ابن حزم - المحلى
كتاب الطلاق (مسألة 1953)
ابن حزم
كتاب الطلاق(موسوعة ويكي)
1953 - مسألة: من الطلاق من أراد طلاق امرأة له قد وطئها: لم يحل له أن يطلقها في حيضتها، ولا في طهر وطئها فيه. فإن طلقها طلقة أو طلقتين في طهر وطئها فيه، أو في حيضتها: لم ينفذ ذلك الطلاق وهي امرأته كما كانت، إلا أن يطلقها كذلك ثالثة أو ثلاثة مجموعة فيلزم. فإن طلقها في طهر لم يطأها فيه فهو طلاق سنة لازم كيفما أوقعه إن شاء طلقة واحدة، وإن شاء طلقتين مجموعتين، وإن شاء ثلاثا مجموعة. فإن كانت حاملا منه أو من غيره: فله أن يطلقها حاملا وهو لازم، ولو إثر وطئه إياها فإن كان لم يطأها قط فله أن يطلقها في حال طهرها وفي حال حيضتها إن شاء واحدة، وإن شاء اثنتين وإن شاء ثلاثا. فإن كانت لم تحض قط، أو قد انقطع حيضها طلقها أيضا كما قلنا في الحامل متى شاء. وفيما ذكرنا اختلاف في ثلاثة مواضع: أحدها هل ينفذ الطلاق الذي هو بدعة مخالف لأمر الله عز وجل أم لا ينفذ.
والثاني هل طلاق الثلاث بدعة أم لا والثالث صفة طلاق السنة.
برهان ما قلنا: قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} فأباح عز وجل طلاق التي لم تمس بالوطء، ولم يحد في طلاقها وقتا، ولا عددا: فوجب من ذلك أن هذا حكمها وإن دخل بها، وطال مكثها معه، ولا أشفرها فحملت من ذلك، لأنه لم يمسها. ولا تكون بذلك محصنة، لأن الله تعالى لم يستثن شيئا من ذلك وما كان ربك نسيا. والمفرق بين هذه الأحكام متناقض شارع من الدين ما لم يأذن به الله عز وجل.
فإن قيل: فمن أين حكمتم بذلك في الكتابيات إذا طلقهن المؤمنون وأنتم تبطلون القياس.
قلنا: لقول الله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وبقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} وأخص من هذا كله بجواب هذا السؤال قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} الآية، فعم عز وجل جميع النساء، ولم يخص مؤمنة من كافرة فهذا قوله عز وجل في غير الموطوءة.
وأما في الموطوءة فقول الله عز وجل: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} والعدة لا تكون من الطلاق إلا في موطوءة فعلمنا الله عز وجل كيف يكون طلاق الموطوءة، وأخبرنا أن تلك حدود الله، وأن من تعداها ظالم لنفسه.
فصح أن من ظلم وتعدى حدود الله، عز وجل، ففعله باطل مردود، لقول النبي : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
فصح أن الطلاق المذكور لا يكون إلا للعدة كما أمر الله عز وجل.
فنظرنا بيان مراد الله عز وجل بقوله: {فطلقوهن لعدتهن} فوجدنا ما رويناه من طريق مسلم، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر قال " طلقت امرأتي على عهد رسول الله وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله فقال: مره فليراجعها ثم ليدعها حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخرى فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها أو يمسكها، فإنها العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء فكان هذا بيانا لا يحل خلافه، وقد روي هذا الخبر بنقصان عما أوردناه: منها ما رويناه من طريق شعبة عن قتادة قال: سمعت يونس بن جبير قال: سمعت ابن عمر يقول طلقت امرأتي وهي حائض فأتى عمر النبي فذكر ذلك له، فقال النبي : مره فليراجعها فإذا طهرت فإن شاء طلقها .
قال أبو محمد:
وروينا الأخذ بهذا عن عطاء.
قال علي: وزيادة العدل لا يحل ترك الأخذ بها وهو خبر واحد، عن قصة واحدة، في مقام واحد.
وأما طلاق الحامل فكما روينا من طريق مسلم أنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن سفيان الثوري عن محمد بن عبد الرحمن مولى لطلحة عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض فقال رسول الله : : مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا، أو حاملا.
وأما التي لم تحض أو قد انقطع حيضها فإن الله عز وجل أجمل لنا إباحة الطلاق، وبين لنا طلاق الحامل، وطلاق التي تحيض، ولم يحد لنا تعالى في التي لم تحض، ولا في التي انقطع حيضها حدا، فوجب أنه تعالى أباح طلاقها متى شاء الزوج، إذ لو كان له عز وجل في وقت طلاقها شرع لبينه علينا ". ثم اختلف الناس في الطلاق في الحيض إن طلق الرجل كذلك، أو في طهر وطئها فيه، هل يلزم ذلك الطلاق أم لا.
قال أبو محمد: ادعى بعض القائلين بهذا أنه إجماع.
قال أبو محمد: وقد كذب مدعي ذلك، لأن الخلاف في ذلك موجود، وحتى لو لم يبلغنا لكان القاطع على جميع أهل الإسلام بما لا يقين عنده به، ولا بلغه عن جميعهم: كاذبا على جميعهم.
روينا من طريق عبد الرزاق عن وهب بن نافع أن عكرمة أخبره: أنه سمع ابن عباس يقول: الطلاق على أربعة أوجه: وجهان حلال، ووجهان حرام،
فأما الحلال فأن يطلقها من غير جماع أو حاملا مستبينا حملها،
وأما الحرام فأن يطلقها حائضا أو حين يجامعها لا يدري أيشتمل الرحم على الولد أم لا .
قال أبو محمد: ومن المحال أن يخبر ابن عباس عما هو جائز بأنه حرام.
ومن طريق ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن الأعمش أن ابن مسعود قال: من طلق كما أمر الله تعالى فقد بين الله تعالى له، ومن خالف فإنا لا نطيق خلافه :، حدثنا يونس بن عبيد الله، حدثنا ابن عبد الله بن عبد الرحيم، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر، أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر: لا يعتد لذلك.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عبد الله بن طاووس عن أبيه أنه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق، ووجه العدة، وكان يقول: وجه الطلاق: أن يطلقها طاهرا عن غير جماع، وإذا استبان حملها:
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، حدثنا عباس بن أصبغ نا محمد بن قاسم بن محمد، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حمام بن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو، أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال: لا يعتد بها.
قال أبو محمد: والعجب من جرأة من ادعى الإجماع على خلاف هذا وهو لا يجد فيما يوافق قوله في إمضاء الطلاق في الحيض، أو في طهر جامعها فيه: كلمة عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، غير رواية، عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسن منها، عن ابن عمر، وروايتين ساقطتين عن عثمان، وزيد بن ثابت. إحداهما رويناها من طريق ابن وهب، عن ابن سمعان عن رجل أخبره أن عثمان بن عفان كان يقضي في المرأة التي يطلقها زوجها وهي حائض أنها لا تعتد بحيضتها تلك وتعتد بعدها ثلاثة قروء. والأخرى من طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن قيس بن سعد مولى ابن علقمة عن رجل سماه عن زيد بن ثابت، أنه قال فيمن طلق امرأته وهي حائض: يلزمه الطلاق وتعتد بثلاث حيض سوى تلك الحيضة.
قال أبو محمد: بل نحن أسعد بدعوى الإجماع هاهنا لو استجزنا ما يستجيزون ونعوذ بالله من ذلك وذلك أنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم قاطبة، وفي جملتهم جميع المخالفين لنا في ذلك في أن الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه: بدعة نهى عنها رسول الله مخالفة لأمره عليه الصلاة والسلام فإذ لا شك في هذا عندهم: فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التي يقرون أنها بدعة وضلالة أليس بحكم المشاهدة مجيز البدعة مخالفا لأجماع القائلين بأنها بدعة.
قال أبو محمد: واحتجوا من الآثار: بما رويناه من طريق ابن وهب، حدثنا ابن أبي ذئب أن نافعا أخبرهم، عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر رسول الله عن ذلك فقال: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء وهي واحدة. ومن طريق مسلم حدثني إسحاق بن راهويه، حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا محمد بن حرب حدثني الزبيدي عن الزهري عن سالم عن أبيه فذكر طلاقه لأمرأته وهي حائض، وقال في آخره: فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقتها. وبما في بعض تلك الآثار من قول ابن عمر: ما يمنعني أن أعتد بها. وفي بعضها: فمه أرأيت إن عجز واستحمق.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: أرسلنا إلى نافع وهو يترجل في دار الندوة ذاهبا إلى المدينة ونحن مع عطاء هل حسبت تطليقة عبد الله بن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله قال: نعم. وذكر بعضهم: رواية من طريق عبد الباقي بن قانع عن أبي يحيى الساجي، حدثنا إسماعيل بن أمية الذراع، حدثنا حماد بن زيد عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: قال رسول الله :، من طلق في بدعة ألزمناه بدعته.
قال أبو محمد: كل هذا لا حجة لهم فيه: أما حديث أنس المذكور فموضوع بلا شك لم يروه أحد من أصحاب حماد بن زيد الثقات إنما هو من طريق إسماعيل بن أمية الذراع، فإن كان القرشي الصغير البصري وهو بلا شك فهو ضعيف متروك، وإن كان غيره فهو مجهول لا يعرف من هو.
ومن طريق عبد الباقي بن قانع راوي كل كذبة، المنفرد بكل طامة وليس بحجة، لأنه تغير بآخرة ثم لو صح ولم يصح قط لكان لا حجة فيه، لأنه كان معنى قوله " ألزمناه بدعته " أي كما قال عز وجل: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} وليس فيه أنه يحكم عليه بإمضاء حكم بدعته، وتجويز ما في الدين، وهذا هو الظاهر، كما يقولون هم فيمن باع بيعا لا يحل، أو نكح نكاحا ببدعة وفي سائر الأحكام، ولا فرق.
وأما خبر نافع فموقوف عليه ليس فيه: أنه سمعه من ابن عمر فبطل الأحتجاج به.
وأما ما روي، عن ابن عمر " فمه أرأيت إن عجز واستحمق " فلا بيان في هذا اللفظ بأن تلك الطلقة عدت له طلقة، والشرائع لا تؤخذ بلفظ لا بيان فيه، بل قد يحتمل أن يكون أراد الزجر عن السؤال عن هذا، والإخبار بأنه عجز واستحمق في ذلك، والأظهر فيما هذه صفته أن لا يعتد به، وأنه سقطة من فعل فاعله، لأنه ليس في دين الله تعالى حكم نافذ يستحمق الحاكم به ويعجز، بل كل حكم في الدين فالمنفذ له مستغفل كيس والحمد لله رب العالمين.
وأما ما روي من قوله: " ما يمنعني أن أعتد بها " وقوله " وحسبت لها التطليقة التي طلقتها " فلم يقل فيه: إن رسول الله حسبها تطليقة، ولا أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي قال له: أعتد بها طلقة، إنما هو إخبار عن نفسه، ولا حجة في فعله، ولا فعل أحد دون رسول الله .
وأما حديث ابن أبي ذئب الذي في آخره وهي واحدة فهذه لفظة أتى بها ابن أبي ذئب وحده ;، ولا نقطع على أنها من كلام رسول الله ؛ وممكن أن تكون من قول من دونه عليه الصلاة والسلام والشرائع لا تؤخذ بالظنون. ثم لو صح يقينا أنها من كلام رسول الله لكان معناه: وهي واحدة أخطأ فيها ابن عمر، أو وهي قضية واحدة لازمة لكل مطلق. والظاهر أنه من قول من دون النبي مخبرا بأن ابن عمر كان طلقها طلقة واحدة، وقد ذكرنا قبل الرواية الصحيحة من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر فيمن طلق امرأته حائضا أنه لا يعتد بذلك. ويكفي من هذا كله المسند البين الثابت، الذي رويناه من طريق أبي داود السجستاني قال :، حدثنا أحمد بن صالح نا عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا فقال ابن عمر: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله فسأل عمر عن ذلك رسول الله فقال: إن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض قال عبد الله: فردها علي ولم يرها شيئا وقال: إذا طهرت فليطلق إذا شاء أو ليمسك وقرأ رسول الله " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن ".
قال أبو محمد: وهذا مما قرئ ثم رفعت لفظة " في قبل " وأنزل الله تعالى {لعدتهن} وهكذا رويناه من طريق الدبري عن عبد الرزاق، عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع ابن عمر وسأله عبد الرحمن بن أيمن فذكره نصا وهذا إسناد في غاية الصحة، لا يحتمل التوجيهات. والحمد لله رب العالمين.
وقال بعضهم: أمر رسول الله بمراجعتها دليل على أنها طلقة يعتد بها .
فقلنا: ليس ذلك دليلا على ما زعمتم، لأن ابن عمر بلا شك إذ طلقها حائضا فقد اجتنبها، فإنما أمره عليه الصلاة والسلام برفض فراقه لها وأن يراجعها كما كانت قبل، بلا شك.
وقال بعضهم: الورع إلزامه تلك الطلقة إذ قد يطلقها بعد ذلك طلقتين فتبقى عنده، ولعلها مطلقة ثلاثا.
فقلنا: بل هذا ضد الورع، إذ تبيحون فرجها لأجنبي بلا بيان، وإنما الورع أن لا تحرم على المسلم امرأته التي نحن على يقين من أن الله عز وجل أباحها له وحرمها على من سواه إلا بيقين، وأما بالظنون والمحتملات فلا وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: والعجب كله أنهم إن وجدوا في الطلاق في الحيض ما يشغبون به مما ذكرنا، فأي شيء وجدوا في طلاقه إياها في طهر وطئها فيه.
فإن قالوا: قسناه على الطلاق في الحيض.
قلنا: هذا باطل من القياس، ولو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل، لأنه قياس الشيء على ضده: طهر على حيض، فكيف والقياس كله باطل
فإن قالوا: إنكم تلزمونه الطلاق في الحيض، وفي طهر مسها فيه إذا كان طلاقا ثالثا أو ثلاثة مجموعة، وهي غير المدخول بها بكل حال.
قلنا: نعم، لأن قول الله عز وجل: {فطلقوهن لعدتهن} لا إشكال في أنه تعالى إنما أمر بذلك في المدخول بها فيما كان من الطلاق دون الثلاث وفي هذين الوجهين أفتى رسول الله ابن عمر، ولم يأمر قط عز وجل بذلك في غير مدخول بها، ولا فيمن طلق ثالثة، أو ثلاثة مجموعة وليس في غير المدخول بها عدة طلاق فيلزم أن يطلق لها، كما بينا بنص القرآن.
وقوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} وليس هذا في طلاق الثلاث.
ومن طريق عبد الرزاق، حدثنا معمر عن أيوب السختياني عن نافع، عن ابن عمر " أنه طلق امرأته واحدة وهي حائض " وذكر الحديث.
ومن طريق مسلم، حدثنا محمد بن رمح، حدثنا الليث بن سعد عن نافع، عن ابن عمر ( أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة واحدة فأمره رسول الله أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء. قال ابن عمر: أأنت طلقت امرأتك مرة أو مرتين، فإن رسول الله أمرك بذلك، وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك).
قال أبو محمد: قد يمكن أن ابن عمر أراد بالمعصية من طلقها كذلك دون الثلاث.
وأما الأختلاف في طلاق الثلاث مجموعة أهو بدعة أم لا فزعم قوم أنها بدعة، ثم اختلفوا. فقالت طائفة منهم لا يقع ألبتة، لأن البدعة مردودة.
وقالت طائفة منهم: بل يرد إلى حكم الواحد المأمور بأن يكون حكم الطلاق كذلك. قالت طائفة: بل تقع كما هو، ويؤدب المطلق كذلك.
وقالت طائفة: ليست بدعة، ولكنها سنة لا كراهة فيها.
واحتج من قال: إنها تبطل بقول الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} الآية. وبقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن} إلى قوله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}. وبقوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف}. قالوا: فلا يكون طلاقا إلا ما كان بهذه الصفة. قالوا:
ومعنى قول الله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} أي مرة بعد مرة كما تقول: سير به فرسخان. وذكروا ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا ابن وهب، حدثنا مخرمة، هو ابن بكير بن الأشج عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم، فقام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله. قال أحمد بن شعيب: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة.
قال أبو محمد: أما قولهم: " البدعة مردودة " فصدقوا، ولو كانت بدعة لوجب أن ترد وتبطل.
وأما الآيات فإنما نزلت فيمن طلق واحدة أو اثنتين فقط. ثم تسألهم عمن طلق مرة، ثم راجع، ثم مرة، ثم راجع ثانية، ثم ثالثة، أببدعة أتى فمن قولهم: لا، بل بسنة فنسألهم: أتحكمون له بما في الآيات المذكورات فمن قولهم: لا، بلا خلاف.
فصح أن المقصود في الآيات المذكورات من أراد أن يطلق طلاقا رجعيا فبطل احتجاجهم بها في حكم من طلق ثلاثا.
وأما قولهم معنى قوله: الطلاق مرتان أن معناه: مرة بعد مرة فخطأ، بل هذه الآية كقوله تعالى: {نؤتها أجرها مرتين} أي مضاعفا معا. وهذه الآية أيضا تعليم لما دون الثلاث من الطلاق، وهو حجة لنا عليهم، لأنهم لا يختلفون يعني المخالفين لنا في أن طلاق السنة هو أن يطلقها واحدة، ثم يتركها حتى تنقضي عدتها في قول طائفة منهم. وفي قول آخرين منهم: أن يطلقها في كل طهر طلقة: وليس شيء من هذا في هذه الآية، وهم لا يرون من طلق طلقتين متتابعتين في كلام متصل: طلاق سنة، فبطل تعلقهم بقوله تعالى: {الطلاق مرتان}.
وأما خبر محمود بن لبيد فمرسل، ولا حجة في مرسل ومخرمة لم يسمع من أبيه شيئا.
وأما قول من قال: إن الثلاث تجعل واحدة، فإنهم احتجوا بما رويناه من طريق مسلم، حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ابن طاووس عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم.
وروينا من طريق الدبري عن عبد الرزاق، عن ابن جريج: أخبرني ابن طاووس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لأبن عباس: ألم تعلم أنها كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر قال: نعم.
ومن طريق أحمد بن شعيب، حدثنا سليمان بن سيف الحراني، حدثنا أبو عاصم هو النبيل، عن ابن جريج، عن ابن طاووس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لأبن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة قال: نعم. ورويناه أيضا من طريق مسلم عن إسحاق بن راهويه، حدثنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس، عن ابن عباس. وبما رويناه من طريق أبي داود، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج أخبرني بعض بني أبي رافع مولى رسول الله عن عكرمة، عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة فذكر الحديث وفيه: أن رسول الله قال له: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال: قد علمت أرجعها وتلا يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن .
قال أبو محمد: ما نعلم لهم شيئا احتجوا به غير هذا، وهذا لا يصح، لأنه عن غير مسمى من بني أبي رافع، ولا حجة في مجهول، وما نعلم في بني أبي رافع من يحتج به إلا عبيد الله وحده وسائرهم مجهولون.
وأما حديث طاووس، عن ابن عباس الذي فيه أن الثلاث كانت واحدة وترد إلى الواحدة وتجعل واحدة فليس شيء منه أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي جعلها واحدة، أو ردها إلى الواحدة، ولا أنه عليه الصلاة والسلام علم بذلك فأقره، ولا حجة إلا فيما صح أنه عليه الصلاة والسلام قاله أو فعله أو علمه فلم ينكره وإنما يلزم هذا الخبر من قال في قول أبي سعيد الخدري: كنا نخرج في زكاة الفطر على عهد رسول الله صاعا من كذا، وأما نحن فلا والحمد لله رب العالمين.
وأما من قال: إنها معصية وأنها تقع فإنهم موهوا بما رويناه من طريق عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن عبيد الله بن الوليد الرصافي العجلي عن إبراهيم، هو ابن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن داود عن عبادة بن الصامت قال: طلق جدي امرأة له ألف تطليقة فانطلق أبي إلى رسول الله فذكر ذلك له، فقال له النبي أما اتقى الله جدك، أما ثلاث فله،
وأما تسعمائة وسبع وتسعون فعدوان وظلم، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له. ورواه بعض الناس عن صدقة بن أبي عمران عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال: طلق بعض آبائي امرأته فانطلق بنوه إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله إن أبانا طلق أمنا ألفا فهل له من مخرج فقال: إن أباكم لم يتق الله فيجعل مخرجا بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبع وتسعون إثما في عنقه. وخبر روي من طريق محمد بن شاذان عن معلى بن منصور عن شعيب بن رزيق أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن قال :، حدثنا عبد الله بن عمر " أنه طلق امرأته وهي حائض ثم أراد أن يتبعها تطليقتين أخريين عند القرأين الباقيين فبلغ ذلك رسول الله : فقال: يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله إنك قد أخطأت السنة وذكر الخبر، وفيه فقلت: يا رسول الله لو كنت طلقتها ثلاثا أكان لي أن أراجعها قال: لا، كانت تبين وتكون معصية. والخبر الذي ذكرناه آنفا من طريق إسماعيل بن أمية الذراع عن حماد بن زيد عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس عن رسول الله : من طلق في بدعة ألزمناه بدعته. وذكروا عمن دون رسول الله ما ذكرناه آنفا من قول عمر في حديث طاووس: إن الناس قد استعجلوا أمرا كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم.
ومن طريق عبد الرزاق عن إسماعيل بن أبي عبد الله أخبرني عبيد الله بن العيزار أنه سمع أنس بن مالك يقول: كان عمر إذا ظفر بمن طلق ثلاثا أوجع رأسه.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: من طلق امرأته ثلاثا طلقت وعصى ربه.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاووس عن أبيه قال: كان ابن عباس إذا سئل عمن طلق امرأته ثلاثا قال: لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا.
قال أبو محمد: لا نعلم لهم شيئا يشغبون به إلا هذا، وكله لا حجة لهم فيه أما حديث عبادة بن الصامت ففي غاية السقوط، لأنه إما من طريق يحيى بن العلاء وليس بالقوي عن عبيد الله بن الوليد الوصافي وهو هالك عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت وهو مجهول لا يعرف. ثم هو منكر جدا، لأنه لم يوجد قط في شيء من الآثار: أن والد عبادة رضي الله عنه أدرك الإسلام، فكيف جده وهو محال بلا شك. ثم ألفاظه متناقضة في بعضها " أما ثلاث فلك " وهذا إباحة للثلاث، وبعضها بخلاف ذلك.
وأما حديث ابن عمر ففي غاية السقوط، لأنه عن رزيق بن شعيب أو شعيب بن رزيق الشامي وهو ضعيف.
وقد ذكرنا ضعف إسماعيل بن أمية الذراع وجهالته فبطل ما شغبوا به. ولم يبق بأيديهم شيء والحمد لله رب العالمين.
وأما ما ذكروا عن الصحابة، رضي الله عنهم، فالرواية عن عمر " نرى الناس قد استعجلوا شيئا كانت لهم فيه أناة " فلا دليل فيه على أن طلاق الثلاث معصية أصلا وهو صحيح، عن ابن عمر، ولا حجة في أحد دون رسول الله ".
قال أبو محمد: ولا أضعف من قول من يقر أنه ينفذ البدعة ويحكم بما لا يجوز بغير نص من الله تعالى، ولا من رسوله .
قال أبو محمد: ثم وجدنا من حجة من قال: إن الطلاق الثلاث مجموعة سنة، ولا بدعة قول الله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} فهذا يقع على الثلاث مجموعة ومفرقة، ولا يجوز أن يخص بهذه الآية بعض ذلك دون بعض بغير نص.
وكذلك قوله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} عموم لأباحة الثلاث والاثنين والواحدة، وقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف} فلم يخص تعالى مطلقة واحدة من مطلقة اثنتين ومن مطلقة ثلاثا. ووجدنا ما رويناه من طريق مالك، عن ابن شهاب: أن سهل بن سعد الساعدي أخبره عن حديث اللعان عويمر العجلاني مع امرأته وفي آخره :، أنه قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله ثم قال: وأنا مع الناس عند رسول الله .
قال أبو محمد: لو كان طلاق الثلاث مجموعة معصية لله تعالى لما سكت رسول الله عن بيان ذلك فصح يقينا أنها سنة مباحة. وقال بعض أصحابنا: لا يخلو من أن يكون طلقها وهي امرأته، أو طلقها وقد حرمت عليه، ووجب التفريق بينهما، فإن كان طلقها وهي امرأته فليس هذا قولكم، لأن قولكم أنها بتمام اللعان تبين عنه إلى الأبد، وإن كان طلقها أجنبية، فإنما نحن فيمن طلق امرأته، لا فيمن طلق أجنبية .
فقلنا: إنما طلقها وهو يقدر أنها امرأته هذا ما لا يشك فيه أحد فلو كان ذلك معصية لسبقكم رسول الله إلى هذا الأعتراض، فإنما حجتنا كلها في ترك رسول الله الإنكار على من طلق ثلاثا مجموعة امرأة يظنها امرأته، ولا يشك أنها في عصمته فقط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق