ما قال لي أم قال
لا )
( تلك منه لغة تعجبني ... زادت القلب خبالا خبلا )
قال أبو الحسن قال مولى زياد لزياد أهدوا لنا همار وهش
قال أي شيء تقول ويلك قال أهدوا لنا ايرا يريد أهدوا لنا عيرا قال زياد ويلك الاول
خير وقال الشاعر يذكر جارية له لكناء
( أول ما أسمع منها في السحر ... تذكيرها الانثى وتأنيث
الذكر )
( والسوأة السواء في ذكر القمر ... )
فزياد قد فهم عن مولاه وصاحب الجارية قد فهم عن جاريته
ولكنهما لم يفهما عنهما من إفهامها لهما ولكنهما لما طال مقامهما في الموضع الذي
يكثر فيه سماعهما لهذا الضرب صارا يفهمان هذا الضرب من الكلام
ذكر ما قالوا في مديح اللسان بالشعر الموزون واللفظ المنثور
ما جاء في الاثر وصح به الخبر
قال
الشاعر
( أزى الناس في الاخلاق أهل تخلق ... وأخبارهم شتى فعرف
ومنكر )
( قريبا تدانيهم اذا ما رأيتهم ... ومختلفا ما بينهم حين
تخبر )
( فلا تحمدن الدهر ظاهر صفحة ... من المرء ما لمم تبل ما
ليس يظهر )
( فما المرء إلا الأصغران لسانه ... ومعقوله والجسم خلق
مصور )
( وما الزين في ثوب تراه وإنما ... يزين الفتى مخبوره
حين يخبر )
( فان طرة راقتك منهم فربما ... أمر مذاق العود والعود
أخضر )
وقال سويد
بن أبي كاهل في ذلك
( ودعتني برقاها انها ... تنزل الأعصم من رأس اليفع )
( تسمع الحداث قولا حسنا ... لو أرادوا غيره لم يستطع )
( ولسانا صيرفيا صارما ... كحسام السيف ما مس قطع )
وقال جرير
( وليس لسيفي في العظام بقية ... ولا السيف أشوى وقعة من
لسانيا )
وقال الاخر
( وجرح السيف تدمله فيبرى ... ويبقى الدهر ما جرح اللسان )
وقال الاخر
( أبا ضبيعة لا تعجل بسيئة ... الى ابن عمك واذكره
باحسان )
( إما تراني وأثوابي مقاربة ... ليست بخز ولا من نسج
كتان )
( فان في المجد هماتي وفي لغتي ... علوية ولساني غير
لحان )
وفيما مدحوا به الاعرابي اذا كان أديبا أنشدني ابن أبي
خزيمة واسمه أسود
( ألا زعمت عفراء بالشام أنني ... غلام جوار لا غلام
حروب )
( وإني لاهدى بالأوانس كالدمى ... وإني بأطراف القنا
للعوب )
( وإني على ما كان من عنجهيتي ... ولوثة اعرابيتي لأديب )
وقال ابن هرمة
( لله درك من فتى فجعت به ... يوم البقيع حوادث الأيام )
( هش أذا نزل الوفود ببابه ... سهل الحجاب مؤدب الخدام )
( فاذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحام )
وقال كعب بن سعد الغنوي
( حبيب الى الزوار غشيان بيته ... جميل المحيا شب وهو
أديب )
( اذا ما تراآه الرجال تحفظوا ... فلم تنطق العوراء وهو
قريب )
وقال الحارثي
( وتعلم أنى ماجد وتروعها ... بقية أعرابية في مهاجر )
وقال الآخرلآخر
( وان
امرأ في الناس يعطي ظلامة ... ويمنع نصف الحق منه لراضع )
( أألموت يخشى اثكل الله أمه ... أم العيش يرجو نفعه وهو
ضائع )
( ويطعم ما لم يندفع في مريثه ... ويمسح أعلى بطنه وهو
جائع )
( وأن العقول فاعلمن أسنة ... حداد النواحي ارهفتها
المواقع )
ويقول كأن لسانه لسان ثور وحدثني من سمع أعرابيا مدح
رجلا برقة اللسان فقال كان والله لسانه أرق من ورقة وألين من سرقة وقال النبي
لحسان بن ثابت مابقي من لسانك فاخرج لسانه حتى ضرب بطرفه أرنبته ثم قال رالله ما
يسرني به مقول من معد والله لو وضعته على صخر لفلقه او على شعر لحلقه قال وسمعت
اعرابيا يصف لسان رجل فقال كان يشول بلسانه شولان البروق ويتخلل به تخلل الحية
وأظن هذا الاعرابي أبا وجيه العكلي
ووصف أعرابي رجلا فقال أتيناه فاخرج لسانه كأنه مخراق
لاعب وقال العباس بن عبد المطلب للنبي يا رسول الله فيم الجمال قال في اللسان وكان
مجاشع بن درام خطيبا سليطا وكان نهشل بكيئا منزورا فلما خرجا من عند بعض الملوك
عذله مجاشع في تركه الكلام فقال له نهشل اني والله لا أحسن تكذابك ولا تأثامك تشول
بلسانك شولان البروق
وقالوا على جميع الخلق مرتبة الملائكة ثم الانس ثم الجن
وإنما صار لهؤلاء المزية على جميع الخلق بالعقل وبالاستطاعة على التصرف وبالمنطق
وقال خالد بن صفوان ما الانسان لولا اللسان الا صورة
ممثلة او بهيمة مهملة وقال رجل لخالد بن صفوان ما لي اذا رأيتكم تتذاكرون الاخبار
وتتدارسون الآثار وتتناشدون الاشعار وقع علي النوم قال لانك حمار في مسلاخ انسان
وقال صاحب المنطق حد الانسان الحي الناطق المبين وقال الاعور الشني
( وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته او نقصه في
التكلم )
( لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم تبق الا صورة اللحم
والدم )
ولما دخل ضمرة بن ضمرة على النعمان بن المنذر زرى عليه
للذي رأى من دمامته وقصره وقلته فقال النعمان تسمع بالمعيدي لا ان تراه فقال أبيت
اللعن ان
الرجال لا تكال بالفقزان ولا توزن بميزان وليست بمسوك يستقى بها وانما المرء
بأصغريه بقلبه ولسانه ان صال صال بجنان وان قال قال ببيان واليمانية تجعل هذا
للصقعب النهدي فان كان ذلك كذلك فقد أقروا ان نهدا من معد
وكان يقال عقل المرء مدفون بلسانه
باب في ذكر اللسان
وقال أبو
الحسن قال الحسن لسان العاقل من وراء قلبه فاذا اراد الكلام تفكر فان كان له قال
وان كان عليه سكت وقلب الجاهل من وراء لسانه فان هم بالكلام تكلم به له او عليه
وقال ابو عبيدة قال ابو الوجيه حدثني الفرزدق قال كنا في
ضيافة معاوية بن ابي سفيان ومعنا كعب بن جعيل التغلبي فقال له يزيد ان ابن حسان -
يريد عبد الرحمن - قد فضحنا فاهج الانصار قال أرادي انت الى الاشراك بعد الاسلام
لا أهجو قوما نصروا رسول الله ولكني أدلك على غلام منا نصراني كأن لسانه لسان ثور
يعني الاخطل
وقال سعد بن أبي وقاص لعمر ابنه - حين نطق مع القوم
فبذهم وقد كانوا كلموه في الرضا عنه - هذا الذي أغضبني عليه اني سمعت رسول الله
يقول ( يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنهم كما تلحس الارض البقرة بلسانها )
وقال معاوية لعمرو بن العاص يا عمرو ان أهل العراق قد
أكرهوا عليا على أبي موسى وأنا واهل الشام راضون بك وقد ضم اليك رجل طويل اللسان
قصير الرأي فأجد الحز وطبق المفصل ولا تلقه برأيك كله
والعجب من قول ابن الزبير للاعراب سلاحكم رث وحديثكم غث
وكيف يكون هذا وقد ذكروا أنه أحسن الناس حديثا وان أبا نضرة وعبد الله ابن ابي بكر
انما كانا يحكيانه فلا أدري الا ان يكون حسن حديثه هو الذي ألقى الحسد بينه وبين
كل حسن الحديث
وقد ذكروا ان خالد بن صفوان تكلم في بعض الأمر فأجابه
رجل من أهل المدينة بكلام لم يظن خالد ان الكلام كان عنده فلما طال بهما المجلس
كان خالد عرض له ببعض الامر فقال المدني يا أبا صفوان ما من ذنب الا اتفاق
الصناعتين
ذكر ذلك الاصمعي قال فضال الازرق قال رجل من بني منقر تكلم خالد بن صفوان في صلح
بكلام لم يسمع الناس قبله مثله واذا اعرابي في بت ما في رجليه حذاء فأجابه بكلام
وددت والله أني كنت مت وان ذلك لم يكن فلما رأى خالد ما نزل بي قال كيف نجاريهم
وانما نحكيهم وكيف نسابقهم وانما نجري على ما سبق الينا من أعراقهم وليفرخ روعك
فانه من مقاعس ومقاعس لك فقلت يا أبا صفوان والله ما ألومك على الأولى ولا أدع
حمدك على الاخرى
قال ابو اليقظان قال عمر بن عبد العزيز ما كلمني رجل من
بني أسد الا تمنيت ان يمد له في حجته حتى يكثر كلامه فأسمعه
وقال يونس ليس في بني أسد الا خطيب او شاعر او قائف او
زاجر اوكاهن او فارس قال وليس في هذيل الا شاعر او رام او شديد العدو
الترجمان بن هزيم بن عدي بن ابي طحمة قال دعى رقبة بن
مصقلة - او كرب بن رقبة - الى مجلس ليتكلم فيه فراى مكان اعرابي في شملة فأنكر
موضعه فسأل الذي عن يمينه عنه فخبره انه الذي أعدوه لجوابه فنهض مسرعا لا يلوي على
شيء كراهة ان يجمع بين الديباجتين فيتضع عند الجميع
وقال خلاد بن يزيد لم يكن أحد بعد أبي نضرة احسن حديثا
من مسلم بن قتيبة قال وكان يزيد بن عمر بن هبيرة يقول احذفوا الحديث كما يحذفه
مسلم بن قتيبة
ويزعمون انه لم يروا محدثا قط صاحب آثار كان أجود حذفا
وأحسن اختصار للحديث من سفيان بن عيينه سألوه مرة عن قول طاوس في زكاة الجراد فقال
ابنه عنه زكاته أخذه
وباب آخر وكانوا يمدحون شدة العارضة وقوة المسنة وظهور
الحجة وثبات الجنان وكثرة الريق والعلو عن الخصم ويهجون بخلاف ذلك قال الشاعر
( طباقاء لم يشهد خصوما ولم يعش ... حميدا ولم يشهد
حلالا ولا عطرا )
قال ابو
زييد الطائي
( وخطيب اذا تموت الأوجه ... يوما في مأقط مشهود )
وقال نافع بن خليفة الغنوي
( وخصم لدى باب الامير كأنهم ... قروم فشافيها الزوائر
والهدر )
( دلفت لهم دون المنى بملمة ... من الدر في أعقاب درتها
شذر )
( اذا القوم قالوا أدن منها وجدتها ... مطبقة يهماء ليس
لها خصر )
وقال الأسلع بن قطاف الطهوي
( فداء لقومي كل معشر جارم ... طريد ومخذول بماجر مسلم )
( هم أفحموا الخصم الذي يستفيدني ... وهم قصموا حجلي وهم
حقنوا دمي )
( بأيد يفرجن المضيق وألسن ... سلاط وجمع ذي زهاء عرمرم )
( اذا شئت لم تعدم لدى الباب منهم ... جميل المحيا واضحا
غير توأم )
وقال التميمي في ذلك
( أما رأيت الألسن السلاطا ... والجاه والأقدام والنشاطا )
( ان الندى حيث ترى الضغاطا ... )
ذهب في البيت الأخير الى قول الشاعر
( يسقط الطير حيث ينتثر الحب ... وتغشى منازل الكرماء )
والى قول الآخر
( يرفض عن بيت الفقير ضيوفه ... وترى الغنى يهدى لك
الزوارا )
وأنشد في المعنى الأول
( وخطيب قوم قدموه أمامهم ... ثقة به متخمط تياح )
( جاوبت خطبته فظل كأنه ... لما خطبت مملح بملاح )
وأنشد أيضا
( أرقت لضوء برق في نشاص ... تلألأ في مملاة غصاص )
( لواقح دلح بالماء سحم ... تمج الغيث من خلل الخصاص )
( سل الخطباء هل سبحوا كسبحي ... بحور القول او غاصوا
مغاصي )
( لساني بالنثير ويالقوافي ... وبالأسجاع أمهر في الغواص )
( من الحوت الذي في لج بحر ... يجيد الغوص في لجج المغاص )
( لعمرك
إنني لاعف نفسي ... وأستر بالتكرم من خصاص )
وأنشد لرجل من بني ناشب بن سليمان بن سلامة بن سعد بن
مالك بن ثعلبة
( لنا قمر السماء وكل نجم ... يضيء لنا اذا القمران غارا )
( ومن يفخر بغير أبي نزار ... فليس بأول الخطباء جارا )
وأنشد للأقرع
( إني امرؤ لا أقيل الخصم عثرته ... عند الأمير اذا ما
خصمه طلعا )
( ينير وجهي إذا جد الخصام بنا ... ووجه خصمي تراه الدهر
ملتفعا )
وأنشد
( تراه بنصري في الحفيظة واثقا ... وان صد عني العين منه
وحاجبه )
( وان خطرت أيدي الكماة وجدتني ... نصورا اذا ما استيبس
الريق عاصبه )
وقال ابن احمر وذكر الريق والاعتصام به
( هذا الثناء واجدر أن أصاحبه ... وقد يدوم ريق الطامع
الأمل )
وقال الزبير بن العوام وهو يرقص ابنه عروة
( أبيض من آل أبي عتيق ... مبارك من ولد الصديق )
( ألذه كما ألذ ريقي ... )
وقالت امرأة من بني أسد
( ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود
وبالسيد الصمد )
( فمن كان يعيا بالجواب فانه ... أبو معقل لا حجر عنه
ولا صدد )
( أثاروا بصحراء الثوية قبره ... وما كنت أخشى ان تناءى
به البلد )
وقال أوس بن حجر في فضالة بن كلدة
( أبا دليجة من يوصى بأرملة ... أم من لأشعث ذي هدمين
طملال )
( أم من يكون خطيب القوم إن حفلوا ... لدى الملوك أولي
كيد وأقوال )
وقال أيضا في فضالة بن كلدة
( ألهفا على حسن آلائه ... على الجابر الحي والحارب )
( ورقبته حتمات الملوك ... بين السرادق والحاجب )
( ويكفي المقالة أهل الرجال ... غير معيب ولا عائب )
وأنشد أيضا
( وخصم
غضاب ينغضون رؤوسهم ... أولي قدم في الشغب صهب سبالها )
( ضربت لهم أبط الشمال فأصبحت ... يرد غواة آخرين نكالها )
وقال شتيم بن خويلد
( وقلت لسيدنا يا حليم ... إنك لم تأس أسوا رفيقا )
( أعنت عديا على شأوها ... تعادي فريقا وتبقى فريقا )
( زجرت بها ليلة كلها ... فجئت بها مؤيدا خنفقيقا )
وأنشد لآدم مولى بلعنبر يقولها لابن له
( يا بأبي انت ويا فوق بأب ... يا بأبي خصيك من خصي وزب )
( أنت الحبيب وكذا قول المحب ... جنبك الله معاريض الوصب )
( حتى تفيد وتداوي ذا الجرب ... وذا الجنون من سعال وكلب )
( والحدب حتى يستقيم ذو الحدب ... وتحمل الشاعر في اليوم
العصب )
( على مباهير كثيرات التعب ... وان أراد جدل صعب أرب )
( خصومة تنقب أوساط الركب ... أطلعته من رتب الى رتب )
( حتى ترى الأبصار أمثال الشهب ... ترمي بها أشوس ملحاح
كلب )
( مجرب الشدات ميمون مذب ... )
وقالت ابنة وثيمة ترثي أباها وثيمة بن عثمان
( الواهب المال التلا ... دلنا ويكفينا العظيمة )
( ويكون مدرهنا إذا ... نزلت مجلحة عظيمة )
( وآحمر افاق السما ء ... ولم تقع في الارض ديمه )
( وتعذر الآكال حتى ... كان أحمدها الهشيمة )
( لا ثلة ترعى ولا ... إبل ولا بقر مسيمه )
( ألفيته مأوى الأرامل ... والمدفعه اليتيمه )
( والدافع الخصم الألد ... اذا تفوضح في الخصومه )
( بلسان لقمان بن عاد ... وفصل خطبته الحكيمه )
( ألجمتهم بعد التدافع ... والتجاذب في الحكومه )
وكانت العرب تعظم شأن لقمان بن عاد الاكبر والأصغر ولقيم
بن لقمان في النباهة والقدر وفي العلم والحكم وفي اللسان وفي الحلم وهذان غير
لقمان
الحكيم المذكور في القرآن على ما يقول المفسرون ولارتفاع قدره وعظم شأنه قال النمر
بن تولب
( لقيم بن لقمان من اخته ... فكان بن أخت له وابنما )
( ليالي حمق فاستحصنت ... عليه فغر بها مظلما )
( فغر بها رجل محكم ... فجاءت به رجلا محكما )
وذلك ان أخت لقمان قالت لامرأة لقمان إني امرأة محمقة
ولقمان رجل منجب محكم وأنا في ليلة طهري فهبي لي ليلتك ففعلت فباتت في بيت امرأة
لقمان فوقع عليها فأحبلها بلقيم فلذلك قال النمر بن تولب ما قال والمرأة اذا ولدت
الحمقى فهي محمقة ولا يعلم ذلك حتى يرى ولد زوجها غيرها اكياسا
وقالت امرأة ذات بنات
( وما أبالي ان أكون محمقه ... اذا رأيت خصية معلقه )
وقال الآخر
( أزرى بسعيك ان كنت امرا حمقا ... من نسل ضاوية الاعراق
محماق )
ولبعضهم في البنات قالت احدى القوابل
( أيا سحاب طرقي بخير ... وطرقي بخصية وأير )
( ولا ترينا طرف البظير ... )
وقال آخر في انجاب الامهات وهو يخاطب بني اخوته
( عفاريتا علي وأكل مالي ... وحلما عن أناس آخرينا )
( فهلا غير عمكم ظلمتم ... اذا ما كنتم متظلمينا )
( فلو كنتم لكيسة أكاست ... وكيس الأم أكيس للبنينا )
( وكان لنا فزارة عم سوء ... وكنت له كشر بني الأخينا )
ولبغض البنات هجر أبو حمزة الضبي خيمة امرأته وكان يقيل
ويبيت عند جيران له حين ولدت امرأته بنتا فمر يوما بخبائها و اذاهي ترقصها وتقول
( ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا )
( غضبان ان لا نلد البنينا ... تا لله ما ذلك في أيدينا )
( وإنما نأخذ ما أعطينا ... ونحن كالأرض لزارعينا )
( ننبت ما قد زرعوه فينا ... )
فغدا
الشيخ حتى ولج البيت فقبل رأس امرأته وابنتها
وهذا الباب يقع في كتاب الانسان من كتاب الحيوان وفي فضل
ما بين الذكر والانثى تاما وليس هذا الباب مما يدخل في باب البيان والتبيين ولكن
قد يجرى السبب فيجري معه بقدر ما يكون تنشيطا لقارىء الكتاب لان خروجه من الباب اذ
اطال لبعض العلم كان ذلك اروح على قلبه وأزيد في نشاطه ان شاء الله
وقد قال الاول في تعظيم شأن لقيم بن لقمان
( قومي اصبحيني فما صيغ الفتى حجرا ... لكن رهينة احجار
وارماس )
( قومي اصبحيني فان الدهر ذو غير ... أفنى لقيما وافنى
آل مرماس )
( اليوم خمر ويبد وفي غد خبر ... والدهر من بين إنعام
وإيآس )
( فاشرب على حدثان الدهر مرتفقا ... لا يصحب الهم قرع
السن بالكاس )
وقال ابو الطمحان القيني في ذكر لقمان
( إن الزمان ولا تفنى عجائبه ... فيه تقطع ألاف وأقران )
( أمست بنو القين أفراقا موزعة ... كأنهم من بقايا حي
لقمان )
وقد ذكرت العرب هذه الامم البائدة والقرون السالفة
ولبعضهم بقايا قليلة وهم أشلاء في العرب متفرقون مغمورون مثل جرهم وجاسم ووبار
وعملاق وأميم وطسم وجديس ولقمان والهس ماس وبني الناصور وقيل بن عتر وذي جدن ويقال
في بني الناصور ان أصلهم من الروم
فأما ثمود فقد خبر الله عز و جل عنهم فقال ( وثمود فما
أبقى ) وقال ( فهل ترى لهم من باقية ) انا أعجب من مسلم يصدق بالقران ويزعم ان في
قبائل العرب من بقايا ثمود وكان أبو عبيدة يتأول قوله ( وثمود فما أبقى ) ان ذلك
انما وقع على الاكثر وعلى الجمهور الاكبر وهذا التأويل أخرجه من أبي عبيدة سوء
الرأي في القوم وليس له ان يجيء الى خبر عام مرسل غير مقيد وخبر مطلق غير مستثنى
منه فيجعله خاصا كالمستثنى منه وأي شيء بقي لطاعن او متأول بعد قوله ( فهل ترى لهم
من باقية ) فكيف يقول ذلك اذا كنا نحن قد نرى منهم في كل حي باقية معاذ الله من
ذلك ورووا أن الحجاج قال يوما على المنبر يزعمون أنا من بقايا ثمود وقد قال الله
تبارك وتعالى ( وثمود فما أبقى
)
فأما
الامم البائدة من العجم مثل كنعان ويونان وأشباه ذلك فكثير ولكن العجم ليست لها
عناية بحفظ شأن الاموات ولا الاحياء
وقال المسيب بن علس في ذكر لقمان
( وإليك أعملت المطية من ... سهل العراق وأنت بالقفر )
( أنت الرئيس اذا هم نزلوا ... وتوجهوا كالاسد والنمر )
( لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة القدر )
( ولأنت أجود بالعطاء من الريان ... لما جاد بالقطر )
( ولأنت أشجع من أسامة اذ ... نقع الصراخ ولج في الذعر )
( ولأنت أبين حين تنطق من ... لقمان لما عي بالامر )
وقال لبيد بن ربيعة الجعفري
( وأخلف قسا ليتني ولو انني ... وأعيي على لقمان حكم
التدبر )
( فان تسألينا كيف نحن فاننا ... عصافير من هذا الانام
المسحر )
وقال امرؤ القيس
( أرانا موضعين لامر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب )
وقال الفرزدق
( لئن حومتي صانت معد حياضها ... لقد كان لقمان بن عاد
يهابها )
وقال آخر
( إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك ان يعيش فجيء بزاد )
( بخبز أو بلحم أو بتمر ... أو الشيء الملفف في البجاد )
( تراه يطوف الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد )
وقال أفنون التغلبي
( لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... ربيب قيل ولقمان وذي
جدن )
وقال آخر
( ما لذة العيش والفتى للدهر ... والدهر ذو فنون )
( أهلك طسما وقبل طسم ... أهلك عادا وذا جدون )
( وأهل جاسم ومأرب ... وحي لقمان والنقون )
( واليسر للعسر والتغني ... للفقر والحي للمنون )
قال وهم
وان كانوا يحبون البيان والطلاقة والتحبير والبلاغة والتخلص والرشاقة فانهم كانوا
يكرهون السلاطة والهذر والتكلف والاسهاب والاكثار لما في ذلك من التزيد والمباهاة
واتباع الهوى والمنافسة في العلو والقدر وكانوا يكرهون الفضول في البلاغة لأن ذلك
يدعو الى السلاطة والسلاطة تدعو الى البذاء وكل مراء في الارض فانما هو من نتاج
الفضول ومن حصل كلامه وميزه وحاسب نفسه وخالف الاثم والذم أشفق من الضراوة وسوء
العادة وخاف ثمرة العجب وهجنة القبح وما في حب السمعة من الفتنة وما في الرياء من
مجانبة الاخلاص
ولقد دعا عبادة بن الصامت بالطعام بكلام ظن انه ترك فيه
المحاسبة فقال أوس بن شداد انه قد ترك فيه المحاسبة فاسترجع ثم قال ما تكلمت بكلمة
منذ بايعت رسول الله الا مزمومة مخطومة قال ورووا عن حماد بن سلمة عن أبي حمزة عن
ابراهيم قال إنما يهلك الناس في فضول الكلام وفضول المال وقال دع المعاذر فان
أكثرها مفاجر وانما صارت المعاذر كذلك لانها داعية الى التخلص بكل شيء وقال سلام
بن مطيع قال لي أيوب إياك وحفظ الحديث خوفا عليه من العجب وقال ابراهيم النخعي دع
الاعتذار فانه يخالط الكذب
قالوا ونظر شاب وهو في دار ابن سيرين الى فرش في داره
فقال ما بال تلك الآجرة أرفع من تلك الآجرة الاخرى فقال ابن سيرين يا ابن اخي ان
فضول النظر يدعو الى فضول القول
وزعم ابراهيم بن السندي قال أخبرني من سمع عيسى بن علي
يقول فضول النظر من فضول الخواطر وفضول النظر يدعو الى فضول القول وفضول القول
يدعو الى فضول العمل ومن تعود فضول الكلام ثم تدارك استصلاح لسانه خرج من استكراه
القول وان أبطأ أخرجه إبطاؤه الى اقبح من الفضول
قال أبو عمرو بن العلاء أنكح ضرار بن عمرو الضبي ابنته
معبد بن زرارة فلما اخرجها اليه قال لها يا بنية امسكي عليك الفضلين قالت وما
الفضلان قال فضل الغلمة وفضل الكلام
وضرار بن
عمرو هو الذي قال من سره بنوه ساءته نفسه وهو الذي لما قال له المنذر كيف تخلصت
يوم كذا وكذا وما الذي نجاك قال تأخير الأجل واكراهي نفسي على المق الطوال
وكان اخوته قد استشالوه حتى ركب فرسه ورفع عقيرته بعكاظ
فقال ألا إن خير حائل أم ألا فزوجوا الامهات وذلك انه صرع بين القنا فانشل عليه
اخوته لأمه حتى أنقذوه
باب الصمت
كان
اعرابي يجالس الشعبي يطيل الصمت فسئل عن طول صمته فقال اسمع فأعلم واسكت فأسلم
وقالوا لو كان الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب وقالوا مقتل المرء بين لحييه
وفكيه وأخذ ابو بكر الصديق رضي الله عنه بطرف لسانه وقال هذا الذي أوردني الموارد
وقالوا ليس شيء احق بطول سجن من لسان وقالوا اللسان سبع عقور
وقال النبي ( وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم الا
حصائد ألسنتهم )
وقال ابن الاعرابي عن بعض أشياخه تكلم رجل عند النبي
فخطل كلامه فقال النبي ( ما اعطى العبد شرا من طلاقة اللسان )
وقال العايشي وخالد بن خداش حدثنا مهدي بن ميمون عن
غيلان بن جرير عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال قدمنا على رسول الله في
وفد فقلنا يا رسول الله انت سيدنا وانت اطولنا علينا طولا وانت الجفنة الغراء فقال
النبي ( ايها الناس قولوا بقولكم ولا يستفزنكم الشيطان فانما انا عبد الله ورسوله )
وقال خالد بن عبد الله القسري لعمر بن عبد العزيز رحمه
الله من كانت الخلافة زانته فقد زنتها ومن شرفته فقد شرفتها فأنت كما قال الشاعر
( وتزيدين اطيب الطيب طيبا ... ان تمسيه اين مثلك أينا )
( واذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا )
قال عمر ان صاحبكم أعطى مقولا ولم يعط معقولا وقال
الشاعر
( لسانك
معسول ونفسك شحة ... ودون الثريا من صديقك مالكا )
وأخبرنا باسناد له ان ناسا قالوا لابن عمر ادع الله لنا
بدعوات فقال اللهم ارحمنا وعافنا وارزقنا فقالوا لو زدتنا يا ابا عبد الرحمن قال
نعوذ بالله من الاسهاب
وقال ابو الاسود الدؤلي في ذكر الاسهاب يقولها في الحارث
بن عبد الله ابن أبي ربيعة بن المغيرة والحارث هو القباع وكان خطيبا من وجوه قريش
ورجالهم وإنما سمي القباع لانه اتى بمكتل لاهل المدينة فقال ان هذا المكتل لقباع
فسمى به والقباع الواسع الرأس القصير وقال الفرزدق لجرير
( وقبلك ما أعييت كاسر عينه ... زيادا فلم تقدر علي
حبائله )
( فأقسمت لا آتيه تسعين حجة ... ولو كسرت عنق القباع
وكاهله )
قال ابو الاسود
( امير المؤمنين جزيت خيرا ... أرحنا من قباع بني
المغيرة )
( بلوناه فلمناه فأعيا ... علينا ما يمر لنا مريرة )
( على ان الفتى نكح اكول ... ومسهاب مذاهبه كثيره )
وقال الشاعر
( إياك إياك المراء فانه ... الى الشر دعاء وللصرم جالب )
وقال ابو العتاهية
( والصمت اجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه )
( كل امرىء في نفسه ... اعلى وأشرف من قرينه )
وكان سهل بن هرون يقول سياسة البلاغة اشد من البلاغة كما
ان التوقي على الدواء اشد من الدواء وكانوا يأمرون بالتبين والتثبت وبالتحرز من
زلل الكلام ومن زلل الرأي ومن الرأي الدبري والرأي الدبري هو الذي يعرض من الصواب
بعد مضي الرأي الاول وفوت استدراكه وكانوا يأمرون بالتحلم والتعلم وبالتقدم في ذلك
اشد التقدم وقال الاحنف قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه تفقهوا قبل ان تسودوا وكان
يقول رضي الله عنه السؤدد مع السواد وأنشدوا لكثير عزة
( وفي الحلم والإسلام للمرء وازع ... وفي ترك طاعات
الفؤاد المتيم )
( ألوت
بأصبعها وقالت إنما ... يكفيك مما لا ترى ما قد ترى )
وأنشد
( إبدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فاذا انتهت عنه فأنت
حكيم )
( فهناك تعذر ان وعظت ويقتدى ... بالقول منك ويقبل
التعليم )
قالوا وكان الاحنف أشد الناس سلطانا على نفسه وكان الحسن
أترك لما نهى عنه وقال الآخر
( لا تعذراني في الإساءة انه ... شر الرجال من يسيء
فيعذر )
وقال الكميت بن زيد الاسدي
( ولم يقل بعد زلة لهم ... عند المعاذير إنما حسبوا )
وأنشد الاحوص بن محمد
( قامت تخاصرني بقنتها ... خود تأطر غادة بكر )
( كل يرى ان الشباب له ... في كل مبلغ لذة عذر )
وقال جرير في فوت الرأي
( ولا يتقون الشر حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الامر إلا
تدبرا )
ومدح النابغة ناسا بخلاف هذه الصفة فقال
( ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة
لازب )
وأنشد
( هفا هفوة كانت من المرء بدعة ... وما مثله عن مثلها
بسليم )
( فان يك أخطا في أخيكم فربما ... أصاب التي فيها صلاح
تميم )
وقال قائل عند يزيد بن عمر بن هبيرة والله ما أتى الحارث
بن شريح بيوم خير قط فقال له الترجمان بن هزيم إلا يكن أتى بيوم خير فقد أتى بيوم
شر وذهب الترجمان بن هزيم الى مثل معنى قول الشاعر
( وما خلقت بنو زمان الا ... اخيرا بعد خلق الناس طرا )
( وما فعلت بنو زمان خيرا ... ولا فعلت بنو زمان شرا )
ومن هذا الجنس من الاحاديث - وهو يدخل في باب الملح -
قال الاصمعي وصلت بالعلم ونلت بالملح قال رجل مرة أبي الذي قاد الجيوش وفتح الفتوح
وخرج على الملوك واغتصب المنابر فقال له رجل من القوم لا
جرم لقد
أسر وقتل وصلب فقال له المفتخر بأبيه دعني من أسر أبي وقتله وصلبه أبوك أنت حدث
نفسه بشيء من هذا قط
قد سمعنا رواية القوم واحتجاجهم وأنا اوصيك ان لا تدع
التماس البيان والتبيين ان ظننت ان لك فيهما طبيعة وانهما يناسبانك بعض المناسبة
ويشاكلانك في بعض المشاكلة ولا تهمل طبيعتك فيستولي الاهمال على قوة القريحة
ويستبد بها سوء العادة وان كنت ذا بيان وأحسست من نفسك بالنفوذ في الخطابة
والبلاغة وبقوة المنة يوم الحفل فلا تقصر في التماس اعلاها سورة وأرفعها في البيان
منزلة ولا يقطعنك تهييب الجلاء وتخويف الجبناء ولا تصرفنك الروايات المعدولة عن
وجوهها والاحاديث المتناولة على أقبح مخارجها
وكيف تطيعهم بهذه الروايات المعدولة والاخبار المدخولة
وبهذا الرأي الذي ابتدعوه من قبل أنفسهم وقد سمعت الله تبارك وتعالى ذكر داود
النبي صلوات الله عليه فقال ( واذكر عبدنا داود ذا الأيدي انه أواب ) - الى قوله (
وفصل الخطاب ) فجمع له بالحكمة البراعة في العقل والرجاحة في الحلم والاتساع في
العلم والصواب في الحكم وجمع له بفصل الخطاب تفصيل المجمل وتخليص الملتبس والبصر
بالحز في موضع الحز والحسم في موصع الحسم وذكر رسول الله شعيبا النبي عليه السلام
فقال كان شعيب خطيب الانبياء وذلك عند بعض ما حكاه الله عنه في كتابه وحلاه لاسماع
عباده فكيف تهاب منزلة الخطباء وداود عليه السلام سلفك وشعيب أمامك مع ما تلونا
عليك في صدر هذا الكتاب من القران الحكيم والاي الكريم وهذه خطب رسول الله مدونة
محفوظة ومخلدة مشهورة وهذه خطب ابي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وقد كان
لرسول الله شعراء ينافحون عنه وعن اصحابه بأمره وكان ثابت بن قيس بن الشماس
الانصاري خطيب رسول الله لا يدفع ذلك أحد
فأما ما ذكرتم من الاسهاب والتكلف والخطل والتزيد فانما
يخرج الى الاسهاب المتكلف والى الخطل المتزيد فاما أرباب الكلام ورؤساء أهل البيان
والمطبوعون المعاودون وأصحاب التحصيل والمحاسبة والتوقي
والشفقة
والذين يتكلمون في صلاح ذات البين وفي اطفاء نائرة او في حمالة او على منبر جماعة
او في عقد املاك بين مسلم ومسلمة فكيف يكون كلام هولاء يدعون الى السلاطة والمراء
والى الهذر والبذاء والى النفج والرياء ولو كان هذا كما يقولون لكان علي بن أبي
طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما اكثر الناس فيما ذكرتم فلم خطب صعصعة ابن
صوحان عند علي بن أبي طالب وقد كان ينبغي للحسن البصري ان يكون أحق التابعين بما
ذكرتمم
قال الاصمعي قيل لسعيد بن المسيب ههنا قوم نساك يعيبون
إنشاد الشعر قال نسكوا نسكا أعجميا
وزعمتم ان رسول الله قال ( شعبتان من شعب النفاق البذاء
والبيان وشعبتان من شعب الايمان الحياء والعي )
ونحن نعوذ بالله من العي ونعوذ بالله ان يكون القران يحث
على البيان ورسول الله يحث على العي ونعوذ بالله ان يجمع رسول الله بين البذاء
والبيان وانما وقع النهي على كل شيء جاوز المقدار ووقع اسم العي على كل شيء قصر عن
المقدار فالعي مذموم والخطل مذموم ودين الله تبارك وتعالى بين المقصر والغالي
وههنا روايات كثيرة مدخولة وأحاديث معلولة ورووا ان رجلا
مدح الحياء عند الاحنف وان الاحنف قال يم يعود ذلك ضعفا والخير لا يكون سببا للشر
ولكنا نقول ان الحياء اسم لمقدار من المقادير ما زاد على ذلك المقدار فسمه ما
احببت وكذلك الجود اسم لمقدار من المقادير فالسرف اسم لما فضل عن ذلك المقدار
وللحزم مقدار فالجبن اسم لما فضل عن ذلك المقدار وللاقتصاد مقدار فالبخل اسم لما
خرج عن ذلك المقدار وللشجاعة مقدار فالتهور والخور اسم لما جاوز ذلك المقدار
وهذه الاحاديث ليست لعامتها أسانيد متصلة فان وجدتها
متصلة لم تجدها محمودة واكثرها جاءت مطلقة ليس لها حامل محمود ولا مذموم فاذا كانت
الكلمة حسنة استمتعنا بها على قدر ما فيها من الحسن
فان اردت ان تتكلف هذه الصناعة وتنسب الى هذا الادب
فقرضت قصيدة او حبرت خطبة او ألفت رسالة فاياك ان تدعوك ثقتك بنفسك
ويدعوك
عجبك بثمرة عقلك الى ان تنتحله وتدعيه ولكن اعرضه على العلماء في عرض رسائل او
أشعار اوخطب فان رأيت الاسماع تصغي له والعيون تحدج اليه ورأيت من يطلبه ويستحسنه
فانتحله فان كان ذلك في ابتداء أمرك وفي اول تكلفك فلم تر له طالبا ولا مستحسنا
فلعله ان يكون - ما دام ريضا فضيبا - تعنيسا ان يحل عندهم محل المتروك فان عاودت
أمثال ذلك مرارا فوجدت الاسماع عنه منصرفة والقلوب لاهية فخد في غير هذه الصناعة
واجعل رائدك الذي لا يكذبك حرصهم عليه او زهدهم فيه وقال الشاعر
( ان الحديث تغر القوم خلوته ... حتى يلح بهم عي وإكثار )
وفي المثل المضروب كل مجر في الخلا مسر ولم يقولوا مسرور
وكل صواب
فلا تثق في كلامك برأي نفسك فأني ربما رأيت الرجل
متماسكا وفوق المتماسك حتى اذا صار الى رأيه في شعره وفي كلامه وفي ابنه رأيته
متهافتا وفوق المتهافت
وكان زهير بن أبي سلمى وهو احد الثلاثة المتقدمين يسمي
كبار قصائده الحوليات وقال نوح بن جرير قال الحطيئة خير الشعر الحولي المنقح
وقال البعيث الشاعر وكان اخطب الناس اني والله ما أرسل
الكلام قضيبا خشبيا وما أريد ان اخطب يوم الحفل الا بالبائت المحكك
وكنت أظن ان قولهم محكك كلمة مولدة حتى سمعت قول الصعب
بن علي الكناني
( أبلغ فزارة ان الذئب آكلها ... وجائع سغب شر من الذيب )
( أدل اطلس ذو نفس محككة ... قد كان طار زمانا في
اليعاسيب )
وتكلم يزيد بن أبان الرقاشي ثم تكلم الحسن واعرابيان
حاضران فقال احدهما لصاحبه كيف رأيت الرجلين قال اما الاول فقاص مجيد واما الآخر
فعربي محكك ونظر أعرابي الى الحسن فقال له رجل كيف تراه قال أرى خيشوم حر وأرادوا
عبد الله بن وهب الراسبي على الكلام يوم عقدت له الخوارج الرياسة فقال وما انا
والرأي الفطير والكلام القضيب ولما فرغوا من البيعة له قال دعوا الرأي يغب فان
غبوبه يكشف لكم عن
محضه وقيل
لابن التوأم الرقاشي تكلم فقال ما أشتهى الخبز الا بائتا وقال عبيد الله بن سالم
لرؤبة مت يا أبا الجحاف اذا شئت قال وكيف ذلك قال رأيت اليوم عقبة بن رؤبة ينشد
شعرا له أعجبني فقال رؤبة نعم انه ليقول ولكن ليس لشعره قران وقال الشاعر
( مهاذبة مناجبة قران ... منادبة كأنهم الاسود )
وقال عمر بن لجاء لبعض الشعراء أنا أشعر منك قال وبم ذاك
قال لاني أقول البيت وأخاه وتقول البيت وابن عمه وذكر بعضهم شعر النابغة الجعدي
فقال مطرف بالاف وخمار بواف وكان الاصمعي يفضله من أجل ذلك وكان يقول الحطيئة عبد
لشعره عاب شعره حين وجده كله متخيرا منتخبا مستويا لمكان الصنعة والتكلف والقيام
عليه وقالوا لو كان شعر صالح بن عبد القدوس وسابق البربري كان مفرقا في أشعار
كثيرة لصارت تلك الاشعار أرفع مما هي عليه بطبقات ولصار شعرهما نوادر سائرة في
الافاق ولكن القصيدة اذا كانت كلها أمثالا لم تسر ولم تجر مجرى النوادر ومتى لم
يخرج السامع من شيء الى شيء لم يكن لذلك النظام عنده موقع وقال بعض الشعراء لرجل
انا اقول في كل ساعة قصيدة وأنت تقرضها في كل شهر فلم ذلك قال لاني لا اقبل من
شيطاني مثل الذي تقبله من شيطانك قالوا وانشد عقبة بن رؤبة اباه رؤبة بن العجاج
شعرا وقال له كيف تراه قال له يا بني ان أباك ليعرض له مثل هذا يمينا وشمالا فما
يلتفت اليه
وقد رووا ذلك في زهير وابنه كعب
وقيل لعقيل بن علفة لم لا تطيل الهجاء قال يكفيك من
القلادة ما أحاط بالعنق وقيل لابي المهوس لم لا تطيل الهجاء قال لم اجد المثل النادر
الا بيتا واحدا ولم أجد الشعر السائر الا بيتا واحدا وقال مسلمة بن عبد الملك
لنصيب يا أبا الحجناء اما تحسن الهجاء قال أما تراني أحسن مكان عافاك الله لا
عافاك الله ولاموا الكميت بن زيد على الاطالة فقال انا على القصار اقدر وقيل
للعجاج ما لك لا تحسن الهجاء قال هل في الارض صانع الا وهو على الافساد أقدر وقال
رؤبة الهدم أسرع من البناء
وهذه الحجج التي ذكروها عن نصيب والكميت والعجاج ورؤبة
إنما
ذكروها
على وجه الاحتجاج لهم وهذا منهم جهل ان كانت هذه الاخبار صادقة وقد يكون الرجل له
طبيعة في الحساب وليس له طبيعة في الكلام ويكون له طبيعة في التجارة وليس له طبيعة
في الفلاحة ويكون له طبيعة في الحداء او في التعبير او في القراءة بالألحان وليس
له طبيعة في الغناء وان كانت هذه الانواع كلها ترجع الىتأليف اللحون ويكون له
طبيعة في الناي وليس له طبيعة في السرناي ويكون له طبيعة في قصبة الراعي ولا يكون
له طبيعة في القصبتين المضمومتين ويكون له طبع في صناعة اللحون ولا يكون له طبع في
غيرها ويكون له طبع في تأليف الرسائل والخطب والاسجاع ولا يكون له طبع في قرض بيت
شعر ومثل هذا كثير جدا
وكان عبد الحميد الاكبر وابن المقفع مع بلاغة أقلامهما
وألسنتهما لا يستطيعان من الشعر الا ما لا يذكر مثله وقيل لابن المقفع في ذلك فقال
الذي ارضاه لا يجيئني والذي يجيئني لا أرضاه وهذا الفرزدق وكان مشتهرا بالنساء
وكان زير غوان وهو في ذلك ليس له بيت واحد في النسيب مذكور ومع حسده لجرير - وجرير
عفيف لم يعشق امرأة قط - وهو مع ذلك أغزل الناس شعرا وفي الشعراء من لا يستطيع
مجاوزة القصيد الى الرجز ومنهم من لا يستطيع مجاوزة الرجز الى القصيدة ومنهم من
يجمعها كجرير وعمر بن لجاء وأبي النجم وحميد الارقط والعماني وليس الفرزدق في
طواله بأشعر منه في قصاره وفي الشعراء من يخطب وفيهم من لا يستطيع الخطابة وكذلك
حال الخطباء في قرض الشعر وشاعر نفسه قد تختلف حالاته وقال الفرزدق انا عند الناس
أشعر الناس وربما مرت علي ساعة ونزع ضرسي أهون علي من ان أقول بيتا واحدا وقال
العجاج لقد قلت أرجوزتي التي أولها
( بكيت والمحتزن البكي ... وإنما يأتي الصبا الصبي )
( أطربا وأنت قنسري ... والدهر بالانسان دوري )
وأنا بالرمل فانثالت علي قوافيها انثيالا وأني لا أريد
اليوم دونها في الايام الكثيرة فما أقدر عليه وقال لي أبو يعقوب الخزيمي خرجت من
منزلي أريد الشماسية فابتدأت القول في مرثية لأبي التختاخ فرجعت والله وما امكنني
بيت واحد وقال الشاعر
( وقد يقرض الشعر البكيء لسانه ... وتعيي القوافي المرء
وهو خطيب )
بسم الله الرحمن الرحيم
باب من القول في القوافي الظاهرة واللفظ الموجز
من ملتقطات كلام النساك
قال بعض
الناس من التوقي ترك الافراط في التوقي وقال بعضهم اذا لم يكن ما تريد فأرد ما
يكون
وقال الشاعر
( قدر الله وارد ... حين يقضى وروده )
( فأرد ما يكون إن ... لم يكن ما تريده )
وقيل لأعرابي في شكاته كيف تجدك قال أجد ما لا أشتهي
وأشتهي ما لا أجد وأنا في زمان من جاد لم يجد ومن وجد لم يجد وقال بعض النساك أنا
لما لا أرجو أرجى مني لما أرجو وقال بعضهم أعجب من العجب ترك التعجب من العجب وقال
عمر بن عبد العزيز رحمه الله لعبد بني مخزوم أني أخاف الله فيما تقلدت قال لست
أخاف عليك ان تخاف وإنما أخاف عليك أن لا تخاف وقال الاحنف لمعاوية أخافك إن صدقتك
وأخاف الله إن كذبتك وقال رجل من النساك لصاحب له وهو يجود بنفسه اما ذنوبي فاني
أرجو لها مغفرة الله ولكني اخاف على بناتي الضيعة فقال له صاحبه فالذي ترجوه
لمغفرة ذنوبك فارجه لحفظ بناتك وقال رجل من النساك لصاحب له مالي أراك حزينا قال
كان عندي يتيم أربيه لأوجر فيه فمات فانقطع عنا أجره إذ بطل قيامنا بمؤونته فقال
له صاحبه فاجتلب يتيما اخر يقوم لك مقام الاول قال أخاف ان لا أصيب يتيما في سوء
خلقه قال له صاحبه اما انا فلو كنت في موضعك معه لا ذكرت سوء خلقه وقال اخر وسمعه
ابو هريرة النحوي وهو يقول ما يمنعني من تعلم القران الا اني أخاف ان أضيعه قال
اما انت فقد عجلت له التضييع ولعلك اذا تعلمته لم تضيعه وقال عمر ابن عبد العزيز
لرجل من سيد قومك قال انا قال لوكنت كذلك لم تقل
باب آخر
في حسن البيان
وقالوا في
حسن البيان وفي التخلص من الخصم بالحق والباطل وفي تخليص الحق من الباطل وفي
الاقرار بالحق وفي ترك الفخر بالباطل
قال اعرابي وذكر حماس بن ثامل
( برئت الى الرحمن من كل صاحب ... أصاحبه إلا حماس بن
ثامل )
( وظني به بين السماطين أنه ... سينجو بحق او سينجو
بباطل )
وقال العجير السلولي
( وإن ابن زيد لا بن عمي وإنه ... لبلال أيدي جلة الشول
بالدم )
( طلوع الثنايا بالمطايا وإنه ... غداة المرادى للخطيب
المقدم )
( يسرك مظلوما ويرضيك ظالما ... ويكفيك ما حملته حين
تغرم )
وقال ابن ربع الهذلي
( أعيني ألا فابكي رقيبة انه ... وصول لأرحام ومعطاء
لسائل )
( فأقسم لو أدركته لحميته ... وان كان لم يترك مقالا
لقائل )
وقال بعض اليهود وهو الربيع بن أبي الحقيق من بني النضير
وبعثه رسول الله الى خيبر فقتلوه
( سائل بنا خابر أكفائنا ... والعلم قد يلفى لدى السائل )
( إنا اذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل )
( واصطرع الناس بألبابهم ... نقضي بحكم عادل فاصل )
( لا نجعل الباطل حقا ولا ... نلط دون الحق بالباطل )
( نكره أن تسفه احلامنا ... فنخمل الدهر مع الخامل )
وقال الاخر وذكر حماسا ايضا
( أتاني حماس بابن ما هي يسوقه ... ليبغيه خيرا وليس
بفاعل )
( ليعطي عبسا مالنا وصدورنا ... من الغيظ تغلي مثل غلي
المراجل )
( وقافية قيلت لكم لم أجد لها ... جوابا اذا لم تضربوا
بالمناصل )
( فأنطق في حق بحق ولم يكن ... ليرحض عنكم قالة الخزي
باطلي )
وقال عمرو بن معد يكرب
( فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت )
وقال ابو
عبيدة صاح رؤبة في بعض الحروب التي كانت بين تميم والازد يا معشر بني تميم أطلقوا
من لساني قال أبصر رجلا منهم قد طعن فارسا طعنة فصاح لاعيا ولا شللا والعرب تقول
عي أبأس من شلل كأن العي فوق كل زمانه وقالت الجهضمية
( ألا هلك الحلو الحلال الحلاحل ... ومن عنده علم وحلم
ونائل )
( وذوخطب يوما اذا القوم افحموا ... تصيب مرادي قوله ما
يحاول )
( بصير بعورات الكلام اذا التقى ... شريجان بين القوم حق
وباطل )
( أتي لما يأتي الكريم بسيفه ... وان أسلمته جنده
والقبائل )
( وليس بمعطاء الظلامة عن يد ... ولا دون أعلى سورة
المجد قابل )
وأنشد ابو عبيدة في الخطيب يطول كلامه ويكون ذكورا لأول
خطبته وللذي بنى عليه أمره وان شغب شاغب فقطع عليه كلامه او حدث عند ذلك حدث يحتاج
فيه الى تدبير اخر وصل الثاني من كلامه بالاول حتى لا يكون أحد كلاميه أجود من
الآخر
( فان أحدثوا شغبا يقطع نظمها ... فانك وصال لما قطع
الشغب )
( ولو كنت نساجا سدوت خطابها ... بقول كطعم الشهد
بالبارد العذب )
وقال نصيب
( وما بذلت ابتذال الثوب ودكم ... وعائد خلقا ما كان
يبتذل )
( وعلمك الشيء تهوى ان تبينه ... أشفى بقلبك من أخبار من
تسل )
وقال الاخر
( لعمرك ماود اللسان بنافع ... اذا لم يكن أصل المودة في
الصدر )
وقال الآخر
( تعلم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علم كمن هو
جاهل )
( وان كبير القوم لا علم عنده ... صغير اذا التفت عليه
المحافل )
وقال الآخر
( فتى مثل صفو الماء ليس بباخل ... عليك ولا مهد ملاما
لباخل )
( ولا قائل عوراء تؤذي رفيقه ... ولا رافع رأسا بعوراء
قائل )
( ولا مسلم مولى لأمر يصيبه ... ولا خالط حقا مصيبا
بباطل )
( ولا
رافع أحدوثة السوء معجبا ... بها بين أيدي المجلس المتقابل )
( ترى أهله في نعمة وهو شاحب ... طوي البطن مخماص الضحى
والاصائل )
وقالت أخت يزيد بن الطثرية
( أرى الأثل من بطن العقيق مجاوري ... قريبا وقد غالت
يزيد غوائله )
( فتى قد قد السيف لا متضائل ... ولا رهل لباته وبآدله )
( فتى لا يرى خرق القميص بخصره ... ولكنما توهي القميص
كواهله )
( اذا نزل الاضياف كان عذورا ... على الحي حتى تستقل
مراجله )
( مضى فورثناه دريس مفاضه ... وأبيض هنديا طويلا حمائلة )
( يسرك مظلوما ويرضيك ظالما ... وكل الذي حملته فهو
حامله )
( أخو الجد ان جد الرجال وشمروا ... وذو باطل ان شئت
ألهاك باطله )
باب شعر وغير ذلك من الكلام مما يدخل في باب الخطب
قال
الشاعر
( عجبت لأقوام يعيبون خطبتي ... وما منهم في موقف بخطيب )
وقال الآخر
( ان الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد
دليلا )
( لا يعجبنك من خطيب قوله ... حتى يكون مع اللسان أصيلا )
وأنشد الاخر
( أبر فما يزداد إلا حماقة ... ونوكا وإن كانت كثيرا
مخارجه )
قد يكون رديء العقل جيد اللسان
وكان ابو العباس الاعمى يقول
( اذا وصف الاسلام أحسن وصفه ... بفيه ويأبى قلبه
ويهاجره )
( وان قام قال الحق ما دام قائما ... تقي اللسان كافر
بعد سائره )
يقول انه يتيه عن قوله ويأباه ويهجره ويقول الحق على
منبره بلسانه وسائره كافر
وقال قيس بن عاصم المنقري يذكر ما في بني منقر من
الخطابة
( إني امرؤ لا يعتري خلقي ... دنس يفنده ولا أفن )
( من منقر في بيت مكرمة ... والأصيل ينبت حوله الغصن )
( خطباء
حين يقوم قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع لسن )
( لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحسن جوارهم فطن )
من هذا الباب وليس منه في الجملة قول الآخر
( أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة مذعور ولم
تتكلم )
( فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا ... وأهلا وسهلا بالحبيب
المسلم )
وقال نصيب
( يقول فيحسن القول ابن ليلى ... ويفعل فوق أحسن ما يقول )
وقال اخر
( ألا رب خم ذي فنون علوته ... وان كان ألوى يشبه الحق
باطله )
فهذا هو معنى قول العتابي البلاغة إظهار ما غمض من الحق
وتصوير الباطل في صورة الحق وقال الشاعر وهو كما قال
( عجبت لإدلال العيي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول
أعلما )
( وفي الصمت ستر للعيي وإنما ... صحيفة لب المرء ان
يتكلما )
وموضع الصحيفة من هذا البيت موضع ذكر العنوان في شعره
الذي رثى به عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه يقول
( ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا
وقرآنا )
وأنشد أيضا
( ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما الدخل )
( وكل في الهوى ليث ... وفيما نابه فسل )
( وليس الشأن في الوصل ... ولكن ان يرى الفضل )
وقال كسرى أنو شروان لبزرجمهر أي الاشياء خير للمرء
العيي قال عقل يعيش به قال فان لم يكن له عقل قال فاخوان يسترون عليه قال فان لم
يكن له اخوان قال فمال يتحبب به الى الناس قال فان لم يكن له مال قال فعي صامت قال
فان لم يكن ذلك قال فموت مريح
وقال موسى بن يحيى بن خالد قال ابو علي رسائل المرء في
كتبه أدل على مقدار عقله وأصدق شاهد على غيبه لك ومعناه فيك من أضعاف ذلك على
المشافهة و المواجهة
باب آخر
ووصفوا
كلامهم في أشعارهم فجعلوه كبرود العصب وكالحلل والمعاطف والديباج والوشي وأشباه
ذلك
وأنشدني أبو الجماهر جندب بن مدرك الهلالي
( لا يشترى الحمد امنية ... ولا يشترى الحمد بالمقصر )
( ولكنما يشترى غاليا ... فمن يعط قيمته يشتر )
( وممن يعتطف على مئزر ... فنعم الرداء على المئزر )
وأنشدني لابن ميادة
( نعم أنني مهد ثناء ومدحة ... كبرد يمان يربح البيع
تاجره )
وأنشدني
( فان أهلك فقد أبقيت بعدي ... قوافي تعجب المتمئلينا )
( لذيذات المقاطع محكمات ... لو ان الشعر يلبس لارتدينا )
وقال ابو قردودة يرثي ابن عمار قتيل النعمان ووصف كلامه
وقد كان نهاه عن منادمته
( اني نهيت ابن عمار وقلت له ... لا تأمنن أحمر العينين
والشعره )
( إن الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر بنارك من نيرانهم
شرره )
( يا جفنة كإزاء الحوض قد هدموا ... ومنطقا مثل وشي
اليمنة الحبره )
وقال الشاعر في مديح احمد بن ابي دؤاد
( وعويص من الامور بهيم ... غامض الشخص مظلم مستور )
( قد تسهلت ما توعر منه ... بلسان يزينه التحبير )
( مثل وشي البرود هلهله النسج ... وعند الحجاج در نثير )
( حسن الصمت والمقاطع إما ... أنصت القوم والحديث يدور )
( ثم من بعد لحظة تورث اليسر ... وعرض مهذب موفور )
مما يضم الى هذا وليس منه بعينه قول جميل بن معمر
( نمت في الروابي من معد وأفلجت ... على الخفرات الغر
وهي وريد )
( أناة على نيرين اضحى لداتها ... بلين بلاء الريط وهي
جديد )
ومن هذا الشكل وليس منه بعينه قول الشاعر
( على كل
ذي نيرين زيد محاله ... محالا وفي أضلاعه زيد أضلعا )
وقال ابو يعقوب الخزيمي الاعور أول شعر قلته هذان
البيتان
( بقلبي سقام لست أحسن وصفه ... على أنه ما كان فهو شديد )
( تمر به الأيام تسحب ذيلها ... فتبلى له الأيام وهو
جديد )
وقال آخر وهو ابو الاسود الدؤلي
( أبي القلب إلا ام عمرو وحبها ... عجوزا ومن يحبب عجوزا
يفند )
( كبرد اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ما شئت في
العين واليد )
وقال ابن هرمة
( إن الأديم الذي أصبحت تعركه ... جهلا لذو نغل باد وذو
حلم )
( ولن يبط بأيدي الخالقين ولا ... أيدي الخوالق إلا جيد
الأدم )
( وفي غير هذا الباب وهو قريب منه قول ذي الرمة
في قعر حجر من ذؤابة عامر ... إمام هدى مستبصر الحكم
عادله )
( كأن على أعطافه ماء مذهب ... اذا سمل السربال طارت
رعابله )
وهو الذي يقول
( حوراء في دعج صفراء في نعج ... كأنها فضة قد مستها ذهب )
وقال الاعشى
( بيضاء ضحونها وصفراء ... العشية كالعراره )
وقال اخر
( قد علمت بيضاء صفراء الأصل ... لأغنين اليوم ما أغنى
رجل )
وقال بشار بن برد
( وخذي ملابس زينة ... ومصبغات فهي أفخر )
( واذا دخلت تقنعي ... بالحمر ان الحسن أحمر )
وهذان أعميان قد اهتديا من حقائق هذا الامر الى مالا
يبلغه تمييز البصير ولبشار خاصة في هذا الباب ما ليس لاحد ولولا انه في كتاب الرجل
والمرأة وفي باب القول في الانسان في كتاب الحيوان أليق وأذكى لذكرناه في هذا
الموضع ومما ذكروا فيه الوزن قوله
( زني ألقوم حتى تعرفي عند وزنهم ... اذا رفع الميزان
كيف أميل )
وقال ابن
الزبير الأسدي
( أعاذل غضي بعض لومك إنني ... أرى الموت لا يرضى بدين
ولا رهن )
( وإني أرى دهرا تغير صرفه ... ودنيا أراها لا تقوم على
وزن )
باب آخر
ويذكرون الكلام الموزون ويمدحون به ويفضلون اصابة
المقادير ويذمون الخروج من التبويل قال جعفر بن سليمان ليس يطيب الطعام بكثرة
الانفاق وجودة التوابل وانما الشأن في اصابة القدر وقال الشاعر وهو عارق بن أثال
الطائي
( ما ان يزال ببغداد يزاحمنا ... على البراذين أشباه
البراذين )
( اعطاهم الله أموالا ومنزلة ... من الملوك بلا عقل ولا
دين )
( ما شئت من بغلة شقراء ناجية ... او من أثاث وقول غير
موزون )
وأنشد بعض الشعراء
( رأت رجلا أودى السفار بجسمه ... فلم يبق إلا منطق
وحناجن )
( اذا حسرت عنه العمامة راعها ... جميل الخفوق أغفلته
الدواهن )
( فإن أك معروق العظام فانني ... اذا ما وزنت القوم
بالقوم وازن )
قال مالك بن أسماء في بعض نسائه وكانت تصيب الكلام كثيرا
وربما لحنت
( أمغطى مني على بصري للحب ... أم انت أكمل الناس حسنا )
( وحديث ألذة هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا )
( منطق عاقل وتلحن أحيانا ... وخير الحديث ما كان لحنا )
وقال طرفه في المقدار وإصابته
( فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي )
طلب الغيث على قدر الحاجة لان الفاضل ضار وقال النبي في
دعائه اللهم ( اسقنا سقيا نافعا ) لان المطر ربما جاء في غير إبان الزراعات
وربما جاء والتمر في الجرن والطعام في البيادر وربما كان في الكثرة مجاوزا لمقدار
الحاجة وقال النبي ( اللهم حوالينا ولا علينا ) وقال بعض الشعراء لصاحبه أنا أشعر
منك قال ولم قال لاني أقول البيت وأخاه وتقول البيت
وابن عمه
وعاب رؤبة شعر ابنه عقبة فقال ليس له قران وجعل البيت أخا البيت اذا أشبه وكان حقه
ان يوضع الى جنبه وعلى ذلك التأويل قال الاعشى
( أبا مسمع أقصر فان قصيدة ... متى تأتكم تلحق بها
اخواتها )
قال الله عز و جل ( وما نريهم من آية إلا هي اكبر من
اختها )
وقال عمرو بن معد يكرب
( وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان )
وقالوا فيماهو ابعد معنى وأقل لفظا قال الهذلي
( أعامر لا الوك إلا مهندا ... وجلد أبي عجل وثيق
القبائل )
وقالوا ما هو أبعد من هذا قال ابن عسلة الشيباني واسمه
عبد المسيح
( وسماع مدجنة تعللنا ... حتى ننام تناوم العجم )
( فصحوت والنمري يحسبها ... عم السماك وخالة النجم )
وقال أبو النجم فيما هو أبعد من هذا ووصف العير والمعيور
الموضع الذي يكون فيه الأعيار
( وظل يوفي الأكم ابن خالها ... )
فهذا مما يدل على توسعهم في الكلام وحمل بعضه على بعض
واشتقاق بعضه من بعض وقال النبي ( نعمت العمة لكم النخلة ) كأن بينها وبين الانسان
تشابه وتشاكل من وجوه وقد ذكرنا ذلك في كتاب الزرع والنخل وفي مثل ذلك قال بعض
الفصحاء
( شهدت بأن النمر بالزبد طيب ... وأن الحبارى خالة
الكروان )
باب آخر من الشعر
مما قالوا في الخطب واللسن والامتداح به والمديح عليه
قال كعب
الاشقري
( إلا أكن في الارض أخطب قائما ... فإني على ظهر الكميت
خطيب )
وقال ثابت قطنة
( فإلا أكن فيكم خطيبا فإنني ... بسمر القنا والسيف جد
لعوب )
وقالت ليلى الاخيلية
( حتى
اذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما )
وقال الاخر
( عجبت لأقوام يعيبون خطبتي ... وما منهم في مأقط بخطيب )
وقال دريد بن الصمة
( أبلغ نعيما وأوفى ان لقيتهما ... ان لم يكن كان في
سمعيهما صمم )
( فلا يزال شهاب يستضاء به ... يهدي المقانب ما لم يهلك
الصمم )
( عاري الأشاجع معصوب بلمته ... أمر الزعامة في عرنينه
شمم )
وقال أبو العباس الاعمى مولى بني بكر بن عبد مناف في بني
عبد شمس
( ليت شعري أفاح رائحة المسك ... ما إن اخال بالخيف أنسي )
( حين غابت بنو أمية عنه ... والبهاليل من بني عبد شمس )
( خطباء على المنابر فرسان ... عليها وقالة غير خرس )
( لا يعابون صامتين وان قالوا ... أصابوا ولم يقولوا
بلبس )
( بحلوم اذا الحلوم استخفت ... ووجوه مثل الدنانير ملس )
وقال العجاج
( وحاصن من حاصنات ملس ... من الأذى ومن قراف الوقس )
وقال امرؤ القيس بن حجر
( ويارب يوم قد أروح مرجلا ... حبيبا الى البيض الكواعب
أملسا )
وقال أبو العباس الاعمى
( ولم أر حيا مثل حي نحملوا ... الى الشام مظلومين منذ
بريت )
( أعز وأمضى حين تشتجر القنا ... وأعلم بالمسكين حيث
يبيت )
( وأرفق بالدنيا بأولى سياسة ... اذا كاد امر المسلمين
يفوت )
( اذا مات منهم سيد قام سيد ... بصبر بعورات الكلام زميت )
وقال آخر
( لا يغسل العرض من تدنسه ... والثوب إن مس مدنسا غسلا )
( وزلة الرجل تستقال ولا ... يكاد رأي يقيلك الزللا )
وقال اخر في الزلل
( ألهفي اذا عصيت أبا يزيد ... ولهفي اذ أطعت أبا العلاء )
كانت هفوة
من غير ريح ... وكانت زلة من غير ماء )
وقال آخر
( فانك لم ينذرك أمر تخافه ... اذا كنت فيه جاهلا مثل
خابر )
وقال ابن وابصة - واسمه سالم - في مقام قام فيه مع ناس
من الخطباء
( يا أيها المتحلي غير شيمته ... ومن سجيته الاكثار
والملق )
( أعمد الى القصد فيما انت راكبه ... ان التخلق يأتي
دونه الخلق )
( صدت هنيدة لما جئت زائرها ... عني بمطروفة انسانها غرق )
( وراعها الشيب في رأسي فقلت لها ... كذاك يصفر بعد
الخضرة الورق )
( بل موقف مثل حد السيف قمت به ... أحمي الذمار وترميني
به الحدق )
( فما زللت ولا ألفيت ذا خطل ... اذا الرجال على أمثالها
زلقوا )
وأنشد أعرابي من باهلة
( سأعمل نص العيس حتى يكفني ... غنى المال يوما او غنى
الحدثان )
( فللموت خير من حياة يرى لها ... على الحر بالإقلال وسم
هوان )
( متى يتكلم يلغ حكم كلامه ... وان لم يقل قالوا عديم
بيان )
( كأن الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسان ناطق
بلسان )
وفي مثلها في بعض الوجوه قول عروة بن الورد
( ذريني للغنى أسعى فاني ... رأيت الناس شرهم الفقير )
( وأهونهم وأحقرهم لديهم ... وان أمسى له نسب وخير )
( ويقصى في الندي وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير )
( ويلفى ذو الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير )
( قليل ذنبه والذنب جم ... ولكن للغنى رب غفور )
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه الهوى إله معبود وتلا
قوله عز و جل ( أفرأيت من اتخد إلهه هواه وأضله الله على علم )
وقال ابو الاعور سعيد بن زيد بن عمرو بن تفيل
( تلك عرساي تنطقان على عمد ... إلى اليوم قول زور وهتر )
( سألتاني الطلاق ان رأنا ما ... لي قليلا قد جئتماني
بنكر )
( فلعلي ان يكثر المال عندي ... ويعرى من المغارم ظهري )
( وترى
أعبد لنا وأواق ... ومناصيف من خوادم عشر )
( وتجر الأذيال في نعمة زول ... تقولان ضع عصاك لدهر )
( ويكأن من يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضر )
( ويجنب سر النجي ولكن ... أخا المال محضر كل سر )
قال عبيد بن الابرص في نحو هذا وليس كمثله
( تلك عرسي غضبى تريد زيالي ... ألبين تريد أم لدلال )
( ان يكن طلبك الفراق فلا أحفل ... ان تعطفي صدور الجمال )
( كنت بيضاء كالمهاة وإذ ... آتيك نشوان مرخيا أذيالي )
( فاتركي مط حاجبيك وعيشي ... معنا بالرجاء والتأمال )
( زعمت أنني كبرت وأني ... قل مالي وضن عني الموالي )
( وصحا باطلي وأصبحت شيخا ... لا يواتي امثالها امثالي )
( ان تريني تغير الرأس مني ... وعلا الشيب مفرقي وقذالي )
( بينما أدخل الخباء على مهضومة ... الكشح طفلة كالغزال )
( فتعاطيت جيدها ثم مالت ... ميلان الكثيب بين الرمال )
( ثم قالت فدى لنفسك نفسي ... وفداء لمال أهلك مالي )
وخرج عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه من داره يوما وقد
جاء عامر ابن عبد قيس فقعد في دهليزه فلما رأى شيخا دميما أشغى ثطا في عباءة
فأنكره وانكر مكانه فقال يا اعرابي اين ربك قال بالمرصاد
يقال ان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لم يفحمه احد
قط غير عامر بن عبد قيس ونظر معاوية الى النخار بن أوس العذري الخطيب الناسب في
عباءة في ناحية من مجلسه فأنكره وانكر مكانه زراية منه عليه فقال من هذا فقال
النخار يا أمير المؤمنين ان العباءة لا تكلمك انما يكلمك من فيها
قال ونظر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الى هرم بن
قطبة ملتفا في بت في ناحية المسجد ورأى دمامته وقلته وعرف تقديم العرب له في الحكم
والعلم فأحب ان يكشفه ويسبر ما عنده فقال أرأيت لو تنافرا اليك اليوم أيهما كنت
تنفر يعني علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل فقال يا امير المؤمنين لو قلت فيهما
كلمة لأعدتها جذعة فقال عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه
لهذا العقل تحاكمت اليك العرب ونظر عمر الى الأحنف وعنده الوفد والأحنف ملتف في بت
له فترك جميع القوم واستنطقه فلما تبعق منه ما تعبق وتكلم بذلك الكلام البليغ
المصيب وذهب ذلك المذهب لم يزل عنده في علياء ثم صار الى ان عقد له الرياسة ثابتا
له ذلك الى ان فارق الدنيا
ونظر النعمان بن المنذر الى ضمرة بن ضمرة فلما رأى
دمامته وقلته قال تسمع بالمعيدي لا ان تراه هكذا تقول العرب فقال ضمرة أبيت اللعن
ان الرجال لا تكال بالقفزان وانما المرء بأصغريه لا لسانه وقلبه وكان ضمرة خطيبا
وكان فارسا شاعرا شريفا سيدا
وكان لرمق بن زيد مدح أبا جبيلة الغساني وكان الرمق
دميما قصيرا فلما أنشده وحاوره قال عسل طيب في ظرف سوء
قال وتكلم علباء بن الهيثم السدوسي لدى عمر بن الخطاب
رضي الله تعالى عنه وكان علباء اعور دميما فلما رأى براعته وسمع بيانه أقبل عمر
يصعد فيه بصره ويحدره فلما خرج قال عمر لكل أناس في جميلهم خبرة
قال ابو عثمان وأنشدت سهل بن هرون قول سلمة بن خرشب
وشعره الذي أرسل به الى سبيع التغلبي في شأن الرهن التي وضعت على يديه في قتال عبس
وذبيان فقال سهل بن هرون والله لكأنه قد سمع رسالة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى
عنه الى أبي موسى الأشعري في سياسة القضاء وتدبير الحكم والقصيدة قوله
( أبلغ سبيعا وأنت سيدنا ... قدما وأوفى رجالنا ذمما )
( أن بغيضا وأن إخوتها ... ذبيان قد ضرموا الذي اضطرما )
( نبئت أن حكموك بينهم ... فلا يقولن بئس ما حكما )
( ان كنت ذا خبرة بشأنهم ... تعرف ذا حقهم ومن ظلما )
( وتنزل الأمر في منازله ... حكما وعلما وتحضر الفهما )
( ولا تبالي من المحق ولا المبطل ... لا إلة ولا ذمما )
( فاحكم وأنت الحكيم بينهم ... لن تعدموا الحكم ثابتا
صتما )
( واصدع أديم السواء بينهم ... على رضى من رضي ومن رغما )
( ان كان
مالا ففض عدته ... مالا بمال وان دما فدما )
( حتى ترى ظاهر الحكومة مثل ... الصبح جلى نهاره ظلما )
( هذا وان لم تطق حكومتهم ... فانبذ اليهم أمورهم سلما )
وقال العايشي كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أعلم
الناس بالشعر ولكنه اذ ابتلى بالحكم بين النجاشي والعجلاني وبين الحطيئة والزبرقان
كره أن يتعرض للشعراء واستشهد رجالا للفريقين مثل حسان بن ثابت وغيره ممن تهون
عليه سبالهم فاذا سمع كلامهم حكم بما يعلم وكان الذي ظهر من حكم ذلك الشاعر مقنعا
للفريقين ويكون هو قد تخلص بعرضه سليما فلما رآه من لا علم له يسأل هذا وهذا ظن ان
ذلك لجهله بما يعرف غيره ولقد أنشدوه شعرا لزهير وكان لشعره مقدما فلما انتهوا الى
قوله
( وان الحق مقطعه ثلاث ... يمين او نفار او جلاء )
قال عمر كالمتعجب من علمه بالحقوق وتفصيله بينها واقامته
أقسامها
( وان الحق مقطعه ثلاث ... يمين او نفار او جلاء )
وأنشدوه قصيدة عبدة بن الطبيب الطويلة التي على اللام
فلما بلغ المنشد الى قوله
( والمرء ساع لأمر ليس يدركه ... والعيش شح واشفاق
وتأميل )
قال عمر متعجبا
( والعيش شح وأشفاق وتأميل )
يعجبهم من حسن ما قسم وفصل وأنشدوه قصيدة أبي قيس بن
الاسلت التي على العين وهو ساكت فلما انتهى المنشد الى قوله
( الكيس والقوة خير من الاشفاق ... والفهة والهاع )
أعاد عمر البيت وقال
( الكيس والقوة خير ال ... إشفاق والفهة والهاع )
وجعل عمر يردد البيت ويتعجب منه قال محمد بن سلام الجمحي
عن بعض أشياخه قال كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لا يكاد يعرض له أمر الا
أنشد فيه بيت شعر
وقال عمر بن العلاء كان الشاعر في الجاهلية يقدم على
الخطيب بفرط
حاجتهم
الى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم ويهول على عدوهم ومن غزاهم ويهيب من
فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم فلما كثر الشعر
والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا الى السوقة وتسرعوا الى أعراض الناس صار
الخطيب عندهم فوق الشاعر ولذلك قال الاول الشعر أدنى مروءة السري وأسرى مروءة
الدني
قال ولقد وضع قول الشعر من قدر النابغة الذبياني ولو كان
في الدهر الاول ما زاده ذلك الا رفعة
وروى مجالد عن الشعبي قال ما رأيت مثلي ما أشاء أن ألقى
رجلا أعلم مني بشيء الا لقيته وقال الحسن البصري يكون الرجل عابدا ولا يكون عاقلا
ويكون عابدا عاقلا ولا يكون عالما وكان مسلم بن يسار عاقلا عابدا عالما وكان يقال
فقه الحسن وورع ابن سيرين وعقل مطرف وحفظ قتادة وذكرت البصرة فقيل شيخها الحسن
وفتاها بكر بن عبد الله المزني والذين بثوا العلم في الدنيا اربعة قتادة والزهري
والاعمش والكلبي وجمع سليمان بن عبد الملك بين قتادة والزهري فغلب قتادة الزهري
فقيل لسليمان في ذلك فقال انه فقيه مليح فقال القحذمي لا ولكنه تعصب للقرشية
ولانقطاعه اليهم ولروايته فضائلهم وكان الاصمعي يقول وصلت بالعلم ونلت بالملح وكان
سهل بن هرون يقول اللسان البليغ والشعر الجيد لا يكاد ان يجتمعان في واحد وأعسر من
ذلك ان يجتمع بلاغة الشعر وبلاغة القلم والمسجديون يقولون من تمنى رجلا حسن العقل
وحسن اللسان وحسن القلم تمنى شيئا عسيرا
باب إعابة العي والحمق
وكانوا
يعيبون النوك والعي والحمق وأخلاق النساء والصبيان
قال الشاعر
( اذا ما كنت متخذا خليلا ... فلا تثقن بكل أخي إخاء )
( فان خيرت بينهم فألصق ... بأهل العقل منهم والحياء )
( فان العقل ليس له إذا ما ... تفاضلت الفضائل من كفاء )
( فان
النوك للأحساب غول ... وأهون دائه داء العياء )
( ومن ترك العواقب مهملات ... فأيسر سعيه سعي العناء )
( فلا تثقن بالنوكى لشيء ... ولو كانوا بني ماء السماء )
( فليسوا قابلي أدب فدعهم ... وكن من ذاك منقطع الرجاء )
وقال الآخر في التضييع والنوك
( فعش في حد أنوك ساعدته ... مقادير يخالفها الصواب )
( ذهاب المال في حمد وأجر ... ذهاب لا يقال له ذهاب )
وأنشد في ذلك
( أرى زمنا نوكاه أسعد أهله ... ولكنما يشقى به كل عاقل )
( مشى فوقه رجلاه والرأس تحته ... فكب الأعالي بارتفاع
الأسافل )
وقال الاخر
( ولم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أر مثل المال
أرفع للرذل )
( ولم أر عزا لامرىء كعشيرة ... ولم أر ذلا مثل نأي عن
الأهل )
( ولم أر من عدم أضر على امرىء ... اذا عاش وسط الناس من
عدم العقل )
وقال الآخر
( تحامق مع الحمقى اذا ما لقيتهم ... ولا تلقهم بالعقل
ان كنت ذا عقل )
( فاني رأيت المرء يشقى بعقله ... كما كان قبل اليوم
يسعد بالعقل )
وقال الآخر
( وأنزلني طول النوى دار غربة ... اذا شئت لاقيت امرأ لا
أشاكله )
( فحامقته حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله )
وقال بشر بن المعتمر وأنشد
( واذا الغبي رأيته مستغنيا ... أعيا الطبيب وحيلة
المحتال )
وأنشدني آخر
( وللدهر ايام فكن في لباسه ... كلبسته يوما أجد وأخلقا )
( وكن اكيس الكيسى اذا كنت فيهم ... وان كنت في الحمقى
فكن انت أحمقا )
وأنشدني آخر
( ولا تقربي يا بنت عمي بوهة ... من القوم دفناسا غبيا
مفندا )
( وان
كان اعطى رأس ستين بكرة ... وحكما على حكم وعبدا مولدا )
( ألا فاحذري لاتوردنك هجمة ... طوال الذرى جبسا من
القوم قعددا )
وأنشدني آخر
( كسا الله حيي تغلب ابنة وائل ... من اللؤم أظفارا
بطيئا نصولها )
( اذا ارتحلوا عن دار ضيم تعاذلوا ... عليها وردوا وفدهم
يستقيلها )
وأنشدني اخر
( وإن عناء ان تفهم جاهلا ... ويحسب جهلا انه منك افهم )
وقال جرير
( ولا يعرفون الشر حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الامر الا
تدبرا )
وقال الاعرج المعني الطائي
( لقد علم الاقوام أن قد قدرتم ... ولم تبدأ وهم
بالمظالم أولا )
( فكونوا كداعى كرة بعد فرة ... ألا رب من قد فر ئمت
أقبلا )
( فان أنتم لم تفعلوا فتبدلوا ... بكل سنان معشر العرب
مغزلا )
( وأعطوهم حكم الصبي بأهله ... واني لأرجو ان يقولوا بأن
لا )
وأنشد
( ولا تحكما حكم الصبي فانه ... كثير على ظهر الطريق
مجاهله )
سئل دغفل عن بني عامر فقال اعناق ظباء وأعجاز نساء قيل
فما تقول في أهل اليمن قال سيد وأنوك
باب في ذكر المعلمين
من امثال
العامة أحمق من معلم كتاب وقد ذكرهم صقلاب فقال
( وكيف يرجى العقل والرأي عند من ... يروح على انثى
ويغدو على طفل )
وفي قول بعض الحكماء لا تستشيروا معلما ولا راعي غنم ولا
كثير القعود مع النساء وقال لا تدع أم صبيك تضربه فانه أعقل منها وان كانت أسن منه
وقد سمعنا في الامثال أحمق من راعي ضان ثمانين
فاما استحماق رعاة الغنم في الجملة فكيف يكون ذلك صوابا
وقد رعى الغنم عدة من جلة الانبياء عليهم السلام ولعمري ان الفدادين من أهل الوبر
ورعاة الإبل ليتلومون على رعاة الغنم ويقول احدهم لصاحبه ان كنت
كاذبا
فحلبت قاعدا
وقال الآخر
( ترى حالب المعزى اذا سر قاعدا ... وحالبهن القائم
المتطاول )
قالت امرأة من غامد في هزيمة ربيعة بن مكدم لجمع غامد
وحده
( ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد )
( تمنيتم مائتي فارس ... فردكم فارس واحد )
( فليت لنا بارتباط الخيول ... ضأنا لها حالب قاعد )
وقد سمعنا قول بعضهم الحمق في الحاكة والمعلمين
والغزالين قال والحاكة أقل وأسقط من ان يقال لهم حمقى وكذلك الغزالون لان الأحمق هو
الذي يتكلم بالصواب الجيد ثم يجيء بخطأ فاحش والحائك ليس عنده صواب جيد في فعال
ولا مقال الا ان يجعل جودة الحياكة من هذا الباب وليس هو من هذا في شيء
باب آخر في الحمق
ويقال
فلان أحمق فاذا قالوا مائق فليس يريدون ذلك المعنى بعينه وكذلك اذا قالوا أنوك
وكذلك اذا قالوا رقيع ويقولون فلان سليم الصدر ثم يقولون غبي ثم يقولون أبله وكذلك
اذا قالوا معتوه ومسلوس وأشباه ذلك
قال ابو عبيدة يقال للفارس شجاع فاذا تقدم ذلك قيل بطل
فاذا تقدم شيئا قيل بهمة فاذا صار الى الغاية قيل اليس
قال العجاج أليس عن حوبائه سخي
وهذا المأخذ يجري في الصفات كلها من جود وبخل وصلاح
وفساد ونقصان ورجحان وما زلت اسمع هذا القول في المعلمين والمعلمون عندي على ضربين
منهم رجال ارتفعوا عن تعليم اولاد العامة الى تعليم اولاد الخاصة ومنهم رجال
ارتفعوا عن تعليم أولاد الخاصة الى تعليم اولاد الملوك انفسهم المرشحين للخلافة
فكيف تستطيع ان تزعم ان مثل علي بن حمزة الكسائي ومحمد بن المستنير الذي يقال له
قطرب واشباه هؤلاء يقال لهم حمقى ولا يجوز هذا القول على هؤلاء ولا على الطبقة
التي دونهم فان ذهبوا الى معلمي كتاتيب
القرى فان
لكل قوم حاشية وسفلة فما هم في ذلك الا كغيرهم
وكيف تقول مثل ذلك في هؤلاء وفيهم الفقهاء والشعراء
والخطباء مثل الكميت بن زيد وعبد الحميد الكاتب وقيس بن سعد وعطاء بن أبي رباح
ومثل عبد الكريم بن ابي أمية وحسين المعلم وابي سعيد
المعلم
ومن المعلمين الضحاك بن مزاحم ابو معبد الجهني وعامر
الشعبي فكانا يعلمان أولاد عبد الملك بن مروان وكان ابو معبد يعلم سعيدا
ومنهم ابو سعيد المؤدب - وهو غير ابي سعيد المعلم - وكان
يحدث عن هشام ابن عروة وغيرهم
ومنهم عبد الصمد بن عبد الاعلى وكان معلم ولد عتبة بن
ابي سفيان
وكان اسماعيل بن علي ألزم بعض بنيه عبد الله بن المقفع
ليعلمه
وكان ابو بكر عبد الله بن كيسان معلما
ومنهم محمد بن السكن وما كان عندنا بالبصرة رجلان ادرى
بصنوف العلم ولا احسن بيانا من ابي الوزير وابي عدنان المعلمين وحالهما من اول ما
اذكر من ايام الصبا
وقد قال الناس في ابي البيداء وفي ابي عبد الله الكاتب
وفي الحجاج بن يوسف وابيه ما قالوا
وقد أنشدوا مع هذا الخبر شاهدا من الشعر على ان الحجاج
وأباه كانا معلمين بالطائف
ثم رجع بنا القول الى الكلام الاول قالوا احق الناس
بالرحمة عالم يجري عليه حكم جاهل وكتب الحجاج الىالمهلب يعجله في حرب الازارقة
ويسمعه فكتب اليه المهلب ان البلاء كل البلاء اي يكون الرأي لمن يملكه دون من
يبصره
باب في التشادق والاغراق في القول
قال بعض الربانيين من الادباء واهل المعرفة من البلغاء ممن يكره التشادق والتعمق ويبغض الاغراق في القول والتكلف والاجتلاب ويعرف اكثر ادواء الكلام ودوائه وما يعتري المتكلم من الفتنة بحسن ما يقول وما يعرض
للسامع من
الافتتان بما يسمع والذي يورث الاقتدار من التحكم والتسلط والذي يمكن الحاذق
والمطبوع من التمويه للمعاني والخلابة وحسن المنطق وقال في بعض مواعظه أنذركم حسن
الالفاظ وحلاوة مخارج الكلام فان المعنى اذا اكتسى لفظا حسنا وأعاره البليغ مخرجا
سهلا ومنحه المتكلم قولا متعشقا صار في قلبك احلى ولصدرك أملا والمعاني اذا كسيت
الالفاظ الكريمة وألبست الاوصاف الرفيعة تحولت في العيون عن مقادير صورها وأربت
على حقائق اقدارها بقدر ما زينت وعلى حسب ما زخرفت فقد صارت الالفاظ في معنى
المعارض وصارت المعاني في معنى الجواري والقلب ضعيف وسلطان الهوى قوي ومدخل خدع
الشيطان خفي
فاذكر هذا الباب ولا تنسه وتأمله ولا تفرط فيه فان عمر
بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لم يقل للاحنف بعد ان احتبسه حولا مجرما ليستكثر منه
وليبالغ في تصفح حاله والتنقير عن شأنه ان رسول الله قد كان خوفنا كل منافق عليم
وقد خفت ان تكون منهم إلا لما كان راعه من حسن منطقه ومال اليه لما رأى من رفقه
وقلة تكلفه ولذلك قال رسول الله ( ان من البيان لسحرا )
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل أحسن في طلب حاجة وتأتي لها
بكلام وجيز ومنطق حسن هذا والله السحر الحلال وقال رسول الله ( لا خلابة ) فالقصد
من ذلك ان تجتنب السوقي والوحشي ولا تجعل همك في تهذيب الالفاظ وشغلك في التخلص
الى غرائب المعاني وفي الاقتصار بلاغ وفي التوسط مجانبة للوعورة والخروج من سبيل
من لا يحاسب نفسه وقد قال الشاعر
( عليك بأوساط الامور فانها ... نجاة ولا تركب ذلولا ولا
صعبا )
وقال الآخر
( لا تذهبن في الامور فرطا ... لا تسألن ان سألت شططا )
( وكن من الناس جميعا وسطا ... )
وليكن كلامك بين المقصر والغالي فانك تسلم من الهجنة عند
العلماء ومن فتنة الشيطان وقال أعرابي للحسن علمني دينا وسطا لا ذاهبا شطوطا
ولا هابطا هبوطا فقال الحسن لئن قلت ذاك ان خير الامور أوسطها وجاء في الحديث خالطوا الناس وزايلوهم وقال عبد الله بن مسعود في خطبته وخير الامور أوساطها وما قل وكفى خير مما كثر وألهى نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها وقال علي بن ابي طالب كرم الله وجهه كن في الدنيا وسطا وامش جانبا وكانوا يقولون إكره الغلو كما تكره التقصير وكان رسول الله يقول لأصحابه ( قولوا بقولكم ولا يستحوذن عليكم الشيطان ) وكان يقول و ( هل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم الا حصائد ألسنتهم )
باب من الخطب القصار
من خطب السلف ومواعظ النساك وتأديب من تأديب العلماء
قال رجل
لأبي هريرة النحوي أريد ان أتعلم العلم وأخاف ان أضيعه قال كفى بترك العلم إضاعة
وسمع الآحنف رجلا يقول التعلم في الصغر كالنقش في الحجر فقال الاحنف الكبير اكبر
الناس عقلا ولكنه أشغل قلبا وقال أبو الدرداء مالي أرى علماءكم يذهبون وجهالكم لا
يتعلمون
وقال رسول الله ( ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه
من الناس ولكن يقبض العلماء حتى اذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا
فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )
ولذلك قال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه حين دلى
زيد بن ثابت في القبر من سره ان يرى كيف ذهاب العلم فلينظر فهكذا ذهابه
وقال بعض الشعراء لبعض العلماء
( أبعدت من يومك الفرار فما ... جاورت حيث انتهى بك
القدر )
( لوكان ينجي من الردى حذر ... نجاك مما أصابك الحذر )
( يرحمك الله من أخي ثقة ... لم يك في صفو وده كدر )
( فهكذا يفسد الزمان ويفنى ... نى العلم منه ويدرس الأثر )
وقال قتادة لو كان أحد مكتفيا من العلم لاكتفى نبي الله
موسى عليه السلام اذ قال للعبد الصالح ( هل اتبعك على ان تعلمني مما علمت رشدا )
وقال ابو العباس التميمي قال طاؤس الكلمة الصالحة صدقة
وعن عبد
الله بن ثمامة بن انس عن أبيه عن النبي انه قال ( فضل لسانك تعبر به عن أخيك الذي
لا لسان له صدقة ) ح
وقال الخليل تكثر من العلم لتعرف وتقلل منه لتحفظ وقال
الفضيل نعمت الهدية الكلمة من الحكمة يحفظها الرجل حتى يلقيها الى أخيه وكان يقال
اجعل ما في الكتب بيت مال وما في قلبك للنفقة وكان يقال يكتب الرجل أحسن ما سمع
ويحفظ أحسن ما كتب وقال أعرابي حرف في قلبك خير من عشرة في طومارك وقال عمر بن عبد
العزيز ما قرن شيء بشيء أفضل من علم الى حلم ومن عفو الى قدرة وكان ميمون بن سياه
إذا جلس الى قوم قال إنا قوم منقطع بنا فحدثونا احاديث نتجمل بها وفخر سليم مولى
زياد بزياد عند معاوية فقال معاوية أسكت فوالله ما أدرك صاحبك شيئا بسيفه الا وقد
أدركت اكثر منه بلساني وضرب الحجاج أعناق أسرى فلما قدموا اليه رجلا ليضرب عنقه
قال والله لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو فقال الحجاج أف لهذه الجيف
أما كان فيها أحد يحسن مثل هذا وأمسك عن القتل
وقال بشير الرحال اني لأجد في قلبي حرا لا يذهبه الا برد
العدل او حر السنان وقدموا رجلا من الخوارج الى عبد الملك لتضرب عنقه - ودخل على
عبدالملك ابن صغير له قد ضربه المعلم وهو يبكي فهم عبد الملك بالمعلم فقال دعه
يبكي فانه أفتح لجرمه وأصح لبصره وأذهب لصوته فقال له عبد الملك أما يشغلك ما انت
فيه عن هذا قال ما ينبغي للمسلم ان يشغله عن قول الحق شيء فأمر بتخلية سبيله وقال
إبراهيم بن أدهم أعربنا في كلامنا فما نلحن حرفا ولحنا في اعمالنا فما نعرب حرفا
وأنشد
( نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا
مانرقع )
وقال زياد على المنبر ان الرجل ليتكلم بالكلمة ما يقطع
بها ذنب عنز مصور لو بلغت إمامه سفك بها دمه وعزل عمر زياد عن كتابه أبي موسى في
بعض قدماته فقال له زياد أعن عجز أم عن خيانة قال لا عن واحدة منهما ولكن أكره ان
احمل على العامة فضل عقلك وبلغ الحجاج موت اسماء ابن خارجة فقال هل سمعتم بالذي
عاش ما شاء ومات حين شاء
وكان يقال
كدر الجماعة خير من صفو الفرقة قال ابو الحسن مر عمر بن ذر بعبد الله بن عياش
المنتوف وقد كان سفه عليه ثم أعرض عنه فتعلق بثوبه فقال يا هناه انا لم نجد لك اذا
عصيت الله فينا خيرا من ان نطيع الله فيك
وهذا كلام أخذه عمر بن ذر عن عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه حين قال عمر اني والله لا ادع حقا لله لشكاية تظهر ولا لغضب يحتمل ولا
لمحاباة بشر وانك والله ما عاقبت من عصي الله فيك بمثل ان تطيع الله فيه وكتب عمر
بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الى سعد بن أبي وقاص يا سعد بني وهيب ان الله اذا
احب عبدا حببه الى خلقه فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس واعلم ان مالك عند
الله مثل الذي لله عندك
ومات لعمر بن ذر ابن فقال اي بني شغلني الحزن لك عن
الحزن عليك وقال رجل من مجاشع كان الحسن يخطب في دم فينا فأجابه رجل فقال وقد تركت
ذلك لله ولوجوهكم فقال الحسن لا تقل هكذا بل قل لله ثم لوجوهكم وآجرك الله
ومر رجل بأبي بكر رضي الله تعالى عنه ومعه ثوب فقال
أتبيع الثوب فقال لا عافاك الله فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لقد علمتم لو
كنتم تعلمون قل لا وعافاك الله
وسأل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا عن شيء فقال
الله أعلم فقال عمر لقد شقينا ان كنا لا نعلم ان الله أعلم اذا سئل احدكم عن شيء
لا يعلمه فليقل لا علم لي وكان ابو الدرداء يقول أبغض الناس إلي إن أظلمه من لا
يستعين علي بأحد الا بالله
وذكر ابن ذر الدنيا فقال كأنكم انما زادكم في حرصكم
عليها ذم الله عز و جل لها ونظر أعرابي الى مال له كثير من الماشية وغيرها فقال
ينعه ولكل ينعه استحشاف فباع ما هنالك من ماله ثم لزم ثغرا من ثغور المسلمين حتى
مات فيه وتمنى قوم عند يزيد الرقاشي فقال أتمنى كما تمنيتم قالوا تمنه قال ليتنا
لم نخلق وليتنا اذ خلقنا لم نعص وليتنا اذ عصينا لم نمت وليتنا اذ بعثنا لم نحاسب
وليتنا اذ حوسبنا لم نعذب وليتنا اذ عذبنا لم نخلد
وقال الحجاج ليت الله اذ خلقنا للآخرة كفانا امر الدنيا
فرفع عنا الهم
بالمأكل
والمشرب والملبس والمنكح أوليته اذ وقعنا في هذه الدار كفانا أمر الآخرة فرفع عنا
الاهتمام بما ينجي من عذابه فبلغ كلامهما عبد الله بن حسن بن حسن او علي بن الحسين
فقال ما علما شيئا في التمني ما اختار الله فهو خير قال ابو الدرداء من هو ان
الدنيا على الله انه لا يعصى الا فيها ولا ينال ما عنده الا بتركها قال شريح الحدة
كناية عن الجهل وقال أبو عبيدة العارضة كناية عن البذاء
واذا قالوا فلان مقتصد فتلك كناية عن البخل واذا قالوا
للعامل مستقص فهو كناية عن الجور وقال حبيب بن أوس الشاعر ابو تمام الطائي
( كذبتم ليس يزهى من له حسب ... ومن له نسب عمن له أدب )
( اني لذو عجب منكم أردده ... فيكم وفي عجبي من زهوركم
عجب )
( لجاجة بي فيكم ليس يشبهها ... الا لجاجتكم في أنكم عرب )
وقيل لاعرابية مات ابنها ما احسن عزاءك عن ابنك قالت ان
مصيبته آمنتني من المصائب بعده وقال سعيد بن عثمان بن عفان لطوبس المغني أينا أسن
انا أو انت يا طويس فقال بأبي انت وأمي لقد شهدت زفاف امك المباركة الى ابيك الطيب
فانظر الى حذقه والى معرفته بمخارج الكلام كيف لم يقل بزفاف امك الطيبة الى ابيك
المبارك وهكذا كان وجه الكلام فقلب المعنى
وقال رجل من اهل الشام كنت في حلقة أبي مسهر في مسجد
دمشق فذكرنا الكلام وبراعته والصمت ونبالته قال كلا ان النجم ليس كالقمر انك تصف
الصمت بالكلام ولا تصف الكلام بالصمت وقال الهيثم بن صالح لابنه وكان خطيبا يا بني
اذا أقللت من الكلام أكثرت من الصواب واذا اكثرت من الكلام أقللت من الصواب قال يا
أبت فان انا اكثرت واكثرت يعني كلاما وصوابا قال يا بني ما رأيت موعوظا أحق بأن
يكون واعظا منك
وقال ابن عباس لولا الوسواس ما باليت ان لا أكلم الناس
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ما تستبقوا من
الدنيا تجدوه في الآخرة وقال رجل للحسن إني اكره الموت قال ذلك انك اخرت مالك
ولو قدمته
لسرك ان تلحق به وقال عامر بن الظرب العدواني الرأي نائم والهوى يقظان فمن هنا
يغلب الهوى الرأي وقال مكتوب في الحكمة أشكر لمن انعم عليك وانعم على من شكر لك
وقال ابو الدرداء ايها الناس لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا ان تقبلوا احسن ما
تسمعون منا
وقال عبد الملك على المنبر ألا تنصفوننا يا معشر الرعية
تريدون منا سيرة ابي بكر وعمر ولم تسيروا في انفسكم ولا فينا سيرة رعية ابي بكر
وعمر نسأل الله ان يعين كلا على كل وقال رجل من العرب اربع لا يشبعن من اربع انثى
من ذكر وعين من نظر وارض من مطر وأذن من خبر
وقال موسى عليه السلام لأهله ( امكثوا اني انست نارا
لعلي اتيكم منها بخبر ) فقال بعض المعترضين فقد قال او اتيكم بشهاب قبس قال ابو
عقيل لم يعرف موقع النار من ابناء السبيل ومن الجائع المقرور
وقال لبيد بن ربيعة
( ومقام ضيق فرجته ... ببيان ولسان وجدل )
( لو يقوم الفيل او فياله ... زل عن مثل مقامي وزحل )
( ولدى النعمان مني موطن ... بين فاثور أفاق فالدحل )
( اذ دعتني عامر انصرها ... فالتقى الألسن كالنبل الدول )
( فرميت القوم رشقا صائبا ... ليس بالعصل ولا بالمقثعل )
( وانتضلنا وابن سلمى قاعد ... كعتيق الطير يغضي ويجل )
( وقبيل من لكيز شاهد ... رهط مرجوم ورهط ابن المعل )
وقال
( وأبيض يجتاب الخروق على الوجى ... خطيبا اذا التف
المجامع فاصلا )
وقال لبيد
( لوكان حي في الحياة مخلدا ... في الدهر أدركه أبو
يكسوم )
( بكتائب خرس تعود كبشها ... نطح الكباش شبيهة بنجوم )
( ولقد بلوتك وابتليت خليقتي ... ولقد كفاك معلمي تعليمي )
وقد قال أيضا لبيد
( ذهب الذين يعاش في اكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد
الاجرب )
( يتأكلون
مغالة وخيانة ... ويعاب قائلهم وان لم يشغب )
وقال زيد بن جندب في ذكر الشغب
( ما كان اغنى رجالا ضل سعيهم ... عن الجدال وأغناهم عن
الشغب )
وقال آخر في الشغب
( اني اذا عاقبت ذو عقاب ... وان تشاغبني فذو شغاب )
وقال احمر بن العمرد
( وكم حلها من تيحان سميذع ... مصافي الندى ساق بسهماء
مطعم )
( طوى البطن متلاف اذا هبت الصبا ... على الأمر غواص وفي
الحي شيظم )
وقال
( هل لامني قوم لموقف سائل ... او في مخاصمة اللجوج
الاصيد )
وقال في التطبيق
( فلما ان بدا القعقاع لجت ... على شرك تناقله نقالا )
( تعاورن الحديث وطبقته ... كما طبقت بالنعل المثالا )
وقال آخر
( لوكنت ذا علم علمت وكيف لي ... بالعلم بعد تدبر الامر )
وقال المعترض على أصحاب الخطابة والبلاغة
قال لقمان لابنه يا بني اني قد ندمت على الكلام ولم أندم
على السكوت وقال الشاعر
( ما ان ندمت على سكوتي مرة ... ولقد ندمت على الكلام
مرارا )
وقال آخر
( خل جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام )
( مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام )
( إنما المسلم من ... ألجم فاه بلجام )
وقال آخر في التحذير والاحتراس
( اخفض الصوت ان نطقت بليل ... والتفت بالنهار قبل
الكلام )
وقال في مثل ذلك
( لا
أسأل الناس عما في ضمائرهم ... ما في ضميري لهم مني سيكفيني )
وقال حمزة بن بيض
( لم يكن عن جناية لحقتني ... لا يساري ولا يميني جنتني )
( بل جناها أخ علي كريم ... وعلى أهلها براقش تجني )
لان هذه الكلبة - وهي براقش - انما نبحت غزيا وقد مروا
من ورائهم وقد رجعوا خائبين مخفقين فلما نبحتهم استدلوا بنباحها على أهلها
فاستباحوهم ولو سكتت كانوا قد سلموا فضرب ابن بيض بها المثل
وقال الاخطل
( تنق بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا
تبري )
( ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية
النهر )
وقالوا الصمت حكم وقليل فاعله وقالوا استكثر من الهيبة
صامت وقيل لرجل من كلب طويل الصمت بحق ما سمتكم العلماء خرس العرب فقال أسكت فاسلم
وأسمع فاعلم وكانوا يقولون لا تعدلوا بالسلامة شيئا ولا تسمع الناس يقولون جلد
فلان حين صمت ولا قتل حين سكت وتسمعهم يقولون جلد فلان حين قال كذا وكذا وقتل حين
قال كذا وكذا وفي الحديث المأثور رحم الله من سكت فسلم او قال خيرا فغنم والسلامة
فوق الغنيمة لان السلامة أصل والغنيمة فرع
وقال النبي ( ان الله يبغض البليغ الذي يتخلل بلسانه كما
تتخلل الباقرة بلسانها ) ح
وقيل ان كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب وقال صاحب
البلاغة والخطابة وأهل البيان وحب التبيين انما عاب النبي المتشادقين والثرثارين
والذي يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة بلسانها والاعرابي المتشادق وهو الذي يصنع
بفكيه وشدقيه ما لا يستجيزه أهل الأدب من خطباء أهل المدر فمن تكلف ذلك منهم فهو
أعيب والذم له ألزم وقد كان الرجل من العرب يقف الموقف فيرسل عدة أمثال سائرة ولم
يكن الناس جميعا يتمثلون بها الا لما فيها من المرفق والانتفاع ومدار العلم على الشاهد
والمثل
وانما حثوا على الصمت لان العامة الى معرفة خطأ القول
أسرع منهم الى
معرفة خطأ
الصمت ومعنى الصامت في صمته أخفى من معنى القائل في قوله والا فالسكوت عن قول الحق
في معنى النطق بالباطل
ولعمري ان الناس الى الكلام لأسرع لان في اصل التركيب ان
الحاجة الى القول والعمل اكثر من الحاجة الى ترك العمل والسكوت عن جميع القول وليس
الصمت كله أفضل من الكلام كله ولا الكلام كله أفضل من السكوت كله بل قد علمنا ان
عامة الكلام أفضل من عامة السكوت وقد قال الله عز و جل ( سماعون للكذب أكالون
للسحت ) فجعل سمعه وكذبه سواء
وقال الشاعر
( بني عدي ألا ينهى سفيهكم ... إن السفيه اذا لم ينه
مأمور )
وقال الآخر
( فان أنا لم آمر ولم أنه عنكما ... ضحكت له حتى يلج
ويستشري )
وكيف يكون الصمت أنفع والايثار له أفضل ونفعه لا يكاد
يجاوز رأس صاحبه ونفع الكلام يعم ويخص والرواة لم يرووا سكوت الصامتين كما روت
كلام الناطقين وبالكلام أرسل الله انبياءه لا بالصمت ومواضع الصمت المحمودة قليلة
ومواضع الكلام المحمودة كثيرة وطول الصمت يفسد البيان وقال بكر بن عبد الله المزني
طول الصمت حبسه كما قال عمر ترك الحركة عقله واذا ترك الانسان القول ماتت خواطره
وتبلدت نفسه وفسد حسه وكانوا يروون صبيانهم الارجاز ويعلمونهم المناقلات ويأمرونهم
برفع الصوت وتحقيق الاعراب لان ذلك يفتق اللهات ويفتح الجرم واللسان اذا اكثرت
تحريكه رق ولان واذا أقللت تقليبه وأطلت إسكاته جسأ وغلظ وقال عبابة الجعفي لولا
الدربة وسوء العادة لأمرت فتياننا ان يماري بعضهم بعضا وأية جارحة منعتها الحركة
ولم تمرنها على الاعمال أصابها من التعقد على حسب ذلك المنع
فلم قال رسول الله للنابغة الجعدي ( لا يفضض الله فاك )
ولم قال لكعب بن مالك ( ما نسي الله لك مقالك ذلك ) ولم قال لهيذان بن شيخ ( رب
خطيب من عبس ) ولم قال لحسان لما هيج الغطاريف على بني عبد مناف ( والله لشعرك أشد
عليهم من وقع السهام في غبش الظلام ) ح
وما نشك
انه عليه وعلى آله السلام قد نهى عن المراء وعن التزيد والتكلف وعن كل ما ضارع
الرياء او السمعة والنفج والبذخ وعن التهاتر والتشاغب وعن المغالبة والمماتنة فاما
نفس البيان فكيف ينهي عنه وأبين الكلام كلام الله وهو الذي مدح التبيين وأهل
التفصيل وفي هذا كفاية ان شاء الله
قال دغفل بن حنظلة ان للعلم أربعا آفة ونكدا واضاعة
واستجاعة فآفته النسيان ونكده الكذب واضاعته وضعه في غير موضعه واستجاعته انك لا
تشبع منه وانما عاب الاستجاعة لسوء تدبير اكثر العلماء ولخرق سياسة اكثر الرواة
لان الرواة اذا شغلوا عقولهم بالازدياد والجمع عن تحفظ ما قد حصلوه وتدبر ما قد
دونوه كان ذلك الازدياد داعيا الى النقصان وذلك الربح سببا للخسران
وقد جاء في الحديث منهومان لا يشبعان منهوم في العلم
ومنهوم في المال
وقالوا علم علمك وتعلم علم غيرك فاذا انت قد علمت ما
جهلت وحفظت ما علمت وقال الخليل بن احمد اجعل تعليمك دراسة لعلمك واجعل مناظرة
المتعلم تنبيها لك على ما ليس عندك وقال بعضهم وأظنه بكر بن عبد الله المزني لا
تكدوا هذه القلوب ولا تهملوها فخير الكلام ما كان عقب الجمام ومن أكره بصره عشي
وعاودوا الفكر عند نبوات القلوب واشحذوها بالمذاكرة ولا تيأسوا من إصابة الحكمة
اذا امتحنتم ببعض الاستغلاق فان من أدام قرع الباب ولج
وقال الشاعر
( اذا المرء أعيته المروءة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه
شديد )
وقال الاحنف السؤدد مع السواد وتقول الحكماء من لم ينطق
بالحكمة قبل الاربعين لم يبلغ فيها
وأنشد
( ودون الندى في كل قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر
سهل )
( وود الفتى في كل نيل ينيله ... اذا ما انقضى لو ان
نائله جزل )
وقال
الهذلي
( وان سيادة الاقوام فاعلم ... لها صعداء مطلبها طويل )
( أترجو ان تسود ولن تعنى ... وكيف يسود ذو الدعة البخيل )
صالح بن سليمان عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث
بن هشام قال ما رأيت عقول الناس إلا قريبا بعضها من بعض الا ما كان من الحجاج
وإياس ابن معاوية فان عقولهما كانت ترجح على عقول الناس أبو الحسن قال سمعت ابا
الصغرى الحارثي يقول كان الحجاج أحمق بنى مدينة واسط في بادية النبط ثم قال لهم لا
تدخلوها فلما مات دلفوا اليها من قريب سمعت قحطبة الجشمي يقول كان اهل البصرة لا
يشكون انه لم يكن بالبصرة رجل أعقل من عبيد الله بن الحسن وعبيد الله بن سالم وقال
معاوية لعمرو بن العاص ان أهل العراق قد قرنوا بك رجلا طويل اللسان قصير الرأي
فأجد الحز وطبق المفصل واياك ان تلقاه برأيك كله
باب ما قالوا فيه من الحديث الحسن الموجز المحذوف القليل الفضول
قال
الشاعر
( لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء
ولا نزر )
وقال ابن احمر
( تضع الحديث علىمواضعه ... وكلامها من بعده نزر )
وقال الآخر
( حديث كطعم الشهد حلو صدوره ... وأعجازه الخطبان دون
المحارم )
وقال بشار
( أنس غرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام )
( يحسبن من أنس الحديث زوانيا ... ويصدهن عن الخنا
الاسلام )
وقال بشار
( فنعمنا والعين حي كميت ... بحديث كنشوة الخندريس )
وقال بشار
( وكأن رفض حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا )
( وتخال ما جمعت عليه ... ثيابها ذهبا وعطرا )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق